د. صلاح الدين الحريري

حرائقُ صيدونْ





النص الكامل

 

جميع الحقوق محفوظة لنيرفانا صلاح الدين الحريري

الطبعة الأولى – (تشرين أول 2012)

صيدا – لبنان

 

 

 

 

 

الإهداء

إلى إبنتي نيرفانا،

حكايةً مِنْ وَحْيِ عصْرَيْن، وَحْيِ الممكن والمستحيل.

 

 

 

 

 

;the quest for the truth is the ambition of the innocent

transcending it is the gift of the wise

 

 

البحثُ عن الحقيقةِ مِنْ طموحاتِ البراءةِ، أمّا تجاوزُها فَمِنْ نِعَمِ الحكمة.

 

 

شخصيات المسرحية

أ- شخصيات حبكة الزمن الحاضر:

سامح الجُمَري    : الراوي لأحداث المسرحية وشخصية أساسية فيها

نوّارة             : نوريّة على كورنيش البحر

ثُدَيَّة               : إبنة نوّارة

نُهَيَّة               : زوجة سابقة لسامح

تمارا              : عشيقة سابقة لسامح

هادي              : حفيد سامح

الشحّاذ

الصيداويّة الغريبة

 

ب- شخصيات حبكة الزمن الفينيقي:

عبد الجمال       : شاعر صيدون الفينيقيّة

تينِسّ              : ملك صيدون الفينيقيّة

قائد الجند

الضابط الأوّل

الضابط الثاني

الضابط الثالث

زينون : فيلسوف

رئيس كهنة معبد أشمون

عبد الصبا: شاعر من صيدون

عبد الودّ : شاعر من صيدون

دامو     : إبنة فيثاغورس اليوناني

 

صبايا من صيدون:

هَتونْ

عشْقاءْ

عُسَيْلَة

يارا

نَسْمَة

رُهَيَّةْ

شباب من صيدون:

مِشْباحْ

هَلْهالْ

عَدَّاءْ

جَيَّاشْ

هَفيفْ

ميمونْ

 

لَهْفانْ    : زوج نسمة

مَهَّارْ    : ممثّل صانعي الزجاج

ممثّل التجّار

ممثّل الصيّادين

ممثّل بنّائي السفن

 

 

 

     (يرتفع الستار عن فسحة رحبة من الكورنيش الغربي لمدينة صيدا، تطلّ مباشرة على امتداد رمليّ يصل إلى الشاطيء. على الحافة الغربية للكورنيش يقوم درابزين فضيّ اللون بإرتفاع متر واحد وبضعة سنتيمترات. قناديل الكهرباء، المنبثقة من الدرابزين نفسه، ترتفع في الهواء لمسافة لا تتعدّى الأربعة أمتار. في أقصى يمين المسرح يُرى الآن قنديلٌ يقابله آخرُ في أقصى يسار المساحة المرئية. في الوسط، بينهما، يُرى صندوق معدنيّ للنفايات مثبّت بالدرابزين. إلى يمين الصندوق تقف طاولة مربّعة وكرسيّان، ومثلها يَرى الناظرُ إلى يسار الصندوق.

     على الحافة الشرقية للكورنيش تنتصب شجيراتُ النخيل، يرتفع كلٌّ منها في الهواء، من مربّع ترابيّ يحفّ به البلاطُ من جوانبه الأربعة، لمسافة لا تربو على أربعة أمتار.

     الإمتداد الرملي بين الدرابزين والشاطيء لا يزيد عن المئة متر تقريباً، وهو ينسرح جنوباً حتى استراحة صيدا وشمالاً حتى مصبّ نهر الأوّلي في البحر. غربا ًغرباً تأخذ العينَ مياهُ البحر صوب الجزيرة التي تنتصب فوق صخورها المنارةُ التي يومض قنديلُها وينطفيء، ثم يومض وينطفيء، طيلة الليل، تنبيهاً لقوارب الصيد وللسفن القاصدة مرفأَ المدينة إلى خطر اصطدامها المحتمل بالصخور الطالعة من الموج، إذا ما هي اقتربت أكثر فأكثر. في ضوء النهار، تبدو قواربُ الصيد، بعضها يندفع إلى عرض البحر، وبعضها عائد إلى المرفأ.

     في الفضاء الرحب تتناثر موشّحاتُ الغيوم.

     الزمنُ متواطيء مع كافة فترات الليل والنهار، متواطيء كذلك مع الحاضر والماضي، ذلك لأنه، في آن معاً، زمنُ الوعي اليقينيّ، كما هو زمنُ التأمل وأحلام اليقظة، كما هو زمنُ التاريخ ِوالأسطورة— التاريخ ِهاجساً بظلاله من القلعة البحرية إلى القلعة البرية، من الأبنية المسرفة في القدم إلى الزواريب والأزقة التي تتجه كلها، بإصرارٍ صموت، إلى قلب المدينة القديمة. تداخُلُ الأزمنة والأوقات بعضها ببعض فيه شيءٌ من أجواء السحر التي تُجَذِّرُكَ في اللحظة وهي تأخذك بعيداً عنها، ثم تلغي اللحظةَ من وجودك بهمهمات الظلال الهابطة على أرجاء المكان... تهبط عليه وعليك من كل ما هو حوله وحولك، رأيتَه أنتَ أم لم تَرَه.

     من يسار المسرح يدخل سامح الجُمَري، رجل أشيب الشعر، تميل قامته إلى شيء من الطول، وتدل أمارات وجهه على أنه نَيَّفَ على الستين من العمر. يتمشى الهوينا إلى وسط المسرح. عيناه الزائغتان تمرّان على كل شيء في مساحة الكورنيش ولا تستقران على شيء بعينه. بيده عِرْقُ ياسمين. يتأمل زهراته البيضاء ثم يبتسم لها ويشمّها. يأخذ نفساً عميقاً ويزفر زفرة هادئة طويلة. يصعّد طرفه في السماء متأملاً قطعَ السحاب المتناثرة في الجوّ. يبتسم لها ويهزّ رأسه. يمرّ به ويجوزه رجلٌ وامرأةٌ في ثياب الرياضة، وهما منهمكان، أخذاً وردّاً، في حديث مسترسل بالإيماء، وكلٌّ منهما يحمل فنجان قهوة من البلاستيك البنيّ اللون. فجأة يقفان، ينظران إليه وكأنهما في حضرة مشهد غريب، ثم يتمتمان، ثم ينطلقان من جديد ويغيبان عن الأنظار. ثم يعبر به فتى على دراجة. ثم تمرّ به صبيّتان في ثياب الرياضة، وهما تختلسان النظر إليه وتُسِرّ إحداهما إلى الأخرى بشيء تضحكان له معاً، ثم تغيبان عن النظر.

     يودّع سامح الجُمَري كل العابرين به والعابرات بنظرة زائغةوابتسامة يبتسمها لنفسه أكثر مما يبتسمها لهم ولهنّ. يغمض عينيه للحظة، ثم، وكأنما وطّد العزم على شيء، يفتحهما ويمشي خطوات صوب مقدمة المسرح.)

سامح الجمري (مخاطباً الجمهور) : أنتم مثل كل العابرين بي والعابرات. فكلّكم رآني وكلّكم يراني، مثلهم ومثلهنّ. ولكنْ ليس أحدٌ منكم يعرفني. فأنا... لم أستوقف منكم أحداً على هذا الكورنيش أحدّثه عن الطقس أو أسأله عن عنوان مطعم أو مقهى. وأنا... لم أرتشف مع أحد منكم يوماً فنجانَ قهوة على طاولة واحدة من الطاولات المفروشة على امتداد هذا الكورنيش. وحيداً أتمشى عند ٳطلالة الشمس أو عند غروبها. وحيداً أتوقف لأسرّح النظر في أمواج البحر والجزيرة القريبة والأفق البعيد. ووحيداً أمضي إلى سيارتي، أندسّ فيها، وأسوّي هيئتي في مرآتها، ثم أنطلق عائداً إلى بيتي في أوّل عبْرا. لكلّ مَنْ رآني ولا يعرفني أقول: أنا سامح الجُمَري، شخصية من شخصيات روايات أربع تجري أحداثُها في هذه المدينة، مدينتكم صيدون، وضعها كاتبٌ أظنه الآن بينكم ولكني لم أتعرّف إليه بعد. كل ما في الأمر أنني تعبتُ من كثافة الصفحات التي أسكنَني فيها ونسيني، وسئمتُ من رائحة الورق فتسللتُ هارباً لعلّني أستنشق الهواء نقيّاً، منعشاً، كما يفعل البشرُ الذين من لحم ودم. وإن أكنِ الآن في الرابعة والستين، سنةِ تقاعدي من التدريس في الجامعة، كما تحكي عني الرواياتُ الأربع، فأنا لا تزال فيَّ بقيّةٌ من الشعر وبقيّةٌ من الحلم لأصوغ لكم مسرحية عن مدينتكم في عصرٍ غابرٍ لها. ولماذا اهتمامي بمدينتكم؟ الأمر أبسط من بسيط . صاحب الروايات جعلني واحداً من أبناء هذه المدينة. ولقد ألحّ على هويّتي وألحف حتى ألفتُها أنا وألفتْني. حتى أنها، مرة بعد مرة، أثارت فيَّ حافز الكتابة، ربما لأؤكد، من ناحية، على عاطفة انتمائي للمدينة وولعي بأخبار ماضيها، ومن ناحية أخرى، لكي أبادر إلى البحث عن المؤلف الذي ابتدعني ونسيني، فلعلني ألتقيه وأعلن له، صراحةً، تحرّري من عبوديتي لرواياته.

(من يسار المسرح، تدخل النوريّة المعروفة بإسم نوّارة، وهي امرأةٌ فارعةُ الطول، وثيرةُ الردفين، فاحمةُ الشعرِ المتفلّتِ من ثنيّات منديلها الأسود. الرداء المنهدل على كامل جسمها تكاد أطرافُه تمسّ بلاطَ الكورنيش. لعلها في الأربعين من العمر. تتقدم، بخطى ثابتة، نحو سامح وتبتدره بالإبتسامة التي مِلْءُ وجهها.)

نوّارة (لسامح): تبغي صحبةَ امرأةٍ، يا عمّ؟

سامح (ملتفتاً إليها، وكأنما استفاق من حلم): نعم!؟ قلتِ ماذا؟

نوّارة: قلتُ: تبغي صحبةَ امرأةٍ، يا عمّ؟

سامح (بشيء من الحرج والحدّة): ولكنْ من أنتِ؟ وماذا مني تريدين؟

نوّارة: أنا نوّارة... نوّارة المسؤولة عن نوريّات هذا الكورنيش.

سامح: يعني؟

نوّارة: لا تقلْ لي بأنكَ لم تلاحظني من قبل.

سامح: وَهَبيني لاحظتُ، فماذا تريدين؟

نوّارة: أريد لكَ الخير.

سامح: الخير؟! I seeee . ومن قال لكِ أني أرجو الخير منكِ أو من أي كائن آخر على وجه هذه الأرض؟

نوّارة ( بلطف مدروس): أرأيتَ كيف أنك تعاند وتكابر؟

سامح: أعاند؟! أكابر؟!

نوّارة: إطمئن من ناحيتي. ثم لماذا لا تتطامن مثلي للحياة؟ فالعمر قصير... حتى وإن طال. تعالَ معي.

سامح: تعالَ معي!! إذهبي عني بحقّ السماء.

 نوّارة: أو خُذْني معكَ حيث تشاء. خذني إلى بيتكَ بعيداً عن الناس، إن كان ذلك يناسبكَ أكثر، فالسعر لن يتغيّر. ولسوف تعشقُ نوّارة لو أنكَ عرفتَها من قريب.

سامح: أنتِ لا ريب من قبيلة تتعاطى السحر. فبحقّ إله الساحرات اتركيني... أنظم حبكةَ مسرحيتي بسلام.

نوّارة (محاولةً لمس الياسمين الذي في يده): هذا الياسمين... لي أنا؟

سامح (مشيحاً بِعِرْق ِالياسمين بعيداً عنها): ليس لكِ! وليس لأحدٍ غيرك!

نوّارة  (تقترب منه وكأنما لتسارره بشيء): إسمعني جيداً وافهمني جيداً. البارحة كانت تحوم حولكَ نوريّةٌ غريبة ليست من شلّتنا. لعلّها من شلّة منطقة الكينايات على النهر. نصيحتي لكَ أﻻّ تتعاطى معها أبداً. (همساً) أظنّها تشتغل للمخابرات!

سامح: وما لي أنا ولكِ ولها وللمخابرات! أتركوني أتمشى بسلام.

نوّارة: أيَّ سلام تبغي وأنت مشوّش الأفكار، تمشي وتحدّث نفسك، كل يوم كل يوم، وكأنك تحدّث شخصاً معك... وأنتَ لا أحدَ بقربك!

سامح: ما شاء الله! كان ينقصني نوريّة تحلّلني! بربكِ اغْرُبي عن وجهي واتركيني بسلام.

نوّارة: كيف أغرب عن وجهكَ وأنا صاحبةُ الوجه المليح؟ إهدأْ، إهدأْ، يا عمّ، فمثلي مَنْ بيدها أن تعطيك السلام.

سامح: السلام يأتيني من داخلي. لستُ بحاجة إليكِ ولا إلى أحد من أفراد شلّتكِ. هلاّ رحلت ِعني الآن.

نوّارة: كيف أرحل عنكَ ومهنتي هي الرحيلُ إليكَ؟

سامح: وتجيدين فنَّ الكلام أيضاً!

نوّارة:علّمتْني عِشْرَةُ الرجال.

سامح: عِشْ كثيراً، يا سامح، تسمعْ كثيراً.

نوّارة: وَتَرَ كثيراً، يقول المثل.

سامح: عجباً! عجباً!

نوّارة: إسمُكَ إذن سامح.

سامح: ما كان قصدي أن تعرفيه.

نوّارة: عرفتُه وانتهى الأمر. في المرّة القادمة تخبرني بإسم العائلة.

سامح: لن تكون هناك مرّة قادمة.

نوّارة: إسمعْ، يا رجل.  تظنني غريبة عنكَ؟ أتطفّل عليكَ؟ كُنْ مطمئناً من ناحيتي، فأنا أعرفُكَ من زمان.

سامح: تعرفينني من زمان! ومتى كان بيني وبينكِ حديث قبل اليوم؟ متى؟

نوّارة: لعلكَ تذكر كيف كنتَ تأتي، من سنوات، إلى ضفة النهر على الكينايات، ومعكَ امرأة، تجلسان في سيارتكَ وتدخّنان... يعلم الله ماذا.

سامح: وما شأنكِ بما كنّا ندخّنه نحن؟ كنتِ تتجسسين علينا؟

نوّارة: بل كنتُ أراقبكما وألعن في سرّي المرأةَ التي معكَ لأنّها كانت تقطع برزقي. فالكينايات كانت مطرحي ومسرحي في تلك الأيام.

سامح: ولكنّ المرأة تلك كانت زوجتي.

نوّارة: ما همّ؟ كان باستطاعتي أن أسلّيك على طريقتي، طريقةِ نوّارة، ساعةً أو بعض الساعة... لو لم تكن تأتي هي معك.

سامح: وما الذي أوحى إليكِ بأنني كنتُ سأرضى... لو أنكِ تجرّأتِ وعرضتِ نفسكِ عليّ؟

نوّارة: لا تكنْ قاسياً يا رجل. وعلى كل حال، فمنذ شهور وأنا أراكَ تتمشى على هذا الكورنيش وحدك. تطمّنتُ أنكَ هجرتَها... أو أنها هجرتْكَ. المهم هو الآن. الآن بمقدوركَ أن تحصل عليّ. أنا أعرف كيف أسلّيكَ. صدّقْني . ثم إنني سأحكي لكَ حكاية الحليب الفاتر.

(من يسار الكورنيش يدخل صبيّ في التاسعة أو العاشرة من العمر. يراه سامح ويضطرب لمرآه كلُّ  كيانه. عواطفه الآن متضاربة، فهو ينقّل عينيه بين الصبي ونوّارة في إرباك شديد ولهفة أشدّ.)

سامح (وكأنما لنفسه): نوّارة من جهة وحفيدي من جهة! فكيف أركّز على مسرحيتي الآن؟ (لنوّارة) بربكِ اتركيني لحظة مع الحفيد، فليس يجوز أن يراكِ بالقرب مني، ههنا.

نوّارة: أفهم أفكارَكَ. سأختفي حتى تنتهي منه ثم أعود.

سامح: بل لا تعودي.

نوّارة: حتماً سأعود.

(تبتسم نوّارة له ابتسامتها التي ملء وجهها وتتلاشى في المسافة. يقترب الصبي من سامح أكثر فأكثر.)

سامح (فاتحاً ذراعيه لاستقباله): هادي! حبيبي! أتيتَ لزيارة جِدّو؟ تعالَ إليّ، تعال.

(يلفّ ذراعيه حوله ويقبّله. ينظر هادي إلى عِرْق ِالياسمين في يد سامح ويتحسس زهرات الياسمين البيضاء.)

هادي(مفلتاً نفسه من ضمة سامح): تظلّ تحمل عُروقَ الياسمين يا جِدّو؟

سامح: هي التي تظلّ تناديني لأحملها فأحملها.

هادي: في صيدا تزرع الياسمين في أحواض البرانده. وفي قَطَر، حينما تزورنا، تفتش عن الياسمين في حدائق جيراننا. تلحّ على ماما وبابا أن يأخذاكَ إلى مشتل الزهور لتشتري لنا شتلةَ ياسمين تزرعها لنا في حديقة البيت. ماما تقول: جدُّكَ، يا هادي، يأخذ معه الياسمين إلى فراشه حينما يهيّء نفسه كل ليلة للنوم. فهل صحيح ما تقوله ماما؟

سامح: بالتأكيد. بل أكثر من هذا. فالياسمين أوقظه معي أنا كلّما طلع علينا الصباح. أو لعله هو الذي يوقظني.

(فجأة يحدّق هادي في بلاط الكورنيش ويأخذ يلفّ حول نفسه ويدور، رافعاً يديه في الهواء تارة، خافضاً إياهما تارة أخرى.)

هادي: أنظرْ معي. أنظرْ إلى ظلّي على الأرض... يقلّدني في كل حركاتي.

 سامح: الظلّ يحبّ تقليدَ الناس.

هادي: وأنا أحبه أن يقلّدني. (يرسو في مكانه متفكراً) ولكن ما هو الظلّ، يا جِدّو؟

سامح: ليتني أدري. ولكني سأحكي لكَ حكاية هي بمثابة الظل لما كان ولما جرى في مدينة جدّك أيام الفينيقيين... الناسِ الذين سكنوا المدينة في ذلك الزمن البعيد البعيد.

هادي (متلفتاً حوله): ولكن أين هم الآن ليكون لهم ظلّ؟ (ينقّل ناظريه فوق بلاط الكورنيش) لا أرى سوى ظلّي وظلّكَ وظلّ الدرابزين.

سامح: إكتف ِالآن بالحكاية، وسيرسم الظلُّ نفسه تحت عينيك على بلاط الكورنيش شيئاً فشيئاً.

هادي: ولكنني جئتُ إليكَ لأمر آخر، يا جدّو.

سامح: هذا لا يمنع أن تستمع الآن إلى الحكاية.

هادي: قبل الحكاية، أريدكَ أن تذهب معي إلى قَطَر لنجلس على الأرض في غرفتي وتساعدني في تركيب ال puzzle التي اشتريتَها لي من شهرين.

سامح (متظاهراً بالدهشة):  هادي! حبيبي! لم تستطعْ أن تحلّ لغز ال puzzle هذه المرة؟ لم تستطع أن تؤلّف بين قِطَعِها فتحوّلها إلى لوحة كاملة؟ (مداعباً) أوووه! هاديNooooo!

هادي: ولكنّ ال puzzle كبيرة هذه المرة. وحينما تساعدني سأنجح في تركيبها.

سامح: شرط أﻻّ تخبر ماما أو بابا بالأمر.

هادي: وشرط أن تظل ساكتاً أنتَ، يا جِدّو.

سامح: إطمئن، فليس لجدّو إﻻّ السكوت في حضرة الماما والبابا... لأنهما مُوَسْوَسانِ بقدرتكَ على حلّ الألغاز وتركيب كل أنواع ال puzzles .

هادي: هيّا بنا إذن إلى قَطَر. We have a mission!

     (يبتعد قليلاً)

سامح: هادي، حبيبي، لا تبتعدْ. إرجعْ إليّ. لا تذهبْ إلى السيارة الآن.

هادي (يظل يبتعد): بل سأنتظركَ في السيارة. ثم نذهب إلى قَطَر.   Ok جِدّو؟

(يتلاشى هادي في المسافة. مباشرةً، لحظةَ غيابه، تدخل من يسار المسرح امرأةٌ رشيقة الخطى، أنيقة الملبس، وتخطر بالكعب العالي صوب سامح. هي في الخمسين من العمر وإن تكن تبدو أصغر من ذلك بسنوات.)

سامح: نُهَيَّة! كيف عرفت ِأنني هنا؟

نُهَيَّة : لا تجيبُ على السيليولير، ولا أنتَ في البيت، ولستَ على ضفّة النهر تحت الكينايات، ولستَ في معبد أشمون،  فأين تكون إن لم تكن على هذا الكورنيش الذي أكل من اسكربينتي ما أكل أيامَ كنّا لا نزال زوجاً وزوجة؟

سامح (ضاحكاً): صحيح. صحيح. كثيراً ما كنّا نتمشى على هذا الكورنيش.

نُهَيَّة: وهل هناك بقعة أرض لم نكن نتمشى فيها؟

سامح: تركْنا ظلالَنا في كل مكان ورحلنا كما ترحل الغيوم. أليس كذلك؟

نُهَيَّة: أنتَ اخترتَ الرحيل.

سامح: بل أنت ِالتي طلبت ِالطلاق.

نُهَيَّة: ولماذا قبلتَ؟

سامح: وكيف أعيش مع امرأة تؤثر الرحيل؟

نُهَيَّة: لم أسمعك تمانع ولو بكلمة واحدة. كأنكَ كنتَ تنتظر الفرصة من السماء لنفترق.

سامح: كان يراودني الإحساس بأنك ِستطلبين الطلاق قبل أن تطلبيه.

نُهَيَّة: لأن ذلك كان من أمانيّكَ.

سامح: بل لأنكِ ألحَحْت ِعليَّ بترك منزلي في عبْرا والعيش معك ِفي بيروت.

نُهَيَّة: ولكن عملي في بيروت. والمنطق كان يقضي بأن تنتقل أنتَ إلى بيروت... خاصةً وأنّ عملكَ في الجامعة قرب اليونيسكو.

سامح: كنتُ أقضي نصف الأسبوع معك ِفي بيروت والنصف الآخر مع ابنتي وشقيقتي في عَبْرا. حاولتُ جهدي أن أعدل بينكنّ... ولكن كيدكنّ عظيم. كلّكنّ اتهمتُنَّني بالتقصير.

نُهَيَّة: الشيء الذي لم تفهمه، ولم تُرِدْ أن تفهمه أبداً، هو أنّ ابنتكَ وشقيقتكَ كانتا غير راغبتين في وجودي معكَ وفي قلب حياتكَ. كنتُ أرى الغيرة تأكلهما وأنتَ تغنّجني أو تراقصني أو تضمّني...  حينما كان يأخذ عليك الشراب. كانت نظراتُهما تأكل من لحمي.

سامح: ولكنّ غيرتهما لم تغيّر من سلوكي معك ِ.

نُهَيَّة: صحيح. ولكنني لم أَعُدْ أستطيع المجيء إلى بيتكَ في عَبْرا. صرتُ أخاف على نفسي.

سامح: سمعتُ هذه النغمة من قبل. الحقيقة أنك ِكنت ِتخطّطين للطلاق.

نُهَيَّة: ولماذا أخطّط إن لم تكن لديّ الأسباب؟

سامح: السبب الحقيقي هو أنك ِتعوّدت ِعلى التغيير.

نُهَيَّة: أيَّ تغيير تعني؟

سامح: تعرفين الذي أعنيه. ولستُ أستنكر هذه النزعةَ فيك ِولا ألومك ِلأجلها. الحرية مبدأي في كل شيء.

نُهَيَّة: أعرف ذلك. ولكنني لم أكن أفكر بغيركَ حين طلبتُ الطلاق.

سامح: شيءٌ في تكوينك ِكان يشدّك ِإلى مغامرة جديدة... كما كانت مغامرتنا أوّل الأمر. أنت ِدائماً تقذفين بنفسك ِإلى هوّة الإحتمال. هذه طبيعتك ِ. ولن تتغيّري أبداً.

نُهَيَّة: سمعتُ هذه النغمة من قبل. على كلّ حال، لم آت ِإليكَ لنتحاور في ما كان وما كان يمكن أن يكون من أمر علاقتنا. جئتُ لأقدّم لكَ نصيحة لوجه الله. أنتَ الآن بحكم المتقاعد، ولذلك عليكَ مراعاة سياسة الجامعة في موضوع نسبة النجاح لهذا العام. الطلاّب يتذمرون.

سامح: المطلوب تنجيح الطلاّب... وإلاّ! أهذه هي النصيحة؟

نُهَيَّة: لا تتشنّج الآن واسمعني جيّداً. وحدك لن تغيّر العالم. الدنيا تبدّلتْ، ولم يعد أحد يهتم بالثقافة. الطلاّب يريدون الشهادة وليس العلم. والأساتذة يريدون المعاش وليس التعليم. الوضع اللبناني ألغى كلّ القِيَم. فلا تحلم باستمرار ما كان. واليد الواحدة لا تصفّق.

سامح: كليشيهات أعرفها.

نُهَيَّة: ولكنكَ لم تعرف ِالفراغَ بعد. نصيحتي أن تراعي الظروف لتحصل على عقد للتعليم بالساعة للعام القادم. أنا قلقة عليكَ لأنني أعرف أنّكَ لن تتحمّل عبء الفراغ.

سامح: سأحتال على الفراغ من أي جهة أتاني.

نُهَيَّة: فكّرْ برويّة فيما قلتُه لكَ. والآن عليَّ العودة إلى بيروت. نلتقي أوّل الأسبوع لإصدار النتائج، فلا تنسَ.  ثم إنكَ تستطيع أن تزورني في البيت بعد النتائج. كأس نبيذ سيرطّب لكَ مزاجَكَ.

     (تلوّح له بيدها وهي تمضي بعيداً عنه فيلوّح لها بيده مبتسماً في شيء من الحزن... من زاوية أخرى من المسرح، تدخل امرأة في الخمسين من العمر، متشحةً بالسواد، ينوء وجهها بملامح الحزن العميق. يلمحها سامح تتجه نحوه فيضطرب ويتململ ثم يحاول أن يتمالك نفسه.)

سامح: تمارا؟! ما الذي تفعلينه ههنا؟ ما الذي أتى بك ِإليَّ؟

تمارا: أخذتْكَ المفاجأة؟ لا تخفْ! لا أريد منكَ شيئاً. أريد فقط أن أذكّركَ...

سامح: ولكنني لا أتذكّر شيئاً.

تمارا: بل لعلكَ تتذكّر أنكَ لَمَّحْتَ لي مرةً...

سامح: بل أتذكّر أنني لم ألمّحْ إلى شيء!

تمارا: بل لَمَّحْتَ أكثر من مرة إلى أنكَ...

سامح: لا تذكّريني بالذي لم يكنْ... ولا هو كان.

تمارا: ولكنه كاد أن يكون... لولا أنكَ...

سامح: لولا أنني؟! لولا أنني؟! كلُّ ذلك في خيالِك ِكان.

تمارا: الذي في خيالي... إنما كان ظلاًّ للذي في الحقيقة ِكان. ظلاًّ، لا وهماً.

سامح: خيالُك ِمحشوٌّ بظلال ِالأوهام.

تمارا: والذي تركتُهُ لأجلكَ... هل وهماً، مجرّدَ ظلٍّ في خيالي كان؟

سامح: بل تركتِهِ لسبب آخر. للسبب الذي تعرفين.

تمارا: حجّتُكَ هي الوهمُ الذي تتستّرُ به حتى من بديهيات ِ نَفْسِكَ... حتى من وَلَعِكَ الطفوليّ بالإختباء ِوراءَ الظلالِ... ظلالِكَ أنتَ.

سامح: إرحلي عنّي! أتركيني أغرقْ في حبكة مسرحيتي. فلا بدّ لي أن أنتهي منها قبل هبوط الظلام.

     (بصمتٍ ممزوج بالدهشة والأسى، تتراجع تمارا وتتلاشى في الزاوية التي منها أتَتْ. تدخل امرأة صيداويّة غريبة وتخاطب سامح)

الصيداويّة الغريبة: كلّما مررتُ بكَ على هذا الكورنيش تنظرُ إليَّ تلك النظرة الغريبة. لماذا تنظر هكذا إليَّ؟

سامح: أنا لا أنظرُ إليك ِأبداً. أنا أنظرُ إلى كلّ الأشياء.

الصيداويّة الغريبة: إن كنتَ تظنّني فقدتُ عقلي لأنني أحكي مع نفسي وأنا أمشي، فأنتَ غلطان.

سامح: لم يخطرْ ببالي شيءٌ من هذا.

الصيداويّة الغريبة: بل خطر ببالكَ كلُّ شيء. أنا صيداويّة عتيقة تفهم حتى لغة الطير. وأنتَ مثلي، طائر يمشي على الكورنيش ويحدِّثُ نفسَه.

سامح: أنا؟!

الصيداويّة الغريبة: لا تَتَلَبَّكْ. فأنا لا أحسبكَ مجنوناً. وإلاّ كنتُ المجنونةَ أنا. والمجنون لا يعرف أنه مجنون.

سامح: سيّدتي على حق.

الصيداويّة الغريبة: طبعاً سيّدتُكَ على حقّ! تعرف لماذا؟ لأنني أعرف مشكلتي وأعترف بها. لنفسي على الأقلّ.

سامح: اللهُ المستعانُ على مشاكلنا، يا سيّدتي.

الصيداويّة الغريبة: ولكنّ الحديث عنها يخفّف عنّا.

سامح: تحدّثي عنها إلى جارة من جاراتك ِأو قريبة من قريباتك... ممّن تأنسين لعشرتها.

الصيداويّة الغريبة: لو كان ذلك بالسهولة التي تتصورها لما كنتُ أتمشّى مثلكَ كلّ يوم على هذا الكورنيش. مشكلتي هي مشكلة ابنتي، ولا أستطيع أن أفضحها مع الجارات والقريبات.

سامح: اللهُ المستعانُ، يا سيّدتي.

الصيداويّة الغريبة: واللهُ أرسلكَ إلى هذا الكورنيش لكي أحدّثكَ بالأمر. ولأنّكَ لا تعرفني ولا تعرف ابنتي، فأنا معكَ في أمان. ولعلّكَ تسدي إليَّ بنُصح ٍينقذ ابنتي ممّا هي فيه. القصّة كلّها تتعلّق بنوريّة من نوريّات هذا الكورنيش... وبالشيء ِالذي تَعَلَّمَهُ منها زوجُ ابنتي.

سامح: لا أعرف عمَّ تتحدّثين. ولا أريد أن أعرف. عذراً، سيّدتي، عذراً. الطبيب نصحني بالمشي السريع.

(يبتعد عنها سامح مسرعاً. تتلاشى هي في المسافة بينما يدخل من يسار المسرح

 شحّاذٌ هَرِمٌ يتوكأ على عكازه. خطاه تقوده مباشرة نحو سامح. يمدّ إليه يده مستعطياً.)

الشحّاذ: من مال الله... يا عباد الله... من مال الله...

(يستخرج سامح من جيبه قطعة نقدية ويدسّها في اليد الممدودة نحوه. يأخذها الشحّاذ ويمضي في سبيله، متوكئاً على عكازه بيد، رافعاً اليد الأخرى، كما عينيه، إلى السماء، مردّداً وكأنما لنفسه:)

الشحّاذ: اللهمَّ أَظِلَّهُ بظلّكَ يومَ لا ظلَّ إلاّ ظِلُّكَ...

(يتلاشى في المسافة. يجد سامح نفسه وحيداً. يزفر زفرة طويلة وهو يتأمّل المكان برويّة. يلتفت صوب الجمهور، يشير إليهم بيده أنِ انظروا إلى مؤخرة المسرح، ثم يفتح فمه ويخاطبهم:)

سامح: هناك، في آخر المسرح، وهكذا هكذا، ستبدأ مسرحيتي كما أتخيّلها. سينسدل تابلو لحديقةٍ تحتلّ فسحةَ اليمينِ منها شجيراتٌ كثيفةُ الورق ِالأخضر. (ينسدل التابلو توّاً). ثم يدخل رجل في الخامسة والأربعين من العمر، ملتفّاً برداء من الأردية التي كانت سائدة زمن فينيقيا القديمة. (يدخل الرجل). سأجعله يتمشى الهوينا ويتأمل الغيوم في السماء مليّاً مليّاً. ثم سأجعله يزفر أنفاساً شجيّة مرة بعد مرة. (الرجل يحقّق رغبات سامح كلّها). إنتبهواإليه جيداً. إنه شاعرٌ من شعراء صيدونْ. إسمه عبد الجمال. ركّزوا أنظاركم عليه. فها هو يتأمّل الغيوم من جديد. من الخلفية، سينبعث لحنٌ شجيٌّ من آلة الكمان، مستعاراً من مقطوعة الصيف لِ VIVALDI، ليرافق القصيدة التي سينشدها عبد الجمال. أنظروا معي، فها هو يفتح فمه لينشد...

عبد الجمال (منشداً، على ألحان الكمان): لو كان ينبتُ الحشيشُ في الغيوم ِ

لاسْتعارت ِالسماءُ من حقولنا اخضرارَها

لكانت ِالحدائقُ النبيلةُ الترابْ

أَرَّقَها الحنينُ للسحابْ

فاسْتوفزتْ ونبّهتْ أشجارَها

وانتفضتْ في الجوِّ تستبيحُ مسربَ الرياح ِ

ترتقي مسارَها

تخوضُ خوضةَ الجنون ِفي الفضاء ِ

والفضاءُ يرتعي أوراقَها، أزهارَها، ثمارَها

فالأرضُ من فتنتها بحلمها غدتْ هي السماءَ،

والسماءُ من هيامها بها تعشّقتْ إصرارَها.

لو كان ينبتُ الحشيشُ في الغيومْ

لَوِ اسْتحالَ سُحْرَةً لجنّةٍ من طُرَف ِالنعيمْ

لكنتُ هرّبتُ الترابَ والحريمْ

في غطشةِ الليل ِالبهيمْ

إلى لفائف ِالسحابْ

إلى مهاجع ِالضبابِ والسرابْ

وفي مناديل ِالصبايا العطراتْ

لكنتُ رحّلتُ زجاجاتٍ ضنيناتٍ بماء ِالوردِ،

ماء ِالزهر ِ، بل حتى وفَوْح ِالياسمينْ

عذريّةً رحيقُها مختومْ

وكنتُ هرّبتُ سلالَ الزعتر ِالأخضر ِوالقصعينَ بل حتى عروقَ الهندباءْ،

من أرضِ أشمونَ، ورَوْضَ الفرفحينْ

وشَتَلَ الخبّيزةِ الفتيّةِ الأوراقْ

والقُرْصْعَنّي المستنيمَ على الترابْ

وَجُدُرَ الصُّبّيْرِ تحتلّ الربى

أو ترتقي مخاطرَ الحفافي

أوراقُهُ أرغفةٌ خُضْرٌ وللطيرِ محطٌّ ومآبْ

والنعنعَ البرّيَّ فوّاحَ النسيمْ

لو كان ينبتُ الحشيشُ في الغيومْ

وكنتُ آهِ كنتُ هرّبتُ العذارى الحالماتْ

في لهفات ِالشعر ِ، في أكسية ِ الحنين ِوالجوى مُنَعَّماتْ--

فالشعرُ والحنينُ والجوى

أجنحةٌ خفيّةٌ للمركباتْ- -

فيفترشْنَ السحبَ المخضوضراتْ

بنضرة ِالحشائشِ المسنّناتْ

ويلتحفْنَ العبقَ الأخضرَ، يستترْنَ من حملقةِ النجومْ

ومن مكائد ِالأرضِ التي حروبُها

تدنّسُ الطاهرَ والحميمْ

فليس للحُرَّة ِأن يُعَفَّ عن خبيئها المهفهف ِالمكنونْ

وليس للعذراء ِمن عذريةٍ تدومْ

لو كان ينبتُ الحشيشُ في الغيومْ

(من خلف الشجيرات يأتي صوتُ صبيّةٍ غنجُ النغمةِ، في ترداد مستطرِفٍ للبيتِ الأخير من القصيدة: )

لو كان ينبت الحشيشُ في الغيومْ...

(ويتلو الصوتَ أصواتٌ لصبايا أخريات يردِّدْنَ نفس البيت: )

لو كان ينبتُ الحشيشُ في الغيومْ...

(ثم لا تلبث الأصواتُ أن تجهرَ بثلاث صبيّات يطلعْنَ من خلف الشجيرات، ضاحكات، مرحات، ويخطرْنَ في بخترة أنثويّة صوب الشاعر الذي تنجلي الدهشةُ في عينيه عن تبيّنٍ منه لوجوههنَّ ومعرفةٍ سابقة له بهنّ. يتحلّقْنَ حوله.)

سامح (للجمهور): لتسهيل الأمور عليكم، سأختار لشخصيّاتي الفينيقية الأسماءَ التي آنسُ بها - - مثل هَتونْ وعَشْقاءْ وعُسَيْلَهْ- - وليس الأسماء التي توردها كُتُبُ التاريخ إلاّ في ما نَدَر.

     (ينسحب من وسط المسرح.)

عبد الجمال: ملهماتي! تلحقْنَ بي أبداً أنّى أكون؟ أخبرْنَني، بحقّ الصّبا والجمال: منذ متى وأنتنّ تسترقْنَ السمعَ من خلف الشجيرات البهية؟

عشقاء: منذ أنْ كنتَ وكنّا، يا عبدَ الجمال.

هتون: منذ أنْ صوتُكَ انسرب في آذاننا لحناً شجياً!

عُسَيْلة: بل منذ أُلْهِمْنا أنّ شِعْرَكَ رُقْيةٌ لنا تحرسنا من الذبول والأفول!

عبد الجمال: حَفِظَتْكُنَّ الآلهةُ من لاهياتٍ عابثات!

عشْقاء: وعزّةِ أشمونَ لقد أطربْتَنا بقصيدك. ولكن قل لي: كيف يجرؤ بكَ علينا خيالُكَ فيهجّرنا عن مواطيء أقدامنا؟ عن تراب بساتيننا ورمل شواطئنا؟ وكيف تأذن لخواطركَ أن تحرمنا من أرجاء مدينتنا فترمي بنا في مزالق السحاب حيث خَطَرُ السقوطِ عنها الحَتْمُ المحتوم؟

عبد الجمال: وهل بقاؤكنّ ههنا على الأرض سيمنع عنكنّ الخَطَرَ الأدهى من داهيات السحاب؟

هتون: أيَّ خطرٍ هو الذي ترمي إليه؟

عبد الجمال: آهِ للحسن السادر! فإنه لا يفقه من سُنّةِ الأرض شيئاً.

عُسَيْلَة: أن تكون شاعرَ الجمال فتحلم بنا ولنا، لَهُوَ الأمرُ الذي منكَ ألفناه، نحرّضكَ عليه ونستدرجه منكَ. أمّا أن تحلم بالخطر يدهمنا فتقضي علينا بالنفي إلى مدارج الرياح، فذلك ما لا تتمنّاه لنفسها منكَ الأنوثة.

عشقاء: وخاصةً أنوثتُنا نحن المهفهفات!

هتون (بنغمةِ من تلمّح إلى سرّ بينه وبينهنّ): كما تأباه لنفسها منكَ مَنْ كانت منّا من الشاعرات.

عبد الجمال (يلتفت مفتّشاً بين الشجيرات): أَيْنَها، نعمةُ الضياء ِ، دامو؟ حليفةُ النورِ أَيْنَها، الغرّيدةُ، وهّاجةُ الكلمات؟

عشقاء: لعلّها شَغَلَها عن موافاتنا إلى الحديقة حرقةٌ من قلبها اليوناني أو خطرةٌ من خطرات ذيّاكَ الخيال، فلبثتْ في مخدعها تنظمها أبياتاً أبياتاً.

عبد الجمال: قَدَرُها إذنْ صِنْوُ قَدَري: حربٌ على المفردات التائهات، تسلكهنّ بالقهر عقوداً من الكَلِم ِالطيّبِ، فترحّلهنّ من وحشة ِالموت إلى نهر الحياة.

عُسَيْلة: أَمْسِكْ عليكَ خيالَكَ الآن والتوريات، وأجبْنا، فلقد طرحنا عليكَ السؤال.

عبد الجمال: وهل يتذكر سؤالاً مَنْ كنتنّ ملءَ عينيه وسمعه السؤالَ والجوابَ؟

هتون: لن ندعكَ حتى تنبئنا بالسرّ من نيّتكَ أن ترحّلنا إلى غيوم السماء.

عشْقاء: أفصحْ عن سرّكَ، هيّا هيّا. فما هو الخطر الذي ألمحتَ إليه في أول الكلام، والذي تجهد بخيالكَ لِتَقِيَنا شرَّهُ ومُرَّهُ؟

عبد الجمال: سادرٌ حسنُكُنَّ، يا ملهماتي. الخطرُ واضحٌ كَلَهَبِ الشمس. ولكنكنّ تؤثِرْنَ على لَهَبِ الشمسِ الشفيفَ من غاشياتِ االقمر.

عُسَيْلة: جوابٌ منكَ هذا، أم تضليلُ شاعرٍ غَرامُهُ المُعَمَّيات؟

عبد الجمال: الأمرُ كلّه طوعُ كلمتين. مَلِكُ الفُرْسِ حاشدٌ جيشاً له مؤزَّراً بآلاتٍ ابتدعها حُذّاقُ مهندسيه، لا ندري طبيعتها ويعجزنا أن نقدّر فاعليتها حين تنتصب خارج أسوار مدينتنا.

عشقاء: من شهور ونحن نسمع بهذا الامر.

هتونْ: من شهور ونحن تتسلّل إلينا خيوطُ الحكاية.

عُسيلة: وإنْ كلُّ ذلك، في رأيي، لا يعدو أن يكون شائعة من تلكم الشائعات التي يروِّجُ لها التجّارُ ليبرّروا بها رفعَ أسعار سلعهم وبضائعهم.

عبد الجمال: ليس ذلك بالغريب على أخلاق التجّار. ولكنّ ذلك لا ينفي حقيقةَ أنّ عيونَنا المبثوثةَ على الطرقات المؤدية إلى صيدون، وعلى التلال المطلّة عليها، تأتينا دائماً بالخبر اليقين. الفُرْسُ عازمون على ضربِ حصار مكين حول المدينة، كما كانوا فعلوا من قبل في جبيل وصور، حتى نستسلم لهم فنفتح بواباتنا ونستقبلهم استقبال الفاتحين، أو يقتحمونا ويأخذوا مدينتنا غَصْباً.

عُسَيْلة: ألا تَراك بالغتَ وجمح بكَ خيالُكَ فأنتَ تتوهّم الخطَرَ وتستعجله كأنّه القَدَرُ لا مردّ له؟

عبد الجمال: بل هو القدرُ الذي لا مردّ له، قدرُ كل المدن الفينيقية سواء بسواء، كتبه عليها موقعُها الجغرافيّ كمعبرٍ لثلاثٍ من قارّات الأرض. الخطرُ داهمٌ أبداً أبداً، وهو أقرب إليكنّ مما تظنّنَّ، فغريبٌ عجيبٌ أمرُها الشعوبُ التي حولنا.

عشقاء: ولكن لِمَ طَمَعُ الغريبِ بِأرضنا؟ ولِمَ الحروب؟

عبد الجمال: كنتُ، ولا أزال، أقول: ألا يكفي الفراعنةَ نيلُهُمُ المُخْصِبُ لسهولهم، المنعمُ عليهم بالطمْي الأزليّ؟ ألا يكفي المتدافعين إلينا من بلاد دجلةَ والفراتِ مياهُ دجلتهم وفراتهم، تُنبتُ لهم الجنّاتِ طيَّها الجنّاتُ؟ ألا يكفي الفُرْسَ تدفُّقُ أنهارهم ورحابةُ سهولهم وجنى حقولهم وشموخُ جبالهم؟ ألا تُشبع كلُّ تلك الخيرات عيونَ الشعوب وبطونَها فتستمتع بما مَنَّتْ به عليها الآلهةُ وتغضّ الطرف عن حاضراتنا الفينيقية التي لا تتعدّى مساحتُها مساحةَ إقليم ٍمن أقاليمها؟ بالطبع لا! فذلك أبداً ما كان. ولعله أبداً لن يكون. الخطر علينا داهمٌ داهم.

عشقاء: هدّىءْ من روعكَ يا رجل، فها نحن حولك، كلُّ فاتنةٍ منّا إقليمٌ خالصٌ من أقاليم الجمال. عيونُنا جمراتٌ من غضبٍ، إذا ابْتُلينا. رموشُنا مبريّةٌ كالسهام، إذا استُعْدينا. أصواتُنا لمّاحةٌ بالنِّقَمِ، إذا لمسونا. أقدامُنا رفّاسةٌ من قِدَم ٍ، إذا كبّلونا. وإن غضبْنا على بشر، فنحن لا نبقي ولا نذر.

عبد الجمال: ماذا أفعل بظرفكنّ يا آسراتي؟ سأجاملكنّ فأقول: أنتنّ نِعْمَ الفارساتُ في زمن الحروب الأهلية. أمّا في حروبنا مع الغرباء فأنتنّ للحفظ والصون من السبي والهتك والذلّ والهوان، لأنكنّ للوجود معنى وللرجال تاريخٌ وهويّة. الحرب داهمة لنا ولَكُنّ، صدّقْنَني، وما غدٌ لناظر ٍببعيد.

عشقاء: ما لكَ اليوم تبدّلتَ من فم ِشاعر ٍإلى فم ِخطيبِ معارِك؟ إليكَ عنَّا وحديثَ الحرب، وهاتِ حدّثْنا عن المرأة والحب.

عبد الجمال: أعانتْني عليكنّ الآلهة. إذ بماذا أحدّثكنّ عنكنّ، وأنتنّ أنتنّ؟

هتون: حديثُ مواربة! لا يُطْرِبُ أذناً ولا ينهنه قلباً.

عسيلة: هاتِ إذن حدّثْنا، قبل أن ننسى وتنسى، عن المغزى، في قصيدك، من نيّتكَ بترحيل التراب والحريم معاً إلى مسارب الغيوم. ولِمَ ساويتَ بين التراب والحريم؟ هل هما بنظركَ من جوهر واحد؟

عبد الجمال: المرأةُ والجوهر!... تلك هي المشكلةُ المشكلة.

عُسيلة: المشكلةُ عندكَ فَحُلَّها.

عبد الجمال: المرأة، في رأيي، لم تكن يوماً شيئاً بذاتها ولذاتها.

عُسَيْلة: كيف، يا ظالمُ، كيف؟

عشقاء: إنْ ليست ِالمرأةُ كياناً بذاتها ولذاتها، فماذا إذن تكون؟

عبد الجمال: المرأة لم توجد لتكون هي هي، جوهراً مستقلاً بذاته ولذاته، وإنّما وُجدتْ لتكون مبدأَ نَظْم ٍلما خلقتْه الآلهةُ أشتاتاً أشتاتاً.

عشقاء: شطحةٌ من شطحات ِخيالك!

عُسَيْلة: غريبٌ علينا أمرُكَ اليوم، فأنتَ إمّا تنذرنا بوشيكِ حربٍ أو تلوّعنا بغريبِ أفكارك.

عبد الجمال: بل هو الحقُّ، به أصارحكنّ. فحضورُ المرأة في الوجود غايتُهُ رَسْمُ خطوطٍ خفيّةٍ بين كافة الكائنات، كتلك الخطوط الوهميّة التي ترسمها عينُ المتأمل في الليل، ترسمها بين كل النجوم المنثورة في فضاء الكون، فَإِذْ بالنجوم ِالمفردةِ المنفردةِ وكأنّها متّصلٌ بعضها ببعض، بعبقرية العين المبدعة لتلك الخطوط، وَإِذْ بالكونِ بعضُه في كلّه وكلّه في بعضه. كذلك هو فِعْلُ المرأة في الوجود. كلّ شيء أنتنّ، لأنّ فيكنّ من كلّ شيءٍ شيئاً، ولأنكنّ الناظرُ والمنظورُ والعينُ والخيطُ ومُبْتَدَعات الرؤى.

عُسَيْلة: ولكن كيف، ولِمَ، دمجتَنا بالتراب؟

عبد الجمال: لأن الأرض هي امرأةُ الوجود ووطنُه، ترابُها الجسدُ للماء ِوالجذورِ والورق ِوالزهرِ والثمرِ وكلِّ ما هو كائنٌ وما يمكن أن يكون بين المسافات، فلا الأرضُ تكون إﻻّ بكنّ... كما لا تكون إﻻّ بكنّ السماءُ... غيومُها الوطنُ الآخرُ لهاجري حروبِ الأرضِ المتوالدةِ أبداً من نزق ِالطامحين.

عشقاء: بربكَ لا تَعُدْ إلى نغمةِ الحرب ونزق ِالمتحاربين وحكايةِ الغيوم. عُدْ إلينا عاشقاً لنا كما كنتَ... مع أنّ الأثيرةَ لديكَ ليست بيننا الآن.

هتون: ولأنّ طِلْبَتَكَ، في الأصل، العشقُ والغوى، فلقد أبَحْناكَ أنفسنا تتغزّل بنا. ألسنا لكَ الكونَ كله؟ ألسنا، بعزةِ صيدون، لكَ المبتدا ولكَ المنتهى؟

عُسَيْلة: بل ألسنا لكَ الجوهَرَ، جوهرَ الصحّة ِالتي بشّر بها إلهُنا أشمونْ؟ إذن من أجله وأجلنا، وَفّرْ علينا هواجسَ الحرب.

عبد الجمال: يا لعذابي بكنّ! تُرِدْنَني الآن أن أنسى احتمالَ الحرب وأقولَ فيكنّ الشعرَ غزِلاً غزِلاً؟

عُسَيْلة: ولِمَ بالشعر وحده يكون الغزل؟

عبد الجمال: لِمَ؟! لأنني بالنثر أمشي... ولكن بالشعر رقْصي أنا.

عشقاء: الآن عدتَ أنتَ إلى أنتَ. الآن أنتَ شاعرنا.

هتون: فلنرقصْ له إذن ونغنِّ، فهو العينُ التي بها نُرى كلما أُنْشِدَ في صيدونَ شعرٌ وأُقيمَ للفنونِ احتفال.

عُسَيْلة: وعلى القيثارةِ عازفةٌ أنا. هيّا بنا، هيّا بنا، يا بنات.

(ينطلقن، ثلاثتهنّ، بالغناء والرقص على نغمات القيثارة: )

ثلاثتهنّ: عيونُنا دبّاحةٌ لكلّ غاصبْ

           رموشُنا لمّاحةٌ تبعثر المواكبْ

           نعومةُ الأظفار ِحَدُّ الخنجرِ المطعونِ في خاصرة ِالمشاغِبْ

           لدونةٌ في البَشَرهْ

           في زَنْد ِحُرَّةٍ وساعد ٍمُنَعَّم ٍلسافِرَهْ

           مُنْزَلَقُ الرجالِ في المهالكْ

           مشيتُنا قَرْعُ طبولِ الحبّْ

          والحبُّ ضَرْبٌ من ضروبِ الحربْ

          وكم بها نُشيدُ من ممالكْ

          وكم بها، نعم بها، نهدم من مؤثَّلِ الممالكْ.

(قهقهات ذكورية تتناهى إلى سمع الصبايا فيلتفتْنَ ناحية الشجيرات، وقد أخذ منهنّ حبُّ الإستطلاع والترقّب كلَّ مأخذ.)

عشْقاء: أتُراهم لا يزالون في إثرنا؟

هتون: طبعاُ! فحيثما الزهراتُ تحوّمُ النحلاتُ!

عُسَيْلة: وحيثما أنا فكلُّهم هنا!

هتون: المعجبونَ للمعجبات.

عشْقاء: والمعجباتُ للمعجبين.

عبد الجمال: ألم أقلْ لَكُنَّ المرأةُ وُجِدَتْ لينتظم في سلكها أشتاتُ الوجود؟ هاكمْ صدقتْ نبوءتي.

{شلّة من شباب وشابات المدينة يندفعون من خلف الشجيرات ويتحلّقون حول الفتيات. أحدهم (ميمون) مفتول عضلات الساعدين والزندين، وآخر (هلهال) مجدولُ الشعر، وثالث (مِشْباح) شبه عاري الصدر، ورابع (عدّاء) عاري القدمين والساقين. ولعل بينهم مَنْ ابتسامتُهُ من جراءة عمره (جيّاش)، ومَنْ حياؤه من براءة قلبه (هفيف). عن يمينهم شاب أنحله الهوى (لهفان) يحمل بيدٍ زجاجةَ نبيذٍ ويمسك باليد الأخرى يدَ صبيّة (نسمة)، وعلى ملامحه وملامحها يبدو أثرُ الزهزهة التي يتركها النبيذُ عادةً في نفوس الشاربين. خلفهم جميعاً، تجرّر خطاها صبيّةٌ (يارا)، عيناها لا تكادان تستقران على شيء وكأنّما فَجَعَها حزنٌ ما فهي تفتش عن شيء لا تجده. لهفان ونسمة ويارا يبدون وكأنّهم يتحدّثون إلى أنفسهم بين الهنيهة والأخرى دون أن تُسمع أصواتُهم حتى تحين لحظة مشاركتهم في الحوار الدائر. لهفان ونسمة يقبّلان زجاجة النبيذ أكثر من مرّة.}

جيّاش: آهِ منكنّ يا هاربات! فنحن ما زلنا والساحةُ ترمي بنا إلى ساحة والزقاقُ يفضي بنا إلى زقاق حتى انتشلَنا من ضياعنا الغناءُ والموسيقى، فإذا بنا ندرك بغيتنا التي هي أنتنّ، هنا، ههنا في جنبات الحديقة.

عُسَيْلَة: أما تتركوننا نرتاح من نزق الهوى شيئاً من الليل أو شيئاً من النهار؟ أَوَ لا تتمنّون لو ترتاحون قليلاً؟

مِشْباح: ليس في الراحة منكنّ راحةٌ لنا.

عشقاء: تلكَ حقيقةٌ نعرفها! ولكنّ النفسَ بحاجة إلى الهدوء كما الجسمُ إلى الكرى.

هلهال: الكرى والهدوء، يا عَشْقاء، عدوّان لعنفوان الصبا.

هتون: أليس لكم في دورة الفصول قدوة؟ أليس الربيعُ يحلو أكثر بعد غياب ثلاثةٍ من الفصول؟

مِشباح: هتونُ، يا هتونُ! الربيعُ أنتنّ، وأنتنّ مدارُ الفصول، فليس لغير الربيع عندنا من زمان.

عَشْقاء: وتلك حقيقةٌ أخرى نعرفها!

جيّاش: تعرفين، يا عَشْقاء، كلَّ الحقائق، ثم تُغْرين صبايا المدينة بالاختفاء؟ أليس أوّلُ الحقائق أنّ الأنوثةَ غذاءُ العين؟

مِشباح: وكلِّ الحواس!

هتون: ولكنّ العين، يا مِشباح، قد تضجر من طول النظر.

عَشْقاء: وكذلك قد تضجر كلُّ الحواس. أليس كذلك يا جيّاش؟

جيّاش: لا أحسب عُسَيلةَ تؤمن بالضجر. بماذا تفكرين يا عُسَيلة؟

عُسَيْلة: أفكّر في اللّعلّ والربّما.

عبد الجمال: الرِّيُّ والعَطَشُ، والجوعُ والشّبعُ، كما الليلُ والنهارُ، كما الحياةُ والموتُ، كلُّ ذا دليل على أنّ الأضدادَ جوهرُ الحياةِ الأوّل. فَلْتَهْوَوا غيابَهنّ، يا شباب، كما تهوون حضورَهنَّ.

جيّاش: أنتَ تقول هذا وتسمّي نفسَكَ عبدَ الجمال؟!

عبد الجمال: من شروط العبادة أن تتقبّل من المعبود كلَّ ما يصدر عنه من ظلم ٍ وعدل.

مِشباح: والعدلُ عندكَ أن نرضى بغيابهنّ لتخلو بهنّ أنتَ بعيداً عن المدينة وعن أعيننا؟

عبد الجمال: هُنّ لشعري المُلْهِمات.

عَشْقاء: ونحن بذلك راضيات.

هتون (بمكايدة مرحة): شعرُه فينا يبقى، تتناشده الأجيال. فما لديكم لنا أنتم، معشرَ الشبابِ، غير اللهو واللعب؟

جيّاش: الخلودُ إذن طموحُكُنّ، وليس التمتع بما نسبغه عليكنّ من حرقات العشق وآهات الجوى ونعمة اللحاق بكنّ، كما الظلُّ صاحبَه.

عُسَيْلة: دعوني أصارحكم القولَ: نحن، نساءَ الأرض، نريد هذا كما نريد ذاك. تستهوينا اللحظةُ بمفاتنها الصريحةِ والمضمرةِ، كما يستهوينا المجدُ الذي يبسط اللحظةَ بنا ولنا سرمداً أبداً.

عبد الجمال: أَيْ أنهنّ يُرِدْنَ الزمانَ كلَّه. وهذه النزعةُ الأنثويةُ فيهنّ تنسجم تماماً مع عقيدتي أنّ المَرأةَ وُجِدَتْ لتكون مبدأَ نَظْم ٍتنسلكُ به كلُّ مكوّناتِ الوجودِ، زمانِهِ ومكانِهِ ورجالِهِ، في نسق واحد.

جيّاش: إليكَ عَنَّا وهذا الكلام، فنحن من جيلين لا يلتقيان.

عبد الجمال: بل يلتقيان الآن في هذه الحديقة، يجمعهما استحسانُ كلٍّ منهما للجمال.

جيّاش: حتى في هذا لا نلتقي، نحن وأنت. فالجمال عندنا نَبْضٌ من لحم ودم، وعندكَ هَجْسٌ سياقُهُ رعشةُ الكلمات.

عبد الجمال: أزليّةُ حوار ِالأجيالِ تضحكني كما تحيّرني، لأنّها، وإن تكنْ لا بدّ منها، فإنّها لا تبدّل من دورة الفصول شيئاً. وهذا الذي أسمّيه حواراً ليس إﻻّ جَدَلَ الأشواق ِ، يُنْهِكُ بعضُها بعضاً لتظلّ جميعُها عصيّةً على الفناء.

هفيف: قريبٌ من هذا المعنى الكلامُ الذي تفوّه به خطيبُ الأمس في الساحة الكبرى وسط المدينة.

عبد الجمال: أيَّ خطيبٍ تعني؟ وما الذي قاله؟

هفيف: هو أحد مستشاري تينِسّ الملك. كان حديثُه عن الفُرْسِ واحتمال الحرب ضدّ صيدون. ومجمل الخطاب أنّ علينا أن نتقبّل الحربَ كما نتقبّل السلم. هم يريدون إنهاكنا ونحن سنردّ بإنهاكهم، وسنظلّ هكذا وإيّاهم إلى غيرما خاتمةٍ للقتال. فالحربُ، في رأيه، حوارٌ تتحاوره الشعوبُ لتنفي عن نفسها صفةَ العدم ِ- - العدم ِالذي هو الفناءُ بلغتكَ.

عَشْقاء: ويحكَ، يا هفيف! لقد أعدتَنا الآن إلى حديث الحرب، وكنّا طويناه في لحظته ودفنّاه في رقصنا والغناء.

يارا (بغضب عارم): بل ليت الحرب تدهمنا الآن، تهبط علينا كأمطار شباط وثلوج آذار فتغرِقَ حقولَنا وبساتينَنا وحدائقَنا وساحاتِنا وبيوتَنا، فما هي إﻻّ الهنيهةُ حتى نكون نسياً منسيّاً!

هتون: كلَّ هذا الدمار تستنزلينه علينا، يا يارا، لأنّ حبيبكِ وقع في غرام ِالسفنِ ورحل على أمواج ِالبحر؟! تباً لكِ تباً!

يارا: وليتَه البحر يعلن علينا الطوفانَ فيغمرَ أسطحَ بيوتنا ويعربشَ كالأخطبوط على تلالنا وروابينا، فتعرى من الأخضر والأحمر والأصفر ومن كلّ ألوان الحياة!

عشْقاء: رفقاً بنا يا يارا! (للآخرين) هكذا الحزنُ فاعلٌ بنا نحن النساء كلما هَجَرَنا حبيبٌ أو رحل عنّا مَلولُ الهوى مستطرَفُ النزوات.

عُسَيْلة: هوذا الإحتمالُ الذي كنّا نهرب منه حينما خدعناكم، يا شباب، وخلسةً تركناكم هنالك تنتظرون رجوعَنا مستسلمات.

مِشْباح: مَنْ يسمعْ هذا الكلام يظنَّ بكنّ ظنونَ البراءة.

يارا: لا تتحدّثْ عن البراءة أنتَ، فَعُرْيُ صدركَ فخٌّ تنصبه للإيقاع بالصبيات الغريرات.

مِشْباح: بل هو دمُ الشباب يغلي في عروقي فأتمنى، لولا الحياء، أن أنزع عن جسدي كل الثياب.

يارا: يكفينا عُرْيُ نواياكَ! ليتها الحرب تأتي فتعرّي الدنيا من كل نفاق.

جيّاش: تلك نيّةٌ من نوايا الإنتحار.

يارا: تماماً كما هي نوايا الحرب.

جيّاش: للإنتحار إرادةُ المفرد ِ، وللحرب إرادةُ الجمع. فتمنَّيْ لنفسكِ الموتَ إن شئت ِووفّري على الناس مرارةَ حزنكِ.

يارا: كيفما الموتُ أتى، لا يخيفني، فدورةُ الفصول ستعود بي مرة أخرى إلى الأرض، نقيةً مطهّرةً من عذابات العشق والتخلّي، تماماً كما يعود إلينا كلَّ ربيع ٍإلهُنا أدونيسْ.

جيّاش: إذهبي إذن وعودي! سنكون ههنا بانتظارك!

عُسَيْلة: مَنْ لم يُقِمْ لحزن ِالنساء وَزْناً فليس جديراً بصحبةِ النساء!

عَشْقاء: ولأنّ الحزنَ لا يعني لكم شيئاً، إرحلوا عنّا، تطوّعوا في صفوف الجيش، وطوِّعوا، إذا استطعتم، أحزانَ الحرب. أليست رجولتُكم في القتال؟

(يترامى إلى الأسماع، من البعيد البعيد، وقْعُ طبولٍ وشيءٌ كالعزف على الأبواق.)

يارا: ها قد استجابتْ لدعائي الآلهة. طبول الحرب تُقرع.

هفيف: بل لعلّ الأصوات آتية من معسكر تدريب، فخطيب الأمس دعا إلى إقامة هكذا معسكرات.

عُسَيْلة: تلك إذن أقدارُنا، نحن النساء: إمّا حربٌ مع الشباب وإمّا حربٌ مع الشعوب!

لهفان (مزهزهاً من فعل الشراب): أمّا أنا فلقد انتهيتُ من كلّ الحروب. فها هي عروسي نسمة... وها هي زجاجة النبيذ... سلاحايَ... في وجه الحزن واحتمالات الحرب.

نسمة (مزهزهةً كذلك من فعل الشراب): تزوّجَني الملعون... ونحن لم نَشُبَّ عن الطوق بعد... أليستْ جميلةً قصّتُنا؟

عُسَيْلة: ولكنكِ تسرّعتِ بالقبول، يا نسمة.

نسمة: لا هو سألني... ولا أنا استجبتُ... ولكنّه تزوّجني على كلّ حال!

جيّاش: هنيئاً مريئاً! هوذا شاب لم يهجر حبيبته ولا هو تخلّى عنها.

عشْقاء: واحد بالألف!

هتون: وواحد بالألف كالسنونوةِ المفردةِ التي لا تأتي بالربيع.

لهفان: دعونا من كلّ هذا وذاك... وتعالوا نحتفلْ... بزجاجة النبيذ... أعني بزواجنا... فنتقاسم النبيذَ... رشفةً رشفةً... فتصبح بموجب هذا العقد... زوجتي... زوجتَكم... أعني أختَكم...

عبد الجمال: رفقاً بنفسكَ يا عريسَ اللحظة، ولا تسرفَنْ في تعاطي النبيذ، فإنه، وإن حرَّكَ فيكَ نَغْنَشَةَ اللذّةِ، لا بدّ سالبُكَ زخمَ المواقعة ِ، كما رجاحةَ اللسان!

نسمة (بنغمة حياء مخمور): والمرأة؟ ماذا فاعلٌ بها النبيذ؟

عبد الجمال: سالِبُها... لَذَّةَ الممانَعَة!

(تخطف نسمة الزجاجةَ من لهفان وترفعها إلى مستوى وجهها وتخاطبها: )

نسمة: إذن أنت ِزجاجةُ النعمةِ والنقمة! (تقلّب عينيها في الجمع) إنصحوني يا بشر: أأتشبّث بها... لسحر ِفوائدها... أم أطوّح بها إلى الأرض...لسوء ِ عاقبتها؟

عبد الجمال: طوّحي بها أو استبْقيها، ففي كلتا الحالتين أنتِ الرابحةُ الخاسرة!

(تقلّب نسمة الزجاجةَ بين يديها وتقبّلُها مرّة، مرّتين، ثلاث مرّات.)

نسمة: تَعْسي احْتمالٌ... وشوقي عاصفٌ... لَجِبُ

        وَيْلي عليكَ... وويلي منكَ... يا عِنَبُ!

(ترمي بالزجاجة بعيداً وتهوي راكعةً إلى الأرض، مجهشةً بالبكاء.)

عُسَيْلة: تُراه النبيذُ أنطقها بالشعر؟

عبد الجمال: تلك آيةٌ من آياته.

{من خلف الشجيرات تتقدّم، حثيثةَ الخطى، شابةٌ وثيرةُ ملامح الجمال (دامو).

من ناحية أخرى من نواحي الحديقة يتقدم رجل في نحو الأربعين من العمر (مهّار). فجأةً يرسو كلٌّ من دامو ومهّار في مكانه لا يتحرّك، وقد تثبّتتْ عيونُهما على الزجاجة في أرض الحديقة. لحظة، لحظتان، ثلاث لحظات، ويندفع كلّ منهما ليطبق بيده على الزجاجة التي تنتقل من يد إلى يد حتى تستأثر بها آخر الأمر يدا دامو. تسرع دامو نحو الجمع، يتبعها مهّار.}

مهّار: ولكنّ الزجاجةَ من صنعي أنا، يا دامو.

دامو: ولكنّ النبيذَ من صنع ِسواكَ، يا مهّار.

مهّار: وكيف لكِ بالنبيذ لولا الزجاجة؟ أنا صاحب الفضل في حفظه. ولذا فأنا الجدير بالفوز بهذه الجائزة المرميّة على التراب.

دامو: مَنْ رماها لم يقصدْ بها أنتَ.

مهّار: ولا قصد بها أنت ِ.

دامو: وإذن فهي لمن أخذها غِلاباً.

مهّار: غِلاباً! غِلاباً تقولين؟ أَوَعلى الزجاجةِ نتقاتل؟

دامو: بل على النبيذ ِالذي فيها، يا مهّار.

(دامو ومهّار يختلطان الآن بالصبايا والشباب. الفرحة العارمة تبدو على وجه عبد الجمال وفي حركاته، وهو يحوط دامو بكلّ اهتمامه.)

مهّار: فَلْنَحْتَكِمْ إلى شباب المدينة وصباياها وإلى شاعرها عبد الجمال. (يخاطب الجمع) كلكم يعرف مَنْ أنا. أنا مهّار، أحذقُ العاملين في مهنتي. النارُ لا تخبو في أفراني والشاطيءُ لا يبخل عليّ بالرمال. أحمّيها، أصهرها. أذيبها. أنفخ فيها. أحيلها إلى هيئة الزجاج الذي تعرفون.

دامو (بنغمة أنثوية عابثة): رِفْقاً بالرمالِ، يا مهّار، فكلّما نفخْتَ فيها كلما استسلمتْ لكَ!

عَشْقاء: أليس استسلامُها غايةَ كلّ النافخين؟!

هتون: أنتِ أَدْرى!

عُسَيْلة: وأنتِ لا ينقصكِ من الدراية شيء!

عَشْقاء: حديثُ النفخ ِ، يا صبايا، حديثٌ يطول. قولي لنا فيه شعراً، يا دامو. ألستِ شويعرةَ هذا الجيل؟

الجميع: دامو! شعراً! دامو! شعراً! دامو دامو دامو!

دامو (ملبّيةً بابتسامةٍ، تنشد:)

                                 نحن الصبايا طريفَ الشعر ِنرتجلُ

                                 مثلَ الرجالِ الأُلَى قلبي بهم ثَمِلُ

                                 يا نافخَ الرملِ في صُنْع ِالزجاج ِ، أَعِنْ

                                وَانْفُخْ بغيرِ زجاج ِالرملِ يا رجلُ!

كل الصبايا: زيدينا شعراً زيدينا!

عبد الجمال: تعبي فيكِ لم يضعْ يا دامو.

هتون: طبعاً! فأنتَ أستاذها في معهد أشمون للفنون المرتجلة. وطبعاً لكَ كل الحق أن تفخر بها.

عُسَيْلة: وأن تعشقها!

عَشْقاء: وأن تهيمَ بها آناءَ الليل وأطرافَ النهار!

هتون: عبدَ الجمال! عبدَ الجمال! أنتَ شاعرُ كلّ حسناوات المدينة. هكذا دائماً تقول. ولكن دامو، في رأينا، هي الأثيرةُ الأولى، دوننا، لديك. فما الذي فيها يغريكَ أكثر من الذي فينا؟

عبد الجمال: كُلُّكُنّ أثيراتٌ لديّ. ولكنّ دامو:

     (ينشد) سمعي وطرْفي حليفاها على جسدي

              فأين أهربُ من سمعي ومن بصري؟

عُسَيلة: أهربْ إلينا ففي أحضاننا وطنٌ

         هو الأمانُ، هو المَنْجى من الخطرِ!

عبد الجمال: لكنَّها الشمسُ، والمَنْجى المُحالُ، فلا

              تُجاهدي فيَّ دامو، فهْي من قدري!

عُسَيْلة: حيّرْتَنا! فَأبِنْ هل أنتَ معتكفٌ

         في خدمةِ الشمسِ أم في خدمةِ القمر ِ؟

هتون: هذا الصيدونيّ يفضّل علينا الغريبات!

عَشْقاء: ويهوى النفخَ في مواقد الأجنبيات!

هتون: يا خائناً وطنكَ!

عُسَيْلة: يا مستهتراً بخبز أهلك!

عشْقاء: ألا تتّعظ بالمثلِ القائل: زُوان بلدِكَ ولا قمحُ اليونان!

عبد الجمال: من أين أتيتِ بهذا المثل؟

عشقاء: من فاجعة ِالحربِ بين حسنهنّ وحسننا، نحن الصيدونيّات!

عبد الجمال: الحربُ على ماذا؟

عشقاء: عليكَ، يا مَنْ إسمُكَ سيكون على رأس اللائحة السوداء إذا اقتحم الفُرْسُ مدينتنا يوماً من الأيام.

عبد الجمال: ترضين بالتعامل مع الغزاة لتكيدي ليَ كيداً؟

عَشْقاء: بل هم سيشفقون علينا حينما يرون خيانتكَ لنا في عيوننا، فينتقمون لنا منكَ.

عبد الجمال: يا لخيالِ المرأةِ من منتقم ٍجبّار!

يارا (متأففة): كفاكم هراءً وكفاكنّ. ليتها الحرب تأتي فتستفيق المدينة على غير هذا العبث الغَزَليّ. مَضْيَعَةٌ للعمر كلُّ هذا الهراء.

لهفان (مزهزهاً لا يزال): النبيذ حلاّلُ المشاكل. هيّا أعيدي إليّ، يا دامو، زجاجةَ النبيذ.

دامو: إليكَ أُعيدُها! لماذا؟

لهفان: لأنّني... عريسُ اللحظة!

دامو: لتشربَ من جديد؟

لهفان: بل لأوزّعها رشفةً رشفةً ... على الحاضرين.

نسمة (مزهزهةً لا تزال): إحتفالاً بزواجه مني... أو... بزواجي منه...

دامو: فلنحتفلْ إذن. خُذْ، هذه زجاجتُكَ.

(يتناول لهفانُ الزجاجةَ، يفضّ ختمها ويقلّب أنظاره في الجمع).

لهفان: والآن افتحوا أفواهكم. الرشفةُ الأولى لنسمة. (تأخذ نسمةُ الرشفةَ الأولى). الرشفةُ الثانية لي أنا. (يأخذ رشفة). والآن دَوْرُ الصبايا (تأخذ كلٌّ منهنّ رشفتها باستثناء يارا). وأنتِ يا يارا، هيّا سايرينا.

يارا: أفضّلُ أن أبقى صاحيةً لإستقبال الحرب.

عُسَيْلَه: حبيبُكِ لن يعودَ مع الفُرْس!

هتون: ولا مع اليونان!

عَشْقاء: ولا مع الفراعنة!

يارا: تفكّهْنَ ما شئتُنّ، فالفُرْسُ إمّا قادمون إلينا وإمّا سيمضي تينَسُّ لملاقاتهم خارج المدينة.

لهفان: خذي رشفتَكِ، يا يارا، فالشباب بانتظار أدوارهم.

يارا: دُرْ عليهم بالزجاجة، فمزاجي اليوم من مزاج الغيوم.

(يدور لهفان بالزجاجة على الشباب، رشفةً رشفةً، حتى يصل إلى عبد الجمال.)

لهفان: وإليكَ، يا عبد الجمال، برشفةِ الختام.

عبد الجمال (آخذاً رشفته): هذا النبيذ فعّالٌ في الخيال. ما ارتشفه إنْسٌ إلاّ وتحرّك فيه الشعرُ.

(وكأنّما استجابةً لنبوءة عبد الجمال، يزهزه الشباب والصبايا ويأخذون بالتمايل الرفيق يميناً ويساراً، ثم يتحلّقون في دائرة، ثم يبدأون بهمهمةٍ راقصةٍ على نغمات القيثارة الآتية من خلفيّة المكان.)

مِشباح: مَتّعيني يا هَتوني       لَذِّذي حلْمي الفتيّْ

كلُّ ما فيكِ، هَتوني     مُتَعيٌّ لَذَّوِيّْ

هتون: لكَ، يا مِشْباحُ، ما تهوى من البضِّ الطريّْ!

(ينسحب مِشْباح وهتون من الدائرة ويختفيان وراء الشجيرات.)

جيّاش: عُسَيْلَةُ، لهفتي خَطِرَهْ      وأنتِ الوردةُ العَطِرَهْ

عُسَيْلَه: أنا كالعسلِ المكنونِ بالأزهارِ مستترَهْ

 (يمسك جيّاش بيد عُسَيْلَه وينسحبان من الدائرة. يتلاشيان خلف الشجيرات.)

عَشْقاء: هفيفُ، تعالَ مَرْجِحْني     وبالرَقَصاتِ دَوِّخْني

هفيفٌ أنتَ، يا هِفّو       فَنَعِّمْني وَهَفْهِفْني!

 (عَشْقاء وهفيف ينسحبان من الدائرة ويختفيان خلف الشجيرات. مهّار، يارا،ميمون، عدّاء، هلهال، نسمة، ولهفان... يتوجّهون جميعاً إلى زاوية أخرى من المسرح ويغيبون عن الأنظار.)

عبد الجمال: رأيت ِكيف اندفقتْ بالشعر نواياهم ونواياهنّ؟

دامو: صدقتْ نبوءتُكَ بالنبيذ.

عبد الجمال: رَشَفوا رشفةً فطاروا خِفافاً

وأداروا من الحديث ِالرقيقا

إنّها صولةُ النبيذ ِعلى العقل ِ

دامو:        وأنّى للعقلِ أن يستفيقا؟

عبد الجمال: بل أفاق الوجدانُ واندثرَ الخوفُ

فطاروا وحلَّقوا تحليقا

دامو: عبد الجمال! عبد الجمال! أتذكر ذلك الصّباحَ الذي أتيتَني فيه تسألني عن سرّ الضّياء الذي يشعُّ منّي؟

عبد الجمال: وكيف أنسى؟

دامو: ذلكَ الصباحَ، حينما خلوتُ بنفسي، كتبتُ لكَ بعضَ الأبيات.

عبد الجمال: هاتي أسمعيني.

دامو: جئتَ كالصبح ِسائلاً عن ضيائي

فَاحْتواني السؤالُ كلَّ احتواء ِ

لا تَسَلْني، فأنتَ منّي، ووهجي

أنتَ منه، وأنتَ من لألائي

حصّتي منكَ لذّتانِ فأغويكَ

وأرضى بلذّةِ الإنغواء ِ

عبد الجمال: وعزة ِعشتروتَ لأنتِ اليوم أشعرُ من أستاذك ِ.

دامو: وأغوى!

(ينسحبان إلى خلف الشجيرات بهرولةِ الغنج والمداعبة. يتقدّم سامح إلى وسط المسرح ويشعل سيجارة. أصوات الغجريّات تنسرب إلى أَذنيه من الزاوية التي كانت نوّارةُ قد انسحبتْ إليها من قبل. يلتفت سامح إلى مصدر الصوت قلقاً مضطرباً.)

سامح ( لنفسه): أصواتُهُنَّ ظلالُهُنَّ، فَلَيْتَهُنَّ يَنْأَيْنَ عنّي نَأ ْيَ الغيوم عن ظلالها.

(تدخل نوّارة بصحبة نوريّة شابّة تضجّ في صدرها نبرتان للحياة، ويتدلّى من عنقها عقد من الياسمين. تتقدّمان منه بجراءة حوّاء الأولى، تتأمّلانه وتبتسمان.)

نوّارة (لسامح): أنظرْ إليها. مَتِّعْ عينيكَ بشبابها. إنّها ابنتي ثُدَيَّة.

سامح (بغضب وتمرّد): قلتُ لكِ: لا تعودي! وتعودين إليَّ بها (مشيراً إلى ثُدَيَّة)... بكلّ وقاحة؟

نوّارة: هدّىءْ من غضبكَ، يا رجل. إنّما أؤدّي لكَ خدمةً باصطحابي لها... خدمة... لا أكثر ولا أقَلّ.

سامح (مستشاطاً غضباً): أنتِ وخدماتكِ في الجحيم! أغربي عن وجهي!

نوّارة: طبعاً سأغرب عن وجهكَ. ولهذا أتيتُكَ بها.

سامح (منفجراً): أنت ِوهي وكلّ النوريّات... أغربْنَ عن وجهي. الآن، الآن. فليس بينكنّ وبين الشرطة إلاّ صرخةٌ منّي أصرخها ليلتَمَّ عليكنَّ الناسُ.

نوّارة: إذا صرخْتَ سيزدادُ الطلبُ علينا، وعندها سنضطر إلى رفع الأسعار. وقد نقول بأنّكَ أنتَ تحرّشْتَ بنا!

سامح (محبطاً): ماذا تريدين منّي بحقّ السماء؟ (يخرج من جيبه ورقة نقديّة) خذي هذه النقود، وانصرفا عنّي بسلام. (مستعطفاً) أريد العودة إلى مسرحيّتي!

نوّارة (تنأى بيدها عن النقود): نحن لسنا بالشحّاذات! نحن نروّج لبضاعتنا ونسلّم ونقبض.

سامح (بلهجة الرجاء): إعتبريني تسلّمْتُ البضاعة. هيّا مدّي يدك ِ. خذي منّي ثمنها.

نوّارة: ويحكَ من ناكرٍ للجميل! أقدّم لكَ عذراءَ وترفض النعمة؟

سامح: إنْ لم تَرْحلا عنّي، فسأرحلُ أنا!

نوّارة: لا. لا ضرورة لذلك. سنترككَ تتمشّى وتحدّث نفسك ثم نعود إليكَ حينما تهدأ خواطرُكَ. ثم إنّني لم أخبركَ بعد حكايةَ الحليب الفاتر.

(تشير إلى ثُديّة أن تلحق بها. بحركة سريعة، تأخذ ثديّة عقد الياسمين من حول عنقها وتضعه حول عنق سامح. سامح ينفض العقد ويلقي به على الأرض. تنسحب المرأتان إلى حيث تتلاشيان عن السمع والبصر.يدخل هادي من حيث خرجت نوّارة وثديّة، وهو يتلفّت إلى الوراء، كأنّما ليتأكّد من شيء ما كان رآه. يتوجّه صوب سامح الذي يبتسم له ويفتح ذراعيه لاستقباله.)

سامح: لو تعرف كم اشتاقت عيناي إلى ابتسامتكَ، يا هادي!

هادي: وأنا اشتقتُ إلى ابتسامتكَ، يا جدّو!

(لحظة عناق ثم يفلت هادي نفسه من ذراعيْ سامح ويلتفت إلى حيث كانت خرجت نوّارة وثدية.)

هادي: جدّو... مَنْ هي التي كانت معها بنت؟

سامح: رأيتَها إذن؟ إنّها... نوريّة... أعني شحّاذة تبحث عن رزقها.

هادي: المرة السابقة كانت وحدها.

سامح: واليوم معها بنتُها... لأنّها طمّاعة. بَدَلَ الشَّحْذَة تطمع بِشَحْذَتَيْن.

هادي: ولكنّكَ دائماً قلتَ لي أنّ الشِّحاذَةَ مهنة الكذّابين.

سامح: الذين بصحة جيدة ويشحذون هم الكذّابون.

هادي: إذن تلك الشَحّاذة كذّابة وبنتُها كذّابة أيضاً... لأنهما بصحة جيدة.

سامح: هذا صحيح.

هادي: ولماذا أعطيتَهما نقوداً؟

سامح: ومَنْ قال إنّي أعطيتُهما أيَّ شيء؟

هادي: إذن لماذا عادت ومعها بنتُها؟

سامح: العنادُ سلاحُ الشَّحّاذين، يا جدّو. تصرفهم عنك بالرفض ولكنهم يعودون.

هادي: وهل أنتَ عنيد، يا جدّو؟

سامح: ولماذا تريدني عنيداً؟

هادي: لتظلَّ ترفض الشّحّاذة وبنتها.

سامح: ومَنْ قال لكَ بأنهما ستعودان؟

هادي: العنادُ، يا جدّو! العناد!

سامح: غَلَبْتَني، يا حبيبي! والآن قُلْ لي: هل تغلّّبْتَ على ال puzzle وركّبتَها في لوحة؟

هادي: حاولتُ مرة، مرتين، مئة مرة...

سامح: ولم تكتشف سرّها بعد؟

هادي: قل لي ما هو السرّ وسأركّبها.

سامح: بل عليكَ أن تكتشفه بنفسك.

هادي: ولكنني تعبتُ، يا جدّو.

سامح: أنتَ في أوّل العمر، والشاطر لا يتعب.

هادي: أنا لستُ شاطراً، فساعدْني!

سامح: بل أنتَ أشطرُ الشُّطَّار.

هادي: تقول هذا لأنكَ لا تريد الذهاب معي إلى قَطَر لنركّب الpuzzle معاً.

سامح: الآن... جدُّكَ مشغول بأمور... خاصة. ولكنه سوف يزور هادي في قَطَر حينما يئين الأوان.

هادي: وهادي كل يوم يحدّث جدّو في الصورة المعلّقة فوق سريره. هادي مشتاق، يا جدّو! ومشتاق لمنقوشة ِجِدّو وللشوكولا.

سامح: وكلَّ يوم جِدّو يحدّث صورة هادي التي على التلفزيون ويقبّلها. الصورةُ ظلٌّ ولا مَفَرَّ لنا من معاشرة الظلال. أليس كذلك، يا هادي؟

هادي (متأملاً بلاط الرصيف): ظلّي وظلُّكَ وظلُّ الدرابزين... كلها على البلاط.

سامح: دائماً وأبداً.

هادي: ولكن أين ظلُّ الشحّاذة ِوظلُّ بنتِها؟

سامح: ليستا هنا ليكون لهما ظلّ.

هادي (متحمساً): جدّو! جدّو! أنظرْ معي. هناك ظلٌّ هو ظلُّها... وجَنْبَهُ ظلٌّ أصغرُ هو ظلُّ بنتها!

سامح: أنتَ تتخيّلُ ذلك.

هادي: بل إني أرى الظلَّ... والظلَّ الآخر.

سامح: إهدأ! إهدأ! أنتَ كثير الحماس وعجيب الخيال.

هادي: تعبتَ مني، يا جدّو؟

سامح: أنتَ حبيبي، فكيف أتعب منك؟ ولكنّ جدّكَ بحاجة إلى رياضة المشي السريع على الكورنيش، كما نصحه الطبيب.

هادي: أنتَ تمشي... Ok

 But what about Hadi?

سامح: هادي يرجع الآن إلى الماما والبابا ويتغدّى من بيتزا الماما.

هادي: yummy! Yummy! سآكل وأخبّيءُ لكَ قطعة كبيرة في البرّاد... لِ freezer. Ok جدّو؟

سامح: Ok حبيبي. بايْ... سَلِّمْ.

هادي: بايْ ! جدّو.

(يغيب هادي من حيث دخل.لحظةُ غيابه تترافق مع دخول نُهَيَّة. يراها سامح فيأخذ نفساً عميقاً.)

سامح (لنفسه): متى؟ ثم متى تخلو نفسي بنفسي، يا الله؟

نُهَيَّة: (مقتربة منه): تناجي ربَّكَ؟

سامح: ومَنْ بقي لي سواه؟

نُهَيَّة: إلى هذه الدرجة أنتَ مُحْبط؟

سامح: إلى هذه الدرجة أنا متفائل.

نُهَيَّة: والمتفائل يتخلّى عن الدنيا ويناجي ربَّه؟

سامح: لا تُناجوا رَبَّيْن: اللهَ والدنيا.

نُهَيَّة: حرَّفْتَ قول المسيح.

سامح: واستبقيْتُ لبَّ المعنى.

نُهَيَّة: أنتَ بارع في التحريف، بارع في التبرير. هكذا كنتَ وهكذا ستظل.

سامح: كذا خُلِقْتُ ومَنْ ذا الذي يخالف ربَّهْ؟

نُهَيَّة: تبريرٌ للتبرير.

سامح: وجدلٌ للجدل.

نُهَيَّة: ولماذا سَكَتَّ في اجتماع الطلاب ولم تجادل ولم تُبرّر؟

سامح: لأن الجدل مع أهل الدنيا عقيم، ولأنني لم أرتكب خطأ لأبرِّره.

نُهَيَّة: نسبة النجاح العامة فاقت الثمانين في المئة، وفي موادك لم تتعدَّ الأربعين.

سامح: وهل الذنب ذنبي؟

نُهَيَّة: المسألة ليست مسألة ذَنْب. المسألة مسألة توافق يريح الجميع ويرضي الطلاب.

سامح: إذا الراحة هي المطلوب، فخذوا أوراق الإمتحانات وأعيدوا تصحيحها وضعوا العلامات التي ترتأون.

نُهَيَّة: وإن فعلنا ذلك، فسوف ترفض التوقيع على النتائج.

سامح: بديهي.

نُهَيَّة: البديهي أنّكَ تضع العصيَّ في الدواليب. ماذا لو اعترض الطلاّب على نتائجكَ وطالبوا بإعادة التصحيح؟

سامح: لا مانع لديّ. فليفعلوا. الجامعةُ تُصْدِرُ النتائجَ وتتحمّل تبعاتها.

نُهَيَّة: وأنتَ ماذا تتحمّل؟

سامح: نتائجَ أفعالي طبعاً.

نُهَيَّة: النتيجة الحتمية لذلك أن الجامعة قد لا ترصد لكَ مواداً للعام القادم.

سامح: ذلك شأنها. أنتم الأكثرية والأكثريّة تنتصر.

نُهَيَّة: ولماذا تكون وحدك الأقلّيّة... وتخسر؟

سامح: ماذا لو ربحْتَ العالم وخسرْتَ نفسكَ؟

نُهَيَّة: كأنّي بكَ تحلم بالصلب. بل إنّكَ تشتهيه. هل هكذا تخطّط لنهايتكَ؟

سامح: أخاف إن خُنْتُ مهنتي أن يتخلّى عنّي أجملُ ما فيَّ.

نُهَيَّة: وما هو ذاك؟

سامح: قدرتي على الكتابة. موهبتي التي هي رفيق عُمُري.

نُهَيَّة: بعضُ المداراة للدنيا لا تفسد الموهبة ولا تقتل الإبداع. نهايةُ أرْنِسْتْ همنغوايْ لطالما كانت من هواجسكَ. ولكنّكَ قد تظلّ تكتب إلى آخر لحظة من عمرك. على طريقة تشارلز ديكنز الذي طَبَّ على طاولة الكتابة، وهو يكتب، ولفظ آخر أنفاسه!

(يضحك سامح لهذه المقاربة ضحكة حزينة ولا تلبث نُهَيَّة أن تجاريه في الضحك.)

نُهَيَّة: إسمعْ. سأخترع حلاً لهذه المشكلة.

سامح: إخترعي ما تشائين، ولكن اتركيني بسلام أنسج خيوط مسرحيّتي.

نُهَيَّة: ماذا؟ لا تقل لي بأنّكَ...

سامح: أجل. أجل. بدأ الشيء كحلم من أحلام اليقظة. هنا على هذا الرصيف.

نُهَيَّة: أرأيتَ أنّ مخاوفك ليست في محلّها وأنّكَ قادر على الكتابة في كل الظروف.

سامح: شرط ألاّ أفقد...

نُهَيَّة: ألاّ تفقد ماذا؟

سامح: نظرتي...

نُهَيَّة: نظرتَكَ إلى ماذا؟

سامح: أنت ِتعرفين.

نُهَيَّة: ربما. ولكن الحقيقة تبقى أنني وجدتُ الحلّ. وسأحتفظ به لنفسي حتى نلتقي في السهرة التي سأقيمها في بيتي الأسبوع المقبل. عشاء ونبيذ ورقص.

سامح: لم تتعبي من الحفلات بعد؟

نُهَيَّة: لن أتقاعد باكراً يا عزيزي. ولسوف تأتي إلى سهرتي هذه المرة.

سامح: يظهر أنكِ لم تعودي تأخذين دواءَك ِبانتظام.

نُهَيّة (متهكّمة): وهل تأخذ أنتَ دواءَكَ بانتظام؟

سامح: نعم ولا.

نُهَيّة: مثلي أنا: بَيْنَ بَيْن.

سامح: تذكّري ما حدث لك ِفي المرّة السابقة.

نُهَيّة: وتذكّرْ أنتَ ما يحدث لكَ في كل مرّة.

سامح: في هذا الأمر كلانا عدوٌّ لنفسه.

نُهَيّة: بل كلانا صديقٌ لحقيقته. الدواء يطمس فينا الأحاسيسَ الرهيفة، فنتمرّد عليه. تعالَ تعالَ إلى سهرتي.ألهيكَ عن المسرحيّة ليلةً لأوحي لكَ بكثير من الإبداع!

   (تنسحب وهي تغالب ضحكتها. لحظةُ غيابها توافِقُ اللحظةَ التي تدخل فيها تمارا من جانب آخر من المسرح. يتأمّلها سامح هنيهةً ويأخذ نفساً عميقاً.)

سامح: من سنينَ سنينَ افترقنا، فلماذا كلّما نسيتُك ِترجعين؟

تمارا: شيءٌ في أعماقكَ يظلُّ يناديني فأُهْرَعُ إليكَ.

سامح: شيءٌ؟ مثل ماذا؟

تمارا: مثل كلّ الأشياء التي ننساها ولا تنسانا.

سامح: حتى ولو رَجَوْناها أن تَنْسى؟

تمارا: حتى ولو...

سامح: أَرَجَوْتِها أنت ِ؟

تمارا: رَجَوْتُها من أجلكَ.

سامح: ومن أجل ذلك تعودين إليَّ؟

تمارا: أعودُ إليكَ لكي تكفَّ عن النسيان.

سامح: إذن بِئْسَ ما يكون الرجاء.

تمارا: بل نِعْمَ ما تكون الذكرى إذا كانتْ طريقَنا للخلاص.

سامح: الخلاصُ من الذكرى... بالذكرى؟!

تمارا: أنتَ لا تدري، ولكنْ لعلّكَ منّي، وليس منه، لأنه رحلَ، ترجو السماحَ السماحَ... ترجوه ظلاًّ تستظلّ به من لهب ِالجحيم التي اشتعلتْ فيكَ منذ وفاته.

سامح: وأنت ِ؟ ممّن إذن تَرْجينَ السماحَ؟

تمارا: ذلك شيءٌ لن تعرفَه أبداً.

     (تنسحب وتتلاشى بينما تدخل الصيداويّة الغريبة وتخاطب سامح)

الصيداويّة الغريبة: لا تزال تتمشّى وتحدّث نفسكَ؟

سامح: أنتِ! من جديد؟

الصيداويّة الغريبة: لا تتذمَّرْ، فمثلُكَ بحاجة إلى مثلي.

سامح: وَهْمٌ من أوهامِك ِ. أنا مكتفٍ بذاتي.

الصيداويّة الغريبة: ولهذا تحدّث نفسكَ؟ لتُبْقيَ مشاكلَكَ بينكَ وبين روحكَ؟

سامح: بل لأرفّه عن نفسي بنفسي.

الصيداويّة الغريبة: وهمٌ من أوهامكَ. إلاّ أن تكون واحداً من زمرة أولئك...

سامح: أيّةَ زمرة تعنين؟

الصيداويّة الغريبة: الذين يتخيّلون الأشياء... ثم يكتبونها.

سامح: لا، لا، يا سيّدتي. إلاّ ذلكَ الشيء.

الصيداويّة الغريبة: ولماذا تَلَبَّكَ صوتُكَ؟ تخبّيء عني أنكَ...

سامح: حتى وإن كنتُ، فما الذي سيتغيّر؟

الصيداويّة الغريبة: بدل أن تكتبَ، تحدّثْ بمشاكلكَ إليَّ.

سامح: ومَنْ قال لك ِأنّني صاحب مشاكل؟ ثم لماذا أتحدّث بخصوصيّاتي إلى امرأة غريبة؟

الصيداويّة الغريبة: لن أظلَّ غريبةً إنْ صارحتَني بهمومكَ. ألسْتُ صارحتُكَ، في المرّة السابقة، بالمشكلة التي تواجهها ابنتي؟

سامح: لا، لم تصارحيني...

الصيداويّة الغريبة: لأنكَ هربْتَ. سأخبركَ بالحقيقة الآن.

سامح: لا تخبريني بشيء.

الصيداويّة الغريبة: سئمْتُ الحديثَ إلى حيطان البيت. أنا بحاجة إلى أن تستمعَ إليَّ.

سامح: ولماذا أنا؟

الصيداويّة الغريبة: لأنكَ مثلي، شفتاكَ تتحرّكان على الدوام. ولأنكَ لا تعرف مَنْ أنا.

سامح: بربّك ِاتركيني لنفسي...

الصيداويّة الغريبة: زوجُ ابنتي كان على علاقة مع نوريّة من نوريّات هذا الكورنيش. لا أعرف مَنْ هي بالضبط. ويظهر أنّ تأثيرها عليه لاحقه حتى إلى ما بعد الزواج. حتى إلى غرفة النوم. تصوّرْ: يطلب من ابنتي أن تفعلَ بنفسها مثلما تفعل النوريّة...

سامح: أعفيني من مشاكل ابنتك ِومن نوريّة زوجها. عليَّ الآن بالمشي السريع...

الصيداويّة الغريبة: ألم ينصحكَ الطبيب بشيءٍ آخر؟

سامح: المشي السريع يحلّ كلّ المشاكل.

(يبتعد عنها مسرعاً بينما هي تتلاشى. من يسار المسرح يدخل الشحّاذُ الهَرِمُ متوكئاً على عكازه. خطاه تقوده مباشرة نحو سامح. يمدّ إليه يده مستعطياً.)

الشحّاذ: من مال الله... يا عباد الله... من مال الله...

(يستخرج سامح من جيبه قطعة نقدية ويدسّها في اليد الممدودة نحوه. يأخذها الشحّاذ ويمضي في سبيله، متوكئاً على عكازه بيد، رافعاً اليد الأخرى، كما عينيه، إلى السماء، مردّداً وكأنما لنفسه:)

الشحّاذ: اللهمَّ أَظِلَّهُ بظلّكَ يومَ لا ظلَّ إلاّ ظِلُّكَ...

 (يتلاشى في المسافة. يشعل سامح سيجارة ويتأمّل الغيوم في السماء.

 المسرح يحتلّه الآن الصمتُ والفراغُ، للحظات فقط. من يسار المسرح تأتي، خفيفةً خفيفةً ثم تعلو شيئاً فشيئا،ً دقّاتُ طبول وعزفُ أبواق. ثم يدخل الملك تينِسّْ في موكبه العسكري، الصولجانُ في يده اليسرى ويمناه مشدودة حول مقبض السيف المتدلي من وسطه. مرافقوه وجنده يحيطون به من كل صوب، بسيوف ورماح ووجوه تشتعل بحماس ممزوج بالقلق. يتوقف الملك ويقلّب عينيه في أرجاء المكان، ثم يصعّد طرفه متأملاً السحب العابرة في السماء. يهزّ برأسه هزّات التصميم ويحوّل أنظاره نحو الرجال ليخاطبهم.)

تينِسّْ: من كهوف ِالشمالِ، خلفَ مَصَبِّ النهرِ،

تنسابُ نحونا الغيومُ الثخينَهْ.

أُنْظُروا: زَحْفُها جيوشُ دخانٍ

وتَمَلَّوْا أشكالَها المجنونَهْ.

الغيومُ الغيومُ أشرعةُ الحربِ،

صدورٌ منفوخةٌ بالضغينَهْ،

بل لهاثُ الخيولِ، حشرجةُ الجُنْد ِ،

نوايا سيوفِهِمْ مَسْنونَهْ.

حَشَدَ الفُرْسُ كَيْدَهم فاسْتَعِدّوا

نَسْتَبِحْ كيدَهُمْ بكيد ِالمدينَهْ.

إنّ صيدونَكُمْ حِماها رجالٌ

وقلوبٌ بمجدِها مفتونَهْ.

قائد الجند: أنتَ مِنَ الجيشِ قلبُهُ، ودقّاتُهُ نحن، متى تَشَأْ تنبضْ بنا، فَانْبُضْ بنا، أيها الفارسُ المليكُ المُفَدّى.

تينِسّْ: ما غريبٌ عليَّ قولُكَ هذا، يا قائد الجند، فإنكَ ابْنٌ لأبٍ عَجَنَ الحربَ قبلنا، وقَبْلَهُ حصَّنَ المدينةَ بالحكمة ِجدُّكَ، وبالرأي ِالسديد ِسديدا.

قائد الجند: الغيومُ التي تَراها نراها. إنما الرأيُ رأيُكَ اليومَ، عزيزاً ومُحْكَماً ورشيداً.

تينِسّْ: الرشادُ الرشادُ في الأخْذ ِوالردِّ. أليس كذلكَ عَلَّمْتَنا، يا زينونْ؟

زينونْ: قد يَرى العقلُ نَفْسَهُ في سِواهُ. قد تكون الأفكارُ ظلاًّ لظلِّ. أيّها الملك الجليل، حولكَ قوّادُ جيشكَ وتجّارُ مدينتكَ وحرفيّوها وصيّادوها، كما كهنتُها، فشاوِرْهم في الأمر مليّاً مليّاً.

تينسّْ: ذلك خيرٌ من التشبّث ِبالأنا، يا زينونْ.

زينونْ: حكمةُ الملك ِمظلّةُ عدلِه. (يخاطب الجمع) وأنتم أيّها القوم، كلماتُكم ظلالُ نواياكم، فَجَمِّلوا خباياكم تَجْمُلْ بكم ولكم ظلالُها.

تينِسّْ: قادة الجند ِ، شجعانَ صيدونَ، هيّا. فَصِّلوا الرأيَ بيّناً وجليّا. الحربُ لن تستحي منكم، فلا تستحوا منها. عَرّوها بآرائكم ورؤاكم قبل أن تعرِّيكم من فضائل الرجولة والبطولة.

قائد الجند: الحصونُ دعّمناها بصخور الجبال. بوّاباتُ المدينة حصّنّاها بألواح ٍمن مُسْتَوْرَد ِالحديد ِوالنحاسِ. القلعةُ البريّةُ أمددناها بالرجال والعتاد. القلعةُ البحريّةُ يحرسها الموجُ من جهة الغرب، ومن الشرق ِجسرٌ ليس لعبوره من سبيلٍ... إلاّ لمن دخل المدينة من البرّ غَصْباً.

الضابط الأوّل: وغَصْباً لا يعبر حصونَنا وأسوارَنا إلاّ رجالٌ من ابتكار الخيال.

الضابط الثاني: بل حتى الخيالُ المجنونُ لن يجرؤ على ذاك.

تينِسّْ: إسمعوا الآن، يا رجال المدينة. آلةُ الحربِ متوافرةٌ لدينا كما هي متوافرةٌ لدى عدوِّنا. إنّما أسألكم الرأيَ في خطّةٍ نجابه بها ريحَ الشمال. ننتظرُ؟ أم نبتدرُ؟ أم هل من خيارٍ آخر؟ وأيُّها أيُّها الأنجعُ؟ ذلك ما أحبّ سماعَه قبل أن أتخذ القرار الأخير.

قائد الجند: عيونُنا المبثوثَةُ شماليَّ النهرِ تروي لنا من أخبار الفُرْسِ عَجَباً.

تينِسّْ: ولعل ما لا ترويه أفظعُ وأبشع.

قائد الجند: المهم أن نظلَّ نتوقَّعُ الأسوأَ فالأسوأَ، فالإحتمالُ جزءٌ لا يتجزأ من تقديرات شؤون الحرب.

ممثّل التجّار: أيها الملكُ المُفَدّى، في موضوع التقديرات، نحن التجّارَ، أدقُّ حساباً وأعرقُ خبرةً في ميدان احتمال الربح أو احتمال الخسارة.

الضابط الثاني: التجّارُ ليسوا قادةَ الجيش، فَاحْتفظْ برأيكَ لنفسك!

تينِسّْ: مَهْلَكَ! مَهْلَكَ! شجاعةَ الجندية ِأحيّيها فيكَ. ولكنّ الشجاعة ليست حِكْراً على الجند وحدهم. قُلْ، يا ممثّل التجّار: كيف تَرَوْنَ أن نتعاطى مع الحرب الهاجمة على كافة أبناء المدينة؟

ممثّل التجّار: الإقتصادُ هو السّلاحُ الأطولُ نَفَساً في زمن الحروب.

الضابط الثالث: وفي الحروب القصيرةِ النَّفَسِ، كيف ينفعنا الإقتصادُ؟

ممثّل التجّار: ليس من شيءٍ إسمُهُ حروبٌ قصيرةُ النَّفَس.

الضابط الثالث: وإذا الجيشُ أُخِذَ على حين غرّة، فكيف يُطيلُ نَفَسَه؟ هات ِحدِّثنا، يا خبيرَ الأنفاس!

تينِسّْ: الإستخفافُ بالرأي ِالمخالِف ِلرأيكَ ليس من شِيَم ِأهل الحوار. هيّا اعتذرْ له بشجاعة المقاتلِ الشريف.

الضابط الثالث: ولكنْ... أيّها الملكُ...

تينِسّْ: إعتذرْ له لتَكون جديراً بمحاورته. أليس هو ابْناً لهذه المدينة، مثلكَ أنتَ؟

الضابط الثالث: أعتذر لكَ، يا سيّدي.

ممثّل التجار: لا عليك. فكلانا حريصٌ على مستقبل المدينة، كما على أمنها.

تينِسّْ (لممثّل التجّار): أكملْ حديثَكَ، فالهواجسُ تتزاحم في زمن الأخطار.

ممثّل التّجار: سيّدي الملكُ أعْلَمُ منّي، ومنّا جميعاً، بتكاليف ِالحربِ، في حالةِ النصرِ كما في حالة الهزيمة.

تينِسّْ: أفْصِحْ عمّا تُوَسْوِسُ به نَفْسُكَ بدون مقدّمات. فالوقتُ عدوٌّ لا يعرفه إلاّ الذي يكابدُ عبئَه.

ممثّل التجّار: كلُّنا يكابد عبئه.

تينِسّْ: فَلْنَأْخُذْهُ، إذن، قبل أن يأخذنا.

ممثّل التجّار: في السلم، كما في الحرب، تدريبُ الجيشِ وتجهيزُه يشكّل العبءَ الأكبرَ على خزينة المَلِك.

قائد الجند: أعبئاً تسمّي تجهيزَ الحافظين لأمنِ الناسِ والرادّينَ عنهم كيد الغزاة؟ عبئاً تسمّيه؟!

تينِسّْ (لقائد الجند): إنّ للتجارة ِلغةً غيرَ لغة ِالجند ِ، فَاصْبِرْ عليه. (لممثّل التجّار) أَتِمَّ حديثَكَ، فالوقتُ يسرقُ منّا لحظةَ القرار.

ممثّل التجّار: الضرائبُ التي يوفّرها أصحابُ التجارة ِللخزينةِ سوف تنفد إذا وقعت الحرب.

تينِسّْ: وكيف نتجنّب الحربَ لنحفظ أموالَ الخزينة؟

ممثّل التجّار: إذا الحربُ فُرِضَتْ علينا، فليس لحفظ أموال الخزينة من سبيل.

قائد الجند: لا تُماطِلْ، كما يماطل التجّار! إفرضْ أنّ الحربَ وقعتْ وأموالَ الخزينةِ نفدتْ، فبماذا ينصحنا التجّارُ لتدارك ِوضع ٍقد لا تُحْمَدُ عقباه؟

ممثّل التجّار: هنا يأتي دَوْرُ النَّفَسِ الطويل. فالإقتصادُ ليس ضربةَ سيفٍ أو رشقةَ رمح ٍ، وإنّما هو التخطيطُ للبعيد ِالمدى من العلاقات ِالتي تربط أسواقَنا بأسواق اليونان ومصر وأورشليم. وأصعبُ من إنشاء هذه العلاقات هو الحفاظُ عليها متينةً، كما في زمن أجدادنا الذين مهّدوا لنا طرقَ البرّ والبحر. والحفاظُ عليها متينةً أساسُهُ الثقةُ بإيفائنا بالعهود التي نقطعها. نأخذ طلباتِ ملوك ِالأمم، ونسلّم لهم بضائعَنا في الزمن الذي نكون اتفقنا عليه. وذلك لا يكون بضربة سيفٍ ولا برشقة رمح. كما أنّ الملكَ الحكيمَ يعلمُ أنّ سمعةَ صيدون تقوم على تفوّق ِأسطولها التجاري. سفنُ أساطيل ِالحربِ إنّما نصنعها، عادةً، للآخرين.

ممثّل بنّائي السفن: إئذنْ لي بالكلام، أيّها الملك الكريم.

تينِسّْ: ألستَ من الذين يبنون القواربَ والسفنَ؟

ممثّل بنّائي السفن: صَدَقَ مليكي الذي لا يفوته شيء.

تينِسّْ: قد أُذِنَ لكَ بالكلام ِ، فبيِّنْ.

ممثّل بنّائي السفن: من زمن أجدادنا الذين احترفوا صناعةَ السفن، وصيدونُ تجهد جهدَها في تطوير هذه الصناعة، بِحِذْق ِحرفيّيها، حتى تأسرَ اهتمامَ أورشليم بإنجازاتها وتجبرَ ملوكَها على الإعتماد المطلق علينا في هذا المجال. حِذْقُ حرفيّينا كذلك صَرَفَ ملوكَ أورشليم عن التفكير بإنشاء أحواض لصناعة السفن. وبذلك ألغَيْنا خَطَرَ المنافسة. قوّةُ أورشليمَ البحريةُ، أيّها الملك الكريم، إنّما نصنعها نحن هنا في صيدون. ولكي تظلَّ أورشليم بحاجة إلينا في هذا المضمار، فعلى مليكنا المفدّى أن يُبْعِدَ شبحَ الحرب عن أحواض صناعة السفن القائمة على شواطيء صيدون.

ممثّل التجّار: ذلك هو المعنى الذي أردتُهُ من إلماحي إلى النَّفَسِ الطويل. الصناعةُ بالنسبة للتجارة كالرئتيْن السّليمتَيْن بالنسبة للأنفاس. ولو كنْتُ شاعراً، كعبد الجمال، لأضفتُ بأن التجارةَ هي ظلُّ الصناعة، كما هو الظلُّ امتدادٌ للجسد.

مهّار كممثّل لصانعي الزجاج: فَلْيَعْذُرْني الملكُ الكريمُ إذا تسرّعْتُ بالكلام. فصناعةُ الزجاجيّات التي طَوَّرناها بتقنيّات النفخ والتلوين، فَأَذْهَلْنا بها ممالكَ الأرض، إنّما هي مفخرةُ تجارتنا ومصدرٌ هائل من مصادر ثروتنا الإقتصادية، الثروة ِالتي منها، كما مِنْ ثرواتٍ سواها، تُقْتَطَعُ الضرائبُ التي تنتعش بها الخزينة. الحرب، يا سيّدي، قد تدمّرُ أفرانَنا ومحترفاتِنا، فتحرمَنا وتحرمَ الخزينةَ من نَسَغ ِالحياة.

تينِسّْ: قد أخذْنا العلمَ بحجّتكَ وبهواجسكَ.

ممثّل الصيّادين: ونحن، أيّها الملك الكريم، نحن الصيادين، أليس لنا حصةٌ في الكلام؟

تينِسّْ: في نبرتكَ نكهةُ العتاب!

ممثّل الصيّادين: عتابٌ هو على حظّنا في الحياة وليس عتاباً على الملك الكريم.

تينِسّْ: حظُّكُم البحرُ كلُّه وسمكُ البحر، فعلامَ علامَ العتاب؟

ممثّل الصيّادين: نحن كان حَرِيّاً بنا الأخذُ بأوّلِ الكلام ِلا بآخرِه ِ... لو أَذِنَ لنا بذلك الملكُ الكريم.

قائد الجند: إخفضْ صوتكَ في حضرة الملك وإلاّ خطفْنا منكَ الأنفاس.

تينِسّْ: صبراً عليه، يا قائدَ الجندِ، صبراً، فلعلّ أنفاسَهُ تحمل إلينا حجّتَهُ في العتاب. (لممثّل الصيّادين) قُلْ لنا: لماذا ترى أنكَ كنتَ الأحقَّ بأوّلِ الكلام؟

ممثّل الصيّادين: لأنّ الصناعات ِكلَّها والتجارات ِكلَّها لا تكون ولا تزدهر إذا الصانعُ والتاجرُ لم يزوّدْهما الصيّادُ بالسمك الذي هو غذاءُ الدماغ.

تينِسّْ: وما الذي أدراكَ أنتَ بغذاء الدماغ؟

ممثّل الصيّادين: الطبيبُ الذي في حيِّ البحر يقول هذا الكلام. سمعتُهُ مرةً يقول لطبيبٍ مثله، وهما يشتريان السمكَ منّي، بأنّه اكتشف مادّةً في السمك تزيد من قوة الذّكاء. وإذن، فنحن الصيّادين، لنا الفضلُ في ازدهار الصناعة والتجارة، المهنتيْن اللتيْن بحاجة كبيرة إلى الذّكاء.

تينِسّْ: وهذا يعطيكَ أحقّيّةَ الأخْذ بأوّل الكلام؟! حَسَناً حَسَناً، لقد بانتْ حجّتُكَ. (متبسّماً) ولقد أفحمْتَنا! كثيراً أفحمتَنا! كان حريّاً بكَ أن تخفّفَ شيئاً من أكْلِ السمك!

ممثل الصيّادين: ولكنّ ذلك ليس هدفي من الكلام. فَلِكَيْ يظلّ السمكُ، في الحرب كما في السِّلْم، غذاءَ المدينةِ الأوّلَ، يتمنّى الصيّادون على الملك الكريم أن يُبْعِدَ الحربَ عن قواربهم وأشرعتهم ومجاذيفهم وشباكهم وحبالهم وسلالهم... و...

تينِسّْ (متبسّماً) : قد فهمْنا القصدَ وأدركْنا المعنى... فنحن، مثل طبيبكَ، نأكل السمكَ كلَّ يوم! (يتوجّه بالكلام إلى رئيس الكهنة) رأيُ التجّارِ ورأيُ أهلِ الصناعةِ ورأيُ الصيّادين... سمعناها كلَّها... فماذا يقول في مسألة الحربِ رئيسُ كهنةِ معبد ِأشمونْ؟

رئيس الكهنة: على قلب ِالملكِ المؤمنِ السلامُ. أمّا بعد، فإنني رأيتُ في الحلم ليلةَ أمسِ أنني في معبد إلهنا أشمون، أصلّي له وأناجيه وأقدّم له قرابين البخور في مجامر النار. وإذ بإلهنا يتمثّلُ لي ناهضاً إليّ من بين حشائش الأرض ونباتاتها البريّة، فسألتُه أنْ كيف لنا، يا إلهَ الصحّةِ، أنْ نُديمَ على المدينة صحّتَها، والحربُ هاجمةٌ علينا بجيوش الفُرْسِ؟ تبسّم إلهنا أشمون وربَّتَ على كتفي وقال: إنّما الصحّةُ في طهارة ِالإخضرارِ، وإنّما الطهارةُ أَصْلُها في النار.أليس ذلك ما علّمتْكَ إيّاه قوانينُ الطبيعة، يا خادمَ المعبد؟ قالها متبسّماً وغارَ رويداً رويداً في حشائش الأرض حتى خِلْتُهُ اختفى عن ناظريّ. ولكنّ العَجَبَ أنه امتزجَ بالحشائش، أو أنها امتزجتْ به، فَبَسَطَ، عن يمينٍ وعن شمالٍ، يَدَيْن ِاستحالتا إلى جناحيْن سرعانَ ما نهضا به وبالمنبسَطِ الحشيشيّ من أرض المعبد، صُعُداً صُعُداً، حتى تلاشى المشهدُ كلُّهُ في موشّحات الغيوم. أَفَقْتُ بعد ذا من غرابة الحلم، واللّغزُ يقلّبني من هاجس إلى هاجس ومن حيرة إلى حيرة. ذلك مَبْلَغُ عِلْمي، أيّها الملك الكريم. قلبُكَ وحده الذي يفسّر الحلمَ، فاستشِرْ فيه وحدَه قلبَكَ.

تينِسّْ: ولسوف يحدّث القلبُ ذاته في قرارة ذاته، فلعلّها تأتي رؤياهُ... ظلاًّ للحلمِ... مطابقاً لمعناه. (يتوجه بالكلام إلى زينونْ) والآن جاء دورُكَ، يا زينونْ. فبعدَ كلِّ الذي قالوهُ وسمعناهُ، بماذا يشير علينا العقلُ الموزون؟ أفصِحْ، ولا تبخلْ على أهل مدينتك بحجّة العقل. قل لنا: كيف تُرانا ندفع الحربَ عنّا، إنْ يكن لدفعها عنّا من سبيل؟

زينونْ: لو كان لنا التصرّفُ في سيرورة الفصول، لكُنّا دفعنا الخريفَ بالصّيفِ، وبالربيع كنّا دفعنا الشتاءَ. ولكنّ الفصولَ هي التي تحكمنا.

تينِسّْ: ولا بدَّ من النزول عند مشيئتها؟

زينونْ: هو البدُّ الذي لا بدّ منه.

تينِسّْ: وهل الحربُ من مشيئةِ الفصول؟

زينونْ: تماماً كما البَشَرُ ظلٌّ لمشيئة الطبيعة.

تينِسّْ: وفصلُ الحربِ... ألا تدفعه عنّا مشيئةُ السلام؟

زينونْ: هيهات ِ! هيهات ِ! إنّما السلامُ هو الحربُ مؤجّلةً إلى حين.

تينِسّْ: أغلقْتَ بوجهنا كلَّ الأبواب ِ، يا زينونْ! تُراكَ تنصحنا بالإستسلام لجيش الفُرْس؟

زينونْ: مُحِبُّ الحكمةِ لا يستسلم إلاّ للعقل، فكيف أنصح لكَ بالإستسلام لِمن نَحَرَ عقلَهُ بهواه؟

تينِسّْ: وأرتحششتا هواهُ النارُ!

زينونْ: فعقلُهُ إذن من دخان.

تينِسّْ: والدخانُ يستحيلُ غيوماً.

زينونْ: والغيومُ تجرفها الريحُ بعيداً... إذا استطعنا...

تينِسّْ: إذا استطعنا ماذا؟

زينونْ: أن نُقْنِعَ الريحَ بالرحيلِ شمالاً.

تينِسّْ: ولكنّها ريحُ الشمال تزحف علينا بالغيم ِجنوباً جنوباً.

زينون: نوقفُ زحفَها علينا... بزحفِنا عليها.

تينِسّْ: وإذن نصبحُ الريحَ التي تكشحُ الريحَ؟

زينونْ: تماماً! تماماً!

تينِسّْ: إذن نخرجُ من حصون المدينة. نتركُ خلفنا أسوارَها. نعبرُ النهرَ. نمضي بنيّةِ الحقِّ شمالاً شمالاً. نُعَلِّم الريحَ الغاصبةَ أنّ بأيدينا دفّةَ الريح ِ، نديرها فيستديرُ على ذاته الكونُ، وترتدُّ كسيرةً إلى كهوفها الريحُ التي من كهوفها انحدرتْ إلينا وعلينا... باطلاً، بُطْلاناً، مُبْطَلاً أبداً. (مخاطباً الجمع)

يا ظلالَ الفينيقِ، يا أهلَ صَيْدا،

ليس مَيْتاً مَنْ مَوْتَهُ يتحدّى.

مثلما الطيرُ بَعْثُها من رمادٍ

فالرجالُ الماضونَ يبغونَ عَوْدا.

كَذَبَ اللَّحْدُ ليس للموت ِلَحْدٌ

هو مَهْدٌ وإنْ يكنْ هو لَحْدا.

فاستعدّوا للحرب ِقلباً شجاعاً

وابْتَغوا النصرَ غايةً ومَرَدّا.

ليس للسيف ِليس للرمح نصرٌ

إنْ قلوبُ الرجال ِلم تَكُ أُسْدا.

إستعدّوا نخرجْ إليهمْ خِفافاً

ونَسُدَّ الآفاقَ بالرعب ِسَدَّا:

رحلةً للحياةِ في نَهَرِ الموت ِ،

غياباً فَمَبْعَثاً مُسْتَجَدَّا.

إنْ يكنْ وَعْدُها الفصولُ خلوداً

فظلالٌ لجنّةِ الخُلْدِ صَيْدا.

     (يخرج تينِسّْ وموكبه وجنده. يبقى سامح وحيداً على المسرح. يشعل سيجارة. يتمشّى خطوات، بينما تدخل نُهَيّة. لا ينتبه لدخولها أوّل الأمر. حينما تتنحنح، يلتفت صوبها.)

نُهَيّة: عُدْتَ إلى التدخين؟

سامح: بل أنفخ الدخان نفخاً. لا أبلعه ولا أستبقيه في صدري.

نُهَيّة: تخادع نفسكَ. كم مرّة حذّرَكَ طبيب الصدر من سرطان الرئة؟ وكم مرّة حذّرَكَ طبيب القلب من تصلّب الشرايين؟

سامح: إنّما هي حاجة في النفس...

نُهَيّة: لتحسّ بأنّكَ لا تزال مرتبطاً بالحياة؟

سامح: الألفة مع الأشياء تجعلها من لوازم الوجود.

نُهَيّة: لن أجادلكَ في هذا. مع أنني أقلعْتُ أنا عن التدخين.

سامح: ها! ها! ها!

نُهَيّة: تُهَأْهِيءُ لماذا؟

سامح: لأنني أعرفُكِ يا نُهَيّة. أنتِ لا تُقْلِعين عن شيء إلاّ لتنغمسي في بديل له. فما هو البديل هذه المرة؟

(من يسار المسرح، قرب حافة الرصيف، يطلُّ شابٌ حاملاً كوباً أبيض من البلاستيك. يهمُّ بالتوجه نحوهما، فتشير إليه نُهَيّة ألاّ يتقدّم.)

نُهَيّة (للشاب): بل عُدْ بالكوب إلى السيارة. وغَطِّه ِبكوبٍ آخر.

(يتراجع الشاب ويتلاشى من حيث أتى)

سامح: بحقّ إله الساحرات، مَنْ يكون ذلك الشاب؟

نُهَيّة: واحد... من شباب الدنيا.

سامح: هو البديل إذن عن الدخان؟

نُهَيّة: أحلّفُكَ بِعِشْرَتِنا القديمة أن تعفيني من سخريتكَ اليوم.

سامح: تعرفين أنني لستُ من التَّزَمُّت ِفي شيء. ولكنّه صغير عليكِ!

نُهَيّة: وتلكَ الصبيّة السمراء التي تلاقيها في مطعم الجندول في بيروت... أليست صغيرة عليكَ؟

سامح: تعرفين أنّها طالبة تخرّجَتْ السنة الماضية.

نُهَيّة: ولماذا لا تزال تلتقي بكَ هذه السنة؟ لمتابعة دروس ما بعد التخرّج؟!

سامح: بل هي تمارس كتابة الشعر...

نُهَيّة: وأنتَ تلهمها؟

سامح: بل أدرّبها وأشرح لها بعض النماذج لتقتدي بها. نسيت ِأنني منذ خمسة عشر عاماً أنشأْتُ منتدى الكتابة الخلاّقة لمساعدة الموهوبين من النشْء ِ الجديد؟

نُهَيّة: ولأخذ الموهوبات منهنّ في جولة شعريّة في زوايا معبد أشمون قرب النهر كلَّ عطلة ربيع؟ أذكر ذلك تماماً. حجّتكَ كانت دائماً أنّكَ تدرّبهنّ على النظر إلى الأشياء بدقة، وعلى ملاحظة التفاصيل التي يتكوّن من ترابطاتها المضمَرة ما يُسَمّى بالتكوين العضوي، ال organic unity ، ال harmony، التي كنتَ شديدَ الملاحظة لها في تكوين أجسادهنّ!

سامح: كنتُ أحسُّ بغيرتكِ منهنّ في عينيك ِ. ولكنني لستُ زوجاً لك ِالآن.

نُهَيّة: لم أكن أغار. كنتُ أضحكُ من تكتيكاتِكَ الأكاديميّة. لا أكثر ولا أقَلّ. دائماً تحاول إيجاد صيغة إجتماعيّة أو أكاديميّة تبرّر بها لقاءَكَ بالصبيّات، وخاصّة خارج إطار الجامعة. خيالُكَ تبريريّ من الطراز الأوّل.

سامح: وما حاجتي للتبرير؟

نُهَيّة: لتحمي نفسَكَ من ظلالِ المُثُلِ...

سامح: أيّةَ مُثُلٍ تعنين؟

نُهَيّة: التي لم تستطع التفلّتَ منها... لِتَجَذُّرِها الطفوليّ في أعماقكَ.

سامح: الله! الله! أصبحْت ِمحلّلتي النفسيّة آخر الزمان؟ ما أشبَهَك ِبنوّارة!

نُهَيّة: أنتَ تعرف أنّ كلينا يعرف. ومن باب الفكاهة فقط أذكّركَ أنّ منتدى الكتابة الخلاّقة كان في الأساس مشروعَ ظلال...

سامح: ظلالٍ لأيّ شيء؟

نُهَيّة: مجرّد ظلالٍ... تُحَجِّب بها عن نفسكَ سرائرَ جسدِكَ.

سامح: والشاب الذي تخبّئينه في السيّارة... ظلٌّ لك ِهو، يا تُرى، أم حجاب؟

نُهَيّة: لستُ من عُريي أخاف. ولطالما تسلّيْتُ بتعريتِكَ!

سامح: لو أنّكِ تلطّفين كلماتكِ بشيء من الشفافية.

نُهَيَّة: لماذا؟ لأنّ الشفافيةَ هي النفاق الحلال؟!

سامح: بل لأنّ الملاطشةَ في حديثكِ اليوم تغلّبتْ على ما فيه من الزهزهة. شربْت ِنبيذاً في السيّارة من دون شك.

نُهَيّة: هو شيءٌ من ظلال عشرتنا القديمة! وعلى فكرة، لقد حَلَلْتُ مشكلة نتائج الإمتحانات. الطلاّب راضون والجامعة راضية.

سامح: فعلت ِذلك كيف؟

نُهَيّة: ليس مهمّاً كيف. المهم أنني نفّسْتُ الإحتقان. أنتَ الآن في دائرة الأمان.

سامح: تُضحكينني، يا نُهَيّة. فالأمان ليس سوى ظلٍّ لوهم السلامة... إبتدعتْه لنا عقليّةُ الإنحلال التي تحكم وجدانَ الناس. الأمانُ وَهْمٌ أردّه إليك ِ، فظلّلي به نفسكِ... لعلّه يفعل فيك ِفِعْلَ النبيذ.

نُهَيّة: يا ناكراً للجميل! أقول لكَ: نفّسْتُ الإحتقان... وتنتقدني؟

 (من يمين المسرح تدخل تمارا وكأنها تقتحم المكان اقتحاماً. تقلّب نظراتها النّاريّة بين سامح ونُهَيّة.)

تمارا (لسامح): من أجلها تركْتَني يا جبان!

نُهَيّة: الشجاع وحده الذي يختارني.

تمارا: طرأْت ِعلى حياتنا كالصُّدْفَةِ العابرة.

نُهَيّة: ولكنني لم أتمَّ العبور.

تمارا: لأنّك ِكالطحلب الذي يُلْصِقُ نفسه بالصخر.

نُهَيّة: والصخرُ لم يكن إلاّ حجراً نَخَرَتْه البرودةُ والريح.

تمارا: الطحلبُ لَزِجٌ، واللزوجةُ تنزلق عليها أقدامُ الرجال.

نُهَيّة: وليس أحبُّ للرجال من انخطافة ِالإنزلاق.

تمارا: توهمهم قشعريرةُ اللحظة ِبالفتنة التي يَتَمَنَّوْنَها أن تدوم.

نُهَيّة: ولقد طالت ِالقشعريرةُ واستبدَّت ِالفتنةُ بالدوام.

تمارا: كذبْت ِيا سارقة! فلم يدم بينكما إلاّ الوهم.

نُهَيّة: وهمٌ هو إذن انْبَنى على تصدِّع ِوهم ٍآخر.

تمارا: بل الحقيقةُ وحدها كانت بيننا.

نُهَيّة: حقيقةُ أنّ الذي بينكما أَوْهَنُ من أن يدوم؟

تمارا: كذبْت ِيا خائنةً لزوجك ِبعشق سواه.

نُهَيّة: وصدقْت ِيا مطلّقةَ زوجك ِأملاً بالزواج من سواه.

تمارا: وأنت ِ، ألم تطلّقي زوجك ِبعد عشر سنوات من الخيانة؟

نُهَيّة: بل بعد عشر سنوات من انتظار الطّلاق.

تمارا: الإنتظار الذي لم يحترم حرمةَ الإنتظار؟

نُهَيّة: بل الإنتظار الذي لم يَخُنْ إرادةَ الحياة.

تمارا: مكرٌ في الفعل ومكرٌ في القول.

نُهَيّة: هو المكر المطهَّرُ من الخبث لأنّ منبعَهُ التصالحُ مع الذّات.

تمارا: بمكرك ِالوهّاج يتصالح شيطانُ الإنجيل وشيطانُ القرآن. فتبّاً لك ِثم تبّاً!

سامح (لتمارا): يظهر أنك ِتوقّفت ِعن أخذ ِال .lexotanil

تمارا: ليس من شأنكَ أخذتُهُ أم توقّفتُ...

(من يسار المسرح تدخل نوّارة، وقد غابت عنها ابتسامتُها التي ملء وجهها، وخلفها ثديّة، يتدلّى من عنقها عقد من الياسمين.)

نوّارة (لنُهَيّة وتمارا): الماضي انتهى، فَانْتَهِيا مثله، وارْحَلا عن هذا الكورنيش!

نُهَيّة: الكورنيشُ لكل الناس. واسكربينتي أكلتْ منه وأكل منها أكثر من سنوات عمرِك ِ.

تمارا: والماضي الذي تحسبينه انتهى، لم ينتهِ بعد.

نوّارة: الذي كان لكما أصبح اليوم لي. فأنا وإيّاه وابنتي نحتلّ الحاضرَ والذي بعده.

نُهَيّة: الحاضرُ مسكونٌ بي، فأنا امتدادٌ للزمان.

تمارا: وأنا الزمانُ الذي خانَتْه التي طلّقَتْ زوجَها لتسلبني إيّاه... هذا الذي تعبَ الكورنيش من خطى قدميه.

نُهَيّة: لم أسلبْهُ إلاّ من ضياعِه ِ... لأنّك ِ كنت ِله الضّياع.

تمارا: حينما كنتُ له الدنيا، كنتِ أنت ِعلى كورنيش النسيان. أو لعلّك ِكنتِ تتسكّعين في سرير ٍما... قبل أن تكتشفي سريره.

نوّارة: خسرتُماه ولمّا تنسياه!! أغمضا عيونَكما وَارْحلا، فعيناه انْسَحَرَتا في الدّائرةِ التي رسمتْها له عيناي بعذريّة ابنتي ثديّة.

نُهَيّة: كان لها (مشيرةً إلى تمارا) ثم لم يكن. ثم كان لي ثم لم يكن. ولكنّه لن يكون لك ِأبداً.

نوّارة: صدقْت ِ، يا امرأة. لأنّه سيكون لإبنتي ثديّة.

نُهَيّة (لسامح) : ما كنْتُ أعرفكَ تحبّ العذارى.

تمارا (لسامح): وما عرفْتُكَ أبداً تؤمن بوجودهنّ.

سامح: إهْدَأْنَ! إهْدَأْنَ يا نساء! ما بقي من العمر لا يستحقّ كلّ هذا الجدل.

تمارا: ربما.

نُهَيّة: وربما يستحقُّ منكَ أن تعيدَ قراءةَ رواية الأمواج لفيرجينيا وولْفْ.

سامح: لا! لا! لن أعودَ إلى تلك الرواية أبداً.

تمارا: أعود إليها أنا مرّةً كلّ سنة.

نُهَيّة: لأنّك ِتحلمين بالموت ِغرقاً! وذلك بالطبع ألطف من صوت الخرطوشة التي أنهى بها همنغوايْ حياته. أليس كذلك، يا سامح؟

سامح: كفى! كفى!

نُهَيّة: أجْفَلَتْكَ الهواجسُ؟

سامح: إرحميني يا نُهَيّة! إرحميني يا تمارا! إرحمنَني يا نساء! ولترحمْ إحداكنّ الأخرى. في الهزيع الأخير من العمر، وقبل أن تفضحنا القيامةُ، علينا أن نتصالح مع الحقيقة، لا أن نتمادى في خيانتها.

نُهَيّة: بل حتى في القيامة سوف نخونها!

تمارا (لسامح): المصالحةُ بالسماح ِتكون. ومانِحُ السماح رَحَلَ عنّا قبل أن يحرّرَ أرواحَنا بالغفران. أَسَأْنا إليه بخيانتنا إيّاه، وأساء هو إلينا برحيله المبكّر عنّا. لم يبقَ لنا إلاّ أن نظلَّ يسامح أحدُنا الآخرَ حتى يوم القيامة.

نُهَيّة: إلى زجاجة النبيذ إذن! وإذن وداعاً يا أهل التوبة!

(تمضي وتتلاشى في يسار المسرح.)

تمارا: سألحقُ بها حتى لا تعود!

(تتلاشى خلف نُهَيّة في يسار المسرح.)

نوّارة:وأنا وأنت ِيا ثديّة سنلحق بهما إلى حافة الموت! (لسامح) إنتظرْنا! لسوف نعودُ إليكَ.

سامح: بل لا تعودا أبداً.

نوّارة: لا تطلب المستحيل. ثم إنّي لم أحْك ِلكَ بعد حكايةَ الحليب الفاتر.

(تشير إلى ثديّة أن تلحق بها. بحركة سريعة، تأخذ ثديّة عقد الياسمين من حول عنقها وتضعه حول عنق سامح. سامح ينفض العقد ويرمي به على الأرض. تتلاشى المرأتان في يسار المسرح.)

سامح (لنفسه): أشقى الرجالِ المتشرذمون بين النساء! وأن تتمنى التوبةَ ولا تستطيعها... فتلك هي المحنة الكبرى!

(من يسار المسرح تدخل الصيداويّة الغريبة على عجل وفي حالة توتر شديد. تخاطب سامح.)

الصيداويّة الغريبة: ساعدْني أرجوك! أرجووووكَ لا تهربْ! مستقبل ابنتي في خطر. زوجها لا يزال يلحّ عليها بأن تفعل بجسمها مثلَ ما كانت تفعله بجسمها النوريّة. يلحّ ويهدّد...

سامح: إرحلي عنّي! يكفيني الذي أنا فيه. إرحلي! إرحلي!

(يضرب الأرض بقدمه مرة، مرتين، ثلاث مرات، فتتراجع الصيداويّة الغريبة وتتلاشى في يمين المسرح. من يسار المسرح، يدخل الشحّاذُ الهَرِمُ متوكئاً على عكازه. خطاه تقوده مباشرة نحو سامح. يمدّ إليه يده مستعطياً.)

الشحّاذ: من مال الله... يا عباد الله... من مال الله...

(يستخرج سامح من جيبه قطعة نقدية ويدسّها في اليد الممدودة نحوه. يأخذها الشحّاذ ويمضي في سبيله، متوكئاً على عكازه بيد، رافعاً اليد الأخرى، كما عينيه، إلى السماء، مردّداً وكأنما لنفسه:)

الشحّاذ: اللهمَّ أَظِلَّهُ بظلّكَ يومَ لا ظلَّ إلاّ ظِلُّكَ...

(يتلاشى في المسافة... من يسار المسرح يدخل هادي متلفتاً وراءه بين خطوة وخطوة.)

سامح: هادي! حبيبي! أين كنتَ كل هذه المدّة؟

هادي: كنتُ... أتنصّتُ عليهنّ، يا جدّو!

سامح: تتنصّت! لماذا؟ ولماذا لم تأت ِمباشرةً إليّ؟

هادي: خفتُ، يا جدّو. أصواتُهُنّ كانت عالية...

سامح: الأربعَ نساء تعني؟

هادي: نعم، يا جدّو.

سامح: كُنَّ يتشاكسْنَ كما تتشاكس الدجاجات. لا داعي للخوف يا حبيبي.

هادي: أربع نساء يا جدّو!! من أين تعرفهنّ؟

سامح: من الدنيا...

هادي: ومَنْ يشاكس أكثر، يا جدّو، النساءُ أم النوريّات؟

سامح: حينما يَغْضَبْنَ... فكلُّهنَّ نوريّات، يا حبيبي!

هادي: تعالَ معي إذن إلى قطر. ال puzzle لا تزال تنتظرنا في غرفتي. ثم إنني أخاف أن يرجِعْنَ إليكَ.

سامح: إهدأ! إهدأ! لقد ذهبْنَ بعيداً بعيداً.

هادي: ولكنني أرى على بلاط الرصيف ظلاًّ لهنّ... وظلاًّ هنا... وظلاًّ هناك... وذلك ظلٌ آخر! أنظر معي. ظلالُهنّ في كل مكان!

سامح: بل ذلك من فِعْلِ خيالك يا حبيبي.

(يشعل سيجارة)

هادي: خيالي مثلي يخاف! فلنذهب الآن إلى قَطَرْ.

سامح: جدُّكَ داهمه الكِبَرُ، ونَفْسُه توسوس له... بالتوبة... قبل الذهاب معك إلى قَطَرْ.

هادي: وتتوب كيف يا جدّو؟

سامح: شيءٌ... مثل... أعني... ربما أؤدي فريضة الحجّ.

هادي: فريضةَ ماذا؟ أنتَ اليوم مثل ال puzzle، يا جدّو!

سامح: الحجّ هو أن أذهب إلى مكان خاص... لشيء أشبه بالصلاة...

هادي: ولكنّكَ تصلّي في صيدا وتصلّي في قَطَرْ. وأنا أَفْرِدُ لكَ السجّادة.

سامح: الصّلاة، بعد التقاعد، يجب أن تكون في مكان آخر.

هادي: أيَّ مكان تعني؟ أيَّ مكان؟

سامح: أرضَ الحجاز. في مكّة.

هادي: خذني معكَ إذن. أنا أحبّ أن أتفرّج.

سامح: الحجّ ليس للفرجة. الحجّ للحجّ فقط.

هادي: إذن أحجّ معكَ.

سامح: لا تزال صغيراً على الحجّ. وحينما تكبر ستحجّ وحدكَ.

هادي: وحدي؟ إلى مكّة؟

سامح: إلى مكّة... إلى القدس... إلى روما... أو حتى إلى أثينا. مَنْ يدري؟ الأشياء في أيّامِكَ قد تكون غير الأشياء في أيّامي. المهم أن تحجّ.

هادي: المهم أن نظلّ معاً أنا وأنتَ، يا جدّو.

سامح: هيهات! هيهات! فالكِبَرُ، يا جدّو، عنكبوتُ الليل والنّهار.

هادي: ومن سواكَ سيدلّني على طريق الحجّ؟

سامح: نَفْسُهُ الذي سيدُلّكَ على الطريق إلى الفردوس.

هادي: الفردوس؟! وهل يجب أن أحجَّ كذلك إلى هناك؟

سامح: طبعاً يا جدّو. كل طرق الحجّ تؤدي إلى الفردوس.

هادي: ولكنني أريد أن أذهب معكَ. أنتَ فقط دُلَّني على الطريق...

سامح: دانتي كان دليلَه فيرجيلْ. وجَدُّكَ كان دليلَه لا أحد. أمّا أنتَ فلعلّها يوماً أن تسعفكَ الظلال.

هادي: لا أفهم عليكَ اليوم شيئاً، يا جدّو! لا أفهم عليكَ.

سامح: حينما تصبح في منتصف العمر وتضلُّ طريقكَ في الغابة، كما ضلّ دانتي، فلسوف تكتشف أن الجحيم هي المعبر الأوّل إلى يقين الفردوس.

هادي: جدّووو! جدّووو! You are a funny and a CRAZY man!

سأخبر الماما والبابا أنني لم أعد أفهم عليكَ.

سامح: بل ستفهم عليّ حينما تكبر.

هادي: إن لم تذهب معي الآن إلى قَطَرْ، فسأذهب وحدي!

سامح: أُسْبُقْني أنتَ. سألحق بكَ بعد قليل. (هادي يبتعد عن سامح في تردّد مشوب بالخوف والقلق) أُسْبُقْني ولا تَخَفْ.

هادي (بصوتٍ حزين): لا تتأخّرْ، يا جدّو، فالليلُ منّا قريب.

سامح: أجل. أجل. الليلُ منّا قريب.

(يتلاشى هادي في المسافة. يتلفّت سامح حوله في ضياع. يضرب الأرض بقدمه مرة، مرتين، ثلاث مرّات.)

سامح (لنفسه): لم أعد أسيطر على أفكاري... ولا على خيالاتي... ولا حتى على كلماتي. الخوف كان ملء عينيه، الصغير المسكين. غلطتي أنني توقفتُ فجأةً عن أخذ ال .seroxat تبّاً لكَ يا سامح!

(فجأة، وكأنّما استفاق على الفراغ الذي يحيط به، يأخذ في الصّراخ، بصوتٍ متمرّد ولكن مكسور النبرة:)

سامح: أين أنتََ يا تينِسّْ؟ أين أنتَ يا عبد الجمال؟ يا بنات صيدون! أدركْنَني يا بنات!

(في آن معاً، يدخل عبد الجمال من يمين المسرح، يتبعه شباب وصبايا صيدون، بينما من يسار المسرح يدخل الملك تينسّ، في لباسه العسكري، يتبعه موكب من العسكر والمدنيين.)

عبد الجمال: بهيّةٌ طلّتُكَ علينا أيها الملكُ المنتصرُ على جيش الفرس. غيومَ الحرب كشحتَها عن أهل مدينتكَ بحكمةِ خروجك إلى عدوّنا وراء أسوارنا، وبشجاعةِ مواقد ِالنار ِالتي أشعلتْها في الجند شجاعتُكَ. تحيّةً منّا إليكَ يا سيّدَ النور والنار.

يارا: واعتذاراً منّا إليكَ أَنْ لم نلحقْ بكَ لنؤدّي معكَ واجب الدفاع عن مدينة أشمونْ.

عُسَيْلة: والعفوَ نسألُكَ لإنغماسنا في إلهامات باخوس وعشتروت... في زمن الشدائد الذي كان.

تينِسّْ: العاطفةَ النبيلةَ فيكم وفيكنّ أُجِلُّها. أما الإعتذارُ فمرفوض، لأنّ الحياةَ التي ألهمتْنا إيّاها الفصولُ إنما تحرسها جبهتان: جبهةُ العسكرِ وجبهةُ العشق ِ. الأولى تحمي الأسوارَ والثانيةُ تحمي القلوب. وهل للأسوار ِمن نفع ٍإذا لم تخفقْ  بالحياة ِالقلوبُ؟

دامو: أشهدُ أنكَ اليومَ أشعرُ أهلِ صيدون.

تينِسّْ: وأشهدُ أنّني لستُ ملكَ الشعراء.

عبد الجمال: فِعالُكَ القصائدُ التي أَحْرَجَتْ قوافينا.

تينِسّْ: وقصائدُكَ الغزليّة لا تغني عنها انتصاراتُنا في الحروب. كلُّ قصيدةٍ معركةٌ وكلُّ قافيةٍ انتصارٌ. أليستْ صيدونُنا عاصمةً من عواصم الفكر والإبداع؟

دامو: بذلكَ يشهدُ أبي فيثاغورس. ومن أجل ذلك أرسلني لمتابعة دراستي في معاهد أشمونْ.

تينسّْ: ستة أشهر مضتْ على انتصارنا المجيد. ولكنْ يبدو أن الحرب لم تنته بعد. ملكُ الفرسِ غاظه انكسارُ جيشه وهاله أنّ إرادةَ مملكة صغيرة على شاطيء المتوسط زعزعتْ ثقةَ مملكته بقدراتها العسكرية. إجتماعاتُه بقادة جيوشه دؤوبةٌ دؤوبة. ولا ندري عَمَّ تتمخّض آخر الأمر.

قائد الجند: ألاّ تأخذَنا نشوةُ النصر، تلكَ هي الوصيّة الخالدة.

تينسّْ: ولكنّ الفرحةَ بالنصر من حقّ الشعب.

عبد الجمال: ولكنْ حتى الفرحة بحاجة إلى حماية.

قائد الجند: نحميها باليقظة.

عبد الجمال: ولعل اليقظةَ وحدها لا تكفي. فإنّ الفرحةَ إذا مكرتْ مَكْرَها، نامت عنها عيونُ اليقظة.

تينِسّْ: وإذن فكيف نحمي المدينة؟

عبد الجمال: ندمج عشقَ الشباب للصبايا وعشقَ الصبايا للشباب بعشقنا جميعاً للمدينة.

تينِسّْ: كيف؟ كيف؟ تحدّثنا اليومَ بالألغاز، يا عبد الجمال!

عبد الجمال: بل بالسهولة الممكنة، أيها الملك الجليل.

تينِسّْ: بيّنْ لنا، إذنْ. بيّنْ معناك.

عبد الجمال: من وظائف الشعر أن يحوّل المدينةَ إلى امرأة... امرأةٍ فيها ملمحٌ من كل امرأة... امرأةٍ لا يمتلكها أحدٌ لأنها نُذِرَتْ للعشق. ومَنْ هي نُذِرَتْ للعشق ِأَبْقَتْ عشّاقَها في حالةِ فرحةٍ كما في حالةِ يقظة! أليس مِنْ أجلِ هكذا امرأةٍ يُسْتَشْهَدُ عشّاقُ الدنيا، أيها الملك الجليل؟

تينِسّْ: شاعرٌ أم نبيٌّ أنتَ؟ تبشّرنا بجيشِ العشق!! فَأَبْشِرْ به جيشاً!

قائد الجند: ونترك هذا الجيشَ الرديفَ بغير تدريب على فنون القتال؟ القتالِ الآخر، أعني، الذي نتقنه نحن؟

تينِسّْ: أبداً، يا قائد الجند. ولكنّ الإنخراط في جيش العشق طوعيٌّ لكل شاب وفتاة.

عبد الجمال: العشقُ لا طواعيّةَ فيه ولا اختيار. ولذا فالتطوّع في جيشه هو الخيار الوحيد.

تينِسّْ: أنتَ طَوِّعْ شبابَكَ وصباياكَ، وقائدُ الجند يتولّى تدريبهم وتدريبهنّ على فنون القتال.

قائد الجند: حرب الشوارع سيكون جوهرَ اهتمامنا في تهيئة الجيش الرديف. أما الجيش النظامي فسوف يقيم دفاعاته خارج أسوار المدينة إذا ما عزم الفرسُ على الزحف علينا من جديد.

تينِسّْ: برعاية الآلهة أترككم الآن، تتابعون مهماتكم، وأمضي في مسيري نحو معبد أشمونْ، لحرق ِالبخور، والتبرّك ِبنباتاته المقدسة، والتضرّع ِلإله الصحة أن يلهمنا قوّةَ الجسد وصلابةَ الروح. (متوجّهاً بالكلام للشباب والصبايا) وأنتم وأنتنّ، صَلّوا معي في غيابي، فإنّ العشقَ صلاة.

عُسَيْلة: ولكَ العشقُ كلُّهُ منّا والصلاة.

مشباح: ولكَ منّا السواعدُ والصدورُ، أسواراً داخل الأسوار.

عشقاء: واللهفةُ النسويّةُ فينا ستكون الجمرةَ التي نشعلُ بها إرادةَ شبابنا.

جيّاش: وهيجانُ أجسادنا إِنْ هو إلاّ الأمواجُ العاتيةُ في وجه غيوم الفرس القاتمة.

نسمة: وحمرةُ نبيذنا في الحرب ستكون شعلةَ أرواح ِعشّاقنا.

لهفان: ونضارةُ حبّي لنسمةَ ستكون النسمةَ التي أعتى من عواصف المنجنيق.

هفيف: وهَفَّةُ قلبي للجمال ستهزم هفّةَ قلوب الفرس لبشاعةِ القتلِ والتنكيل.

عدّاء: وقدماي ما هما إلاّ الخطفةُ التي ستقرّب الموتَ خطفةً لكلّ مَنْ يضمر لصبايا مدينتنا الفناء.

يارا: وحتى غيابُ بعضِ عشّاقنا عنّا سيكون الحرقةَ التي ستحرق نيّةَ الغاصبين.

تينِسّْ: بكم وبكنّ، إذن، يلتئم شملُ الجيشِ الرديف. وما العشقُ فيكم وفيكنَّ إلاّ الظلُّ الظليلُ لإرادة الربيع. وداعاً وداعاً. وإلى لقاء قريب. (لأفراد موكبه) هيّا بنا إلى معبد أشمونْ.

قائد الجند (للشباب والصبايا): لا تبرحوا أمكنتكم، فعائدٌ أنا إليكم وإليكنّ عمّا قريب.

(يمضي تينِسّْ، يتبعه موكبه وجنده، حيث يتلاشى الجميع في يمين المسرح.)

عشْقاء: عبد الجمال! عبد الجمال! ما الذي ينبغي أن نفعله الآن قبل أن يعود إلينا قائدُ الجند؟

عبد الجمال: لو كان ينبت الحشيشُ في الغيومْ

لكنتُ رحَّلْتُ الصبايا والحريمْ

إلى مدارج ِالسحابْ

إلى لفائفٍ مخضرّةِ الضبابْ

معصومةٍ من فتنة الحروبْ

ومن مكائد ِالشعوبْ

فَكُنَّ فُزْنَ بالأمانِ والنعيمْ

لو كان ينبت الحشيشُ في الغيومْ...

عُسَيْلَة: حتى هذه اللحظة لم نَرَ الحشيشَ ينبت في غيومكَ، يا عبد الجمال.

عَشْقاء: نحن لا نرى من الغيوم ِإلاّ أسفلَها. والحشيشُ، إِنْ ينبت، فإنّما ينبت على سطحها الذي لا نراه.

هتون: نراه إذا نحن ارْتقينا إليه مدارجَ الهواء.

عُسَيْلَة: وكيف لنا بذاك؟

هتون: ذلك هو اللغز الذي لم يحلّه لنا بعد عبدُ الجمال.

عبد الجمال: العشقُ هو اللغزُ الذي يحلّ كلَّ الألغاز.

هتون: العشق نعرفه كلُّنا، أمّا الحلُّ ففي مخيّلتكَ أنتَ.

عبد الجمال: للعشق ِعيونٌ ترى الذي لا يُرى. ولسوف يأتي الزمنُ الذي تبصر فيه العيونُ سطحَ الغيوم ِكما أسفلَها.

عُسَيْلَة: عيونُنا كلّها مفتّحةٌ ولكنها لا ترى الوجهَ الآخر للغيوم.

عبد الجمال: ذلك لأنّها مفتّحةٌ على فراغ الفضاء. حينما تمتليء بذات ِالعشق ِتنفتح لها الرؤى حتى في الغَمْضِ.

عشْقاء: كأنّني أفهم ما تقول، أو أكاد. فكم من هنيهةِ استغراق ٍمرّتْ بي حسبْتُ نفسي فيها تترقرق بين الأرض والسماء.

عبد الجمال: الإستغراقُ هو الوجدانُ المحضُ، هو التربةُ التي تُنْبِتُ الإحتمالَ يقيناً.

جيّاش: احتمالَ أن تصبح السماءُ هي الأرضَ... والغيومُ حشيشاً؟!

عبد الجمال: لا تَعْجَبْ، فبالعشق ِوحده تتوحّد المتناقضات. (ينشد):

كلّما مَسَّكَ الجنونُ بهنَّ

اسْتَمْسَكَ العقلُ بالجنونِ فَأَنْتا

أنتَ لا مسرفٌ ولكنْ حكيمٌ

كلّما مُتَّ في هيامكَ عِشْتا!

دامو (للشباب): أي لا حياةَ لكم إلاّ بموتكم هياماً بنا! وهذا حقٌّ لنا عليكم!

جيّاش: والمدينةُ... كيف يحوّلها الشعرُ إلى امرأةٍ منذورةٍ للعشق؟

دامو: ويحكَ، يا جيّاش، ألم تفهم بعد؟ المدينةُ أنثى، وخلاياها نحن الصبايا. وكلُّ بيتِ شعرٍ تقولونه فينا يُنْبِضُ في خلاياها الحياة. هو شيءٌ في فطرة التحوّلات.

جيّاش: ولكن كيف هو الشعر الذي يفعل ذاك؟

دامو: إِعطهمْ مثلاً، يا عبد الجمال. هيّا (تنشد):

أُنظمْ قصيدَكَ في حسني بلا ورع ٍ

فمَنْ سواكَ بهذا الحسنِ يحتفلُ؟

عبد الجمال: كلُّ الصيادنةِ الهاموا بحُسْنِكمُ

وبالقصيد ِتبارَوْا فيك ِواقتتلوا

دامو:       يا حبّذا يتبارى الشعرُ، موقدُهُ

في العشق ِ، لا في حروب ِالشرِّ، يشتعلُ

عبد الجمال: دامو، أنا حيرتي بالحُسن ِتذهلني

فليس غيرَ ذهولِ النفسِ لي شُغُلُ

إذْ كيف يحتضنُ الفستانُ زوبعةً

ويكتم الريحَ، والفستانُ مُنْهَدِلُ؟

أنت ِالتي ترتدي من عُرْيِِها صخباً

وأنت ِزوبعةٌ لفّاتُها قُتُلُ

يا فَتْلَةَ الريح ِ، يا خَصْرَ الرحيلِ، ألا

لففت ِبي الأرضَ، تطويني وأمتثلُ؟

دامو: أجدتَ، يا عبد الجمال. ولَكُنْتَ تكونُ أشعرَ لو عَدَّلْتَ ذلك البيت فقلتَ:

فكيف تُضْمَرُ في الفستانِ زوبعةٌ

وتُكْتَمُ الريحُ، والفستانُ منهدلُ؟

عبد الجمال: عَدِّلي وبَدِّلي ما تشائين، فما أنت ِإلاّ أنت ِ.

عُسَيْلَة: ونحن، بنات ِصيدونَ، نسيتَنا في حضور الغريبة؟

عبد الجمال: الجمالُ كلُّ البلاد ِوطنُه.

هتون: ولكننا نحن خلايا هذه المدينة.

عشقاء: والشعرُ حريٌّ به أن نكون نحن مبتدأَهُ ومنتهاه.

(من يسار المسرح تندفع نحو الجمع نهيّةُ وتمارا. بغضب وتصميم، تومئان للشباب والصبايا وعبد الجمال بالإبتعاد عن سامح، فينكمش هؤلاء في دائرة ضيّقة ويظلّ الحديث دائراً في صمت بينهم وبينهنّ. تتقدّم نُهَيَّة من سامح وتخاطبه بعتب:)

نُهَيَّة (لسامح): في خلواتنا المحمومة، حينما كان يفلتُ عليكَ الجنونُ، كنتَ تضرب على كتفيَّ بكفَّيْكَ، وصراخُكَ يعصف بالبيت، فلماذا كنتَ تضربُ على كتفيَّ؟ ألْفَ مرّة سألتُكَ ولم تُجِبْ. صارحْني الآن، فلم يعدْ من معنى لكتمان الأسرار.

سامح: لم يكن لديّ ما أخفيه عنك ِ. وظنّي أنّك ِكنت ِتعرفين كلّ شيء.

نُهَيَّة: إلاّ ما سألتُكَ عنه. فهو الأمر الذي لا يزال يحيّر ذاكرتي.

سامح:لعلها... شهوةَ النفس... كانت لا تعدلها... مؤونةُ الجسد. ومن ذلك كان العذابُ الذي صببْتُ على كتفيك ِمنه الجزءَ اليسير.

نُهَيَّة: من باب المشاركة بالعذاب؟ أم لأنني سببه؟

سامح: من كليهما معاً، إن لم تخنّي الذاكرة.

نُهَيَّة: زئبقيّةٌ هي أسرارُكَ... تماماً كما هي ذاكرتُكَ.

سامح: إذن فارحميني واتركيني أعُدْ إلى مسرحيتي.

عبد الجمال: عُدْ إلينا يا سامح. تتركنا ننتظر إلى متى؟

(تمارا تدفع بنُهَيَّة بعيداً عن سامح وتخاطبه بعتبٍ ممزوج بالحيرة:)

تمارا (لسامح): لن تعودَ إلى أيّ شيء قبل أن تجيبني أنا!

سامح: أجبتُ عن كلّ أسئلتك ِولا تزالين تعودين إليّ!

تمارا: ذلك لأنني لم أكن يوماً على يقين إن كنتَ تحبني أم كان الأمر كلُّه مجرّدَ شهوة.

سامح: هاجسُ المرأة الأزليّ!

تمارا: أما كنتَ لتهجس به مثلي لو كنتَ امرأة؟

سامح: قدري أن أكون رجلاً.

تمارا: والرجلُ لا يعنيه من المرأة أن تكون تحبّه؟

سامح: كلّ ما يعنيني من المرأة أن تكون راضيةً بحبّي لها.

تمارا: وبشهوتكَ؟

سامح: وبشهوتي طبعاً.

تمارا: إذن تفرّقُ بين الحب والشهوة؟

سامح: بل أمزج بينهما. فأحدهما كالظلّ للآخر. أو أنّهما ظلاّن لشيء لا أعرفه ولا أفهمه.

تمارا: وحينما كنتُ أهجركَ ليوم أو يومين، وكنتَ تتسلّل إلى باب شقّتي في منتصف الليل وتقذف بابي ببيضتين، هل كان جنونُكَ ذاك شيئاً من الحب أو شيئاً من الشهوة؟

سامح: بل شيئاً من الجنون كان.

تمارا: كنتُ أتمنّى ذلك منكَ وأخشاه. وكنتُ لا أستطيع النوم حتى أسمع صوت البيضتين تنكسران على الباب. كنتُ لحظتَها أطمئنُّ عليكَ وأرتمي في سريري راضية.

سامح: راضيةً بجنوني؟

تمارا: أوَ ليس هو ظلاًّ لشيء فيكَ لا تعرفه؟

سامح: مَنْ يدري؟

تمارا: ولكنّ الشيء الذي كان دائماً يحيّرني هو أنّ البيضتين، في كلّ مرّة، لم تكونا مسلوقتين. لماذا كنتَ تختارهما نيّئتين؟

سامح: ربما لأنني، في تلك الايام، كنتُ أحبُّ الأذى طازجاً!

تمارا: في تلك الايام، كنتَ بحاجة مثلي لحبوب الْ lexotanil. ولكنّكَ كنتَ تفضّل عليها النبيذ.

(نُهَيَّة تدفع بتمارا بعيداً عن سامح وتخاطبه هي:)

نُهَيَّة (لسامح): بل كنتَ تفضّلني عليها وعلى النبيذ وعلى ال lexotanil!

سامح: حتى ارتحتُ منكنَّ جميعاً آخر الأمر بال seroxat!

نُهَيَّة: أنا عرّفتُكَ عليه. قلتُ لكَ: يحررّكَ من كوابيس النوم التي كانت تطاردكَ الليلَ بعد الليل. وفي سرّي كنتُ أكتم عنكَ سرَّ الأسرار.

سامح: ولكنّ ال seroxat فعلاً حرّرني من الكوابيس.

نُهَيَّة: وفي ذات الوقت كان يُبَطِّيءُ من سرعة إحساسكَ بنغنشةِ اللّذة، فكنتَ تمتّعني لساعات وأنتَ تبحث عن لحظة النشوة.

سامح: وسِرُّك ِفي ذلك كان؟

نُهَيَّة: في ذلك بعينهِ!

سامح: ولكنّ إمتاعك ِكان من متعتي.

نُهَيَّة: هكذا تقول أنتَ. وهكذا يقول سواكَ.

سامح: وسوايَ... جَرَّبَ نَفْسَ الحبوب؟

نُهَيَّة: كلُّ صديقاتي يشكرنني على النصيحة الآن.

سامح: أشكرك ِأنا كذلك... ولو بعد فوات الأوان.

نُهَيَّة: أواني لم يَفُتْ بعد. شيءٌ في تكويني يرفض التقاعدَ المبكّر.

سامح: إذنْ دعيني أرجعْ إلى مسرحيتي... لأحارب بها الشيءَ الذي أخشاه.

نُهَيَّة: تظلّ تلهث على هذا الكورنيش. تظلّ تبحث عن التعب. ما الذي تخفيه ويعذّبكَ؟

سامح: ليس لديّ ما أخفيه.

نُهَيَّة: كأنني لا أعرفكَ!

سامح: أو كأنني لا أعرف نفسي.

نُهَيَّة: إذنْ قلْ لي ما الذي يعذّبكَ؟

سامح: يعذّبني أن تتضاءلَ كلُّ الأشياء كلما اتسعتْ مساحةُ الزمن. حتى العُمُرُ الذي نسبحه نَهْراً لا نتذكره إلاّ قطرات.

نُهَيَّة: إذنْ أَلْق ِ بنفسكَ في البحر إن كنتَ تصرّ على استعادة النهر. فيرجينيا وولفْ تناديكَ!

(تقتحم المكانَ نوّارةُ وثُدَيَّةُ— ثديّة تحمل بيدها عقداً من الياسمين-- وتدفعان بتمارا ونُهَيَّة بعيداً عن سامح.)

نوّارة (لسامح): بل أنا التي أناديكَ. وعذريّةُ ابنتي تناديك. ثم إنني لم أَحْك ِلكَ بعد حكايةَ الحليب الفاتر!

ثُدَيَّة (لسامح): أنتَ لم تَعُدْ لهما. أنتَ الآن كلّكَ لي.

(بحركة سريعة تطوّق عنقه بعقد الياسمين. تدخل الصيداويّة الغريبة متجهةً صوب سامح. من يسار المسرح يندفع هادي نحو نوّارة وثُدَيَّة. يضربهما بقبضتيه وهو يدفعهما بعيداً عن سامح. يفعل نفس الشيء مع الصيداويّة الغريبة.)

هادي: هو جدّي أنا! جدّي لوحدي. أتركْنَهُ لي. سآخذه معي إلى قَطَر.

عبد الجمال: ليس قبل أن ينهي مسرحيته الفينيقيّة التي أَسَرَنا في حَبْكتها. هيّا التففْنَ حوله، يا صبايا صيدون، وحرّرنَهُ من الغريبات عنّا والغرباء.

     (الصبايا، وحولهنّ الشباب، يدورون جميعاً حول سامح، فتتلاشى نوّارة وثديّة وتمارا ونُهَيَّة وهادي والصيداويّة الغريبة في زوايا المسرح. يضرب سامح بقدمه الأرض مرة، مرتين، ثلاث مرّات، وكأنما في محاولة لأخذ زمام المبادرة من جديد.

     من يمين المسرح تدخل صبيّةٌ في الثانية عشرة، مهرولةً صوب دامو وعبد الجمال، وهي تتلفّتْ خلفها في شيء من الخوف. ثم يدخل رجل في السبعين، سريعَ الخطى بقدر ما يسمح له عكّازُه بذلك.)

عبد الجمال: ما لكِ تلهثين، يا رُهَيَّة؟

دامو: اهدئي يا صغيرتي، اهدئي.

رُهَيَّة: خلِّصاني من جنونه! خلّصاني!

عبد الجمال: القصّةُ نفسها!! يلحقُ بِكِ عبدُ الصّبا لا يزال في كلِّ مكان؟

رُهَيَّة: بل يحاصرني حصاراً لا فكاكَ لي منه.

دامو(مستظرفةً الموقف):حصارُ الهوى مكين!

(يتقدّم منهم عبدُ الصِّبا، يضرب الأرضَ بعكّازه. تحتمي منه رُهَيَّةُ فتقف خلف دامو، بينما الصبايا والشباب يغرقون في ضَحِك ِالمستطرِف.)

عبد الجمال: مهلكَ، يا عبدَ الصِّبا، مهلك.

عبد الصِّبا: أيَّ مهلٍ تعني؟ وأيَّ مهلٍ قادرٌ أنا عليه؟

عبد الجمال: ولكنَّ الفتاةَ صغيرةٌ عليكَ.

عبد الصِّبا: ليس من فتاةٍ صغيرةً على الحبّ!

دامو: أحسنتَ، يا عبد الصِّبا! ولكنّكَ تخيفها، فماذا فعلتَ؟

عبد الصِّبا: أطالبُ بنصيبي في الحياة. هذا كلُّ ما فعلتُ.

عبد الجمال: نصيبُكَ في عكّازِكَ، يا رجل. ألا تستحي من عكّازك؟

عبد الصِّبا: لو كان العكّازُ يستحي منّي لإستحيتُ منه!

دامو: منطقُ الهوى مكين!

رُهَيَّة: بحقِّ أدونيسَ وعَشْتروتَ امْنَعاه من الإقتراب مني ومن مطاردتي في الأزقّة والساحات.

عبد الصِّبا: ذلك أبداً لن يكون. (مخاطباً رُهَيَّة) بحقِّ إله الصحّةِ الذي أدامَ عليَّ قوّتي، سأظلُّ أدورُ حولكِ مثلما تدور الفصولُ.

عبد الجمال: إذهبي الآن إلى بيتكِ، يا رُهَيَّة. وأنتَ، يا عبد الصِّبا، لي حديثٌ معكَ.

(تنطلق رُهَيَّة حتى تختفي، بينما يمسك عبد الجمال بكتف عبد الصِّبا ليمنعه من اللّحاقِ بها.)

عبد الصِّبا: أنتَ شاعرٌ مثلي، وتحرمني من الحياة؟

عبد الجمال: قلْ فيها ما تشاء من الشعر. ولكن اتركها لتعيش عمرَها.

عبد الصِّبا: وعمري أنا؟

عبد الجمال: أنتَ عشتَ عمرَكَ، يا رجل.

عبد الصِّبا: ولكنّها العمرُ الجديدُ في حياتي. ألا تؤمن بتجدّد الفصول؟

عبد الجمال: ويحكَ من ماكرٍ ظريف!

عبد الصِّبا: بل ويحكَ من خائنٍ للحياة!

عبد الجمال: إهدأ! إهدأ! أما ترتاح لحظةً... لُحَيْظَةً... من الشوق ِإليها؟

عبد الصِّبا: كأنّك لا تعرفني!! شاعرٌ قبلنا كان يقول إنّ شوقه لمحبوبته كان يموت إذا ما التقاها، أمّا أنا فأقول:

يُجَنُّ الهوى منّي إذا ما لقيتُها

ويلتاعُ إن فارقتُها فَيُجَنُّ!

دامو: يُجَنُّ على الميلتَيْنِ، تعني؟ هذا كلامٌ عسل!

عبد الصِّبا: أن يموتَ الشوقُ حين يلتقي العاشقُ بالمعشوق ِ، فذلك ذَمٌّ للمعشوق... بدليل قول الشاعر الآخر:  الفناءُ امرأةٌ يلغي حضورُها حضورَ الشوقِ إليها.

عبد الجمال: واحدٌ هو العشقُ، والعشّاقُ شتّى... وشتّى أمزجتُهم.

هتون: بما أنّه مُتَيَّمٌ، فجنِّدوه في جيش العشق!

عُسَيْلَة: نارُهُ أنفع في الحرب من نار الشباب لأنّها النار المجرَّبة!

عشْقاء: وعكّازُهُ سيحرج كل السيوف!

عبد الصِّبا: لكل شبابٍ شيخٌ. وأنا شيخكنّ وشيخكم، في الحب كما في الحرب!

(من خلف الشجيرات يدخل رجلٌ هَرِمٌ يتوكّأ ُعلى عكّازيْن.)

دامو: هل ترون الذي أراه؟

عبد الجمال: ذاك عبد الودّ. شاعرٌ أعماه الهوى فهو في كلِّ أرضٍ يهيم.

دامو: ولماذا يتوكّأ على عكّازيْن؟

عبد الصِّبا: فَقَدَ بصره المسكينُ حين اختفتْ حبيبتُه، فعكّازتاه اليوم عيناه.

عبد الودّ (مغنيّاً باللهجة المحكيّة، بصوت شجيّ كالنّواح):

فَلّ ِالصِّبا مِنْ حَيِّنا يا رَبّْ

وْفَلِّتْ عَم ِتْرَفْرِفْ مَناديلو

لا نْهارْ عَمْ يِِطْلَعْ عَلَيّي بْضَوّْ

ولا الليلْ مِضْوِيّي قناديلو

 

خْطُفْني إِلَكْ يا رَبّْ

عَ الوَعْدْ وَدّيني

ما عادْ بَدّي قَلْبْ

يِِشْقى وْيِِشْقيني

 

يا رَيْتْني غَيْمِهْ

بْنُصّ ِالسَّما عَمْ سوحْ

وِمْعَلَّقَهْ بْغَيْمِهْ

هِيّي حبيب ِالرّوحْ

 

(يظلّ متابعاً سيرَه متوكّئاً على عكّازَيْه.)

دامو: ومَنْ كانت حبيبتُه المسكين؟

عبد الصِّبا: امرأةٌ لم يعرفها أحد.

دامو: لم يعرفها أحد!؟

عبد الصِّبا: ولا حتى هو!

دامو: إذن فكيف عشقها وهو لا يعرفها؟

عبد الصِّبا: لأنّها من نسج ِخياله!

دامو: وهل أعْيَتْهُ الحيلةُ أن يجد امرأةً يعشقها فنسج لنفسه واحدةً في الخيال؟

عبد الصِّبا: يقول بأنّ المرأةَ الجديرة بالعشق لم تولدْ بعد.

دامو (غاضبةً): يبدو أنّه كان أعمى قبل أن يفقد بصره!

هتون: وأعمى سيبقى حتى يرانا!

عُسَيْلة: أو حتى نكسر له عكّازيْهِ!

عشْقاء: بل نضمّه إلى جيش العشق لتتساوى في حَمْلِ المسؤوليّةِ كلُّ الأجيال!

عبد الجمال: إهدأْنَ الآن، يا صبايا، فهو لم يقصد إهانة أحد.

دامو: ولكنْ...

عبد الجمال: ولكنْ للرجل مذهبُهُ الخاص في العشق. فهو يرى أنّ في كلِّ امرأة شيئاً يمكن للرجل أن يهواه. ولأنّه ليس هناك من امرأة تجمع في تكوينها كلَّ الصّفات الجميلة في النساء، فقد حَبَكَ له خيالُهُ طيْفَ المرأةِ المثال، فهو يطارده في كلِّ مكان وعلى مدار الفصول.

عبد الصِّبا: ولأنّه لن يجده فلم يَعُدْ بحاجة إلى عينيه!

دامو: أهو حقّاً من لحم ٍودم، أم أنّه انبثق أمامنا من الأساطير؟

عبد الصِّبا: بل هو من لحم ٍودم. أنظري إليه يمرّ بنا ولا يرانا. ولا حتّى يسمعنا.

دامو: كَيْدُ الخيال ِمكين!

عبد الصِّبا: سألحق به حتّى لا يؤذي نفسه، فهو جارٌ لنا قديم.

عُسَيْلة: وأقنعْهُ بضمِّ عكّازيْه ِإلى عكّازكَ، في الحرب كما في الحبّ!

(يمضي عبد الصِّبا في إثر عبد الودّ، ويغيب الشاعران في زاوية من زوايا المسرح.)

دامو(وكأنّما لتثيرغيرة عبد الجمال): أَعَبْدَ الودِّ، ليتكَ من عبيدي

فتعشقَني وتمحضَني المودّهْ

فلا امرأةً سوايَ ترى لأني

أنا بين الورود ِأَعَزُّ وَرْدَهْ

وتصرفَ فيَّ عمرَكَ غيرَ سالٍ

ولستَ بنادم ٍكي تستردَّهْ

عبد الجمال: أخذتْك ِالفتنةُ، يا دامو!

دامو: أوَ تغارُ عليَّ من بيت شعر؟

عبد الجمال: بل أخافُ عليك ِمن فتنة الخيال.

دامو: فَتَنَني خيالُ عبد الودّ. لأنّ المرأةَ المثال التي يبحث عنها ما هي إلاّ أنا!

عبد الجمال: أنتِ الواقعُ الذي أغربُ من الخيال!

دامو: حديثُكَ فتنة.

عبد الجمال: وإنّك ِللخيال لمحنة.

(من يمين المسرح، تأتي أصوات لقرع ِطبولٍ ولنفخ ٍبالأبواق، خفيفةً خفيفةً أوّل الأمر، ثم لا تلبث أن تعلو وتقترب شيئاً فشيئاً حتى تملأ الجوّ. تينسّ الملك يدخل محاطاً بقوّاده وجنده، رئيسُ الكهنة عن يمينه وزينون عن يساره. خلفهم جميعاً يلتفّ ممثّلو قطاعات الصناعة والتجارة والمحترفات. الوجوه كلّها تنوء بظلالِ هَمّ ٍعظيم وحيرة أعظم. يتوقف الموكب قريباً من عبد الجمال ودامو.)

تينِسّْ (لعبد الجمال): لو كان لنا هيمنةٌ على إرادة الفصول لجعلْنا من الشِّعْرِ الفصلَ الخامسَ للوجود، ولحوّلْنا قصائدَه وأوزانَه إلى مناجيقَ ندفع بها عن المدينة هَوْلَ الحوافرِ والأسنّةِ وكُرات ِالنار. فهذه كلّها يتعاظم نموُّها وتكفهرّ نواياها، ظلالاً لاكْفهرارِ غيوم ِشباط وآذار. السلاحُ الذي خَبِرَنا وخبرناه على مرّ السنين لم يعد يكفي، يا عبدَ الجمال. ملكُ الفرسِ هَزَمَ عقلَه هواهُ فوقع في قبضة الغضب وشَرَك ِ الزهو والكبرياء. نسي أنّ صيدون لأهل صيدون، فحَسِبَ هزيمةَ جيشه، لستة أشهر مضتْ، إهانةً مقصودةً لعظمة ملكه. أنكر على أهل صيدون حتى حقَّهم بالدفاع عن مدينتهم. واليوم، عَبْرَ النهرِ، أتانا منه رسولٌ يخيّرنا: إمّا استسلامُ المدينةِ استسلاماً غير مشروط وإمّا تدميرُها. خَيَّرَنا بين مستحيلَيْن. فكيف لنا، يا عبد الجمال، أن نجترحَ المعجزةَ فنحوّلَ شِعْرَ أرواحنا إلى الفصل الخامس للوجود، ندرأ به عن حرّيتنا، من نوايا الفرس، حوافرَ وسنابكَ مشغولةً في محترفات العَدَم ِ؟

عبد الجمال: جيشُ العشق ِتهزج أنفاسُهُ بالنصرِ قبلَ حصادِ النصرِ، فتفرّسْ في وجوه شبابنا وصبايانا، أيّها الملك الجليل. أليستْ ملامحُها الشِّعْرَ الذي ستعبق غداً قوافيه ببخور النصر الآتي؟ ألا فَلْتُخَبِّرْ رُسُلُكَ الفُرسَ عنّا أنه بالحياة تنتصر الحياةُ، وأنّه بالعدم ينهزم العدمُ.

عُسَيْلة: ونحنُ نحنُ جذورُ الحياة، أيّها الملك الجليل، ترابُ الأرض يشتدُّ بنا.

هلهال: ونحن أغصانُ الحياة، بنا يضطرم الجوُّ بالعنفوان.

جيّاش: نحن وإيّاهنَّ للأرضِ كما خفقاتُ القلبِ للقلب.

يارا: ونحن وإيّاهم للهواء ِكما الأنفاسُ التي تُضْمِرُ الأعاصيرَ.

هفيف: وبين التراب والهواء، بين الجذور والأغصان، ستخفق الراياتُ التي ستحسم الجدلَ بين الحياة والعدم...

عشْقاء: لأنّها، متى خفقتْ بعزّةِ أشْمونَ وفتوّةِ أدونيسَ...

هتون: ... وفتنةِ عشتروت...

عشْقاء: ... ستخفقُ راياتٍ للفَصْلِ في كلّ ميادين القتال.

عبد الجمال: هو ذا، كما ترى، جيشُ العشق ِالذي حدّثتُكَ عنه، أيها الملك المفدّى.

تينِسّْ : نِعْمَ الحديثُ حديثُكَ ونِعْمَ الإبداعُ وَعْدُكَ. وأنتم وأنتنّ، يا زهرات الحياة، سينعقد لصيدون، بخفايا أشواقكم ولهفاتكنّ، لواءُ النصر المتجددِ كما وَعْدُ الفصول. فمرحى ثم مرحى للجيش الرديف، سَنَد ِالعنفوان لجيشنا النظاميّ.

قائد الجند: وإنّكَ، يا عبد الجمال، خيرُ معين لنا في تنظيم لواء العشق، وإذا هجمتْ علينا الحربُ، في قيادته داخل أسوار المدينة.

عبد الجمال: ومدينتُنا هي المعشوقةُ التي تُفتدى كما تُفتدى كلُّ معشوقةٍ بعاشقيها. لا! لم يكن عبثاً أن خلعتْ عليَّ الحياةُ لقبَ عبد الجمال. فعبداً كنتُ وعبداً سأظلُّ، لأن العبوديّة للجمال هي الحريّة التي لا سواها.

ممثّل التجّار: ولكن الحريّةَ لا تصونها البطولةُ وحدها، أيها الملك الحكيم.

تينِسّْ: يصونها كذلك الإيمانُ بها، يا ممثّل التجّار.

ممثّل التجّار: حتى الإيمان بها لا يكفي.

قائد الجند: لا تُتْحِفْنا من جديد بمقولة النَّفَسِ الطويل. ملكُ الفُرس بنفسه يهيِّءُ الجيوشَ الجرّارةَ ليقودها نحونا عمّا قريب.

تينِسّْ: ولهذا حرقْنا البخورَ لإله الصّحة في معبد أشمون، رفعْنا الصلوات ِ، جاهرْنا بالإبتهالات ِ، لعله يمدُّنا بالعَوْن: صلابةً في الجسد، جراءةً في الروح، حكمةً في العقل، تنفحنا كلّها بإرادة النصر. وفي نشوة البخور، أُلْهِمْنا بالظهور على عدوّنا. ولكنّ الإلهام كان غريباً هذه المرّة: تموّجاتٍ لظلالٍ تموج فيها ظلالٌ لنارٍ ودخانٍ وغيوم.

ممثّل التجّار: العقلُ يرتجف أمام هكذا ظلال. النار والدخان والغيوم ربّما هي النُّذُرُ لنا بما لا نشتهي ولا نحبّ.

تينِسّْ: كُنْ جليَّ القول لنفهم معناكَ.

ممثّل التجّار: الجيوش الجرّارة التي أنبأنا بخبرها قائدُ الجند ربما هي الغيومُ التي ستحجب عن صيدون أشعةَ الشمس التي هي من أسباب الحياة. والدخانُ ربّما هو الوعدُ بالإختناق. أمّا النارُ فلعلّها أن تكون المَحْرَقَةَ لنا... وربما لعدوّنا في آنٍ معاً.

ممثّل الحِرَفيّين: وأسوارُ المدينة، أيّها الملك الجليل، إذا اعتلاها أعداؤنا أو خرقوها، ستكون بوّاباتِهم إلى محترفاتنا، إلى صناعاتنا، إلى إنجازاتنا التي نُعِدُّها لِتُبْحِرَ بها سفنُنا إلى أورشليمَ وأرضِ الفراعنة وشواطيء اليونان.

مهّار كممثّل لصانعي الزجاج: والسفنُ ما أسهلَ أن تلتهمَها النيرانُ فتحيلها دخاناً يرتفع لينْعقد غيوماً فوقنا في الفضاء. أمّا زجاجيّاتُنا فما أهونها على سنابك الخيل وأحذية الجند، هذا إذا تناسَيْنا تلويحاتٍ منهم بسيوفٍ ونكزاتٍ برماح.

يارا: مهلاً! مهلاً! يا معشر التجّار والحرفيّين وصانعي الزجاج. أنتم لا إله لكم إلاّ الربحُ ولا عدوَّ لكم إلاّ الخسارة.

ممثّل التجّار: إله الربح هو الإله الذي يملأ خزينةَ المملكة بالذهب والفضّة، يقتطعها من أرباحنا نحن، لا من جمالك ِأنت ِ، يا سيّدتي، ولا من أحلام البطولة في خيال الشُّعَراء ومراهَقَة الفتيان.

جيّاش: تسمّي حماسَتَنا مراهَقَةً، أيّها الذي مالُهُ وطنُه؟

ممثّل التجّار: وطنٌ بلا مال ليس أكثرَ من حديقةٍ بغير سياج.

جيّاش: سياجُها نحن الشباب، لو كان القلبُ يرى، وليس شيخوختَكَ.

عُسَيْلة: والحديقةُ نحن الصبايا، ترابُها راسخٌ في الأرض وجذورُها عصيَّةٌ على الإقتلاع.

ممثّل الحرفيّين: الحماسةُ لغةٌ في الإنجراف ِ. والإنجرافُ ليس لغةَ الدّعم والتموين.

ممثّل التجّار: أجل! أجل! لسلاح ِالجند ِثمن. للباسِ الجند ِثمن. لطعام ِالجندِ ثمن. لخيولِ الجند ِثمن. لعربات ِالجند ِثمن. فمن أين يأتي أمثالُكُنَّ وأمثالُكُمْ، معشرَ الشباب، بقيمة هذه الأثمان؟ صيدون بحاجة إلى حكمةٍ تدافع عن مقوّمات وجودها، لا إلى أبطالٍ يموتون في سبيلها عبثاً. وعَبَثٌ كلُّ موتٍ لا يحمي المحتَرَفات ِوالمصانعَ وأحواضَ السفن.

قائد الجند: صَبَرَ عليكم مليكُنا وعليكُنَّ صبراً جميلاً. وصَبَرْنا معه. وما الأخذُ والردُّ إلاّ مَضْيَعَةٌ للوقت ِوتسويفٌ للحظة القرار. فانْكِفاءً عن الكلام ِوكَفّاً.

تينِسّْ: أن نصبر على أبناء مدينتنا، مهما اشْتَطَّتْ بهم آراؤهم، خيرٌ لنا من الصبر على شَطَط ِالنوايا المبيّتة تجاهنا خلف النهر وفي كهوف الشمال. زينون، يا زينون، الحكمةُ زينةُ الأوطان، ورأيُكَ هو الفصلُ في زمن النزاعات. قد سمعتَ الذي سمعتَ ورأيتَ الذي رأيْتَ، فعلى أيِّ جانبيْكَ تميلُ؟

زينون: مليكُنا أَدْرى بأنّ تداوُلَ الحاضرين لآرائهم لم يَجْرِ مجرى الحوار ِ، بل كان أقربَ شيءٍ إلى الجدل. فالحوارُ إنّما يكون بين شغوفيْن يحرص كلاهما على الوصول إلى الحقيقة، كائناً ما تكنْ ماهيّتُها، ومن أي طرف أتتْ. أمّا الجدلُ فهو بين متخاصمَيْن يصرُّ كلٌّ منهما على أنّ منطقَه هو الصّوابُ وأنّ رأيَه هو عينُ الحقيقة.

تينِسّْ: وبين هذه وتلك، أين تكمن الحقيقةُ في رأيكَ؟

زينون: لو كانتِ الحقيقةُ تكمن في شيءٍ، إذنْ لاَرتاحَ العقلُ منّا ولاَطْمَأَنَّتِ الحواسُّ... ولكنّها ظلٌّ يتأرجحُ بين ظلال.

تينِسّْ: ظلٌّ يتأرجحُ بين ظلال!!! تحدّثنا اليوم كأنّكَ لسْتَ أنتَ، يا زينون! كلماتُكَ تتململُ بين الشيء والشيء، وكأنّها الطيوفُ العابرةُ بين النوم واليقظة.

زينون: صَدَقَ مليكي الحكيم، فمع تقدّم ِالعمر، تتمادى على المرء ِاحْتيالاتُ النّعاس.

رئيس كهنة المعبد: وللنّعاسِ عندي حكايةٌ لكَ، أيّها الملك الكريم. ليلة أمس، وأنا لا أزال أتقلّبُ بين النوم واليقظة، خِلْتُني رأيتُ طيوفاً تتسلّل إليَّ من أرجاء المعبد. ألوانُها كانت خافتةً كما يخفتُ وهجُ الجمرات وهي تنوسُ وتتضاءلُ في رماد الموقد. دارتْ حولي الطّيوفُ، لمساتُها ليّنةٌ كالرماد. همستْ بي همساتٍ مُبْهَماتِ المعاني كالرماد. ثم أشارتْ إليَّ أن أتبعها إلى وسط المعبد المغطّى بحشائشَ من رماد. كيف انتقلْتُ معها كالطيفِ لا أتذكّر كيف. ولكنّني أتذكّر كيف رماديّةُ الحشائشِ اخْتَلَجَ فيها شيءٌ فهي لتوّها آخذةٌ بالإخضرار. وإذ بالأخضرار تنبثق منه وجوهٌ وسواعدُ وأرجلٌ ينسرب بعضُها في بعض، طيوفاً شابّةً كلّها، أو كأنّها ظلالٌ لطيوف. وينشقُّ الليلُ فجأةً عن قهقهات إلهنا أشمون. تصعّد الطيوفُ طَرْفَها في السماء، وأصعّد طرفي. الغيومُ فوقنا مورّدةُ اللونِ، في خُفوتِ الجمرات ِالغافيةِ في حضنِ الرماد. يقهقه مرّة أخرى إلهُنا أشمون. الطيوفُ ترتقي الفضاءَ مسحورةً بصدى القهقهات. ترتقي وتصعّد حتى تلتحم بالغيوم. الغيومُ المسحورةُ يستحيلُ تورُّدُها اخضراراً يتنفّسُ بالحشائش التي تتمدّد حتى تغطّي أسفلَ الغيوم. شيءٌ يرتعش في الجوّ، فتضطرب جفوني وتتململ، لأنتبه من الهنيهة التي بين النوم واليقظة، فلا أدري إن كان الذي رأيتُهُ الحقيقةَ أم رؤيا نسجتْها ليَ احْتيالاتُ النعاس.

تينِسّْ: جَمْعاً إليَّ، يا أهلَ صيدونَ، جَمْعاً. قلبي وعقلي يحدّثاني أنّ الزمنَ يتغيّر. واليقينُ اليقينُ أن تتغيّر مقاربتُنا لِمُسْتَحْدَثات ِالزمن. رأيي أن نجهّزَ وفداً يمثّل كلَّ أطياف المدينة وكلَّ مرافق الدولة. نرسله عَبْرَ النهر إلى حيث الآن ملكُ الفُرْس. نحاوره في نيّةِ الصّلح ِ بيننا وبينه. نعلن له استعدادَنا لدفع الجزية التي نتفق عليها، شرط أن تحتفظ صيدون باستقلالها السياسي والعسكري وبحقّها في اختيار ملوكها وإدارة شؤونها في كلّ مرافق الحياة. ومنه لا نطلب إلاّ الكفَّ عن تجييش الجيوش لمحاربتنا. في جحافلِ الفرسِ الجرّارةِ قوّةُ الفرسِ، ولصيدونَ اليومَ قوةُ الحكمة. ظروفُ الزمنِ تتغيّر، ونحاول التغيُّرَ معها، فإمّا أن تنقذَ المدينةَ ومقوّماتِ وجودها مغامرةُ الحكمةِ، وإمّا فالحربُ قَدَرُنا الذي لن نهربَ من سعيره أبداً. فماذا ترون؟

زينون: لا يخالف رأيَكَ هذا إلاّ متهوّر، فَامْضِ بنا إلى حيث نتداول في أمر الوفد وفي تفاصيل رسالة الصلح.

(يمضي تينِسّْ ويمضي خلفه الناسُ، يموج بعضُهم في بعض بين مستحسنٍ لقراره ومتعجّبٍ منه ومستنكرٍ له. ينسحب إلى زاوية من زوايا المسرح كلٌّ من عبد الجمال ودامو وشلّة الشباب والصبايا من صيدون الفينيقية، حيث يخوضون في ما يشبه الأخذ والردّ حول قرار تينِسّْ. أصواتُهم لا تُسمع، فالإيماءُ الآنَ لغةُ الإخبار عمّا يجول في رؤوسهم من خواطر. يتململ سامح في مكانه، ثم يشعل سيجارة، ثم يتمشى خطوات. من الجانب الآخر للمسرح تتقدّم نهيّة، وجهها مفعم بهواجس شتّى.)

نُهَيَّة (لسامح): تلك أكبر غلطة ارتكبتَها في حياتكَ.

سامح: لستُ أدري عمّ تتحدّثين... ولكنّ أكبر غلطة ارتكبتُها في حياتي هي أنني لا أزال على قيد الحياة!

نُهَيَّة: لا تحوّل ِالموضوعَ إلى نكتة.

سامح: لم يكن لديّ خيار.

نُهَيَّة: خيارُكَ أن تتّصل بمكتب الخدم ليستعيدها لكَ من أثيوبيا.

سامح: ولكنّني صرفتُها وانتهى الأمر.

نُهَيَّة: وحدكَ في البيت! هذا جنون! مَنْ يخدمكَ الآن؟ مَنْ يطبخ لك؟ مَنْ يغسل؟ مَنْ يكوي؟

سامح: تعرفين أنني أطبخ وأغسل وأكوي.

نُهَيَّة: تفعل ذلك لشهر، شهرين، ثلاثة. وماذا بعد ذلك؟ هَبْ أنكَ مرضتَ. مَنْ سيعلم بأمركَ؟

سامح: السيليولير حلاّلُ المشاكل. أحتفظُ به في جيبي في كل الأوقات.

نُهَيَّة: هَبْ أنكَ زَحَطْتَ ووقعْتَ في الحمّام، والسيليولير بعيد عنكَ، فماذا تفعل؟

سامح: أزحفُ إليه!

نُهَيَّة: وفي حال أُغْمِيَ عليكَ من الوقعة؟

سامح: أنتظرُ حتى أفيق!

نُهَيَّة: تتصرف وكأنّكَ تمثّل في مسرحيّة هزليّة. الواقع لا نواجهه بالإستخفاف.

سامح: أنا لا أستخفّ بالواقع. ولكنّ الواقع الذي عشتُه مع الخادمة الأثيوبيّة لسنتين عجيبتين هو شيء لم تتعرفي عليه أنت ِ.

نُهَيَّة: كيفما كان الأمر، فأنتَ الآن، بدونها، في وضع أسوأ.

سامح: الأسوأُ مَرَّ وانتهى. الآن أنا أنعمُ بالحريّة.

نُهَيَّة: وهل كان وجودُها سجناً لكَ؟

سامح: كلانا كان سجيناً للآخر. خدمةُ البيت كانت بسيطة، لأنني عائلة من فرد واحد. والنهارُ كان طويلاً لا تعرف المسكينةُ كيف تقضيه. مسلسلاتُ التلفزيون لم تعُدْ تملأ فراغها. حديثُها مع الأثيوبيّات من على البرانده كان أشبه بالصراخ. أحرجني أمام الجيران. وكلَّ نهارِ أحد، حينما كانت تذهب لتتسلّى مع بنات بلدها لساعتين أو لثلاث، كان عليَّ أن أكون في البيت ساعةَ عودتها لأفتح لها الباب.

نُهَيَّة: ولماذا لم تتركْ معها مفتاحاً للبيت؟

سامح: لتستقبلَ الشبابَ في غيابي؟!

نُهَيَّة: وأنتَ؟ ألم تكن تستقبل البنات في غيابها؟

سامح: مَنِ الذي يسخر الآن من الواقع؟

نُهَيَّة: أريد أن أخفّف عنكَ.

سامح: الحريّةُ مع الوحدة أسهلُ من السجنِ مع الآخرين. وحدها الحقيقةُ تخفّفُ عنّي.

نُهَيَّة: واحتمالُ العَجْزِ... يوماً ما... أليس هو الوجهَ الآخرَ للحقيقة؟

سامح: والموتُ قبل العَجْز... أليس هو أحدَ الإحتمالات؟

نُهَيَّة: عُدْ إذن إلى مسرحيّتكَ عن صيدون، إن كنتَ تظنّ فيها شيئاً من خلاصكَ.

سامح: الخلاصُ مجرّدُ احتمال.

نُهَيَّة: قبل أن أنسى. حينما تطبخ، لا تغلقْ عليكَ بابَ المطبخ، كما كنتَ تفعل، وانتبهْ حتى لا تنسى الغازَ مفتوحاً... في حالات شرودكَ.

سامح: سيلفيا بْلاثْ تركتْهُ مفتوحاً عن قصد حينما خطّطتْ لنهايتها... إذا كان ذلك ما خَطَرَ ببالِك ِ.

نُهَيَّة: سيلفيا كانت تحبّ الغاز! ولعلّها رأتْ فيه الصورةَ الشعريّةَ الحميمةَ لملاكٍ غيرِ منظور!

(تمارا تقتحم المكان وتخاطب نُهَيَّة بحدّة)

تمارا: الملاكُ الذي تعنين يأتي إلى الإنسان مرةً في العمر. أما أنت ِ، فأنتِ الشيطانُ المنظورُ الذي يظلُّ يأتي ويأتي، ولا يكاد يغيب حتى يعود كأنّهُ رصدٌ مرصود.

نُهَيَّة: أعود إليه هو، لأنّ الذي كان بيني وبينه لم يكن بينه وبين امرأة أخرى.

تمارا: لتذكّريه؟ أم لتعذّبيه؟

نُهَيَّة: إسألي نفسك ِأوّلاً. لماذا تعودين إليه أنت ِ، المرّةَ بعد المرّة ِ، والذي كان بينكما قد انتهى؟

تمارا: لأنّه، مثلي، بحاجة إلى السّماح السّماح.

نُهَيَّة: الذي خُنْتُماه تركَ الحياةَ ومضى حتى لا يكون شاهدَ زور على الإثم الذي بحقّه اقترفتماه. فَمِمَّنْ بعده ترجوان السّماح؟

تمارا: لسانُك ِفاجرٌ بالوعظ!

نُهَيَّة: ونيّتُك ِفاجرةٌ بالتوبة!

تمارا: على الأقلّ، أنا أعود إليه لأسامحَ نفسي بلقائه، ولأعينَهُ على الغفران لنفسه بلقائي.

نُهَيَّة: أمّا أنا فأعود إليه لأنّه لا يزال بحاجة إليّ.

تمارا: بل تعودين إليه لتذكّريه بالأدباء الذين أنهوا حياتَهم بأيديهم!

نُهَيَّة: وحدك ِصاحبةُ الأفكارِ الشرّيرة!

سامح: كُفَّا عن هذا الهراء. ألم تنضجا بعد؟

نُهَيَّة: وهل نضجْتَ أنتَ؟

تمارا: ينضجُ حينما تتركينه.

نُهَيَّة:أتركُهُ لكِ يا خائبة؟

عبد الجمال: بَلِ اتْركيهِ لنا، فنحن أحْوَجُ إليه منكما الآن. إذ لا يجوز أن نظلَّ مُعَلَّقين في حَبكة مسرحيّة لم تكتملْ بعد.

(تدخل نوّارة، وخلفها ثُدَيَّة، في يدها عقد من الياسمين.)

نوّارة: بَلِ اتْركوه لي ولابنتي ثُدَيَّة، فليس لكم اليومَ من الأمر شيء.

(ثُدَيَّة تطوّق عنق سامح بعقد الياسمين.)

ثُدَيَّة: طوّقْتُكَ بعُذْرِيَّتي!

نوّارة: وسَحَرَتْكَ إلى الأبد.

(يدخل هادي مهرولاً، في يده عِرْقُ ياسمين.)

هادي: جدّو! جدّو! هذا الياسمين من شتلة الياسمين التي زرعها بابا وماما لنستقبلكَ بها في قَطَر.

(يأخذ سامح عِرْقَ الياسمين وينحني ليُقَبِّل هادي.)

هادي: من أين لكَ بهذا العقد، يا جدّو؟

ثُدَيَّة: منّي أنا.

هادي: هو جدّي أنا! ولا يقبل الياسمين إلاّ من هادي!

(يمسك بعقد الياسمين ويشدّه بقوّة فتنفرط حبّاتُهُ على بلاط الكورنيش.)

ثُدَيَّة: ويحكَ! ماذا فعلْتَ بعذريّتي؟

عُسَيْلَة: إحتفظي بها لفصل الربيع!

هتون: أو لأيّام القطاف!

عُسَيْلَة: ولكن اتْركيه لنا الآن.

عبد الجمال: أتركيه ِلنا ليستقبل معنا موكبَ الملك تينِسّْ، العائد ِإلينا عمّا قريب من معبد أشمون.

(تندفع عشقاء إلى حيث يقف سامح. تحجبه بنفسها عن نوّارة وثديّة وهادي ونُهَيّة وتمارا. تخاطب النسوة بلهجة الزجر.)

عشقاء: لمْ يعُدْ لَكُنَّ اليومَ سامح. فَلَنا وله شواغلُ ليست من توافه ترّهاتكنّ. إرحلْنَ عنّا أيتها الغريبات عنّا. أتركْنَهُ لهمّنا وهمّه، هذا السامحَ الطامحَ إلى خلاصنا به وخلاصه بنا، لا إلى التفجّع على انهياراتِكنّ.

نُهَيَّة: ليستْ تنهار مَنْ إرادتُها من ظلال نواياها.

تمارا: وليستْ تستدرج التفجّعَ مَنِ السماحُ هديّتُها لنفسها وللآخرين.

نوّارة: وليستْ تأبه لزجر ِالزاجرات ِمَنْ رُقْيَتُها حكايةُ الحليب الفاتر.

ثُدَيَّة: ومَنْ عذريّتُها جلبابُها، فخلاصُ عشّاقها في طوق ِالياسمين.

عشقاء (وهي تدفع بسامح بعيداً عنهنّ) : أنتنّ من الطارئات على حياته، تأتينَ وتذهبْنَ. أمّا نحن فلا نزال نمكث في وجدانه منذ ابْتَدَعَنا في رواياته، ظلالاً لطالبات ٍله كُنَّ سَحَرْنَهُ وسَكَنَّ منه الدمَ والوريد.

هتون: كنّا لخياله الوعدَ المنسربَ من رواية له إلى رواية، يلحُّ علينا في استدراجه لنا ونلحُّ، نصاحبه في الشمس والظلّ، في الصحو والمطر، نملأ عليه من فراغه حتى اللحيظةَ التي تفصل في شرايينه بين النبض والنبض.

عشْقاء: وكنّا له الإيفاءَ بالوعد ِيقيناً، إذ ِاليقينُ الخيالُ، وليس أجسادَكُنَّ التي يظل يعبث بها تواطؤُ الليل والنهار. فما أنتنّ في تاريخ عشقه إلاّ الأجسادُ المضمحلّةُ أبداً في متاهات السراب. فاتَكُنّ الحذرُ من مكر الفصول، فإنّها مانحةُ الحُسْنِ سالبتُه.

عُسَيْلة: أمّا أنا، فأنا العُسَيْلَةُ التي طالما هَجَسَ بها ليلَه ونهارَه، ظلاًّ لتلك التي ذوَّقَتْه العسلَ عُسَيْلَةً، فحجبني عن رواياته كلّها، كَتَمَني سرّاً في مذاق فمه، ليستدرجني اليوم إلى عَلَنِيَّةِ مسرحه، رحيقاً مجاهِراً بالحنين.

رُهَيَّة: أمّا أنا، يا بنات الغوى، فَهَجْسُ الهواجس في خياله. أعطاني اسْمَ رُهَيَّة تضليلاً لقرّائه، فما أنا إلاّ ظلٌّ لماريّا التي في الروايات، والتي لا يتجاوز عمرُها الإثنتي عشر عاماً، والتي هي في الأصل ظلٌّ للوليتا فلاديميرْ نوبوكوفْ. هَجْسُ الهواجسِ أنا، فما أروعني بينَكنّ.

يارا: النارُ والنورُ أنا. ظلٌّ ليارا التي في أغنية يارا. ولكنني كذلك ظلٌّ للطالبة التي كانت تشعل له سيجارته كلّما تماجنتْ بِفَتْلِ سيجارته شفتاه. ظلاّنِ له أنا. ظلاّن.

تمارا: كذلك تتغاوى القاصرات! كذلك تتباهى المراهقات!

نُهَيَّة: بل كذلك تتطاول على حقيقتنا المتبجّحات. ما أَتْفَهَكُنّ ظلالاً تتباهى بالظلال.

تمارا: حينما كنتنَّ له خيالاتٍ، كان جسدي له اللغةَ التي طَهَّرَتْه من أشباه اللغات.

نُهَيَّة: بل هو جسدي الذي كان له النهرَ، وكان لخياله كلَّ هواجسه بالأنثى. أحاديثُ رواياتِه عن المرأة ليستْ إلاّ ظلالاً لحياتي معه. أفليستْ بلقيسُ أدبِهِ أنا؟ أَفَلَسْتُ المرأةَ التي يصفها تندسُّ في سيّارته وتحسو من قهوته بشفتَيْن يلوح عليهما جسدُ امرأةٍ أخرى؟ فَانْصَرِفْنَ عنّا وعنه، يا بنات صيدون، قبل أن ننفخ عليكنّ النفخةَ التي لا تحتمل سعيرَها الظلالُ.

نوّارة: سواءٌ كنتُنَّ في حياته أم سكنتُنَّ خيالَه، فموسمُ الحصاد لنا، لنوّارة وثديّة، فَمِثْلُنا مَنْ يَرِثُ خواتيمَ الفصول.

هادي: But what about Hadi?!

نسيتُنَّ هادي؟! نسيتُنَّ أنّ جدَّه له وحده؟

نوّارة: الحصادُ لنا، قلتُ أنا! الحصادُ لنا، عَنَيْتُ! فَاذْهَبْ إلى أمّكَ أيّها العصفورُ وغرِّدْ لها بواكيرَ صباكَ.

(يحاول هادي الوصول إلى سامح فتتصدّى له نوّارة.)

هادي: ولكنه جدّي أنا! والْ puzzle لا تزال تنتظره في غرفتي.

نوّارة: إذن طويلاً ستنتظر.

هادي: لا هي طويلاً تنتظر! ولا أنا! سيذهب الآن جدّي معي. فبدونه لن أكتشف سرَّ الْ puzzle ولن أُحسن تركيبها.

نوّارة: إذهبْ وغرّدْ في غير سربنا، يا صبيّ.

(فجأة يندفع هادي نحو عشقاء وهتون وعُسَيْلَة.)

هادي: أنتنّ من صيدا. وجدّي من صيدا! فساعدْنَني، يا بنات.

عشقاء: نساعدكَ شرط أن تظلّ معنا.

هادي (يملّس على ردائها): فستانُكِ ناعم، ولكنّ فستان الماما أنعم.

هتون: وفستاني أنا؟

هادي (يملّس على ردائها): سأعطيه إلى رفيقتي في المدرسة.

هتون: يا لكَ من صبيّ شقيّ!

عُسَيْلَة: فساتينُنا أنسَتْكَ جدَّكَ. إبْقَ معنا نحرسْكَ من كلّ شرّ.

هادي: بل سأعودُ مع جدّي إلى قَطَرْ. ولكنّي سآخذ فساتينَكُنَّ!

هتون: واضحٌ أنّكَ ورثْتَ اللعنةَ عن جدّك.

هادي: إذا أحببتُنَّ، آخذكُنّ معي إلى قَطَرْ. تعرفْنَ لعبةَ الْ puzzle؟

نوّارة: لن تأخذ جدّكَ ولن تأخذهنّ. كفاكَ مماطلةً واذهبْ عنّا إلى أمّك.

(تسرع إليه وتلتقط يدَه لتجرّه بعيداً عنهنّ. يعضّ يدها ليحرّر يده. ثم يأخذ يدور حول عشْقاء وهتون وعُسَيْلة، محتمياً بهنّ من نوّارة، التي تدور خلفه حولهنّ. أخيراً تنجح نوّارة بالإمساك به من ياقة قميصه، فتتشبّث يداه بأطراف فساتين الصبايا، مستغيثاً بهنّ. تنفعل بحركاته الصبايا ويستجبْنَ لاستغاثاته، فيدفعْنَ بنوّارة بعيداً عنهنّ وعنه في شيء من العنف. تلتحم ثديّة بالجمع وتندلع معركة الشدّ بالشعر من كلّ الأطراف. هرج ومرج. هادي ينطلق خيالُه فينقّل عينيه بين المتقاتلات وبين ظلالهنّ المتعاركة على بلاط الرصيف.)

هادي: جدّو! جدّو! أرأيْتَ ظلالَهُنَّ؟

سامح: تحبُّ أن تحشر نفسكَ في كلّ شيء! إبتعدْ عنهنّ يا حبيبي. حتى عن ظلالهنّ.

هادي: ولكنّ ظلالهنّ تذكّرني بأنشودةٍ للظلّ حفّظونا إيّاها في المدرسة. تسمعها يا جدّو؟

سامح: إِنْسَ الآن كلَّ شيء وانْجُ بجلدك.

(تنتقل النساء فجأة من شدّ الشعر إلى التشبّث بسامح، يتنازعْنَه فيما بينهنّ.)

دامو(لعبد الجمال): أنظرْ إليهنَّ يمسكْنَ بسامح، كلُّ امرأةٍ من طرف، ويتجاذبْنَهُ في كل اتجاه. تكاد تنخلع أطرافُه. إهرعْ إليه، إهرعْ قبل فوات الأوان.

عبد الجمال: وعزّة ِأشمونَ لئن لم ننقذْهُ منهنّ فسنظلّ أسرى لحبكة مسرحيته إلى الأبد.

دامو: ولن يُتاح لنا الخلاصُ من جيش الفُرْس. إشاعاتُ اليوم حول الوفد أخطر من كلّ التوقّعات.

عبد الجمال: دعينا من الإشاعات الآن ولنخطفْ أرجلَنا إلى حلبة المعركة.

(يصرخ بشباب صيدون) جيّاش! هلهال! هفيف! عدّاء! مشباح! ميمون! شباب صيدون، هيّا، خلِّصوا مُبْتَدِعَ حبكتنا من براثن الجمال.

(يندفع الشباب إلى أرض المعركة، وفي حركات تتراوح بين الحدّة والرفق، يحرّرون سامح من المتهافتات عليه.)

سامح: ليست ِالمرّةَ الأولى التي تتمرّد فيها شخصيّاتي عليَّ فتفتح على حسابها، مسرحاً داخل المسرح، وحبكةً داخل الحبكة.

تمارا: بيرانديلّو سبقكَ إلى هذا الإنفلات. فَفَلَتانُ شخصيّاتكَ ظلٌّ لفلتان ِشخصيّاتِه. وفي مسرحيةٍ لكَ في الثمانينات، كنتَ قلّدْتَهُ، لو تذكر.

نُهَيَّة: قلَّدْتَه، مع أنه لم يهجس بالتخطيط لنهايته مثل همنغوايْ وبْلاثْ وفيرجينيا وولفْ.

تمارا: تكتيكُ الإيحاءات الخبيثة سيرتدُّ عليك ِأُفولاً كالنهايات.

(يدخل عبد الصِّبا ويمضي نحو الجمع قلقاً مضطرباً، سرعةُ خطواته تكاد تتجاوز المقدارَ الذي تسمح له به عكّازُه.)

عبد الصِّبا: عن بكرة أبيهم ذبحوهم! فَصَلوا رؤوسَهم عن أجسادهم! الخمسينَ كلَّهم! الخمسينَ من أفراد الوفد!

عبد الجمال: لقد بلغتْنا الإشاعاتُ هذا الصباح ولم نُرِدْ أن نصدّق.

عبد الصِّبا: الفاجعةُ أثقلُ عليَّ من عُمُري، فأسندوني إلى شَبابكم قبل أن أنهار.

(يلتفّ حوله الشباب، يسندونه بأنفسهم.)

دامو: إرْأَفْ بنفسكَ، يا عبد الصِّبا، وتماسكْ.

عبد الصِّبا: ليتَها، رُهَيَّةَ، سَنَدي. لو أنّها هنا! لو أنّها!

دامو: إهدأْ! إهدأْ! فكلُّ الصبايا صباياك.

عبد الجمال: لو أنّه يصل إلينا الآن مليكُنا من معبد أشمون، فيطلعنا على خوافي الأمور ويريحنا من عذاب الترقّب وقلق الإحتمالات.

جيّاش: إذا الخمسون ذُبحوا فقد ذُبِحَتْ معهم نيّةُ مليكنا في السلام.

مِشباح: وإذن يكون كُتِبَ علينا الذي حاول أن يجنّبنا إيّاه.

عبد الجمال: سلاحُنا الصبرُ حتى يفصل لنا صوتُه بين الإشاعة والخبر اليقين.

(يدخل الشحّاذُ الهَرِمُ متوكئاً على عكازه. خطاه تقوده مباشرة نحو سامح. يمدّ إليه يده مستعطياً.)

الشحّاذ: من مال الله... يا عباد الله... من مال الله...

(يستخرج سامح من جيبه قطعة نقدية ويدسّها في اليد الممدودة نحوه. يأخذها الشحّاذ ويمضي في سبيله، متوكئاً على عكازه بيد، رافعاً اليد الأخرى، كما عينيه، إلى السماء، مردّداً وكأنما لنفسه:)

الشحّاذ: اللهمَّ أَظِلَّهُ بظلّكَ يومَ لا ظلَّ إلاّ ظِلُّكَ...

(يتلاشى في المسافة...)

نُهَيَّة (لسامح): غريبٌ أمرُكَ يا سامح! لماذا تظلّ تعطيه؟ الشِّحاذة سَرِقَةٌ، كنتَ دائماً تقول.

سامح: كنتُ أقول... ولكنّها سرقةٌ عابرة.

نُهَيَّة: أليستْ كلُّ السرقات عابرة؟

سامح: العُمُرُ يهذّب الرؤى... أو يُبَدِّلُها. الشحّاذُ يسأل، فأعطيه راضياً، أو أمنعه. أمّا الليلُ والنهارُ فيسرقان مني في كلّ ليلةٍ ليلةً وكلِّ نهارٍ نهاراً. ولا هما يسألاني، ولا أنا أعطيهما. ولكنهما يأخذان على كلّ حال.

نُهَيَّة: حتى وإن يكنْ صحيحاً ما تقول، فالثانية لا تبرّر الأولى. ولكنّكَ في مزاج جَدَليّ، فَأَعْطِ مَنْ تشاء، وامْنَعْ مَنْ تشاء. ولكنْ حذارِ أن يتحوّل فعلُ العطاء إلى حالة ابتزاز من قِبَلِ الآخرين.

(من يمين المسرح، يدخل عبد الود،ّ متوكّئاً على عكّازَيْه، ويسير ببطء ٍإلى وسط المسرح.)

عبد الودّ (بصوتٍ شجيّ):  فَلّ ِالصِّبا مِنْ حَيِّنا يا رَبّْ

وْفَلِّتْ عَم ِتْرَفْرِفْ مَناديلو

لا نْهارْ عَمْ يِطْلَعْ عَلَيّي بْضَوّْ

ولا الليلْ مِضْوِيّي قناديلو

(يتوقّف عن المسير كأنّما ليستريح.)

سامح (لنُهَيَّة): إلى أي شيءٍ كنت ِترمين حينما تحدّثْت ِعن الإبتزاز؟

نُهَيَّة: للحظةٍ، تذكّرْتُ ذلك الذي ساعدني في دعوى الطلاق التي كنتُ رفعتُها ضدّ زوجي الأوّل.

سامح: أنت ِتمادَيْت ِفي شرائه بالمال... وبالوعود الخلاّبة.

نُهَيَّة: خمسة آلاف دولار أخذها منّي ابتزازاً في ابتزاز.

سامح: أخذها ليُقنعَ زوجَك ِبالموافقة على الطلاق، على أن يعود فيزوّجكما من جديد بعد بضعة شهور. وَعَدَ، ثم وفى... ولو بشيءٍ واحدٍ على الأقل. أمّا أنت ِفوعدْتِهِ ولم تفي له بالوعد.

نُهَيَّة: وعدْتُهُ بالزواج منه هو حالما أحصل على وثيقة الطلاق، لأن ذلك كان شرطه الأوّل لمساعدتي.

(يتابع عبد الودّ مسيرَه ببطء نحو يسار المسرح.)

عبد الودّ (بصوتٍ شجيّ): خْطُفْني إِلَكْ يا رَبّْ

عَ الوَعْدْ وَدّيني

ما عادْ بَدّي قَلْبْ

يِشْقى وْيِشْقيني

(يتوقّف عن المسير وكأنمّا ليستريح.)

سامح (لنُهَيَّة): ولم تتزوجيه، الغبيّ! المهم أن وعْدَك ِله كان ابتزازاً لولعه بكِ، كما أنَّ حاجتَكِ إليه يَسَّرَتْ له أمرَ ابتزازِه لدولاراتِكِ. كلاكما كان شحّاذاً يَبتزُّ وكلاكما كان معطاءً، فطوبى لليد العليا وطوبى لليد السفلى، سواءٌ بسواء.

نُهَيَّة: تضحك شامتاً بي لا تزال!!

سامح: أضحكُ نعم. أشمتُ لا. أَفَلَم أصبح بعد قصّتكِ معه زوجاً لكِ لسنوات؟

نُهَيَّة: تلك هي السنوات التي اكتشفْتُ خلالها هواجسَكَ حول نهاية همنغوايْ وبْلاثْ و وولفْ وسينِكا، وذلك الشاعر الأميركي الذي ألقى بنفسه من على جسرٍ إلى عمق النهر. نسيتُ اسمه، ولكنني أتذكّر لا أزال قولَه الذي كان دائماً على لسانِكَ: life is boring, but we must not say so…

سامح: جونْ بيريمَنْ، إن لم تخنّي الذاكرة.

نُهَيَّة: لعله ذاك.

تمارا (لنُهَيَّة): يظهر أنكِ توقّفْتِ عن أخذ أدويتكِ! فإيحاءاتُكِ الخبيثةُ ليست إلاّ ظلالاً لعدوانيّتكِ الجريحة.

نُهَيَّة (لتمارا): وأدويتُكِ أنتِ! هل السماحُ السماحُ حلَّ محلّها وشَفاكِ من عدوانيّة الذاتِ على الذات في مسلسل تأنيب الضمير؟

(ينقل عبد الودّ خطاه من جديد صوب نهاية المسرح.)

عبد الودّ (بصوتٍ شجيّ): يا رَيْتْني غَيْمِهْ

بْنُصّ ِالسَّما عَمْ سوحْ

وِمْعَلَّقَهْ بْغَيْمِهْ

هِيّي حبيب ِالرّوحْ

(يتلاشى في المسافة، يساراً. من جهة اليمين تأتي أصواتٌ لقرع ِطبولٍ ونفخ ٍبالأبواق، تقتربُ شيئاً فشيئاً، ثم تتوقّف في اللحظة التي يدخل فيها الملك تينِسّْ مُحاطاً بجنده وحاشيته. يسود صمتٌ مشوبٌ بقلق ٍعميق. يُنَقِّل تينِسّْ أنظارَه بين الناس ثم يخاطبهم بصوتٍ يعتريه الحزنُ والتصميم.)

تينِسّْ: أيُّها الصيادنةُ الشجعان، إليَّ، إليَّ، جَمْعاً. اليوم هو آخر عَهْدٍ لي بكم. بذا قَضَتْ تصاريفُ الأيّام. الغَدْرُ الذي حلَّ بوفدِنا إلى الفُرْس قد جاءكم خبرُه. وقبلَ سويعاتٍ قليلاتٍ جاءنا الخبرُ الآخر. فَاسْمعوني إذاً واحفظوا عني آخرَ كلماتي:

ملكُ الفرس ِقد أتانا رسولٌ

منه يحكي وباللسان ِالمُعَجَّمْ

أنّ صيدونَ ليست ِالخصْمَ لكنْ

رأسَ صيدونَ يشتهي أن يُحَطِّمْ

يطلبُ الرأسَ من تينِسَّ ليعفو

عن سواهُ ذاكَ المليكُ المُعَظَّمْ

إن تجاهلْتُ فالتجاهلُ جُبْنٌ

أو تردّدْتُ فالبليّةُ أعظمْ

قالت ِالنفسُ: في التذلّل ِعارٌ

فَتَرَحَّلْ عَلَّ المدينةَ تَسْلَمْ.

غُربةُ النفس ِعن ديار ِهواها

هي للنفس ِكأسُ سُمّ ٍوعَلْقَمْ

غير أنّ الملوكَ ليستْ ملوكاً

إن تخلّتْ عن ِالقرار لِتَسْلَمْ

حُسِمَ الرأيُ بالفؤاد ِوبالعقل ِ

فهيهات ِبعدَ ذلكَ نندمْ

أيّها السائلونَ عنّي غداةً

قبلما تسألونَ ها قد أُجِبْتُمْ:

نَفْيُ نفسي عن المدينة ِطوعاً

هو كُرْهٌ لكنْ فداءٌ مُحَتَّمْ.

 

(بخطى ثابتة، يتجه تينِسُّ وقائدُ جنده إلى أقصى يسار المسرح، محاطَيْن بالجند والمرافقين، تطاردهم جميعاً أصواتٌ كأنّها تلهجُ بالأسى على قرار النفي، وأصواتٌ كأنّها تبتهلُ إلى الملك ألاّ يغادر المدينة فيتركها نهباً لقَدَرٍ غاشم، وأصواتٌ كأنّها تشكِّك بوعد الملك الفارسي بالعفو عن أهل المدينة إذا ما تخلّى عن تاجه تينِسُّ. يتلاشى الملكُ وقائدُ جنده ومرافقوه في المسافة.)

زينون (للجمع): كَفْكِفوا أصواتَكم... وَالْجُموا شكوكَكم... فحكمةُ مليكنا ونواياه فوق كلّ الشبهات.

ممثّل التجّار: ولكنه ترك المدينة! تخلّى عن بضائعنا!

ممثّل الحرفيّين: وأَسْلَمَ محترفاتنا للدمار!

ممثّل الصيّادين: ورمى بشباكنا وقواربنا إلى النار!

زينون: بل ترك المدينة لكي يصنع قَدَرَها الآخرون من أبنائها. لم يترك سبيلاً إلى السِّلْم إلاّ وسلكها، ولم يَدَعْ من حِيَلِ السياسة حيلةً إلاّ واحتالها. وحينما حُمَّ عليه القضاءُ اسْتمسكَ بخيطٍ للأملِ أخيرٍ فأعطى للمدينة، بِنَفْيِِهِ نَفْسَهُ عنها، فرصتَها الأخيرة للخلاص.

مِشْباح: الذي ذبح الخمسين من أفراد وَفْدِنا إليه لا يُؤتمن على أرواحنا أبداً!

عُسَيْلَة: ولا على أجسادنا!

رُهَيَّة: ولا على غضاضة شبابنا!

هتون: ولا حتى على طيوفنا!

عبد الجمال (مُقَلِّباً عينيه بينهم وبينهُنَّ، مستفزّاً مستحثّاً، بصوتٍ تزداد حدّتُه مع كلّ كلمة): وإذن؟! وإذن؟!! وإذن؟!!!

جيّاش: وإذن لن تُستباحَ نساؤنا في أَسِرَّةِ الغرباء... أبداً أبداً!

هتون: وأبداً أبداً لن يطأطيءَ رؤوسَ رجالِنا الأعداءُ.

عشقاء: حُشْدٌ على الحقِّ، كما حُشْدٌ على الحريّةِ، عشّاقُنا.

عُسَيْلَة: هكذا هكذا وإلاّ فَلا لا!

يارا: هكذا هُمُ الأهلُ... أهلي وأهلُكِ، يا صيدون.

عبد الجمال: وإذن، أيّها العابرون، بعدنا، الليلَ والنهارَ، خبِّروا الفُرْسَ عنّا أنّ صيدونَ عاصمةُ الجمال... ذكِّروا حكماءَهم أنّ مَنْ تهجسْ نفسُه بِهَتْكِ كرامةِ الجمالِ لا يستحقَّ التَفَيُّوءَ بظلاله.

(ينشد) غداً غداً جيرتُنا النجومْ

غداً غداً سيحصدُ الهزيمةَ الخصومْ

غداً سينبتُ الحشيشُ في الغيومْ

الجميع (بصوتٍ حماسيّ جارف): لسوف ينبتُ الحشيشُ في الغيومْ!

لسوف ينبتُ الحشيشُ في الغيومْ!

نُهَيَّة (لسامح): وفي الغيوم ِينبتُ السلامُ؟

سامح: الإحتمالُ الممكِن.

نُهَيَّة: للجحيم بوّاباتٌ سَبْعٌ وللفردوس ثمان. فإن ينبتِ السلامُ في الغيوم، فلعله أن ينبت أيضاً في المياه... على طريقة فيرجينيا وولفْ أو جونْ بيريمنْ!

تمارا: غوصي وحدكِ في الماء! وَاتْركيه لخياله يحلِّق صوب الغمام.

عُسَيْلَة: أجل أجل، فنحن قَدَرُنا من قَدَرِ خياله. ثم إنّ الماء لا نأتمنه على أنفسنا، فهو وإن كان يحمل سفنَنا إلى أقطار الأرض فإنّه سيحمل إلينا أسطولَ الفُرْسِ غداً أو بعد غد.

نُهَيَّة (لسامح): تمارا وعُسَيْلَة تلهوانِ بأفكارِكَ.

تمارا: ونُهَيَّة تلهو بماذا؟

نُهَيَّة: بأفكار السلام التي يحملها إليه وعدُكِ بالسماح ِالسماح!

تمارا: كلّ الديانات تبشِّر بالسماح مَعْبَراً لسلام الروح.

نُهَيَّة: وأنتِ ِالمؤتَمَنَةُ وحدكِ على سرِّ الرسالات؟!

تمارا: بل أمارس الإيمانَ بها كسواي.

نُهَيَّة: كيف؟ بتضييق ِالخناق ِعلى الذي هجركِ لأجلي؟ بمحاولاتكِ الدؤوبة لأسره في وهم ِالضرورة ِ، ضرورة ِأن يظلَّ يسألكِ السماحَ وتظلّي تسألينه السماحَ، أبداً أبداً، فيبقى أحدُكما أسيراً للآخر حتى لحظة الموت؟ وتسمّين هذا الأسْرَ سلاماً للروح؟!

تمارا: على الأقل أنا لا أغريه بعبور الماء ِوحيداً إلى سلام ٍمستوحش ٍلا يؤنسُهُ فيه رفيق.

نوّارة: على غير ما طائلٍ تُتْعِبْنَ أنفسَكُنَّ، فلا الغيومُ طريقُهُ إلى السلام ِولا المياهُ. أمّا الأُنْسُ فلن يأتيَه إلاّ من ثديَّتي. (لسامح) دَعْكَ من وساوسهنّ. فالسلامُ لكَ دفءُ امرأةٍ سَتُعَيِّشُكَ حكايةَ الحليب الفاتر.

عُسَيْلَة (لسامح): بل لن تنعمَ بالسكينة حتى تُحَرِّرنا من تهديد الفُرْس. ذلك كان أوّلَ خياراتِكَ. ونحن، الساكناتِ وجدانَكَ منذ ابْتَدَعْتَنا في رواياتكَ ظلالاً لسوانا، عرفناكَ لا تبدأ شيئاً إلاّ وتنهيه. فهيّا أتممْ حبكتَكَ لنا وإلاّ، ههنا أمام الناس، مزّقْتُ عن جسدي ردائي، نكايةً بكَ!

هادي (لعُسَيْلَة وهو يملّس على ردائها): فستانُكِ ناعمٌ مثل فستان الماما!

عُسَيْلَة: خُذْهُ! هو لكَ، نكايةً بجدِّك!

هادي: بل سآخذ جدّو الآن! فالْ puzzle لا تزال تنتظره في غرفتي ليساعدني في تركيبها.

ثُدَيَّة (لهادي): لا أنتَ تأخذه ولا أحدٌ منهنّ. (لسامح وهي تلفّ عنقَه بعقد الياسمين) مُطَوَّقٌ أنتَ بعذريَّة الياسمين.

(في شيء من التردّد، يملّس سامح على حبّات الياسمين ثم يدنيها من أنفه ويأخذ من عبقها شمّة.)

نُهَيَّة (لسامح): ويحكَ من مجنون! رجوعُ الشيخ ِإلى صباه إنْ هو إلاّ حُلُمُ الظلِّ بالظلّ. وَلَكَمْ مِثْلُكَ ترشوه الظلال!

تمارا: أتركيه!

نُهَيَّة: فَاحْذَرْ، ويلكَ، شبابَ ثُديّة، فما عذريّتُها إلاّ كخرطوشَةِ همنغوايْ، كغطسةِ فيرجينيا وولفْ، كغازِ سيلفيا بلاثْ.

تمارا: تنصحينَهُ، لا عن مودّة. ولكنْ تأكلكِ الغيرةُ حتى من عذارى خيالاتِه.

نُهَيَّة: بل أنصحه لأنّ جَهْلَةَ الستِّين تُضَخِّمُ للحواسِّ أشهى أحلامها!

تمارا: أتركيه.

ممثّل التجّار: بَلِ اتْرُكْنَنا أنتنّ، يا محترِفاتِ الجَدَل! أُتْرُكْنَنا نسرعْ فَنُهَرِّبْ بضائعَنا إلى سراديب المدينة.

ممثّل الحرفيّين: ومعها منتجاتِنا الحرفيّةَ...

ممثّل الصيّادين: وشباكَنا وأشرعتَنا وقواربَنا...

ممثّل الحرفيّين: فالسراديبُ سِرُّنا المخفيُّ تحت الأرض في زمن الحروب.

(ينسحب ممثّل التجّار وممثّل الحرفيّين وممثّل الصيّادين ويتلاشون في المسافة. يُدْني سامح من أنفه حبّات الياسمين ويأخذ من عبقها شمّة ثانية.)

نُهَيَّة (لسامح): عبثاً تحاول الولوجَ إلى السلام. فمنذ افْترقْنا أنا وأنتَ، رحلتْ عنكَ السكينة... هجرتْكَ الطمأنينة... فأنتَ مسكونٌ أبداً بالضياع.

تمارا: عُدْوانِيَّةٌ أنتِ في كلّ إيحاءاتِكِ.

نُهَيَّة (لسامح): كُفَّ عن كلّ المحاولات. وإنْ لم تَكُفَّ، فهاتِ خبّرْني: ماذا فعلْتَ على مرّ السنين بطيوفِ أمّكَ وأبيكَ وأختكَ، الطيوفِ التي لا تزال تستبيح صَحْوَكَ ومنامَك؟ خبّرْني! خبِّرْ!

تمارا: أتركيه بحقِّ السماء!

نُهَيَّة: أمّكَ لم تَرْعَ حقَّ شيخوختها بتكرار الزيارة! أبوكَ لم تحضر دفنه! أختكَ تركتَها تواجه لحظات النَّزْع ِوحدها! أنكرْتَ عليها لحظةَ استئناسٍ بحضوركَ اسْتَجْدَتْها منكَ استجداءً. تركتَها وهرعْتَ إلى جسدٍ لأنثى، تقلّبه وتتقلّب فيه، تنبّش في طراوته عن ظلٍّ للخلاصِ، خلاصِ أذنيْكَ من أنّاتِ النَّزْع ِالتي لا تزال أصداؤها ملءَ أذنيْكَ. ثمّ جئْتَ إليّ تعلن توبتَكَ كما في كل مرّة. هكذا هكذا أنتَ: كلّما انْغَمَسْتَ في الخطيئةِ أسرعْتَ ترتدي ظلالَ الطُّهْرِ التي لم تكنْ يوماً على مقاسكَ أبداً. أفَبَعْدَ كل هذا ترجو لروحكَ السلام؟

تمارا: عُدوانيّتُكِ تفوق كلَّ الإحتمالات!

نُهَيَّة: بل أذَكّره ببعض خطاياه لأحرّره منها!

تمارا: بل تعبثين بذاكرته لتحرّكي فيه إحساسَهُ بالذنب!

نُهَيَّة: إنْ صَحَّ ما تقولين، فعلى خطاكِ تسير نُهَيَّة!

نوّارة (لنُهَيَّة): سيري أنتِ على خطاها، أو فَلْتَسِرْ هي على خطاكِ، ما هَمّ؟! المهم أنّ خطاه هو مرهونةٌ بحكاية الحليب الفاتر.

(تقترب الصيداويّةُ الغريبةُ من سامح فتتلاشى نوّارة في الجمع.)

الصيداويّة الغريبة (لسامح): زوجُ ابنتي لا يزال يركبه شيطانُ النوريّات. تصوّرْ أنّه يهدّدها بالطلاق إنْ هي لم تنقعْ جسمها في الحليب الفاتر لثلاث ساعات، مرّةً كل أسبوع، لِتُنَعِّمَ له بَشَرَتَها، على طريقة النّوريّة التي كان يعرفها. إبنتي تعترض. أوّلاً، لأنّ اللّهَ خلقَ الحليبَ للشرب وليس للحمّام. ثانياً، لأنّ الحليبَ لا يظلُّ فاتراً لمدّة ثلاث ساعات، وهي تخاف أن يبردَ على جسمها الحليبُ فتُصابَ بالنزلة الصدريّة!

(من يسار المسرح، يدخل رجل مربوع القامة، ويتجه، عَدْواً عَدْواً، صوب عبد الجمال.)

الرجل: عبدَ الجمال! عبدَ الجمال!

عبد الجمال: ما وراءَكَ يا رجل؟ تلهثُ كأنّ أحداً يطاردكَ!

الرجل: تطاردني الإشاعة!

عبد الجمال: لا وقتَ لديَّ للإشاعات! عُدْ من حيث أتيْتَ، فبيْن يديَّ الآن أمرٌ جلل.

الرجل: ولكن الإشاعةَ تطالُ حياةَ الملك.

عبد الجمال: حياةَ تينِسّْ؟ ويحكَ! عجِّلْ قُلْ لي: ماذا سمعْتَ؟

الرجل: يتهامس الناسُ في الأزقَّة أنّ التجّارَ ومَنْ لَفَّ لَفَّهُمْ ربما الآن يجتمعون في بيتٍ سرّيٍّ ويدبّرون خطّةً ضدّ الملك.

عبد الجمال: خطّةَ ماذا؟ تينِسّْ قرّر الرحيلَ عن المدينة، فماذا يريدون منه؟

الرجل: هذا ما لا أعرفُه يا سيّدي. ولكنْ قلْتُ أخبرُكَ فأنتَ أدرى بهذه الأمور.

عبد الجمال: ومتى رأيْتَ الملكَ آخر مرّة؟

الرجل: حينما كان يتجه صوب المرفأ حيث، يقولون، ينتظره قاربٌ سيرحل عليه.

عبد الجمال: ومَنْ كان معه؟ وكيف كانت حالُه؟

الرجل: قائدُ الجند وبعضُ مساعديه كانوا يحرسونه. وكانت هناكَ نساءٌ يوضّبْنَ له سلّةً يَمْلأْنَها بنباتاتٍ من معبد أشمون... شيء كالمونة.

عبد الجمال: وهل كان هناك رجال أو شباب غرباء؟

الرجل: كان هناك رجل يقولون إنّه راعي غنم ٍوماعز.

عبد الجمال: ويفعلُ ماذا هذا الرجل؟

الرجل: يقولون إنّه أتى للملك بِعُنَيْزَةٍ من عنيزاته ليأخذها معه على القارب... يحلبها كلّما تولاّه العطشُ فيكون حليبُها الفاترُ ماءَهُ وشرابَه.

(عبد الجمال والرجل يبتعدان قليلاً ويواصلان حديثهما بالإيماء.)

هادي: وأنا العطشُ يكاد يقتلني، فهل لي بكوب من الحليب؟

سامح (لهادي): أنتَ تعالَ إلى هنا! إِبْقَ معي ولا تتحدّثْ إلى أحد.

عُسَيْلَة (لسامح): ولكنّه عطشان! (لهادي) تعالَ معي إلى النبع.

هتون (لسامح): لا تَخَفْ عليه، فهو معنا في أمان. أنتَ ركِّزْ على رحلتنا إلى الغيوم.

عشْقاء (لسامح): أم أنّكَ تخشى عليه الغوى؟

هادي (لسامح): ok جدّو؟ سأذهب معهنّ.

سامح: بل ستبقى معي.

هادي: جدّووو!

هتون (لسامح): نحن أدرى منكَ بحاجات الأطفال.

سامح: لم يَعُدْ طفلاً حفيدي!

عشْقاء: إذنْ سنبقى معه ههنا، نسلّيه عن العطش، بينما تتدبّر أنتَ أمرَ رحيلنا إلى الغيوم.

(عشقاء وهتون وعُسَيْلَة تتشابك أيديهنّ وَيَدُرْنَ حول هادي مرةً ومرةً ومرّة. هادي يظلّ يملّس بيده على أطراف أثوابهنّ. بغضب عارم يفرّقهنّ سامح ويجرّ هادي من يده.)

هادي (باكياً): جدّووو! يدي تؤلمني!

سامح (للصبايا الثلاث): هذا ما تسبّبْتُنَّ له به من ألم، فَارْحَلْنَ عني وعنه الآن!

(تتلاشى الصبايا الثلاث في الجمع.)

سامح (لهادي): إهدأْ! إهدأْ يا حبيبي!

هادي: لم أفعل شيئاً لتشدَّ على يدي هكذا!

سامح: كنتَ تملّس على فساتينهنّ!

هادي: ولكنّها ناعمةٌ مثل فستان الماما!

سامح: لو أنّكَ تدري! لو أنّكَ تدري! هذه الفساتين ليس في ملمسها إلاّ العذاب!

هادي: ولكنّها جميلة، يا جدّو!

سامح: الجمالُ يولّدُ البكاءَ، يا حبيبي. ولسوف يُبْكيكَ من بعدي الجمالُ!

هادي: لا! لا! هادي لن يبكي. فلم يَعُدْ صغيراً هادي.

سامح: ولأنّه لن يظلَّ صغيراً فلسوف يبكي.

هادي: قلتُ لكَ لن أبكي! يعني لن أبكي!

سامح: ولكنني ورّثْتُكَ اللعنةَ التي في دمي. وكنتُ وَرِثْتُها عن أبي أنا!

هادي: جدّووو you are talking crazy now!!!

سأخبر الماما والبابا أنني لم أَعُدْ أفهم عليك!  

نُهَيَّة: حتى أنا لم أعدْ أفهم عليه. (لسامح): قلْ لي: ما الذي تخطّط له الآن؟

سامح: أحاول التركيز على مسرحيتي لأنهيها وأرتاح.

نُهَيَّة: ترتاح؟ وهل ارتاح همنغوايْ ووولفْ وبيريمنْ بإنهاء الكتب التي كانوا ابتدأوها؟ أبداً! راحتُهم كانت في الشيء الآخر.

سامح: ولكنْ...

نُهَيَّة: ولكنْ لعلّكَ تحلم براحةٍ أخرى بطريقةٍ أخرى. إسمعْني واسمعْ جيّداً: ثُدَيَّة فيها نهايتُكَ وليس خلاصُكَ! وهي، إذا ركبْتَ رأسَكَ، لن تعرف حتى كيف تدفنكَ حينما تُجْهِزُ عليكَ!

سامح: تفضّلين إذنْ أنْ يكون دفني على يديكِ؟!

نُهَيَّة: على الأقل، أنا أعرف خفايا جسدِكَ أَكثر منها.

عبد الجمال (عائداً إلى وسط المسرح، لسامح): قبل أن تتّفقا على الدفن، فلزامٌ عليكَ إنهاءُ الحبكةِ التي اسْتَدْرَجْتَنا إليها، فنحن مثلكَ نبحث عن الراحة والسلام. وراحتُنا لن تكون إلاّ برحلتنا صوب الغيوم.

عُسَيْلَة: مهلكَ مهلكَ، يا عبد الجمال. فبيننا وبين سامح سرٌّ قديم.

عبد الجمال: عن الحبكة؟

عُسَيْلَة: بل عن الدفن.

عبد الجمال: دَفْنِ مَنْ؟

عُسَيْلَة: دفنِهِ هو. (تنادي) هتون! عشقاء! يارا! رُهَيَّة! إلْتَفِفْنَ حوله يا بنات.

(هتون وعشْقاء ويارا ورُهَيَّة وعُسَيْلَة يضربْنَ طوقاً أنثويّاً حول سامح.)

سامح:  لا تُشَدِّدْنَ عليَّ الخناقَ!

عُسَيْلَة: إطمئنَّ من ناحيتنا، فنحن أسرارُكَ التي تبوح بنفسها لكَ. فقديماً قديماً صُغْتَنا في خيالكَ مثيلاتٍ لصبايا كنتَ سرّاً عشقتَهُنَّ، وسرّاً جَمَحْتَ بهنّ، والآن تَصْحَبُهُنَّ ظلالاً ظلالاً.

سامح: الرحمةَ الرحمةَ يا نساء! أعطيتُكنَّ من خيالي ما استطعْتُ، فلا تعطوني من وجودكنّ فوق ما أتحمّل.

سامح: لن نعطيكَ من وجودنا إلاّ بعضَ حُلُمِكَ.

سامح: أيَّ حلم تعنين؟

عُسَيْلَة: شغفُكَ بالمرأة كان وَلَّدَ لكَ الحُلُمَ أنّكَ يوم تموتُ تَحْضُرُ جنازتَكَ النساءُ، وتحفرُ لكَ قبرَكَ النساءُ، ويشيّعْنَكَ إلى تراب لحدكَ بعقود الياسمين. تعالَ! تعالَ! نحن، النساءَ الظلالَ، سنحقِّقُ لكَ حُلُمَكَ لتحقِّقَ لنا حُلُمَ عبد الجمالِ بتهريبِكَ إيّانا إلى سطح الغيوم.

(تهجم نوّارة وثُدَيَّة فتقتحمان الدائرة الأنثويّة التي حول سامح، حيث يأخذْنَ جميعهنَّ يتجاذَبْنَهُ فيما بينهنّ ذات اليمين وذات اليسار، وإلى الأمام وإلى الوراء. ينضمّ هادي إلى معركة الشدّ والجذب. هنيهةٌ هي من العذاب يكاد سامح خلالها أن ينهار.)

سامح: تحقّقَتْ نبوءتُكَ ، يا زينون! فأنا الحقيقةُ الآنَ، لأنني الآنَ الظلُّ المُتَأرجحُ بين الظلال!

(من يمين المسرح تدخل امرأتان تحمل كلٌّ منهما سلّةً ملأى بعقود الياسمين. في هذه الأثناء، توميء عُسَيْلَة وهتون وعشْقاء ويارا إلى شباب صيدون، فيسرع هؤلاء ويدفعون بنوّارة وثديَّة وهادي بعيداً بعيداً. في وسط المسرح تُمَدِّدُ الصبايا سامح على الأرض، بالرغم من محاولته التملّص من بين أيديهنّ. ثم يأخذْنَ ينثرْنَ عليه عقودَ الياسمين حتى لا يكاد يُرى من وجهه أو جسمه شيء. ثم يَدُرْنَ حوله راقصاتٍ رقصةً مستوحاةً من لوحة برناسيس الشهيرة وعلى انسياب لحنٍ أشبه ما يكون بلحن أغنية الفرح من السمفونيّة التاسعة لبيتهون. تنتهي الرقصة، فينحَنينَ فوقه يودِّعْنَهُ بتمرير أكفّهنَّ على حبّات الياسمين.)

عُسَيْلَة: حقّقْنا لكَ الحلمَ، فَجازِنا بما نستحقّ.

هتون: وعلى عَبَق ِالياسمين احْلَمْ بنا نحقّقُ حُلُمَنا بالرحيل... لنرحل.

عشْقاء: ولا تتردَّدْ، فمن فوقنا تنادينا الغمائمُ عاتبات.

عبد الجمال: قد تَمَّ لَكُنَّ ما سألتُنَّ، فهيّا بنا...

(يدخل رجل في حالة هيجان وضياع.)

الرجل: عبد الجمال! عبد الجمال!

عبد الجمال: تظلّ تقاطعني يا رجل! ماذا وراءكَ الآن؟

الرجل: قتلوا تينِسّْ!

عبد الجمال: ماذا تقول؟

الرجل: تينِسّْ... قتلوه!

عبد الجمال:ويحكَ من حاملٍ للشؤم! مَنِ الذي قتله؟

الرجل: رجالٌ طعنوه وفرّوا!

عبد الجمال: وماذا كان يفعل قائدُ الجند؟

الرجل: قتلوه معه. كان يساعده في الصعود إلى المركب، وانهالتْ عليهما الطعنات.

عبد الجمال: وأين فرَّ القتلة؟

الرجل: أخذوا مركباً خفيفاً واختفوا في البحر.

عبد الجمال: ولم يعرف هويَّتَهم أحد؟

الرجل: البعض قال بأنهم من جواسيس الفُرْس. والبعض الآخر قال...

عبد الجمال: كفى! كفى! واغربْ عن وجه الأرض حالاً.

(يركض الرجل إلى خارج المسرح. الشباب والصبايا في حالة ذهول.)

عبد الجمال: الآنَ ينبتُ الحشيشُ في الغيوم!

الآنَ ينبتُ الحشيشُ في الغيوم!

هتون: أنظروا! أنظروا معي إلى السماء.

عشْقاء:عجباً عجباً لتلك الغيوم! تظلّ تتحوّل من لونٍ إلى لون.

عُسَيْلَة: والأخضرُ الشفيفُ غالبٌ على كلّ شيء.

عبد الجمال: هيّا بنا! هيّا بنا إذن نستوقد في المدينة ناراً دخانُها سُفُنٌ للصاعدين!

(يمضي عبد الجمال، تلحق به شلّةُ الصبايا وشلّةُ الشباب، إلى جانب من جوانب المسرح، حيث يُصْدِرُ أوامرَه، بالإيماء، إلى جماعاتٍ لا نراها أبداً. في هذه الأثناء، تدخل نُهَيَّة، تتبعها تمارا، وتقف المرأتان مذهولتيْن فوق سامح الممدّد على الأرض، مغطّى بالياسمين. بلغة الإيماء أيضاً، تنوح المرأتان نواح الثكلى هنيهةً تتراخى بعدها أطرافُ نُهَيَّة حتى كأنّها تكاد تتهاوى. تمسك بها تمارا وتجرّها جرّاً إلى حيث تتلاشيان معاً في المسافة.

شُعَلُ النارِ، من بعيد، تأخذُ تضيءُ جوانبَ المسرح.

يرتدُّ عبد الجمال إلى وسط المسرح، يحيط به شباب وصبايا صيدون.)

عبد الجمال: أُضْرِمَتْ في المدينةِ النارُ إيذاناً ببدء الرحيل. فخوضوا ألسنتَهاوتسربلوا بدخانها ينهضْ بكم إلى مدارج الفضاء خفافاً لِطافاً، كأنّكم وكأنّهنّ فراشاتُ الجنائنِ والحقول. وحينما تطؤون ويَطَأْنَ سطحَ الغيوم، انْحَنوا وقَبِّلوا أقدامَ معشوقاتكم، لا أيديهنَّ، فأقدامُهُنَّ المبتدِعاتُ للخطى التي طالما أتتْ إليكم بهنّ. قَبِّلوها لتستحقّوا مصاحَبَتَها في رحلةِ تجدّدِ الفصول. هيّا، أحبّتي، هيّا امْضوا إلى حيث تبتدعون أقدارَكم، ولا تَغِبْ عن دائرةِ عيونِكم نساؤكم، ففي غيابِ المرأةِ ذُلُّ الرجال. أُمْضوا ليسجّلَ الفُرْسُ، بَعْدَكُمُ، انْتصارَهُمُ المهيضَ على الفراغ الفراغ!

زينون (من بعيد): لن تنهزمَ مدينةٌ في إرادةِ مليكها قلبُ شاعر وفي قلب شاعرها إرادةُ ملك!

هتون: إلينا إذن بالنباتات من وادي أشمون!

عشْقاء: نزرعها في تلافيف الغيوم!

عُسَيْلَة: فتولَدُ لنا من جديدٍ مملكةُ صيدون!

(من يمين المسرح، تدخل امرأتان، تحمل كلٌّ منهما سلّةً ملأى بشتى أنواع النباتات: حشائش برّيّة، زعتر أخضر، هندباء، فرفحين، خبّيزة، قُرْصْعَنّي، صُبَّيْر، نعنع بَرّي... الخ. يتنازع الشبابُ والصبايا كلَّ ما في السلّتَيْن. تتشابك  أيديهم وأيديهنَّ ويمضون إلى أقصى يسار المسرح حيث يتلاشون في دخان الحريق. تكاد رُهَيَّة أن تلحق بهم وبهنّ لولا أن يستوقفها عبد الصِّبا.)

عبد الصِّبا: إنتظريني يا رُهَيَّة!

رُهَيَّة: عبد الصِّبا! لا تزال تلحقُ بي!

عبد الصِّبا: أضناني الشوقُ إليك ِ

فَسَرَحْتُ أدورُ عليك ِ

عكّازي مَلَّ مصاحبتي

فخذيني بين يديك ِ!

(يرمي بعكّازه إلى الأرض ويتمايل يمنة ويسرة في غير اتِّزان، وكأنما يكاد يهوي.)

دامو: إرْأَفي بالرجل يا رُهَيَّة!

(تسرع رُهَيَّة وتمسك بيد عبد الصِّبا، فيتماسك.)

رُهَيَّة: فقط من أجل دامو! ومن أجل دامو فقط سأمضي بكَ إلى حيث يرشدنا عبدُ الجمال.

دامو: إمْضي به إذن إلى حيث سَبَقَنا الشبابُ والصبايا. ولا تتردّدي، خوفَ الحريق، فأوّلُ العشق ِلهيبٌ وآخرُهُ دخان!

(تخطو رُهَيَّة وعبد الصَّبا بضع خطوات ثم يتوقفان.  يتأمّلها عبد الصِّبا في شيء من الحزن والجوى.)

عبد الصِّبا (لرُهَيَّة): أشتهي كنْتُ أنْ تكوني طعامي

وشرابي وحُظْوَتي الأبديَّهْ

وثيابي وفرشَتي ولحافي

ومنامي وصحوتي، يا رُهَيَّهْ

وملاذَ الحواسِّ من كلِّ قبح ٍ

وقبيح ٍإنْ جاءني بالبليَّهْ

وَارْتعاشاً من لذَّةٍ تعتريني

وَاخْتلاجاً ما دامَ فيَّ بقيَّهْ

نَبْتَةَ الجِنْسِنِ التي وصفوها

لجدودي من أوّلِ الأزليَّهْ

رَشْوَةً للبقاء ِفي نبضة ِالعيشِ

فَحُكْمُ الزمانِ لي، لا عَلَيَّهْ

وإذا ما هرمْتُ عُكّازَ عمري

فَخُطَى العَجْزِ كُلُّها حيويَّهْ

وأنا اليومَ أشتهي أنْ تكوني

صهوةَ الريح ِللذُرى العُلْوِيَّهْ

تعبرينَ اللهيبَ بي في سلام ِ

وتحطّينَ فوقَ سطح ِالغمام ِ

فأغنِّيكِ لوعتي وغرامي

ثمّ نَعْرَى فوقَ الغيوم ِالنديَّهْ

يا ملاذي وحُظْوَتي الأبديَّهْ

رُهَيَّهْ:     إنْ يكنْ سِحْرَكَ الكلامُ فقُلْ لي

 أيَّ شيء ٍتحبُّ، يا عمُّ، فِيَّهْ؟

عبد الصِّبا: لَسْتُ عَمّاً! ولَسْتُ خالاً! ولكنْ

عاشِقُ الحُسْنِ والصِّبا يا صَبِيَّهْ

عبد الجمال: أسْرِعا! أسْرِعا! نداءً أخيراً

وَاسْبقانا في رحلة العاشقينا

(رُهَيَّة وعبد الصِّبا يخوضان الدخان ويتلاشيان. تخطو دامو وعبد الجمال بضع خطوات في ذات الإتجاه ثم يتوقفان. يتأمّل أحدُهما الآخر.)

عبد الجمال: آهِ دامو آنَ الرحيلُ فَهَيَّا

نَثِبُ الوثبةَ التي تعرفينا

فَارْتقاءُ الأجواء ِللغَيم ِوَعْدٌ

بجنانٍ تُخُيِّلَتْ كي تكونا

أنت ِ، ما أنت ِ؟ أنت ِظلٌّ لفجرٍ

وَانْبِلاجٌ للضوء ِيهدي العيونا

فَرُؤى القلبِ شَعْشَعاتُ بيانٍ

ترغمُ الشكَّ أن يصيرَ يقينا

آه ِمن سطوة ِالخيالِ على القلبِ

ومن صولةِ الحنينِ أنينا

فدموعاً فَحُرْقَةً فَانْتحاباً

فَاخْتِلاباً فَلَوْثَةً فجنونا

إنّما الحبُّ رَبُّهُ الجنُّ حتماً

ومُحالٌ للجنِّ أن تستكينا

أُنظري! أَلْسُنُ اللهيبِ تنادي

وَاسْمَعي! فَرْقَعاتُها تُغْرينا

رجفةُ النارِ في لفيف ِدخانٍ

ذَكَّرَتْني برجفةٍ تعترينا

فتعاليْ نَرْقَ الفضاءَ خِفافاً

ونُوَلِّفْ من الدخانِ سفينا

ونُرَفِّهْ جَوَّ السّحابِ بشوق ٍ

مثلما الفلُّ رَفَّهَ الياسمينا

دامو:     أنتَ في خدمةِ الجمالِ جميلٌ

كلُّ ما فيكَ: فاتناً مفتونا

لُفَّ خصري بلهفةٍ وذراع ٍ

ذَوِّبِ اثْنيْنَ لهفةً وحنينا

وَلْنحلّقْ مع الدخانِ كما الشوقُ

ونسرعْ فَنَفْجَىء ِالصاعدينا

عبد الجمال: رَفْرِفي مثلما يرفرفُ قلبي

صُعُداً في الفضا... وإنْ تَسْبُقينا

غَيْمةٌ أنتِ لي وأنفاسُك ِالظلُّ

فَظَلَّي بِظُلَّةٍ ظَلِّلينا!

(يلفّ عبد الجمال خَصْرَ دامو بذراعه ويتلاشيان في الدخان. من يمين المسرح يتقدّم الشحّاذُ الهَرِمُ متوكّئاً على عكّازه، مادّاً يده أمامه مستعطياً. عيناه تنجذبان إلى الحيّز الذي يتمدّد فيه سامح مغطّى بالياسمين. يسير إلى ذلك الحيّز ويقف عنده.)

الشحّاذ: من مال الله... يا عباد الله... من مال الله...

(ينتظر لحظة. الياسمين لا يتحرّك.)

الشحّاذ (مكرّراً): من مال الله... يا عباد الله... من مال الله...

(لا شيء يتحرّك. يهزّ الشحّاذ رأسه متأسفاً ويملّس بيده على الياسمين. يُصَعِّدُ آهاً طويلةً ويدور على عقبيه عائداً من حيث أتى.)

الشحّاذ: اللّهمَ أَظِلَّهُ بِظِلِّكَ يومَ لا ظلَّ إلاّ ظِلُّك...

(يتلاشى في المسافة على صدى ضربات عكّازه على الأرض. من عُمْق ِالمسرح يتقدّم زينون بخطى وئيدة، وهو يتثاءب شيئاً قليلاً.)

زينون (لنفسه): كلُّهم يَنْشُطون! كلُّهم يرحلون! ووحدَكَ أنتَ لا يزال يغالبُكَ النعاسُ يا زينون!

(يتمشّى خطوات ثم يقف متفكّراً.)

زينون (لنفسه): إذا النعاسُ ظِلٌّ للنوم، والنومُ ظِلٌّ للموتِ، فما تُراها تكون ماهيَّةُ الظلّ؟ (يهزّ رأسَه متبسّماً وكأنّما يستظرف الفكرةَ التي خطرتْ بباله) تلك هي الأحجيةُ التي تتوارثها الفصول!

(فجأة ينتبه إلى وجود هادي غير بعيدٍ، يدندن بشيء، وهو يلفّ ويدور حول نفسه،  وعيناه كأنّما تلاحقان شيئاً يتحرّك فوق الرصيف. يقترب منه.)

زينون (لهادي): ما الذي تفعله وحدكَ ههنا يا بنيّ؟

هادي (رافعاً بصره إليه): أنتظرُ جدّو.

زينون: تنتظره وحدكَ؟

(يهزّ هادي رأسه بالإيجاب.)

زينون: وما الذي تريده من جدّكَ؟

هادي: أريده أن يساعدني في تركيب الْ  puzzle.

زينون: آه! فهمتُ. (يتلفّت في أرجاء المكان) ولكنْ إلى أين تُراه ذهب؟ ومن أي جهة سوف يأتي؟

هادي: سأعرف حين أراه!

زينون: جوابُكَ مقنعٌ يا بنيّ. ولكن قلْ لي: ما الذي تفعله وأنتَ تنتظره؟

هادي: أنتظر... فقط.

زينون: فقط! خُيِّلَ إليّ أنكَ كنتَ تلاحقُ شيئاً فوق الرصيف.

هادي: تلك كانت ... بعض الظلال.

زينون: وكنتَ كذلك تدندن بشيء... وكأنّما لتسلّي نفسكَ.

هادي: كنتُ أدندنُ أنشودة.

زينون: أنشودةَ ماذا؟

هادي: أنشودةَ الظلّ.

زينون: أيَّ واحدةٍ تعني؟

هادي: التي حَفَّظونا إيّاها في المدرسة.

زينون: والمدرسةُ أيضاً مَغْوِيَّةٌ بالظلال؟! حسناً حسناً. إن كنتَ تحبُّ الأنشودةَ، فهاتِ أسْمِعْنيها يا بنيّ.

هادي (متحمّساً): oookkk!

(يتأهّب، متّخذاً وَضْعَ التلميذ الذي ينوي إبهارَ أستاذه.)

هادي (منشداً): ليَ ظِلٌّ هو ظلّي          كلُّ شيءٍ فيه مثلي

رأْسُهُ رأسي، وإذْ يخطو، كأنّ الرِّجْلَ رِجْلي

وهْو يمشي مِثْلَ مَشْيي    حين أمشي من محلّي

ويُحاكي خطواتي         حَذْوَةَ النَّعْلِ بِنَعْلِ

فأمامي وورائي           كلُّهُ رَهْنٌ بِكُلّي

مستعدٌّ مستبدٌّ             يتسلّى ويُسَلّي

فكأنْ يعرفُ قلبي         وكأنْ يفهمُ عقلي

ينحني إمّا انْحنيتُ        ثمّ يعدو إنْ عَدَوْتُ

وإذا سَهْواً جلستُ         أيَّما شيءٍ فعلتُ

يرتدي فِعْلي وشَكْلي      مُلْغِياً بَعْدي وقَبْلي

وهْو حيناً طولُ شِبْرٍ      وهْو حيناً فيه طولُ

ثمّ عندَ الظُّهْرِ يغفو        تحت رِجْليَّ الكسولُ

هو منّي؟ لستُ أدري     أنا منه؟ لا يقولُ

مستحيلٌ هو ظِلّي        أم تُراني المستحيلُ؟

زينون: عجيبةٌ ذاكرتُكَ يا بنيّ! وإنشادُكَ أعجب! ولكنّ الليلَ يدهمنا... مُلْحِفاً بالهبوط. فَعُدِ الآنَ إلى ديارِ أمّكَ، وحذارِ أن تلهيكَ عن الدرب أحابيلُ الظلال!

هادي: بل سأنتظر جدّو.

زينون: قد يكون خيارُكَ صعباً يا بنيّ. كنتُ أتمنّى لو أنتظرُ معكَ، ولكنّ النعاسَ عاد يغالبني من جديد. فوداعاً لكَ منّي وداعاً.

هادي: وإلى أين تذهب أنتَ؟

زينون (وهو يبتعد يساراً يساراً): إلى حيث يناديني الظلُّ المتأرجحُ بين الظلال!

(يتلاشى زينون في دخان الحريق.)

هادي: He talks crazy like jeddo!

(نوّارة وثُدَيَّة تندفعان من يمين المسرح صوب الحيِّز الممدَّدِ فيه سامح، مغطّى بالياسمين. تركع نوّارة من جهة، وثُدَيَّة من الجهة الأخرى، بحيث تتواجهان، وتأخذان ترميان بعقود الياسمين يميناً ويساراً على أرض المسرح، وفي كلّ اتجاه، حتى يبين لهما جسدُ سامح ووجهُهُ. تهزّه أيديهما وكأنّما لتوقظه من نوم ٍعميق. أوّل الأمر، لا يتحرّك منه شيء، فتلطم المرأتان خدَّيْه بكفّيْهما لَطْماً رقيقاً ولكنْ مُلِحّاً، مصرَّتَيْنِ على إيقاظه من حالة السبات أو الغيبوبة التي هو فيها. أخيراً تتعاونان على رفْع رأسه عن الأرض وتصيران به إلى حالة الجلوس، حيث تسنده ثُدَيَّة بجسدها وتلطم خدَّيْه نوّارةُ بكفّها لَطْماً خفيفاً.)

نوّارة: أَفِقْ يا رجل! إلى أين أخذتْكَ منّا بناتُ صيدون؟

ثُدَيَّة: لعله أُغْمِيَ عليه من حدّة ِعَبَق ِالياسمين.

نوّارة: ذلك الياسمين لم يكن من ياسمين الأرض.

ثُدَيَّة: ولذلك كان تأثيرُهُ عليه الذي رأيناه ونراه؟

نوّارة: لا تحاولي فَهْمَ ما لا تعرفين. فقط مارسي عليه سِحْرَ الأرض التي هي أنتِ.

(تأخذ ثُدَيَّة من حول عنقها عقدَ الياسمين وتضعه حول عنق سامح.)

ثُدَيَّة: طَوَّقْتُكَ بياسمين الأرض.

(يشهق سامح فجأةً شهقةً تعيد إليه وَعْيَهُ وتعيد عينيه إلى كلّ ما حوله.)

سامح: ما الذي جرى لسامح؟! ما الذي جرى لي؟!

نوّارة: لا شيء! لا شيء! كانت زَلَّتْ بكَ قدماكَ هنيهةً عن هذا الكورنيش.

ثُدَيَّة: ولكنّنا أَعَدْناكَ إليه أخيراً كما ترى.

سامح (متلفّتاً حوله في قلق): ولكن أين عبد الجمال؟ أين دامو؟ أين بنات صيدون؟

نوّارة: لا تتعلّقْ بما ليس لكَ. أنتَ منّا ونحن منكَ.

سامح: ولكنّ اللواتي كُنَّ والذين كانوا...؟!

نوّارة: أخَذَهم وأخذهنَّ الضبابُ الذي هناك.

سامح (مادّاً ببصره إلى أقصى يسار المسرح): بل ذلك هو دخانُ الحريق.

نوّارة: أيُّ حريق ٍيا رجل؟ إِنْ هي إلاّ تهويماتُ الضباب.

سامح: مستحيل! مستحيل!

نوّارة: المستحيلُ هو أن تكون نسيتَ وعدي لكَ بثُدَيَّة.

ثُدَيَّة: ولقد طوَّقتُكَ بعذريّة الياسمين!

(تنهض المرأتان. تمسكان به من تحت إبْطَيْهِ، و تساعدانه على الوقوف. فجأة ينتبه هادي إلى سامح واقفاً كالضائع بين المرأتَيْن. يهرع إليه بفرح مشوب بقلق، حاملاً بيده عِرْقَ ياسمين.)

هادي: كنتُ أنتظرُكَ يا جدّو. ولكنّني لم أعرف من أيّ جهة أتيْتَ.

سامح: هادي! حبيبي! أنتَ لم تَغِبْ عن فكري أبداً.

هادي: إذن تعالَ معي الآن... فأنتَ مُتْعَبٌ يا جدّو.

ثُدَيَّة: إرحلْ عنّا وغَرِّدْ في غير سربنا، يا صبيّ!

(من يمين المسرح، يدخل عبد الودّ، متوكّئاً على عكّازَيْه. يسير إلى يسار المسرح، منشداً أغنيته القديمة، بينما تتأمله نوّارة وثُدَيَّة وهادي وسامح في صمت وكأنّ عيونهم تتأمّل طيفاً من الطيوف.)

عبد الودّ (متابعاً مسيره يساراً):

فَلّ ِالصِّبا مِنْ حَيِّنا يا رَبّْ

وْفَلِّتْ عَم ِتْرَفْرِفْ مَناديلو

لا نْهارْ عَمْ يِطْلَعْ عَلَيّي بْضَوّْ

ولا الليلْ مِضْوِيّي قناديلو

 

خْطُفْني إِلَكْ يا رَبّْ

عَ الوَعْدْ وَدّيني

ما عادْ بَدّي قَلْبْ

يِشْقى وْيِشْقيني

 

يا رَيْتْني غَيْمِهْ

بْنُصّ ِالسَّما عَمْ سوحْ

وِمْعَلَّقَهْ بْغَيْمِهْ

هِيّي حبيب ِالرّوحْ

 

(يظلّ يسير بعكّازَيْه، يساراً يساراً، حتى يبتلعه الدخان من حيث لا يدري. يرفع سامح نظره إلى السماء ويحدّق في عجب ودهشة.)

سامح: ربّاه! ربّاه! ما الذي يحدث فوقنا للغيوم؟

(نوّارة وثُدَيَّة وهادي يرفعون أنظارهم إلى السماء.)

نوّارة: لا يحدث شيء.

ثُدَيَّة: هي هي لا تزال.

هادي: بل أصبحتْ نُتَفاً نُتَفاً، يا جدّو.

سامح (يظلّ يتأمّل الغيوم للحظات، ثم ينشد وكأنّما لنفسه):

نُتَفُ الغَيْم ِأُسْرَةٌ شَتَّتَتْها

عاصفاتٌ من كلّ طَيْفٍ ولَوْنِ

شَتَّتَتْها لمّا تَهَلْهَلَ منها

خَيْطُ وُدّ ٍفَبَيْنَها كلُّ بَيْنِ

فَلأُهاجِرْ بين الغمائم ِحتى

يجمعَ اللهُ بين أهلي وبَيْني.

نوّارة: لن تهاجرَ مع الغمائم ِاليومَ ولا غداً! كلُّ هجرتِكَ الآن إلى ثُدَيَّة!

(نوّارة وثُدَيَّة تحاصرانه بجسديْهما وتسيران به في خطى وئيدة إلى يمين المسرح. يظلّ هو يتلفّت إلى اليسار حيث لا يزالُ يتعابثُ في المسافةِ اللّهَبُ والدخانُ.)

سامح: عبدَ الجمال؟! دامو؟! وأنتنّ... لماذا تَخَلَّيْتُنَّ عني، يا بنات صيدون؟

هادي: تعالَ معي، يا جدّو! أنا لم أتخلَّ عنكَ! وهذا العِرْقُ أتيتُكَ به من ياسمينة الماما والبابا!

(يحاول اللحاق بسامح فتدفعه نوّارة بقسوة بعيداً عنه.)

ثديَّة (لسامح): مُطَوَّقٌ أنتَ بعذريّة الياسمين!

نوّارة (وهما تغيبان بسامح في أقصى يمين المسرح): الليلةَ الليلةَ سَتُعَيِّشُكَ ثُدَيَّةُ حكايةَ الحليب الفاتر!

(الآن... يقف هادي وحيداً على المسرح. من اليسار، تظلّ تندفق عليه ظلالُ ألْسِنَةِ النار ِوتهويماتُ الدخان. وعلى الرصيف، يبدو له وكأنّ ظلال النساء والرجال والشبّان تلفّ حول نفسها وتدور، كما تلفّ حوله هو وتدور. يلاحق بعينيه الظلالَ هنيهةً، ثم، وكأنّما مِنْ تَعَبٍ، يركع على الأرض، وقد سقط من يده عِرْقُ الياسمين، ويخبّيء وجهه بكفّيْه للحظات. هنيهة أخرى تمرّ... في صمت عميق.)

هادي: كلُّهم ذهبوا! كلُّهم يذهبون!

(تلحُّ عليه الظلالُ بحركات تظلّ تتسارع. عيناه الآن تتجهان إلى أقصى يمين المسرح.)

هادي (بعَتَبٍ حزين): جدّو! جدّووو!!! لماذا تركْتَني في الظلال؟!

(السكونُ مخيّمٌ إلاّ من حركات الظلال.)

هادي: جدّو! جدّوووو!!!! لماذا تركْتَني للظلال؟!

(على انسيابٍ شجيٍّ من سَحَباتِ الكمانِ، مُنْسَلَّةً إلينا، كذي قبل، من مقطوعة الصيف لِ VIVALDI، تتجمّد كلُّ الأزمنةِ في المشهد، ويتجمّد المشهدُ في لوحة. ثمّ لا يلبث أن ينسدلَ الستارُ بطيئاً، حَيِيّاً، وكأنّما أصابتْهُ من الموسيقى عدوى الجوى والشجن.)

 

 

تمّت

 

من  24-أيلول-2011 إلى 17-أيّار-2012

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية