النص الكامل //echo $btitle;?>
شخصيات المسرحيّةِ :
حَليم هَمْرَجْ
كْريسْتابِل فَتَّانْ
طَريف طُرْفَةْ
سَالي جَمْرَةْ
أنْطوان جَمْرَةْ
طارِق مُلْهَمْ
نِينا أَمْلَدْ
نَاندا بِيرِيَرا
القِسّ لِمَتْرِيوسْ
زَوْجَةُ حَليم
آخَرون
( بيروت، لبنان، 1983 )
وَصَلَت السفينةُ الحربيّةُ الأميركيَّة "نيوجرسي" إلى المياهِ اللبنانية، لِتنضَمَّ إلى أربع عشرة قطعة بحرية أخرى تابعة للبحرية الأميركية كانت تجوب ساحل بيروت، وكان هذا بين الثالث من تشرين الأول/أكتوبر لسنة 1983 والتاسع منه. كانت مهمَّة هذه القطع البحرية، كما نُشِر آنذاك الصُّحف المحليَّة والأجنبيَّة، أنْ تَتدخّلَ فور حصول أي هجوم من قبل القوات المعارضة للحكم باتجاه منطقة سوق الغرب، المنطقة التي كانت تُشكِّلُ إحدى القلاع الاستراتيجيَّة للجيش اللبناني.
في الثَّالِثِ والعشرين من الشَّهْرِ عَيْنِهِ، قَادَ مُسْلِمٌ مجهولٌ، فيما وُصِفَ لاحقاً بـــــ "المهمة الانتحاريَّة"، شاحِنةً باتِّجاهِ القاعِدَةِ البَحْرِيَّةِ الأميركيَّةِ في بَيْروت حيثُ فجَّرها، ونجمَ عن هذا الأمر مَصْرَعٌ فوريٌّ لِمَا لا يَقِلُّ عن مئتينِ وثلاثين مِنْ عَناصِرِ البَحْرِيَّة الأميركيَّة.
تــــَبْدأُ فُصولُ هذهِ المَسْرَحِيَّةِ بَعْدَ وقتٍ قليلٍ مِنْ بُروزِ التَّـوَتُّرِ السِّياسي في لُبنان وخارجه إِثْرَ هاتين الحادثتينِ المُرَوّعتــيــْن.
يُدركُ المرء، فيما يَرْتَفعُ السِّتارُ، أنَّهُ قَد تمَّ ترتيبُ المسرحِ ليُوحِيَ بِمَكانٍ هُوَ مَلْجَأ لِبِنايَةٍ كُبْرى تَقَعُ في أحَدِ الشوَّارِعِ المُتَفَرِّعة شَرْقَاً مِنْ كورْنيش المَنارَة. سَقْفُ الملجأ يبدو مُدَعَّماً بِعَدَدٍ من أعْمِدةِ الإسمَنْتِ المُسَلَّح، بَيْدَ أنَّ هذهِ الأعمدةَ لا تُشكِّل الأمرَ الوحيدَ الظاهرَ على المسرح، فثمّة أسِرَّةٌ مَطْوِيَّة، وكَراسٍ مِنَ الخَيْزران، وطاولات صغيرة، فضلاً عن عَدَدٍ من الصَّناديقِ المفتوحةِ ذاتِ الأحجامِ المُتَعَدِّدة. ولقدْ صَدَفَ أنَّ هذا الملجأ تَمَّ تأجيرُهُ منذُ عدَّةِ سنواتٍ لإحدى شرِكاتِ المفْروشات، الأمر الذي سَيؤمِّنُ بعضَ الرَّاحةِ والإفادةِ لِشَخْصِيَّات المسرحيَّة.
تَظهرُ، عندَ الزاويةِ اليُمنى للمَسرحِ، غُرفةٌ صغيرةٌ عِبارة عَنْ بَيْتِ خلاء، جُهّزت بِمِرآةِ حَائطٍ، فضلاً عَنْ مِقْعدِ مرحاض. تَبْقى كُلُّ المشاهدِ المُتعلِّقةِ ببيتِ الخلاءِ مخفيَّةً عن النَّظرِ بشكلٍ مؤقَّت، وذَلِكَ بواسطةِ سِتارٍ ثُبِّتَ على عصاً معدنيَّة؛ وما أن يُضطَّر أيٌّ مِنَ الشخصِيَّاتِ إلى قضاءِ حاجتِهِ حتى يَنْكَشِفَ مشهدُ هذهِ الغرفة بِرُمَّته.
بابٌ من الحديدِ "الصَّبّ"، يُشكّلُ المدخل الوحيد إلى الملجأ، والبابُ هذا يُفْتَحُ يَسَاراً على بِضْعِ دَرجاتٍ لِسُلَّمٍ يتَّجهُ إلى أعْلى. وعِوَض أنْ تُوحي هذهِ الدَّرجات بأنها جِسْرٌ رَمْزيٌ يمتدُّ منَ العالمِ السُّفلي للمَلْجأ إلى العالمِ الخارجي، فهي توحي، بقساوةٍ فظّةٍ، بأنهاعائقٌ حتى في الوصولِ إلى هذا المكانِ الأشْبَهِ بأجواءِ القَبْر.
اللقطة الأولى
(حَليم هَمْرَجْ، وهو رجل في منتصف العمر، ذو بِنْيَةٍ جسدية لافتة، ينزل الدرج حامِلاً بإحدى يديه مصباحاً يدوياً وباليد الأخرى جهاز هاتف ذي وصلة طويلة. يَضعُ الهاتفَ على الدّرجةِ العليا، ثمَّ يهبط بحذر بضع درجات أُخرى. يتجه نحو الجانب الأيمن من المسرح، ثمّ يلمس، أخيراً، وبطرفِ إصبعه، مفتاحَ نورٍ مُثَبَّتٍ على الحائط. يغمر الضوءُ الملجأ الآن، فيطفئ حَليم نورَ المصباح اليدوي، ويعود إلى حيث درجات السُّلَّم. لا يطول الصَّمتُ كثيراً، إذ فيما يبدو، وكأنما استجابةً للتوتُّر العصبي الظاهر في نظرات السيد هَمْرَجْ، يبدأ جرس الهاتف بالرَّنين بإصرار. يلتقط السمَّاعة بِعَدمِ ارتيَاحٍ باد.)
حلـيــم (على الهاتف): مرحباً؟... (متوتِّراً) نعم، بالطبع أنا من يتكلّمُ من الملجأ. (يُصغي، ومن ثَمَّ بغضب) تسْألينَ أسئلة عديمة الحس أحياناً. أنتِ حقاً كذلك. ماذا؟ آه، نعم، نعم، ولا تَعُودي من جديد إلى مثل هذه الهواجس فَوَصْلَةُ الهاتف من الطول بحيث يمكنها أن تصل إلى أيٍّ من الزوايا هنا، وبإمكانك أن تهتفي لأيٍّ من أفراد أسرتكِ المحبوبة في أي وقت تشائين وطوال ما تشائين من وقت. هل أنتِ سعيدة الآن؟ (يُصغي، وقد بدا وكأنَّه بلغ أقصى درجات اليأس. ينتفض فجأة وكأنما لُذِعَ أحدُ أعضائه الحيوية برأس دبُّوس) حُبَّاً بالله، لا تأتي الآن. إصغي إليَّ جيداً : نيوجرسي لن تقصف غرب بيروت، أؤكّدُ لكِ هذا. كل ما في الأمر أنها لعبة سياسية يقوم بها الأميركان. ألم أُخبركِ عن هذا من قبل؟ (يُصغي، وقد أغمض عينيه) اللعنة ! اللعنة ! أنتِ الليلةَ في مِزاج جدلي. لِذا، وفِّري عليَّ هذه المشقة برمتها، وابقِي لبعض الوقت مع الجيران حيث أنتِ الآن. سوف أناديكِ عندما أتحقق من ضرورة النزول إلى الملجأ. (وبسرعة كالبرق) إلى اللقاء الآن يا ليلى. (صارَّاً على أسنانه) أقول إلى اللقاء!
(يُعيد سماعة الهاتف إلى مكانها، مغمغماً بشتيمة أو أكثر، ويتلفّت بعد ذلك في المكان، وكأنه لا يرى شيئاً مما حوله. خدَّاه يختلجان، فيما يبدو ظاهرةً لمعاناة داخلية ناتجةٍ عن تذكُّرِهِ الدَّائب لتوتُّراتٍ من مرحلةِ مراهقته لم يعد قادراً على الاحتفاظ بها لنفسه. يتجوَّلُ قليلاً لبعض الوقت، ثمَّ يشغل نفسه بإعادة ترتيب بعض الكراسي. واضحٌ أن هذا الأمر لا يخفف عنه توتره المتزايد. يتوقَّف، ويحملق لمرتين في جهاز الهاتف؛ أوَّلاً بعدم ثقة طفولية، ثم بعناد وتصميم. يلتقط الجهاز ويبدأ بطلب رقمٍ هامساً لنفسه بكل وِحْدَةٍ يُعَيِّنها من ذلك الرقم – يفعلُ ذلك ربما لطردٍ أبدي للأرواح الشريرة المسيطرة على تردده. يرتعش بعصبيَّة، يقحُّ مُنظّفاً لِحَلْقِهِ، ويستعد للكلام).
حـلـيـم (على الهاتف): مساء الخير، مدام كْريسْتابِل ... خمِّني من أين أُخاطِبُكِ؟ (يكتم ضحكة) سامحيني إذا لم أقدر على متابعتك باللغة الفرنسيَّة، ولكنكِ لم تحزري على أي حال ... آه، لا. حاولي أن تُخمِّني مرةً ثانيةً، ولكني أَلْفِتُكِ إلى ضرورة أن تأخذي وقتكِ كاملاً قبل أن تعطي تخمينكِ الثاني. (يقف على رجل واحدة، مأخوذاً بعذوبة اللحظة التي هو فيها، ويحاول، لا واعياً، اختبار قدرته على الطيران) ليس تماماً. ليس تماماً يا مدام. (يتنحْنح، ثم ينشد إسمها كأغنية) كْريسْ... تا.. بِلْ.. آه، أعني مدام كْريسْتابِل، إني أشعرُ.... أظنها غلاظة منّي أن أُبقيكِ تُخمنينَ ... طول الليل ... مكانَ وجودي، أليس كذلك؟ على كلّ حال، الوقتُ ثمينٌ... ثمينٌ جداً، أقصدُ أن أقولَ، أثمن من أن نَصرِفه على مُجَرَّد التخمين. تُدركينَ ما أقْصد؟ (يُنْزِلُ رِجله المرفوعة) أرجوكِ، أرجوكِ، لا تقلقي. كنتُ أحاولُ أن أُخبركِ أنّي أتحدَّثُ من الملجأ ...نعم، نعم، لقد أوفيتُ بوعدي أن آخُذَ هاتفي الخاص إلى الملجأ. مِنْ الآن وصاعداً يُمكننا جميعاً أن نهتفَ إلى كُلّ أصدقائنا وأقاربنا من هنا. أولَيسَ هذا قَمُّوراً وكما تُحِبِّين؟... (وقد استحوذتْ عليه عواطفُه الجيَّاشة) آه، كْريسْتابِل! كْريسْ... تا... بِلْ... لا بُدَّ لي من أن أعترفَ أن صوتكِ يكتنفُ الهاتفَ بِشجْوٍ عَذْب ... وهو كذلك أينما سُمِع. (يعبس) ما قصدكِ من الإصرارِ، دائماً، على مناداتي بالمسيو هَمْرَج؟ رجاءً لا تتعاملي معي بهذهِ الرَّسميات، وأرجو، كذلك، لو تتوقفين عن إرباكي بمُصطلحاتكِ الفرنسيَّة. ناديني حليم، فقط، فهل يمكنكِ ذلك؟ ... (مجروحاً في أعماقه، وفجأة بلهجة ملأى بالكرامة) حسنٌ. حسنٌ إني أفهمُكِ، وأنا آسفٌ، إذ يبدو أني أُزعجكِ طوالَ الوقتِ ... وعلى أي حالٍ فلقد سمعتُ للتّوّ الأخبارَ مِنَ الراديو، ويبدو أنَّ نيوجرسي لن تَقصفَ الجبالَ وحسب، بل إنها سوف تقصفُ غربَ بيروت وضواحيها كذلك ... لفرضِ مزيدٍ من الضَّغطِ على القوّاتِ المُعارضةِ للحُكومةِ، كما تعرفين تماماً ... (يناشِدُها، بعد أن يلتقط نفساً عميقاً) كُلُّ ما أطلبُهُ منكِ أن تتركي منزلكِ وتنزلي ... أقصدُ أن تأتي إلى الملجأ فوراً ... وذلك كتصرفٍ إحتياطيٍ فيما لو فقدَ الأميركيون رُشدَهم ... ماذا؟ آه، زوجتي؟ (ينظر حوله كمن يتوقعها أن تظهر له فجأة من وراء أحد الأعمدة الإسمنتية) في الواقعِ، لقد كانت هنا منذُ بضعِ دقائقٍ، ثم صعدت لإحضارِ بطَّانيَّةٍ أو اثنتين، وإبريق قهوةٍ، وبعض السندويشات ... وما لا أدريه من أشياء ... لا بأسَ إذن، يا كْريسْ، أقصد مدام كْريسْتابِل، لن آخذ أيَّ لحظة أخرى من وقتكِ. لكن، رجاءً، تذكَّري أنني ههنا. إلى اللقاء.
(يُعيد سماعة الهاتف إلى مكانها، ويمور بتنهدة يختلطُ فيها الإنعتاق بالكبت).
حليم (مخاطباً نفسه): لقد نسفتُ الأمرَ مُجدَّداً ! أعلمُ أني نسفتُه. (يَصفَعُ الجدارَ) كالغبي فعلتُ ذلك! (يهز رأسه يائِسَاً) لن أفهمَ أبداً لِمَ الأمور على هذه الشَّاكلة في سنّي هذا. ولن أفهم، كذلك، أبداً ما الذي في داخلي يدفعني باتجاه ما أعرف مسبقاً أنه ليس سوى اشتهاءٍ مُدَوَّرٍ لامرأةٍ لا يُجدي التَّحَرّشُ بها نفعاً؟ لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ (يتمايل حول نفسه ساحقاً الأرض بغضب شديد) أعرفُ لماذاَ! أعرفُ حقَّاً حقّاً لماذا!
اللقطة الثانية
(فيما هوَ مأخوذٌ بأحلامِ يَقظتِهِ، يُسْمَعُ وقعُ أقدامٍ تهبطُ الدَّرجَ المُؤدّيَ إلى الملجأ، ورويداً رويداً يتَّضِحُ صوت نينا، وهي فتاة في العاشرة من عمرها. نينا، على ما يبدو، تجهدُ في إفهامِ خادمةٍ سيرلانكية غير مُتجاوبةٍ معها خطورةَ الوضع وضرورةَ إسراعهما في النزول إلى الملجأ).
نينا (جانباً): السفينة الكبيرة ستقصِف! قنبلة! بومبا كبيرة ! كبيرة جداً! لذلك عليكِ الإسراع يا نَانْدا. أسرعي في النزول، هَيَّا.
نَانْدا (جانباً): سفينة نو بومبا. إنتِ كِذِبْ.
نينا (جانباً): سوف تقصف. سوف تقصف.
نَانْدا (جانباً): بلد مجنون. ناس مش طَيِّب. بابا يِرْجَعْ بيت، أنا اِرجَعْ سيريلانكا.
نينا (جانباً): أقول لكِ السفينةُ الكبيرة سوف تقصفْ. سمعتُ هذا من الجيران، جيران، أتَفْهمين؟
نَانْدا (جانباً): جيران شو؟ Pisso جيران.
نينا (جانباً): كانوا يتهامسون بالأمر. وعندما يتهامسون، أدرك أن أمراً سيئاً سوف يحدث. إني أعي هذا. إنّي أعيه.
(تظهران، أخيراً، عند باب الملجأ)
نَانْدا : نو إِنْزِلْ أنا نينا. سفينة نو بومبا. شِفتي؟
(تبدأ نينا نزول السُّلَّم، وهي تجرُّ الخادمة المترددة باليد )
نينا : تعالي. تعالي. أنتِ كسولة أبدا.
نَانْدا: على طول خايفْ بابا. مثل بابا إنتِ. نو جيران بالملجأ. شِفتي؟
نينا ( وهي تَجُرُّ الخادمة على درجاتِ السُّلَّم): تتذمرين؟ فهل تدرين ماذا سيحدث؟
نَانْدا: شو؟ شو؟
نينا: أعني أنك تتذمرين، لكن هل تعلمين لماذا؟
نَانْدا: شو، كيف؟
نينا: لأنَّكِ كسولة.
ناندا: كسولة؟ شو يعني؟
نينا: إنّكِ لا تحبين الصعود والنزول على الدرج لأنك gilala gilala (تنكزها، مَرِحَةً، في خصرها)
ناندا ( مُهَلْوِسَةً): أنا نو gilala gilala، نووو ! إنتِ pisoo yeksini
حليم ( يراقبهما بسرور) ما معنى هذه الجيلَلا، جيلَلا يا نينا؟ سبق لي أن سمعتكِ تستخدمين مثل هذه الكلمات مرات كثيرة في الأيَّام الأخيرة.
نينا: آه ، عمُّو حَليم، أنتَ هنا ! (متوجهة، بانتصار، إلى نَاندا) أرأيتِ ؟ لسنا وحدناالخائفتين. عمُّو خائفٌ أيضاً. لقد كان أوَّل من نزل إلى الملجأ، ألا يعني ذلك أنَّهُ خائف؟
حليم (مخاطباً نينا): لم تُجيبي عن سؤالي. ما معنى هذه الكلمات الغريبة؟
نينا ( مُباهِيةً بتفُّوّقِها اللغوي) آه حسناً، إنها تعني ... إنها مجرد تعبير عن السُّمنة.
حليم : فَهِمت. (متقدماً باتجاه نينا، وبصوتٍ هامسٍ تقريبا) ألا تعتقدين أنه من الأفضل لو كُنْتِ على علاقة أفضل معها. أقصد إذا لم تُناديِها بأسماء كهذه (بلطف وحنان) خاصَّةً وأنَّ والدكِ ليس هنا ليعتني بكِ؟
نينا ( بلهجة دفاعيّةٍ مُتصَلّبة): أبي سيعود. إنه ليس هنا الآن لأنه يعمل في مكانين. ألا تعلم ذلك؟
حليم: أعلمُ، أعلم. ما كنتُ أقصد قوله...
نبنا: إنه يعمل في مكانين ليجني ما يكفي من المال لوضعي في المدرسة.
حليم (في حيرةٍ كاملة لما يجدر بهِ أن يقوله ليهدئ من غضب الفتاة): أعلمُ كل هذا. أعلمه كله.
نينا: لا، لستَ تعلم. ولستَ وحدك الذي لا يعلم، بل كلكم في هذه البناية لا تعلمون. نعم، نعم، كلُّ واحدٍ منكم يَظُنُّ أنَّ أبي هربَ (يمتقع وجهها ألما) وتركني وحدي هنا. ولكن، لا، لا، أبي لا يفعل هذا أبدا ... (عاجزةً عن إنهاء احتجاجها هذا، تشيح بوجهها بعيداً مُخفِيَةً لنشيجها).
حليم: ( مُربِّتاً على كتفها برقة) تعالي، تعالي الآن. عزيزتي الصغيرة، عليكِ ألاَّ تغضبي من عمُّو حليم. لقد كنتُ أحاول أن أقول لكِ ما كان يمكن لوالدكِ نفسه أن يقوله... فيما لو كان ها هنا... أقصد عن كيْفِيَّةِ مُعاملتكِ لها (يشيرُ إلى ناندا. تستمر نينا في مقاومة نشيجها) لا تقسي على نفسكِ يا عزيزتي. تعلمين كم أهتم لأمرك. وأتمنَّى لو كانت لي ابنة مثلك. (لا تظهر أيُّ ردَّة فعلٍ من قِبَلِ نينا) تعالي، تعالي، يا عزيزتي، أنت أجمل شيء حدث لهذه البناية. ولن نرضى أن تكوني غيرَ سعيدةٍ حتى وَلَوْ لِلحظةٍ واحدة، (يُعانِقُها) أوَ نَقْدِر؟
اللقطة الثالثة
(بينما يُحاوِلُ حليم تهدئة الفتاة الصغيرة، تنزل درجات الملجأ خفيةً امرأةٌ في مطلعِ الثلاثيناتِ من عمرِها وقد ارتدت بنطالاً من الجينز الأزرق الغامقِ وبلوزة سماويَّة اللون؛ وها هي تَقِفُ الآن صامتةً وراءَ حَليم. إنَّها سالي).
سالي: مرحباً. ( يستدير حَليم نحوها، ويستعيد وَعْيَهُ فجأة) عَرفتُ أنكَ ستكونُ هنا. كُنْتُ متأكِّدة من ذلك.
حَليم (بلطفٍ، بمُحاولةٍ جاهدةٍ منه كيلا تلتقي عيناه بعينيها): آه، نعم، إنِّي هنا. حتى أني أنزلتُ معي هاتفي الخاص لِكَي ... لِكَي ...
نينا (مخاطبة حَليم بتأثُّر) لُطفاً عمُّو حليم، هل يُمكنني مخاطبة والدي مِنْ هُنا؟ أرجوك أخبرني، هل يمكنني هذا؟
حليم (بلطفٍ شديدٍ وببطءٍ، رُبَما ليتجنبَ ولأطولِ وقتٍ ممكن، ولكن من غير ما سخط، الحضورَ المُربك لِسالي): طبعاً يمكنكِ هذا يا عزيزتي. ولكن لا بُدَّ أولاً من أن يتَّصِلَ والدُكِ ويتركَ لنا رقم هاتفه؛ فهو، كما تعرفين، لا يُقيمُ في مكانٍ واحدٍ طوال الوقت. وتعلمين كذلكَ صعوبةَ أن يحصلَ المرءُ في هذهِ الأيام على خَطٍّ هاتفي غير مشغول. إني أكيدٌ، يا عزيزتي، أنَّ والدكِ يُحاولُ طولَ الوقتِ أن يتَّصِلَ بك، نعم كُلَّ الوقت.
نينا (بِتَهَلُّل) حسناً، إذن، سوفَ أنتظر. سوف أنتظر حتى أسمعَ صوته.
سالي (مخاطبةً نينا): نينا، عزيزتي، إحزري ما الذي أحمله لكِ هنا ( تُشيرُ إلى حقيبة يدها).
نينا: ليس ذلك اللَّوح من شوكولا الزيكْ زاكْ من جديد !
سالي:(بعذوبة) ولكنكِ طالما أحببتِه، ألا تذكرين؟ لطالما كنتُ أسألكِ، عندما أذهبُ للتسوُّقِ، ما الذي تريدينَ منِّي أنْ أُحضرهُ لكِ، ( تَنْحَني مقَلِّدَةً نينا) كانت عيناكِ البنّيّتانِ تَلْتمِعانِ انْفِعالاً وتصرُخين "زيك زاكْ تانت سالي، زيكْ زاك"، هاكِه، خذيه.
نينا (تأخذ لوح الشوكولا): ولكن أصبحَ لدي الكثير منه.
حليم (مخاطِباً سالي بمرح): من الصّعبِ إرضاؤها، أليسَ كذلك؟
سالي (بابتسامة مُشْرِقة): تماماً كصُعوبة الوصول إلى بعض النَّاس!
حليم: ذلكَ شيءٌ لا أعرفُ عنهُ شيئاً. (يتوجَّه بسرعة إلى نينا) إذا ما كنتِ تخططين يا صغيرتي لقضاء الليلةِ هنا في الملجأ، فعليكِ أن تطلبي من الخادمة أن تُحضِر لك بطانية وطعاماً وشراباً.
نينا (مخاطبة ناندا): ألم أقل لكِ أن السفينة سوف تقصف؟ أرأيْتِ ؟ كُلُّ النَّاس سوفَ ينزلون، كل الناس.
ناندا: كل النّاس pisso.
نينا:pisso أو نو pisso، إصعدي إلى فوق وأحضري بطانيَّة.
ناندا: إنتِ بطانيَّة، وأنا؟
نينا: أحضري بطانيّة لكِ أيضاً. هيا، أسرعي إلى فوق. ستقع البومبا سريعا. أسرعي.
(تبدأ ناندا التوجه نحو الدرج للصعود).
سالي (مخاطبة نينا): عزيزتي نينا، إصعدي أنتِ معها وأحضري لنفسكِ روب. سيكونُ الطَّقس الليلة شديد البرودة. إذهبي، إذهبي، وقولي لها أن تُحضِر معها العلبة البلاستيكية التي فيها الجبن والمربَّى والخبز. تذكَّري كم مرة طلب مني أبوكِ أن أستمر في تذكيركِ بتلك العلبة؟ هل تتذكرين؟
نينا ( باشتياق ): أتمنَّى لو أن أبي معنا الليلة؛ فهو يعرفُ ما يجب علي أن أفعل أو لا أفعل.
سالي: لا تتحامقي. سوف نعتني بكِ نحن، ألا تعلمين هذا؟
نينا ( مُتَّجِهةً نحو الدَّرج ): أعلم، ولكن ...
(تختفي نينا وناندا. يظلُّ الجو كئيباً بعضَ الشيء).
سالي: إنّه لشعورٌ غريبٌ، تعرف هذا؟ شعور لا أستطيع مقاومته. فما يتفاعلُ في داخلي تجاه هذه الفتاة من إحساس قد يكون أمراً صوفيَّاً، أو لعله شعورٌ غامضٌ.
حَليم: أظن أني أعرف هذا الشعور. فأنا أيضاً أُحِسُّ بهذا النوع من العَطْفِ تجاهها.
سالي: لكن ما أحسه تجاهها هو أمر آخر. فهو يختلف، بشكل مُدهِش، عن كُلِّ مَشاعري الأخرى.
حَليم: أي شعور آخر يمكن له أن يكونه؟ فكلنا على معرفة بحالها.
سالي: لعلَّه الإعجاب.
حَليم: الإعجاب ! بها؟ لا شكَّ أنك تمزحين.
سالي: أجل، أجل، إنَّه الإعجاب، وأنا فخورة جداً بإعلان إعجابي هذا.
حَليم: لا يُمكنني أن أعترفَ بأي إعجابٍ لأي فتاةٍ في مثل حالها، وإن اعترفتُ فرُبَّما فقط بقدرتها على معايشة حيرتها... نوع من الضّياع...
سالي: حسناً، نعم، هذا الأمر مُلْفِت.
سالي: وللأمانة، عليَّ أن أُقِرّ بأني في بعض الأحيان أُحِبُّ كل ما له علاقة بهذه الفتاة، كل شيء. (صمت).
حَليم ( وقد اكتشف فجأة أنهما يقفان في الملجأ وحيدين ): من الأفضل أن أصعد وأجلب بعض الشموع. فالتيَّار الكهربائي سرعان ما ينقطع فجأة في هذه الأيَّام.
سالي ( بِتنغيمٍ صوتي ): وأنا سوف أؤمِّن عيدان الثقاب !
حليم ( يتجاهل ملاحظتها ويتوجَّه نحو السُّلَّم ): لَن أتأخَّر.
سالي (مُوَبِّخةً، ولكن برقّة ) : لِمَ تُصْبِحُ عَصَبِيَّاً كُلَّما تَلَفَّتَّ حَولكَ وأدركتَ أننا أصبحنا وحيدين معاً؟ (بغنج ) هلّ ثمَّة ما يُخيفك في حضوري؟
( يقف حليم، مشدوهاً، ثُمَّ يلتفت إليها )
حليم: لا يُعْقَلُ ما تقولين، سالي. ولا يُمْكِنُ لكِ أنّ تَكُوني جدّية.
سالي: إنّي مُدْرِكة تماماً لنقاط ضعفي، ودِقَّة الملاحظة ليست واحدة من هذه النِّقاط أبدا.
حليم، صدّقيني، صدّقيني، هذا كُلُّه من بنات أفكاركِ.
سالي: وماذا في بنات أفكارِكَ أنتَ، أراني أتساءل.
حليم ( وكأنه مُصَمِّمٌ على وضع حدٍّ نهائي لكل توجهاتها المُشكِّكَة ) : إسمعي الآن يا سالي، إذا ما كان لي، بحكم جيرة السنين الطويلة التي أمضيناها معاً في هذه البنايةِ، أن أُخاطِبك بإسمكِ الأوَّلِ...
سالي ( ضاحِكة ) : لا مُبَرِّرَ لِهَذه التفسيرات. فلطالما دعوتَني سالي. بل يُمكنكَ، في هذا الحال، أنْ تَدْعوني سالْ، أو حتى سْسْسْس.
حليم: سيدة سالي ! سوف أدخلُ مباشرة في الموضوع.
سالي ( مُقَلِّدةً، بهزءٍ، للهجته الجديَّة ) : سيِّد حليم، تفضَّلْ، رجاءً.
حليم ( مُحْتدَّاً لأنها لم تأخذه على منحى الجد ) : سَئِمْتُ تلميحاتكِ وتَعِبْتُ منها ومن إساءاتكِ المبطّنة.
سالي: تلميحات !! إساءات مبطّنة ! ( بتحَدٍّ هازئ ) هَلْ تُريدُني أن أتعرّى لك لأبدوَ مُجاهرةً ومنفتحةً وواضحة؟
حليم: حُبَّاً بِالله، اهدأي. (عيناه على الباب، بغضب ) هَل تُريدينَ أن يَنْصَبَّ علينا كُلُّ مَنْ في هذه البنايةِ الملعونةِ ؟
سالي: يَنْصَبُّ علينا أو ننصَبُّ عليهِ، يأتينا مِنْ فَوقٍ أو يَأتينا مِن تحت، أوَ تَعتقِد أنّي آبَهُ لِمِثلِ هذا الأمر؟؟
حليم ( محتجاً، كيما يتجنب مشهداً مُحرِجا ) : سالي، سالي، أرجوك اسمعيني. أعرف أن لديك مشاعرَ رقيقة...
سالي: آه نعم، ولكن ماذا عن هذه المشاعر الرقيقة ؟
حَليم: أعني هذه المشاعر الرقيقة التي ما برحتِ تحاولين ...
سالي: وإلى الأبد ...
حَليم: أن تعبِّري لي عنها.
سالي: إذن لم أكن، بعد كل هذا ، مُضَيِّعَةً لوقتي. أخيراً تمَّ استلامُ الرِّسالة. ( بحركة مسرحيَّة ) تهانينا أيتها العزيزة سالي. لقد أدَّيتِ، بالفعل، عملاً جيدا.
حَليم: حُبَّاً بِالله، سالي، أصغي إليّ، فإني، وبكل إخلاص، أكنُّ لكِ كل احترام لشجاعتكِ. ولكن ...
سالي: ولكن ؟
حَليم: ولكنكِ امرأة متزوَّجِة.
سالي: وأنتَ ألستَ امرءاً متزوجاً؟
حليم: هذا لا يُلغي الفرق بين الحالتينِ، حتى ولو ادّعينا العكس.
سالي: ما بَرِحْتُ، منذ أن بدأتُ أقرأ أفكارك، أبحث في كلّ الخلايا المُضيئة في ذهني الأنثوي الصَّغير عن هذا الفرق؛ ولَطَالما عُدْتُ من بَحثيَ هذا بلا شيء. حتى بلا ظِلٍّ لهذا الفرق أو بمُجرَّدِ فُقاعةٍ منه. لا شيء، البتة، لا شيء.
حليم: لن تقودكِ سُخريتك إلى أي نتيجة. ( بِحُنق، ولكنه ما برح يخاطبها بلهجة الرجاء ) إنكِ تُخيفيني يا سالي. تخيفيني. أوَ تعلمين لِمَاذا؟ لأنكِ قادرة على أن تكوني عنيدة ومزاجية مثل طفل صغير.
سالي: تقصد عنيدةً ومزاجيَّةً مثل نينا؟
حليم: على العكس، فبإمكاني أن أعرف، دائماً، دائماً، ما الذي ستقوم به أو ستقوله نينا.
سالي ( ضاحكةً من الأمر بُرمَّته ) : لا بأس، فثمَّة طفل عابث، باستمرار، في داخل كل واحد منَّا، ألا توافق على هذا؟
حليم: الآن تتحدثين بمنطق.
سالي ( بتأمُّلٍ مفاجئ ) : أوَ تدري؟
حليم: ماذا ؟
سالي: أتعلم ما أكثر ما يُعجِبُني في نينا ؟
حليم: ليس تماماً، أخبريني.
سالي: لن يمكن لأحد أن يخدع بعد الآن تلك الفتاة الصغيرة وكأنها مجرَّد طفل عادي. لا، ليس هي.
حليم: ومن يسعى لِخداعها؟
سالي: أنت تعلم ما أقصد. إنها تَشُبُّ بسرعة كبيرة ... أعني في داخلها، بسرعةٍ لدرجةٍ أنَّهُ باتَ من الحرام أن لا تكون بقربها خالة أو عمَّة ... أو جدَّة ... أو أي قريبة أنثى تعتني بها فيما يخص هذا الموضوع.
حليم: هذا الأمرُ لا يمكن تدبُّره، فجميع أقارب والدها يقيمون في الشمال، كما تعلمين؛ وإذا ما كان لي أن أقول شيئاً، فأنتِ تُبالغينَ في القَلَقِ عليها.
سالي ( ضاربة على الوتر الحسَّاس ) : هذا صحيح، فهل تعرِف لماذا ؟
حليم ( مُربكاً ) : ربما لأنَّ ...
سالي: لأني لم أُنجب طفلاً؟ لا ، ليس الأمر كذلك. (تضحك بكآبة ) بِشَرفي ليس الأمر كذلك. الحقيقة أن في حالتها ما يُذَكّرُني بطفولتي.
حليم: ولكني لم أعلم أبداً أنَّ والديك كانا ...
سالي: آه، أبداً لم يكونا.
حليم( مُربَكا ) : لا أفهم.
سالي:( وقد أشاحت بعينيها ) : تَفْهَم؟ ( تبتسم بحزن ) آه، هذا أمر لم يَفْهَمْهُ، ولن يَفْهَمَهُ، أحد.
حليم: لِمَ تقولين ذلك ؟ أحياناً لا أستطيعُ أن أُتَابَعكِ، أو ألحَقَ بأفكارِك.
سالي ( مستعيدة لحضورها الذِّهني ) : تتابع ! تلحَق ! ( وقد ومضت عيناها بِمَرحٍ عابث ) أبداً لم تفعل. فأنا التي كُنتُ ألحَقُ بِك، بل أُطَارِدُكَ، إذا أردتَ التَّعبيرَ الأصحّ. ( بغنجٍ لعوب، تَبسطُ يَدَيْها، فأصابعُها مخالب أمام وجهه ) نعم، أُطاردكَ هكذا ( كالقطَّة ) مياوْ ! مياوْ ! مياوْ!
حليم ( مُبْتعِدَاً عنها كَمَن يَتَجَنَّب مهووساً ) : سيدة سالي، رجاءً. ( وإذ تتابع سالي مُطاردتها له، يأخذ وجهُها ملامحَ مَنْ يبغي أن يُثير الرُّعب في قلبه. تعابيرُ وَجْهِها تشي بِمَعْرِفَتها بالفيلم المشهور: (One Flew Over The Cockoo’s Nest.
حليم: سيطري على أعصابكِ يا سالي، حُبَّاً بِالله. فمنظرُكِ هذا لا يُمكنِ أن يَدُل إلاَّ على أننا في مأوىً للمجانين.
سالي ( وهي تُدخِل أصابعها العشرة في شعرها مُشَوِّشَةً له كي تبدو مثل ساحرة شريرة ) : قُلتَ مأوى للمجانين؟ إذن فسأجعلهُ مأوى للمجانين ! ( تركض وراءه ) .
حليم ( مُبتعداً ) : شعرُكِ الأشعثُ يجعلك تبدين مجنونةً حقاً. تَعَالي، تعالي الآن، وسَرِّحي شعرك، أعيدي ترتيبه قبل أن يَنزِلَ أحدٌ إلى هنا.
سالي ( بضراوة ) : هل ثمَّة أحد بالتحديد؟ ( تظهر ردَّة فعله الوحيدة مِنْ خِلالِ صَمْتٍ ذاهل. فتصرخ) أطلب منكَ أن تجيب عن سؤالي. قُلتُ لك هل ثَمَّةَ أحدٌ بالتحديد؟ زوجتك مثلاً ؟ أو تلك la la divorcee madonna؟
حليم ( كمن يُخاطِب نفسه ) : أنتِ مجنونة ! أنتِ، والله، مجنونة.
سالي ( متمتّعةً بشكلٍ هائلٍ بلعبتهاالجنونيةِ ) : مجنونةٌ ! مجنونةٌ ! مجنونةٌ ! مجنونةٌ ! ( تبسط "مخالبها" أمامه من جديد) مجنونةٌ، قلتَ، ومجنونةً سأكون. ( تهمهم كَأنَّها شَبَحٌ حقيقيٌ، إذا ما كان ثمَّة من يؤمِنُ بوجود الأشباح) إنَّ في جنوني لَحِكْمَةً، وإنَّ في عَينيكَ لَرُعْبَا.
حليم: لا شكَّ في أنَّكِ تُعَلِّمينَ فنَّ المسرَحِ لتلاميذِ الصُّفوفِ الثَّانَويَّة.
سالي: هناك حِكْمَة ...
( يُسْمَعُ صوتٌ عميقٌ غير اعتيادي لقنبلة غير اعتياديَّة تعبر السماء الليلية للمدينة؛ يتجمَّد كُلّ مِنْ سالي وحَليم في مكانه. يبدو من نظراتِ عيونهما الهَلِعة أن هذا الصَّوتَ الغامضَ قد صَبَّ الرُعبَ في قلبيهما. لا نهايةَ لِمحنةِ انتظارِ الإنفجار المُدَمّر، رغم أنه لا جدوى من الإنتِظار. وعندما يَكتشِفانِ، أخيراً، أنَّ لحظةَ الخطرِ قد انزاحتْ عنهما، يتبادلانِ نظرَةً بينهما فيها مباركةٌ لهذا الإنبعاث إلى الحياة.)
حليم: لقد فقد الأميركان صوابهم.
سالي ( مواصلة لارتباكها ): أين تعتقدهم قَصَفوا؟
حَليم:( بغضب ): تَبَّاً لهم ثُمَّ تَبَّاً ! لا بد أنهم قصفوا الجبال، هل ثمَّة مكانٌ آخر ؟
سالي ( بقلق ): لماذا الجبال ؟
حليم:( بِكَدَر ) لأننا لم نسمع دَويّ الإنفجار، ولأنَّ القذيفةَ اللعينةَ لن تبقى طول الليل تجوب السماء. لذلك، لا بد أن تكون الجبال هدفاً لهم.
سالي: إهدأْ ... إهدأْ ... فأفراد عائلتك وأقاربك الأدنون كلهم هنا في بيروت. فَلِمَ تقلق وكأنَّك قد خسرت أحدا؟
حليم ( كَمَنْ يُخاطِبُ نفسه ): لقد قررتْ النيوجرسي، أخيراً، أن تضربَ الجبال. ( قارعاً صدره ) جِبَالَنا!
سالي ( مُتيقِّظَةً، وعلى استعداد للمشاجرة ): ما الذي تعنيه ب جِبَالنا، هِه؟
حَليم: تعرفين تماماً ما أعنيهِ.
سالي ( بِتَحَدٍّ ): لا، لستُ أعرِف.
حليم: كانَ جنوناً منِّي أن أعتقد أنَّكِ تَعْرِفين. على كل حال، فأنتِ لستِ سوى مسيحيَّة مُرْتدَّة.
سالي ( مصعوقةً حتى أعماق عظامها ): مُرْتَدَّة ! بحق الشياطين كُلِّها ما الذي تعنيه بهذا؟ عليكَ أن تُمَضْمِضَ فمكَ عشر مرّاتٍ قبل أن تجرؤ على لفظ هذه الكلمة مجدّدا.
حليم: حُبَّاً بالشَّيْطان، لا تتصرفي بغباء !! ألا تعرفين تماماً، كما أعرف أنا، أنّ كونَ المرءِ مرتداً مسيحياً في هذه البلاد يعني أنه لا ينتمي إلى أي مكان، وأنه يعيش بلا جذورٍ له من أي نوعٍ؟ إنه بلا خلفية أو وضعية يرتكز إليها، وهذا ما يمنعكِ من فهم ما أُحِسُّه تجاه...
سالي ( مقاطعة بسرعة ): أيَّتها اللعنة! تَظُنُّ لكَ وحدكَ أن تدَّعي لنفسك كل الجذور وكل التَّاريخ، إيه؟ أَصْغِ إليَّ الآن ! كَونُكَ مُسْلِمَاً مِنَ الجبال لا يعني امتلاكَكَ لهذه الجبال. فلقد سَكَنتْها العائلات المسيحية منذ زمن طويل لم تكن قد اختُرِعَتْ فيهِ لفظة مسلم بعد.
حليم: لفظةُ مُسلِم، ولِعِلمِكِ، لم تُخترَع. إنها موجودة منذ الأزل، وستبقى كذلك إلى الأبد.
سالي (بحقد): أنتَ أحاديّ التفكير يا بْنَ المتعصبين يا ...
حليم ( كَمَنْ يُؤمِنُ فِعلاً بِمَا يَقُول ) ربما أكون متعصباً لحقيقة تاريخية، ولكن ليسَ لكِ أنْ تصفيني بالمُتعَصِّبِ الأعمى.
سالي ( تُمسِكُ رأسها بكلتي يديها وتهزه بسخط ): رَبَّاه ! ربَّاه !! ما الذي فَعَلْتُهُ بنفسي؟ كيف، بالله، قبلتُ ... ولو حتى من باب الكرم ... أن أُبدي أي مشاعر رقيقة لِمخلوقٍ رَجعي مِثلك؟
حليم: إسترجعي كلّ ما أبْدَيْتِهِ لي ... إسحبي كلّ مشاعرك العذبة تلك؛ فإنّي لم أُشَجّعكِ على بَذلِها يا سيدتي أبدا.
اللقطة الرابعة
( خِلالَ اللحظاتِ الأخيرةِ مِنْ جدالهما المَقيت، تُسْمَع من خارجِ المسرحِ أصواتٌ لأُناس يهرولون، في اضطرابٍ شديدٍ، نزولاً على الدَّرج المؤدّي إلى الملجأ. وكلما اقتربَ وقعُ الأصواتِ، المُتشابكةِ مع بعضِها والمُنسَحِقَةِ فيما بينها، أصبحت هذه الأصواتُ أشدَّ وضوحا. تتراجع سالي وحَليم، غريزياً، عَنْ بَعْضِهِما، ويبدأ، كلٌ في زاوية من المسرح مختلفة عن الأخرى، التظَاهُرَ بأنه يُرَتِّبُ المقاعدَ والطاولات الصغيرة التي هناك. ولا تنسى سالي أن تُرَتِّبَ شعرها. تنزل نينا الدَّرجات المؤدّية إلى الباب، وهي تَحْمِلُ عُلبَةً من البلاستيك، ومعها ناندا حاملة بطَّانيتين: نينا شديدة الانفعال، فيما تَنُمّ عينا الأُخرى عن اهتمام غبي. تختفيان خلف الأعمدة، بعدَ أن تجرّ نينا الخادمة بعيداً عن الأنظار فيما يبدو، من جانب الفتاة على الأقل، وكأنه محاولة منها لارتجال لعبة الإستغمَّاية - - "غُمَّيْضَة".
يلي هؤلاء في الدخولِ رجلٌ في منتصف العقد الثالث من العمر، وقد ارتدى بذلة سوداء. ربطة عنقه، ذات اللون الأرجواني الخفيف، يبدو وكأنَّه عَقَدَها بدقة حول رقبته، حتى لَكأنَّها تُوحي برغبةٍ له في خنق نَفسِه. إنَّهُ أنطوان، زَوجُ سالي ).
أنطوان ( متوجهاً إلى سالي، والكل يلتفِتُ بتوتُّرٍ إليه ): إذن هذا الذي، على ما أظن، سيكون مهرجاناً آخر تحت الأرض.
سالي:بِغَضِّ النَّظَرِ عنْ سُخرِيَتِكَ، فلقد صدق افتراضُكَ هذهِ المرَّة.
أنطوان: لا أفترِضُ سِوى الحقيقة، وخاصَّةً عندما تُبدي الأمورُ غيرَ ما تُكِنّ.
سالي: أتمنّى أن تُدْرِكَ أن هذا المكان ليس واحِداً من صفوف الفلسفة التي تدرّسها. هذا ملجأ. أي مخبأ يتوقَّع النَّاس الخائفون أن يحصلوا فيهِ على السلام والأمان. أم ترى أن هذا الأمر مُعَقَّدٌ جداً بالنسبة لعقلك الفلسفي؟
أنطوان: ما أن ألتقِط نَبْرَةَ المرارة في صوتكِ، حتى أُدرك أنَّكِ تُعانين الشعور بالذَّنْبِ تجاه أمرٍ أو تجاه آخر.
سالي: بالتأكيد أنا أُحِسّ بالذَّنب ... ليس تجاه أمرٍ، بل تجاه آخر، إن كُنتَ قادراً، وأنا أقتبسُ هذا التعبير من تعابيرِك المُفَضَّلة، إن كُنتَ قادِراً على اكتشاف ما يُمكِنُ لهذا الأمر الآخر أن يكونه.
( يبتعدان عن بقية الموجودين على المسرح، فيما يتابعان نقاشهما ).
أنطوان: أؤكِّدُ لكِ أنِّي فكَّرتُ طويلاً وخمَّنتُ كثيرا.
سالي: في مجال التَّخمين، كلُّ واحدٍ عبقري، وهذا أيضاً من التَّعابير المُفضَّلة لديك.
أنطوان: وماذا عن المناحي الأخرى، إن كان لي أن أدفعَ النِّقاش إلى مزيدٍ من العُمق؟
سالي: إذا ما كان ثمَّة أمر يَلْذَعُك، فَلِمَ لا تُصَرِّح به بوضوحٍ ونزاهة، إيه ؟ هلاَّ جرّبتَ ذلك، ولو على سبيل التغيير؟
أنطوان ( مغتاظاً ): هل بإمكانكِ أن تُخبريني لماذا أنتِ، وعنوةً عن بقية النسوة اللواتي يُقِمْنَ في هذه البناية، قد أقمتِ من نفسك راعية ... نوعاً من الأمّ الوكيلة ... لتلك الفتاة؟ مَنْ كَلَّفَكِ، وبحَقِّ أي إله تؤمنينَ به، أن تَطلُبي منها إحضار تلك العلبة البلاستيكية وفيها الجبن والخبز وما لا يعلمه إلاَّ الله إلى الملجأ؟
سالي: لستَ أنانيَّاً وحسب، بل إنَّك ضبابي التفكير، ... وعديم الإحساس ... ومُختلّ.
أنطوان: ويمكنكِ أن تزيدي على هذه البَيْعةِ ما شئتِ من المفردات فلقد اعْتَدْتُ على مصطلحاتك وتعابيرك منذ زمن بعيد.
سالي: لا يزعجني أنَّكَ تعيشُ في عالمٍ خاص بك، مِن صُنعِك. ليس هذا ما يُزعِجُني أبداً ... ما يُزعِجُني هو هذه اللامبالاة الرَّهيبة ... هذا النَّقص في التعاطف والاهتمام الإنسانيين ... والذي يجعلُ ألفاظك أشد حدة من السكاكين القاطعة ... وأنتَ تَغْرزها في لحمي وفي وعيي.
أنطوان: صدقيني، كانَ يُمكِن لكلمتكِ هذه أن تلقى تقديراً كبيراً فيما لو جرَّبتِها في واحد من عروضك المسرحية لتلاميذ الثانوية. ولكن، على كل حال، أنتِ لَمْ تُجيبي على سؤالي.
سالي: أَرِحْني منكَ ومن أسئلتك. حُلَّ عن ظَهري.
أنطوان: حَلَلْتُ عَنْ ظَهْركِ منذُ زَمَن. أم أنَّكِ لم تلاحظي الأمر؟
سالي: كلامٌ رخيصٌ وذو وجهين !
أنطوان: وأمُّكِ ذات الوجه الضَّفدعي لا توافقُ عليه، أم تراها تُوافِق؟
سالي: اللعنة ! اللعنة ! اللعنة ! منذ سنوات وأنا أُعَلِّمُكَ أن تتحدَّث وتتصرَّف كما ينبغي لمسيحيٍّ طيِّبٍ أن يتحدَّث ويتصرَّف. لكن بلا طائل، كلُّهُ بلا طائل.
أنطوان: لا تتجنبي الموضوع الرئيسي لمحادثتنا بحشر نفسِك وحَشْرِ إيمانكِ المنافق الملعون في طول الحوار وعرضه.
سالي: أنا ! مُنافقة ! حسناً. بإمكانكَ إقحام نفسِك في تعذيبٍ ذاتيٍّ طوال الوقت الذي تقدر عليه. ولكن دعني لوحدي. واترك أمي بعيداً عن محادثتنا. وحُبَّاً بالمسيح، اترك تلك الفتاة الصغيرة بعيداً عن تفكيركَ المحموم لبرهةٍ صغيرةٍ. أعطها فرصة. فلديها ما يكفيها.
( تمشي بعيداً؛ فيما يتجمَّد هو في مكانه، مواجهاً الحائط ).
اللقطة الخامسة
( بعض سُكَّان البنايةِ كانوا قد هُرِعوا إلى الملجأ، والآن يبدونَ للعَيان، فمنهم من يحمل حقائب، فيما الآخرون يَحْملونَ غلايات قهوة، وأباريق شاي، ومدافئ غازِ. من بين هؤلاء، كذلك، من يتأبطّ بطانيَّات أو يحمل شموعاً وعُلَبَ ثِقابٍ وكؤوساً ورقيَّةً مُتعَدِّدَة الأحجام، فضلاً عن أشياء أُخرى.
ليلى، زوجةُ حليم، ما بَرِحَت تطلبُ رقماً هاتفيَّا. ومن الواضحِ أنَّها لا تَجِدُ سوى خطٍ مشغول، ولذا، تُعيدُ طَلَبَ الرَّقم لثلاثِ مرَّاتٍ أو أربع. وهي تقوم بهذا، بينما عيناها العصبيتان تسترقان نظراتٍ قَلِقَةً تجاه زوجها وتلك المرأة القريبة منه. زوجُها يَتظَاهرُ بأنَّهُ لا يُلاحظ هذا التصرُّف من قِبَلِها، وفي النهاية تَبْدَأ التحدّثَ بجديّةٍ إلى أحدٍ ما عند الطَّرفِ الآخرِ مِنَ الخَط. تُؤدَّى هذه الأمور جميعاً بطريقة الإيماء.
كْريستابِلْ هي الشّخصيَّة اللافتة للنظر، وذلك بِحُكْمِ تميُّزِها عن كل فرد آخر. إنَّها امرأةٌ مُطَلَّقة في آخر العقد الثالث من العمر، ومن الواضح أنّها تعيش وفقاً لمقاييس خاصَّة بها حتى ولو كانت في الملجأ: فهي أنيقةُ الملبس، ولم تَنْسَ، حتى في هذا الوقتِ الذي تُتوقَّع فيه الأخطار المداهمة، أن تَلُفَّ كتفيها بشالٍ أبيضٍ جميلٍ من الكروشيه. ولكن هذا الأمر بمفرده قد لا يكون كافياً للفت أنظار جمهورها المسائي إليها، ولذا، ولكي تكون مختلفة تمام الاختلاف عن الآخرين جميعاً، فإنها تدخلُ حامِلَةً زجاجة من النَّبيذ مع كأس أنيق من الكريستال.
وهذا كلّ شي.
بل ليس ذلك بكلّ شيء، فكريسْتابِلْ تحمِلُ أيضاً نسخة من مجلَّةٍ عالميَّة، تَشُعُّ مِنْ غِلافِها صورةٌ لِوَجْهٍ مُبتسِم لِدَيَانا أميرة إنكلترة. تستطلعُ كريستابِلْ المكان وكأنها هنا للمرة الأولى، ثم تختار مقعداً وتجلس بحيث تُعطي الجميع شرف حظوة التمتّعِ بِحُضُورِها. وفيما تستقر في مقعدها، فإنها تضع زجاجة النَّبيذ والكأس والمجلة على طاولة قريبة منها. وأخيراً، وبينما تلتقط شفتاها سيجارة، يُشعِل السيّد طَريف، وهو رجل لطيف في آخر العقد الرابع من عمره، ولاَّعةَ سجائر؛ وينجح، رغم الاحتجاجات الكثيرة لكريستابِل، في إشعال سيجارتِها ).
كريستابل: Merci! Vous êtes très gentil.
طريف: لهجتكِ الفرنسيَّة رائعة. ولا شك أنَّ مُحاكاتي لها أمرٌ فوق طاقتي. أمَّا فيما يتعلَّق بلطفي، فأنا واثقٌ من أني مَدينٌ به لحضورك. فحضوركِ يؤثِّرُ فيَّ تأثيراً عظيماً حتى أني بدأتُ أُحسّ أني لم أعد الرجل الذي كنتُه قبل حضورك. نعم، أنا طَريف، ولكن قد أُضيف إليه أمر آخر... أمر لطيف.
كريستابِل ( ببداهة ): Domage, Monsieur Tareef, Domage أنَّك لا parle la langue de sophistication et de culture… ولكن، على أي حال، فأنتَ لا تزال تَتمَتّع بمزية تُعَوِّضُكَ عن هذا النَّقص: ألستَ خيرَ مَنْ يُشعِل سيجارة لِسَيِّدَة ؟
اللقطة السادسة
( يظهرُ شخصان عند الباب، كلُّ واحدٍ منهما يسعى، بتهذيبٍ جَمّ، إلى إفساحِ المجالِ للآخر للدخول قَبْله. يتبادلان الابتسامة وَيُمْسِكُ واحدهما بيد الآخر، ويدخلان سويَّة. إنها لفتة باهرة لدرجة تَجْعَلُ المسرح يضج بالهمسات المُحتارة والمُحَيِّرة. بيد أن هذه اللحظة من الحيوية الاجتماعية لا تلبث أن تنحسر عن صمت أخرق إذ ينفصِلُ الرجلان عن بعضهما، ويتوجه كل واحد منهما في اتجاهٍ مختلف عن اتجاه الآخر، ويبدآن، من ثَمَّ، التجوُّل على خشبة المسرح بحيرة.
يُشارفُ أصغر الرجلين الثلاثين من العمر: نحيفُ البِنْيَةِ، ذو عينانِ عصبيتانِ تَنمَّان عن فضولية مؤلِمَة. إنَّه طارِق، وهو شاعرٌ ما فتىء يُناضِلُ بجلد دؤوب ليجد ما يُعَبِّر عنه بفنّه الشعري من خلالِ التركيزِ على أحدِ موضوعاتِ التجرُبَةِ المُعاصِرَةِ لِوَطَنِه. تبرز الأهمية للموضوع الذي ارتآه لنفسهِ، في هذا المجال، في نظمهِ سلسلة من القصائد تنبثق مِنْ قُدْرَتِهِ على التقاطِ رُوحِ جيلٍ جديدٍ من الشبابِ الذين انبثقوا مؤخراً مُتبَنّين رؤيةً سياسية صلبة الإيمان والتصميم على إحياء حضارةٍ ظُنَّ أنها ماتَتْ مُنذُ أمَدٍ بعيد.
أخيراً يَصِلُ طارِق في تجوالهِ المُتوتّر على المسرح إلى نهاية: يجلس على كُرسي، يفتحُ كتاباً، يبحثُ عن قُصَاصَةِ وَرَقٍ مَطوِيَّةٍ بين صفحتين، يَنشُرُ الورقة، ثمَّ يبدأ خربَشَةَ شيء ما عليها.
الرجل الثاني هو القِسّ لِمِتْرِيوسْ. ثمَّة أمرٌ مُحيِّر في وجه هذا القِسّ لدرجة يَصْعُبُ معها وصفه: إنَّه ضبابي فيما يَخُصُّ الزمن وليس بالضرورة العُمر. قد يعتقد أحدهم أنه بلغ الستين أو السبعين من العمر، وقد يرى آخرُ أنَّه ناج بالصدفة من تلك الأيام الضبابية لداود وسُليمان. يَذرَع القِسُّ المسرح قُدُماً ورَواحاً من غير ما توقُّف، فيما إحدى يديه تدلِّك ذقنه.
تمارس نينا طفولتها مقاطعةً ذلك الصمت المُمِلّ: تبرزُ فجأة من خلف أحد أعمدة الإسمنت، وهي تقضم لوح شوكولا أو ساندويشاً، وتندَفِعُ مباشرة باتجاه القِسّ الذي يفيق من أحلام يقظته بحذر مُفاجئ. كُلُّ العيون تُحَمْلِق بِترقُّب ).
نينا: عمُّو لِمِتريوسْ !
القِسّ لِمترِيوسْ ( ما برح مأخوذاً بالمفاجأة ): مَنْ؟ ماذا؟
نينا: هذه أنا، نينا.
القِسّ لِمترِيوسْ ( وقد تَعرَّفَ عليها ): طبعاً، طبعاً، أنتِ نينا. كيف أحوالُكِ يا نينا؟
نينا ( بقلق ): هل ستقوم السفينة الكبيرة بالقصف مرة ثانية؟ أنا خائفةٌ خائفة.
القِسّ لِمترِيوسْ: هَوِّني عليك يا صغيرتي. الأميركان يعرفون تماماً ماذا يفعلون. هُم لن يؤذوك أو يؤذوني. فنحن لسنا أعداءَهُم.
نينا ( مرتبكة ) لكنهم ما زالوا يقصفون علينا، ألا يفعلون؟
حليم ( متوجهاً، بِلومٍ، إلى القِسّ ): كفاكَ إرباكاً للطفلة. ( مُخاطِبَاً نينا ) طبعاً، إن الأميركان، إذا ما أُتيحت لهم أدنى فرصة، فسوف يؤذونَكِ ويؤذونني ويؤذونَ أمثالنا. ولا تنسي، أبداً، أنَّهم أعداؤنا.
نينا ( محاولة فهم ما يمكنها من هذا الإرباك ): إذا ما استمروا في إطلاق النَّار، يصبحون أعداءنا. صحيح؟
ناندا (تظهر بالقرب من العمود ): تَعي هونْ نينا. إنتِ صغير لِسَّا. إنتِ نو رِجَّالْ. رِجَّالْ يِحكي رِجَّال، إنتِ سَكِّرْ تِمّكْ.
نينا: أنا أعرفهم. وأستطيع التكلُّمَ معهم. وأنتِ تستطيعين البقاء حيث أنت إذا رَغِبْتِ.
ناندا: إذا إنتِ نو تَعي، أنا قولْ بابا. فْهِمْتِ؟
طَارِق ( رافعاً نظره عن ورقته ): لا تُصغي لأحد يا نينا. فالأميركان كانوا دائماً أعداءنا. وسوف يبقون كذلك. ناندا لن تفهم حاجتك لمعرفة الحقيقة عن الأصدقاء والأعداء. تابعي طرح الأسئلة. إسألي مرّةً، مرَّتين، وأكثر، إذا ما رَغِبْتِ، إلى أن تتعلمي الأمر الذي تريدين تعلُّمَه.
القسّ لِمِتريوسْ ( بجديَّة ): كُفَّ عن هذا، حُبّاً بالمسيح. البنت ما زالت طفلة والكُرْهُ مرضٌ يُعدي، فلا تُغَذِّها بالكُره، فكل ما تحتاج لتتعَلَّمَهُ عن الحياة في عمرها هذا هو أنْ ليس لها عدوٌ واحد في الدنيا كلها.
طارِق: حقاً يا محترم. هذا حقاً صحيح، مع أن كل مَبَرَّاتِكَ المسيحيَّة لم تُحسِّن من وضع العالَم ولا قيد أُنْمُلَة.
القِسّ لِمِتريوسْ: لولا مَبَرَّاتُنا المسيحية لكان العالم لا يزال غابة.
طَارِق: غابة بالفعل. خذ أوروبا وأميركا، على سبيل المثال. أليستا قارتين رائعتين مليئتين بمسيحيين بَرَرَةٍ أمثالك؟ ثمَّ أليس هؤلاء المسيحيون البررة مَنْ يبيع إسرائيل أكثر الأسلحة تطوراً لمساعدتها على تدمير أمَّتِنا؟ ما الذي تقوله، يا مُحترَم، تجاه هذا الأمر؟
القِسّ لِمِتريوسْ: إنهم لا يبيعون الأسلحة باسم المسيحيَّة. وأحذِّرُكَ، فهذا تجديف.
طارِق: بِاسْمِ مَنْ، إذاً؟
القِسّ لِمِترِيوسْ: إنَّها التجارة !
طارِق: التجارة ! هذا تفسير خيري بالتحديد.
القِسّ لِمِترِيوسْ: طالما هنالك مُشترٍ، فهنالك بائع. ألا يشتري العربُ أسلحتهم من الغرب... أقصد تماماً مثل إسرائيل؟
طارِق: ما لم تَنْسُلْ من جلدك المسيحي هذا ولو لبرهة، فلَن ترى الفرق بين الأسلحة التي يبيعوننا وتلك التي يُوَفِّرونها لأعدائنا في المنطقة.
القِسّ لِمِترِيوسْ: ولكن، لِمَ أنتَ حانقٌ علي؟ فأنا لست أوروبا، ولستُ الولايات المتَّحِدَة الأميركيَّة حتى. لا شأن لي في هذه الحرب.
طارِق: لكل امرئٍ شأنه في هذه الحرب؛ كل واحدٍ منا، فَقِهَ هذا الأمر أم لم يفقهه. ولهذا، يجب ألاَّ تُلَوَّثَ هذه الفتاة الصغيرة بأكاذيبنا.
القِسّ لِمِترِيوسْ ( بانفعال ): أَحْتجُّ إذ وسمتَني بالكاذب.
طارِق:لم أُسَمِّكَ كاذِباً. ولكننا نجعلُ من أنفُسِنا كَذَبَةً عندما نَدَّعي ألاَّ شأن لنا في هذه الحرب.
حَليم ( مُهَدِّئاً من الوضع ): الحربُ سيِّئةٌ بما يكفي، وهذا الجدلُ لن يَصل بها إلى نهاية.
طارِق: سوف يُقَرِّبُها من الحقيقة على الأقل، وهذا يكفيني.
القِسّ لِمِترِيوسْ: أي حقيقة؟ أخبرني، أي حقيقة؟
حَليم: الحقيقةُ السَّاطعةُ أيُّها السَّادة هي أنَّ في الملجأ أطفالاً ونساءً، وهم يحتاجون إلى قليلٍ من السلام والرَّاحة.
طارِق: أنا من سيجيب على سؤاله، فالصَّمتُ ليس اللغة التي أُجيدْ.
حَليم: حُبَّاً بِالله، يا طارِق، لو تترك هذا الموضوع الليلة.
طارِق: حتى ولو تركته، فالحقيقة لن تتركه أبداً! ( مخاطباً القِسّ ) تدَّعي أن لا شأنَ لكَ في هذه الحرب؟ حسناً، سأزعم أني أُصَدِّقُك، ولكن هل يُمْكِنك أن تَشرَح لجيرانِك... لهذه الرَّعِيَّة... لِمَ يهتز قلبُكَ فرحاً في كل مرَّةٍ يصل فيها الجنود الأوروبيون والأميركان إلى لبنان لمساعدة نظام الحكم الذي عندنا ليقف على قدميه من جديد؟
القِسّ لِمِترِيوسْ: لأن هذه القوات تأتي لتمنع بلداً نازفاً من موتٍ مُحَقّق. هذا هو السَّبَب.
طارِق ( مًصَوِّباً بكلامه ولكن من غير ما شفقة ): لأن هذه القوات المُسَلَّحَة قوَّاتٌ مسيحية، وأنت لا تجرؤ على قول هذا !
القِسّ لِمِترِيوسْ ( مُرْتَجِفَا ): إني أجرؤ على قولِ أي شيء في أي وقت أريد.
طارِق: هذا صحيحٌ تماما. بإمكانك حتماً، أيها القِسّ، أن تجرؤ على قول أي شيء تريده في الوقت الذي تختاره لأنه صدف أنَّك تعيش بين مسلمين. هذه بيروت الغربيَّة، المكان الذي تُسَيْطِرُ فيه الروح الإسلامية، وتالياً، حيث تزدهر الديمقراطيَّة! هيا أيها القِسّ، هيا، إفتح قلبك؛ فأنت آمِنٌ معنا؛ وبإمكانك أن تكون أكيداً من هذا الأمان.
القِسّ لِمِترِيوسْ ( بغَضبٍ ساطع ): لقد وُلِدتُ حُرَّاً، حُرَّاً، وإني لا أعيشُ هنا تحت رحمة أيٍ كان!
حَليم ( بأعْلى صوته ): كفاكُما! أقول كَفَاكُما.
(تُلَطِّفُ أوامِرُهُ المزمجِرَة جوَّ المَلْجأ مؤقَّتا. وفيما تتبادل كْريسْتابِل وسالي الهمسات، تَجْلِدُ نظراتهما طارِقاً باشمئزازٍ مليءٍ بالرُّعب. أمَّا طارِق، فيأخذُ نفساً عميقاً، مُتلَفِّتاً مِنْ حَوْلِه بِقلق، ثم يبتسِمُ لنفسِه وقد قَرَّرَ السيطرةَ على أعصابِه. يَلْتفِتُ مُبتسِماً نحو نينا ).
طارِق: نينا، عزيزتي، تعالي إلى هنا. سوف أقرأ عليك آخر قصيدة لي. أنتِ تُحبين الشعر... الأغاني... أليس كذلك؟
نينا ( وَجِلَةً ومُترَدِّدَة ): أنا ... أظنُّ ذلك.
طارِق ( بلطف ): تعالي إلى هنا. لا تخافي. فأنا والقِس كُنَّا نمرَحُ... نتداعب؛ ولم يكن بيننا أي إهراقٍ للدماء.
( تُبدي نينا الشك والترَدُّد، لكنها لا تلبث أن تتوجَّه إليه في خطىً ثابتة. يرفع الورقة التي كان يُخرْبِشُ عليها ليقرأ مِنْها – لكنه سرعان ما يلتفِتُ إلى القِس بنظرة ذات معنى ).
طارِق (مخاطباً القسّ ): هذه القصيدة عن ذلك الشاب المُسلِم الذي قاد شاحنتَهُ، منذ بضعة شهورٍ، إلى مقر البحرية الأميركية قُربَ المطار... منذ بضعة أشهر... أتَذْكُر؟
القِسّ لِمِترِيوسْ: تقصد ذاك الذي قتل أكثر من 300 شخص؟ طبعاً أذكره. إني أعرفُ القصَّة.
طارِق: تعرف عنها الجزء الذي اخترتَ أن تعرفه منها فقط... أقصد الذي اخترتَه باعتبارك مسيحيَّا. أما القصيدة التي سأقرأها الآن، فسوف تَضَعُكَ وجهاً لِوَجهٍ أمام الجزء الذي رفضتَ الاعتراف بهِ من القصة. إنها استكشافٌ بسيط لحقيقتنا الثقافيَّة. وأنا أكيدٌ من أنها ستُعْجِبُك! (مخاطباً نينا) والآن جاء دَوْرُك يا نينا. كل ما عليكِ القيام به هو التركيز على الموسيقى، الإيقاع، وسوف يُسَاعِدُكِ ذلك على الإحساس بمعنى الكلمات. (ينظُر إلى الورقة ببساطة)، عنوانُ الأغنية هو كلمةٌ واحِدة: "هناك". الجزء الأوَّل. (يُنْشِدُ النصّ):
كانت وُجْهَتُهُ نُقْطَةً
غائِمةً في المدى:
نَصْلاً مَفْتُوناً
فَاتِناً
بِهَوْلِ
النُّورِ المُتناثِرِ
وَقَدْ أرْهَفَتْهُ
إلى
حَدِّ العَمَى
تِلْكَ الشُّمُوسُ السَّاطِعةُ
المُتشَظيِّةُ
بِتصَادُمِها
تِلْقَاءَهْ.
لَقَدْ كانتْ نُقْطَةً لَمْ تكُنْ إلاَّ "هناك".
(يغمز نينا بعينهِ، وَيَسْترِقُ نظرةً إلى القِسّ، ثُمَّ يَسْتَعْرِض الحضور المَغموم. تنطلقُ همساتُ الانزعاجِ من الزاويةِ التي فيها سالي وكريسْتابِل. تُغْرِقُ كريستابِل نفسها في صفحاتِ مجلَّتها العالميَّة تاركةً بريق صورةِ وجهِ الأميرة ديانا يُواجِهُ الحضور. وأخيراً، عندما تُشير كريسْتابِل إلى البعضِ أن ينظروا إلى صفحةٍ مُعيَّنةٍ من صفحاتِ المَجلَّة، فإنَّ مَنْ معها في تلك الزاويةِ ينفجرون بالضحك. يَتَعَمَّد طارِق تَجَاهُلَ كُل ما يحصل، ويُتابِعُ إِنْشادَ الأسْطُرِ التَّالية ):
جدَلَ الهدفَ
صَباحٌ صَافٍ وعَينٌ صَافيةٌ
فَقَادا لَهُ الشَّاحِنةَ،
بَيْنَا أصَابِعُهُ
خَضْراءَ فَوْقَ دُولابِ المِقْوَدِ
تَعْــزفانِ أغْنِيَتهُ السريَّةَ
كَيْمَا تُرَافِقُهُ في قيادَتِهِ
وَكَانَ يَقُودُ ويقُودُ كَمَا لَوْ كانَ ينْدَفِعُ
بِاتّجَاهِ النُّقْطَةِ التي لمْ تَكُنْ إلاَّ "هناك".
( كان بعضُ الجيرانِ قد اقتربوا من طارق مُنْجذبين إليهِ بقوةٍ خفيَّةٍ خارجةٍ عن نطاقِ مَداركهم. يُسْمَعُ، في الوقتِ عينِهِ، صوتُ سالي تُعَلِّقُ بِتَحَدٍّ: "لَنْ يبقى معكَ إلاَّ صَوْتُك!". أمَّا عِدائيَّةُ كريستابِل فَتُعَبِّرُ عن ذاتِها في تعليقاتٍ مِنْ مِثل "كَمْ أُحِبُّ هذا الخمرَ الرَّائع!"، أو "هذهِ الزجاجةُ هيَ جنّتي الوحيدة!". يَستمِرُّ طارِق في السَّيْطَرة على نفسهِ، ويُنشدُ السطور التالية):
المسَافَةُ
سَجَّادَةٌ مُهَرَّبَةٌ
لَفَّتْ نَفْسَها
حَوْلَ دواليبَ طائِرَةٍ
تدُورُ
لِتنشُرَ
مَشاهِدَ طريفةً من الخُضْرَةِ
رُؤى اعْشِوْشَابٍ
كانَتْ مِلءَ العَينِ الصَّافيَةِ لِقرونٍ وقُرونْ:
( تسحبُ كريستابِل فلِّينة زجاجة الخمر، راميةً طارِق بنظراتٍ مُتحَدِّيَة. أمَّا سالي، فكانت قد أخرجت بعض الأقداح البلاستيكية من حقيبة أحدهم. وفيما تملأُ كريستابِل الأقداح، تهمسُ المرأتان لبعضهما بنخب وتَشْرَبانِه. يتمّ هذا الأمر في لامبالاة متعمَّدة منهما تجاه حضور طارِق وتجاه مضمون قصيدته. يتمكَّن طارِق من تجاهل نواياهما العدائية فيغمُز نينا ويُخاطِبُها بعذوبَة).
طارق( مخاطباً نينا): أرى أنَّكِ مُغرَمَةٌ بالكلمات يا عزيزتي. ولا ألومك البتَّة. فكلُّ الأولاد في سنِّك يُحِبّونها. ( مخاطباً القِسّ ) كيف وجدتَ القصيدة حتى الآن؟
القِسّ ليمتريوسْ ( بتهذيب ): لا أعترضُ عليها أبدا. فضلاً عن أنَّك ألقيتَها بأناقة.
طارق: هل لاحظتَ اللون الأخضر المتكرِّر في هذا الجزء؟
القِسّ ليمتريوسْ: ولاحظتُ، كذلك، شموسَكَ السَّاطِعَةَ وأنوارَكَ المُشِعَّةَ، التي كانت، عِوَضَ أن تُنير العالم، تُهَدّدُهُ بالهلاك.
طارِق ( بسخرية ): أنت على سكّة الصواب. السكة الصَّحيحة. ففي الجزء الثاني سيتم تطوير أعمق لدلالة اللون الأخضر. أؤكّدُ لك أنّهُ سيكون الجزء الذي سيُعْجِبُكَ أكثر من سواه.
( يُنْشِد ):
العُـنُـقُ الغَضُّ
يَنْحَني في رِضى مَهولٍ
في رُعْبٍ طَرِبٍ
على الشَّفْرَةِ
التي تَلْتمِعُ وتَنفَجِرُ
ثُمَّ تَهْوي
وَرَقَةَ نَباتٍ حُبْلى
مَنْقوعَةً في ندىً برَّاقٍ
مُرْتَجِفَةً بِالإخضِرَارِ --
الأظافِرُ التي تَسْعى إلى الدَّمِ
تَشُقُّ إلى قَلْبَيْنِ مَفتوحَيْنِ
ذَيْنِكَ الكَفَّيْنِ
اللّتيْنِ أزْهَرَتا على شجَرَةِ زَيْتونٍ
كَغُصْنيْنِ مُقَدَّسَيْنِ منَ الأبَديَّةِ –
جَوادانِ توأمانِ مكظومانِ
مُدَرَّبانِ بأيدٍ مَكْظومَةٍ
يَنْدَفِعانِ عَبْرَ لَهيبِ الرِّجالِ ذوي السُّيوفِ
صَوْتان تَوْأمانِ يَجأرانِ
بِاسْمِهِ
صَدْعَاً بِوَحْيِ إرَادَتِهِ
سَيْفان تَوْأمانِ
جُرِّدا
يُجَرِّدان حَياةً من حَياةٍ
يوغِرانِ بالعَدَالةِ قُلوبَ الرِّجالِ
الذين دواؤهُمُ الدُّنْيَويُّ
في عِزّهِمِ الدُّنْيَوِيِّ
ثُمَّ يَهْوِيَانِ اثْنيْنِ على الرِّمَالِ المَجْلودةِ
حَيْثُ شجَرَتا نَخْلٍ
تَسْتحيلانِ
زُمُرُّدا.
( يُريحُ الورقَةَ على رُكبَتِهِ اليُمنى، فيما يأخذُ نفساًعميقاً ). أخبريني، يا نينا، هل أعجبتكِ الأغنية؟ الموسيقى أعني؟
نينأ: نعم، نعم، وعندما أكبر، سأكتبُ أغاني مثلك.
طارِق ( بدعابة ): تَقْصِدين أفْضل من أغانيَّ! بالطَّبع سوف تكتبين. إنها فقط مسألةُ وقت. ( مُخاطِباً القِسّ) أُسَمِّي هذا الجزء، أيها القِسّ، غَطْسَةً في تُراِثنا الثَّقافي.
القِسّ لِميتريوسْ: غَطْسَةٌ هي بالتَّأكيد! ولكن في أي شيء لا أدري. ( يُقَهقِهُ كُلٌّ من سالي وكريستابل) إنَّ صياغة صُوَرِكَ الشِّعريَّة بهذا الأُسلوب سيؤدي إلى رؤيا مُرَكَّبَةٍ لِمَا تَعْتقِد أنَّه تُراثُنا الثَّقافي. لماذا لا تعتمد أسلوباً أكثر بساطة في الكتابة؟
(يَبتلِعُ المسرحَ صَمْتٌ مُهيب، فيما الصَّوتُ الغامِضُ لِقَذيفَةٍ تَعْبُرُ فوق المبنى يأسِرُ انتباه القطيع المشغول البال. حالةُ توقُّعٍ مُخيفٍ تُساوي بينهم في المسْكَنَة: صِغاراً وكباراً، ذكوراً وإِناثاً، أصدقاء وأعداء – كُلُّهم أهدافٌ مُحْتَمَلةٌ للتهديد النَّازلِ عليهم من المجهول. يَتلاشى الصَّوتُ الغامضُ عبر المسافة).
حليم:اللعنة إذن، فلا بُدَّ أن نيوجرسي قد عاودت قصفها للجبالِ من جديد.
سالي: دعها تضرب أينما أرادت أن تضرب طالما أنها تتركنا مدفونين هنا بسلام.
حليم: ليس هذا بالأمر المنطقي ليُقال.
طارِق: لم يعد لأي شيء علاقة بالمنطق في هذا البلد. ولم تَعُد الكلمات لِتُعَبِّرَ عن حقيقة دلالاتِها، أصبحتْ مجرَّد خيانة غير مقصودة للحقيقة.
سالي( بعدائيَّة): حقيقةُ مَنْ تَعني؟
طارق: حقيقةُ المُتكلِّم.
سالي: ليست بالضرورة حقيقتي؟
طارق: حقيقتكِ أو حقيقتي، فهذا لا يُقيمُ بيننا أي فرق.
سالي: بلْ يُقيمُ فرقاً حقيقيّاً إذا ما كُنتَ تَقصِد إهانتي.
طارق: ولِمَ أُزِجُّ نفسي بإهانتكِ طالما أنكِ تقومين بهذا الأمرِ من تِلقاءِ نفسك؟
سالي: الأفضل لك أن تُحَسِّنْ ألفاظَك. إني قادرةٌ على رَدّ الشتيمةِ في أيّ وقت.
حليم: لِيَعُدْ كُلٌّ منكما إلى رُشْدِه، ودَعونا نُمضي الوقت...
طارق: الوقتُ سيمضي بنفسهِ بِغَضّ النَّظَرِ عن إرادَتِنا في تَمْضِيَتِه.
حليم: إِعفِنا من مِزَاجِكَ الفلسَفيّ الليلة. وَعُدْ إلى شِعْرِك. غَنِّ بِهِ، أَسِلْ لُعابَكَ بهِ، أُصْرُخْ بِهِ؛ هذا هو الأكثر مَنْطِقيَّةً والأكثر تَسلِيَةً مِنْ...
طارق: ليست التسلية بالكلمة الصحيحة. ولكن، على أي حال، فأنتَ على حق. ( مُخاطِبَاً نينا) أما زِلتِ هنا يا عزيزتي؟ حَسَناً، حَسنا. سوف أقرأ القِسم الأخير من أغنيتي من أجلكِ أنتِ. (يرفع الورقة، ثم يُنشِد).
وَمْضَةٌ واحِدَةٌ
وانْصَهَرَتْ قوافلُ الأجدَادِ
جَارِفَةً مَعها كُلّ الزمَنِ والمسافةِ
إلى النُّقطَةِ
حَيْثُ لمْ يَكُنْ لِلزمنِ والمسافةِ إلاّ
أنْ يَكُونا "هُناكْ"
طَرْفَةُ عينٍ
وتصادَمَتِ الشُّمُوسُ المُشِعَّةُ
وانْتثَرَتْ بِضَوئها السَّاطِعِ
شظَايا حَمْرَاءَ خَضْرَاءَ
وَ
مَرَّةً ثانيَةً
خَطَّانِ مُتعَادِيانِ
الأُفُقيُّ والعَمُودِيُّ
يَتَقَاطَعانِ في جُرأةٍ مَحْتُومَةٍ
ليُشَكِّلا مَعَاً النُّقْطَةَ التي لَمْ تَكُنْ أبَداً إلاَّ "هُناك".
(يبتسمُ بحزنٍ ابتسامةً لا تنمّ عن رضاه عَنْ نَفْسِه. تلي هذا لحظةٌ قصيرة من الصَّمت. وفيما يُحدِّق الجيرانُ فيه، مُنتظرين بِلَهْفَةٍ ما سَيقُوله أو سيقوم به بعد، فإنه يعيد الورقة إلى مكانها السَّابق في الكتاب. يعبقُ الجو بتوتُّر. ولكن عندما ينهض طارِق عن كرسيه، ويتوجَّه إلى السُّلَّمِ ليختفي في الظلام، فإن إحساساً عظيماً بالرَّاحةِ يَشعُّ من وجوه أولئك الذين كان حضورُه بالنسبة إليهم نوعاً من المحنة.)
سالي: تَحَرَّرْنا أخيراً!
كريستابِل: بإمكاننا الآن أن نَسْتمتع بشرابنا بسلام.
حليم ( مُتَجاهِلاً مُلاحَظتَها): لم تكن القصيدة شديدة السوء، أم إنها كانت كذلك يا مُحْترَم؟
سالي: أنت تَعْرِف أنها لم تكن القصيدة، بل الرَّجُل...
(تقرع قدحها بِكأسِ كريستابِل فيما تنفجران بالضَّحِك. يلزم القِسّ صمته في تفكير عميق).
كريستابِل: مسيو حَليم، هل ترغب في قَطْرَةٍ من النبيذ؟
حليم ( بدماثة ): قَطْرَةٌ صغيرة لن تؤذي.
سالي: إذا ما عرفتَ كيفَ تَتذوّقُها!
( ترفع سالي قدحها وتملؤه لها كريستابِل. تقدم كأسها إلى حَليم فيما تنظر إليه بإغواء. يأخذُ حليم الكأس بغير ما انشراح. ورغم أن زوجته لا تبدو سعيدة وهي تُراقبه يحوم حول نساء أخريات، فإنها تنجح، بكرامة متألمة، في المحافظة على هدوئها وثبات جأشها فتظَلّ بعيدة عن جَمْعِ الشَّاربين.)
سالي ( رانيةً إلى حَليم، بسخرية ): دعونا نشرب نخب الحيَارى ونَخبَ التُّعَساء!
كريستابِل: يبدو الأمرُ هذا خُنفُشَارِيَّاً يا سالي، لكنه يُعجِبُني.
( يشربون)
حليم: لونترك الآخرين بَعيداً عن أحاديثنا...
سالي: ولِمَ علينا أن لا نتحدَّث عنهم؟ ( متوجِّهَةً إلى القِسّ ) أوَ تَرغَبُ في كأسٍ؟
كريستابِل: طبعاً، فإنه أكثر مَن يَحتاجُ إليه. أخبرني، يا محترم، هل عليك أن تتحمَّلَ تَهَوُّرَ ذلك الرَّجل كلما كان هنا؟
القِسّ ليمتريوسْ: ( يتناول الكأس من سالي ): حسناً يا عزيزتي، طالما نحن ملزمون بالعيش مع الآخرين، فخيارنا الوحيد أن نتحمَّل ( يسترق نظرة قلقة إلى حَليم ) نقاطَ ضعفهم.
حليم: أحسنت أيها القِسّ. فإني أشعر بالأمر عينه تجاه أشخاص آخرين... إذا ما فَهِمتَ قصدي.
كريستابِل: لا يعاني ذلك الرجل من نقطة ضعف. الكلمة المناسبة هي ...
حليم ( مقاطعاً ): المِزاج.
كريستابِل: والكلمة الأخرى للمزاج هي التَّعَصُّب.
سالي: معظمُ الرِّجال في بيروت الغربية متعصبون. وما هو المُتعَصِّب؟ المُتعَصِّبُ هُوَ مُجْرِمٌ بالاحتِمال.
حليم: مَهْلَكِ الآن. لحظةً، لحظة.
طريف ( مُنْضّمَّاً إليهم ): أرجو ألاَّ يكون قد فاتني الكثير.
كريستابِل: ما يَفوتُ واحِداً قَدْ لا يَفوتُ آخر.
طريف:ومعنى هذا؟
كريستابِل: كثير من الأمر يعتمد على الذَّوق.
سالي: كلامُكِ، يا كريسي، خُنفُشاري، ولكنه يُعجِبُني !
(تتبادل المرأتان نظرات تعرفان مضمونها. تَتناولُ كريستابل سيجارة من علبة سجائرها وتُمْسِكُ بها بشفتيها. يُشعِلُ طريف لها السيجارة. تسحبُ منها نَفساً عميقاً ثم تَبْعَثُ بحلقات متتالية من الدخان ).
كريستابِل( مخاطبة طريف ):Merci! Vous êtes très gentil.
طريف: إنَّه لَمِن دواعي سروري. دائماً.
القِسّ ليمتريوسْ: كريستابِل، أيتها العزيزة، هلاَّ توقفتِ عن التَّدخين. فأنتِ، لِلحَقّ، تُدَخّنين بِشراهة.
كريستابل ( بغنج ): أبِحَقٍّ، أيها المحترم، أنت قَلِقٌ على رئتيّ؟
القسّ ليمتريوسْ: حتماً. رئتاك حيويتان بالنسبةِ لصحتك، أوَ لَيسَتا كذلك؟
كريستابِل ( في تَفَكُّهٍ ثَمِل ): وكذلك هما قُبَّتاي السماويتان! ولكن أرجو أن لا تأبه لأيٍّ منهما. فالسَّرَطانُ لن يعرف أبداً طريقه إلى جسدي. فضلاً عن أنّ Votre domaine est l’ame. Le corp est le mien.
( يَنفَجِرُ الرجالُ والنساءُ بالضَّحك، فيما يتجمَّد القِسّ مُحرَجاً ).
كريستابِل ( بحركة مسرحية ): عزيزتي سالي، لم تُخبِريني أين خبَّأتِ زَوجكِ المأسورَ بربطة عنقهِ أبدا. فأنا لم أره في أي مكان.
سالي: لعلَّه غارقٌ في تأمُّلِ أمرٍ أو تأمُّلِ سِواه هناك خلف واحدٍ من تلكَ الأعمدة.
كريستابِل: أُحبُّ لو يُشاركنا في قطرَةٍ من النبيذِ، رغم أنه قَلما يَشْرَب.
سالي: أنا متأكّدةٌ من أنه سيُسِرُّهُ مشاركَتكِ الشراب.
كريستابِل ( مُصَفِّقة ): بإمكاني أن أفهم لِمَ لا تُريدينه حولنا.
سالي: حقاً؟ حسناً، إذن. ألستُ أستحق استراحة منه؟
( تُفَرقِع كريستابل ضحكة مجلجلة، وتترنَّحُ بعيداً حاملة شرابها. يتبعها حليم لبعض الخطوات، يهمسُ شيئاً في أذنها، ويتراجع مُستشعِراً بِغَلاظتِهِ. تختفي كريستابِل خلف واحدٍ من الأعمدة. يبدأ حليم بذرع المسرح جيئةً وذهاباً في اضطرابٍ لا ينتهي )
سالي ( مُخَاطِبَةً القِسّ ): لِمَ عليك أن تُمضي الليلة واقِفاً هنا، أيُّها المُحترم؟ خُذْ حُرّيتكَ واستعملْ أيَّاً من الأسِرَّةِ التي هنا. خُذ غفوة. فسوف تُريحُكَ كثيراً فيما بعد.
القسِّ ليمتريوسْ: هذا لطف منكِ. لكني مُعتادٌ على قراءة صفحة أو اثنتين قبل أن أخلُدَ إلى النَّوم. ولسوء الحظ، فلقد تركتُ الإنجيل في غرفتي.
سالي: أيُّ كتابٍ آخر يَنفَع في ليلة كهذه. أنظرْ ما لدينا هناك ! مجلة كريستابِل ! ( تلتقطُ المجلة من على الطاولة وتُناولها للقِسّ ) التحقيق عن الليدي ديانا مثير جداً. وأنا متأكّدةٌ أنَّكَ سَتحِبُّه. بعضُ الزوَغان البريء عن الإنجيل، من وقت إلى آخر، لن يُغضِب الربّ.
القِسّ ليمتريوسْ ( مبتسماً لوجه الأميرة ديانا على الغلاف ): إبتسامتُها عذبة، أليست كذلك؟
سالي: تمتَّعْ بها، أيها المحترم، تمتَّعْ بها. إنها تَجَلٍّ بريطاني لرحمة الربّ.
القِسّ ليمتريوسْ ( منتبهاً فجأة ): ولَكن لا يمكنني النَّوم الآن. آه، ليس الآن – فلم أسمع الأخبار بعد.
طريف: لا شيء هامّ في الأخبار الليلة، أيها المحترم. لَمْ يُذْكَرْ سوى أنَّ نيوجرسي قصفت مناطق غير مأهولة في الجبال.
القِسّ ليمتريوسْ: غير مأهولة !
طريف: نعم، غير مأهولة.
القِسّ ليمتريوسْ: إذن لا خسائر؟
طريف: لا خسائر.
القِسّ ليمتريوسْ ( مُهَمْهِماً ): هكذا الأمرُ إذن؟ لا خسائر !
( مُمْسِكاً المجلة بإحدى يديه، ومُمَسِّداً رقبته باليد الأُخرى، يَنْسَلُّ ببطء ويختفي في زاوية معتمة ).
اللقطة السَّابعة
( يُومِضُ التيَّار الكهربائي لثانيتين ثم يختفي. يَضُجُّ المسرح بصرخات اعتراض، بلعنات وشتائم مُقْذِعَة، وبهَمهمات غاضبة ).
حليم: إبقوا حيث أنتم. سأُشْعِلُ شمعة في الحال.
سالي: وأنا سآتيكَ بعيدان الثقاب !
(يصل الهرج والمرج إلى أوجه، وتتّحد كل الأصوات فيما بينها في صرخة متهلّلة في اللحظة التي تشعل فيها سالي عود ثقاب وتحمله إلى حَليم وإلى الرجال والنسوة الآخرين كيما يُضيؤوا شموعهم. تتفرَّق ألسنة الضوء باتجاهات متعددة، فيما يضع حليم شمعته عند رأس الدَّرج ويُغلِق باب الملجأ. تتوهَّج أنوار الشموع في جميع زوايا المسرح، ويظهر، في بعض الأحيان، انعكاس الأنوار المتراقصة من خلف أعمدة الإسمنت).
كريستابِل( متوجِّهَةً إلى منتصف المسرح ): وقال الرَّبُّ لِيَكُنْ نُورٌ. لِيَكُنْ هُنالِك نورٌ. وكانَ نور.
سالي: لا أريد أن يُختلَط الأمرُ عليكُم بيني وبينه !
كريستابِل: ما هذا الذي تُبَربرينه؟
سالي: قلتُ لا أريد أن يختلط الأمر عليكُم بيني وبينه ! إنَّه أنا، وليسَ هُو، أنا مَنْ أعطاكُم الضَّوءَ، على الأقل لِهذهِ اللَّيلَة.
كريستابِل: وكنتُ أظن نفسي الثَّمِلة الوحيدة هنا.
طريف: ليس أمتع من محادثة صغيرة لطيفة...
حليم: إنتظرْ حتى تَفْعَلِ الخمرةُ فِعْلَها في رأسيهما.
كريستابَل: وماذا عندها؟
حليم: تعرفينَ ماذا.
كريستابِل: لا أعرف أنا. أخبرني أنتَ.
سالي: نعم، أخبرْنا.
حليم : هَلاَّ هدأتما الآن.
كريستابل: أخبرْنا أوَّلاً.
حليم: ليس لدي ما أُضيفه، فلنترك الأمر على هذه الحال.
كريستابِل: أَأَكَلَتِ القطَّةُ لِسانك، أم ماذا؟
سالي: لا تقسي عليه، يا كريسي. إنه صغيرنا العزييييييـ.... ز.
كريستابِل:أقول لكَ ماذا تفعل. إذهب إلى هناك ( مُشيرةً إلى حيث جهاز الهاتف ) واطلبْ رقمي. سأكون بانتظارِكَ لِسَماعِ القصّة.
( تضرب الأرض بِمَرَحٍ ثَمِلٍ وتنفجرُ في ضحِكٍ مجنون ).
حليم ( محتدماً غيظاً ): إذا ما كنتِ ستحاولين هذا، فالأفضل لكِ أن تتوقفي عنه فوراً.
( تُتابِعُ الضَّحِك ).
نَاندا ( مُطارِدَةً نينا ): إنتِ تَعي نينا. تَعي هونْ.
نينا ( بعيداً عن متناولها، مُعَاكِسَةً لها ) أنا عدَّاءة سريعة يا نَاندا. عدَّاءةُ طُرُقات مثل " رودْ رَانَر" ! ولن يمكنكِ الإمساكُ بي ... فأنتِ gi-la-la, gi-la-la.
ناندا: نو أُلْقُطْ إِنتِ؟ فَفَّاشْ صغير إِنتِ. تَعي هونْ. يلّلاَّ.
نينا: تعنين "خَفَّاش". رَدّدي ورائي خَفَّاش. خَفَّاش. خَفَّاش...
سالي ( وقد تيقظت فجأة ): نينا، تعالي إلى هنا.
نينا: ولكنها تُريد الإمساكَ بي.
سالي: توقفي عن الركض حولنا مثل فأر صغير, فلو وقعتِ أرضاً، ستكسرين عظامك.
ناندا: أنا نو إِلْعَبْ، مدام. هِيِّي لازِمْ كولْ. لازِمْ نامْ.
نينا: آه ! مستحيل !
سالي: تعالي إلى هنا يا نينا. الآن !
نينا: لستُ جائعةً، ولا أريد أن أنام.
حليم: كوني فتاة طيبة يا نينا.
نينا ( شبه دامعة العينين ): أنتِ منزعجة منِّي، تانت سالي؟ ولكن لماذا ؟
سالي: لِ... أنَّكِ... قد سرقتِ مِنْ رأسي كُلَّ التَّأثير اللذيذ للنبيذ... هذا هو السَّبب.
حليم: لا أظنها ستدرِكُ قصدك. فلم يسبق لها أن كانت ثَمِلَة.
كريستابِل: إِعْطِها فرصة، وسوف تَثْمَل. المسألة مسألةُ وقتٍ ليس إلاَّ.
حليم: أنتِ تحلمين... على أي حال فأنتِ لا تتمنيّْ لها الضَّرر.
كريستابِل: أتمنَّى لها الضَّرر؟! هل فقدتَ صوابك؟ أن تثملَ هو أفضل ما يمكن لامرأةٍ أن تتمناه لأخرى.
حليم ( بمرح ): أفضل ما تتمناه امرأةٌ سكرى!
كريستابِل: لا يُمكن لإمريءٍ مثلكَ أن يفهم أن المرأة لا تكون امرأة حقاً إلا إذا دغدغها بعضُ الشَّراب.
سالي: ألِهذا ما عدتُ أُحِسُّ أني امرأة أبداً؟ لقد تبخَّر النبيذ من دماغي. تبخَّر. تبخَّر.
طريف: لا شيء أكثر إمتاعاً من محادثة لطيفة بين ...
كريستابِل: تَوَقَّفْ، من أجل خاطِر كريسْ، وأشْعِلْ لي سيجارتي.
طريف:Avec plaisir!
كريستابِل ( باهتياج ): ماذا؟
طريف: أمَا تُلفَظُ هكذا بالفرنسيَّة؟
كريستابِل: آه يا ربي! هذا ما يحصل عندما تُحاول خنزيرةٌ حبلى أن تَطير! على أي حال، لستَ أنت المَلوم. لُمِ البيئة ! ولكن قبل أن تفعل هذا، أشْعِلْ لي سيجارتي.
طريف: لَمِنْ دواعي سروري أن أفعل، ولكن لا أرى أي سيجارة بين شفتيكِ.
كريستابِل: أعطني واحدةً إذا ... Avec plaizir !
طريف: لكنَّكِ لا تُدخنين الصنف الذي أُدَخِّن.
كريستابل: عندما تحتاج امرأةٌ إلى سيجارة فإن أيـّــاً من الأصناف سَيَفي بالغرض.
طريف ( يُعطيها سيجارةً، ويشعلها لها ): هذه ليلتي وحلمُ حياتي!
كريستابِل: لا تفرحْ بحظِّك، أيَّها الغَبي. ليس عليك إلاَّ أن تبقى في الجوار مع قدَّاحتِك حتى إذا ما ... ( تقريباً مُخاطِبَةً نفسها ) كم هم مُمِلُّون هؤلاء الرجال في بيروت الغربيَّة ... كم ...
ناندا ( بشيء من قلة الصبر ): مدام سالي، قولي نينا تِجي معي، نو أَكِلْ هِيّي. حَرام.
سالي: أوه، أوه، أوه! دماغي يؤلمني بشدة. وأتساءل، بحرقة، أينَ تَبَخَّرَ مفعولُ النبيذ؟ أين؟ أين؟
ناندا:please مدام سالي.
سالي ( بِتَحَرُّق ): كُفِّي عن رجائي، أيتها الغبيَّة!
حليم: رفقاً بالمرأة المسكينة يا سالي. تماسكي. هي لم تطلب سوى المساعدة.
سالي: أعرف ما تطلبه! أعرف! أعرف! ( متوجهة إلى نينا ) تعالي إلى هنا، أيتها الصغيرة، ولا تَجْرؤي على معاندتي.
نينا ( تُذْعِنُ نصف متفاجئة، نصف خاضعة ): أنا لم أرتَكِب أي خطأ، تانت سالي. كنتُ فقط...
سالي: كنتِ فقط تُزعجينها. لماذا لا تأكلين شيئاً قبل أن تأوي إلى النَّوم، إيه؟
نينا: لستُ جائعة...
سالي: جائعة أو غير جائعة، فلن تذهبي إلى الفراش بمعدة فارغة.
ناندا: شِفْتي، نينا؟ إنتِ كولْ قبلْ نومْ. يَلّلاَّ، يَلّلاَّ.
نينا: ولكني لا أشعر بالجوع. فكيف تطلبون مني أن آكُل؟
سالي: أعرف ما الذي يدور في ذهنك الصغير يا نينا. أنتِ تحاولين الإيقاع بها حتى تستغرق في النَّوم فيتسنَّى لكِ أن تكوني حرة وتبقي مستيقظةً تلعبين. ولكن هذا لا يمكن أن يكون. (تُمسك الفتاة من يدها) سوف أتدبَّرُ بنفسي أمر أكلكِ ونومكِ طالما والدكِ ليس هنا. (تجُرُّها بعيداً حتى يختفي ثلاثتهنَّ خلف أحد الأعمدة. وما يزال صوتُ سالي مسموعاً) ليستْ حِيَلُكِ بالغريبةِ عَنِّي. ولذا، هُنا تجلسين. وهذا تأكلين. ( ينقطع الصَّوت).
كريستابِل ( مخاطبة حليم ): أرأيت؟
حليم: تقصدين نينا وسالي؟
كريستابِل: لا. أقصد سالي ونينا! لقد أصبحتْ شديدةَ اللصوق بها. تتصرَّف وكأنها...
حليم: حسناً، تابعي...
كريستابِل: أُتابِعُ ماذا؟
حليم: لا شيء. لا شيء. أعني أني أعرف كل هذا، فما الجديد؟
كريستابِل: سوف أخبركَ ما الجديد.
حليم: إيه؟
كريستابِل: أتعلَم أنكَ بَدَوْتَ غَبِيَّاً جدَّاً ومحدوداً جداً عندما ظننتَ أني كنتُ أتمنَّى لِتِلكَ الصغيرة الشَّر؟ هل ظننتَ بي ما ظَننتَ لأنها مسلمة ولأنني مسيحية؟ هل كان الأمر كذلك؟ هل كان...
حليم: أنتِ مُرْهَفَةُ الإحساس هذه الليلة.
كريستابِل: الليلة! أنا مُرْهَفَةُ الإحسَاسِ دائما. ولكنكَ أبداً لم تَكُن حسَّاساً... لا الليلة ولا في أي وقت آخر... لتفهم كيف المرأة الحسَّاسة... المرأة الحقيقية تَشْعُر.
حليم: رغم كل شيء... ما زلتِ امرأة فاتنة. إني سعيدٌ لكونكِ نَزلتِ أخيراً إلى الملجأ.
كريستابِل: كُفَّ عن هذا الهراء! وبالمناسبة، أوَ تَظُنُّ أنَّ النِّساء المسيحيات وحدهن اللواتي يشربن، أليس كذلك؟
حليم: أوه. أوه. إنتظري لحظة...
كريستابِل ( متململة ): دعني الآن أقول لك، أيها الأبله العجوز المُتعصِّب، إنَّ مِنَ النساء المسلمات مَنْ يشربن عادةً أكثر مِمَّا يفعل الرجال... واعلمْ كذلك أنهن قد يَشْرَبْنكَ دفعةً واحدةً وأنت حيّ... دفعة واحدة... جرعة واحدِة، صَدِّقْني.
حليم: أعلم ذلك. أوَ تظنينني أعمى؟
كريستابِل: وهُنَّ غالباً ما يشربنَ في عزلتهن المُخزية. أوَ تعلم لماذا؟ لأنها الطريقة الوحيدة التي يَمْلِكْنها للتعاملِ مع عقليتكم الشفَّافةِ الهشَّة.
حليم: أوه, أوه. الآن. الآن.
كريستابِل: أوه. أوه. نعم. نعم.
( تنطفئ الشمعات في زوايا المسرح واحدة تلو أخرى. يختفي طريف وقسم من الآخرين عن النَّظر ).
حليم: الأمهات يهيِّئْنَ أولادَهنَّ للنوم.
كريستابِل: وعلى الزوجات أن يفعلن فِعلَهنَّ...
(ينخفض صوتاهما، في هذه الأثناء، شيئاً فشيئاً حتى درجة التَّلاشي. تأخذ محادثتهما أو نقاشهما الآن شكلاً إيمائيَّاً. وعندما تنظفئ آخر شمعة في الزاوية القصوى، تترنَّح كريستابِل بعيداً وتذوب في العتمة. يتفقد حليم المكان بحزن. ترنو عيناه، لثانية أو اثنتين، إلى اللهبِ الفضي المنبعث من الشمعة الموضوعة عند أعلى الدَّرج، قبل أن يقرِّرَ أن يختفي، مثل الآخرين، في عتمة الليل ).
اللقطة الثَّامنة
(صمْت.
مثل ظِلٍّ، تَتسَلَّلُ فجأة ملامِحُ نينا إلى الدَّاخل، مُتوجِّهةً إلى بقعة الضوء التي فَرَشها لَهَبُ الشَّمعةِ القائمة عندَ الدَّرج. تظهرُ نينا، في النهاية، وهي تأكلُ سندويشاً من غير ما رغبة، مُتَلَفِّتةً حولها وكأنها تَتوقَّعُ أن يَبْرُزَ فجأةً، من حيثُ لا تتوقَّع، شخص ما أمامها. تدخلُ خلفها سالي في حالٍ من الانزعاج الكبير، لكنها تظلُّ مُسَيْطِرَةً على نفسها ).
سالي ( تُخاطِبُ نينا بصوتٍ شديد الخُفوت ): حسناً أيتها الشَّاطرة، ما الذي تظنين أنَّك تفعلينه؟ تتركيني وناندا هناك، وتنْسَلِّين مع ساندويشك، إيه؟
نينا: تريدني أن أنام فور انتهائي من أكل...
سالي: وهذا ما ستفعلينه. عليك أن تخلدي للنوم مثل أي شخصٍ آخر.
نينا ( دامعة ): ولكن، تانت سالي، يُمْكِنُ لأبي أن يتصل بنا في أي لحظة.
سالي: وما الذي سنفعله الآن، أنتِ وأنا؟ نجلس وننتظر جرس التلفون حتى يدق؟
نينا: لا، لا، تانت سالي. بإمكانك أن تحكي لي حِكايةً إذا ما رَغِبْتِ. أنا أُحِبُّ الحِكايات التي تَحكينها. هل تذكرين تلك الـ ...
سالي: لنفترض أني وافقت أن أحكي لكِ حكايةً، فهل تعدينَ أن تأتي وتنامي معي في سريري هنا فور انتهائي من حكايتِها؟
نينا ( بحماس ): أَعِد. ( تَجْلِسُ على الدَّرجة السُّفلى )
سالي ( تجلس إلى جانبها ): اتفقنا إذاً، دعيني أفكّرُ قليلاً... هل سبق لي أن حكيتُ لكِ حكاية دانييلْ؟
نينا: دانييلْ؟ ( تضيِّقُ عينيها، محاولة التَّذكُّر بصعوبة ) لا. ليس هذه الحكاية.
سالي: حسناً... لِنرَ من أين يجب أن أبدأ... ( تفرك جبهتها، تهمهم، ثمَّ تفرقع بأصابعها ) عال! والآن اسمعي... في قديم الزمان كان هناك ملك اسمه داريوسْ. كان قوياً جدَّاً، وقادراً جداً، كان مَلِكا.
نينا: أنا متأكِّدة أنّ له لِحْيَةً مثل لِحْيَةِ بابا.
سالي ( مُتَعجِّبَة ): وما الذي يجعلكِ تعتقدين أنَّ له لحية مثل لحية أبيك؟
نينا: لأنه عندما يقود بابا سيَّارته ويقف بها عند أحد الحواجز، فإن رجال الميليشيا ينظرون إلى لحيته، ثم يؤشّرون له أن يتابع قيادة السيَّارة. لا يوجهون إليه أسئلة من نوع "مَنْ أنتَ؟" أو "إلى أين أنت ذاهب؟" كما يفعلون مع أصحاب السيارات الأخرى. لاحظتُ هذا لِعِدَّةِ مرَّات، لمرَّاتٍ كثيرة.. أعني لأنَّ لبابا لحية مثل لحية الملك الذي في القصة...
سالي: أفهمُ قصدك، ولكن يجب ألاَّ تذهبي بعيداً في تصوراتك. أقصد أن والدك لم يُطْلِق لحيته لإخافة النَّاس... فلا بد أن يكون لديه سبب آخر! على أي حال، وفيما يتعلَّق بالملك داريوس، فإن النَّاس كانوا يخافونه لأنَّ لديه أعداداً كبيرةً من الجُند. وكان أولئكَ الجند مُدَرَّبين على خوْضِ جميعِ أنواعِ المعارِك. كانوا يحملون سيوفاً لامعة ورماحاً مُرَوَّسَة. وكانوا جاهزين باستمرار لِطَعْنِ أعدائهم حتى الموت.
نينا: كانوا يطعنون أعداءهم كل يوم؟
سالي: ليس بالضرورة كل يوم. ولكن إذا ما هاجم ملوكُ الممالك الأخرى مملكة داريوس فسُرعان ما كانَ داريوس يُعطي الأوامر لجيشه بالهجوم وطَردِ الأعداء إلى بلادهم، بل وبوضعِ جنودهم وقادتهم في الأسر. هل تعرفين لماذا؟ ليجعل منهم، فيما بعد، عبيداً يعملون في قصره العظيم.
نينا: وَهَلْ كانَ قصرهُ بعيداً. أعني بعيداً من هُنا؟
سالي: بالطَّبعِ كانَ قصره بعيداً. كان، يا عزيزتي، في بلاد فارس.
نينا: وهل يقعُ هذا المكانُ في لُبْنان؟
سالي: أوه، لا، ليس كذلك! فبلادُ فارس هو الإسم القديم لإيران.
نينا: فَهِمْت. أنت تتحدثين عن...
سالي: الملك داريوس! الملك داريوس يا نينا، وليس عن أيِّ أحَدٍ آخر!
نينا: ولكني كثيراً ما أسمع النَّاس يتحدثون عن إيران و...
سالي: احتفظي بهذا لنفسك، وكُفِّي عن مُقاطَعتي!
نينا: آسفة.
سالي: لِنعُدْ إذاً إلى حِكايتنا... لقد استيقظ داريوس، الملك، ذات صباح وكان في مزاج سيئ جِداً. لم يتلفَّظ بأي كلمة مع أي شخص. بل إنه لم يقل حتى صباح الخير لِزوجَته. مِسكينةٌ زوجَته. كان ثمة شيء يُزعِجُه. وأخيراً، أرسَلَ إلى مستشاريه أن يُلاقوه ويجتمعوا معه في ظرف ساعة. وهذا ما كان. فبعد حوالي السَّاعة، ذهب داريوس إلى قاعةِ عَرْشِهِ وأبلغ مستشاريه إرادتَه. باختصار، أرادَ منهم أن يُبلِغوا شعبه أن ... أن...
نينا: نعم، نعم، أن يفعلوا ماذا؟
سالي: لِنجعلَ من الحكاية الطَّويلة حكاية قصيرة، فإنَّ داريوس أرادَ من كل أفرادِ شعبه أن يعبدوه هو، وطيلة ثلاثين يوماً، عوضاً عن أن يعبدوا الله. وهدَّدَ أنَّهُ إذا ما خالف أي واحدٍ منهم إرادته فإنَّهُ سوفَ يرمي به في جبِّ الأسود.
نينا: تانت سالي، ما هو الجبّ؟
سالي: هُوَ مكانٌ اعتادوا أن يضعوا فيهِ الأسود. لِنقُلْ، إنَّهُ كالقفص. قفص تحت الأرض.
نينا: فهمت. تابعي. تابعي. ماذا حصل بعد؟
سالي: ما الذي حصل بعد... ما الذي حصل بعد؟ حسناً، دعيني أرى. في الوقت الذي كان فيه داريوس مَلِكاً، كان هناك رجل صالح اسمه دانييلْ. ولم يكن دانييلْ هذا ليخاف الملك. فلم يكن منه إلاَّ أن رفض الخضوع لإرادته. فتابع عبادته لله تعالى من دون سواه. وما الذي حَظِيَ بهِ نتيجة عمله الجيِّد هذا؟ لقد رُمِي به بوحشية في جُبِّ الأسود.
نينا: وهل أكلتْهُ الأسود؟ أخبريني. أخبريني.
سالي: لا تنفعلي، فهي لا تَقْدِر على ذلك. بالطَّبع، لقد حاولتْ، لكنها لَمْ تَقْدِر. دانييلْ تمَكَّنَ مِن البقاء حَيَّا. هل تعرفين كيف؟
نينا: لأنه كان يحتفظ بسيف معه؟
سالي: لا. خَمِّني من جديد.
نينا: رُمح؟
سالي: لا. خَمِّني من جديد.
نينا: أعرف، أعرف. لقد هرب بعيدا.
سالي: لا سيف، ولا رمح، ولا هروب بعيدا. كان معه الإيمان. السِّلاحُ الأفضل.
نينا: إذن كيف أنقذ نفسه من الأسود؟
سالي: كما قلتُ لك. كان معه الإيمان. آمن بالله، خالق كل رجل وكل امرأة وكل حيوان. وكان إيمانه هو الذي أنقذه في النهاية. فهمتِ؟
(ترسمُ عينا نينا علامة استفهام مُشكِّكَة، فيما يَهُزّ رأسُها مبدياً موافقة متأدبة).
سالي: وهكذا، يا حلوتي الصغيرة، على المرء أن يؤمن بالله. فهذه هي الطريقة الوحيدة للبقاء في أمان و... للتوجُّهِ إلى السَّرير والنّوم نوماً هانئا.
نينا ( بتوتُّر): لكني لا أريد أن أنام الآن. فأنا لا أشعر بِنُعاس.
سالي: سوف تنامين بسرعة. (تقف ) تعالي، تعالي، انهَضي عن هذه الدّرجات ودعينا نذهب إلى السَّرير.
نينا ( ما برحت مُلْتصِقَةً بالدرجات ): ولكن، رجاءً تانت سالي، دعيني أبقى هنا لوقتٍ أطوَل. سوف يَتَّصِلُ أبي في أي لحظةٍ الآن.
سالي: سمعتُ هذه القصة من قَبل. والآن، يا صغيرتي، أصغي إليّ. لقد وَعَدْتِ أن تأتي وتنامي معي بمجرَّد أن أنتهي من رواية الحكاية لك. لا تُخِلِّي بوعدك، فهذه عَادَةٌ سَيئةٌ جدا، وسوف يغضب الله منكِ إذا ما بدأتِ بكَسْرِ وعودك وأنتِ في هذه السن المُبْكِرة.
نينا (بانكسار) أرجوكِ تانت سالي، أرجوك، دعيني أنام هنا، عند الدرجات. قرب التلفون.
سالي: لتموتي من البَرد! لا، أبدا.
(تتوسَّد نينا الدرجات)
سالي: لا تفعلي هذا. لا تَتجَرَّئي على فعل هذا. سوف أغضب، وسوف يستيقظ النَّاس جميعهم هنا في برهة. هل تريدين أن يغضب الكلُّ منك؟
نينا (تجلس، دَامِعَة): لا أريدُ أن أنام. أريد أن أنتظر بابا. أرجوكِ، تانت سالي.
سالي (شاعرة بالذَّنب، تجْلِسُ على الدرجات بالقرب من نينا وتربّت على شعرها): جفّفي لآلئكِ الصغيرة يا حبيبتي. أفهمُ كيف تشعرين، ولكن لا أريدكِ أن تنهضي مريضةً في صباحِ الغد. فلسوف تمرضين بالفعل إذا ما تركتك تنامين الليل بطوله على هذه الدرجات الباردة.
نينا (تنظر إليها باستعطاف): أقول لكِ ما يمكن أن نفعله. يمكننا أن ننام معاً هنا على الدرجات ونلفّ أنفسنا ببطانيَّة.
سالي (متأثرةً، لكن مُصَمِّمَة): تعالي نُفَكِّر في الأمر: فكرتكِ، على كل حالي، ليست بفكرة عاطلة. (تلتقي عيونهما، ثم ترمي نينا بنفسها في ذراعي سالي المفتوحتين) حسناً، لا تنفعلي الآن. سأُحْضِرُ بطانيَّةً، وسنحاولُ النَّوم.
(تنهضُ وتمضي حتى تختفي ملامِحُها خلف أحدِ الأعمدة. تلقي نينا برأسِها من جديد فوق الدرجة. يُسْمَع بعد لحظات الهمس المتوتر لصوتيْ سالي وأنطوان).
أنطوان: حَذَّرتُكِ مئات المرَّات بشأنها، ألم أُحَذِّرْك؟ إنها تستغل معنوياتك الضعيفة من جديد، بل إنها سوف تجعل منكِ عبداً لها يُضْرَبُ المثلُ بعبوديته لها قبل أن تتمكني من وعي هذا الواقع.
سالي: خَلِّ أفكاركَ التَّافِهة لنفسك. الحَمْدُ لِله أننا لم ننجب أطفالاً كي لا يُرَبِّيهم والدٌ ديكتاتورٌ أعمى مثلك. هذا ما كُنْتَ ستكونه لو لم يحدث لي حادِثُ الإجهاض المُبَارَك.
(يمكن لظِلال شخصيهما أن تبدو للجمهور)
أنطوان: كان ذلك إجهاضاً إراديّاً يا سالي. إراديّاً، ولا يهمّ كم جَهِدْتِ لِتكْذبي على نفسك وعلى الدنيا في هذا الأمر.
سالي: قُلْتَ إراديّ؟
أنطوان: إراديّاً قُلتُ، وإراديَّاً عَنَيْتُ. وسوفَ تَبقى الأسباب التي أعطيتِ في حينه لفعلكِ المجرم مَوْضِعَ شَكٍ دائمٍ من قِبَلي، وموضع شك دائم من قبلي ستظل موافقةُ أمك المُشَوَّشَةِ العقل على فِعلتكِ تلك.
سالي: حسناً، حسناً، حسنا. تابع اتِّهاماتك الغبيَّة. فجِّرْ دماغك إذا رَغِبْت. سوف أحتفظ بدماغي سليماً مُعافى. أمَّا تعذيبك المدروس لي، والذي ما فتئتَ تُكَبِّدني إيَّاه، فلن يؤلم في النهاية سواك. إنتظر ولسوف ترى.
أنطوان: خذي، خذي بطانيتك واذهبي للنوم مع تلك المَمْسُوخة على الدَّرج، فيما والدها، ذلك السُّنِّيُّ الحَلِسُ المَلِسُ يُطاردُ النِّساء أينما ادَّعى أنَّه يعملُ في الليل. أي ليل.
سالي: إن كان للحقيقة أن تُقَال...
أنطوان: أي حقيقة؟
سالي: حقيقةُ أنَّ النُّضج هو كل شيء، هو الأمر كله... وإن كنتُ أشكُّ كثيراً أنَّك سَتصِل يوماً إلى هذه المرحلة.
أنطوان: تبَّاً لكِ ولبَطَّانيتكِ ولشكسبيرك اللعين.
سالي: لن تَنضُجَ أبداً أيها الغرّ، يا صاحب الذهن البليد. ألا يمكنك أن تفهم، أو على الأقل أن تتخيَّل، أني أتظاهر بالموافقة على نومها على الدَّرج... لمجرَّدِ الاحتيال عليها حتى تستسلم للنوم... لأحملها من ثَمَّ إلى السرير؟
أنطوان: حسناً، حسناً، فأنت سيِّدة المُعَلِّمَاتِ عندما تصل الأمور إلى حيِّز التظاهر والاحتيال.
سالي: علَّمني العيشُ معك، يا عزيزي، كلَّ أنواع الحِيَل. على كل حال، سرعان ما ستنام.
أنطوان: لِمَ لا تُعطينها من علبتك قرصاً من اللِكسوتانيل 3 ملغ كي يبطش بها فتغدو كالنائمة... كما تفعلين أنتِ عادةً عندما لا تكونين في مزاجٍ لمُمارسة الحب، إيه؟ أليست هذه بفكرة رائعة؟
سالي: قدرتكَ على التَّدمير ظاهرةٌ استثنائيَّة!
(يخفت صوتاهما. فيما أنطوان يتلاشى في العتمة، تدخل سالي نصف دائرة الضوء الخافت المنبعث من نور الشمعة، وهي تحمل بطانية. تمشي بقية المسافة إلى الدرج على رؤوس أصابعها لاعتقادها أنَّ نينا غرقت في النَّوم. تبتسم بحنان عندما ترى أنَّ الروح القتالية للفتاة قد هجعت أخيرا. تُغطّي نينا بالبطَّانيَّة، ثم تحملها، بشيء من الصعوبة، بعيداً إلى زاوية مظلمة من زوايا المسرح).
اللقطة التَّاسعة
( لا تُبالي الشَّمعةُ المُشتعِلَةُ بالصَّمتِ المُسَيْطِرِ على المكان. تُتابِعُ اشتِعالها، وتَمْضي إلى مَوْتِها كَبَطَلٍ أُسطوريِّ اختارَ أنْ يَلفُظَ نَفَسَهُ الأخير وَهُوَ وَاقِفٌ على قَدَمَيه. بيد أن وحدة الشمعة لا تستمر طويلاً، إذ سُرعانَ ما تَظْهَرُ ملامِحُ القِسّ لِمِتريوسْ مُنْبَعِثَةً من إحدى الزوايا المُعْتِمة، لِتَتوقَّف لِبُرهَةِ تأمُّلٍ، على بُعْدِ خطواتٍ من الدَّرج. فيما يَمُرُّ الوَقتُ، تَتعاظَمُ تأملاتهُ حتى تَبْلُغ درجة الرؤيا: بابُ الملجأ ينفتحُ روَيداً رُوَيدا، وكأنَّما تُمسِكُ به يَدٌ خفِيَّة. وما هي إلاَّ ثوانٍ حتى يُصبِحَ الباب مَفتوحَاً على مِصراعيه... اِحزروا الآن من يقف هُناك؟ هناك بالظَّبطِ؟ صَدِّقوا أو لا تُصَدِّقوا، فالواقِفُ ليس سوى طيف الأميرة ديانا الإنكليزيَّة. وعلى أي حال، فإن العينين النَّاعستين للطَّيف تستعيدان حيويتهما حالما تُلقيانِ نَظْرَةً على القِسّ. يبتسِمُ الطَّيف، المُتشِح بالبياض، ويبدأ يهمهم لحناً مشهوراً من Mary Poppins، الفيلم السينمائي المشهور للأطفال).
القِسّ لِمتريوسْ (بعدَ أن تعرَّف أخيراً على شخصيَّة الطَّيف): يا الله، انظروا مَنْ هُنا. لا بُدَّ أنَّها الأميرة ديانا. (مُتحَمِّسَاً) آه، أيتها الأميرة الرقيقة، لا بُدَّ أنَّكِ حضرتِ للمُسَاعَدةِ حيث فَشِلَ الأميركان. أجيبيني، يا أميرة... أجيبيني.
طيف الأميرة ديانا ( بِصِيغَةِ أُغْنِيَة):
Chim… chimeny
Chim… chimeny
Oh, chim… chim… chimeny
I like how I feel
And I feel so free
أحِبُّ ما أُحِسُّهُ
أُحِسُّ بِالحُرِيَّة
(تُرَدِّدُ هذهِ الأبيات لِمَرَّتين فيما تَنزِلُ الدرج إلى الملجأ على رؤوس أصابعِ قَدَميها).
القِسّ لِمتريوسْ: (باندفاع): لقد خَذَلَنا الأميركان الليلة أيتها الأميرة. عِوَضاً عن أن يُدَمِّروا مواقِعَ أعدائنا من المِيليشيا، فإنَّهُم قَصَفوا الصُّخور العارية غير المأهولة في الجبال اللعينة. أيتها الأميرة الرقيقة، إذا لم تتدخلي شخصيَّاً، وتُساعدينا على البقاء والنَّصر، فسوف نُرَحَّلُ بالسُّفُنِ عن هذه الأرضِ المُقَدَّسة... ليس في سُفُنٍ مَصنوعَةٍ من خَشَبِ الأرز، بل في سُفُنٍ مصنوعَةٍ من ورقِ الجُدْران...
طيف الأميرة ديانا: عليك مُخاطبة رئيس الوزارة، أو رئيسة الوزراء، حسبما يقتضي الوضع، وليس لكَ أن تُخاطِبَني أنا. فهذه، بالتَّأكيد، قضيَّةٌ مُرْهَفَة... وأنا لستُ سوى أميرة... أميرةٍ واجِبُها أن تغمُرَ العالمَ بكَلِماتٍ عَذْبَة... وبالمناسبة، هل أحبَبْتَ أُغْنيتي؟
(يعود الطَّيفُ إلى الغناء مُجَدَّدا)
Chim… chimeny
Chim… chimeny
Oh, chim… chim… chimeny
I like how I feel
And I feel so free
أحِبُّ ما أُحِسُّهُ
أُحِسُّ بِالحُرِيَّة
(تُكَرِّرُ الأبيات لِمَرَّتين).
القِسّ لِمِتريوسْ (يرتَجِفُ بِتأثُّرٍ وقد فقد السيطَرَةَ على نَفسِه): أيتها الأميرة اللطيفة، يا سَلِيلةَ ريتشارد قلب الأسد، ها قد أتيتِ أخيراً لِتنقِذي الذين تَرَكَتْهُم جيوشُ الفرنسيين والطُّليان والأميركان لأعدائهِم... وأعدائِك. أخبريني، أوَ لَيسَت هذهِ هي الحَقيقةُ، أيتها الأميرة، أخبريني.
طيف الأميرة ديانا: (تتمَخطَر مع الإيقاع):
Chim… chimeny
Chim… chimeny
Oh, chim… chim… chimeny
I like how I feel
And I feel so free
أحِبُّ ما أُحِسُّهُ
أُحِسُّ بِالحُرِيَّة
Chim… chimeny
Chim… chimeny
Oh, chim… chim… chimeny
I’ll tell you a story
In two words or three
سأُخبِرُكَ قِصَّةً
في كَلِمَتينِ أو ثلاثة
Chim… chimeny
Chim… chimeny
Oh, chim… chim… chimeny
I like how I feel
And I feel so free
أحِبُّ ما أُحِسُّهُ
أُحِسُّ بِالحُرِيَّة
( يأخذُ الطَّيف طريقه إلى أعلى الدَّرجِ على رؤوس أصابع قدميه، ثم يختفي، فيما يَنغَلِقُ الباب. يهز القِسّ رأسه وقد استعاد وَعْـيـَهُ لوجودِه في المَلجأ. يبدو عليهِ أنَّهُ أدركَ فجأةً بمرارةٍ أنَّ ما رآه كان مُجَرَّدَ وَهْمٍ ليسَ إلا).
القِسّ لِمِتريوسْ (مُخاطِبَاً نفسه): يا الله، ما الذي فَعَلْتُهُ بنفسي؟ عليكِ اللعنة يا نيوجرسي! ملعونَةٌ أنتِ. وملعونةٌ إلى الأبَد! آمين!
(تنظفئ الشَّمعة.
يُغَطّي القِسّ وجههُ بكِلتا يَدَيْهِ، فيما يَغْمُرُ الظَّلامُ المسرح).
(إذا ما وَجَدَ المُخْرِجُ الأمرَ ضَّرورياً، فبالإمكان أن يُسْدَلَ السِّتارُ لبضعِ ثوان فقط).
اللقطة العاشرة
( فيما يرتفعُ الستار من جديد، يبدو الظلام مُهَيْمِناً على كُلّ شيء كشخصيَّةٍ طاغيةِ الحضور. في كل اللقطاتِ التَّالية، ستتلَوَّنُ نوعيَّةُ الأحداثِ، والحركات، والإيماءات بشحوبِ الفجر الرَّمادي. بَلْ إِنَّ الكلام والحوار سوف يرتديان اللون عينه، فالأحداث التَّاليةُ، بغالبيتها، أحداثٌ جُوَّانيَّة.
يدٌ خَفيَّةٌ تفتحُ الباب.
صَمْت.
الشَّكْلُ المُتَرَنِّحُ لطارِق يَتَحَرَّكُ عَبْرَ الباب حامِلاً حقيبةً ثقيلة. وفيما ينزلُ الدرجات، يُسْمَع وهو يتحدَّثُ إلى نفسِه).
طارِق (بنبرةٍ عصبيَّة): ... الدَّهاءُ المدروس... للـ ... ثَّعلب المُراوِغ. هو ذا كلُّ ما لديهم... الدَّهاءُ المدروسُ للثَّعلب. ولكن لا، آه، لا، فلن يُفْلِحَ أمرُهُم هذه المرَّة. ولا في أي مرَّة مُقبلِة. أبداً لن يُفْلِح. (ينظُر حوله، مُتَفَحِّصَاً المكان، ثم يضعُ الحقيبةَ بالقُربِ من الدَّرج). الكَلِمَة؟ آه، نعم الكلِمة. آآآآه، نعم الكلمة... (يَدْلِفُ من مطرحٍ إلى آخر في الملجأ وهو في حالةٍ من الهيجانِ المُتنامي) لا، لا ... يجب ألاَّ نُقَدِّم تَنازُلاتٍ ... ليس لهؤلاء ... الذين سَلَبَنَا دهاؤهم المدروسُ المُراوِغُ حقوقَنا وكرامتنا واحترامنا لذواتنا، وحياتنا الطَّيِّبَة. (يعود إلى وعيه، ويهز رأسه احتجاجاً) ما الذي أفعله بِنفسي الآن؟ آه، يا رب، يا ربِّي! ها قد عُدْتُ أُكَلِّمُ نفسي من جديد. (يفرك عينيه وجبهته) أعلم أنَّهُ عليَّ أن أقومَ بأمرٍ ما ( يُسْمَعُ صوتٌ خافِتٌ من خارجِ المسرح، يناديه ثلاث مرَّات باسمه. تَلْتفِتُ عَيْناهُ باتِّجاهِ الباب) ... إْفْعَلْ ... إِفْعَلْ في مكانٍ ما ... في أيِّ مكان ... لأسلو بنفسي عن نفسي. ولكن ... ولكن هذا الظَّلام ... إِمْتَلَكَني ... وقد انْسَلَّ إلى داخلي. (ينتفِض مُجَدَّداً ) لو كان الآنُ نهاراً ... لو كانت نينا فقط ... (يتراخى تعبير وجهه) آه، لكانت قد أصغتْ إليَّ (سعيداً كَطِفل) نعم، نعم، سوف ... إنها الشَّخص الوحيد الذي ... الذي سوف ...
(وكأنها اسْتُحْضِرَتْ مِنْ نومِهَا لِتُحَقِّـقَ أُمْنيَتهُ، تَبْرُزُ نينا من زاويةٍ ما وتُبحِرُ، كَمَنْ في حُلم، باتجاهِ مَنِ اسْتحْضرَها. تأتي ردَّةُ فِعْلِهِ تجاهَ حُضورِها المُفاجئ مُراوِحَةً بين الدَّهشةِ والامتِنان).
طارق: لَسْتِ بِنائمة! ألم تأوي إلى الفراش بعد؟
نينا: إني مُسْتيقِظَةٌ تماما. (ترسم بأصابعها دائرتين واسعتين حول عينيها) ألا ترى؟
طارِق: طبعاً، طبعاً، إنِّي أرى. أنتِ ... كما قُلْتِ ... (يُقَلِّدُ حَرَكَتها) مُسْتَيْقِظَةٌ تماما.
نينا:(تركض حوله دورة كاملة، مُهَلْوِسَة): لديكَ صوتٌ مُضْحِك عجيب.
طارِق: إنَّهُ صَوْتُكِ يَنْطَلِقُ مِنْ فَمي.
نينا: (مُتابعةً جَرْيَها الدَّائري حوله): لا، ليس كما تقول. لا يُمكِن. لا يُمْكِن.
طارِق: بالتأكيد هو صوتُكِ يَنطَلِقُ مِنْ فَمي. (مُقَلِّداً إيَّاها مِنْ جَديد) إنَّه لأمرٌ مُمكِن. نعم، مُمْكِن. يُمْكِن.
نينا(وقد تحوَّل ذراعاها إلى جناحيْ فراشة): أُنظُرْ، عمُّو طارِق، أُحِسُّ أنِّي أطير... آه، أُحَلِّقُ الآن... أطير، أطير.
طارِق: أنتِ تُحاولين فقط، تُحاولين، تُحاولين.
نينا(تُبْطئ من حركتها وتتوقف مُفَكِّرَة): هل تعلم ما الذي فعلتُه في المدرسة الأسبوع الماضي؟
طارِق: لا، لا أعلم. ما الذي فعلتِهِ؟ أخبريني.
نينا: تَعِدُني أنَّك لنْ تَغضَبَ مِنِّي؟
طارِق (مُبْتسِما): أوَ كان أمراً ... بذيئاً؟
نينا: لا. لا. لَمْ يَكُن.
طارق: إذن؟
نينا: لم يكن بذيئاً ... ولكن مُخادِعَاً كان.
طارِق: أكانَ مُخادِعاً لدرجةٍ تَجْعَلُني أغضَبُ مِنْك؟
نينا: ها أنتَ غاضِبٌ مني حتى قبلَ أن أبدأ.
طارق: إني أمَزحُ فقط. تعالي، فأنتِ تعرفينني.
نينا: (؟)
طارِق: نينا، آه، يا نينا، تعالي الآن، وأخبريني عن كل ما في هذا الأمر. وإذا ما فَعَلْتِ فسوف أُعطيكِ... وهذا وَعْدٌ ... هديةً صغيرةً لطيفة... لِتتذكّرِيني بها ... عندما أكون قد ... مَضَيتُ. إتَّفقنا؟
نينا ( وقد تورَّدَ لونُ وَجْنتيها تَوَقُّعَا): إتَّفَقْنا.
طارِق: هيَّا، أخبريني، فها أنذا مُصْغٍ إليكِ بكُلِّيَّتي.
نينا: طيِّبْ ... أعني ... الأسبوع الماضي ... كما قُلْتُ ... مِسّ فاتن، مُعلِّمَةُ الحِسَاب، كانت تُعطينا امتحاناً في الحساب. وكنتُ على استعدادٍ تام للإمتحان. فبدأتُ بحل المسائل. كانت عشرين. وكان هناك ذلك الولد الغليظ الذي تفوح منه باستمرار رائحةُ البصل. ولا أدري كيف انسلَّ وجلس إلى طاولتنا. كان التِّلميذُ الذي يُشاركني تلك الطاولة غائباً في ذلك اليوم. وهكذا ألصق... أبو بَصَلْ... عينيه... على ورقة إجابتي. أمَّا مِسّ فاتن، فلم تُلاحِظ كيفَ كانت عَيناه... ملْصَقَتينِ... بِورقة امتحاني. كانت مشغولة بقراءة رسالة... وفكَّرتُ برفعِ يدي حتى ألْفُتَ انتباهها، وأُخْبِرَها عن الذي كان ذلك الولد يُحاوِلُ... حَاوَلَ... أن يفعله، ولكني تذكَّرتُ إنَّها لا تُحِبُّ مِنَّا... أن نَشي بِبَعضِنا. كانت تقول "على رفاق الصَّفّ أن يبقوا أصدقاء. أصدقاءً مُقَرَّبين. وأصدقاءً باستمرار". ولهذا قرَّرتُ أن لا... ولكني، فجأةً، فَكَّرتُ في أمر. نعم، لم أرغب في أن يحصل ذلك الولد، مثلي، على علامةِ [A] على المسابقة... ... وهو لَمْ يَدرُس مثلي الليلة التي سَبَقتْ... نعم، أحسستُ بضرورةِ أن أكونَ مُخادِعَة. بدأتُ أكتبُ الأجوبةَ الخطأ على وَرَقتي، ثُمَّ صِرتُ أُقَرِّبُ ورقتي قليلاً باتجاهِه... كَي يَتَمَكَّنَ مِنْ نقلِ الأجوبة الخطأ. نعم، نَقَلَ الأجوبةَ... وَبَعدها، قُمْتُ بِمَحْوِ الأجوبةِ الخطأ سِرَّاً، ثُمَّ كَتبْتُ الأجوبةَ الصَّحيحة. لقد فعلتُ هذا بِكُلِّ الأسئلة. بالعشرين سؤالاً. هَلْ تَعْلَم ما حصل؟ لقد كانت جميعُ أجوبتي صَحيحة، فَحَصَلْتُ على درجة [A]، أما هو فكانت جميعُ إجاباته خطأ، وحصلَ على صِفْرٍ كبيرٍ مُدوَّر كما تقول مِسّ فاتن. (تُطَوِّح بذراعيها) أوووووب، لم يَعُدْ بَعدَها ليَجْلس على طاولتنا أبدا.
طارِق: أراهنُ أنه لم يعد.
نينا: أكانَ هذا جيِّداً أمْ ... سيِّئاً، عمُّو طارِق؟
طارِق (مُندَهِشاً بنضارة سؤالها): حسناً... لَعَلَّني أقول...
نينا (مذعورةً من تَرَدُّدِه): سيئ!؟
طارِق: نينا، عزيزتي، أصغي إليّ. هذا بالفعل سؤال مُحَيِّر. أقولُ، لِنفْترِضِ الآن... (كأنَّما يَتَفَكَّهُ على الموضوع بِرُمَّتِه) ولكن، بحق الجحيم وبحق السماء، أنَّى لي أن أَعْرِفَ كيف كانَ يجبُ أن تُواجهي قضيَّةً دقيقة مثل هذه؟
نينا:ولكنك كبير. عليك أن تَعْرِف الصَّحيحَ مِنَ الخَطَأ.
طارِق: أوَّلاً، لستُ كبيرا! ولكن على كُلِّ حال، فأنا كبير كفايةً لأعرفَ الصَّالح من الطَّالِح والصَّحيحَ مِنَ الخَطَأ.. آه، نعم، إني لكذلك. أكيدٌ أني كذلك.
نينا: أخبرني إذاً.
طارِق: هل تظنين أنَّه من الفكاهة في شيئ أن يقوم المرء بدور القاضي؟ أبَداً. ولكن، إذا ما تمعَّن الإنسان في الأمر، وإذا ما كان هذا هو المنصب الذي عُيِّنْتُ فيه، فإني أقول أنَّكِ كُنْتِ مصيبةً ومُخْطِئَةً في الوقتِ عينه.
نينا:(ساخِطَة): أنتَ مثل مِسّ فاتِن! لا تُخْبِرُ أبداً ... (تضربُ الأرضَ برجلها) لن أُخْبِرَكَ أبداً أبداً أي واحدة أخرى من قصصي. (تُديرُ لهُ ظهرها).
طارِق (مفجوعاً بِسِرّ مخفيّ منذ زمن طويل): قضيَّةُ الصَّواب والخطأ أكثر موضوع زَلِق كان على الإنسانِ أن يواجهه؛ وهو، بالتَّحديد، وبالتَّأكيد، ... الموضوع الذي فشل الإنسان في حلِّه. هل يمكنكِ أن تفهمي لِمَ؟ (ينتبه إلى أنَّهُ يُخاطِبُ طِفلة) أيُّ أبْلَهٍ، شارد الذِّهن أنا! طبعاً، لا يُمكنكِ أن تفهمي. (مخاطباً نفسه) كيف لها أن تَفْهَمَ، كيف لها ذلك؟ (يلتفتُ حوله في ارتياب) إني سعيد لأن القِسّ ليس هُنا في هذه اللحظة. فموقفي الأخرق هذا قد يُفْرِحُه. وليس هذا فَحَسْب، بل لعلَّه كان سيستجمِع كُلَّ خُطَبِهِ المُرهفة ليُفَسِّرَ لي... ليُثَقِّفَني... في فنِّه الخيري لتربية الأولاد.
(ينبَثِقُ القِسّ لِمِتريوسْ مِنَ الظَّلامِ، وكأنَّما اسْتُحْضِرَ من نومه، أو مِنْ أي حالة أخرى يُمْكِن له أن يكونَ فيها، في رَدِّ فعلٍ ساخرٍ على مخاوفِ طارِق).
القِسّ لِمِتريوسْ: صواب.
طارِق (مُرتاعَاً): مَنْ على صواب؟ من على صواب؟
القِسّ لِمتريوسْ: خطأ! ما هو الصَّواب؟ ما هو الصَّواب؟ تلكَ هي القضيَّة.
طارِق: لا تُخبرني ما يجول في بالك، لأني لا أريدُ أن أسْمَعه.
القِسّ لِمِتريوسْ: نُكرانُكَ لي إنَّما يؤكِّدُ وجودي! فأنت تحتاجني أكثر مِمَّا تعتقِد. تعال، تعال، أنتَ تَعْرِفُ تماماً ما يجول في بالي.
طارِق: فَلِمَ لا تفتأ تتلوَّى داخل جِلدي؟ لِمَ تَتَسَلَّل ...؟
القِسّ لِمِتريوسْ: إسْأَلْ جِلدك!
طارِق: يُخيَّلُ إليَّ أحياناً أنَّك لا تَسْتوْلِدُ السعادة إلاَّ من قراءةِ ... وبدّقةٍ أكثر وعمقٍ أشدّ... قراءةِ ذهني... وروحي.
القِسّ لِمِتريوسْ: وأي شيء سوى السَّعادة تتوقَّع مني أن أستخرجه من ينابيعك.. المتدفِّقَة...
طارِق: ينابيع؟ مُتَدَفِّقة؟
القِسّ لِمِتريوسْ: ... بِقُوىً لا يمكن الإمساكُ بها أو الحدُّ مِنْها ...
طارِق: توقَّفْ عن تحليلي حُبَّاً بالخَير!
القِسّ لِمِتريوسْ: ... القوى التي حتى أنتَ ... وفي أصفى لحظاتك ... لا تقدر أن تتعامل معها بالوضوح والتَّأكيدِ .. اللذين ينبغي أن يتمتَّع بهما الفنَّان. ولا أعرفُ لِمَ تَذَكَّرتُ ذلك الشَّاعر العربي الذي قال له النُّقَّاد "لِمَ لا تقول ما يُفْهَم؟"، فردَّ عليهم مُتَشَفِّياً "ولِمَ لا تَفْهَمون ما يُقال؟" تلك حكايةٌ تُمثِّلُ ما أنتَ فيه.
(يكون طَريف قد انضمَّ إليهما في الثَّواني الأخيرة المُنْصَرِمَة)
طريف: ليس هناك أكثر إمتاعاً من محادثةٍ لطيفةٍ بين اثنين ...
طارِق: طبعاً، فأنا أُجَرِّبُ ضمنَ خِضَمِّ مِنْ أشكال وتقنياتٍ شعريَّةٍ متنوّعَة. إنه مُجَرّدُ أمر طبيعي. لكنه غير قابل للفهم مِمَّن هو غير فنَّان ... أقصد ليس بالتِّلقائية التي يُمْكِن لِفَنَّانٍ أن يفهم بها ... إنها الحقيقة الموجِعَة ... نعم، موجِعَة لأنَّه من غير السَّهل أن يُشرِك الفنانُ الآخرينَ في تلقائيته. فما يبدو للآخرين غموضاً مُتَعَمَّداً، قد لا يكون عند الشَّاعرِ أكثر مِنْ تقنيَّةٍ يمكن له بها، دون سواها، أن يُترْجِمَ نفسه ...
القِسّ لِمِتريوسْ: هذيانَهُ تَعْني؟ إن كان ذلك كذلك، فنحن مُتَّفِقان.
طارِق: وأنتَ؟ نعم أنتَ، أما فَتِئتَ تُغَذِّي هذياناتكَ إلى حَدِّها الأقصى، حتى أقَلْتَ من فضاآت ذهنك وروحك كُل ما لديكَ مِنْ ... إمكانيات.. للعقلِ والإحساس!
نينا (وهي تدور في حلقات): أنا فراشة... راقبوني أحُطُّ وأطير... عالياً وعالياً وعاليا... أنا فراشة. عمُّو طارِق، أرجوكَ، غنِّ لي واحدةً أُخرى من أغانيك. أُحِسُّ برغبة في الرَّقص.
طارِق: هذا بالظَّبط ما يدور في بالي. لكن عليكِ أن تَتوقَّفي عن الرَّقص لبرهةٍ وجيزة فيما ... إلى أن أُغنِّي أُغنيتي. ثمَّ ترقُصين بَعدَها، إتَّفقنا؟
نينا: لا، لَمْ نَتَّفِق. أنت تُغني، وأنا أرقُص. معاً، معاً.
طارِق: تَتعَلَّمين كلماتِ الأغنِيَة وموسيقاها أوَّلاً. هذه هي هديتي الصغيرة لك.
نينا: لقد رَبِحْتَ، ولكن أسرِعْ، فإنِّي لن أستطيعَ الانتظار طويلا.
طارِق (مُخاطِبَاً القسّ): هذا الشعر مُهْدَىً إلى ذِكرى فتىً من مدينة صيدا كان في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمره يوم دفع بنفسه إلى الشهادة في هجوم شنّه على آليَّةٍ إسرائيليَّة... كان اسمه نزيه قبرصلي.
القٍسّ لِمِتريوسْ: والشعرُ هذا واحدةٌ أُخرى من غطساتِك في تُراثِكَ الثقافي؟
طارِق: لا يمكنني أن أكون أكثر اتفاقاً معك حول هذا. (يتلفَّتُ حوله مُفَتّشاً، مُتَفَحِّصاً) علينا ألاَّ نَهْدُرَ مَزيداً من الوقتِ في المُجادلة. (مُخاطِبَاً نينا) أتعلمين ما أسمّي هذه الأغنية؟ "على شاطئ صيدا"، هذا ما أدعوها به. اِصغي الآن، (يُلقي الشِّعرَ، يُنْشِدُه مِنَ الذَّاكِرَة).
على بُعْدِ مِيلٍ مِنَ الشَّاطيء أوْ أقَلَّ
كانَتِ الجَزيرَةُ تستلْقي بِلا مُبَالاةٍ
فِيما أمْواجُ الصَّبَاحِ
تُثَرْثِرُ وتَصْفُرُ
تَرْمي بِأذرُعِها في الهَوَاءِ
مُتشَبِّثةً بالصُّخُورِ المُنْحَدِرَةِ
أكْثَرَ فأكْثَرَ
وَقَدْ أعجَزْها البَقَاءُ عَلَيْها
أطْوَلَ مِمَّا تَسْتطيعُ
مُرْتَدَّةً تَنحَسِرُ
بِصْمْتٍ لَعوبٍ
جَلَّ عنِ القنوطِ
مُحَاوِلَةً إلى الصُّخُور النُّهُوضَ
مِنْ جَديدٍ
في غَيْرِ مَا مَلَلٍ
مِنْ جَديد.
(فيما هُوَ يُنْشِدُ شِعْرَه، تظهر وجوه غير محددة في زوايا متعددة من المسرح، بعضُها حزين ومُحتَجّ، وبعضها الآخر شَرِهٌ إلى البيت الشِّعْري الذي سَيَلي).
ظَلَّ المَشْهَدُ يُرَدِّدُ
تَرْنِيمَتَهُ مِنَ الذَّاكِرَةِ
اسْتِرْجَاعاً مَسْكُوناً لِرِحْلَةٍ رُحِلَتْ
لِزِيارَةِ صَيْفٍ
كَانَ قَامَ بِها إلى الجَزيرَةِ في قَارِبٍ ...
وَمَا كانَ الآنَ لِيَعْنيهِ كَثيراً
أنَّهُ لا يَقْدِرُ على رُؤيَةِ تِلْكَ الصُّخورِ
على رُؤيَةِ ذَلِكَ الارْتِفَاعِ المَجيدِ
لِلأمْوَاجِ البَاهِرَةِ
لِذَلِكَ الصَّمتِ الإيقَاعِيِّ لانْحِدارِها
إِذِ الآنَ
لا رُؤيَةَ إلاَّ رؤيَةُ القَلْب.
( تُقاطِعُ الضحكاتُ نصفُ المكبوتة من كريسْتابِل وسالي التدفُّق الشِّعري الجارف في إنشادِ طارِق. أكثر من واحدٍ مِنْ تلك الوجوه غير المعروفة يتهكَّم ساخِراً مِن المرأتين الضَّاحكتين)
مِيلٌ واحِدٌ
أو أقلُّ بقليلٍ
مِن الزرْقَةِ المُتمَوّجَةِ
يَمْتدُّ الآنَ بَيْنُهُ
وبَيْن صُخورِ الجَزيرَةِ
هُوَ الذي انْحَنتْ عَيناهُ المُثبَتتانِ
عَلى شَريطٍ مِنَ الرَّمْلِ المُنسَحِقِ
عِندَ شاطئ صَيْدا
القَدَمُ ذاتُ السَّنواتِ الاثنتي عَشَرةَ
حَفَّتِ الرَّمْلَ
رَسَمَتِ الحَرفَين نونْ و قافْ
رَكَلَتْ بِقُوَّةٍ
فأفْسَحَ الرَّملُ المَبْلولُ طَريقاً
وَرُويدَاً رُوَيْداً
تَرَقْرَقَ عَن بُندُقِيَّةٍ
كانَت أُغْمِدَتْ في قمَاش.
حَوْلَهُ نَظَرَ بِصَمْتٍ
لَمْ يَكُ ثَمَّةَ حَرَكَةٌ
سِوى أجْنِحَةِ الحَمَامِ
تُرَفْرِفُ
فَوْقَ مِئذَنَةٍ هَاجِعَة:
القِسّ لِمِتريوسْ: هذه القطعة أسْهَل ... أسْهَل بكثير من الأولى.
طارِق: رُبَّما. مع أن كل القصائد، عندي، متماثلة.
القِسّ لِمِتريوسْ: حديثُ شُعراء!
طارِق (مُتجاهِلاً المُلاحظة، ومُخاطِبَاً نينا): حسناً، حسناً، الآن. ما رأيكِ بهذه الهدية الصغيرة؟
نينا: أحببتُها. تعرفُ لِمَ؟ لأنها تجعلني أُحِسُّ وكأنِّي أرقص. هل يُمكِنني أن أرقص الآن؟
طارِق: هوو، هوو، هوو! تشعرين الآن برغبة في الرقص إذاً!
نينا: هل أنتَ غاضب مٍني؟
طارِق:لا. أبداً. منذ ... مَنْ تُرى يعرف؟ ... من جديد تنادي الأصوات الخافتة من خارج المسرح باسمه ثلاث مرَّات) أنتِ وأنا قد لا نرى بعضنا مُجَدَّداً ... أنتِ حرة في أن تفعلي أي أمرٍ تحبين الليلة ... اليوم.
نينا: أنتَ راحل، إذاً، عمُّو طارِق؟
طارِق: سأرحلُ في ظرف دقيقة. يمكنكِ القول أن لديَّ موعداً مع الثَّعالب!
نينا: لالالالا!
طارِق: لكني سأعود. سأرجع (غامزاً بعينه إلى القسّ، بغموض) أحياناً ... مع الرَّعد!
نينا: الرَّعد! هل يعني هذا أنك سوف تطير؟
طارِق: لو كنتِ فقط تقدرين على رؤية أجنحتي.
نينا: أقدر. أقدر. (تَمُدُّ ذِراعَيها على شكل جناحيْ فراشة) لدي أجنحة أنا أيضاً.
طارِق: وأجنحة حلوة كما أرى.
( يُمَسْرَحُ القِسْمُ التالي من قصيدة طارِق من خلال الإيماء. يؤدي حَليم، على سبيل المثال، دور الملك تِنِسّ، وعلى رأسه كيس ورق للدلالة على التَّاج؛ وتؤدي نينا، مع شخصيات أنثوية أخرى أبدت تعاطفاً مع الشَّاعر، دورَ "العذارى"؛ وتؤدي مجموعة من الشبان، الذين يحملون العصيَّ للتدليلِ على السُّيوف والرماح والمشاعل، دورَ "المحاربين"؛ فيما تُسْمَعُ من خارج المسرح، عند اللزوم، "صرخاتُ الحرب" يُطْلِقُها الغُزاة.
يصبح الجو، بِرُمَّتِهِ، جَوَّ عَالَمٍ أسطوري. يُتابِعُ طارِق إنشاد قصيدته)
حَدائِقُ المَلِكِ الصَّيْدونيّ تِنِسّ
عَذارى نَاهِداتٌ
لأرضٍ خذَلَها الهُجْرانُ والتّخلّي
وهَا قَدِ اسْتحالَ النَّسيمُ إلى ريحٍ عاتِيَةٍ
وها القَمَرُ السَّاطِعُ
غَريباً مُجْتاحاً
غازِيَاً
يَهْتكُ العَالَمَ
يَهْتكُ العُرْيَ المُدِلَّ لِلأذرُعِ
لِلأكْتافِ
وَلِلْنهوُدِ المُبَرعمةِ
لَمْ تَعُدْ جُدْرانُ الحَدائِقِ تَحتجِز المَلِكَ
صَارَ يَطيرُ عَبْرَ اليَاسَمينَ إلى البَوَّابَةِ
التي تَرْمي بِهِ خلْفَ نَفْسِها
في الْتِيَاعٍ مُخجِلٍ
وَسْطَ العُواءِ القارِسِ لِلْمُحاربين
المُتقدي الفُتوّةِ، والغَضَبِ، والاعتِدادِ
إنَّهُم يَدورون ويَدورون يُزعْزِعون التُربَةَ
يَقتلِعونَ جُذورَ شُجَيْراتِ الياسَمين
يَسْحَقونَ إلى حَدِّ الصَّمتِ
كُلَّ عيدانِ القَصَب الشَّادي
ويُؤدونَ هُناك رقصَهم الجَنَائزيّ
لِلْعَذارى المَخذولاتِ
قبلَ أن يَغزوَ الدَّمُ الفَارسيُّ
أطْهَرَ عروقِهِنَّ
ويَغْتصِبَ
قلبَ مدينتهنّ
الأيْدي المَشْبُوبَةُ
مَوْجاتٌ مُتمَرِّدَةٌ في الظُّلمَةِ
تتكَسَّرُ فوقَ التُّرابِ المُتشَقّقِ
حَرِيقٌ كَاسِحٌ
يَفْتُكُ
بِكُلٍّ مِنْ الحَياةِ والعَارِ
عِنْدَما فَجْأةً
مِنْ خَلْفِ الأسْوارِ المُختنِقَةِ لِلْمَدينةِ
تَنهَضُ الصَّرخاتُ المَكْظومَةُ لِلْحَرْبِ
دفعَةً واحِدَةً
وَيَنْهَضُ صَوْتُ المَلِكِ أرْتَحْشَشْتا
يُعْلِنُ انْهِزاَمةَ مَجْدِهِ
نَصْرَهُ المَسْروقَ
وَقدِ ابْتَلَعَتْهُ السُّحُبُ الدوَّارةُ إلى الأبَد.
( تُبطِيء الرَّقصةُ، فَيَتراجعُ الرَّاقِصون، ما عدا نينا، إلى زوايا غير منظورةٍ من المسرح)
القِسّ لِمِتريوسْ: لقد فعلتَها مِنْ جَديد ... هذه الغطسةَ في المُتشظِّياتِ ... اللامُتشَكِّلَة ...
طارِق: تَقول إنَّها لا شَكلَ لها؟ بَلْ إنَّها التَّاريخ القديم لصيدا، وأنتَ تعرفُ ذلك.
القِسّ لِمِتريوسْ: أشكُّ أن يَفْهَمَ ذلك كثيرٌ مِن النَّاس...
طارِق ( بِتحَدِّ ): سَيَفهَمُها الكثيرون.
القِسّ لِمِتريوسْ: إذن لا تَعُدَّني من بينهم.
طارِق: لم تكن أصْلاً منهم أبدا.
(يَحْمِلُ حقيبته وَيَسْتعِدُّ للرحيل )
القِسّ لِمِتريوسْ:(بِهُزءٍ ): تتركنا من غير أن تُخبِرنا ما الذي حلَّ بذلك الفتى الصيداوي؟ تُرى إلهامُكَ لَمْ يَطُلْ لِتنهي القصيدة؟
طارِق ( يتوقّف، ساخِطاً ): دائماً أُنْهي ما أبدأه. ( يضعُ الحقيبة بين ساقيه ثمَّ يلتفتُ إلى نينا) سامحيني يا عزيزتي إذا ما احتفظتُ بجزءٍ من الـ ... هدية ... معي. ولكن، بما أنَّ الوقت عصيبُ فقد تركتُ ( ينادي الصوتُ الغريبُ الخافتُ من خارج المسرح باسمه ثلاثَ مرَّاتٍ، يُحَدِّق طارِق في الباب، مُنفَعِلاً ومُربَكا )... ما الذي كنتُ أقوله؟ ... آه، لا تأبهي. (يَحْمِلُ حقيبته ويبتسم لنينا الغارقة في إصغائها ) هو ذا ما حدث ... أخيراً ... بالنتيجة ... للفتى ... ( يُنْشِد )
مرَّةً ثانِيَةً نَظَرَ حَوْلَهُ في صَمْتٍ
ومَا مِنْ حَرَكةٍ
سِوى التي مِنْ أجْنِحَةِ الحَمامِ
تُرَفرِفُ
فَوقَ المِئذَنَةِ
عَنِ الشَاطئ ابْتعَدَ خُطوَتينِ ثابِتتيْنِ
المَسْجِدُ صارَ أطْوَلَ مِنْ ذي قَبْلُ
رَفرَفتِ الحَمائِمُ بَعيداً عنْ مَرْمى العيْنِ
ذِراعاهُ انْشَدَّتا انْشِداداً
لا
لَم يُقَدَّرْ لَهُ أن يُخبِرَ عمَّا حَصَلَ إِثْرَ هذا
فَحينَ هوى
كَانتْ نَجْمَةُ داوُدْ
على الدَّبابَةِ
تَنزِفُ نزفَاً أبَديَّا.
(فيما يُنْشِدُ طارق الأبيات العشرة الأخيرة، يَنْسَحِبُ القسّ لِمتريوسْ ونينا خلسةً إلى عُمْقِ المسرح. يتزامنُ اختفاؤهما مع إنشاد طارق للبيت الأخير)
على بُعْدِ ميلٍ مِنَ الشاطيء أو أقلَّ
كانتِ الجَزيرَةُ تَسْتلْقِي بِلا مُبالاةٍ
فيما أمواجُ الصَّباحِ
تُثَرْثِرُ وتَصفُرُ
تَرْمِي بِأذرُعِهَا في الهَواءِ
مُتشَبِّثةً بِالصُّخورِ المُنحَدِرَةِ
أكْثرَ فأكْثرَ
وقَدْ أعْجَزها البقاء عليْها
أطوَل مِمَّا تستطيعُ
مُرْتَدَّةً تَنحَسِرُ
بِصَمْتٍ لَعوبٍ
جَلَّ عن القنوطِ
مُحاوِلةً إلى الصُّخورِ النُّهوضَ
مِنْ جَديدٍ
في غَيْرِ مَا مَلَلٍ
مِنْ جَديد.
( من غير أن يتلفّت حوله، يرتقي طارِق الدرجات، مأخوذاً بتلك القوة الغامضة التي امتلكت عليه خياله... يتلاشى عبر الباب. صمت)
اللقطة الحادية عشرة
( في حالٍ مِنَ الإرباكِ والإثارةِ تُقارِبُ الجُنون، يَهْجُمُ حَليم مِنْ وَرَاءِ أحَدِ الأعْمِدَةِ إلى وَسَطِ المَسْرَح، وإذْ لَيْسَ ثمَّة هَدف مادي يُنفِّس من خِلالِهِ عن طاقتِه الانفعاليَّةِ، فإنَّه يتوقَّفُ فجأة ليتلفَّظ بأشياء يبدو أنَّها أصبحت كلَّ كيانِه )
حَليم: ... وَجَعي شَمّامةٌ محزوزةٌ قمريْن -- سَلَّةُ مُهملات تنزفُ عبقاً أبيضَ/ بطيخةٌ حمراءُ/ يقطينةٌ/ كلّها كلّها نيوجرسي، الضَّاربةُ الجديدة في حياتي! ضربةٌ منْ داخِل، وضربةٌ من خارج! أوَ في سِنِّي! آه، أيتها اللعنة، اللعنة كيف يمكن لها...؟ لا لن أقدر أبداً أن أفهم لِمَ ذلك الشيء ... ذلك الشيء في داخلي يَتشَهَّى كريسْتابِلْ ويَتشَهَّى، بل يتحلَّبُ شهوةً جحيميَّةً، لها ولأمثالها... من القبيلةِ المُضَّادة عينها ... قبيلتها. دائماً، وأبداً، وباستمرار كالجحيم. لا، لن أستطيعَ أن أفهم أبداً لِم لَمْ أتَعَلَّم ... وأُعَلِّمْ نفسي أن أتشهَّى الأرغِفة التي من شُغْلِ بيوتِنا. فأرغفتنا مِنَّا ... مِنْ شُغلِنا ... وهي جَحيمنا. دائماً، وأبداً، وباستمرار جحيمنا ... (يصفع وجههه بكلتا يديه فيما يئن هاتِفاً ) فيا أيّها الوَجَعُ الشَّمّاميُّ المُدوَّرُ، أيتها الجحيمُ الجحيمُ، ها أنا ذا الرّجلُ الرّجلُ ... أيَّ رُجَيْلٍ غدوتُ!
( تدلفُ سالي وكريستابِل من الدَّرج نزولاً إلى المسرح باتجاه حَليم. تتبالادن الوشوشات الحميمة، وتبدوانِ منشرحتين بما تخبره إحداهما للأخرى. تحفّ كل واحدة منهما كتفها بكتفه، مُلاعِبَةً، فيما تمرَّان به. يركض حَليم خلفهما مذهولاً بتباريحه).
حَليم: لا يمكن لكما أن تَمُرَّا بي مثل ...
كريستابِل: مثل ماذا؟
حَليم: مثلما كنتما كنتما كنتما ... من غير ما توَّقُّفٍ لـِ...
سالي: لِماذا؟
حَليم: فقط لِــ...
كْريسْتابِل: إبتعدْ، إبتعدْ عن طريقنا. نحنُ في بَلَدٍ حُرٍّ، أليس كذلك؟
حَليم: وإذن فأنا حُرٌّ في أن أقف في الطَّريق.
سالي: ونحنُ حرَّتان في أن ندُقّ عنقك؟
( وكعادته، يَنْضَمُّ طَريف، خِلْسَةً، إليهم )
طَريف: لا شيء أكثر إمتاعاً من محادثةٍ لطيفةٍ بين عجوزين...
سالي ( بغيظ ): وَحْدكَ أنت العجوز، أيُّها الظل العتيق.
كريستابِل: أشعلْ لي سيجارة.
حَليم:أنا أُشِعلُ لكِ واحدة.( يُخرِج سيجارةً وولاَّعة )
كريستابِل: إِحتفِظْ بِسَجائرك لِنفسِك. فَلَسْتَ ظريفاً مثله.
طَريف ( يُشْعِلُ سيجارتها ): تَمَتَّعي بها كلها.
كريستابِل: ما مِن شيءٍ أتمتَّع به، إلاَّ وأتمتَّعُ به كُلّهُ حتى الثمالة.
سالي (مُخاطبةً حَليم): أشْعِلْ لي واحِدة.
حَليم: التَّدخين مُضِرٌّ بصحَّتك.
كْريسْتابِل ( بانشراح ): ليس مُضرّاً لي، إيه؟ أكيدٌ أنَّ بُنْيَتي مختلفة عن بنيتها. أنا أُدَخِّن وأُقاوم السَّرطان. أم تُرى لديكَ أفكار أُخرى طَريفة حول جسدي؟
سالي: وماذا عن جسدي أنا؟ قدرتُهُ على المقاومةِ أمرٌ أكيد. لكن من الأكيد، أيضاً، أن هناك أمراً بعينهِ لا يُمْكِنهُ مقاومته. وأنتَ ( مخاطبةً حَليم ) أنتَ الذي يقفُ هناك، هيَّا أخبرني ما هُوَ ذلك الأمر. الآن.
كْريستابِل: ربَّاه! ربَّاه! ولكِنْ سالي، أيتها الأعزّ، هل أستنتجُ أنّ الـ... هو حقلُ اختباراته؟
سالي: بَل حقلُ اختصاصه، فذلِكَ وصْفٌ أدَقّ. ( مخاطبة حَليم ) أليس كذلك؟
حَليم: لقد فقدتِ صوابكِ ولا رَيْب. استمعي إليَّ الآن...
سالي: إستمعي واستمعي واستمعي! هل الكلامُ هو أفضل ما تُجيدُه من ألعاب؟ إفعلْ وافعلْ وافعلْ شيئاً من...
كريستابِل: من أجل سالي.
حَليم: لا تَحْشُري سالي فيما بيننا...
كريستابِل: وأي أمر بيننا؟
سالي: نعم، نعم، نعم، أي أمر بينك وبينها؟
حَليم: أمري... أمرنا... أياً كان الأمر، فأنتِ حقاً، مجنونة.
سالي ( تبسط يديها نحوهُ على شكل مخلبيْن ): بالجنونِ تَتحَدَّثُ، وبالجنونِ ستنتهي.
كريسْتابِل (مُصَفِّقَةً لهما):
سالي، اغْرِزي أصابعكِ في عينيهْ،
فليستْ خطيئةً أن تقضي عليهْ
حَليم: لن تَكْبُري أبدا. أبدا. أبدا. أبدا. أبدا.
سالي: أنا طفلة...
كريستابِل: كيف لكَ أن تُوَبِّخ طفلة؟
سالي ( تستمر راكضةً خلفه ): كيف لكَ أن توبِّخ طفلة؟ كيف لكَ أن تُوَبِّخ طفلة؟
حَليم: حتى نينا لها في رأسها الصغير من العقلِ أكثر مما لديكما أنتما الاثنتان معا.
( تتوقَّف سالي فجأة. تتبادل وكْريسْتابِل نظرةً عابثةً، ثم تنفجر المرأتان في الضَّحِك).
سالي ( مخاطبة كْريسْتابِل ): نينا! أوَ تَذكُرين؟ نحن لا نعلم، حتى الآن، إذا ما كانت استعمَلَتْ ورق الحَمَّامِ، بعد كل الذي حصل.
كريسْتابِل:ما كانَ أَحْلاهُ مَنْظَرُ تلكَ المرأة وهي تُعَلِّمُ نينا أن تَسْتخْدِمَ الماء فقط لتنظِّف الإحِمْ إحِمْ حينما تذهبُ إلى الحَمَّام.
حَليم: وأينَ الخطأ في ذلك؟ المسلمون يغسلون بالماء ... بالماء حينما يقضون حاجتهم...
كْريسْتابِل و سالي:FANATIQUES!، مُتعَصِّبون ! فما الخطأ في استعمالِ ورق التواليت؟ ورقٌ ناعم، أبيض، نظيف؟
حَليم: ليست المسألةُ مسألةَ خطأ وصَحّ. ولكن الماء أفضل. أفضل بكثير.
سالي: إذاً أنتَ أيضاً، تَغْسِلُ الإحِمْ إحِمْ بالماء، إيه؟
كريسْتابِل ( مُحاوِلةً إغاظته ) وهل تُفَضِّلهُ بارِداً أم ساخِنا؟
حَليم ( مُتشَبِّثاً بِرأيه )/ ساخِنٌ أو باردٌ، ما هَمّ؟ فالماء ماء.
سالي: وبعدَ ذلكَ تأكل باليدِ التي تغسِل بها الإحِم إحِمْ؟
حَليم: أيتها اللعنة، هذا صحيح. بل أقصد لا. فأنا آكل بيدي اليُمْنى، وأغسِل باليُسرى.
كْريسْتابِل: وما الذي كنتَ تفعله لو كُنتَ أعسر؟
سالي: سوف يُخطيء بين فمه والإحِمْ إحِمْ ... ها، ها، ها.
حَليم: ليس الأمر بالمُضْحِك. فالنَّظافةُ تبقى أمراً أساسيَّاً، أحببتِ ذلكَ أم كَرِهْتِه.
سالي: وما الذي تقوله الفتاة الصغيرة عن هذا الأمر؟
حَليم: إسأليها عنه في الصَّباح.
سالي: بَل سوف أسألها الآن. ( تصرخ ) نينا، نينا، تعالي إلى هنا. الأمر مُلِحّ. إنها قضيَّةُ حياةٍ أو موت.
( تُبْحِرُ نينا عَبْرَ المَسْرَحِ باتّجاههم وكأنَّ الأمر يجري في حلم)
كْريسْتابِل: الآن يبدأُ المَرَح.
سالي: أخبريني، يا قَمُّورتي، أَّيُّهُما أكثر نعومةً على الجلد ... الماء أم ورق التواليت؟
نينا ( بِسَأمِ مَن طَفُحَ كَيْلُه ): سَمِعْتُ هذا من قَبْل. سَمِعْتُه مِنْ قَبْل.
سالي: أجيبي عن سؤالي، وأجيبي بأمانة: هل تُفَضِّلينَ المَاءَ عَلى وَرَقِ التَّواليت؟
نينا: وما الذي يهمني؟ بإمكاني استعمال الإثنين.
كْريسْتابِل: عليكِ أن تَختاري واحداً فقط. واحداً منهما فقط.
نينا: ولكني أستعمِلُ الإثنين.
سالي: اللعنة! اللعنة! يُفترَض أن تختاري واحِداً، واحِداً فقط.
نينا: إني... إني أغْسِل بِالماءِ وأُنَشِّفُ بِوَرَقِ التَّواليت!
سالي وكْرسْتابِل: أوووووووووووه! نينا، نينا، أوّاهِ منكِ وآهِ ما أقساكِ ... أيتها المُتعَصِّبَة العمياء!
نينا ( مُبْحِرَةً بعيدا ): أعذروني الآن، فإنّي راحلة إلى النَّوم.
( تختفي عن النَّظر. إنَّهم مُنْذَهِلون )
كْريسْتابِل ( مخاطبة طَريف بِسُخط ): أشعِلْ لي سيجارة. وأشعِلها بسرعة. أُريد أن أُدَخِّنَ بسببِ البلاهةِ المُشينة التي حشوا بها ... بما لا يُطاق ... عقلَ هذه الطفلة.
طَريف: ذلكَ من دواعي سروري. دائماً. ولكني أخشى أنَّك سَتدَخِّنين سيجارتين معاً وفي الوقت عينه.
كريسْتابِل ( وقد أدركتْ أنها ما برحت تُمْسِكُ بسيجارتها التي لم تنتهِ ): ربَّاه! ربَّاه! (ترمي بالسيجارة، وتسحقها بقساوة ) الآن أشعِلْ لي واحدة. ( يُشْعِلُها لها ) أنتَ، إذاً، تَجِدُ من غير اللائق بامرأة أن تُدَخِّنَ سيجارتين معاً وفي وقتٍ واحد، إيه؟
طَريف: لَمْ أقُل هذا. كنتُ ... فقط ... حشريّا.
كْريسْتابِل: قَتلَتِ الحشريةُ القطَّةَ.
طَريف: عنيتُ، أني كنتُ أتساءَل، ليس إلاَّ.
كْريسْتابِل: في الواقع هذا لا يُشَكِّلُ أي فرق مهما حاولتَ أن تتذاكى؛ فأنا قادرة، باستمرار، على قراءة ما يدور في بالك. و... ( تخبط الأرض ) كُفَّ عن مُقاطعتي!
طَريف: لَم أقُل شيئا.
كْريسْتابِل: ما زِلْتَ تَتكَلَّم!
طَريف: أنا ...!؟
كْريسْتابِل: إذاً ... أنتَ أوَّل من يرمي حجراً على امرأة تُدَخِّنُ سيجارتين معاً ... وفي وقتٍ واحِد! الآن قُلْ لي، ماذا عن رجُلٍ يتزوَّج، ولا أقولُ يُدَخِّن، امرأتين معاً وفي وقت واحد؟ تلكَ أحجية لكَ، فَحُلَّها.
طَريف: أبداً، أبداً. لَيْسَتْ بأُحْجِيَةٍ على الإطلاق.
كْريسْتابِل: على الإطلاق!؟
طَريف: ببساطة، لستُ من شَرَّع القانون.
حَليم: وأنا أُقْسِمُ بالقانون أنَّهُ يقولُ الحقيقة.
كْريسْتابِل: جُبَناء! جُبناءُ ثقافة. كِلاكُما جبان. ( تَظبُط سالي مُحَدِّقَةً في حِذائها ) ما الَّذي تفعلينه بِحَق الجحيم؟
سالي:أُعْجَب بِحِذائك.
كْريسْتابِل: ماذا؟ ما الخطأ في حذائي؟
سالي: يُعْجِبُني.
كْريسْتابِل: هِه؟ أنتِ تُحِبِّين...
سالي: نعم، نعم، أُحِبُّه.
كْريسْتابِل: ما الذي دهاكِ؟
سالي: إنَّه أمرٌ لا أستطيع تجاهله. ولطالما حَدَثَ لي ذلك. أقصدُ كلما لمحتُ زوجاً جميلاً من الأحذية، فإني أتذكَّر أُمِّي.
كْريسْتابِل: أوَ كانت أُمُّكِ ...؟
سالي: أبداً. ولكن يوم كنتُ في مُسْتهَلّ مُراهقتي، علَّمَتني الماما أن أهَمَّ ما في لباس المرأة، وأشدَّه تأثيراً، يَكْمُنُ في اخْتيارِها لِلْحِذاء المُناسب. إلبسي ما تشائين، فكلّه ماشٍ، كما كانت تقول، أيّ تَنُّورَةٍ تَجِدين أو فُستان، أيّ بنطلون جينز، أيّ شيء على الرَّأس، وحتى أي bra؛ ولكن لا بُدَّ لكِ مِنْ أنْ تَخْتاري الحِذاءَ الأفضل. فهذا، وهذا وحده، كما علَّمَتْني المَّامَّا، هو ما يُشكِّلُ الفَرقَ، كُلَّ الفَرْق، في لِبَاسِ المرأة.
أنطوان ( يظهرً من وراء أحد الأعمِدة ): المَّامَّا حكيمة جداً، لأنَّ المرأة، في التَّحليل الأخير، تُساوي ثمنَ حِذائها!
كْريسْتابِل: يبدو أنَّكَ تمتَّعتَ بنومٍ هنيءٍ هذه الليلة.
أنطوان: حتماً، حتما. فأنا أنامُ كلوحِ خشب.
سالي: فقط تنام كاللوح؟ أنتَ تَتكَلَّمُ مثلَهُ.
أنطوان: ما الأمرُ الآخر الذي يُعْجِبُكِ في هذا العالم، بالإضافةِ إلى حذائها، عزيزتي سالْ؟
سالي: فضلاً عن حِذائِها، أنا مُعْجَبَةٌ بِكُلِّ ما يُلْبَس ويُرْمى.
أنطوان: ضربةُ حَظِّ إذا ما كُنْتِ قادرةً على رمي كل ما كنتِ تلبسينه مؤخَّراً.
كْريسْتابِل: ألا يُمْكِنُكَ أنْ تَتحَدَّث بوُضوحٍ أبدا؟
أنطوان: وما هو أشد وضوحاً من لَوْح؟
سالي: لَوْحٌ آخر.
كْريسْتابِل: فَهِمْت.
أنطوان: ماذا عن إعجابكِ بذلك الشيء الذي يملكهُ الوحشُ الصَّغيرُ ... ماذا تُسَمّيِنه... ؟ Stamina... القدرة على الاحتمال والاستمرار؟
سالي: أبْعِدْها عن ذهنكَ المحموم. يبدو أنَّها نائمة.
أنطوان: بِفَضلِكِ.
سالي: أعرف أنَّك تَغار، ولكن لا يُمْكنِني إلاَّ أن أكونَ لطيفةً معها.
أنطوان: لطيفةً؟ لا. بل مُتفانية.
سالي: أوه، أوه، أوه. عَدَسَتاكَ المُكَبِّرَتان، مرة ثانية!
أنطوان ( بمرارة ): إِعتني بها... سخِّري حياتك... إركعي على ركبتيكِ... إجعليها تشعرُ بالرّضى... وأعطي أباها، ذلك السُّنِّيَّ الحَلِسَ المَلِسَ، فُرْصَةً أكبر لِمُطاردة النِّساء أينما ذهبَ ليلاً، كلّ ليلة.
طَريف: لا شيء أكثر إمْتاعَاً من مُحادثةٍ لطيفةٍ بين اثنين عجوزين شابين...
سالي: أشعِلْ لها سيجارة، طالما أنَّ التّدخين يُسيء إلى صِحَّتي.
طَريف: إنَّه لَمِنْ دواعي سروري، دائماً. ( يتوجَّه لِيُشْعِلَ سيجارةً لكْريسْتابِل ).
سالي: أشعِلْها، وَ عُدْ إلى هُنا.
أنطوان: هوَ حُرٌ في أن يبقى هُناك...
سالي: لَقَطْتُكَ! إنَّك تغارُ من جديد. والبُرْهانُ أكيد.
أنطوان: ليسَ في الأمرِ غيرةٌ. ولكنَّهُ القَرَف يتآكَلُني. أمَّا أنتِ، فَمُخطِئة، مُخطِئةٌ تماماً، إذا ما خِلْتِ أنَّكِ قادرة على إلهائي لأنسى تِلك المسخ الصَّغيرة.
سالي: ما أروعَ أن يُمْضي المَرْءُ عُمْرَهُ مَعَكَ!
أنطوان: أوَ تَدْرينَ كيفَ أراكِ أنا؟
سالي: هل يؤذيكَ لَوْ قُلْتُ إنِّي لا أهْتم؟
( تَبْدَأ كْريستابِل وحَليم، وقد انضمَّ طَريف إليهما، مناقشة أقلّ حرارة من مناقشة سالي مع أنطوان. لا تُسْمَعُ الأقوالُ الصادرة عن الثلاثة الأّوَل، بيد أن توترهم يظهرُ عبر الإشارات، خلا مرَّاتٍ ثلاث ستتم الإشارة إليها لاحِقا)
أنطوان: إنَّكِ دمعة وابتسامة بالنسبة لتلك المسخ الصغيرة... شيءٌ واهٍ... لستِ أكثر مِنْ... أكثر مِنْ ظلٍّ سائر.
سالي ( لا مُبالية): شكسبير!
أنطوان( بِنبْرَةٍ أكثر حِدَّة ): لَستِ أكثر من نبتة مائية منساقةٍ بلا إرادة.
سالي ( بالنبرةِ عينها ) تنيسي وليامسْ!
أنطوان ( بنبرة أشد ارتفاعا ): اللعنة إذن! إذا ما تابعتِ جعجعتكِ هذه، فَلَسَوْفَ أُعَرّي مِنْ الجلد أسنانَكِ.
سالي:هذا ثورتونْ وايلدرْ!
حَليم ( مُتدخلاً، ومخاطباً كْريسْتابِل ): إنَّكِ لأشد سوءاً من نيوجرسي
أنطوان : شيءٌ يُجَنِّن. الجحيم وحدها قادرةٌ أن تشرح لي لِمَ تَزَوّجْتُكِ، وكيف تَمَكَّنتُ من الاستمرار معكِ.
كْريسْتابِل ( صَوْتُها مُتداخِلاً مَع صَوْت أنطوان ): أوه، هؤلاء الرِّجال من بيروت الغربيَّة! هاه!
أنطوان: في هذه الرحلةِ الطويلةِ، الطويلةِ، الطويلة...
سالي: صَوْب الليل؟ ذلك هو يوجينْ أونيلْ! نهاية اللعبة. نقطة على السَّطر. نقطةٌ مُدَوَّرة.
أنطوان:مُدَوَّرَة! وهل عليكِ أن تُذَكِّريني بدورتكِ اللعينة كلَّما واتتكِ الفُرصة؟
طَريف: لا شيء أكثر إمْتاعاً من مُحادثةٍ لطيفة ظريفة بين عجوزين شابين...
( يوقظُ الدخولُ الطَّيفي لنينا، بعينيها المنفتحتين على اتساعهما واللتين لا تريانِ شيئاً مِمَّا على المسرح، كُلَّ الموجودين من مرارة أنفسهم أو حلاوتها. يعبقُ صَمْتٌ يُكَهْرِبُ الجَوَّ بحشريَّةٍ مُرَغِّبَة، مُمَانعة. تتحرَّكُ نينا ببطء شديد باتجاه الدَّرج، عيناها مركزتان على هَدفٍ واحِد)
سالي: ربَّاهُ! ربَّاه! إنها تمشي في نومِها.
أنطوان: نسخة مُصَغَّرةٌ من الليدي ماكبث... رغم أنها لا تقول: الذي حدثَ قَدْ حَدَثَ!
“What’s done cannot be undone!”
كْريسْتابِل: أعطِها فرصة، وسوف تقول.
أنطوان: قولي لها أن ترجِعَ إلى النَّوم.
حَليم: هُسْ... إنها نائمة الآن.
أنطوان: أيقظوها إذن، ثم اطلبوا منها أن تعود إلى النَّوم من جديد.
سالي ( واقفة بينه وبين نينا ): ما أَفظعهُ ... مَيْلُكَ للإنتِقام!
أنطوان: أنتِ تَدَعينها تأكلُ من السَّلامي التي لي.
سالي: أنا فعلتُ هذا؟ متى؟
أنطوان: في الصَّيف الماضي.
سالي: آهِ، ثم آهِ منكَ!
( تصل نينا إلى الدَّرج، ترتقي درجتين، وعيناها مثبتتان على الهاتف )
طَريف: لِيُمْسِكْ أحَدٌ بِيَدِها!
سالي: إيَّاكَ أن تَجرؤ على هذا!
كْريسْتابِل: سوف تَقَع وتُؤذي نفسَها.
سالي: تجاهلوها تماماً، وستعودُ فوراً إلى سريرها.
أنطوان: أهذا ما تفعله الليدي ماكبث؟
سالي: أربطْ لسان الأفعى الذي لك.. يا نَتِنَ العقل.
( تجلسُ نينا، أخيراً، على قمة الدَّرج. ترفعُ سماعة الهاتف بإحدى يديها، وتبدأ بطلبِ رقم باليدِ الأُخرى. يَصدُفُ أنَّ الرَّقم الذي تطلُبُهُ هو الصِّفُر مُكَرَّراً سِتَّ مرات )
حَليم ( محتاراً) : صفر.. صفر.. صفر.. صفر.. صفر.. صفر. إني لا أفهم.
كْريسْتابِل: عُمْرَكَ كلّهُ لن تفهم.
طَريف: إنها تحت تأثير تَعْويذة أو سِحْر.
نينا ( على الهاتف ): هللو. أنا نينا أَمْلَدْ أتَكَلَّم.
أنطوان: نَعْرِفُ هذا.
الجميع: هُسّ.
نينا( على الهاتف ): نعم، نعم، أُريدُ التَّحَدُّثَ إِلَيْه. هللو! بابا؟ .. آه، صَوْتُ مَنْ هذا؟ .. لا، لا، أنا لا أذْكُرُك. والآن، أين بابا؟ ... حسناً إذاً، سوف أطلبه فيما بعد. أخبِرْهُ، حين يأتي، أنني تَلْفَنتُ لَهُ... باي.
( تُعيدُ السَّماعةَ، لكنها لا تَتحَرَّك من مكانها )
كْريسْتابِل: ما الذي يجب أن نفعله الآن؟
سالي: الانتظار.
كْريسْتابِل: إلى مَتى؟
سالي: صَبْراً، كريسي. سوف تكونُ على ما يُرام إذا لم نُشْغِل بالها.
كْريسْتابِل: والآن؟ ماذا الآن؟
طَريف: الآن...
( ترسُم شفتا نينا طيفَ ابتِسامة )
حَليم: أُنظروا، واسمعوا، إنَّها على وشَكِ أن تقولَ شيئاً...
سالي: فقط لِنفْسِها. فالرجَّاءُ أن تبقوا هادئين.
( تُوَجِّهُ نينا عينيها نحو وسط المسرح. وبِبطءٍ شديد، تبدأ هبوط الدَّرجات. يفسِحون لها الطَّريق. حالما تَصِلُ إلى وسط المسرح، تنظُرُ عالياً وكأنَّها تُخاطِبُ شخصاً طويل القامة).
نينا: طبعاً، طبعاً، أنا على أتَمّ ما يُرام. ولكن ما أرَدْتُ قَولَهُ...
( من وراء أحد الأعمدة، يجرُّ القِسّ لِمِترِيوسْ نفسه، كأنما في حُلم، ويتوقّف على بُعْدِ خطوتين من حيث تقف نينا. ينظر واحدهما إلى الآخر في لحظة سعيدة، ثم يُقَهْقِهُ القِسُّ ضاحِكا ).
نينا: ما الذي يُضْحِكُك؟ فأنا لم أقل أي شيء.
القِسّ لِمِترِيوسْ: بل قُلْتِ. لكنكِ ما فتئتِ تنسين.
نينا: لا، أنا لَمْ أَقُل.
القِسّ لِمِترِيوسْ: عليَّ، إذاً، أن أُذَكِّركِ. لقد سألتِني، منذ برهة وجيزة، أن أطلُبَ، بدوري، من الأميرة أن تُبارِكَ اجتماعنا هذا بحضورها العذب اللطيف.
كْريسْتابِل: لا أُصَدِّقُ عينيّ. ولا أُصَدِّقُ أُذُنيّ.
طَريف: إنّ أحداً ما... شيئاً ما... قد ألقى تَعْويذَةً على هذا المكان...
كْريسْتابِل: أخشى أننا جميعاً سنلحقُ بهما، وبأسرع مِمَّا نَظُنّ. الآن أحتاجُ إلى كأسِ نبيذ.
نينا ( مُخاطِبَةً القِسّ لِمِترِيوسْ ): يحتاج الأمر مِنِّي إلى ثانيتينِ فقط لأتَذَكَّر. أنتَ على حَق. أيْنَ هي الأميرة؟
القِسّ لِمِترِيوسْ: أُنظري هُناك. هناك في الأعلى. لقد وصَلَتْ للتوّ.
نينا: أين؟ أين؟
القِسّ لِمِترِيوسْ: إنهَّا تَفْتَحُ الباب. إنَّها هُناك.
( تلتفت نينا، ومعها كلُّ شخص آخر، ليواجِهوا الباب الذي كان، في هذا الوقت، قد انفتح نصف انفتاحة. يتهادى طيفُ الأميرة ديانا بلُطْفٍ على الدَّرج. إنَّها الآن بينهم ).
القِسّ لِمِترِيوسْ: آه، يا أميرة إنكلترة والجزر الأخرى، آمُلُ أنَّكِ لَمْ تنسيْ التِمَاسي... كُلُّ ما أطلبه هو أن تأخذي الحقائق بعين الاعتبار...
( طيفُ الأميرة، الذي يبدو بوضوحٍ أنَّه في مزاجٍ راقصٍ، يَشْبُكُ أصابِعهُ بأصابع نينا، ويرتجل الاثنان رقصةً على نغمةٍ موسيقية تتناسبُ معها. يتجاوبُ جسد نينا مع اللحن ويُبْحِرُ حولَ الأميرة ).
الأميرة ديانا: ( ترقص فيما تُغَنِّي ):
طَهِّرْ نَفسَكَ مِنْ أدْرَانِ الذَّاتْ
مِن تَذَمُّرِكَ الَّذي يَأكُلُكْ
اِبْقَ غَيْرَ مُكْترِثٍ بالحَكِّ والاحْتِكَاكْ
اِفعَلْ هذا وَلا شيء سِواهْ
نينا: تقولُ ديانا وَلا شيء سِواهْ.
القِسّ لِمِترِيوسْ: ولكن ألْفُتُ انتباهكِ، أيتها الأميرة، أنَّ القضيَّة الأساسيَّة...
الأميرة ديانا:
لِمَ تنسى ولِمَ تَتذَكَّرْ؟
لِمَ تُسَامِح ومِن ثَمَّ تَتَعَذَّبْ؟
الزمَنُ حَمْلُ نفسهِ ووحشُ نَفْسِهْ
تَعَلَّمْ هذا وَلا شيء سِواهْ.
نينا: تقولُ ديانا وَلا شيء سِواهْ.
القِسّ لِمِترِيوسْ: ولكن، أيتها الأميرة، القضيَّة الأساسيَّة...
الأميرة ديانا:
أُتركِ اللعبةَ العويصةَ، اتركها
ومقلاعَكَ هذا، ألْقِهِ، ألْقِهْ
إِحملْ كأسَ شايِكَ السَّاخن واكْرَعْهُ
إفعلْ هذا، وَلا شيء سِواهْ.
نينا: تقولُ ديانا وَلا شيء سِواهْ.
القِسّ لِمِترِيوسْ: ولكن، أيتها الأميرة، القضيَّة الأساسيَّة...
الأميرة ديانا: القضيَّةُ الأساسيَّة، عزيزي، قالها مرَّةً الرُّومانُ أو الإغريق.
القِسّ لِمِترِيوسْ: ماذا؟ الرُّومان؟ الإغريق؟
الأميرة ديانا: روماني أو إغريقي قال مرَّةً أو مرَّةً قال أنَّه من الأسهل أن تَغْلُبَ شَعْبَاً بِكامِلِهِ مِنْ أن تَغْلُبَ رَجُلاً فَرْدَا.
القِسّ لِمِترِيوسْ ( حائرا ): لا يهمّني ما قاله مرةً، أو مرةً قالهُ، أولئكَ القدماء. أريدُ أن أعرِف ما الذي يقولُه البريطانيون.
الأميرة ديانا: إنَّهم، ببساطة، يقولون...، حسناً، حسناً، بعد كل هذا، سيدي العزيز، لِمَ لا تَنْضَمُّ إلينا في انكلترة؟ أُوكِّدُ لكَ أنَّها ليست بالبلدِ السَّيئ.
القِسّ لِمِترِيوسْ: وأتركُ هذه الأرض المقدسة؟
الأميرة ديانا: ما الخطبُ في إنكلترة؟ هناك، على الأقل ... ( تُغَنِّي، فيما ترقص نينا على النَّغم ).
سَمِعْتُ أنَّها لا تُمْطِرُ إلاَّ بَعْدَ الغروبْ
سَمِعتُ أنَّ ضبابَ الصَّباحِ لا بُدَّ أن يَنْجَلي
لا مَوْطِنَ أحلى لِلْجَمْعِ الحَميمْ
مِنْ تِيرِنْ تِرِنْ تينْ تينْ تِرِنْ
هنا في كا.. . مي ... لوتْ.
( تتابع الأميرة ونينا الرقص، مرددتين اللحن المشهور. وبعد مدة وجيزة، يقطع هذا الجوَّ اللطيفَ الدُّخولُ المُفاجئ، من خلال الباب، لِرَجُلٍ غريب ينظُر حوله بشيء يشبه الرُّعبَ في عينيه. يتوقَّفُ الرقصُ. تَتثَبَّت كُل الأنظار على الرَّجُلِ الغَريب).
الرجل الغريب: هل رأى أحدٌ منكم طارِق مُلْهَمْ؟
حَليم: كان معنا قبل وقتٍ قليل.
الرجل الغريب: تعني أنَّه رَحَل؟
سالي: أظنه مضى لِيَتَمَشَّى.
الأميرة ديانا: وأنا حانَ الوقتُ الذي أتمشَّى فيه.
( على رؤوس أصابع قدميها، تصعد الأميرةُ الدَّرج وتختفي. الرَّجُلُ الغريب كانَ قد مضى قبلها. تمضي بضعُ ثوانٍ قبل أن يفيق كل واحدٍ من الحاضرين على صوت خافت لانفجارٍ بعيد).
حَليم: ما هذا؟ نيوجرسي من جديد؟
القِسّ لِمِترِيوسْ: أو لعله... رُبَّما...
سالي: نعم؟!
كْريسْتابِل: آه، لا!
( تُوقِعُ الكلمةُ التي لَمْ تُقَلِ الرُّعْبَ في قُلوبِهم. تَبرُزُ نَاندا من إحْدى الزوايا، لا يزالُ يُخامِرُها النُّعاس).
نَاندا: شو تَعْمِلْ هونْ نينا؟
كْريسْتابِل: قفي حيثُ أنتِ.
سالي: لا تُكَلِّميها. إنَّها تَتحَدَّثُ في نَوْمِها.
نَاندا: هيِّ يحْكي نايمْ؟ هيِّ يلْعَب!
سالي: لا تفعلي.
حَليم: توقفي.
كْريسْتابِل: سوف.
القِسّ لِمِترِيوسْ: إنَّها.
(ولكنَّ نَاندا قد لَمَسَت نينا من كتفها. تستيقظ الفتاة بغتة. تنظر إلى النَّاس حولها في اندهاش كبير. ومن غير ما إنذار، تغطي وجهها بيديها وتبدأ بالنشيج).
نَاندا: نينا ليشْ إِبكي؟ نو إبكي نينا. تَعي يلَّلا نامْ.
نينا ( وهي تجهش بالبكاء ): أريد بابا. أريد أن أتحدَّث إلى بابا.
نَاندا: نو جُودْ إنتِ نينا. نو كولْ. نو نامْ.
نينا: لا أريد أن آكُل. لا أريد أن أنام. أريد أن أتكلَّم مع بابا.
( تهرع باتجاه الدرج. تجلس قرب الهاتف ).
نَاندا:قاعِدْ إنتِ هونْ ليشْ نينا؟ إنتِ برْدْ، إنتِ مُوتْ.
نينا : سيطلبني بابا قريباً على التلفون.
نَاندا: مينْ قالْ بابا تلفون؟
نينا: أنا قُلْت. أنا أعرف.
( تضعُ نينا رأسها على الدّرجة العليا. نَاندا تقترب منها وكأنها صنم).
نَاندا: أوكّي، أوكّي، نينا. إنْتِ نامْ هونْ، أنا قاعِدْ هونْ.
( تَجلس مُلاصِقَةً لنينا، تُراقِبُ صِراعَها مَعِ النُّعاس، ثُمَّ تَرْفعُ رأسَها وتَضَعَهُ بِحَنانٍ في حِجْرِها. تَسْتسْلِمُ نينا للنُّعاس. تَبْدَأُ نَاندا بِهَزّ رُكْبَتيْها إيقاعيّاً، فيما تُهَمهِمُ شَفتاها السَّوداوانِ بِأُغْنِيَتِها الحَزِينة ).
نينا( تُغَنِّي برقَّة وشجى ):
Doy Doy Doy
Doy ya baba
By by by
By ya baba
On ne babo
Ety ini ya
Gal la rabey
Si ti ini ya
Gal lin ga la tey
Pani ni ya
Babo tey by
Do wa ni ya
Doy doy doy…
( فيما تُغني نَاندا لنينا كي تنام يأخذ المسرحُ في التَّعتيم، ورويدًا رويداً، يتحوَّلُ اللون الخافت للفجر إلى رمادي داكن. وفي الوقت عينه، تنسحب الشخصيات الأخرى بصمت، كلٌ إلى زاويته أو زاويتها، في آخر المسرح. ينسدل الستار فيما تستمر ركبتا نَاندا بالحركة الإيقاعية وتُهَمهِمُ شفتاها السوداوان بِغِنائها الرَّقيق الشَّجي ).
صيف 1988