د. صلاح الدين الحريري

على قارعة الغيب





النص الكامل

 

رواية

 

 

 

 

               على قارعةِ الغيب

 

 

 

 

 

صلاح الدين الحريري

                                                 

 

 

 

 

 

"سِفْرُ اللعنةِ والتوبة"

(رباعية روائية)

"وعد شباط"          : الجزء الأوّل (1994)

"على قارعة الغيب"   : الجزء الثاني (2002)

"صلصلة الرّعد"       : الجزء الثالث (2003)

"الرحلة نحو الفجر"   : الجزء الرابع(2005)

 

                                                                                                                                                                                

 

 

 

 

يُحَظّر إعـادة طبع هذا الكتـاب أو أي جزء منه، كما يُحَظَّر تصويره أو تصوير أي جزء منه، إلكترونياً أو ميكانيكياً، أو بواسطة آلات الفوتوكوبي، كما يُحَظَّر تسجيله صوتياً، إلاّ بإذن خطّي مسبق من المؤلف.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                                                           

 

 

 

 

 

 

شخصيات هذه الرواية وأحداثها كلها من نسج الخيال، وأي تشابه بينها وبين الناس وما يعرض للناس من أمور الحياة إنما هو محض مصادفة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

الطبعة الأولى- كانون الثاني 2002

      

 

الإهداء

 

إلى الذين صنعوا تاريخ الحرية في مدينتي،

من أيام فينيقيا إلى شباط 1975.


شخصيّات الرواية

 

I-جهّار الجُمَري   : الأب

سميحة الجُمَري  : الأم

سميّة الجُمَري   : الإبنة

كسّاب الجُمَري  : الإبن الأول

عديّ الجُمَري   : الإبن الثاني

سامح الجُمَري   : الإبن الثالث

يحيى الجُمَري   : أخ لجهّار

صفيّة الجُمَري   : أخت لجهّار

حنقير           : ابن أخت لجهّار (فلسطيني)

إسماعيل        : ابن أخت لجهّار

أبو الوليد       : صديق لجهّار

المختار         : صديق لجهّار

أم جميل        : إمرأة تغسل في البيوت

أم شريف       : جارة لآل الجمري

عَبَدْ البَرْبُوشْ    : إبن بستانيّ من سقي صيدا

سَارِبْ الهيّوبْ   : شاب صيداوي من المدينة القديمة

أبو بلال        : رجل صيداوي من المدينة القديمة

رنده الحيفاوي   : فتاة فلسطينية جامعية من مخيّم عين الحلوة

جابر عُبَيْدُ الله   : أستاذ جامعي

رَضِيَّة المَهادي  : صحافية

II-             عَازَرْ الديَّارْ     : صديق لجهّار

أنطون الخوري  : صديق لعازر

منصور         : عامل في مطعم جهّار

أمّ ميلاد         : جارة لآل الجمري

أم ماريّا         : جارة لآل الجمري

إيميهْ رزق      : فتاة جامعية

بَرْجيسْ السّلَيْلاتي: شاب جامعي


 

 

 

الفصل الأول

 أوائل الخمسينيات

 

أمّ ميلاد

 

        أُصَلِّبُ على صدري مرّة ثم مرّة أخرى قبل أن تنعطف الشجراتُ بي وتنعطف الطريقُ بي وبالشجرات إلى بيتهم الملتفّ بشجرات الكينا العتيقات عِتْقَ جيرتنا، أُصلّب على صدري خلسةً وكأنّما عيونُهم خلسةً ترمق أصابعي من بين الأوراق المشبوكة بعضها بالبعض الآخر، من بين الأغصان ومن فوقها ومن تحتها ترمقني وتحصي عليّ حركاتِ شفتيّ فلعلّني همهمتُ، أو لعلّني أهمهم الآن، بالكلمة التي ترسمها أصابعي والتي تقف بين قلوبنا وقلوبهم كالسدّ، وكأنما تتجمدُ النظراتُ في عيونهم وتنطبق على بعضها شفاهُهم وتمتدّ بيني وبينهم في الهواء حشرجةٌ من العتب أنْ قد فعلتُ الذي لا يجوز لي أن أفعله في هذا اليوم بالذات، وأنا أنقل خطواتي إلى بيتهم الملتفّ بشجر الكينا، لا كزائـرةٍ تنوي مشاركتهم قهوة الصباح، ولا كعائدةٍ لمريض لهم، كما هو عادةً واجب الجار تجاه الجار، ولكن بنيّة تعزيتهم وأداء ما يفرضه حَدَثُ الموت على أهل الجيرة الواحدة.

ليلتي لم تكن مثل غيرها، فالطبيبان اللذان كشفا على أمّ يحى عشيّةَ أمس والصمتُ الذي خشع في البيت كلّه، حيطانِه وأبوابِه وشبابيكه المعتلّةِ اللون، عَيَّشني في حيطة وترقّب كنتُ قد نسيتُ طعمهما منذ رحل عنّا جهّار إلى الضفّة الأخرى من النهر، نسيتُهما كنتُ أو كأنّي، فالليلُ حَوَّلَ مجراه عني وأنكرتْ عشراً من أصابع يديَّ قضبانُ شبّاكي، حوّل مجراه عني وتركني معلّقةً بالغيب غيباً من الزمن، ونسيني، ولم أنسه، فما إن عوى في المسافة كلبٌ، وصاح، ربما تحت شبّاك غرفتي، ديكٌ حتى جَهْجَهَ الصبحُ بالموت، نبأً مشى إلينا على قدمين وحكى نَفْسَهُ بشفتين وعاد من حيث أتى، من حيث أتى قبل أنْ أميّز منه الصوت أو صاحب الصوت، وتركني بباب البيت لأصحو من ليلتي التي لم تكن مثل غيرها، لا على نبأ الموت، موت أمّ يحى فحسب، بل على ليلٍ من الترقّب أيضا كان عيّشنيه ابْنُها جهّار سنين قبل أن تهجّره عنّا إلى الضفة الأخرى من النهر نيّةُ الرحيل التي سَكَنَتْهُ من قبل أن يكون للنهر ضفّتان.

        قبل أن يكون للنهر ضفّتان، كان كلّه النهر لي وله، ضفّةً واحدة ننزل إليها من طرف البستان حيث شجرات الكينا ضاربةٌ جذورُها في عمق تراب الضفّة، فنجاهد بأيدينا ومناكبنا غزارةَ القصب المزحوم بين جذوع الشجرات العاتيات، فنفتح لأقدامنا موطئاً ولجسديْنا مسرباً ما إن ننسرب منه حتى ينغلق خلفنا، تغلقه خلفنا خشخشةُ القصبات التي تستردّ انتصابَها وغزارَتَها وتكتمنا كالسرّ عن شجر البرتقال المصطفّ وراء كَتِفٍ من التراب عالٍ وعريض.

كان كلّه النهر لي وله، ضفّتُهُ صيفُ عُرْيِنا، وشتاؤنا كان دهمةَ الليل في الغرفة التي أُلْحِقَتْ بغرفة المونة، خلف بيتنا، نغلق بابها على العلف والحيوان والطير في قرّة الشتاء ونضيئها بقنديل الكاز، نعلّقه بمسمارٍ دُقَّ في حائط الباب، وأضيئها أنا، ليلةَ الليلُ يحمله إليّ، بشيء أشبه ما يكون بسهوة الضوء على زجاجة القنديل فلا يزال القنديل يشحّ، بنيّة الشحّ مني، حتى لا تكاد ترى العينُ مني ومنه غيرَ تقصّفِ العري على رائحة التبن في المعلف ورائحةِ الروث تحت أرجل البقرات ورائحةِ الدجاجات في القنّ، وتُهَيِّجُ كلّها أنفاسَ الليل وتمتزج برائحة العرق المصبوب عليّ من رجفات جسمه، فأغيب عن كلّ ذا في سحباتٍ كأنها التفافُ الغمام ثم أرتدّ، ثم أغيبُ ثم أرتدّ، مسحوبةَ النفَس، فأسحب نفْسي على الأرض، تسحبني لوعتي، فأمرّغ شفتيّ على العضلة المنتفخة على يمين قدمه اليمنى، بضّةً كخدّ الطفل، ثم أمرّغ شفتيّ على بضاضة العضلة المنتفخة على يسار قدمه اليسرى، وأظل ألهث على حالتي فوق عري قدميه حتى ترفعني عن الأرض يدُه المشدودةُ حول شعري، تنهض بي، وقد نهض هو، فأنا أَخَفُّ من نَفَسِ الريشة، جسدي ضاع مني في النسمة العابقة برائحة التبن والروث والدجاجات في القنّ ورائحة العرق يغسل جسدي عن جسدي.

بعده لم يمسسني رجلٌ، وإنْ ، بعده، أخذني رجالٌ، لم يمسسني رجلٌ، لأنّ روحي وهبتْ له وحده جسدي، أعرّيه بعده وكأنما لعفّة الريح في الليل، لأنه قبل ذا كان هو الريح، أعرّيه للريح في الليل بعدما ورّثني اليأسُ من لقائه عفّةَ الشوق إليه، وأمشي في جلول البرتقال أُشْهِدُ على عري انتظاري له حبّاتِ البرتقال المبثوثةَ في أوراق الأغصان عيوناً ترمقني من زحمة الليل.

بعدما هجر البساتين وأهلَها وعيشةَ أهل البساتين عمراً كان كلّه غربتي، يعود اليوم ليحلّ ضيفاً على غفلة الموت بيننا، ساعةً أو بعض ساعة، فيكون وَدَاعي لها داعيَ اللقاء به، لحظةَ يخدّر دخولُه علينا الموتَ والحياةَ، فعينٌ له على جثة أمه تغمرها بنظرة الوداع الأخير، وعينٌ له ترفّ جفونُها في عينيّ، وأنا جالسة مع المودّعات  فوق رأس الراحلة، عيناي مملوءتان بالباب الذي سيمتليء به لحظةَ يخدّر دخولُه علينا الموتَ والحياةَ، فينكسر وداعه لها بلقائه بي ويكون لقائي به وداعي لها.

أصلّب الآن في سريّ وقد طالعني من آخر الطريق بيتُ أمّ يحى وأدلدل يديّ على جانبيّ عمداً حتى لا يتجنّى عليّ الذي قد يراني فيقول إنني أتعمّد الجهر بالذي يكرهون مني، وأنا ماضية إليهم لوداع أمّ يحى الوداع الأخير، ولأقضي حقّ الجيرة التي جمعتْنا عمراً هو من عمر البساتين الذي تكلّ الذاكرةُ اليوم عن استرجاعه كله وتنوء منه، في أهبة الرحيل، بأكثر من مواسم الولادة والموت.

 

أمّ شريف

 

حينما انْحَلَّ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الليل ووَجْوَجَ الفجر ثم بعد ذا جَهْهَهَ الصبح في عينيّ، انتصبتْ بباب غرفتي أمُّ ميلاد على هيئة الطيف، لا كما هي الآن بعد أن ولدتْ ميلاد وأخويه وبدّلت الحياة من فتوّتها شيئاً فأخذت من عنفوان شبابها أكثر مما أعطتها وسلبتها من نضارة اللون ما لم تسلبني إياه حتى بعد أن صار لي مثل عدد أولادها، بل على نفس الهيئة التي التهبتْ بها شهرتُها في جيرتنا أيام كان لها مع جهّار ما فَجّرَ مواقدَ اللون والضوء في عينيها وخدّيها وحتى في خطواتها التي تنكر حتى الأرضُ طيشَها، على هيئة الطيف انتصبتْ بباب غرفتي، منشقّةً شفتاها عن ابتسامتها، كما تنشقّ، من برد آذار، عن حمرة الدم حبّةُ البرتقال، ريّانةً تتدلّى من غصنها وتقول للناظر ها أنذا على الغصن فسّختُ لكَ نفسي، فهيّا تعال وخذني.

كاسرةَ العينِ والخطوةِ والنيّةِ كانت كلّ عمرها منذ أن انشقّت الأرض عنها، لأنها لم تولد في الأصل من رحم امرأة ولا رضعتْ حليبَ  ثدي امرأة ولا استأنستْ أذناها بحديث الإنس، انشقّت الأرض عنها فكانت كأنما لها بَعْثُها المقدّر لها في الغيب، وحيدةَ طيشها الذي ظلّت ترتجّ به جنباتُ الارض المنشقّة عنها وبها ولها حتى التقتْ جهّار ورسمت بعينيها حوله دائرةَ السحر، فكانت وحدها غريمتي فيه، فالتي أصبحت بعد ذلك امرأته هي الآن أمّ أولاده، وأمّ أولاده هي أمّ أولاده، أمّا هي فهي التي حينما حطّتْ عينيها عليه، وحوله رسمت دائرةَ السحر، سحبتْ من طريق بيتنا قدميه قبل أن يصير له امرأة وأولاد وبيت.

كاسرةَ العينِ والخطوةِ والنيّةِ ظلّتْ حتى كسرها رحيلُه إلى الضفّة الأخرى من النهر، كسرها كما لم يكسر امرأةً رجلٌ من قبل فشرّدها عن روحها، وشبابُها كأنما خلعتْه على ضفة النهر ونسيتْه هناك بعده، تَنْسُلُ في الريح خيطانُه وتتسلّل إلى تضاعيفه تكسّراتُ وغضونُ التيه والتَّوَهَانِ وشيءٌ لا تعرفه عنها سوى الأرض التي انشقت عنها وبها ولها لتكون وحيدةَ طيشها آنذاك، وبعد ذاك وحيدةَ خلوتها بالليل والريح وجلول البرتقال الممتدة من جيرتنا حتى ضفة النهر الذي عنده كأنما خلعتْ شبابَها ونسيتْه عشيّة رحل جهّار عنها وعنّا إلى الضفة الأخرى التي وُلِدَتْ لنا، على حين غفلة منّا، من مواجع الغيب، كما تولَدُ الصدفةُ من صدفة أغرب منها.

لو فهمت أمّي عليّ بالتي هي أحسن لما انسحبتْ من تحت قدميّ دربي إليه ولكنتُ طوّقتُ قدميه بحيلة جسدي وسحبتُ وقعَ خطاه من دربها هي إلى ساحة بيتي ولكنتُ بحيلة جسدي أسكرتُه فصحا من خمرها المصبوب له في كأسها ولتكسّرتْ في كفّها هي كأسُها هي ونَجَتْ إلى شفتيّ شفتاه، فكنتُ له الكأس والخمرة والبياض الحلال، لأنّ مثلي الحلالُ، لا ذلك البياض الكافر الذي تعرّيه له كتفاها، ولكنتُ بحيلة جسدي رسمتُ حوله دائرةَ حياتي معه، ولكنّ التي منحتْني الحياةَ ضيّعت أيامي وشهوري وسني عمري بتخويفي من الذهاب إليه لئلا يكسر لي عيني في لحظة ضعفي فتظل بعد ذا مكسورةً في عينه عيني، وفي عين أمي وعيون الناس حولنا، ضيّعت أيامي وشهوري وسني عمري، والبياضُ الكافرُ يسحب على دربها قدميه المذهولتين فترضعه الخمرة المحرّمة علينا وتصبّ له من العرق بياضاً يحبّه هو فَتُسْكِرَهُ وتسكر به ليظمأ بعدهما البياضُ الحلالُ وينحلّ سراباً في نقيع سرابه.

إذا انكسرتْ بالضعف عينُكِ الكاسرةُ بالعفّةِ، فلن يرفأ صدعَها بعد ذا دمعٌ ولا دمٌ ولا تكتّمُ عين، تقول لي، ثم تدفع بسجادة الصلاة إليّ وترقيني وتدعو لي بالصبر حتى لا تنكسر في لحظة الضعف والذلّ عيني.

سحبتْني من فرشتي قدماي المذهولتان فذهبتُ إليه بعد منتصف الليل ليكسر لي عيني فكسرها وطيّب خاطري.

بعدما وجوج الفجر في عينيّ وبعد ذا جهجه الصبح، تربّعْتُ على سجادة الصلاة وقلبي يحدثني أنّ خبر أمّ يحي لا بدّ طالعٌ علينا مع طلوع الشمس، تربّعتُ على سجادة الصلاة وشبكتُ ببعضها أصابعَ كفيّ وشيءٌ في أطراف جفوني آخذٌ في الخدر المتسلّل إلى عينيّ من خدر الطيوف، طيفه هو يتلوى في طيف أمّ ميلاد، وشفتاها تتلويان بضحكة الطيش والأرضُ التي انشقت عنها وبها ولها تتلوى تحتهما بتشقّقاتٍ لها حمرةُ البرتقال الماورديّ المشقّق على أمه من برد آذار.

ذهبتُ إليه بعد منتصف الليل ليكسر لي عيني فكسرها وطيّب خاطري.

 

 

المختار

 

الديك الذي صاح قبيل الفجر فردّ عليه من ناحية البستان الآخر كلبُ جيراننا بنبحتين لكلّ مَدَّةِ صوتٍ من حنجرة الديك، كأنما كان يستعجلني بالنهوض لصلاة الفجر، وكأنما كلب جيراننا كان يساعده في فكّ عقدة الليل وتسريحه من أسر الظلمة والصمت ومن أسر شيء مخبوء في الهواء تهابه الديوك والكلاب وتعافه عيناي كلما فتحتْهما يقظةٌ هي منّي حليفةُ الفجرِ والضوءِ منذ أن تفتّحَتْ في قلبي الأربعيني من ناحية البستان الآخر يقظةُ الصِّبا في الاثنتي عشرة ياسمينةً من صباها الأبيض الغضّ.

ماريّا، يا ماريّا، يا مسيحيةَ البياض، يا سابغتَه، اهجعي، فلعينيكِ النومُ بلسمٌ في الفجر وفي ذمّة الصبح والضحى، ومنّي لكِ مع كلّ صلاةِ فجرٍ نهنهةٌ من دعاء.

وكما تولَدُ اليقظةُ في الفجر وتولدين فجراً في يقظتي أنتِ، كذلك يولد الموت في العجائز ويختلط عليّ الضوء والحلكة ويتشابك الربيع والخريف، وإن كنّا لم نزل بعد في ذمّة الصيف المجرِّرِ أيامَه بخيطِ سحابه. اهجعي، فلكِ الفصول كلها ولكِ الغد الذي لن يكون لها هي وقد سحبها إلى ملكوته مَلَكُ الموت في الفجر بعدما كانت قد سحبتْها إلى حصيرة العجز أعوامُها التسعون، تلك المعمَّرة التي أخجلتْ بسابغ تواطئها مع الصبر الرجالَ الرجالَ فعمَّرتْ بشتاء صباها ويتم شبابها وأمومتها وكهولتها حياةَ يتيمين لها وثلاث يتيمات تركهما وهنّ لها والدُ يحي وجهّار، زوجُها الضاربُ مع جيش الأتراك في أرض الحرب التي لم تُرْجِعْ لها ولا لامرأة سواها زوجاً ولا ولدا.

اهجعي، يا مسيحيةَ البياض، يا سابغته، ولا تبالي بما يفعل الموت بالعجائز، فالصبح ها قد نوّرَ الأرضَ، وعمّا قليل تنصبُّ علينا وحولنا الشمسُ فتدبّ الحركة في كلّ ساكن حولنا، حتى في الذين اختارتهم الحياة اليوم لوداع الحياة.

في طمأنينة بياضكِ اهجعي، يا سابغة البياض، ظلّي اهجعي.

 

سميّة

لا أفهم كيف تحت ملاءتها السميكة تتنفّسُ أمي، ملاءتها التي بلون القاقِ، في هذا الحرّ المصبوب علينا من وهج الشمس التي فوقنا والحرّ الطالع نحونا من حرارة الزفت، ونحن لا نزال في أول النهار، كما لا أفهم تمسّكها بالملاءة السميكة ونحن نسير في طريقنا نحو الجسر إلى بيت جدتي لنودّعها الوداع الأخير والجسرُ عنّا بعيداً لا يزال، ومن أمامنا وخلفنا الطريق تكاد تخلو من المارة، فأهل البساتين في بساتينهم عن يميننا، وعن يسارنا السياراتُ الداخلة إلى "أوتيل طانيوس" سرعان ما تغيب في انحدار المسافة والتواءاتها التي تفصل الأوتيل عن شارع رياض الصلح وتخفي تحت الشجر الوارف ملامحَ الناس ومعالمَ أشيائهم.

ملاءتُها، أقول لها، كَفَنُها الأسود كلّما خرجتْ لأداء واجب ملحّ من واجبات الحياة، فتنهرني وتقول إنني ابنة الثامنة عشرة وإنني لم يمض أكثر من عام واحد على زواجي، وإني، بعد أن يتحنّن الله عليّ بإبن أو ببنت وأصبح أمّاً، سأرى الأمور بعينيها هي آنذاك وأترك جنون شبابي وطيشَه، فأضحك من كلامها وأقول لنفسي من الأفضل ألاّ أكشف لها عن كل أفكاري فأسوّد نهارها الذي لاشك تراه الآن مغبّشاً من تحت ملاءتها.

يكفيها الذي فيها، فعقلها شغل يديها، كما عقلي أنا، على حدّ قولها، شغل يديّ، وزوجُها لها فلتحمله على ظهرها هو وأفكاره وأوامره ونواهيه، فلقد زوّجني الله لرجل ليس من أهل البساتين وليست فيه عنطزيّتُهم وتحرّجُهم في أمور لباس النساء وأمور الانحباس بين الجدران، فزوجي العامل في بيع الأدوية والمطلوب دائماً في المستشفيات والبيوت لضرب الإبر التي يعصى ضربها على الأطباء والممرضات، خاصةً إبر الشرايين في الأذرع السمينة التي وحده يعرف كيف يتحسسها بأنامله لمعرفة مكان الشريان تحت الجلد فينكز الإبرة نكزة واحدة ويسحب الدم وكأنما بسحر ساحر، والمطلوب أيضاً في البيوت المسيحية كلما مات واحد منهم وأحبّوا أن يبيّتوا جثّته إلى اليوم التالي فيرسلوا إليه، باللباقة المسيحية التي تعوّد عليها، ليقوم لهم بهذه الخدمة التي لا يتقنها سواه فيذهب بأدوية التحنيط والإبر الخاصة بذلك، وما أن يحنّط الجثة ويطمئنهم إلى احتباس رائحتها في داخلها حتى يكون صغيرهم وكبيرهم قد أدّى إليه واجب الشكر وكأنه أدّى إليهم عملاً خيريّاً، فيعود إلى البيت بالظرف المختوم باللباقة المسيحية التي تعوّد عليها ويفضّه أمامي ويخرج منه ورقة واحدة يهزّ لها رأسه ثم تنظر إليّ عيناه، تقولان لي أرأيتِ كيف يقدّرون أتعاب الناس أكثر من أبناء ملّتنا ؟ زوجي المطلوب من كل الناس علّمته الحياة مع الناس أن يشجعني على تلقّي مكالماتهم الهاتفية في غيابه وتسجيل أسمائهم ليتّصل بهم عند عودته، فغيّر ذلك من حياتي التي كنت قد عشتها في الخوف والتخفّي في بيت أبي الذي، سامحه الله، تربّى في اليتم والفقر قبل أن تتفتح له أبواب الدنيا فورث عادات أهل البساتين وأفكارهم ونسي أن يرث سماحة جدتي، رعى الله ذكرى جدتي في يوم رحيلها، تلك التي في يتم وحدتها ربّتْه هو وعمّي يحي وعمّاتي الثلاث تربيةً لا يقوم بها إلا المرأة التي يسمّونها أخت الرجال.

 

يحيى

كلّ شقاءِ عمري وعمرها كادت تبخّره اللحظةُ الأخيرة بيننا، وأنا راكع على طرف فراشها أستجدي من غيب عينيها حتى ولو نظرة خاطفة توحي بها إليّ من غير كلام أنني لا أزال أسكن ذاكرتها وأنها لا تزال تميّزني من سواي، تميّزني عبر غمرات الموت وسكراته التي تأخذها عنّا سحبةً من الزمن ثم تعيدها إلينا حفنةً من تأوهاتٍ وحشرجةً من رفرفاتِ جفونٍ أشبه ما تكون بارتعاشات الخواطر في البال، راكعاً على حافة الرجاء ظللتُ منذ أنْ في الغرفة الأخرى حدّثني القلقُ في عيون أخواتي، ثلاثتهن، أن النهاية تقترب مع اقتراب الفجر، وأنها هي تقترب من حالة النزع الأخير الذي لا ينفكّ يأخذها ويردّها، فما إن يعيرنا إياها لحظةً حتى يستردّها منّا اللحظةَ التالية فيلبسنا الشك واليقين في آن معا، ويجرّعنا اليأس والرجاء من عين الكأس التي لم تنكسر بحدّ اليقين بعد، كأسِ انتظارنا لحظةَ النهاية التي ظلّت تنتظرها على قارعة الغيب من أول ما كان الغيب، فما ندري إذا كانت هي تسعى إلى اللحظة تلك أم أن اللحظة تلك كانت تسعى إليها أبدا.

على حافة فراشها انكسر الرجاءُ، كسرتْه على غير إرادة منها، لأن الصمت الذي غرقتْ فيه على غير إرادة منها وحده الكاسِرُ والجابِرُ في جثومه علينا وترحرحه عنّا، كسرتْ بغياب صوتها وعينيها خاطري، وأنا الجاثم على حافة الرجاء تنفتح أمام عينيّ بين جفونها المهدّلة وشفتيها المطبقتين، سحباتٌ من المدى الذي لم تطأه قدماي، المدى المطروح سحباتٍ من أرضٍ سرابُها يقينٌ من الكلمات العتيقات، المدى الذي كالنهر في الحلم، ضفّتُه تحت قدميكَ جفافٌ وضفّةٌ له أخرى مرميّةٌ في بلالة الأبد، انكسر على حافة فراشها خاطري، وخوافتُ أنّاتهنّ، الثلاثة، من فوق رأسي، تلح عليّ أن أغفر لها الشيء الذي قالتْه على غير إرادة منها، لأنّ سكرات الموت وحدها وغمراته هي التي تضع في فمها الكلماتِ همهماتٍ من اللهاث الذي انصدع به الفجرُ علينا حصاداً من النور الذي لن نرثه اليوم عنها إلاّ غبشاً غبشا.

حدسُ أخواتي حينما خيّم الليل، ليلة أمس، كان لهنّ أكثرَ من بغتة الحدس فتشبّثن، ثلاثتهن، بنيّة البقاء معها ونيّة إحياء الليل بالدعاء لها والابتهال إلى خالق الموت والحياة عسى أن يخفف عنها مؤونة النزع، أكثرَ من بغتة الحدس كان حدسُهنّ، فإشارة يدها لهنّ أن يطلبن من المتّشحين بالبياض على باب غرفتها الخروجَ إلى الغرفة الأخرى كان إيذاناَ بسقوط الحجاب الذي بين الحياة والموت وإيذاناً بدنوّ سقوطها في الرحيل، فعيونُ أخواتي التي غاب عنها رويةُ ما رأت عيناها هي على باب غرفتها امتلأتْ بغتةً بهول الفراغ الذي لها وحدها انتصب يقيناً بحضور رسل الغيب، بياضاً مغسولاً بالطمأنينة التي سرعان ما غسلتْ أرجاءَ الغرفة من حلكة الليل فإذا بصوتها هي يستفسر عن سبب إشعالهنّ النورَ لها على غير ما طلبٍ منها فينحسر إلى ما وراء الحجب النورُ المغسولُ بالطمأنينة وتنحسر معه أقدام أخواتي إلى الغرفة الأخرى غاسلاتٍ سوادَها بنشيج ويقين.

واليقينُ الذي علّمنيه جارنا إِسْحَيَّا قديماً يأتي اليوم إلينا بإسحيّا الذي توقفتْ به قدماه تحت شجرات الكينا، يستظل غصونَها وأوراقَها ريثما يرتاح من أنفاسه صدرُه المثقلُ بلهاث السنين، وريثما يخفّ النَّخْرُ في عظام قدميه وساقيه وما تبقّى فوقها من جلدٍ مجعّدٍ كتراب الأرض امتصّتْ نداوتَه وطراوتَه حرارةُ شمس الصيف. اليقين الذي علّمنيه إسحيّا يأتي إلينا اليوم بإسحيّا، فالكلمةُ التي كانت في البدء، كما يقول له عهده القديم، هي البدء والنهاية، وهي اليقين الممسكُ بطرفي الحياة والموت، اليقينُ اليقينُ الذي يعطي ثم يأخذ ثم يعطي ثم يأخذ، مذكّراً إيّانا، الكرّة بعد الكرّة، بأن كل ما نستلذّه أو نعانيه، كلَّ المسافات التي نمشيها أو نركضها، كلَّ الراحة التي نستريحها والأحلامَ التي نبنيها ونهدمها، كلّ ذا كلّه جزء من باطل الأباطيل، غلالةٌ من الظلّ الذي يلقيه علينا وحولنا اليقينُ ثم يسحبه عنّا عند منعطفات الغيب.

اليقينُ يحرّك الآن قدميه فتقرّبه نحونا خطواتُهُ البطيئاتُ وعكّازتُه المعروقةُ كما كان يقرّبه منّي ومن جهّار، إذ نحن لا نزال صبيين نلهو مع الشغيلة في البساتين زمن النكش وزمن السقي والريّ وزمن القطف، تقرّبه منّا سبّابتُهُ، تتمشّى بطيئةً على سطور الصفحات تحت الكلمات التي كان يقرؤها لنا ليعلّمنا قراءةَ الحرف إيفاءً لنذرٍ قديم نذره أن يقوم لنا مقام الأب إن لم يَعُدْ لنا أبي من حرب الأتراك، نذرٍ كان أشبه ما يكون بِدَيْنٍ قديم كان لأبي على عائلته فعشنا العمر كلّه نتساءل ونستفسر فلا نفهم منه ولا من أهل جيرتنا سِرَّ ذلك الديْن الذي أصبح نذراً وقَيَّدَ عينيَّ وعيني جهّار إلى حركات سبّابته تتمشى على سطور الصفحات تحت الكلمات المرسومة بالسواد في ترتيب عجيب.

تتوقف عن المسير عكّازتُهُ وقدماه فتنهض إليّ عيناه بشيءٍ أشبه ما يكون بابتسامةِ الأسى التي ظلّت تكسو وجهه منذ حملتْه وطأةُ العجز على حمل عكازته لأول مرة، أو بالأحرى حملتْه على الاستسلام للعكّازة، تعين على السير قدميه المنهكتين، ابتسامةِ الأسى التي لزمتْه كفيضٍ خفّيٍ انسرح من عينيه على سائر قسمات وجهه، تُحَدِّثُ عنه ما لا يقوله الفمُ وتتغلغل، كما تتغلغل الآن، في ضلوع الناظر إليه لتستقر في القلب عزاءً مطمئناً بأنّ اليقين الذي أعطى بمحبة يأخذ الآن بمحبة أيضاً. الفيضُ الخفيُّ المنسرحُ من عينيه على سائر قسمات وجهه يسحبني إليه خطوة خطوة فأطأطئ رأسي أمامه وأنحني قليلاً لتلتفّ حول عنقي يدُهُ، فتشدّني إليه هنيهة وتربّت على كتفي ثم تنخفض في الهواء، لتنفرج فجأةً شفتاه عن "أمّ يحيى" ثم تنطبقان على يقينٍ من الصمت، فكأنما الكلمتان اختصارٌ لعمر وحياة.

عمرُها كان سياجَ عمري وعمر جهّار وأعمار أخواتي الثلاث، سيّجتْه بسياج الورد الهاجمِ أبداً علينا بعبق الورد وشوكه، طالعاً فوق قاماتنا الصغيرة من قلب الأرض، ملتفّاً بعضه على بعضه، ضارباً بين بيتنا في البستان وبين الطريق حجاباً من الشوك والطرابين والعبق، وحياتُها كانت ترابَ البستان، تنكشه، في طفولتنا، وتزرعه وتسقيه وتحمي نباته من فضول النباتات الغريبات وتشذّب أغصان أشجاره وتجمع حطبه اليابس قوتاً لمواقد الشتاء وتحتشّ حشائشه للبقرة الحلوب وتنبش ديدانه لتطعمها دجاجاتها مع ما تيسّر لها من حبوب. حياتُها كانت ترابَ البستان، وكانت الموقدَ والفرنَ الطينيَّ المسقوفَ بألواحٍ من خشب الأشجار، وكانت مضخّةَ الماء فوق البئر، والبقرةَ الألوف، وعاصفة الدجاج والصيصان تلحق بها أينما اتجهت في أطراف البستان، وهي تنثر لهن الحَبَّ بيدٍ، واليدُ الأخرى رافعةٌ طرفَ فستانها لتجعل منه حُرْجاً منه ينتثر الخيرُ للعيون والأفواه الفاغرة، فلا يُسْكِتُ قأقآتهن إلاّ اليدُ النازلةُ في الحرج، الطالعةُ عليهن بحركة هلاليّةِ المدى، لا تخيفهنّ، كما تخيف الحركاتُ الطيرَ عادةً، لطول عهدهنّ بها، يدٌ هلاليّةُ البركةِ والوعدِ والإيفاء.

كلَّ ذا وكثيراً سواه كان عمرُها وحياتُها التي انطفأتْ على غبش الفجر، وأنا راكع على طرف فراشها أقول لها تَرَضَّيْ عليّ، أنا ابنك يحيى، يا أمّ يحيى، وآخذ بيديها، أقبلّهما وأغسل رائحتهما العتيقة بحرقة دمعتي، ترضّيْ عليّ، بحقّ المصطفى، تستجديها كلماتي، وآهاتُ أخواتي، كخوافت أنّاتهنّ، استجداءٌ وتزكيةٌ لكلماتي، تَرَضَّيْ عليّ ليرضى برضاكِ عليّ ربي، أشحذ استجدائي من غيب عينيها، فتختلج عيناها، أو كأنهما، وتنفرج شفتاها، عن حركات كأنها الهمهمات، ثم لا تلبث أن ترتفع إلى أذنيّ وآذان أخواتي الهمهماتُ، مغبّشةً بغبش الفجر، أنْ يرضى عليكَ اللهُ، يا جهّارُ، يرضى عليكَ من كلّ قلبي.


المختار

إهجعي،  فبعد صلاةِ الفجر نهنهتُ لساني لكِ بسابغٍ من دعاء.

ولقد ذهب الفجرُ والصبحُ وأثقلتْ أنفاسَ الهواء شمسُ قبيل الظهر، وأنا، ها أنا تحت شجرة الجمّيز أقاتل ما تبقّى من الوقت قبل موعد الجنازة فأتصوّر كيف حينما يحلّ الخريف سأقف ههنا أصفّ حبّاتِ البرتقال على البسطة، مُعَرِّباً المقطوفَ منها قطفاً من الساقط على التراب سقوطاً فترتفع في كلّ ناحية كومةٌ، لكلٍّ سعرُها وزبائنها وألتفتُ بين الحين والحين إلى الغرفة الخشبية المسقوفةِ بالزنك لأرى همّة الشغيلة وهم يعبّئون الصناديق ويرتّبون البرتقالات على وجوهها ثم يصفّونها جنباً إلى جنب لتكون جاهزة للنقل إلى حسبة المدينة.

أقاتل ما تبقّى من الوقت حالماً بالخريف والشتاء وبامتلاء البسطة بخيرات الأرض، ولا أدري لماذا أحسّ بأنه كان ينبغي عليّ أن أبقى إلى جانب جهّار بعدما عزّيته أول النهار حتى يحين موعد الجنازة فأنطلق معه من المطعم إلى بيت أمّ يحى بدل انتظاري ههنا تحت شجرة الجمّيز. ولكنْ أنّى لي أن ألازمه وقد عزّاه معي قريباه أبو سعد وعابدُ البرِّ وصديقه أبو الوليد فجلسنا خلسةً من الوقت ثم انسحبنا على أن نعود قرابة الظهر أو نلتقي به في منزل أمه؟ وجهه الزائغ لم يشجّع على البقاء منّا أحدا.

سأقوم بما ينبغي على المختار أن يقوم به في حدث الموت فأحضّر وثيقةَ الوفاة لشطب اسمها من سجلّ آل الجمري صبيحة الإثنين وأحصل له على نسخة جديدة لسجلّ العائلة. لن أنتظر حتى يطلب مني ذلك فالجيرة تقضي بأن أعفيه من الطلب والسؤال.

الشمسُ تقلّص دائرةَ ظلِّ الجمّيزةِ الممدود على الزفت فأسحب من جيبي الساعةَ لأتأكد من أن الوقت قد حان ثم أمدّ بعينيّ صوب المطعم لأرى جهّار ينزل درجات السلّم وإلى جانبيه عديّ وكسّاب، خطواتهم كلّها في اتجاهي. أبلع ريقي وآخذ، قبل وصولهم إليّ، في ترتيب كلمات المواساة المناسبة لجارٍ مثل جهّار تكره أذناه أن تسمعا أكثرَ مما ينبغي وتكره عيناه أن تَرَيَا في عينيْ أحدٍ لهفةَ الشفقة عليه، وقد خذلتْه الحياةُ اليوم بأعزّ مَنْ تَهَبُ لإبنٍ حياة.

 

سامح

من جانبٍ عديّ ومن جانبٍ كسّاب وبينهما أبي ينزل درجات السلّم، حتى إذا ما أخذوا طريق الزفت مدّ عديّ خطواته وشدّ برأسه وكتفيه إلى أعلى، وكسّابُ يشّد بقدميه وينحني قليلاً رأسُه وكتفاه ويظلّ خطوةً أو خطوتين وراءهما. وتلولح أيديهم في الهواء مثل أيدينا في المدرسة حينما نصطفّ في درس الرياضة وعلى صفّارة الأستاذ نسير فنلفّ الملعب المربّع مرتين حتى نحمى وتتليّن أرجلنا ونصبح جاهزين للركض. تلولح أيديهم في الهواء وهم يقتربون من ظلّ الجميزة الممدود على الزفت حيث المختار ببنطلونه الأسود وقميصه الرمادي يقف أمام بسطة الحامض والبرتقال، ولا حامض ولا برتقال عليها، وعيناه صوب أبي وأخويّ، حتى إذا ما دخل ثلاثتهم في ظلّ الجميزة أقبل المختار على أبي مادّاً إليه يده يصافحه ويشدّ على ذراعه باليد الأخرى. ثم تلولح أيدي الأربعة ويخرجون من ظلّ الجميزة، من جانبٍ عديّ ومن جانبٍ المختار، وبينهما أبي، وكسّابُ خطوةً أو خطوتين وراءهما، والكلُّ يبتعدون في الشمس إلى بيت جدتي.

تتمهل خلفهم سيارة التاكسي وتتوقف فينفتح الباب الذي إلى جهة البستان وينزل منه قدمانِ ويدانِ ورأسٌ وظَهْرٌ مكوَّرٌ، ثم يحصّل نفسه واقفاً ابنُ عمّتي إسماعيل ويمدّ بخطواته وراءهم ويداه مثل أيديهم تلولحان في الهواء.

أمي سبقتْهم في الصباح إلى بيت جدّتي بعدما وضعتْ على رأسها ملاءتها السوداء وزرّرَتْ فستانَها الأسود وانتعلت حذاءها الذي بمثل لونهما، فإذا هي غير أمي وقد ضاع منها البياض الذي به أعرفها. وإلى جانبها مشتْ سميّةُ، سوداءَ مثلها، حاملةً مثلها جزدانها الأسود، بعدما كانت أتت إلينا مع أول الشمس من بيت زوجها في البلد قرب مدرستي.

بعدما تسمّمتْ بصدأ المقلى عاشت عامين كاملين جدتي. وكنتُ أحمل إليها على دراجتي سطلَ اللبن الصغير طوال أيام الصيف. كل ذلك انتهى الآن فها هي اليوم تترك فراشها وحصيرتها وبابورها ومقلاها وركوة قهوتها وعلبة التُتُنِ، تتركها كلها في زاويتين من زوايا غرفتها ليظلّ البابُ يلعب في الريح بعدها ويصطفق بعرض الحائط ويظلّ يصطفق حتى تسكته يدُ بنتٍ من بنات عمّي. ولسوف يمرّ الصبح بعد الصبح وتمرّ ببابِ غرفتها الدجاجاتُ يقأقئن لها، للتي تفرش لهنّ الأرضَ بالحَبّ وينقرن بعيونهن الفراغَ الذي بعدها، ولا من مجيب.

لماذا؟ لماذا الآن يا جدتي؟

 

 

عُدَيّ

أكثرَ من حذائه مُلَمَّعٌ حذائي، ومُمَلَّسٌ أكثرَ من قميصه قميصي. وأنا، وإن كنتُ أصغره بسبع سنوات، فأنا الذي إليه يتوجه أبي كلّما طرأ طارئ واحتاج إلى مَنْ في مثل لمح البصر يلبّيه ويبيّض له وجهه مع الزبائن في المطعم ومع وجوه الناس في كلّ مكان. في موسم البلح، هدايا البلح أحملها أنا إلى نظمي وجوزيف، محامييه الحميمين. ولا أحمل أقراط البلح إلى مكتبيهما قرب السراي، بل إلى بيت كل منهما أذهب ما بين العصر والمغرب بعدما يكونان قد عادا وتغدّيا واستراحا. إلى بيت كل منهما أذهب، لا إلى مكتبيهما، فأبي يقول إن ذلك أَقْيَمُ لهما وأنّ ذلك يجعل من الهدية هدية عائلية، لا هدية شغل. وإلى بيوت وجوه السياسةِ يرسلني أنا كذلك، لا سواي، أكان ذلك في موسم الهدايا أو في موسم الانتخابات أو لطلب شيءٍ يخصّه هو ولا يريد أن يذهب هو بنفسه لطلبه. أحلّ محله أنا، وأُستقبل في كل البيوت استقبالهم له. ومن أجل ذلك كانت البذلةُ الكحليةُ وربطةُ العنق النبيذية والقمصانُ الناعمة المملّسة أكثر من قمصان كسّاب، اشتريتُها وسواها بطلبٍ منه لأكون جاهزاً للطوارئ، مستعداً لتمثيله في كل مواسم الرجال.

اليوم وغداً وبعد غد موسمٌ حافل من مواسم الرجال، ولذا سألتصق طيلة الأيام الثلاثة بأبي، كاشحاً كل أحد من العائلة أو الاقارب يحاول أن يجلس إلى يمينه، فأنا يمينه، ووحدي سأظل. حتى عمّي يحيى سأحتال عليه باللطف واللباقة حتى أُجْلِسَهُ إلى يساره دون أن يدري سرّ لطفي ولباقتي. وما أن أسرع بعلبة الكبريت أفتحها وأسحب منها عودَ ثقابٍ فأشعل له سيجارته ويأخذ منها النفس الأول حتى أكون قد صرفتُ عقله وقلبه بشهوة الدخان عن كلّ أمر آخر. سأثبّته في مكانه كل الوقت، ولثلاثة أيام، بشهوة الدخان وشهوة القهوة وأمدّ يدي، وأنا إلى يمين أبي، إلى أيدي المعزّين فأكون أول المصافحين، ويكون بعدي أبي، وبعد أبي عمي، وبعده من شاء، فبعد اليد الثالثة يصافحها المعزّون لا أهمية لأيِّ يدٍ تمتدّ لأنهم يكونون قد بدأوا يتفحصون المكان بعيونهم ليختاروا أمكنةَ جلوسهم. وأظلّ أنا في بالهم جميعاً بعد ذلك، لأنني الأوّلُ عند دخولهم وآخر من تقع عيونُهم عليه وهم يستأذنون بالذهاب.

خلفنا بخطوات سيظل يمشي، وسيظل حذائي ملمّعاً أكثر من حذائه وأكثر من قميصه مملّساً قميصي. سيظل هو هو وأظل أنا أنا ويظل أبي أبي. إلا أنني مثل أبي صرّيفٌ أنا ومثله جخّيخٌ أنا وكسّاب وحده الجَمّيع بيننا، فكأنه ليس من ظهرِ أبي، أو كأنّ ظهر أبي كان متعتعاً من السكر ليلة حملت بكسّاب أمي، فجاء كسّاب خوّيفاً من الصّرْفِ، همّتُه في غير ما نصرف فيه همّتنا.

لجمعِ المالِ كسّاب وللوجاهةِ أنا.

 

 

كسّاب

من سبعة أيام الأسبوع اختارت السبتَ لموتها عن قصد حتى يكون رحيلها إلى موتاها رحيلاً يهودياً فتلتقي، بعد انغلاق القبر عليها، بجدّ أبيها من جهة أمه، ذلك الذي يتهامسون أنه يهودياً كان ويهودياً عاش وعلى دين اليهودية مات. كأنما عن قصد اختارت يوم موتها السبت مراعاة لخاطر جدّ أبيها من جهة أمه، فماذا تُرى كان يفعل يهود إسرائيل في فلسطين لو سمعوا بهذ العجب؟ أكانوا يرسلون حاخاماً للتعزية أو لتلقينها شيئاً من الصلوات العبرية وهي على باب القبر؟ ربما، وربما كانوا تحنّنوا عليها، كما يتحنّن القشرُ على عوده، فأرسلوا حاخامة لغسل جثتها، حسب مراسمهم، وللفّها على طريقة اللفّ التي ورثوها من أيام موسى وداود وسليمان وأنبيائهم الأخر. ربما وربما.

السبتُ قاتلُ الأحدِ، والإثنينُ كمالةُ عددٍ، فاليوم نغلق المطعم لأن اليوم يوم الدفن، وغداً نغلقه لأن غداً هو ثاني يوم الدفن، ولسوف نغلقه بعد غد لنتمّ عدّة الحداد، أياماً ثلاثة نتقبّل فيها التعازي بجدتيأ

السبتُ قاتلُ الأحدِ. وإن يكن السبت والإثنين عندنا من هَمَلِ الأيام، فالأحد من غير طينة الأيام الستة، فوحده هو عطلة للمسيحيين والمسلمين على حد سواء لأنه يوم العطلة الرسمي للدولة ولأنه اليوم الذي تنتظره العائلات للإستراحة من البيوت، وينتظره بفارغ الصبر الأصحاب والعزّاب، فتزدحم طاولاتنا المحجوزة من قبل الظهر بالآكلين والشاربين، يطلبون المازات والأطايب والمشارب ويستمتعون بها، ثم يزدادون في الطلب وفي الاستمتاع، فتزدحم جيوبي الثلاثة، عن يمين وعن شمال ومن خلف، بالأوراق الملونة وبأحجامها المختلفة، فأرتّبها بحسب قيمتها وألفّ الصغيرةَ بالكبيرة، فورقةُ المئة تلفّ ورقةَ الخمسين، وهذه تلفّ ورقةَ الخمسة والعشرين، والخمسةُ والعشرون العشرةَ، والعشرةُ الخمسةَ، والخمسةُ الليرةَ، والليرةُ النصفَ، والنصفُ الربعَ، وهلم جرا.

يوم الأحد، يا جدتي، هو يوم العدّ، ولقد أسقطناه من أيام الأسبوع تكريماً لموتك الذي لم يُبْقِ لنا من لذّة الحساب إلاّ أن نعدّ المعزّين وهم ينضمون إلينا واحداً واحداً كل بضعة أمتار، ووقعَ خطى أحذيتهم السوداء على هذا الزفت الأسود.

 

سامح

أيديهم المُلَوْلِحَةُ في الهواء لم تعد تلولح ولا أيدي الناس الذين وراءهم، فهم كالمظاهرة البعيدة يكثرون وتصغر قاماتُهم كلّما ابتعدوا. ولقد مرّوا ببيت جِرْيِسْ في البستان الذي تحت مستوى الطريق، والذي بلحاتُه الطويلة أعلى من سطح البيت، ومرّوا ببيت أمّ حنّا – قبل انتقال العائلة إلى شرقيّ صيدا -- حنّا الذي كان يشتغل في المطعم عندنا وكان أبي يرسل معه إلى أمّ حنّا هدايا السمك لتحضّر له السمكةَ الحرّة لكأس العرق حين يزورها، حتى وقعت المشكلةُ التي تَرَّكَتْهُ الشغلَ عندنا فتوقفت هدايا السمك وصرتُ أنا أطبّ رأسي في الأرض كلما مررتُ ببيتهم على دراجتي حاملاً إلى جدتي سطلَ اللبن سنةَ تسمّمَتْ بصدأ المقلى.

سنةَ تسمّمَتْ بصدأ المقلى كانت المرة الأخيرة التي أرسلني فيها أبي لزيارتها في الصيف، فبقيتُ عندها أسبوعين كاملين، أنهض معها في الصباح عندما تنهض وأخرج معها إلى البستان، فتمشي وحولها الدجاجات تقأقئ وتنفش ريشها وترفع رؤوسها إليها تنتظر الحبّ من يديها ثم تنحني أعناقُها وتتزاحم مناقيرُها عند مسقط الحبّ في التراب، فتظل تنقر هناك حتى لا يبقى تحت أنظارها إلاّ التراب المنبوش بمناقيرها وبأظافرها المعكوفة، فتنهض من جديد أعناقُها في الهواء وتنتر يمنة ويسرة كأنها تطالب الهواء بحفنة أو يزيد، وجدتي ماضية في مشيتها الخفيفة وفي دورانها حول نفسها وصوتُها ينادي عليهنّ: كْري كْري كْري كْري، كما كان دأبها معهنّ وهي تنثر لهنّ من حُرْجِها الشعيرَ وأنواع الحبوب.

كْري كْري كْري كْري، يظل يطنّ صوتُها في أذنيّ وأنا أسير خلفها في جولتها في البستان حيث تنحني مقرفصةً هنا وهناك وقد لملمتْ عن التراب أطرافَ فستانها الطويل بيدٍ، وتروح تقطف باليد الأخرى عروق البقدونس والنعنع والكزبرة والفرفحينة وتضمّها في ضممٍ عجيبة التركيب، فترفعها واحدة واحدة إلى مستوى عينيها، تتأملها وهي تدير بها يدها يميناً وشمالاً لتتأكد من شيء لا أفهمه ولا أنا أسألها عنه حتى لا أقطع عليها استغراقها فيما هي فيه. الضممُ الخضراء تظل تشغلها، فحتى حينما تنهض لتتابع جولتها، تظل تدسّ أنفها في أوراقها وعروقها وتأخذ أنفاساً عميقة، وقد صغرت عيناها في وجهها وكادت جفونها تنضبّ على بعضها، تماماً كما تفعل بعد ذلك وهي تنحني فوق طرابين الورد على طول سياجها، تشمّ وتقطف وتظلّ تشمّ وتقطف حتى ينتهي بها السياج إلى مضخّة الماء المنصوبة فوق البئر، حيث شجرة الياسمين تنتظر كذلك دورها من الشمّ والقطف ومن شيء آخر كان لي أول مرة شاهدتُه أعجبَ العجب، فجدتي، على حبّها للورد وحشوِها صدرَها بطرابينه، كانت تخصّ الياسمين بمنخريها فتدسّ طرفَ حبّةٍ منه في الفتحة اليمنى أو الفتحة اليسرى وتتركها هناك وكأنها نبتتْ فجأة من وجهها هي.

كْري كْري كْري كْري، يطلع صوتُها من أذنيّ وأنا أرى الدجاجات يقتحمن عليها وعلى ابنة عمّي سرّيّة خلوتَهما للإستحمام وراء البيت خلف كومة الحطب وتحت سقف العريشة الممتدة فوقهما على ألواح من الخشب مثبّتة بسوانيد محفورٍ لها في التراب. صوت سرّيّة يحدّث الدجاجات بخفوت والدجاجات يسكتن لحظة عن قأقآتهن ويمعنّ النظر في المكان الذي أعرفه ولا أراه، وإذ هنّ لا يبرحن مكانهنّ، يأخذ صوتَ سرّيّة شيءٌ من الحدّة، ويخيّل إليَّ أنها تجهد ليبقى صوتها خلف كومة الحطب وعلى مرمى الدجاجات، فلا يسمعها من الناس قريب أو بعيد. تحويم الدجاجات حول كومة الحطب ومشاركتهن جدتي وابنة عمّي في خلوة الاستحمام لا تقطعها رشّةُ الماء التي ترشهنّ بها يدُ سرّيّة المخفيّة عن عينيّ فهنّ للحظة ينفرن في كل الاتجاهات، وقد اضطربت في الهواء أجنحتُهنّ، ثم يغرقن في هنيهةِ صمتٍ، وعيونُهن تترقّب في تَهَيُّوءٍ وحذر، ثم لا يلبثن أن يعدن إلى التحويم قريباً من كومة الحطب ومما يجري هنالك خفيةً عنّي، وعلى مرمى النظرة من عيونهن.

تأخذ عينيَّ شمسُ العصر حتى إذا ما انحدر القرص الأحمر إلى ما دون سقف العريشة شعشعتْ دائرةُ الوهج في الهواء ولمعتْ بالنور أوراقُ العريشة فاخضرارُها ليّنٌ بعد دكونة، زاهٍ بعد اغبرار. الوهج يلحّ عليّ فَيَلينُ في داخلي شيءٌ فيلحّ عليّ الترقّبُ والتساؤلُ والخوفُ من الذي خلف كومة الحطب يجري، ويجري مثله في خيالي، فأخطو خطوة صوب الشمس، فتشدّني إلى الفرجة التي منها انسربتْ لتضيء الخلوة المحميّة من جهتي بالحطب. خطوةً ثم خطوةً أخرى أخطوهما صوب الشمس وألتفّ مع النور الذي يلتفّ حول صناديق فارغة للبرتقال والحامض كُدِسّتْ فوق بعضها إلى الغرب من الفسحة التي فوقها تتدلى أوراقُ العريشة العسلية العناقيد. النار لا تزال ألسنتُها ترتفع بين حَجَرَيْ موقد جدّتي وتُطاول سوادَ الدِّسْتِ القاعد على الحجرين هناك منذ عرفتُ مكانه لأول مرة، وحيث لطالما حمّمَتْني جدتي في عُطَلِ الصيف، في خلوة الموقد والدست، وأنا جالس على الطبلية الخشبية، أنحني إلى الأمام حيث لا تقع عيني على عينها، ويدُها لا تَني تفرك الصابونة المطيّبة بالليفة حتى تغطّيها الرغوةُ فتفرك بها كتفيّ وخاصرتيّ وتظل تنزل بها على طول ظهري حتى ألفّ بيدي إلى الوراء وأسحبها من يدها، فتضحك من حركتي وتقول بأنها جدتي وبأنه لا حاجة بي إلى الخجل منها وهي تحمّمني. حجّتُها أنها حمّمتْ، قبل أن آتي أنا إلى الدنيا، أبي وأمي وعمّاتي وبنات عمّي، وأنها لا تزال تحمّم الصغارَ والصغيرات، كما هي الآن تحمّم سرّيّة الجالسة على الطبلية نفسها، ورأسُها، على عكس رأسي، ناهض في الهواء لا ينحني حتى حينما تصبّ جدتي على شعرها الماءَ من الطّاسة النحاسية التي تلمع بالشمس كلما حرّكَتْها، فيلمع فوق سرّيّة الهواءُ ويلمع بالماء وجهُها وعنقُها وكتفاها وانسيابُ البياض الذي عليه يتمرّغ النورُ والماءُ. وإذ تستدير استدارةً ليّنةً بعينيها وببياضها نحوي، تنفرج بالنور شفتاها وترتفع ببطء يداها وذراعاها، وتبدو وكأنها ستسوّي شعرَها، ولا تسوّيه، وإذ بعينيّ تفيقان من حلم الشمس على بياضٍ يشبه العنقود، يهمّ، كباقي العناقيد العسلية التي فوقه، أن يسقط في النور فيثبّته النورُ في مكانه في لحظة سحر.

ولسوف يحمّمنها اليوم في غيابي، وكأنما ردّةً لجميلها عليهنّ فتودّع بحمّامها الصابونةَ المطيّبةَ والليفةَ والطاسةَ النحاسية والدستَ والموقدَ وكومةَ الحطب، ولسوف تقأقئ في ساحة البيت وحوله دجاجاتُها، تبحث عن يديها في الهواء، والهواء يتمرّغ فيه النورُ بعدها في النهار وتنحشر به بعدها العتمةُ في الليل، ولسوف تنساها غرفتُها وتنسى حصيرتُها وفرشتُها الليلةَ التي نمتُ فيها معها ونامت بيننا سرّيّة، كالسرّ نتقاسمه في العتمة، فهما تتحادثان في خفوتٍ عن عمّي وعن زوجته التي تَبَلْبَلَ رأسُها من سنين فأسكنوها غرفة بعيدة في البستان فلا يدخل عليها كل يومٍ إلاّ بناتها، يأخذن لها الماء والطعام ويغيّرن لها ملابسها ويقفلن عليها الباب من جديد، تتحادثان في خفوت وأسى وكأنّ هذا الحديث لا يجوز تبادله إلاّ في عتمة الليل وبين جدران غرفتها، تتحادثان هنيهة تتنهّد بعدها جدتي، ونحسّ بأنها تدير لنا ظهرها فما هي إلاّ هنيهة أخرى حتى تملأ الغرفةَ أنفاسُ النوم، فتلتفّ على جنبِها سرّيّة وأحسّ بعينيها تنظران إليّ ولا أراها، وأحسّ بأنفاسها تخالط أنفاسي، ولا أنتبه إلا وكأنما انزحل عنها الغطاءُ الرقيقُ وتنفّس بياضُها بالصابونة المطيّبة فأحبس أنفاسي لأحبس في صدري الطّيبَ والترقّبَ والخوفَ وشيئاً كالبرد أخذني على حين غفلة وظلّ يراودني من حيث لا أدري ويقلّبني بين الخوف منه والخوف عليه أن يتركني فلا أجده بعد تلك الليلة أبداً.

 

إسماعيل

بخيطٍ لا مَرْئيّ من خيوط الغيب مشبوكٌ يومُ موتها هذا بيوم القيامة الذي لا يوم كمثله سواه. ومن يدري فلعل القيامة كالبحر الذي تنتهي إليه الأنهار والجداول والسواقي فتتّحد به سلاماً في سلام. ولعل يوم الموت هذا، وكلَّ يومِ موتٍ مثله، مصبوب في اليوم الذي ليس كمثله سواه. والأيام والأنهار والجداول والسواقي تسير، ونحن نسير، والموعدُ اللهُ. وذلك القبر المحفور لها الآن في الجبّانة مثلُ العين الكاسرة تبحلق في الغيب ثم لا تلبث أن تنكسر على الجثمان جفونُها، هنيهاتٍ بعد صلاة الظهر، هنيهات.

وجدّي الذي لم أعرفه في حياته أنا، ولم تستأنسي بقربه منكِ أنتِ طويلاً لأنه ذهب مع الأتراكِ إلى الحرب الأولى، وظلّ ذاهباً، هو الآن بانتظارك يا جدتي، فسلّمي لي عليه لحظةَ تَلْقينـَهُ واذكري له أسماءَ أحفاده وحفيداته الذين واللاتي لم ينتظر ليفرح بهم وبهنّ في الحياة الدنيا فرحل إلى أرض الإنتظار التي سنوافيه إليها، ونظلّ نوافيه، حفيداً حفيداً وحفيدة حفيدة، حتى تُطوى الأرضُ طيّ السجل للكتب.

والموكبُ لا يفتأ يتّسع من حولنا ويتمدّد بانضمام الناس إلينا منسربين من عطفاتِ طرقِ البساتين الخفيّة التي لا ندري أنها هناك حتى يطلّ علينا منها رجلٌ أو رجلان. وهو ذا خالي جهّار في وسط الجمع يمشي منكسرَ الخاطر، وإن يكن رأسُه ناهضاً فوق رؤوس الناس وكتفاه ممشوقتين فوق أكتافهم. منكسرَ الخاطر يمشي رغم العنفوان الذي أعرفه فيه، لأنها الغاليةُ عنده، كما تؤكد لي أمي، ولأنّ ابناً لم يبرّ بأمه كما بَرَّ بها هو، وكما برّ من أجلها بأخواته كلهنّ.

للموت غمراتٌ ثم ينجلين، فلكَ الله من بعدها يا خال، ولكَ من رضاها عليكَ نافذةٌ على رحمة الله، تتطهّر بها من إثم الخمرة وإثم سواها كلّما أخـــَذَتْـكَ العـزّةُ بالإثم.

 


صفيّة

في ثنيّاتِ مناشفها تيبّس الوردُ، طرابينَه يبّستْها يداها هي، موسماً بعد موسم، كعهدنا بها منذ فُــتــــــِّحَـتْ عليها عيونُنا، أنا وأختاي، فُــتــــــِّحَـتْ عليها عيونُنا لنمضي خلفها كلما مضتْ إلى البستان فندور حولها وندور كصيصانها وهنّ يرصدن حركاتها فلعل يدها الممتدة إلى رؤوس شتلات الورد الملتفــّــة بعضها ببعض فوق السياج ترم إليهنّ بشيء من الحَبّ، ندور حولها ونتشبّث بفستانها وننطّ عن الأرض فتعلو أطرافُ فساتيننا علوَّ نطّاتنا فتنهرنا بطرابين وردها، تحمّلنا بعضَها لنتلهّى عنها بما في أيدينا، ثم تعود سيرتها الأولى إلى الشتلات، تمسك بعنق الوردة بين طرفيْ إصبعيها  وتشدّه إليها شيئاً فتنحني الساقُ وتنحني وريقاتُها الخضرُ وينحني معها الشوكُ المتحفّز بين الوريقات، حتى إذا ما تطامنتْ إليها بُغْيَتُها قرصتْ قرصتـــــَها السحرية فانفصل الأحمرُ القاني عن الأخضر الذي ارتدّ واهتزّ ثم انتصب في الهواء انتصابته الأولى، في ثنيّات مناشفها تيبّس الورد الذي في الثنيّات خبّأتْه على عمد، كما كانت تخبّئه في كل أثوابها، حتى إذا ما نُشِرَتْ يوم موتها، كما ننشرها الآن بين أيدينا، لان بالعبق المخبوء جوُّ غرفتها، ولان الهواءُ، ولانَتْ في عيوننا الدمعاتُ المستـــَذْرَفات بالعبق.

تمدّ بآهاتها محاسنُ أختي، وتشدّ على صفحتيْ خدّيها بباطن كفيّها، وتقول بصوتها المسحوب مع رأسها يميناً وشمالاً أشياءَ أفهم منها أنْ ها هي ذي فوحةُ العبق الأحمر الذي أمُّنا خَزَّنَتْهُ في بياض مناشف الموت تتفجر الآن في زحمة الموت حولنا طرابينَ مسحوبةَ اللونِ من شتلاتِ سياجها المُزَّيَّنِ به طريقُ العابرين بنا وإلينا من أهل جيرتنا، أشياءَ أفهم منها أنْ ها هي ذي فوحةُ السرّ الذي خبّأتْه لنا في ثنيّات مناشفها ليذاع علينا، ونحن نهيّئها للرحيل، يُذاع كذكرى يُستدرجُ الحزنُ بها بعيداً عن الموت إلى زمن الفرحة الأولى، فَيُطَفَّفُ بالورد حزنُنا عليها، وقد رحّلَتْنا عن أوان رحيلها فوحةً من الزمن سيّجتـــــْها برأفةِ الأم التي أبتْ إلاّ أن يظل الورد المخبوء في الثنيّات لنا سياجاً بعدها دونه الحزنُ والرحيل، مثلما كان العمر كله، عمرها، لنا ولسياجها سياجاً سَيَّاجاً.

تمدّ بآهاتها محاسنُ أختي فتنشج خلفها هديّةُ ذلك النشيج المتمرِّغ في مناشف أمنا، فهو والعبقُ كاختناقة الشيء بالشيء، اختناقةٍ أمدّ بيدي أنا فأنتزعها من فم أختي وحنجرتها وأدفع بالمناشف إلى ابنة أخي يحيى وأوميء إليها أن تتركها على الكرسي في الغرفة الأخرى حيث سنسخّن الماء حين يئين الأوان لتحميم أمي وتكفينها بكفن الرحيل. وما إن تندفع ابنة أخي صوب الباب حتى تنتصب في عينيّ قامةُ أمّ شريف فتتدافع الأعينُ كلها نحوها لتتقلّب فجأة، وكأنما في خلسة السر، بينها وبين أم ميلاد التي اتخذتْ لها مجلساً إلى يسار فراش أمي فعيناها تلتقطان الداخلات علينا وجهاً لوجه، ووجهاً لوجه هي ذي مع أم ميلاد في انشداه اللقاء الذي تَنْشَدِهُ به عيونُ الجالسات من أهل جيرتنا. لحظاتٌ مشدودة في الهواء لقاءُ عيونهما ولحظاتٌ مثلها أحاديثُ العيون الأخرى، وللوهلة الأولى يخيّل إليّ أن المسجّاة في فراشها تتحرك شفتاها بشيء وتطرف بشيء جفونُها، أحس بذلك ولا أراه، فأنتزع عينيَّ من مشهدهنّ وألتفت إلى الوراء فأحدّق في الوجه المسجّى هنيهةً أحمد الله بعدها أنّ أمي لا ترى المرأتين اللتين تجرّأتا على الحضور بحجّة وداعها، وأمرُهما الأمرُ الذي لا تجرؤ على البوح به إلاّ العيون الحائرة بين عيونهما.

أخذني من الحزن عليها ومن فوحة الورد في مناشفها الهمساتُ والنظراتُ وهزّاتُ الرؤوس التي ما إن تُطْرِقُ لحظةً حتى تنتابها الحركةُ من جديد، أخذني كل ذا عنها غفلةً من الزمن أعود إليها بعدها وإلى نفسي وأدرك بغتة أن أمي ما كانت لترضى مني ومن أختيَّ ومن بنات يحيى بأقل من التحلي بالصبر واللباقة نتلقّى به مَنْ نحبّ ومن نكره من أهل جيرتنا، فللجيرة عندها رَحــِمٌ لا يُستحبّ قطعُها، زائراً أو مزوراً كنتَ في مواسم الحزن والفرح التي يتدارك بعضُها بعضاً على مدار العمر، وها هي عيناها المغلقتان، وها هو فمها المطبق بالمنديل المشدود بين رأسها وذقنها، وها هي كل تجعدات وجهها تشي إليّ برضاها عني وعنهن لتمالكنا أنفسنا واستقبالنا اللتيْن كان الطردُ لهما نيّتنا ونيّة أهل الجيرة الجامعة. وحتى قارئة القرآن فوق رأس أمي هي الأخرى تشي إليّ عيناها بالرضى الذي تحسّه في الهدوء المهيمن على قسمات الوجه المسجى. فوحةُ الورد في حياتك والموتِ هي الرحمُ التي نعاهدكِ يا أمي أن لا نقطعها بيننا وبين الناس أبدا.

بعد "سورة ياسين" تلتفّ الأصوات حول قارئة القرآن تستلهم من حلاوة صوتها إلحاحاً عليها أن تتلو من "سورة النساء" آيات يحببنها، ويعلو على الأصوات إلحافُ إحداهن أن تبدأ بالآية المئة والخمسين فتنقلب الصفحاتُ تترى بين أصابع القارئة، وتتقلّب عيونُ النساء بين النساء كأنهنّ أجمعنَ أمرهنّ على شيء فما هي إلاّ إيماءةٌ بالرأس من هنا تستجيب لها إيماءة بالرأس من هناك حتى ينساب الصوت بالآيات ترتيلاً. آية ثم آية ثم آية ثم آية ثم "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّهَ لهم"، فتنخفض عينا أمّ ميلاد إلى أرض الغرفة وتنخفض معهما عيونُ المعزّيات المسيحيات، فعيونٌ تتحاشى عيوناً وقد سرتْ بينها حشرجاتٌ من الحرج عبق بها لتوه جوّ الغرفة. عيون الأخريات من أهل جيرتنا ومن أقاربنا فوّاحةٌ بشيءٍ أشبه ما يكون برائحة الزجر التي سرعان ما ينشرها صوتُ القارئة ترتل "ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم، إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا" ويهيمن الصوتُ على ما سواه من حركات وإيماءات وعلى ما تنثني عليه من النوايا صدورُ الغافلاتِ عن المسجاة في فراشها، تلك المأخوذة، حتى في غفلة الموت، بما تلهو به عن غفلة الموت نسوةُ الجيرة الواحدة.

تكسر أمّ ميلاد بعينيها وبصوتها شيئاً من بلبلة الصمت الذي جثم علينا لحظةَ ختمتْ القارئة "سورة النساء" بصدق الله العظيم وارتفعت يدها إلى واحدة من بنات أخي يحيى لتسعفها بشربة ماء، تكسر الصمتَ بلفتة منها إلى امرأة أخي جهّار، إلى سميحة بالذات دون سواها من النساء، وكأنما عن نيّةٍ بيّتتها لها فتقابل التفاتَتَها من عينيْ سميحة نظرةٌ هادئة مَتْلُوَّةٌ بهزّةِ رأسٍ موزونة بالطمأنينة التي نعهدها بسميحة كلما دهمتنا مخبّآتُ الغيب، نظرةٌ مجلوّة بالطمأنينة فلا يكسر صفاءَها خدشةُ نظرةٍ ولا خدشةُ صوت. بعينيها تكسر أمّ ميلاد شيئاً من بلبلة الصمت ويصحو صوتها، وكأنما من رقدة الانتظار الطويل، ليكسر، لا بنبرة الكبرياء الكاسرة، بل بترقرقٍ لبقايا من عنفوان صباها الذي خلعتــــْه مع أخي جهّار على ضفة النهر أيام صباها، ليكسر هالةَ الطمأنينة، لا الطمأنينة عينها، في نظرات سميحة، فيختلج الهواء بين عيون النساء بأطرافٍ وطُرَفٍ من أحاديث العمر الذي توزّعتْه جلولُ البساتين وغرفُ التبن والعلف وضفةُ نهرٍ عابراتٍ أمواجُه بالزمان.

يترقرق صوتها بالاستئذان من سميحة، لا منـــّا نحن بنات الراحلة، أن تكون شريكتهنّ في تحميم أمي وتكفينها حين يئين أوان تهيئتها للرحيل، فلأمي على الجيرة حقُّ توديع الجيرة لها، وقد عَمَرَت منْ خلف سياجها قاصيَ البيوت ودانيها بفوحة الورد الشاردة إلى الشبابيك وبطرابين الورد ساعيةً إلى الأبواب ملء مناديلها البيض، سوانحَ من نواياها التي بها رَعَتْ أقدار جاراتها وبها أخمدتْ ألسنةَ السوء دونهنّ، فكانت، وهي خلف سياجها، على كلّ شباكٍ وبابٍ وفي كلّ محنةِ امرأةٍ وكلّ سعادةِ أخرى، فوحةَ الرفق والحبّ وأشياء لا تحملها إلاّ نسمات عبرت، فوق سياج الورد، جلولَ البرتقال.

بلبلة الأصوات التي استعرتْ باستئذان أمّ ميلاد امرأةَ أخي جهّار ما استأذنتْها توقظ فيَّ وفي أختيَّ بلبلةً من الحيرة التي تذكيها في قلوبنا نظراتُ النسوة المشرئبات وصوتُ القارئة يباغتنا أنّ غسل الميّت شأن من شؤون المسلمين لا تشارك فيه ولا تتطفل عليه مَنْ كُتِبَ عليها ألاّ تغسل موتاها. تجمح البلبلةُ بالعيون والأفواه وتختلط النظرات بالنظرات والنوايا بالنوايا، والمسجاةُ في فراشها، كما سميحةُ على كرسيها، تلزم صمتها المسجّى، فما ننتبه إلاّ وبالباب قامةُ أمّ إسحاق، زوجة عازر الديّار، فتهمّ إليها العيون كلها، وكأنما لإمتلاء وقفتها ولفراهة حضورها هيمنةُ السحرِ على أهل جيرتنا الجامحة.

 

 

أمّ شــريــــف

مرّةً واحدةً طَيَّبَ لي خاطري جهّار ثم تركني مرميّةً على قارعة الغيب، مُشـْـــــرَعَةَ الغربةِ، تجافيني حتى ثيابي، وقد جرّدتْها من نعمة سترها لي عينا أمي اللتان اختلجتا بوسوسة السرّ الذي حفره فيَّ جهّار، فحفرتا في عينيّ وفي صدري وتحت قدميّ وحولي، في تداعي الليل والنهار، فراغاً  كفاجعة الشيء بضدّه، فأنا أشبه ما أكون بكاسيةٍ عارية.

وجهّار لا سلطان عليه إلاّ لجهّار، فلا الدمُ الذي حفر فيَّ السرَّ لَوَى إرادته إلى ما تعارفتْ عليه جيرتُنا وكان وَرِثَهُ عن أجدادنا آباؤنا كما كان لأجداد أجدادنا النفحةَ المقدّسةَ التي تنفخ في الفراغِ المحفورِ بحماقاتِ الدّم فإذا الفراغُ امتلاءٌ وإذا الدنسُ المحرّمُ من سلالة الطّهر فينا، لا الدمُ الذي حفر فيّ الفراغَ لوى إرادته إليّ، ولا أعرافُ أجدادنا، ولا البياضُ الذي أردتُه له حلالاً لوى إلى ساحة بيتنا قدميه، فبياضُها هي البياضُ الكافرُ، سحبه منـــّي، فظلَّتْ، سحابةَ عمري وعمرها، غريمتي فيه، كما هي غريمتي فيه الآن لا تزال في جلستِها عند رأس أمّ يحيى، حيث لم يُجْلِسْها هناك حبُّها للراحلة ولكنْ ذلك الشيء الذي سحبني من نفسي مع الفجر، وربما سحبها هي، فأتى بنا معاً لنشهد ههنا في حجرة الموت ولادةَ لقائنا الأوّل به منذ أن غيّبته الضفّةُ الأخرى من النهر عنــــّا جميعاً، وقد كانت الضفّةُ الأولى، قبل ذا، سياجَنا دون رحيله الذي وُلِدَ معه كما يولَدُ مع كل نهرٍ رحيلُه.

خالتي كانت السياج لسرّي فبين أمي وبينها العهدُ قديمٌ على معالجة الهمس بالكتمان، فما إن تدراكتْني همّتُها وانتشلتني من وهدة حيرتي حتى استقرّتِ الأرضُ من تحت قدميّ وصار الزلزالُ حكايةً زجرتْها رياحُ الليل ونشرتها طيوفاً مُنَتَّـــّفَةً على مدارج أفق تائه لا تتبيّنه عيونُنا ولا عيونُ سوانا بعدما تحالفتْ حدقاتُنا السِّتُّ وحالفها مكرُ الليلِ والنهارِ، حالفها على غير بيّنةٍ ولا عهدٍ لنا صريحٍ من الغيب. ووفت بوعدها خالتي، فما إن عادت إلينا بزجرةِ النفي من جهّار حتى اضطربتْ قدماها في طرق الجيرة، تنسج من وقع خطواتها الطريقَ إلى مستقبلي حيث سنئد السرَّ بلونِ الدمِ الذي حفر فيَّ السرَّ من قبل، طريقاً محفوفةً بهواجس الستر، فهي الترابُ والنيّةُ في آن معاً، وهي السياج الذي سيّجتني به خطواتُها، دؤوبةً بين بيتنا وبيت أمّ عدنان التي، كما همستْ بي وبأمي خالتي، على قد نيّاتها، والتي سَتُزَيَّنُ لها نيّتُنا بالمصاهرة بشيءٍ من الصبر وشيءٍ أشبه ما يكون بالوعد أنّ حال عدنان سيكون أوضأ في عين الجيرة متى صاهر الذين هم مَنْ هم في نظر القاصي والداني. وفت بوعدها خالتي فلم يقرّ لها قرار في مجلس أو على طرّاحة حتى تمّت خطبتـــــُه لي وحتى سرّعتْ هي في إنتقالي إلى غرفته الجديدة التي أُلحقتْ ببيت أمه، وكانت ساهمت بثمن بنائها وتأثيثها، سرّاً، خالتي وأمي.

ووأدْنا السرَّ بعد منتصف الليل، وأده مكرُ الليلِ والنهارِ الذي علّم الحيلةَ وأكسب الدربةَ، فلسانُ أمي همهم مرّةً، على غير عادة أمي، بسرٍّ لخالتي هو توأمُ سرّي، وأدتاه ليلةَ زفافها بدم الدجاجة التي ذبحتْها أمي في الليل على نيّة حشوها وطبخها وأخذها للعروسين صبيحة الغد، فأشبعتْ خرقةً لها بيضاء بحمرة دم الدجاجة ومرَّرَتْها، بعدما احتالت على عريسها خالتي فأسكرته بزجاجة عرق استعارتها لها أمي من أمّ جِرْيِسْ لهذا الغرض، مرّرتْها من الفتحة بين درفتيْ الشبّاك المطلّ على البستان، فما طلع الصباح حتى شعشعتْ عينا أمّ عدنان وعينا عدنان بخرقة اليقين تلوّح لهما بها يدُ أمي، التي كانت آنذاك لا تزال جسورة الحركة والإيحاء.

الدجاجةُ التي ذبحتها أمي لخالتي ظلّتْ على خالتي ديناً حتى وفّته لها ليلة ذبحتْ على نيّتي الدجاجةَ التي بحمرةِ دمِها وُئِدَ السرُّ الذي حفره فيّ جهّار. وما كان أغربَ من مكرِ الليلِ والنهار إلاّ صفيّةُ تطرق بابنا صبيحة اليوم عينه بطرابين الورد من سياج أمّ يحيى، ملء منديلها الأبيض، مشعشعةً على وجه سَلَّتُها الملأى بأرغفةٍ خَبَزتْها لنا على وجه الفجر وبفطائر الفرفحينة الهنيّة، فإذا سلّتها الفوحُ والبوحُ وشيءٌ آخر سرى في جوّ الغرفة وسرى في كياني ونام هناك ليستيقظ اليوم على نبأ رحيلها، وليوقظ فيَّ السرَّ الذي كنتُ أظنّ أننا وأدناه قديماً بعد منتصف الليل، فما وأدناه إلاّ ليحيا الآن بإنتظارنا دخولَه علينا، وقد جمعتْنا، أنا وغريمتي فيه، جسارةُ يأسنا من لقائه حقباً.


عازر الديـّــار

لم يخيّب ظنّي به إذن جهّار، فها تلكما قدماه تدقّان على الإسفلت دقاتهما الممشوقة التي لا تدقّها إلاّ قدماه، وها تلكما كتفاه لم يَحْنِ منهما شيئاً ما عهدتُ فيه من حبّ لها وما أحسبه اليوم من حزن له عليها وقد خلص من قنديلها الزيتُ فانطفأ على وجه الفجر كما سينطفيء بعده موقدُها الذي رَبَّتْ على نار جمراته يتاماها فَكَفَتْ نفسها وهما وهنّ صقيعَ العوز والمسألة وظِلَّ الجوع الذي كَفَّرَ الجنَّ والإنس في زمن الحرب وركَّع مَنْ لم يعرف إلاّ لخالقه ركوعاً، لم يخيّب ظنّي به إذن جهّار، فما أعزّها قامةً قامتُه المرفوعة تلك بين قامات الرجال المطأطأةِ حوله، يسير على هامة الحزن وكأنما خُلِقَ ليلتفّ حوله الرجال.

أوّل معرفتي به التي فتحتْ عيني عليه وفتحتْ عينه عليَّ فقربَّتْ أحدنا من الآخر دون أن تكون لأحدنا نيّة التقارب ذلك اليوم كان يوم علا صراخُها من خلف شجرات السرو العتيقات التي كانت لأرضنا سياجاً دون البستان الذي سكنوه من أول ما سكنوه، علا صراخُها من قلب البستان، يستفزّني من طراوة الجوِّ في معمل الثلج إلى الرطوبة المثقلة بملوحة أبخرة مياه البحر، فانتفضتُ من مجلسي وصرخت بفرنسيس أن يلحق بي، فترك قالبَ الثلج الذي كان قد أفرغه لتوّه من قالبه الحديدي وصرخ بابنه طنّوس أن يحلّ محله فيسحب قوالب الثلج الحديدية من بركة الماء ويفرغها من قوالب الثلج، فيمدّدها على فسحة الباطون المسلّح عند بوابة المعمل، حيث الدراجات الهوائية والدراجات النارية وسيارات الأجرة تنتظر دورها لتنقلها جميعها إلى محالّ المدينة وبيوتها. وكانت الدنيا وقت العصر ولم يكن قد تنامى إليَّ صوتُ أمّ يحيى من قبل بتلك النبرة التي نبّهتْ فيَّ إحساساً بأنّ فاجعة ما ستحلّ بها إذا لم أتداركها على الفور. تدارك استغاثةَ صوتها صوتٌ مُلَبٍّ من حنجرتي وصدري فاجأتني منه نبرةٌ جشّة لم أكن أعهدها فيه من قبل فكنتُ كأنني بغتةً وُلِدَ فيَّ شيء كالشراسة أخافني أوّل الأمر ثم ما لبث أن اطمأنّ وكَمَنَ في مسارب روحي ليضطرب بعد ذلك ويلبّي كلما هرع إليّ من نفسي أو من الدنيا صوتُ استغاثة يستفزّني من طمأنينتي، كما استفزّني عصر ذلك اليوم صوتُها الطالع عليَّ من خلف شجرات السرو العتقيات.

خلفها في البستان، تحت شجرات البرتقال العارية الأغصان، كانت أيديهما تتشابك ثم عن بعضها تنفضّ، وكانت سواعدهما تلتفّ على جسديهما ثم تنتفض حواليهما وفوق رأسيهما في حركات طائشة جشعة غاب عنها العقل والعين والقلب جميعاً، فجنونٌ أعمى في جنون عراكُهما، تزداد صلابته كلما اشتدّ ثباتُ أرجلهما في الأرض وكأنما تنغرز في ترابها ما أمكن لها الإنغراز ثم تهتزّ في الهواء لترتطم إحداها بالأخرى، عمىً في عمىً، وصراخُها الملهوف استلهامٌ لشبابي وفتوّتي أن أرمي بنفسي بينهما وأفصل بين نَفَسَيْن من أنفاس روحها التي ثكلت في الحرب أباهما وكان ذلك حسبها من مرارة الثكل وكفى. أنفاسهما المنهكة شجّعتني وشجّعت فرنسيس معي فاندفعنا نطارد في الهواء أيديهما الطائشة حتى استمكنـــّا منها جميعاً ولجمنا محاولاتها اليائسة للانفلات منـــــّا. صوت أمّ يحيى استحال إلى نهنهة للدمع وما لبث أن تهالك جسدُها على كتف من تراب الأرض، تتنقّل بين ولديها عيناها المفجوعتان باحتمال أذيّة أحدهما للآخر، والمغرورقتان بالفضيحة التي ستزاحم رائحتُها، عند كل شباك وباب، عبقَ ورودها التي أصبح بعد ذلك اليوم لي ولزوجتي منها حصّةَ الأسد في أهل جيرتنا كلّها. يحيى أرسلناه معها بإيماءة صامتة فمضت به لحظةَ حَوَّطْتُ كتفَ جهّار بيدي ومشيتُ به بعيداً عنهما صوب معمل الثلج، حيث كانت جلستُنا الأولى على مازة عرق انبسطتْ أمامنا على سطح بيتنا المطلّ على شجرات الكينا وقصب الغزّار، وعلى فم النهر الذي ضاق به شحُّ الصيف فهو أشبه ما يكون بفمٍ مضمومةٍ شفتاه على وعدٍ لا تعده إلاّ شَفَتا عذراء.

كؤوسُ العرق المندّاةُ بصقيع قطع الثلج التي كسرها لنا طنّوس من طرف قالب من القوالب الممددة البيضاء فطافت شفّافةً في بياضٍ حليبيٍّ فوّاحٍ سحبتْني وجهّار من رطوبة العصر إلى بلالة الغروب ومن تيقّظِ أصابعنا إلى اتّكاءة مرافقنا على حافة الطاولة المنبسطة بيننا، وقد اتّسَقَ فوقها اخضرارُ النعنع والبقدونس والخيار، واحمرارُ البندورة والفجل، ولمعانُ الزيتِ الغارقةِ فيه شرائحُ المكدوسِ المحشوّ بالجوز والحرّ، وبياضُ الجبنة واللبنة، واصفرارُ القشقوان، وما ترتاح له عينُ الشارب من تناغمِ لونٍ وشكلٍ، والذي به كله تطمئنّ لمعنى وجودها على الطاولة الكؤوسُ فتظل على انتصابها مجلوّةً بالإحتفاء.

كؤوسُ العرق المندّاةُ بصقيع الثلج فتحتْ عينيّ على ما كنتُ أجهله فيه حتى ذلك اليوم، ففي حديثه آنستُ حميّةَ المستطلع لما لم يكن قد خبره بعد من أسرار الحياة ولما يمكن للمرء أن يفعله لنفسه إذا بُسِطَتْ له أمور الدنيا. شيء دفين في روحه كان يتألّق لحظات في عينيه وهو يمدّ بأنظاره عبر شجرات الكينا وقصب الغزّار والضفتين والشاطئ وفم النهر وانسراح مياه البحر حتى حدود الأفق الذي هو الآخر يتألّق الهنيهةَ التي تستغرق تماسَّ الشمس به وانحدارَها البطيء لتتخذ في مثل لمح البصر شكلَ كأس النبيذ الذي لا يلبث أن تغرق قاعدتُه في زرقة البحر ويغرق خلفها ما تبقّى من القرص القاني. هنيهة التألّق في عينيه وفي ذلك الأفق كانت تنبّه فيّ شيئاً طالما زاد من إحساسي به فتغرورق روحي بشيء لم أفهمه أول الأمر، شيء كان كالجيشان الذي يأخذك بغتةً من حيث لا تدري ثم فهمتــــُه بعد ذا حينما جاشت عيناه بنداوةٍ أحالت دائرتيهما إلى بركتين من شوقٍ مسحورٍ بالأسى.

لم يُخــْـــلَقْ لحياة البساتين ذلك الجالسُ قبالتي ينادمني الكأسَ والحديثَ وغيابةَ الشوق وغيبَ الأفق الذي تنازعتـــْــه أمام عينيَّ وعينيه زرقةُ البحر وحمرةُ الشمس، وإذن كان حقيقةً كل ما كان يقوله لي عنه قريبنا إسحيّا، فَسِرُّ غربته عن أخيه يحيى وعن أهله وأقاربه وعن أهل جيرتنا ليس إلاّ ذلك التألق الذي رأيتــــُـــه في عينيه، يحدّث عن روحه بالشوق الذي جاشت به بعد ذا عيناه فإذا هما البركتان اللتان لم أرَ في وجه رجل سواه ما يشي بمثيل لهما، فكأنما كانتا صبغته ولعنته في آن معا. ولعل ذلك كان ما أكسب العرقَ النكهةَ التي أضحتْ بعد ذلك اليوم سرَّنا الذي لم يبح به لأحدنا الآخرُ فكان بيننا الرباط الذي لا تتكشّف قدسيّتـــُــه إلا في صمتِ اثنين كان في تنادمهما أكثرُ من خفقانِ قطعِ الثلجِ على حفافي كأسيهما.

كان لا بدّ له من العبور بأشواقه إلى الضفّة الأخرى من النهر، فملامحُ المدينة الهاجعة إلى الجنوب من جيرتنا كانت هي الأخرى تهذي بنداءاتها الخفيّة إليه. وربما لم تستجب روحُه إلى شيء في المدينة استجابتــــَــهاإلى ملامحها البعيدة وحدها، وذلك لتظل بينهما المسافةُ قائمةً كالسياج، مهما تقاربا، وليظلّ جهّار جهّار حتى بعد عبوره إلى الضفّة الأخرى من النهر وقبوله نصيحتي بإنشاء مطعم على قطعة الأرض التي ورثتــــْـــها امرأتُه عن أبيها على مسافة كيلومتر واحد جنوبيّ النهر وكيلومترين شماليّ المدينة. فكرةُ إنشاء المطعم في تلك البقعة لم تكن وليدة صدفة أو مغامرة، فالصيداويون لم يكونوا قد نعموا حتى آنذاك بترف هذه التجربة، كما أن استحداث مطعم في منطقة غنيّة بالبساتين كان سيلبّي أشواق سكان المدينة إلى مساكب من كلّ لون وشذا وإلى فسحة اللهو والشراب بعيداً عن رصد العيون وعن رائحة الريبة التي تعبق بها الحاناتُ المنتشرة على امتداد الشارع المحاذي لمقبرتهم. عينا جهّار التمعتا ببريق اليقين حينما بُحْتُ له بهذا الخاطر فما انطبقتا إلاّ على صمت عرفتُ كيف أفسّره لنفسي بعدما حملتـــــْـــه بعيداً عني الدقّاتُ التي لا تدقّها على الإسفلت إلاّ قدماه.

لم يخيّب ظنـــــّي به إذن جهّار فها تلكما قدماه تدقّان دقّاتهما الأولى على الجسر المسلّح بالباطون، والذي إنْ تَنْسَ قارعتُه فلن تنسى سهرةً لنا عليها من سهرات شبابنا الأوّل، عَمَرْنا فيها ليلةً من ليالي الصيف حتى طلعتْ علينا الشمس، وقد كانت استدرجتْنا أنسامٌ هبّت علينا من الشرق فحملتْنا من مجلسنا على سطح بيتي إلى حيث تستأنس روحانا، وسط الجسر، بالعيون الساهرة علينا وفوقنا، تساهرنا ونساهرها، وإلى حيث الاستخفافُ منـــّـــا بالعيون العابرة بنا صدفةً لرجالٍ من أهل جيرتنا عائدين من سقي جلولهم وآخرين ماضين لتحويل العدّان إلى بساتينهم لإستيفاء حصّتهم من الماء لريّ الأرض، كما هو عُرْفُ جيرتنا الذي ورثناه عن أسلافنا من أول ما كانت الأرض. سكرتُنا ليلتها على قارعة الجسر حتى مطلع الشمس حسمتْ في أهل ملّتي وأهل ملّته تذبذباً في رأي المحبّذين  لصداقتنا على استحياء فطارت قصّتنا على الجسر إلى كل شبّاك وباب وسالتْ بها ألسنُ الناس على ضفّتي النهر، استكباراً أوّل الأمر، ثم استغراباً، ثم تعجّباً، فتفكّهاً ما لبث أن استحال إلى دفءٍ في نظراتهم إلينا وإلى إقرار صامت في قلوبهم بإستحالة الفصل بين اسمينا، فانضفرتْ لنا في الأذهان حكايةٌ أخرى نبتت كما تنبت عفوَ الشمس والمطر والرياح النباتاتُ الخرافيةُ في قصصِ القدماء فإذا نحن المرجعيّةُ في مواسم ريّ الأرض وتوزيع حصص الماء، وفي مواسم ضمان البساتين في كل عام، وإذا نحن مَبَثُّ هموم المتخاصمين من ملّتيْنا، فَلَبِسْنا من خيوط الحكاية ما أوحى بأنّ الحكاية لم تكن في الأصل إلاّ  ثرثرة صادقة لحقيقة خالدة.

وها هي ذي حوله الجيرةُ كلها تعبر معه مسافة الجسر إليَّ، لِتُشْهِدني، أول ما تشهدني، على ولائها للحكاية التي حيكت عفو شمسهم ومطرهم ورياحهم حول الإسم الذي كتب عليه أن يكون لإسمي قريناً. حافّةُ الجسر من هنالك سَدٌّ من الرجال، وأنا في انتظاري لهم سَدُّ الملّة الأخرى التي سأكرّم بها جهّار في موسم حزنه عصر يومنا هذا، فأجمع له حولي من الهلالية وعبرا والبرامية والقرى الأخرى لشرّقي صيدا موكباً من المعزّين لم يجمعه نصرانيٌّ قبلي لمحمديّ قبله. ولربما سيرضي ذلك أم يحيى، إذا كان لروحها، كما لعله في عقيدتهم، أن تحوّم حول الأحياء من أهلها تتسقط أخبارهم لتطمئنّ عليهم، فترى، فيما تراه، ولائي لذكرى العمر الذي قضتْه في جيرتنا أو قضيناه في جيرتها على مرمى صرخةِ استغاثةٍ أو فوحةِ ورد.

الوفاءَ الوفاءَ لذكراكِ يا أمّ يحيى، فقد كنتِ في جيرتنا لجيرتنا أكثر َمما يكون لجاره الجار، ومناديلُكِ البيضُ، مشعشعةً بطرابين وردك التي عبقت بفوحها أيامُنا وأعمارُنا، خجّلتـــْــنا في مواسم النعرات حتى من وساوسنا السود فزجرناها ثم دفعناها كما تُدفع السيئة ُ بالحسنة في شريعتكم وكما يُدفع في شريعتنا الذنبُ بالغفران. وموقدُكِ الذي عَمَرْتِ بعبق أطايبه ولائمَ العزّ في مواسمنا لم يكن حجريْن وحطباً وناراً، بل يدان هما يداكِ وأنفاسٌ هي أنفاسكِ، بها، دون سواها، تستحيل القِدْرُ والدّستُ وخرافُ القوزة والدجاجُ والأرزُّ إلى حكاية لم تزل ترويها لأطفال الأرض أمهاتٌ نذرتهنَّ الأرضُ للحياة نذرَها فوحةَ الورد لأنفاس الصباح. موقدُكِ الذي لم يكن حجرين وحطباً وناراً طالما استدرج من سأمِ الأيام يوماً بعينه فصيّره في تعاقب الفصول حقبةً بلبلتْ  حسبةَ الليل والنهار، يوماً كذيّاك الَذي احتفلتْ به جيرتُنا برياض الصلح وقد استدرجتـــــْـه الأحداث من بين رجال المدينة إلى رئاسة الحكومة فكان بذاته حقبةً بموازينها تُرصد كلُّ الموازين بين ملّتنا وملّتكم في زمن التشرذمات والفتن. يومها سأل عن عبق يديكِ وأنفاسك في طعامنا وحمّلني وجهّار من على سطح منزلنا إليكِ الشكرَ الذي ربما نسيناه في زحمة العزّ فظل تائهاً حتى استدرجتــــْـــه اليوم إلى ذاكرتي حشرجةُ الذكرى كما حَتْمُ الوداع.

غُذَّ إليَّ الخطا بموكبك الآن يا جهّار، فإلى الغرب مني ومنك لا تزال تشهد انسراحةُ الشاطئ على تدافع خطوات أم يحيى، تشقّ رياحَ كانون وكانون وبعدهما شباط وآذار، تشقّها، أنّى تواجهها الريحُ، على امتداد الرمال التي تحالف عليها الموجُ والمطرُ، في جهادٍ مضنٍ كانت عينا أمي شاهدةً عليه وعليها، فَرَوَتْ لنا ما لم تره عينا سواها وألهبتْ طفولتنا ويفاعتنا بمشهد تلك المرأة التي رحل زوجُها إلى حرب الأتراك فجعلتْ منه الحربُ ذكرى لها ولإبنيْها ولبناتها الثلاث، فصرفتْ وجهها عن الرجال لتكون لأطفالها الرجلَ الذي غاب عنهما وعنهنّ جميعاً، فنزل عند إلحاحها صاحبُ البستان وترك لها أن تَرِثَ عملَ زوجها فتقوم، بمعونة أهل الجيرة، بِبَسْـتــــــَــــــنـــَــةِ البستان لقاء بقائها وأولادها في المنزل عينه ولقاء تقاضيها الأجر الذي كان يتقاضاه زوجُها قبل رحيله، ولقد ترك لها إلى ذلك أن تنعم بزراعة ما تيسّر لها من البقل والخضر في زوايا جلول البرتقال والحامض والأكدنيا، تقتات بها هي وأطفالها في زمن عزّت فيه على كثير من الناس الكرامةُ والقوتُ، بمشهد تلك المرأة اقتاتت خيالاتُنا، فها قدماها تشقّان رياحَ كانون وكانون وبعدهما شباط وآذار، لتنحني قامتُها بين عصفةِ ريح وقصفةِ موج فتلتقط يداها شلعاً من خشب الأشجار وأغصانها كان لَفَظَها الموجُ في عتمة الليل وتركها مرميّةً على الشاطئ الممتد بين فم النهر حيث فم النهر يلغي ضفّتيه لحظةَ اقتحامِهِ زبدَ البحر بكدره الطينيّ المنجرف من تربة البساتين، وبين منطقة "كعب الصخر"، حيث صخور الجبل تتمّ انحدارَها إلى مقصف الموج لتستقرّ تحته فيما يشبه سكون اليقين. وفي ما يشبه سكون اليقين، كانت المرأةُ في حكاية أمي تضمّ إلى صدرها حزمةَ الخشب والعيدان والأغصان وتدير ظهرها للموج والريح والشطّ فتعبر بغنيمتها الطريق الذي يفصلها عن البستان، فتدخل بوابته التي تُفتح لها بيقين وتُغلق خلفها بيقين، وتمضي إلى قدرها حيث تكوّم تحت سقيفة فرنها الطينيّ كلَّ ما انتزعتــــْــــه من الموج والريح، ليجفّف نفسَه هناك يوماً بعد يوم، ثم ليفرقع ذات فجر أو ذات صباح بين حجريْ موقدها أو في عمق فرنها الطينيّ الوهّاج.

  أمّا الملحُ في حكاية أمي فله حكايةٌ أخرى لعبتْ بخيالاتِ نشأتنا الأولى كما يلعب السحر بالأشباح في القصص فيمرّرها أمام عينيكَ في مثل لمح البصر ثم في مثل لمح البصر يستلّها من سياق الهواء، فأنتَ في آن معا مصدِّقٌ ومكذِّبٌ لما لا تراه ولما تراه، فها هي أم يحي تنسلّ من بوابتها في خفّة الطيف فتعبر الطريق إلى البحر، تختطف قدماها الخطواتِ اختطافاً، حتى إذا ما بادرها الموجُ انحنتْ له وغرفتْ منه ملء سطلها ثم انتصبتْ وأدارت ظهرها للبحر وانسحبتْ كالظلّ فوق الرمال والطريق وانسلّتْ عبر البوابة إلى ما وراء مرمى بصركَ، فأنتَ، لولا خيوط الحكاية تكرّ من فم أمّكَ، كما كانت تكرّ من فم أمي، لما قُدِّرَ لك أن تلحق، مثلي، بأم يحيى لتشهد كيف تصبّ من سطلها ماءَ البحر في سواد دستها وكيف نارُ موقدها تحتدّ فيقرقر الدّستُ بغليان الماء ويختنق الجوّ بالبخار ساعاتٍ لا يبقى بعدها من الماء إلاّ ملحُ البحر، كومةً لزجةً تنشره أم يحيى في الشمس فتجفّفها، كما جفّفت قبلها كوماتٍ مثلها، ثم تجمعها كلها في كيس من الورق، وتأخذ طريقَ الجسر صوب المدينة فَتُبَادِلُ ثروتَها من الملح بحفناتٍ من طحين الشعير، تعود بها فتعجنها وتخبزها أرغفةً تقسمها بين أطفالها قسمة لا ترى العدلَ فيها الأفواهُ المهمدرةُ بالجوع.

كنتَ آنذاك لا تزال صغيراً في الحكاية، يا جهّار، فسبقتْكَ الحكايةُ إلينا، وكبرتُما معاً في طفولتنا ويفاعتنا، وكنتُما جيرتَنا قبل أن تجمعنا الجيرةُ، فهيّا، غُذَّ إليَّ الخطا وَاقْرَعْ بموكبكِ ما تبقّى لكَ من مسافة الجسر، فذاكرتي جسرٌ لعبوركَ اليوم إلى أم يحيى التي ربما لم تعد تذكر أنتَ شبابَها لأنه لم يعد لكَ أمٌّ مثل أمي تقصّ عليكَ، وكأنما تقصّها للمرة الأولى، حكايةَ عبق الورد الذي شرّده الريحُ والموجُ ودخانٌ تختنق به في حشرجةِ الموقدِ مسافةٌ بين حجرين.

 

 

جــهـّـــــار الجــمــــري

الفرحُ النابتُ على ضفافِ الحزنِ عميقةٌ في الأرض جذورُه كما الحزنُ جذورُه. وها هي الضفّتان، شاهدتايَ، تحت أشعة الشمس، تسترسلان في لهاثهما على حفافي البساتين، وقد خفّض الشحُّ بينهما مجرى المياه من الأرض، وسكنتْ عنهما لجاجةُ الموج كما يسكن الحنينُ عن القلب في استرخاءة الذكرى، وقد كَمَنــــَــتْ له الذكرى، كما يكمن الموج للضفّتين، في غيوبٍ عنهنّ تصحو الفصولُ، مثلما اليوم يصحو، على مدى الشحّ بين الضفّتين، الموسمُ الآخرُ للأيام، حزناً مسوَّفاً في ظلل الغمام، سالخاً من بعضها توائمَ أيامي، فإذا المرأةُ التي رحّلتني إلى الضفّة الأخرى من النهر ليست المرأةَ التي تستدرجني اليوم إلى الضفّة التي كانت النهرَ كله قبل أن يولد للنهر ضفّتان.

هبطتْ وأهلها على جيرتنا من جيرة الغيب فأخذناهم كما نأخذ منه الفصولَ بمواسمها، في عتوّ هبوطها علينا أو حنوّ تسلّلها إلينا، أخذناهم كما نأخذ الليل والنهار والشمس والقمر والشحّ والمطر وهوجاً من الأرياح كما ليّناتٍ من الأنسام، في أوانها أتتْ أو في غير أوانها، نأخذها كما أخذناهم ليلةَ هبطوا على جيرتنا من جيرة الغيب فَدُقَّ على بابنا شيءٌ لم يكن مثلما عَهِدْنا من الدقّات، فحسبناه أول ما حسبناه أضغاثَ دقّات يوسوس لنا بها الليل.

ليلتها لم يكن الليل سابغَ الظلمة مستـــثـــْـــــقـــَلَ الوحشة، فالطبليّةُ المربّعةُ التي يُمَدُّ لنا عليها، أوان الطعام، أرغفةُ الخبز ومُبْتــــَـــلاَّتٌ من بقل الموسم وحشائشه وقـــِدْرُ الفخــّـــار يملأ استدارتَها العدسُ أو البرغلُ بالحمّص أو الفولُ المتبــّــلُ بالحامض والصفير، موسمَ الحامض والصفير، أو بالخلّ، شهورَ ندرةِ الحمضيات، فنتربّع على الحصيرة حولها أنا ويحيى وأمي جنباً إلى جنب، وتتربّع، مواجهةً لنا، صفيّة وهديّة ومحاسن، وتتهاوى أصابعنا المكوّرة بقطع الخبز الحاف في القِدْرِ وتستدير نصفَ استدارة لترتفع مطبقةً على ما تيسّر لها من الطعام الذي هيّأتْه لنا أمي لعشاء ذلك اليوم، طبليّتنا المربّعةُ التي تحلّقنا حولها سنواتِ طفولتنا ويفاعتنا كانت ليلتها مشعشعةً بضوء القنديل المنتصب في وسطها، راضيةً بعريها الخشبيّ الوهّاج، وأخي وأنا غارقان في كتاب "الكشكول" كلٌّ في الجزء الذي أعاره إياه جارُنا إسحيّا، وقد ألحّ علينا، كعادته كلما أعارنا كتبه، أن نقرأه من الدفّة إلى الدفّة لأنه، على حد قوله، من الكتب التي تعلّم وتسلّي في آن معا. ومن كشكول جارنا إسحيا سحبتْنا الدقّاتُ الهفيفاتُ إلى شيء أشبه ما يكون بكشكول الغيب، دقّاتٌ منكمشةٌ على ذاتها، مخطوفةُ الصوتِ، كأنها العَـــتــــَـــبُ على النفس، فانتبهنا، وقد سكنتْ عيونُنا وآذاننا عن ملاحقة الكلمات، وأرهفنا الشكَّ نستجلي به اليقين، وقد هسهس إلينا من الغرفة الأخرى صوتُ أمي أنْ أحدٌ بالباب يطرق فاستفسرا ثم افتحا.

شـُــــقـــــَّــتْ درفةُ الباب على صوتِ "أنا هَتونْ" يحاور مرّتين من خلف الباب، فانسلّت من القنديل خلفي شعاعاتٌ انسربتْ فوق العتبة الواقفة بيننا وبين الليل، انسربتْ عن جابنيَّ فبغتتْ وجوهاً وعيوناً حَشَدَها على عتبة بيتنا نظرةٌ لائذةٌ هجمت علينا من الليل ومن كل العيون، عابرةً إلينا، على ضوء قنديلنا، العتبةَ الواقفةَ بيننا وبينهم، نظرةٌ لائذةٌ، لا بنا، لغربتنا عنهم وغربتهم عنـــّــا، ولكنْ بأيٍّ من الوجوه والعيون التي عنها قد تنشقّ درفُ الأبواب التي، على غير معرفة لهم بها، كُتِبَ عليهم أن يطرقوها، لائذين بمن خلفها من الخوف الذي لم تبح به ألسنتهم ففاضت به عيونُهم حتى اختنق الهواءُ في غرفتنا وحتى اختلج الضوءُ بالقنديل وهم يدخلون علينا استجابةً لإشارة أمي التي بدا وكأنها ميّزت فيهم شيئاً وقد بادرونا بالسؤال عن بيت جارنا إسحيّا.

أمي، التي لا تظهر على الغرباء مكشوفةَ الرأس، انتصبتْ بها قامتُها على عتبة باب غرفتها، وقد انطرح على مدى شعرها المنديلُ الأبيضُ، منسدلاً على جانبيْ أذنيها لتلتقطه من طرفيه أناملُ يدها، منضمّةً على بعضها انضمامتــــــَها عادةً على ساق زرّ الورد وهي تقدّمه إلى زائرة من زائراتها. منديلُها الأبيضُ، المعلّق أبداً بمسمار دُقَّ لأجله خلف باب غرفتها ليكون طوع حاجتها إليه في لحظات البغتة والفجاءة، انكسرتْ على مرآه عيونُ الرجليْن، الأب وابنه، فتحوّلت إلى الأرض وما ارتفعت فوق مستوى القنديل إلاّ في توجّهها نحوي ونحو يحيى، وقد وقفنا كلانا نردد النظر بين الأب وزوجته وابنهما الفتى وابنتهما التي قال لنا الصوت من خلف الباب أنها هَتونْ، وبين أمي التي بمنديلها الأبيض وانضمامة أصابعها على طرفيه وبابتسامتها المرحّبة الودودة، كان قد انساب حضورُها في الغرفة فماجت به كما تموج ثيابُها بعبق الورد كلّما تحرّكتْ قدماها في الهواء.

منديلُها الأبيضُ وانضمامةُ أصابعها على طرفيه لم تشغل عينيْ هتون إلاّ بمقدار ما توحي به وسوسةُ الإستطلاع، فما هي إلاّ هنيهة حتى تململتْ يداها هي وأخذتْ تتسلّق أناملُ إحداها فستانَها الأسود، نَفَساً نفساً، لتنضمّ آخر الأمر على الصليب المدلّى بسلسلةٍ رهيفةٍ من بياض عنقها. وكأنما بغتها مَلْمَسُ الصليبِ فطرفتْ فجأة عيناها واستدارت الحدقتان فيهما لتبغتا، في لمحة المستطلع، عينيَّ اللتين انخطفتا عن فستانها وعن أناملها المضمومة على الصليب المدلّى من البياض المرهَّف بالشعاعات الطالعة إليه من زجاجة القنديل.

من أم وديع، زوجةِ إسحيّا، كان اسم طوبيّا الحوراني قد بلغ مسامعَ أمي التي كانت الأسماء تعشّش في ذاكرتها وكأنها العصافير والحمائم والحساسين، بل وكأنما هي الناس أعينهم، لا الأصوات التي بها يُنادَون وبها يُعرَفون، تعشّش في ذاكرتها على دوران الفصول وقد اطمأنتْ إليها مصطافاً ومشتى ومتربّعاً. من ذلك العالم الحيّ في داخلها انتفض اسمُ طوبيّا الحوراني حياةً أمامها وأمامنا، وإذ ارتاحت عيناها إلى تحوّل الصوت في ذاكرتها إلى ملامح الرجل الواقف قبالتها، ألحّتْ في إقبالها عليه وأكّدت إلحاحَها بدعوته وعائلته إلى الجلوس والإستراحة، وكأنما الصوت الذي استحال رجلاً لم يكن أكثر، في نظرها، من امتدادٍ عفويٍ للجيرة التي تجمعنا بإسحيّا نفسه وعائلته. طوبيّا وزوجته تقاطَعَ صوتاهما بالشكر والإيحاء المستعطِف أنَّ مسيرهما وابنهما وابنتهما من نهر الدامور إلى نهر الأولي قد أنهك منهم القوى وصار لزاما عليهم الوصول إلى بيت قريبهم إسحيّا للمبيت عنده وقد دهمهم الليل وأربكتهم العتمة عن إتمام المسير. إنحنوا واحداً واحداً وانتشلوا بقجهم المكوّمة عند أقدامهم، فعجّلت أمي تريحهم من حرج السؤال وطلبت مني أن أسير معهم بالقنديل إلى بيت إسحيا.

إرتفع القنديلُ عن الطبليّة المربعة فَدُرْتُ به حولها أراقب خروجهم أمامي واحداً واحداً، ثم خطوتُ خلفهم حتى إذا ما بلغتُ العتبةَ واستدرتُ لأغلق باليد الشاغرة بابَ بيتنا انكمشتْ في عينيَّ الطبليّةُ المربعة، وقد انحسرتْ عنها شعشعةُ الضوء، يترقرق عليها من القنديل، وغشيها ما يشبه الجفافَ والانكمادَ والعَــتـــــَـــبَ.

وراء العتبة والباب استقبلنا الليلُ والطريقُ الترابيُّ فتنحّى الأربعةُ لي لأتقدمهم بالقنديل فخطوتُ أمامهم خطوات لفتتــــْـــني إلى أن القنديل الذي تقدّمنا جميعاً، وقد ارتفعت به يدي إلى مستوى مرفقي، انفلشتْ شعاعاتُه في دائرةٍ من العتمة التي أمامنا وانحجبتْ، بقامتي، عن موطئ أقدام الذين خلفي، أو هكذا خيّل إليّ آنذاك، فتمهلتُ، أشرح لهم أن يسيروا عن جانبي حتى تأخذ عيونُهم  حظَّها من الضوء فتتبيَّن حدودَ الطريق الترابيّ والتواءاته وحُفَرَه. هتون انسربتْ من العتمة إلى يميني، ومشت خلفها أمها، بقجةُ كلّ منهما كانتفاخةٍ في لفّةِ الخاصرة، وعن يساري اندفع الفتى بخطى يقارب بها خطواتي، وبقجته المشكولةُ بمرفق يده اليمنى تميل شمالاً برأسه وكتفيه وكأنما ليستوي له توازنُ جسده. خطوات أبيه من خلفه كان يأتي إليَّ وقعُها وكأنّ الأب تخلّف عنــــّـــا خطوةً أو خطوتين أكثر مما يجب. لم يكن في متناول عينيّ حتى حينما غامرتُ بنصف التفاتة إلى يساري، نصفِ الإلتفاتة التي كان جوابه عليها نحنحةً صعدت من عمق حنجرته لتؤكد على حضوره الذي لا أراه.

مشى بنا القنديلُ على هَدْيِ شعاعاته، ومع كل نقلة قدم وتأرجُحِ مرفق كانت دائرةُ الضوء تتّسع للحظة أمامنا ثم تضيق، وهكذا هكذا ليتكشّف لنا، على جانبيْ الطريق، وكأنما كلوحةٍ من غيوم الخريف لا يفتأ يصحّح بعضُها بعضاً، سياجان نَهَضَا كلّ على حافّة بستان، ومشيا معنا على امتداد الطريق وقد تدلّت عن يسارنا أغصانُ شجر البرتقال فوق السياج المشرَّط بشريط معدنيّ تنبثق منه غابةٌ من الإبر واتــــّـكأ على حافّة السياجِ الآخر ما تعربش عليه من شتلات الورد التي بغتها الضوءُ فتفتحت طرابينَ انْبِهَارٍ مورَّد.

بين السياجيْن مشى بنا القنديلُ حتى بلغنا مضخّةَ الماء المنتصبة إلى يمين العبّارة فعبرناها على صوت الماء يصّعّد من تحتنا في اندفاعه في مجراه إلى البستان المقابل لبستاننا. شيء في خشخشة الماء، يتدفق من تحت العبّارة إلى التراب، جَمَّدَ الضوءَ في عينيْ هتون التي كان وجهها طوال مسيرنا طيّعَ الإنعطاف إلى ناحيتي من دون أن يكون لعينيها نيّة اللقاء بعينيّ، شيء في خشخشة الماء جمّد الضوء على ملامحها هنيهات أبعدتْنا عن مصدر الصوت الذي ما فتئت تتراخى حدّتُه وتتراخى حتى استحالت إلى شيء أشبه بالهمس، فلانت إذّذاك ملامحُ وجهها وتفتّح الضوءُ في عينيها وهي تأخذ عينيَّ بخيط من شعاع.

عند عتبة باب إسحيّا عرفتُ لماذا تخلّف الأب عنــــّــا خطوة أو خطوتين أكثر مما يجب، فيده التي لم يحمل بها بقجته الْتمَّتْ أصابعُها وباطنُ كفّها على جِفْتٍ للصيد بعينين اثنتين محشوّتين بصمت وظلام. وحينما انغلق عليهم بابُ إسحيّا وانفتل القنديلُ بي صوب الطريق الترابيّ تجمّد الضوء في عينيّ وقد أدركني الحدسُ أنّ التراب الممدود بين سياجين استحال بغتة من طريق ذهاب إلى طريق إياب. وحينما تحركتْ بي قدماي، وقد هبط عليَّ شيء كذلك الحزن المسَّوفِ أبداً في ظلل الغمام، رحتُ أقلّب في رأسي الحجّةَ التي بها سأحتال لأستعير ليلةَ يحيى من يحيى، فآخذ دَوْرَهُ في سقي البستان الذي تمتدّ جلولُه شرقاً إلى مرمى العين من نوافذ بيت إسحيّا.

وهكذا ليلتها كان، ربما لتحتملني إليها وسوسةُ الماء، تنساب بي إليها جّلاً بعد جلّ، وليحتملنا ربما بعد ذا الليلُ والماءُ والترابُ الذي استحال طراوةَ طينٍ إلى جلّ النهر الذي اسْتَتَبَّتْ ضفّتُه سياجاً لبستاننا، فعبرناه إلى مجرى النهر نازليْن إليه على هديٍ من طرواةِ طين البستان الذي غاصت فيه قدماها وقدماي، وكأننا نغوص في تلّة من عجوة التمر.

هكذا ليلتها وبعد ليلتها كان، فاسترسلي أو لا تسترسلي في لهاثـــــكِ على حفافي البساتين، يا ضفّتايَ، وَاعْبَئي أو لا تعبئي بالذي كان، فها إلى الغرب منكِ لا يزال على حاله شاطئُ البحرِ والبحرُ، لا يراوده من الصيف شحٌّ  ولا يزاوره جفافٌ، وها على الطرف الآخر للجسر الذي نعبره لا يزال كما عهدتُه من أول العمر معملُ الثلج الذي ورثه عن خاله عازر الديّار، الواقف، كعهدي به أبداً، على باب المعمل، تحت شجرات الكينا التي نشأ معها وتربّى واستعار من جذوعها صلابةَ قامته ومن أوراق غصونها استجابتـــــَــــه لتحوّلات الفصول، واقفاً هناك كما عهدي به، وعيناه تلقاء الموكب الذي يندفع بي نحوه، لينضمّ إلينا بعد لحظات فتحاذي خطاه خطاي في صدر الجمع المندفع خلفنا وبنا نحو البيت الذي استفاقت جدرانُه وأبوابُه وشبابيكُه على هجعة الموت في زاوية عتيقة من زواياه.

ليلتها كان لعري قدميّ في الماء، وأنا أسقي مربّعات الجلول، نكهةٌ اغرورقتْ بها مسامّ جسدي فأحسستُ بي كائناً انبثق لتوّه من توحّد الماء بالتراب. ولكم، بعدما اغترفـــتــــْــني مرّات بعينيها واغترفتــــُــها بعينيّ، توحّد بنا الماءُ والترابُ، نتقلّب عليه وفيه، وتسري فينا لدونـتـــــُـــــه كما تسري فيه لدونــتـــُـــنا، ونظلّ ويظلّ حتى نــُـــنــْــهِــضَ الشمسَ من عتمة الليل، نتنشّف بضوئها ممّا بنا ونـتــستّر بالصبح ممـّا عـــَــــداه.

الروح التي سكنتْ من هتون مشيتـــــَــها فترقرقت بها قدماها على الطريق الترابيّ بين السياجيْن، وعلى مصطبة بيت إسحيّا، وفي الممـــّــرات الترابية الضيّقة التي تربط الجلول بعضها ببعض، الروحُ تلك التي كانت تنعتق من ملامح العينين والشفتين والوجنتين كلّما تبسّمت هتون، فإذا الوجه كله اغروراقٌ بذلك الفيض الذي لا يـَنْـــســَــلُ له أوّلٌ من آخر ولا  يحوطه من عين راءٍ بياضٌ أو سواد، روحُها التي هبطتْ على جيرتنا من جيرة الغيب هتكتْ لي ذات ليلة حجباً لم تكن هتكتْها لولا الجموحُ الكاسرُ في عينيّ وفي أنفاسي وفي كلماتي أنْ ستكونين لي سَكَناً في عين الله وعيون الناس حينما يئين الأوان، هتكتْ لي حجباً، وهزّتْ وراءها بين يديْ أبيها جِفْتَ الصيد، وشرحتْ لي بعد تلك الشهور لماذا خبّأ سلاحَه عنــــّـــا ليلةَ هبطوا علينا من جيرة الغيب، خبّأه، على حد قولها، خلف بابنا في ذمّة الليل ودخل وأهل بيته ببقج منفوخةٍ بالسلام. كان في زمن قريب أو بعيد قد أسدل التراب، في أحد بساتين الدامور، على سيرةٍ كان لَغَطَ بها لشهور أهلُ الدامور وبساتينه تنعى على مولَعٍ بهتون استهتارَه بغليانِ الدمِ في عروق أبيها الرافض مصاهرة مسيحيّ لم يكن مثله كاثوليكيا. وانسدالُ التراب على سيرة المولَع ما كان ليكون، وما كان ليمرّ كما تمر الحكايات لولا أنّ أخاً له كانت عيناه وقلبه على أرضٍ لهما، فسعى في الأرض فساداً، وأوحى لسلاح الصيد بالصيد، حتى إذا تمّ له ما أراد، امتدتْ عيناه وقلبه إلى فتاة الحكاية، وهدّد برفع يد الحماية عن العائلة جميعاً، ما لم يكن له ما أراد. وإذ كان خيارهم الآخر الرحيل، فقد جمعوا أمتعتهم ذات يوم ورحلوا إلى جيرة قريبهم إسحيّا، حيث أغراهم الليلُ الداهم بالدقّ على بابنا وأغرتنا الحيرةُ بفتحه.

ولعلني ليلة انهتك السرُّ لم يحرّك السرُّ فيَّ خيالاتِ الشرِّ إلا هنيهات، فخيوطُ الحكاية ظلّت خيوطاً وظلّت حكايتُها حكايةً، ولم يكن ذلك لوفرةِ الغرائب التي اقتات بها خيالي إلى حدّ التخمة من قراءة كتب إسحيّا، فجموحي الذي قلّصَ حدودَ العالم إلى مواطئ قدميْ هتون نفى من الإحتمال وجوداً لأرض شماليّ بستان البلح أو جنوبيّ نهر الأولي.

هتونُ، هتونُ التي بَشَرَتُها لجسدها سياقٌ، على ذكرى الهتونيّ من بياضها، مقلتاي وأطرافُ أصابعي وباطنُ كفيَّ، كلّها كلّها حبيسٌ حبيسُ.

ذؤابةُ نيسان أشرقت بأعوامي العشرين وأشرقت هديّةُ عيدي بستة عشر نيساناً، هنالك على ضفّة النهر أشرقت، وعلى وجهها، كلّ وجهها، نهنهةُ الفرحة، وابتسامتــــُـــها، كلُّ ابتسامتها، بها تقابل الشمسَ، ويقابل الشمسَ من جسدها هَزْجَةٌ من هزجاتِ عتوّ الصبا في برتقالتيْها اللتين دونهما افتضاضُ التكتــــّـــم عن حبّة الفلّ التي دونها فسحةٌ  من نقاء الياسمين، ذلك المُدِلُّ على تعويذةِ ورقِ التوت، وما من ورقٍ، كلّ ذا، متــــّــسقاً بزنبقتين من هِفاف الحرير، كلّه يقابل الشمسَ كلّها، وأنا، تحت كلّ ذا، كفُّ يدي اليمنى منبسطةٌ تحت عجوة كتفيْها، وكفُّ يدي اليسرى ملؤها عجوةُ القمر. أرفعها للشمس فَيُطَفَّفُ بوزنها جسدي، وذراعاي، فوق كتفيَّ، تجاهران بها، فهي على مسمعٍ من الأرض والسماء صرخةُ الطين تَجَلَّى شُعَلاً.

ثم انهدمتْ من فوق كتفيّ الصرخةُ فانهدمتْ ذراعاي، وغارت وغرتُ معها في فراغ التراب الذي في لحظة الرعب لم يعد كما كان طينا. من وهلتي، خلتُ الطلقتين نظرتيْن رمتْهما عينان محشوّتان بصمت وظلام. كانت الحكايةُ من بساتين الدامور أكثرَ من حكايةٍ إذن وكانت خيوطُها أشدَّ من خيوط العنكبوت. فتلفّتُّ إلى حيث ظننتُ مصدرَ الصوت، ثم تلفّتُّ إلى حيث صَدَقَ ظني. لا هو انبثق من بين الأغصان، ولا هي انتظرتْ لأردّ طرفي. وحينما اقتحمتُ الضفّةَ خلفها إلى عمق النهر كانت المياهُ تندفع بها غرباً غرباً، وحينما توهّمتُ أنّ يدي أطبقتْ على يدها، كانت قد سحبتْها أصابعُ النهر من بين أصابعي ... من بين أصابعي.

كلُّ نسائي بعدها الحنينُ إليها،

تلك التي شوقي إلى قُبْلَتِها أوّلُ القُبْلَةِ،

وتلك التي رائحتُها فاتحةُ الأحزان في جسدي.

 

 

 

 

الفصل الثاني 

1956

 

المخــتــار

        إذا انكسرتْ في الحرب مصرُ، وعبدُ الناصر انذلَّ، لا قدّر الله، فعلى أيّ جانبٍ من الطريق نسير؟ أَنُشْمِلُ، كما كانوا هم يشملون أيام الأتراك ونكسر عيوننا إلى الأرض حتى لا تلتقي عيونَهم الشرهة، تترصّدنا عن يمين الطريق ؟ عددُ البيوت والناس، منـــّــا ومنهم، أيام الأتراك، كان أقل بكثير مما الأمور عليه اليوم، فإذا انكسرت في الحرب مصر فليس غداً إلى تجنّبهم من سبيل، وإذن فكيف لنا، ثم كيف لنا أن ندرأ عن أنفسنا ابتساماتهم المغشّاة بسترٍ من اللباقات تفرضها آداب الجيرة الواحدة، وفي كلّ عطفةِ دربٍ من دروب البساتين لهم بيت وبيت وبيت ؟ كلّه الحقّ كلّه على الدهاة الذين باعوا للذهب اليهودي  فلسطينَ كلّها فرحّلوا إلى أرض المسيح قـــــَــتــــَــــلَةَ المسيح ووطّنوهم حكايةَ أرض الميعاد فظنّوا أنهم بالفعل عادوا، فاشتدّوا واحتدّوا ولبسوا عباءات أنبياء توراتهم حاكين لغتهم فاشرأبّت إلى جيرانهم عيونُهم ونواياهُم وجرّوا معهم إلى الحرب الانكليزَ والفرنسيين الذين ضيّعوا كانوا في الحرب العظمى المسيحَ وتركوا للغبار على رفوف مكتباتهم حكايةَ صلبه التي كان فُتِحَ لهم بها بابُ خلاصهم فأغلقوه.

رأسي يلفّ وتلتفّ عليه وفيه الهواجسُ فكأنه ليس برأسي. والفجر كأنما نسي أنني بانتظاره لأتوضّأ وأصلّي فلعلّ السكينة والطمأنينة تغشياني ويعود إليَّ مع نهضة الشمس رأسي، نسيني كأنما الفجرُ أو كأنما تحالف مع نوايا الذين يحيكون الشماتة في خيالاتهم، يحيكونها انفراجاتٍ صفراءَ في أفواههم وانتفاخاتٍ بلهاءَ في خدودهم لحظةَ يلتقي واحدهم بواحدنا صدفة أو على ميعادٍ كأنه الصدفة، يلتقي واحدهم بواحدنا ولا نلتقي فيتجدّد، إذا تجدّد شيءٌ، مع كل لقاءٍ فراق. وذلك بالطبع لن يكون إذا انعدل ميزانُ الحرب الذي مال إليهم هم عشيّة أمس ليخيّم آخرُ يوم من أيام تشرين الأول بظلام على أرض الأزهر، عسى أن يرفعه، بإذن الله، صباحُ الأول من تشرين الثاني، فأغفر للفجر ضلالَه الليلةَ عنّي وأنسى نسيانَه لانتظاري.

 يلاطفوننا مـن أول العدوان على مصر، بالصمتِ المحرِج لكلينا وبحكم الجيرة يلاطفوننا، فللجيرة آدابها، وقد يأتي اليوم الذي تسقط فيه آداب الجيرة  وتخفق قلوبهم في ألسنتهم وتتدلّى من بين شفافهم نواياهُم. وَلَخوفي شديد أن يصير الذي منه خوفي، فإذا كان الذي أتمنى أن لا يكون، فلسوف يُحَنـــــّــون الذي سيحنــــّــونه فرحاً بانكسار شوكتنا، وتحنــــّــي معهم نساؤهم، على حدّ قول جهّار، ما يُسْتَحَبُّ للنساء تحنيتـــُــه.

وإذن سيضيع من بياض ماريّا بياضٌ حميم.

 

أبــو الــولــيــد

الصدْعُ الذي يقولون تصدّعتْه الأرض في جبل إقليم الخروب، منذ أن كانت الأرض، لتجد لجحيمها متنفّساً، تزلزل بالأمس شرخاً هائلَ الإنفراج ونُفِخَتْ منه علينا الرياحُ المهاجرة في دهاليز الأرض، تزلزل بالأمس الصدعُ وفاحت سرائرُه حينما غمز بعينه "جان" وقال لنسمعْ ما تقوله الأخبار عن مصر وفتلتْ أصابعُه المفتاحَ فخشّتْ راديو السيارة وتهافتت آذانُنا، أنا والجنود الذين تحت إمرتي، لنتلقّى الهجوم البريطاني على بورسعيد، طيراناً قاصفاً بجنون "إيدن" الذي لا تتحمل أمبراطوريته وقوفَ عربيّ مسلم بقامة عبد الناصر على قدمين ثابتتين، قامةٍ انتصابُها في الهواء حيرةٌ للريح وصوتُها طالعٌ من حنجرة الغيب. تزلزل الصدعُ شرخاً مع كلّ هزّة رأس اهتزّها رأسُ جان ومع كل التقاءٍ لعينيه بعينيْ ابن ضيعته المتزوّج من "الجميليّة" أو "مجدلونا"، هزة بعد هزة وفتوراً في عيونهما أصفر كشتيمة الصمت الذي يقول كل الكلام.

طوال نهار أمس ساد على الجنود الذين تحت إمرتي إرباك مُرّ ونحن نجوب بسيارتنا شارع رياض الصلح من ساحة النجمة في توجّهنا شمالاً فشمالاً حتى نعبر مطعم جهّار عن يميننا وفندق طانيوس عن يسارنا، ونعبر بعدهما جسرَ الأوّلي ومعملَ الثلج وسورَ البساتين الذي ارتفعت فوقه، من داخل البساتين، رؤوسُ شجر السّرو، ونحن نروح ونجيء، والنهار يطول، والأحاديث تشحّ بيننا، وعيوننا التي مهمّتها التفتيش عن مهرّبي الدخّان كأنما نسيتْ مهمّتها وانسحبتْ من الشارع والطرق الفرعية إلى حيث انغلقتْ على نفسها صدورُنا، فلا رؤيةَ إلاّ ما القلوبُ تراه.

أبكرَ من صيحة الديك ومن عادتي فتحتُ عينيّ وفرفكتُ الظلمةَ التي فيهما، لا النعاسَ الذي هبط عليّ غفلةً من الليل وطار وخلّفني نهبةً لصدى أصواتهم الشحيحة بالبوح ونهبةً لصدى نظرات المحرَجين والمحرِجين، تتداولني كلها فأتقلّب على جانبيّ تقلّب الليل والنهار في مَلَل الذي فَقَدَ آخر عمره حَاسّةَ الانتظار. أبكر من صيحة الديك ومن عادتي نهضتُ ولم أعرف كيف التأمتْ عليّ ملابسي ولا كيف، في ظلمة الغرفة، اندسّتْ في حذائي قدماي، ولا كيف وجدتْ أصابعي الجواربَ التي لم أعد أذكر أين وضعتُها حينما كنتُ خلعتُها خلال تهيؤي للنوم، أبكر من كل ما كان ومن كل ما قد يكون نزلتُ سلّمنا الطويل، بكفٍّ تتلمّس انزلاقةَ الدرابزين وكفٍّ في الهواء تتلمّس عمقَ الهواء، وعينين تترددان بين قرارة  الظلمة التي تحتهما ولألآتٍ فوقهما لنجومٍ اطمأنتْ في بُعْدِها عن الأرض حيث لا أذن لها تسمع ولا عين ترى.

ودار الشارع بسيارتي فدار بها الضوءُ الأماميّ، يفتح لي شارعاً في الظلمة راح يمتد أمامي ويمتد حتى وجدتُني أعبر الجسر وبستان البلح وألتفّ، عند "كعب الصخر"، يميناً، فأمضي صعوداً وصعوداً على الطريق الضيقة، عيناي تترصّدان عن يساري أشباحاً لبيوتِ الضِّيَعِ التي تَحَرّكَ خلف شبابيك بعضها باكرُ الضوء والحياةِ، أشباحاً لبيوتٍ تحرسها أشباحٌ لشجر الزيتون، فيرغرغ في صدري شيء طال به عهدُ صدري منذ صباي الأول، وأنا أنزل الطريق عينها وأصعدها من ضيعتي إلى المدرسة في صيدا، أعواماً ملأتْ عينيّ وقلبي بفتياتِ الضِّيَعِ، وخاصة اللواتي من غير ملّتنا، فكنّ يتحشّـرْنَ بي وبرفاقي متفكهاتٍ على حيائنا حتى سقط مع العمر منّا الحياءُ فَذُقْنا عبق الملّة الأخرى خلف سياجات البيوت وفي معالف البقر والماعز وفي جلول الزيتون وعلى حرارة الأفران الطينية التي خلف البيوت، في أربعة فصول السنة نذوق عبق الملّة الأخرى وتذوقنا حتى استأنستْ آخرَ المطافِ عيونُنا بالكنائس، التي أصبحت في أعيادهنّ لنا عيداً قَلَبَ في أعمارنا الأجراس إلى مآذن تنادينا للحبّ الذي كان صلاتنا آنذاك، نتعلّمها خارج البيوت والمدارس ونرتّلها آهاتٍ وأغانيَّ وصفيراً مُلَحَّناً تجيب عليه من فتحات الشبابيك وجوهٌ تنثر الفرحَ نداءاتٍ خفيّةً إلاّ على العاشقين.

ورغرغ في صدري ذلك الشيء الذي طال به عهدُ صدري، وأنا أتلقّى الشمسَ من خلف الجبال، فأدرتُ مقودَ سيارتي وهبطتُ الطريق عينها نزولاً  نزولاً لأنعطف، ها أنذا أنعطف، عن يميني حرجُ الكُزبْرينا فالملعب البلدي ففندق طانيوس، وعن يساري المطعم الذي تنتصب ببابه قامةُ جهّار وتلوّح لي يده أن أميّل لآخذ معه قهوة الصباح، فأخفّف من سرعتي وأنعطف بالسيارة، عبر الشارع، إلى موقف المطعم، والشيء الذي يرغرغ في صدري يلحّ عليَّ أن أفاتح به جهّار لخوفٍ بي شديدٍ أن تهجرني أختُ جان إذا انكسرتْ في الحرب مصر وانكسرت بانكسارها شوكةُ ملّتي.

 

سـمــيــحــة

شيء كأنما انكسر في داخله، فترهّل النورُ في عينيه، وكان من قبل بريقاً نورُ عينيه، ساطعَ الوطأة في عينيَّ، وغارت رقبتُه بين كتفيه، وهي التي كرقبة الديك تتوفّز يمنة ويسرة في الهواء كلّما تلفّت، شيءٌ كأنما انكسر فيه بلا صوت، بلا أدنى صدى لصوت، وهو الذي صوتُه هيمنةٌ على المدى، وعلى القلب والسمع والبصر هو الريح وما تفعله الريح بالقلب والسمع والبصر، ولم أعرف متى ذلك كله بدأ، ولكنه بدأ على الظن ذات صبح أو ذات مساء وهو جالس إلى الراديو يفتل بمفاتيحه بحثاً عن الأخبار التي ذكرتْ مصر وعبد الناصر والحرب مع اليهود وغير اليهود، وظلّتْ بعد ذلك تذكر كل ذلك، كل صبح ومساء من كل يوم، كأنما الأخبار كلّها أصبحت خبراً واحداً ولا من مزيد.

دعوتُ له الله في صلاتي وهو يشرب العرق على السطيحة ليلة أمس، والليلة التي قبلها دعوتُ له الله أن يتوب عليه ويطهّره من الخمرة ومن توابع الخمرة، ورجوتُ الله أن ينصر عبد الناصر رأفةً بجهّار، فحبُّه له لا يخفى عليَّ، وكيف يخفى عليّ وهو الذي، في كل مرة يخطب فيها عبد الناصر، يتسمّر في جلسته لساعات وساعات، يتسمّع ويتسمّع، هازّاً رأسه هـــزّات الإعجاب والإعتزاز، ماسحاً الدموع التي تطفر من عينيه فجأة وتكرج على خدّيه، دون أن يعير انتباهه لنظرات أولاده المملوءة بالدهشة، وخاصة نظرات سامح التي يمتزج فيها التعجب بالحزن فعيناه كأنهما تهمّان بالبكاء.

أول حزن كبير عرفتـــُــه فيه وعشتُه معه، على ألفة الحزن، كما على ألفة الفرح كنت أعيش معه مواسم الفرح، كان حزنَه المفجوعَ على مقتل رياض الصلح في تلك السنة التي قتلتْه فيها الرصاصاتُ في شرقي الأردن أو لعله في مكان شبيه به لم أعد أتذكره الآن. وها هو يحيى أمام عينيّ لا يزال يركض، حافي القدمين، في ثياب البستان، يركض في اتجاه المطعم مذهولَ الخطا، وقد أعيتْه المسافةُ التي قطعها من بيته عبر النهر إلى حيّنا، فلحقتْ به عيونُنا وظنونُنا وهو يلهث صوب المطعم حتى اختفى داخله، لنفهم آخر النهار من جهّار أنّ صدمة الخبر على يحيى كانت أقوى مما كان ليحتمله وحده يحيى فأطلق قدميه للريح ليفضي إليه بالفجيعة ويشركه في الخوف من الأفجع الآتي. ولعل أعجب ما رأيتُه من حزن الرجال على الرجال كان حزنَهما على ذلك الرجل الذي انكسر بموته فيهما شيءٌ أرى بوادر تكراره في وجه جهّار الذي يبدو وكأنه يستبق الحزنَ الذي لم يهبط عليه بعد فهو يتهيّأ له حتى لا يباغته على حين غفلة منه كما باغته في الزمن الأول الحزنُ الأول.

 

منصور

مع أن السردين التشرينيّ سيّد مازةِ العرقِ في ليالي تشرين، كما يقول جهّار، فينتظره هو في كل سنة انتظار العارف بالفصول الحافظِ لخيراتها، فلقد نسي هذه المرة السردين ونسي العادة التي درج عليها كل هذا العمر الذي قضّيتُه أعمل له فيه متدرّباً على يديه في المطبخ أول الأمر إلى أن برعتُ في تحضير الأطعمة والمازات فأبدى رضاه عليّ بأن سلّمني الإشراف الكامل على أمور مطبخه، أديرها في غيابه، كما أديرها في حضوره، تحت عينيه، نسي العادةَ الي درج عليها هذه المرة فلم يتلفن إلى ميرة السمك ويطلب من صاحب الميرة أن يرسل إليه أحسن السردين الذي تجمّع لديه من البحّارة صبحَ يومه بعينه، فيفرده، إذا حضر، في أرض المجلى العريض ويقسمه إلى نصفين، واحدٍ يرسله لأهل بيته والثاني يضعه لي في البرّاد لآخذه معي إلى البيت عندما نغلق المطعم منتصف الليل، لتحضّره زوجتي تيريز لمساء الليلة التالية، حيث تدعو إلى جلسة كأس العرق أختها جورجيت التي ضربتْ عينَها على جهّار منذ توفي زوجها فهي لا تزال تطلّ علينا تستطلع أخبار زياراته لمعارفه من أهل البراميّه لعلها تلتقيه ذات ليلة، كما ولو بالصدفة، في منزل أحدهم وهي تزور نساء ذلك البيت.

لا ألومها على ولعها بجهّار وسيرة جهّار، ولكن ألوم زوجتي التي تشجّعها على ولعها به بدل أن تدلّها على مسيحيّ عازب أو أرمل تتزوجه وترتاح في بيتها بدل هذا الدوران من بيت إلى بيت ومن ضيعة إلى ضيعة. ولا ألومها، فجهّار، في ملّته، كعازر الديّار في ملّتنا، إسمُه على كل لسان وسيرتُه مَحَطُّ اهتمام الرجال والنساء في أمسياتهم وصبحياتهنّ، سواء بسواء.

ونسيانُه السردينَ والعادةَ التي درج عليها في تشرين ليس هو ما يشغل بالي، فبالي مشغول بما يقوله أهل البراميّه عن الحرب في مصر وعن جنون عبد الناصر في تحدّيه لإسرائيل والإنكليز والفرنسيين كأنّ له قدرة على الطيران الذي يدكّون به بورسعيد، أو كأنّ له جيشاً بحجم ثلاثة جيوش، مشغولٌ بالي بما يقولونه كذلك عن قرب نهاية الحرب ونهاية عبد الناصر ونهاية الإعتزاز به، في أهل ملّة جهّار، وعن انكسار عيونهم كلّما بغتتْها عيونُنا في الطرق، فلعلهم يُشْمِلونَ، لتجنّب عيوننا، كما كان يُشْمِلُ أيام الأتراك الأجدادُ من ملّتنا، فيخلو لنا دونهم يمينُ كل طريق.

قلبُه، كلُّ قلبه، على مصر، وأختُ زوجتي وزوجتي قلبهما على سردين تشرين.

 

أم جميل

حينما مررتُ على المطعم لأصبّح على جهّار وأنا في طريقي إلى بيته القريب، كان واقفاً جهّار تحت البلحة الصفراء يرشف من فنجانه العربيّ قهوة الصباح، فهزّ لي رأسه ورشف الرشفة الأخيرة ثم قَلَبَ الفنجان وجعل شفته على حافة الصينية التي على الطاولة تحت البلحة. لم يقل لي ما تعوّد أن يقوله كلما أحبّ أن أبصّر له ليتسلى بما أنقله له عن الفنجان ولكنني فهمتُ رغبته، وإن لم أفهم صمته، فمددتُ يدي وما إن همّتْ أصابعي بفتل الفنجان إلى أعلى حتى بدرتْ منه قولةُ لا، مكرّرةً مرتين، ونبرةُ الحزم التي تعني ما تقول، فرفعتُ يدي وقد سبقتـــــْـــنـي عيناي إلى عينيه لأفهم السبب فما زادتني عيناه إلاّ حيرة من تبدّل عادته، وتذكّرتُ لتوّي قول زوجته لي مرة أن لا أتعجب من تغيّر مزاجه إذا ما تغيّر في تعاطيه معي دونما سبب فهو هكذا، على حدّ قولها. تذكّرتُ قولها، فأسرعتُ بالإستئذان لأمضي إلى بيته فأغسل، كما عادتي مرة أو مرتين كل أسبوع، شراشفَ المطعمِ وفُوَطَ السفرة البيضاء، حيث زوجته تعينني في تسخين الماء ونقل الغسيل في الطّشت وغليه وتفويحه ثم عصره ونشره على طول حبال السطيحة وشدّ الملاقط عليه ثم في ضَبِّهِ عن الحبال آخر النهار وطيّه وسَتْفِهِ على طاولة مخصصة له في زاوية من زوايا غرفة النوم.

لماذا طَبَّ الفنجان ثم رفض أن أبصّر له كعادتي شيءٌ لم أفهمه حتى حدّثتُ به سميحة وحدّثتْني ونحن نشرب القهوة، فاليوم أخذْنا وقتنا في الجلسة وفي الحديث، أسايرها وتسايرني، إذ لم يكن لديهم من الشراشف وفوط السفرة ما يكفي لغسله فتأجل الأمر إلى يوم آخر. حرب مصر أثّرتْ على جوّ الشغل فلم يأت هذا الأسبوع زبائن كالعادة إلى المطعم. هذا ما قالته لي سميحة بصوت خفضتْه حتى لا يسمعها الأولاد الذين كانوا يروحون ويجيئون ويدورون حولنا منتظرين اللحظة التي سأقلب فيها فنجان سميحة وأبصّر لها فتلحق عيونُهم بعينيّ وأنا أدوّر الفنجان بين أصابعي ثم ينحنون عليّ من كل الجهات ليشاهدوا بأم أعينهم الطرقَ المغلقةَ والمفتوحةَ التي أراها والناسَ الراحلين والآتين، والطيورَ التي تحمل الأخبار، والجِرارَ التي تخبّئ الرزق، وكل ما توحي به إليّ بقايا البنّ في الفنجان.

اليوم لا غسيل ولا أجرة غسيل، ولكنّ الرزق لا يُغْلَقُ له باب إلا ويُفتح له آخر، فبعد أن أبصّر لسميحة وأستأذنها بالذهاب، لن أمضي مباشرة إلى بيتي في الهلالية بل سأميّل على بيت كسّاب وأُطَمْئِنُ امرأتَه أنّ الطلب الذي طلبتْه منّي قد مرّ أمرُه على خير، وأن فَنَالَّةَ عُدَيّ التي كنتُ قد أتيتُ لها بها سرّاً من بيت جهّار الأسبوع الماضي لنعمل لها السحر ونقرأ عليها ونشمِّم أطرافَها الحشائشَ المجففةَ التي حرقناها لهذا الغرض، قد أعدتُها اليوم بالسرّ إلى مكانها بين ثيابه بينما كانت سميحة تحضّر القهوة. وحينما تطمئن امرأةُ كسّاب إلى أن السحر الذي دبّرناه لعديّ سوف يسري في بدنه وعقله حينما يلبس الفنالّة فتتغير أخلاقه ويذهب فجأة فيغيب أسابيع لا يعرفون خلالها عنه شيئاً، ليكون المطعم بكل خيراته في عهدة زوجها وحده بدون منافس له كعديّ، حينما تطمئن إلى أن كل ذلك سوف يكون، يدفق الرزق عليّ ليراتٍ طيّ ليراتٍ أحسبها أخذتْها سرّاً من جيب زوجها ونامت عليها كما تنام، وأنام معها، على عمل السحر الذي سأنكره إذا انقلبتْ ذات يوم عليّ.

أنهض من مجلسي لأروح فيقف سامح بالباب ويفرد إحدى يديه حتى يمنعني من الذهاب ويده الأخرى ممسكة بكتاب. يريد أن يصبّ ما تبقّى في الركوة من التفل في فنجان ويطبّه لأبصّر له فيه، فأقول له كتابُكَ فنجانُكَ يا سامح وأنت تقرؤه أفضل مني، فيضرب كتابه بالأرض ويلحّ عليّ فأكرر عليه، حتى تتدخل أمه وتبعده عن الباب، فيرتفع إليّ صوته فجأة وكأنما فجأة تذكّر أمراً أعياه ويسألني أصحيح أنّ جيرانكِ في الهلالية يقولون لكِ أن تذهبي، إذا انكسر عبد الناصر في الحرب، فأضحك لأطمئنه، وقد لمعتْ في رأسي النظرةُ الغريبة لجارتي أم حنــــّــا وهي تردّ عليّ تحية الصباح من وراء قضبان شبّاكها المطلّ على الطريق.

 

حنقير

ما الذي بلاني بالعمل في مطعم خالي، وأمي نصحــتـــــْـــنــي ألاّ أعمل في هذه المهنة التي لستُ منها في شيء وليست مني في شيء ؟ ما الذي بلاني وأخــتــــُــــه نفسها كثيراً ما حذّرتْني ألاّ أعمل معه لأنه صعب الرأس مع أولاده أنفسهم فكيف هو مع غير أولاده ؟ همُّها كان أن أظلّ مع إخوتي في منشرة الخشب لنتابع ما كان أبي يعمله منذ أسّس المنشرة عامَ هربنا من فلسطين إلى صيدا وقضينا الشهور الأولى بعضُنا في بيت جدتي وبيت خالي يحيى عبر النهر وبعضُنا الآخر في بيت خالتي أم إسماعيل في الحيّ الذي بين مدرسة المقاصد وقهوة "رجال الأربعين"، شهوراً قال لنا أبي بعدها إن فلسطين ضاعت وعلينا أن نبدأ حياتنا من جديد وعدّ الليرات الذهبية التي كانت لا تزال معه فكانت تكفي لفتح منشرة الخشب ففتحها ودرّبني أنا وإخوتي على الصنعة التي كان ورثها عن أهله في عكا. منشرة عكا بقيت في عكا، وكان أبي على حقّ لأن السنة التي هربنا فيها من فلسطين لم تتوقف أيامها وشهورها ريثما يتدبر الناس أمورهم، والذين ناموا على حلم العودة السريعة أفاقوا على آخر فلس في جيوبهم ينذرهم بمصير الآلاف التي كان قَدَرُها "مخيّم عين الحلوة" قرب صيدا والمخيمات الأخرى في طول الأرض وعرضها.

العرقُ هو الذي بلاني، فحبّي للعرق كان فضيحةً لي ولأهلي في الحيّ الذي سكنّاه قرب "باب السراي"، داخل المدينة حيث كلّ أحد يعرف كلّ أحد وحيث رائحة الطعام من كل بيت تنشر خبر البيت في الحيّ كله. وقد تختلط الروائح الطالعة من البيوت المختلفة فيضيع مصدر هذه في تلك، إلاّ في حالة العرق فَسِرُّه مفضوحٌ يصير من فم البطحة إلى أنوف الجيران وعابري السبيل في مثل لمح البصر فترتفع من هنا وهناك التلميحات المألوفة بين أهل الجيرة أنّ بيتاً من البيوت يتعاطى أهلُه المُنْكَرَ. ولقد لفت ابنُ خالتي إسماعيل نظري إلى أنّ التلميحات تلك وصلتْ إلى دكانه وكأن الذي أوصلها عَــنـــــَـى أن ينقلها هو بدوره إليّ، فأنكرتُ بالطبع تعاطيّ أو تعاطي أيٍّ من إخوتي العرقَ أو سواه من الخمور، فإسماعيل لا يشرب وحرصه على الصلاة وقراءة القرآن ودراسة الاسلام، كل هذا وضعني في وضع محرج ومنعني من مصارحته بالأمر الذي كان هيّناً عليّ الجهرُ به أمام أولاد خالي جهّار حيث العرق ومازة العرق مألوفة ألفة الخبز واللحم والسمك والتبولة وكل ما يُقدّم للزبائن في مطعمهم الذي حظّهم فيه عظيم لأنه بعيد عن المدينة وأحيائها التي تستكثر عليّ أن أشرب حتى داخل بيتي، بينما الذين يشربون من ميسوري تلك الأحياء لا يجدون حرجاً من تعاطي البطحة والقنينة في مطعم خالي أو مطعم إيليّا في مغدوشة.

المهمّ أنني بُليتُ وانتهيتُ، وخالي هذه الأيام طبعُه لا نُحْسَدُ عليه أبداً، فهو موسوس بالراديو وبأخبار الحرب التي تبثّها من الصبح إلى الليل وكأنْ لم يعد هناك إلاّ مصر وإسرائيل والطيران الإنكليزي. أبي كان على حق، فلسطين ضاعت، فحتى الاذاعة لم تعد تستعمل كلمة فلسطين واستبدلتــــْـــها بإسرائيل. والآن ماذا ينفعني العرق إذا انكسر عبد الناصر وفَقَدَ خالي صوابه فراح يفشّ خلقه بي ويقول لو لم تضيّعوا فلسطين لما كانت هناك إسرائيل ولكنكم بعتموها وجلبتم الحرب على مصر اليوم وعلينا غداً أجمعين.

 

كسّــاب

لو كنتُ ممّن يشيب شعره باكراً لشيّبوا لي شعري، ولكني نجوتُ وما أكاد، فهم كأن الحرب لا تعنيهم من بعيد أو قريب، وإن كان هجومهم على الراديو وقت نشرات الأخبار لا يعادله سوى هجماتهم على وجبات الطعام. كأنما الحرب عندهم فيلم سينما يحضرونه ويدفعون لذلك مرة واحدة، وقد فاتهم أنْ يروا أنّ المطعم تأثّر الشغلُ فيه منذ اندلعت الحرب بين مصر وإسرائيل وحلفائها، تأثّر، لا يوماً أو يومين أو أسبوعاً حتى، ولكن بشكلٍ لم يكن يخطر لي على بال، فكأنّ الناس شدّتْ أيديها على جيوبها حتى لا يفلت منها قرش واحد واكتفتْ بأكل البيت الذي لا يكلّف إلاّ ثمن الأكل. كل هذا أفهمه وأفهم خوف الناس على القرش الذي سترتفع قيمته إذا طالت الحرب وصدق مَثَلُ القرش الأبيض في اليوم الأسود، ولكنّ الذي لا أفهمه هو أبي وإخوتي الذين لم تتغير عادات أكلهم في هذا الزمن الضيّق، وأبي بالطبع هو كبيرهم الذي علّمهم من فنون التبذير تكسيحَ الزيت على صحن اللبنة وصحن الحمص وصحن المتبّل، وصحن الثوم بالزيت والحامض الذي يكسّحونه فوق صحون المجدّرة الصفراء، أضف إلى ذلك نكبةَ الفول، أجل صحونَ الفول التي يصفّونها على أطراف الطاولة ويغوصون فيها بلقمهم التي ما تكاد ترتفع إلى أفواههم حتى يشرشر من جوانبها الزيت وهم شَرْشَرَ الزيتُ أم لم يشرشر تظلّ أصابعهم تقطع الأرغفة وتكوّر اللقم وتكبّرها لتغرف ثم تغرف أكبر كمية من الفول السابح في الزيت، وأنا أنظر بعينين نشف فيهما الماء فما تتحركان حتى ينتهي المشهد الذي أنكى ما فيه خاتمتُه حيث يمسحون من قعر صحونهم ما تبقّى من لمعان الزيت ويلحسون أصابعهم ويتنهّدون وقد فاحت من أنفاسهم حرارة الثوم والبصل التي لم تمنعها من الإنتشار ورقاتُ النعنع التي كانوا يلوّنون بها لقمهم السابحةَ في الزيت.

لو كنتُ ممّن يشيب شعره باكراً لشبت من أفعالهم ومن عدم درايتهم بأمور الحياة، فماذا أفعل الآن بهذا المجنون المتأنق الذي يظن أن مظهره يحلّ مشكلة جيبه فينادي على ماسح الأحذية الذي يعبر الطريق إلى المطعم ملبّياً بأعلى صوته "بأمرك يا بيك" والبيك عديّ يقبض هذه العملة فترتفع قامته فجأة ويتصرّف حسب أصول الباكويّة فيجلس على كرسيّ ويمدّ بإحدى رجليه إلى الأمام فيأخذها ماسحُ الأحذية بيديه ويركّزها على صندوقه ويمرّر على فردة الحذاء الفرشاةَ الناعمة من الأمام والخلف والجانبين ثم يلفّ على إصبعين من أصابعه الخرقةَ التي يغمسها في علبة دهن اللوز ويشبّعها به ثم يمسح بها كامل الحذاء ويعيد الكرّة ويعيدها حتى يصبح الحذاء جاهزــاً للتلميع، فيرفع عن صندوقه رِجْلَ عديّ ويضع مكانها رجلَه الأخرى ويفعل بفردة الحذاء الأخرى ما فعله بالأولى ثم يعود إلى الأولى بالفرشاة الناعمة فيصقلها ويظل يصقلها حتى تلتمع آخر الأمر فَرْدَتا الحذاء، تماماً كما يلتمع الزيتُ في الصحن. إذ ذاك فقط يحسّ عديّ بالرضا ويقلب عينيه في حذائه، يتأمل لمعانه من كل الزوايا ثم ينهض عن كرسيه بطريقة تتناسب مع لمعان الحذاء وأهميّة اللحظة ويضع في يد ماسح الأحذية أجرة مسحتين اثنتين، فيرتفع الصوت من جديد "بأمرك يا بيك" ويتمشى عديّ، كما هو يتمشى الآن في طول المطعم وعرضه، وكأنّ قيمته ازدادت بلمعان دهن اللوز.

وأنا أفهم هذا الجنون لأنني تعودتُ عليه، فهو حولي، يأتيني من كل صوب وفي كل حين، ولكن كيف أرضى به، فلا يجنّنني، وانقطاعُ الزبائن عنـــّــا هذه الأيام قد أفسد اللحومَ والأسماكَ في البرّاد فإضطررنا، حينما لم تعد تُحتمل رائحتُها، إلى رميها في سطل الزبالة جاطاً بعد جاط بعد جاط ؟ عقلي يقول لا وعيناي يجفّ فيهما الماء. وغداً أو بعد غد على أكثر تقدير ستعود لجنة البلدية لجمع التبرعات للمجهود الحربي في مصر، وإخوتي، من باب النكاية، سيحاولون إحراجي أمام اللجنة ويلحّون عليّ أن أتبرّع إلاّ أنني هذه المرة لن أقع في الفخّ وسأقول لهم أن يتبرّعوا بالنيابة عنّي برشّةٍ من رشّاتِ الزيت التي يكسّحون بها صحونهم إن كان ذلك يُميل دفّةَ الحرب لصالح عبد الناصر.

 

سـمـيّــة

صحيح أنها لا تفتح فمها وتسألني مباشرة، ولكنني كلما جئتُ لزيارتها تنفتح عيناها على بدني وتبدو وكأنها تفتـــّــشني بحثاً عن الشيء الذي لا تفتح فمها لتسألني عنه، كأنما الحرج يمنعها، أو كأنما خوفها من ألاّ أحمل يغلق فمها على السؤال، يخبّئه عني لأنه لا يجوز البوح به فهو من طينة الأسرار التي لا ينبغي لها أن تختلط بالهواء. آخذها وآخذ نظراتها بلباقةِ المتغافل وأقول لنفسي عذرُها أنها أمّ وتريد أن تطمئنّ على زواجي بصبيّ أو ببنت، فبدون الأولاد تظل الزوجة كأنها لم تتزوج بعد، فَدَعْسَةٌ لها داخل البيت ودعسةٌ خارج العتبة. عذرُها أنها أم ومصيبتها فيّ أنني بنت يصدق عليها المثل أنَّ هَمَّ البنات للممات. أتغافل وأسألها عن أبي وإخوتي فتفتح لي صدرها وتخبرني عن قلقها على أبي الذي، على حدّ قولها، انكسر في داخله شيء، شيء تحسّه في وجهه ولا تعرف ماذا تسمّيه، فأشرح لها أن زوجي كذلك ركبه الهمّ منذ بدأت الحرب وصار يتوتر كلما تلفن له أحد من زبائنه المسيحيين ويلعن ضرورة السعي وراء الرزق التي تجبره على الذهاب إلى منازلهم لضرب الإبر ولتحمّل نظراتهم التي، رغم مسايرتهم له، تفضح شماتتهم اللبقة بتغيّر دفّة الحرب لصالح اليهود والإنكليز والفرنسيين. تهزّ أمي برأسها وتقول "ولا تأمنوا إلا لمن تبع دينكم" فأقول هذا بالظبط ما يقوله زوجي، ولكنّ المصلحة تقضي بالتحمّل والصبر حتى ينصر الله عبد الناصر، فتُصان كرامتنا ويبعد الله الذلَّ عنـــّــا جميعا.

نعم نعم لباقتــُـــهم تقتلني، فحتى في هذا الوقت العصيب لا تفوتهم اللفتةُ الطيّبةُ فتحدّثني نساؤهم على التلفون حديث الألفة ويسألنني عن صحّتي ويطرين على حلاوة صوتي ويدعونني كعادتهنّ إلى زيارتهنّ وكأنّ الدنيا بألف خير، فأضطر إلى ردّ اللفتة باللفتة وأتحامل على نفسي فأصرّ على الحديث حتى لا يشعرن بأنني أريد اختصار المكالمة. طبعاً لن أصارح أمي بمثل هذه الأمور، فهي يكفيها الذي فيها من همّ أبي الذي بدون حرب إرضاؤه في كل شيء من سابع المستحيلات، فكيف وقد تدخّل الآن الطيران الإنكليزي وقلب الدنيا على رؤوسنا ؟ ولقد فعلتُ خيراً إذ قلتُ لزوجي ألاّ يأخذ في الحديث ويعطي مع أبي إذا جالسه وفُتِحَتْ سيرة مصر حتى لا يتطور الحديث، من دون أن يدريا، فيخوضا في سيرة النوايا التي تسمّ البدن وتسوّد علينا عيشتنا. خيراً فعلتُ، وخيراً سأفعل إذا استفسرني أبي عن زبائن زوجي من الملّة الأخرى فطمأنتُه أنّ الدنيا لا تزال بألف خير وأن الناس لا يزالون يحبّ بعضهم بعضاً ويتمنى الخيرَ بعضُهم لبعض. هذه أفضل طريقة لقضاء النهار عند أهلي الذين لا يعرف الواحد وهو بينهم متى تفلت منه كلمةٌ في غير محلّها فتقوم القيامة وينتصب الميزان.

أمي يدها تدور بالملعقة في ركوة القهوة وعيناها تفتـــــّـــشان في بدني عن الشيء الذي لا تفتح فمها لتسألني مباشرة عنه.

 

أنطون الخوري

حَطَّ كأسَ العرق من يده على طرف الطاولة وقَلَبَ شفته السفلى إلى داخل فمه فعضّ عليها ثم مصّها للحظة ثم رفع عينيه إلينا على مهله فأدركتُ للتوّ أنها لم تكن كأسه الأولى. شيء في عينيّ بدا وكأنما نبّهه إلى ما خطر لي فلمع في عينيه الاحمرارُ الذي فيهما واتّسع في وجهه المدى، فجفونه تدوّرت فجأة وانتفخت وجنتاه فوق شفتين تمدّدتا فَطَالَتا ولم تنفرجا عن الابتسامة التي تكلّفها وجهُه تكلّفاً، وكنتُ أعرف ذلك فيه، فأدركتُ أنّ عينيّ خانتاني أكثر مما ينبغي وأنه تزكزكتْ عنجهيّةُ الشرّيب فيه وأنه على وشك أن يرفع إصبع يده فيقيسني من رأسي إلى قدميّ ويقول "لو كنتَ كلّكَ، بطولكَ وعرضكَ، عرقاً، لشربتُكَ ومزمزتُ عليكَ، وسألتُ هل من مزيد". وطال انتظاري لحظات لحظات، فلم أسمع سوى صوتي في داخلي يقلّد صوته، وصوتُه كأنما يطلّ فيقف على أطراف شفتيه في تردّد لم أعهده فيه. الكلمات كان حضورها واضحاً على مدى وجهه، والذي لم يكن واضحاً هو معناها لأنها ظلّت على حافة شفتيه وكأنما يزن بعضها بعضاً. يزن بعضها بعضاً ؟ إذن عازر الديّار يشغل بالَه أمرٌ أكبر من هواجسي، وإذن إنما أرسل في طلبي وطلب فيليب ونعمة ومسعود لنجتمع إليه على كأس عرق لأمر لا علاقة له بالكأس ولا بالعرق.

كان ذلك بعد الغروب تقريباً، وشريطُ الكهرباء الممدود كحبل غسيل من عمود إلى عمود في زاويتين من زوايا السطيحة فوق معمل الثلج كانت لمباتُه الثلاث تضيء السطيحةَ كلها، فخلتُ أنه سيدعونا إلى الإنضمام إليه فنجلس حول طاولته، كما عادتنا حينما تجمعنا الكأس، ولم تُخِفْني برودةُ المساء وقد دخل علينا تشرين الثاني، فَفَوَّتَ عليَّ نهوضُه من كرسيّه التقلّبَ طويلاً بين أفكاري واحتمالات أفكاره، فما انتبهنا إلا وقد استدار بجسمه استدارةً كاملة فأعطانا في آن معاً صمتَ فمه وصمتَ قفاه ومضى أمامنا ففتح باب البيت المشقوق ودخل فتتابعنا خلفه واتّخذنا مجلسنا عن يمينه وشماله في الغرفة التي أَلِفَتْنا وألفناها فهي جزء من أعمارنا التي انشطرتْ بينها وبين السطيحة في جلسات الليل والنهار، والصيف والشتاء، وفي كل مواسم الأعياد ومواسم الخلافات والمصالحات التي كانت تستدرجنا إلى الإجتماع بالديّار ليكون لنا الميزان في شؤون مصالحنا وأهوائنا. الغرفة التي تقاسمْنا كنباتِها كانت مهيّئة لاستقبالنا، فالإسكملات كانت أقرب ما تكون إلى الكنبات، ما كان يعني أن زوجة الديّار وخادمتها كانتا منهمكتين في تحضير المازة ريثما نكون قد وصلنا. وسرعان ما انفتح باب من الداخل وأطلّتْ علينا أمّ إسحاق ووراءها الخادمة تحمل الصينية الخشبية التي تطمئنّ إليها عيونُنا، على طول أُلْفَتِنا لها، فحيّتْ وسلّمتْ وأهّلتْ بنا وانهمكت يداها بصفّ الكؤوس على أطراف الاسكملات ثم بتوزيع صحون المازة عليها توزيعاً جمع على كلٍّ منها تشكيلةً من شخاطير اللبنة والجبنة والزيتون والكبيس والكبّة النية والحرّ الأخضر والفليفلة والبندورة والتبولة والحمص المتبل، والمقلي من البطاطا والباذنجان والقرنبيط، والبزر والفستق، وكذلك الخبز المحمّص، كل ذلك ترتّبه وتنسّقه يداها بيسرِ الألفة التي بينها وبين مازة العرق، ودون أن تتوقف شفتاها عن الابتسام والترحيب والسؤال عن زوجاتنا وأولادنا، فنحن عيونُنا نهبٌ بين أصابع يديها وحركات شفتيها من لحظة دخولها علينا إلى لحظة انسحابها مع الخادمة إلى الغرفة التي أتت منها. هذا والديّار ينظر بعينين انسحب منهما الضوءُ فوق فمٍ مطبق، فحضورُه وغيابُه تلابسا في ملامح وجهه.

ثم انفرج المدى على وجهه وهو يرفع يده بكأسه فارتفعت لها كؤوسُنا وتندّتْ شفاهُنا بسلاسة الطعمة والفوحة، وأخذتْنا هنيهةُ صمت بدا معها وكأنّ أفواهنا ضَنَّتْ على الرشفة الأولى أن يخالطها من غير جنسها مسرّةٌ من مأكل أو كلام. وحينما تنحنح الديّار نحنحةً لفتتْنا جميعاً إليه، تذكّرتُ من جديد أنه لغير الكأسِ والعرق أرسل في طلبنا للقائه.

ذكّرنا ليلتها بعلاقته برياض الصلح، التي كان سعى إليها سعياً فتمّت له على يد جهّار الجمري، لا على يد أحد سواه، وذكّرنا بالوليمة التي أقامها له، وهو في عزّ مجده في رئاسة الوزراء، فجمع له من أهل ملّتنا وجوهَ عائلات البراميّة والهلاليّة وعبرا، جمعاً عجب له مطرانُ صيدا حينما وصل بجمعه هو من وجوه مسيحيي المدينة للمشاركة في الاحتفاء بالضيف الكبير يومذاك.ولعل أهم ما أراد أن يذكّرنا به هو أنه طلب شخصياً من جهّار أن تقوم أمه، أمّ يحيى وجهّار، بطبخ طعام الوليمة، وأنه لم يفعل ذلك لأن نساء ملّتنا يقصّرن عن نساء الملّة الأخرى في هكذا مناسبات، ولكن ليقول للجميع، على طريقته هو، أنّ المناسبات الكبرى لا ملّة لها إلاّ ملّة الشراكة، في أفراح الحياة كما في أحزانها، وأنّ الكبير في الجيرة كبير للجميع، وأنّ جهّار، في علاقته الحميمة برياض الصلح، كان لنا جميعاً، كما نحن له ولملّته جميعاً في علاقتنا الحميمة بسياسيّي ملّتنا. "الجيرةُ ملّةُ الخلاص" كانت آخر كلماته. ولأننا نعرفه في حلو العيش ومرّه لم يكن عسيراً علينا فهم مراده. حديثه عن رياض الصلح كان إشارة إلى عبد الناصر، الذي حلّ في قلب جهّار مكان الرجل الآخر، وإلى الحساسية الجديدة التي نشأت، منذ اندلعت الحرب، بين الذين قلوبهم في مصر والذين قلوبهم في فرنسا وبريطانيا من أهل الجيرة التي جمعتْنا، وتجمعنا لا تزال. ولأننا نعرف أن الديّار لا يجمعنا لمثل هذا الحديث إلا ويتوقع منــــّــا أن نترجم كلماته إلى أفعال، لم يكن عسيراً علينا أن نفطن إلى نيّته أن يصطحبنا من الغد أو بعده ربما إلى مطعم جهّار لنتناول معه ومع جهّار قهوة الصباح فنتحدث في كل أمر إلا أمر الحرب المتأرجحة في هيجاناتنا وسكناتنا، منذ أن بدأت الحرب، بين الكلمات الكلمات والنوايا النوايا.

"الجيرةُ ملّة الخلاص" كانت آخر كلماته. آخر كلماته، بالطبع، ونحن لا تزال تجمعنا جيرة الكأس والعرق والمازة. ولكنه حينما خرج معنا إلى السطيحة ليودّعنا ووقف يصافحنا واحداً واحداً على حافة السلّم، شدّ بيده اليمنى على يدي ورفع سبّابة يده اليسرى، يقيسني بها من رأسي إلى قدميّ، وزمجر صوته الضاحك الآن في وجهي أنْ لو كنتَ كلّكَ عرقاً، يا ابنَ الخوري، لشربتكَ ومزمزتُ عليكَ وسألتُ هل من مزيد ؟

 

أبـو الـولـيــد

قدماي اللتان ظننتُهما راسختين في الأرض تسحبهما الآن من تحت جسدي دورةُ الدواليب، كما في غبشةِ كلّ فجرٍ، وكأنني ما نَيَّفْتُ على الأربعين إلاّ لأُفجع بطمأنينة النوم التي كان العرقُ والنبيذُ يخمّرها في رأسي وفي كل جسدي تخميراً تنعدل به حواسي ويعتدل به مزاج الليل والنهار، والصحو والهجعة، في هذا العمر الذي لا يفتأ يباغتنا بأنفسنا التي معها قضّينا العمر ولم نتعرّف إليها ولم نتبين ملامحها إلاّ في حالة من الاسترخاء الذي يمرّرك بين الصحو والنوم، حالةٍ هي أقرب ما تكون إلى حالة الطفْو التي طَفَوْتُها على تمايل موجاتٍ كأنها هدهداتُ الضباب، في تلك العشيّة العتيقة التي جمعتْني في بعلبك بضابط في تهريب المخدرات استفزّني في جلسة شراب مع رفاق في المصلحة لنا فتمادت بي عنجهيةُ الشباب، وأنا في عيونهم مَنْ أنا، فأخذتُ من يده السيجارة التي كان قد فَتَّ فيها الحشيشة فسحبتُ منها السحباتِ الطوالَ التي تغلغلتْ عميقاً في صدري ورأسي، وعميقاً عميقاً لم تزل تتغلغل فيَّ حتى فتحتْ فيَّ عينين لم يكونا بعينيَّ وبهما طوّفتْني في انحداراتٍ كالتي تنهار مسافاتُها في عمق الوديان على طرق إقليم الخروب، لتنتشلني كما تُنتشل الموجةُ فوق سطح البحر، لا لتظلّ حيث تجد نفسها بغتة، ولكن لتعيش لحظاتِ الدهشةِ الأولى التي يعيشها الطفل وهو يكتشف في مشيته الأولى سحرَ الطفوة الأولى في الهواء.

لا قدماي ولا الصخرُ المنحدر إلى شاطئ البحر راسخ بعد اليوم في الأرض، وإنما هي تصوّرات لنا عن أنفسنا وعن الصخر تزلزله حينما تشاء الأرضُ بزفرة من زفراتها حرّى، ولقد تزلزلتْ بي الأرض، وإن تكن الزفرة الحرّى زفرتي أنا، فخطواتُ جانيت، وهي تبتعد عنّي في آخر سهرة عرقٍ دعانا إليها أخوها جان، كانت خطوات حزم، كما تخطو الفَرَسُ، لا خطوات امرأة ينهدل على جسمها الفستانُ انهدالَ الرذاذ. شيء في قدميها زلزل الأرض تحت قدميّ فطار العرق من رأسي وتجمّد الثلج في الكأس بياضاً يطفو في بياض. وتجمّد ليلتها كلّ شيء حولنا في الليل، حتى الحديث الذي كان يشتعل بأخبار الحرب. ولم تعد هي إلينا لإتمام السهرة معنا، فانتظرتُ وقد أسكتني الحرجُ فلم أتجرّأ على ذكر اسمها ولو مرة واحدة. والتفاتتي الأخيرة إلى نافذة غرفتها وأنا أهمّ بدخول سيارتي، جمّدت الدم في عروقي فوجهها كان هناك، ولكنه لم يكن ينظر إلينا فكأننا لم نكن ضيوفهم، وكأننا لم نكن، ونحن نهمّ بالرحيل، ننتظر من أهل الدار اللفتةَ الأخيرة التي هي حقٌّ للضيف وزوّادتُه في الطريق.

 

جهّار كان جارحَ النصح صادقَه فلم يلفّ ويدرْ ليهدئ من روعي، بل هجم عليّ برأيه هجوم الذي خَبِرَ النساء في شتى حالاتهن وأدرك بالخبرة أنّ ضعفَ الرجل في الغزل غير ضعفه في الخصومة، وأن المرأة تميّز بينهما فتستسلم للأول وتستبيح الثاني استخفافاً بصاحبه، هجم عليّ بهذا ولم يُعِرْني جَهَروتَه وجبروتَهُ لأواجه بهما الضعف الذي عرّاني حتى من القدرة على الاعتراف بأنّ ما كان منها استدراجٌ لي إلى ساحة الخصومة التي ليست الآن لصالحي، وأخبار الحرب على ما هي عليه، لا تبشّر إلا بشبح الفاجعة.

لَفّةُ "كعب الصخر" تلفّ بسيارتي، فتحوّل وجهي من الشمال إلى الشرق. هذه المرة لن أخذل الفجر ولا أظنّه يخذلني، وحينما ألتقيه تحت زجاج نافذتها سوف أستحضر جهروتَ جهّار وجبروتَه فآخذها عنوةً من غفلة النوم بدَقّةٍ تجيب عليها بحبٍّ أو بحرب.

 

منصور

جَمْعَتُهُم الليلةَ ليستْ على فضاوةِ بالٍ، فأبو الوليد مرّ علينا باكراً صبيحة هذا اليوم واستأذن جهّار في أن يترك فَرْشَ السردين التشريني الذي كان في صندوق سيارته لنقشّره، أنا وحنقير، ونَصُفُّهُ في جاط كبير أو جاطين في البرّاد حتى يأتي الليل. وكان قد طلب أيضاً من جهّار أن يرسل مرساله إلى أفراد الشلّة ليلتفّوا كعادتهم أول الليل حول الطاولة التي، لطول عهدها بهم وعهدهم بها، صِرْنا نسمّيها طاولتهم وكأنها مسجّلة بإسمهم، نعرف ذلك كلّنا، ولا نتصوّر سواها المقصود إذا ألمح لنا أحدهم أنْ هيّئوا لنا الطاولة هذا المساء. لأمر لم أفهمه حينما حملتُ فَرْشَ السردين ودخلتُ به إلى المطبخ وقلبتُه رأساً على عقب فانزلقت السردينات بعضها فوق بعض في أرض المجلى العريض، جلدُها يلمع تحت لمبة الكهرباء، لأمرٍ لم أفهمه وقتذاك ولم أزل أقلّبه في رأسي طوال النهار، ظلّتْ صورةُ أبو الوليد تراودني وهو يتحدث إلى جهّار متجنباً وجهه وكأنما يحاذر من أن تلتقي عيناه بعينيه. وكيف تقبّل الأمر جهّار ببساطة لم أعهدها فيه كان الشيء الذي لم أفهمه، فهو الذي يحرجه أن يحمل أحد من شلّته طعاماً معه أو شراباً إلى المطعم إذا كانت انعقدت نيّتُهم جميعاً على ليلة شراب. حينما يأتي أحدهم منفرداً ليشرب بطحته ويمضي، كان يتغاضى عن حمله معه شيئاً من فاكهة أو خضار من قطاف الموسم، خاصة إذا كانت من أرضه أو من البستان الذي ضَمِنَهُ لسنته. عن ذلك كان يتغاضى فهو مثلهم نشأ في البساتين ويعرف لهفة ابن البساتين إلى الأكل من نتاج أرضه وتعبه، فلذلك طعمٌ خاصّ لا تساويه أطعمة الدنيا كلها. وهذا لا علاقة له بما فعله أبو الوليد، فالسردين ليس من بستانه ولا من بحره، ومعنى ذلك أنه اشتراه، إشترى الفرش كله، وكلّ سردينة أفْتَى من أختها، لا يقلّ طول الواحدة منها عن شبر. شيء لم يبح به الأول ولم يستفسر عنه الثاني، أفهمني أنّ بينهما أمراً لا يعرفه ثالث وأنهما متفاهمان على صمت عسى أن تكسره الكأسُ بعد الكأس متى اجتمع شملهم حول الطاولة.

كسّاب فتح البرّاد مئة مرة وتأمّل السردين الممدّد في الجاط الطويل، نظيفاً يلمع جلدُه في ضوء الكهرباء، كلّ سردينة مثل ليرة الذهب، وقد أُفرغتْ من أحشائها وقُطعت رؤوسُها، تأمّل وتأمّل، ورأسه يتمايل يميناً وشمالاً فيما يشبه الأسف الذي تؤكّده نظرةُ عينيه الحائرة بين الحزن والاستغراب. وحينما سألتُه عمّا يشغله، هزّ رأسه طويلاً وقال نحن نرمي السمكَ واللحمَ الذي مضى عليه أكثر من أسبوع في البراد فَعَفَّتْ رائحتُه، لقلّة الزبائن هذه الأيام، وأبي وشلّة الصّرْف يأتوننا بأحسن سردين من ميرة السمك ليكونوا زبائن المطعم هذه الليلة فلا نربح منهم إلاّ ثمن بطحات العرق وبعض الموايز التي يطلبونها، اللهم إلاّ إذا نَفَخَتِ العنجهيةُ في رأس أبي وغمزني أن لا أحاسبهم بشيء وكأنّ مشاركته لهم في أكل السردين تعفيهم من ثمن ما طلبوه.

ما يجري عذابٌ لكسّاب، ربما لأنه لا يشرب، حينما يشرب، إلاّ وكأنما شفتاه تعدّان الرشفات رشفة رشفة، ولأنه، على عكسهم، يطول أخْذُهُ للكأس الواحدة حتى ليظنّ الواحد منّا أنّ مستوى العرق فيها يظل هو هو فلا ينقص شيئاً إلاّ بعد عدّة رشفات، كل واحدة منها ليست بأكثر من بلّةٍ لشفتيه. وكيف تكون أكثر من بلّة وشفتاه على بعضهما في ضمّةٍ لا تسمح لطرف الكأس بالمرور بينهما؟ ولولا أنه، حينما يرفع كأسه إلى فمه، يلوي برأسه قليلا إلى الوراء، مغمضاً عينيه، شادّاً ما بين حاجبيه، لما كان لأحدنا أن ينتبه إلى أنه بالفعل يتعاطى الشراب. ولو أنه يشرب مثلما يشربون، فلا يعدّ ولا يتأنّى، بل يترك نفسه على هواها كما يتركون، لفعل برأسه العرقُ مثلما يفعل بهم ولما تأسّف على السردين ولا على سواه.

الليلة حينما أحكي لزوجتي حكاية السردين ستذكّرني بأختها التي لا تزال تمرّ علينا تستطلع أخبار جهّار. ولكي أحرقص جورجيت، سآخذ معي، في قلب رغيف، أربع أو خمس سردينات مقليّات، دون أن ينتبه أحد، لتتأكد أن جهّار يأكل السردين في مطعمه هذه المرة فلعلها تحلّ عن ظهرنا قليلاً، فتنساه وتفتش عن مسيحي مثلها أعزب أو أرمل تتزوجه وتنضبّ في بيتها بدل دورانها من بيت إلى بيت ومن ضيعة إلى ضيعة.

سأفرم البقدونس الآن لأعمل لهم صحنيْ طرطور بطحينة، فحنقير ليس من جيرتنا، وكغريب عن عاداتنا، فهو لم يتدرب بعد على أصول فَرْمِ البقدونس خصيصاً للطرطور، ولعله كان يرى أهله في عكا يفرمونه بطريقة أخرى، أنعم أو أخشن، فهو يتلبّك كلما اضطرّ إلى القيام بهذا الأمر. لا ألومه، فالخبرة لها حقّ، وكل جيرة لها طريقتها في تحضير الأكل، وأهالي عكا وحيفا والقدس، كلهم ومن كل الأديان، يفرمون الملوخية فرماً ناعماً، أنعم من فرمنا لملوخيتنا، ويطبخونها بحيث تكون مرقتها أكثر من مرقتنا. هكذا، هكذا البقدونس يُفرم، على الطريقة التي علّمنيها جهّار والتي ليست تختلف عن طريقة أهلي وزوجتي وكل جيرتي في البرامية. ولن أنتظره الآن ليتعلّم مني، فالوقت يمشي، وقلي السردين سيأخذ مني طرفاً من السهرة لأنهم يريدونني أن أبدأ بالقلي حينما يبدأون هم بالشراب حتى يتسنى لهم أن يأكلوه مباشرة عن النار، مع الخبز المقلي بزيت السمك. وجهّار يعتمد عليّ في القلي فهو الذي علّمني كيف أصفّي السمكَ والسردين من آخر نقطة ماء وأملّحه حبّة حبّة من قلبه ومن جانبيه ثم أحمّي الزيت ولا أضع فيه السردين حتى أجرّب حماوتَه فأرمي في الزيت بشرحة خبز فإذا ماعَتْ ولم تتيبس بسرعة ويصبح لونُها كجانح الدبّور، أنتظر دقائق أخرى أمسك بعدها بسردينة بين إصبعيّ وأغطّس ذنبها في الزيت فإذا خشّ الزيتُ خشّة قويّة أترك السردينةَ تغطس كلها في المقلى وأتبعها بأخرى وأخرى وأخرى. بقدونس الطرطور انتهى الآن، فلأضعه جانباً ريثما أدقّ الثوم. تحضير الطرطور له أصول، وأذكر كيف وقف جهّار مرة فوق رأس حنقير وقد وضع حنقير الثوم المدقوق والحامض والبقدونس والطحينة، كل ذلك دفعة واحدة في الجاط الغميق وأخذ يخلط ويخلط حتى انتهى الأمر إلى غير ما يحبّه جهار فأخذ منه الجاط وأفرغ محتوياته في سلّة الزبالة وقال له لو لم تكن ابن أختي لألحقتك بالطرطور. جهّار دقيق إلى درجة لا تعرف أبداً إن كان ما تفعله، حتى وإن كنتَ تفعله على طريقته، في النهاية سيرضيه. فالملح قد يكون أكثر مما ينبغي أو الحامض أقل مما يجب أو الطحينة أكثر مما يحتمله البقدونس. دقيق جداً جهّار، وهو إن لم يرض عنكَ من الأساس ويثق بك، فأنتَ دائماً موضع شكّه ونقده، هذا إذا لم يفلت عليك لسانُه، وربما يدُهُ. إنتهيت الآن من عصر الحامض وخلطه بالثوم المدقوق، فلأضف قليلاً ثم قليلاً من الطحينة لينعقد بها الحامض فيجمد شيئاً فشيئاً. وكما علّمني جهّار، الآن أضيف البقدونس، شيئاً فشيئاً، إلى الطحينة، وأحرّك يدي بمدقة الثوم، دائرةً فدائرةً فدائرةً، ثم أحرّكها، دائرةً فدائرةً فدائرةً، بطريقةٍ معكوسة حتى يتم خلط الأشياء بعضها ببعض خلطاً ينسيك أجزاءها ويجعلها جاهزة للصبّ في الصحون. ولكن يجب أن أذوقها قبل صبّها. إصبعي تغوص في طرف الجاط وترتفع بما علق بها من الطرطور. أذوقه بصمت. أهزّ رأسي وأصبّه في صحنين مدوّرين.

ضحكةُ أبو الوليد تدخل علينا قبل أن يطلَّ هو فأعرف أنه وصل لتوّه وأنه يتجه الآن نحو باب المطبخ، كعادته كلما جمعهم أول الليل موعدٌ تواعدوه على مازة وعرق. قبل أن تلمحني عيناه أخفي صحنيْ الطرطور لأنني أعرف أنه سيستحلي وستغريه الرائحة بمدّ إصبعه ليذوقه، ومَنْ يثني أبو الوليد إذا طابت له الطعمة، وستطيب له بالطبع، عن العودة إلى الصحن مرة بعد مرة بعد مرة ؟ نجوتُ ونجا الطرطور من عينيه، فهما، ها هما، ترتفعان إلى مرتبان كبيس اللفت وتنزلان عنه إلى جاط البندورة فجاط الخيار الأخضر، فالفجل المقطّع والمغمور بالماء في جاطه العميق. عيناه تمرّان على كل لون وشكل ولا يفوتهما صحن أو جاط أو مرتبان، فبينهما وبين المطبخ ألفة عمر. وكما كنت أتوقع، يسألني عن الطرطور للسردين فأقول له ألاّ يشغل باله وأطمئنه أنني سأحضّر الطرطور ريثما يحمى زيت السمك حتى تظل رائحة البقدونس في زخمها الأول كأنها مقطوفة الآن من الحقل، فيهزّ رأسه وتظل عيناه تنبّشان الزوايا والخفايا، تبحثان عن مخبأ كذبتي التي لم يقبضها كالعادة. ولو أنه يكتشف الآن أنني خبّأت الصحنين تحت المجلى على الأرض خلف سطل الزبالة، لما كنتُ أعرف ماذا يفعل وقتها ولا ماذا يقول. ينقذني صوت جهّار داخلاً علينا قبل وصوله إلينا فيلتفت أبو الوليد صوب الباب ويلتقي الرجلان. يفتح جهّار باب البرّاد ويسحب جاط السردين فيناولني إياه ويلمح إليّ أن أتدبر أمري حتى يكون كل شيء على التمام. يخرجان وأبقى في المطبخ مع حنقير الذي يرفع الصحنين من مخبأهما ويضعهما في أقصى زاوية من زوايا المطبخ، ثم يبدأ بقلي البطاطا فأشعل أنا النار تحت مقلى السمك الغميق المدوّر وعقلي لا يزال يحدثني بأن بين جهار وأبو الوليد سرّاً لا يعرفه ثالث وأن فرش السردين لا ريب له قصّة يعرفانها هما وأتحيّر في تخمينها أنا. بعد أن أنتهي من قلي السردين سأحمل الجاط بنفسي وأضعه في وسط الطاولة وأظل أحوّم مع كساب حولهم، أسألهم إن كان كل شيء على ما يرام وأعود فأغيب في المطبخ ريثما يكونون قد أكلوا شيئاً من السردين فأدخل عليهم ثانية لأطمئنّ على رضاهم عن قليه وعن الطرطور الذي لا بد منه معه، وأحوّم حولهم فلعلّ طرفاً من أحاديثهم يكشف لي سرّ المناسبة التي ما فَرْشُ السردين إلاّ احتفال بها، ولعلني أعرف إذا كانت بقيّة الشلّة شريكةً في ما تخفيه منذ الصباح عينا أبو الوليد وصمتُ جهار.

كلّ سردينة مثل ليرة الذهب، تلمع تحت الضوء في يدي وأنا أرفعها من الجاط إلى المقلى. والخشّة التي يخشّها الزيت وهو يغمرها ثم يفرقع من هنا أو من هناك لا تلبث أن تهدأ شيئاً فشيئاً فتظهر السردينة من جديد سابحة على طولها، يدفعها الغليانُ هذه الناحية وتلك فيلصق ذنبُها بذنب سردينة أخرى أو يلصق جلدُها بجلدها فألقط كل واحدة منهما بملقط وأفصلهما عن بعض وأظل أفرّق بينهما حتى تذهب عنهما الطراوةُ وتشتد كل واحدة منهما وقد أنضجتْها حماوةُ الزيت.

في الجاط الذي على شكل شخطورة كبيرة أصفّها حبّة حبّة، أعلاها، حيث انفصلتْ رؤوسُها عنها، يغطّي أطرافَ الجاط، وأذنابُها تنحدر إلى قلبه حيث تتلاقى جنباً إلى جنب كأطراف الأصابع. أزيّن وسطَ الجاط بقطع من الخبز المقلي وأملأ منه صحناً آخر كبيراً لأنهم لا يأكلون السمك بدونه. الآن انتهتْ مهمتي الصعبة، وصعبةٌ هي بالتأكيد لأن الذي علّمني القلي سيأكل معهم ويحكم. ولكن لن أضيّع مزيداً من الوقت، فهم بانتظار السردين التشريني، سيّد مازة العرق، على حد قول جهّار، وأنا على أحرّ من الجمر لأحوّم حول أحاديثهم أتسقّط سرَّ المناسبة التي أتت إلينا بالفرش على غير ميعاد. ولتنتظرْ مع زوجتي أختُها جورجيت إذا شاءت فالستّ سردينات التي خبّأتُها لها في قلب رغيف ستجعلها تيأس من انتظارها لجهّار وتلعن تشرين وسردينه.

غيّر مكانَه أبو الوليد على غير عادته، فهو جالس بين أبو سعد وعابد البرّ، وقد كان لا يجلس إلاّ على رأس الطاولة، تماماً مقابل جهّار. كل وجهه يلتفت إليَّ وأنا أتقدم نحو طاولتهم، وكسّاب ينظر إليّ مستغرباً خروجي من المطبخ بدل أن أدقّ له الجرس ليأخذ جاط السردين بنفسه. أتجاهل نظراته وأنحني فوق الطاولة قليلاً فأفرّق صحون المازة التي في الوسط وأفسح لجاط السردين المكانَ الذي يليق به. الله يعوّضك البركة يا أبو الوليد على هذه السردينات، يقولها أبو سعد ويرشف من كأسه رشفة عرق ثم يضع الكأس في مكانها لتتناول يدُه الأخرى السيجارةَ من المنفضة فيرفعها إلى فمه ويأخذ منها نفساً عميقا. أبو سعد حبّيب كأس حبّيب سيجارة، يشرب ويدخن أكثر مما يأكل، بعكس أبو الوليد الذي بين اللحسة واللقمة يأكل مرتين أكثر مما يأكله أي منهم. كأسه وسيجارته تأتيان في الدرجة الثانية. وها يده تطفئ سيجارته في المنفضة وقد انصبّتْ عيناه على صفوف السردين في الجاط مزيّنة بقطع الخبر المقلي. جهّار وعابد البرّ، كعادتهما، يتريّثان في شربهما كما في أكلهما. جهّار يدير عينيه فيهم وفي المازة على امتداد الطاولة ثم يأخذ ينقر على طرف كأسه بإصبعه نقراً ناعما. يتبادل مع أبو الوليد نظرة تُرْجِعُ عينيْ أبو الوليد إلى صحنه وكأسه بينما يمرّ بين شفتيْ جهّار شيء خافت يوشك للحظة أن يصير ابتسامة، ولكنه لا يصير.

يبدو وكأنهم لا يعيرون اهتماماً لحضوري أو لغيابي، وهذا أفضل لأنه يسهّل لي فرصة التحويم حول أحاديثهم فأمسك بطرف الخيط دون أن ينتبهوا وألحق به حتى مخبأ السرّ. يتنحنح جهّار وهو لا يزال ينقر بإصبعه على طرف الكأس، فيرفع عابد البرّ كأسه ويدقّ طرفها بطرف كأس جهّار ويسأله إن كانت لا تزال تقلقه أخبار الحرب. يمزّان مزّة ويطمئنه جهّار إلى أن شيئاً جديداً لم يطرأ على الوضع. أبو سعد يفتح سيرة روسيا وتعاطفها مع مصر، فيسأله عابد البرّ إن كان يعتقد أنها ستنذر بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بقصفها جميعاً، إن لم تتوقف فوراً عن هجومها الثلاثي على مصر. دون أن تتوقف أصابعه عن فسخِ السردينة إلى نصفين وسحب سنسلة الظهر والحسك الرفيع منهما ثم فرْطِ لحمها الأبيض في صحنه وعصرِ شرحة الحامض فوقها عصرة خفيفة، يضحك أبو الوليد ضحكةَ استهزاء ويقول إن روسيا لن تغامر بحرب ضد ثلاث دول لترضي عبد الناصر مع أن محلّلي الأخبار في كل الاذاعات يرجّحون تدخّلاً مفاجئاً لروسيا. عيناه تتوقفان فجأة على وجه جهّار ويسأله في الوضع. جهّار يعتقد أن روسيا ستضطر إلى التدخل وإلا ذهبتْ وَهْرَتُها في المنطقة ولأن الفرصة مؤاتية لها لتثبّت قدميها في مصر، فمصر مدخلُها إلى العرب والمسلمين. يمزّ مزّة أبو الوليد ويؤكد أن الأزهر ضمانة مصر والعرب ضد الشيوعية، فيوافق معه عابد البرّ بهزّة من رأسه. يتململ في مجلسه جهّار وينقر بإصبعه على طرف كأسه ويقول روسيا لا بد أن تتدخل، ولأن مصر لن يسلّحها أحد بعد الحرب، فستقع حتماً تحت رحمة الروس. ولكن ليس واضحاً لي تماماً موقف لبنان، يقول أبو سعد، فتنصبّ عليه عيونُهم وكأنهم فجأة تذكّروا أمراً كانوا نسوه. يرفع كأسَه أبو سعد ويقول وَحَقِّ الذي جعل هذه معصيةً، دولتُنا صوتُها مع مصر وقلبُها مع الانكليز والفرنسيين. رؤوسهم تهتزّ فتصدر عن كسّاب، قريباً مني، آهة أفهم مغزاها، فضدّ عقله أحاديث السياسة التي لا تنتهي عادة إلاّ برفع الأصوات واشتداد الخلافات التي لن تقدّم أو تؤخّر في أمور الحرب. آهتُه تضيع في الهواء. مسكين كسّاب، فهذه الطاولة بالنسبة إلى حساباته معركة من المعارك الخاسرة. هكذا سمّاها لي مرة. الليلة ليلة السردين، فدعوا همّ السياسة وكُلوا، يقول أبو الوليد فيرفع أبو سعد كأسه ويجيبه وَحَقِّ مَنْ جعل هذه معصيةً، لقد صدق فيك المثل، جحا اشترى وجحا أكل. من كل قلوبهم يضحكون، فتتوقف اللقمة في فم أبو الوليد فلا هو يمضغها ولا هو يبتعلها.

دخولُ جان علينا فجأة وكأنه طلع من تحت الأرض، يقطع الضحك فتلتفت إليه كل العيون. أبو الوليد يبدو على وجهه القلق وجهّار ينقّل عينيه بينه وبين جان. أحس أنني أرى طرف الخيط ولكنّ يدي لا تطاله. يُحيّي الجميعَ جان وينحني بفمه على أذن أبو الوليد فيقول له شيئا. ينهض أبو الوليد ويسير مع جان إلى آخر القاعة حيث يتبادلان الكلام، وعليهما تنصبّ كل العيون. يعودان الآن إلى الطاولة ويستأذنهم جان بالذهاب فيحلف عليه أبو الوليد بكل عزيز عليه أن ينضمّ إليهم على السردين والعرق. يعتذر جان بأن لديه ضيوفاً في البيت ويذهب. أبو الوليد يجيب عن تساؤلات العيون بأن ليس هناك ما يقلق وبأن جان إنما جاء ليبلّغه بإخبارية وصلتْه عن ابن ضيعةٍ مجاورة لضيعته يتعامل مع فلسطيني من "عين الحلوة"  بتهريب الدخان الفَلَتْ، وأنهما سيلتقيان غداً في وقت ومكان حدّدهما له لهذا الغرض. كأس جان إذن، يقول جهّار، والشيءُ الخافتُ الذي كاد أن يصير ابتسامة ولم يصر يحوّم من جديد حول شفتيه وتمتد يده عبر الطاولة بالكأس فيدقّ طرفَ كأس أبو الوليد. هذه المرة تلتقي عيونهما ولأكثر من طرفة عين ثم يشربان نخب جان. طرفُ الخيط يلوح لي من جديد ولكن يدي لا تعرف كيف تطاله. أبو سعد يشعل سيجارة وينفخ نفخة طويلة ثم يسأل جهّار عن عازر الديّار ورأيه في الحرب فيردّ أبو الوليد أن الجنّة تحت أقدام الأمهات. يظهر أن السردين أسكركَ، يمازحه أبو سعد، فما شأن الأمهات بالحرب؟ الأم الحنون فرنسا يا عدوّ السردين، يردّ أبو الوليد، أنتَ تعوّدتَ على حنكليز البساتين وحيّات النهر، ومَنْ لم يسكره السردينُ لا يسكره العرق. يضحك جهّار فيقاطعه أبو سعد مكرّراً سؤاله عن عازر الديّار ورأيه في الحرب، فيقاطعهما أبو الوليد بتململ من رأسه وبصوت انخفض قليلاً يعجب من جدوى تكرار السؤال. جهّار يبدو وكأنه تذكّرني فَتَلَفُّتُ عينيه وتوقّفُهما في عينيَّ يؤكد لي ما كنتُ منه أخاف. عيناه تعودان إلى الطاولة ويحدثهم صوته عن مرور عازر الديّار وشلّته عليه وتناولهم معه قهوة الصباح. وماذا كان رأيه في الحرب، يكرّر أبو سعد، فتلتقي عينا جهّار بعينيّ من جديد، وهذه المرة تتثبتان عليّ ويأتيني صوتُه أنِ اعْمَلْ لنا يا منصور صحنَ طرطور مثل الصحنين الأولين. طرف الخيط يختفي، ويداي تلولحان في الفراغ وأنا أمشي نحو المطبخ ليترحرحوا هم في الكلام.

 

عديّ

أقول لحسن أن يوقف سيارته بعد المطعم وينزلني على مفرق بيت كسّاب لأعود إلى المطعم متمشّياً على مهلي في هواء الليل حتى أصحو تماماً من تأثير الويسكي فأصل وكأنني لا رفعتُ كأساً ولا شربت. حسن يفهمني على الطاير وينفّذ رغبتي في صمت، وسكوته بالطبع من ذهب لأنّ يدي تعوّدت على جيبتي التي هي همّه ومبتغاه. أنزل وأغلق الباب وأشير إليه أن يمضي فيمضي في اتجاه صيدا وأستدير أنا صوب المطعم وأسير بخطى بطيئة. اللعيان خفّ كثيراً بعد أن استفرغتُ من خضخضة السيارة في بعض الطريق فارتاحت معدتي وهدأت أنفاسي ولم تعد تزعجني رائحة البنزين. أعرف أنني شربت أكثر مما ينبغي، ولكن هل كان بيدي أن أمنع الكرسون من ملء كأسي كلما أشارت هي عليه بذلك، وهي التي، ما إن دخلتُ البار واتخذتُ مجلسي، وإلى جانبي حسن، حتى حطّتْ عينها عليّ واختارتني من بين كل الرجال فنهضتْ وتركتْهم وأتت فجلست على كرسيها مواجهة لي عبر البار. والأحلى من ذلك أنها لم تهتم لتذمرهم لأنها فارقتْهم بغتة، وحتى بدون اعتذار، بل فَقَشَتْ بإصبعيها للكرسون فقشةً، وعيناها مصبوبتان في عينيّ فامتلأتْ كأسُها وكأسي وكأسُ حسن، وهاتِ مَنْ يفهم عليها وهي تترغل بالإسبانية التي همس بنا الكرسون أنها لا تعرف غيرها من اللغات. ولكنني بعد أن رحرحني الشرابُ بدأتُ أفهم عليها وبدأتْ تفهم عليَّ وكأننا تعلّمنا في مدرسة واحدة.

بالتأكيد أَعْجَبَها قميصي، فهو مسكوبٌ عليَّ سَكْباً ومَكْوِيٌ ومملّسٌ مثل قمصان أبي. واستدارةُ الياقة البيضاء حول عنقي لا شك شغلتْ بالها فرؤوسُ أصابعها كانت تتحسّس ملاستَها وكأنها تتحسّس شيئاً أثيراً لديها. ولم تنج كرافاتي من أصابعها فكانت تمسك بطرفها وتشدني إليها كأنها تلاعبني، تشد قليلاً قليلاً فأنحني أنا فوق البار مقدارَ ما توجبه الشدّة ثم ترخي أصابعها فجأة وتتركني أحصّل نفسي من جديد، لتعود إلى فعلتها مرة بعد مرة بعد مرة. بالتأكيد تكون قد اعترفتْ بينها وبين نفسها أنني جَخّيخ ذَوّيق. غير أنني كنتُ أودّ لو أنها تنظر إلى حذائي من فوق البار لتنبهر بلمعانه، فقبل دخولي كنتُ قد دفعتُ به إلى ماسح أحذية في الشارع وأكّدت عليه أن يضع ضعفين من دهن اللوز ويظل يلمّع به حتى يخرج منه النور. المهم أنني آخر الأمر فهمتُ عليها وفهمتْ عليّ، فعندما حدّثْتُها بفلفشة أوراق المئة ليرة حتى امتلأتْ بها عيناها، ابتسمتْ وهزّتْ لي برأسها ونهضتْ عن كرسيّها وهي تقول بالانكليزية tomorrow.

tomorrow سأتركه لـــــ tomorrow ، ولكنّ المشكلة الآن أن أرتّب في رأسي القصة التي سأرويها لأبي حينما يستفسرني عن سبب تأخّري حتى منتصف الليل. حسن يعرف أبي، والقصة التي ألّفها لي ونحن في طريق عودتنا من بيروت تتجاوب مع أحاسيسه هذه الأيام، فلعله أن يتغاضى عن تأخـّـري حينما أقول له أنني سمعتُ بأنّ مظاهرةً كانت ستنطلق من "ساحة البرج" في بيروت إلى السفارة المصرية تأييداً لعبد الناصر وأنّ الحماس جرفني مع أمواج الناس فنسيتُ نفسي وغدرني الوقت. بالتأكيد سينظر إليَّ كسّاب من وراء أبي منبهراً بالنور الذي يشع من حذائي.

 

المختار

كشكولُ الغيب الذي فيه كل شيء لم يعد كل شيء فيه فكـأنـمـا انثــقب من أسفله فانسرب منه الفجرُ المغسولُ بالسكينة، أو كأنما هدأةُ ما بين الليل والنهار انفضّتْ عنها ملائكةُ الليل والنهار فما تلتقي فيستأنس بلقائها في طمأنينة الغبشة الناهضون على نيّةٍ لوضوءٍ ونيّةٍ لصلاة، لم يعد كشكولُ الغيب كما عهدناه في أول العمر، ولقد حقّ لأبي بكر وعمر أن يجهشا حينما أيقظتْهما وفاةُ الرسول على حقيقة انقطاع الوحي الذي انقطعتْ به أخبار السماء، فكأنّ الجيرةَ، جيرةَ السماء والأرض، عُلِّقَتْ فجأة خارج حدود الأرض والسماء وعُلِّقَ الفجرُ وجيرةُ الفجر، فانتهت بذلك عِشْرَةٌ بينهما كان مبتدؤها ليلةَ القدر التي سلامُها حتى مطلع الفجر، فلماذا، ثم لماذا طال هجرانكَ لنا، يا الله، فعلّقتَ النصرَ حيثما عُلّقَ الفجر، فما ندري أَغَضَبُكَ حالٌّ على خير أمّة أُخرجتْ للناس أم على شعبك الذي اخترتَه قديماً قديماً ؟ غفرانك اللهم وحاشاك أن يكون ما أهجس به عتاباً، فإنْ هو إلاّ ذلُّ الحيرة، حيرتي فيما تنزله الحربُ بعبادك في أرض الأزهر الذي يُقَدَّسُ فيه لإسمك ومن على مآذنه مراتٍ خمساً، كلّ نهار وليلة، يرتفع التكبير طوعاً لأمرك.

منذ أربعة أو خمسة أيام والطيران الانكليزي يقصف، والعرب يحثّون الروس على إطلاق إنذار يجمّد الحرب، ولا يبالون أن تسقط أرض الأزهر في أسر الذين ينكرون وجود الله ووجود الروح ويجاهرون بأنّ الدين أفيون الشعوب. بين الغطرسة والإلحاد عُلِّقَ الفجرُ، فَحُلَّ أَسْرَهُ وتصدّقْ بجيرته علينا، يا الله.

وهذا الصبح، صبح الرابع من تشرين الثاني، ليس بأفضل الصباحات فالأخبار تؤكد إنزال المظليين الإنكليز في قناة السويس واشتداد القصف على بورسعيد لتنعطف بذلك الحرب انعطافة أخطر من كل ما مرّ لنا على بال. فإمّا أنّ الإنلكيز سيطروا تماماً على الوضع فأنزلوا مظلييّهم مطمئنين، وإمّا أنّ القصف لم يحقق أهدافه فأُحرجوا ورموا بجنودهم في هذه المغامرة. المذيع نفسه يبدو حائراً، وحقيقة ما يجري لم تزل مخبوءة في كشكول الغيب. فإلى متى، إلى متى، يا الله؟

الغيبُ سِرُّكَ، ثم سرّكَ، ثم سرّكَ، يا اللهْ ؟

وأنتَ اللهُ، أنت الله، أنت الله، يا اللهْ

فيا الله ، يا اللهْ ،

لو أن لهذا الجمّيزة قلباً لانفطر، ولكنها لغير عذاباتنا خُلقتْ، فهي تشتدّ في نموّها على الأيام، وتعلو أغصانُها فتتشابك لتغطّ عليها العصافيرُ في موسم الجميّز كما تغطّ عليها الشمسُ والريحُ والليلُ في كل الفصول، لا هي تحلم ولا تحنّ ولا تندم، وتنام، كما تستيقظ، على النسيان الذي هو كلّ ذاكرةِ الجمّيز، وأنا الذي تحتها أحلم وأحنّ وأندم لأنني لست من شجر الجمّيز، أحنّ إلى النصر كما إلى ماريّا أحنّ، وأحلم في صحوتي عين الحلم الذي رأيتُه مرةً في منامي أنني أحفر لها في جذع الجمّيزة مخبأً يكون لي ولها سياجاً دون سياج الملّة الأخرى، وأندم لأنني مختار الجيرة، اصْطُفيتُ من بينهم لأكون أعقلهم وأركزهم، وبياضُها سرّي، أكتمه حتى عن الفلّ والياسمين.

الغيبُ سِرُّكَ، ثم سرّكَ، ثم سرّكَ، يا اللهْ

فَارْفِقْ بسرّي وَاحْجُبِ الخطراتِ عنه وعن سواهْ

وَاجْعَلْهُ بعضَ الغيب، يعمى عنه حتى مَنْ يراهْ

لكَ أنتَ كلّ الغيب، كلّ الغيب، يا اللهْ.

 

سامح

أنتش نتشةً من رغيف الزعتر وعيناي على عينيه تنظران إلـيَّ كأنه يعرفني وأعرفه، ولا يتحرك منه إلاّ ذَنَبُهُ، يتحرك ويسكن، وجناحاه مكبوسان على جسمه كأنهما لم يكونا يرفرفان من لحظات وهو ينزل في الهواء ليحطّ على طرف المصطبة التي لا تزال عليها من أثر الشطف بقعٌ صغيرة من الماء تلمع فيها الشمسُ، فيقف في الشمس وعيناه عليّ، وأنا في ظل الياسمينة على الطبلية الواطئة أجلس مادّاً رجليَّ، أنتش من رغيف الزعتر بزيت، وطرفُ الرغيف الملفوف على بعضه تفرفط منه على أرض المصطبة، مع كل نتشةٍ، فرافيطُ صغيرة من الخبز، يلقطها هو بعينيه ثم يهتز ذنبه وترتفع عيناه إلى عينيَّ من جديد، فأحسّ أنه يعرفني وأنّ عينيه لا تنظران إليَّ فحسب وإنما تفعلان فيَّ شيئاً لا أفهمه فتنكسر عيناي إلى الأرض لحظة أمام نظرته الثابتة التي تجمّدني على الطبلية وكأنّ شيئاً قد يحدث إذا تحركتُ فطار وطار معه ظلُّه المنعكس في نقعة الماء التي تحته. يهتزّ ذنبه ويبرق شيء كالبغتة في عينيه فينتفض بكل جسمه ويأخذه الهواءُ، كلَّه كلَّه حتى قبل أن يخفق جناحاه. تلمع الشمس من جديد في نقعة الماء التي كانت تحته، فيغور في قلبي شيء وأسحب رجليَّ الممدودتين فلا أراني إلاّ أقف وكأنني أنتظر أمراً، وها هو يقع الأمر فيغطّ العصفورُ على المصطبة وينطّ في خفّة العصفور صوب فرافيط الخبز التي سقطتْ فهي الآن بين قدميّ، ويأخذ ينقدها واحدة واحدة، وكأنني لستُ هنا. للمرة الثانية يثبّتني في مكاني. أرض المصطبة تختفي عنها فرافيطُ الخبز، ويأخذه الهواء في نفضةٍ واحدة كما أخذه أول مرة، ولكن هذه المرة إلى أقرب شجرة برتقال. فيهتزّ منها الغصنُ الذي يقف عليه، فهو يطلع وينزل في الهواء مع الغصن وكأنه مُلَزَّقٌ فيه. يزقزق شيء في قلبي ويذهب عنه الشيءُ الذي كان فيه يغور، والغصنُ في الهواء يطلع وينزل، ويظلّ، فيظلّ هو عليه وجناحاه مكبوسان على جسمه ورأسُه لا يلتفت إليَّ، وكأنما هزّةُ الهواء للغصن تثبّته على الغصن في وقفةٍ إذا هو انحرف عنها اختلَّ توازنُه فهوى إلى الأرض.

ينفض جناحيه في عينيَّ ويرتفع في الهواء فينتفض الغصنُ الذي كان عليه فتهتز الأغصانُ القريبة منه هزّاتٍ خفيفةً لا تلبث أن تهدأ شيئاً فشيئاً حتى تعود كلها إلى سكونها الذي كانت عليه. قلبي يزقزق فيه شيءٌ، وما هي إلاّ وقدماي على تراب البستان، تغوصان في شجرات جلّ البرتقال، فتبتعدان عن مصطبة البيت مع كلّ خطوةٍ خطوةً. في الأغصان يرفرف شيء لا أراه ولكنه ينتقل من شجرة إلى شجرة وكأنه يرافقني في مشيتي إلى مكان لا أعرفه أنا ولا أعرف إن كان هو يعرفه، فرفرفتُه الإشارةُ إليَّ أنْ أتابع مشيتي إلى آخر الجلّ حيث السياج والبوابة التي تفتح على معبر فوق الساقية، فأفتحها فإذا أنا في الطريق الضيّقة النازلة على جانب الساقية إلى جهة البحر. والشجرُ أغصانُها لا يزال يرفرف فيها الشيء الذي لا أراه، والساقيةُ تنزل وأنا أنزل حتى تلتفّ حولي فجأة رائحةٌ ليست من الأرض ولا من الأغصان، لا أميّزها، أو كأني كأني، فهي تذكّرني بشيء مثل ذلك الشيء، فأسدّ أنفي بيدي، وصدري تخنقه الرائحةُ التي فيه. أركض، ويدي على أنفي، وفمي مطبق، لأبتعد عن المكان الذي منه تأتي هذه التي تذكّرني بشيء كأنه تخمّر ولكن ليس بخميرة العجين. صوت أبي يصرخ بي من آخر الطريق الضيّقة فأجمد في مكاني، وتنزل يدي عن أنفي، وأتنفس رغماً عني الرائحةَ التي أصبحت كلَّ الهواء. تشير إليَّ يدُه أنْ أتقدم منه فأمشي إليه، وأسرع، كأنني أهرب إليه من الرائحة، وما أن أقف أمامه حتى أفهم كل شيء. الرجالُ بالمَجَارِفِ يفتحون مجرى بين بلحات المطعم يمتد من "البئر المالح" إلى الساقية النازلة إلى البحر. جئتَ تساعدنا، يسألني صوتُ أبي ساخراً، فينشف صوتي وأطبّ رأسي إلى الأرض. تعالَ معي إذن لأريك نهايةَ كل الأشياء، يأمرني صوتُه من جديد، ويمشي أمامي في اتجاه "البئر المالح" والرجالُ المشمّرون عن سواعدهم ينظرون إليَّ ويضحكون، والمجارِفُ في أيديهم تعمّق المجرى أكثر فأكثر. ويقف فأقف وينظر فأنظر. غطاءُ البئرِ المرّبع خشبةٌ عريضة عريضة ملقاة بين شجرة الياسمين وطلمبة الماء الموصولة ببئر ماء الشرب. سطح "البئر المالح" لا تبدو فيه نقطة ماء. كتلٌ سميكةٌ راسية تغطّي المربّعَ، كأنها رائحةٌ فوق رائحة فوق رائحة تجمّعتْ وتخمّرتْ وتلوّنتْ بألوان يغور لبشاعتها شيءٌ في قلبي. يزقزق فوق رأسي العصفورُ الذي لا أراه فأرفع رأسي أبحث عنه في الفضاء، وتزداد زقزقتُه حدّةً فوق رأسي ولا أراه، فيدور رأسي وتدور قدماي وتدور عيناي وأذناي وتبحث كلها عن جناحيه وصوته، ويهدر صوتُ أبي أنْ تَمَسَّكْ بيدي، فأرفع يديّ في الهواء وأحسّ بجسمي يهبط في كتل الرائحة وبأنفاسي تخطفها بغتةُ الهلعِ التي لا صوت فيها ولا دموع.

 

جهّار

لا مآذنُ المدينة في هواء تشرين ولا القلعةُ الواقفة في البحر تبدِّد من حولها الصمتَ الممدّد على سطوح المدينة، وقد غابت الشمس كلها ولم يبق منها على طول الأفق غير احمرارٍ كاحمرار التورّم، وأنا، وحيداً وحيداً، جيئةً وذهاباً، شمالاً فجنوباً وجنوباً فشمالاً، على مدى الشاطئ من مصبّ النهر حتى أطراف البيوت المنثورة في بساتين محلة "السبع أعين"، أهزم الرمالَ، تهزمها خطواتي المنهزمة خطوة خطوة بتكرار الرحلة التي سيفرغها عمّا قليل من المآذن ومن قلعة البحر هبوطُ الليل وجلبةُ صمتٍ لم تعد تتحدث إلاّ بها إلينا السماءُ.

حتى تشرين لم يَفِ بوعده هذا العام فغيّر طعْمَ سردينه وأفسد علينا جيرةَ العرق، ولقد انهزمتْ في نفسي شهوتي إلى السهر في غير مطعمي وإلى الأكل والشراب على غير طاولتي، واصفرّتْ في خاطري، كأرض الغربة، ضِيَعُ النصارى المطلّة على صيدا، من البراميّة إلى الهلاليّة فعبرا فمجدليون، وأقفرتْ طاولاتُ رفقة الكأس والسهر فيها، فلا الشراشفُ البيضاء والملوّنةُ تزيّنها، ولا الأيدي الهفيفةُ تمسح الليلَ عن عيوننا فتفرش لنا من الحقول والبساتين على مدى الطاولة ما استعارتْه من ألوانها وأشكالها وأحجامها، ولا الأصابعُ البضّةُ تتلملم مشدودةً على لقمةِ كبّة نيّة يهشّ إليَّ بها صوتٌ من فم الأنس، تتبعها لملمةُ أصابع أخرى تمتدّ إليَّ بورقةٍ من قلب الخسّة، مضمومةَ الجناحين، إلى أعلى، على ملعقةٍ أو اثنتين من التبولة الفائحةِ منها روائحُ البرغل والبقدونس والنعنع والبندورة والبصل والزيت والحامض، متغلغلاً بعضها في بعض فأنتَ من ورقةِ الخسّ وحدها في وليمةِ ذوق. كلّ ذلك، كله، ضاع، وها تلكم البيوت التي على التلال الشرقية الآن أرقبها، بيتاً بيتاً أرقبها، لأنني بيتاً بيتاً أعرفها، تغور أضواؤها هناك تماماً كما تغور هنالك على آخر الشاطئ المآذنُ وقلعةُ البحر، تغور جميعها، شرقاً فجنوباً، فكأنما جميعها شيء من الليل مهيضٌ، أو قُلْ أقلّ قليلا.

الساقيةُ المتسللة عبر البساتين صوب الشاطئ، مارّةً بجوار مطعمي، يناديني صمتُ مياهها التي، لشحّها الآن، تمتصّها الرمالُ قبل بلوغها مصبّها في البحر، فهي تغور في دائرة ضيّقة ما إن تطأها قدمٌ عابرة حتى يغوص الرملُ تحتها قليلاً وتنبجس بلالةُ الماء حول جوانب القدم التي ما إن ترتفع حتى ينحدر إلى موطئها ما انبجس من الماء حولها ويظل هناك هنيهة وكأنه نبعة ساكنة لا تفور. يناديني صمتُ الساقية التي أخذتْ تغور ملامحُها في الغبشة الأولى من الليل فأرخي له أذنيّ وتسحبني قدماي بعيداً عن مكسر الموج، شرقاً فشرقاً تسحبني، على طول حافة الساقية التي أعرف أنها هناك وإن لم أكن أنظر إليها، لأنّ عينيّ التقطتْهما ملامحُ شخص يتحرك على طول حافة الساقية في اتجاهي ويظل يقترب مني وأقترب منه حتى ينبثق من الملامح صوتُ عديّ يقول بأنهم استأخروني وأنّ عازر الديّار أرسل فيليب لينقل إليّ نيّته بالمرور عليّ هذه الليلة دون أن يذكر ساعة محدّدة لقدومه أو يفصح عن رغبته في تناول كأس معي، فتتقلب أفكاري، وأنا أقترب من المطعم شيئاً فشيئاً، في غبشة الاحتمالات التي أثارتها زيارتُه لي صبيحة أمس مع رهط من صحبه فشربنا القهوة معاً وتحادثنا في كل شيء إلاّ في الشيء الذي هو خَفْقُ قلوبنا وهَجْسُ عقولنا وعلى أطراف ألسنتنا، نعرفه جميعنا ونغضي عنه كأنه ليس فينا. وكأنما حكمةُ الجيرة ارتأتْ لنا السكوتَ عنه فسكتنا وأسلمنا شفاهنا مرّة لعابرٍ من الأحاديث ومرّة لحفافي الفناجين نرشف منها القهوة رشفات تعلو أصواتُها على قرقعة نوايانا.

أحيّي الزبائن الأربعة المتحلّقين حول طاولة تحت البلحة الصفراء، من بعيد أحيّيهم فأرفع لهم يدي مرحّباً وأنعطف يمنة فأدخل من باب المطبخ حتى لا أُضطر إلى مصافحتهم والتحدث إليهم، وقد تعمّدتُ أن أجعل عينيّ في الأرض حتى لا يحرجوني بوقوفهم لي فأُستدرج إلى ما ينفر الليلةَ منه قلبي. يطالعني وجهُ منصور بابتسامة مترددة على شفتيه وترتدّ عيناه إلى ما تحضّراه يداه من شخاطير المازة، وحنقير إلى جانبه يتناول منه ما جَهَّز منها ويصفّها على الصينية الخشبية العريضة، وعلى مقربة منهما كسّاب، تتردد عيناه بين الشخاطير والصحون والجاطات الصغيرة، ودفترُ الفواتير الذي في يده، يخطّ عليه الأسماء والأسعار بقلمٍ، لقصره، لا يكاد يظهر منه بين أصابعه إلاّ رأسُه الرصاصيّ المبريّ بشفرةٍ من شفرات الحلاقة القديمة التي يحتفظ بها لهذا الغرض ولأغراض سواه. عاداته ملصوقة به فهي جلده الثاني، ولعل لها من الحسنات ما لا ندركه إلاّ صدفة، فهي كما يبدو تختصر له حدودَ العالم وأزماته، أيام الحرب كما أيام السلم، في ما يدور حوله فحسب، حتى لَتنتفي من عينيه ومن قلبه شعوبٌ ودولٌ وكياناتُ أديانٍ وكراماتُ طوائف، ينتفي وجودها فجأة بقدوم زبائن وتكاثر طلبات وانهماك قلمه المبريّ بشفرة قديمة من شفراته بحشر الفواتير أسماءً وأسعاراً وجمعاً ثم جمعاً ثم جمعاً حتى لا يفوته من الحسابات قليل أو كثير. أتلهّى بمراقبته، وأنا أعرفه عن ظهر قلب، وأحسده للحظة، بالرغم عني، على خلوّه من عنجهية الرجولة التي يحاول أخوه عدي التمثّل بها فلا يحظى منها بأكثر من طيش سنّه والتباس الرجولة عليه فهي في خياله ليست بأكثر من فضفضة الوجاهة. أحسد كسّاب، للحظة، وإن يكن يلعن بعضَ صفاته قلبي، على هذه الطمأنينة التي حلّتْ عليه بقدوم أربعة من الزبائن، الطمأنينة التي غارت من قلبي، وتغور لا تزال مع كل خبر عن المظلّيين الإنكليز، يهبطون علينا في أرض الأزهر كأنهم، وأستغفرك يا الله، حجارة من سجّيل.

المدوّر الوجه بين الأربعة يرفع يده قليلاً ويفقش بإصبعيه الفقشة التي يستجيب لها كسّاب بانحناءة سريعة يستدير معها استدارة الملبّي ويعبر المسافة بين فسحة الأرض المغروسة بالبلحات وقاعة المطعم حيث أنا الآن فيدخل عليَّ من أقرب أبوابها إليه ويتناول من على رفّ من رفوف الحائط خلفي بطحةَ عرق يستدير بها إلى حيث أجلس على كرسيي خلف طاولتي فينحني ويأخذ القلم بين أصابعه فيسجل سعرها على الفاتورة وينطلق بها حثيثاً عبر الباب الذي دخل منه، فتتبعه عيناي إلى طاولة الزبائن الأربعة، وما يروعني إلا المدوّر الوجه بينهم يأخذ البطحة بيد ويفكّ باليد الأخرى من حول عنقها غطاءَها الفلّينيّ ويسحبه عن فمها فيطرحه في الهواء لترتفع البطحة فوق مستوى رأسه المرتدّ إلى الوراء وتنحني فوق فمه الذي يأخذ فمها مصّاً فمصّاً فمصّاً، تهلّل له من الثلاثة الآخرين أول الامر ضحكةٌ فضحكة فضحكة، حتى يحدث شيء لا أتبينه تماماً فتطير الأيدي في الهواء وتنتزع من يده البطحة التي يُفْرَغُ ما تبقى فيها من العرق على جذع البلحة. يخبط المدوّر الوجه بيده على الطاولة ويلتفت حواليه بحثاً عن كسّاب ويقول له شيئاً لا أسمعه، في عين اللحظة التي يبدو أن كل واحد منهم يقول شيئاً للمدوّر الوجه وشيئاً لكسّاب، يدور على إثره بين رؤوسهم وأيديهم جدلٌ في الهواء لا يلبث أن ترتفع حدّته فَيُرْجِعُ المدوّر الوجه كرسيّه إلى الوراء وينتفض واقفاً فيهبّ الثلاثة الآخرون ويسدّون عليه الطريق إلى قاعة المطعم حيث أظنه نوى التوجه ليأخذ بنفسه بطحة عرق جديدة. كسّاب نأى بنفسه، ولا ريب، عن المشهد كله فمنذ لحظات وأنا لا أرى له يداً ولا قدما. المدوّر الوجه ينفلت من قلب الدائرة التي سيّجوه بها وما أن يصل إلى عتبة الباب حتى تشدّه من الخلف الأيدي التي يبدو أنها مصمّمة هذه المرة على إيقافه عند حدّه. يداه وكتفاه وقدماه وكل ما فيه يهدأ فجأة وكأنما غارت في الأرض قواه، فيهدأ كل من حوله، ولا يبقى منهم إلا أنفاسٌ تخرج من صدورهم عميقة ونظراتٌ تطل من عيونهم فيها أكثر من خلجة القلق وأخزى من لسعة الخجل من النفس. بطحةً واحدةً نشربها نخب عبد الناصر ونمضي، تخرج الكلمات من بئر جافّة عميقة، من فم لعله فم المدوّر الوجه، أو لعله فم أيّ منهم، فالصوت كسير الرجاء، شحيح النغمة، كالساقية التي غارت مياهُها قبل أن تبلغ مصبّها في البحر. تلتفت يدي إلى رفّ من رفوف الحائط خلفي فتشدّ أصابعي على بطحة عرق وتشدّ لأوقف في حنجرتي النَفَسَ الذي يكاد أن ينفلت منها نشيجا.

شيء في نفسي يراودني عن نفسي فأسترخي في جلستي وأمدّ برجليّ على طولهما تحت شرشف طاولتي وتأخذني السرحةُ بعيداً عن القاعة والباب الذي عبْره دخل مَنْ دخل وخرج مَنْ خرج فأمضي، كما مضيتُ ليلةَ سَلَّلوا إليّ الخبرَ مع يحيى، أضرب الإسفلت، لا بقدميّ ولا بكعبيْ حذائي، ولكن بنبض اليقين أن جهّار لن يعود، إذا عاد الليلة من مشواره، إلاّ وحقّ الجيرة الذي استُبيح قد تطهّر ممّن استباحه وإلاّ والسياجُ الذي يحمل الورد والشوك قائم في مكانه لا يُعْبَثُ بوروده حتى لا تُدْمي أشواكُه. مضيتُ ليلتها حتى إذا ما بلغتُ جمّيزة المختار تحرّك في أغصانها عصفور أو وطواط فسقطتْ على كتفي حبّة جمّيز جمّدتْني لحظة في مكاني، لا لبغتةِ المفاجأة ولكن لأن شيئاً لمع بغتة في خيالي. إستدرتُ دون أن أفكّر بعواقب ما خطر لي وعدتُ إلى المطعم ففتحتُ درجاً من أدراج الخزانة القائمة في الزاوية التي يشكّلها التقاءُ حائط رفوف العرق بالحائط المحاذي له، شماليّ طاولتي، وتناولتُ منه الشيء الذي من أجله عدتُ فأسقطتُه في جيبي ثم مضيتُ من جديد أضرب الإسفلت بنبض اليقين. على طول المسافة التي تفصلني عن الجسر كان هواءُ البساتين عن يميني يتغلغل في الليل، وكان الليلُ يتغلغل في ذاكرتي عميقاً، تماماً عمق الزمن الذي يفصلني عن ذيّاك العمر الذي في جلول خيره وشرّه نشأتْ فيَّ البساتينُ وأنا أنشأ فيها، حتى قذفتْ بي ضفةُ النهر إلى الضفة الأخرى ناسيةً أن تخلع عنّي رائحةَ التراب في قسوة جفافه وفي لدونة ريّه وأن تفرغ رئتيَّ وأنفي من الحشائش والأزهار والنباتات وصنوف البقل التي فرّختْ كلها في رئتيَّ وأنفي مشاتلَ عَبَقٍ لا تموت ولا تذوي، عصيّةً على تبدّل الفصول، زمنُها الحنينُ الذي لا زمان له. ليلتها مشى معي الليلُ وهواء البساتين ومشيتُ معهما وفيهما حتى شارفت طرف الجسر فانزاحت عيناي إلى الشرق مني وانحدرتا إلى مجرى المياه من النهر الذي استعاره الليلُ، لا من عينيّ فحسب، بل حتى من نفسه، فلم يرتفع منه إليَّ همسُ انسياب ولا كركرةُ عبور. ولكنّ عينيّ رأتا، شاء لهما أن تريا فرأتا، جلَّ البرتقال الذي ينحدر ترابُه إلى ضفة النهر، وعلى ذلك المنحدر قدمين تندفعان إلى عمق الماء، وفي الماء أصابعَ ينسلّ بعضها من بعض كما ينسلّ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الليل إيذاناً بولادة فجر. على الطرف الآخر من الجسر يلمع الضوء من لمبة عازر الديّار، فأصعد سلّم بيته بنبض اليقين وحين تنأى بنا أَنْفُسُنا إلى زاوية من زوايا سطيحة البيت أقول له بأن ابنة السابعة عشر التي قيل إنها هربتْ بملء خاطرها مع فتى من أبناء ملّته سترجع إلى أهلها قبل غروب شمس الغد إذا كان لسياج الجيرة أن يظلّ قائماً بوروده وأشواكه في آن معا وإذا كان لكأسٍ أن تجمعنا من جديد حول طاولة. وفي يده تركتُ الرصاصةَ التي كانت في جيبي فرفعها إلى عينيه وتأملها طويلاً، فتركتُه لصمته ونزلتُ السلّم، كما صعدتُه، بنبض اليقين. شمسُ الغد غربتْ علينا جميعاً كما شاء لها سياجُ الورد والشوك.

ولكن شمس الغد غربت علينا أكثر من مرة بعد ذيّاك الغروب، وفي كل مرة كان يحمرّ فيها الأفقُ كانت حمرتُه تذكّرني بغير الورد وغير الشقيق وغير الجمرات تفرقع بين حجريْ ذلك الموقد العتيق وراء النهر، فما هي إلا انكسارةُ العين حتى يخمد اللون ويغور في قرارة نفسه. ولطالما كان شيءٌ في الغروب يذكّرني بشيء من الفجر، حتى سحبتْ معها أمواجُ النهر أصابعَ للفجر وأسلمتْها للبحر الذي تضرب شواطئنا منه الأمواجُ الراحلة إلينا أبداً من أفق لا يطلع منه فجر ولا يهبط إلاّ فيه الغروبُ، فلم يَبْقَ لي من الجهات الأربع إلاّ تذكرةُ عبورٍ، وإلاّ بوابةُ شفقٍ عُمِّيَتْ عليها ألوانُها، فأسقطها من حسابه الليل والنهار وأبَيَا أن يُسْقِطا عنّي مؤونةَ دَيْنٍ للحياة عليّ لم أكن قد وفّيته بعد، فأخذتْني الطريقُ ذات ليلة عبر البساتين إلى غابة شجر الكينا الزاحفة بجذوعها وجذورها الثخينة إلى قلب الضفة الجنوبية للنهر فصعّدتُ فيها شرقاً، على صوت المياه تنحدر غرباً، بقيّةَ المسافة التي تفصلها عن مصبّها في البحر، صوتٍ ليس فيه تَلاحُقُ الموج في عمق المجرى ولا تكسّرُه على رأس صخرة اعترضتْه هنا أو هناك ولا لَطْمُهُ الدؤوب لحفافي الضفّة ولكن هيمنةٌ على الليل يستمدّها من حضور الليل حوله وعليه ومن سَرَيَانه هو في مجرييْن شقّهما لنفسه من تربة الأرض ومن حلكة الظلام. الباب الذي دققتُ عليه فانفتح لي لم يكن بعيداً عن الجسر العتيق، فلحقتْ بي إلى داخل البيت هواجسُ كل الأشياء التي حمّلتْني إيّاها الطريق. والوجه الذي نصحتُ له أن ابنة السابعة عشر حَرِيٌّ بخطيئتها أن تُغتفر وأن يُدْفَنَ سرُّ فعلتها في جيرتنا بترحيلها إلى جيرة أخرى لعلها تولد هناك من جديد، هَجَسَ إليَّ بأنه عجّل بتزويجها سرّاً إلى رجل حينما ذُكِرَ اسمُه عرفتُ بأنّ الدَّيْنَ الذي عليَّ للحياة لم أوفّه للحياة بعد وأنّ النهر الذي حفر مجراه في الليل، كما في الأرض، كان قد حفر فيَّ قديماً مجرى لمجراه.

سرحتي يقطعها عليّ دخولُ كسّاب على عجل فأقرأ في وجهه الخبر قبل أن تبوح به شفتاه، فأحصّل نفسي في مجلسي وأسحب قدميّ الممدودتين على طولهما من تحت شرشف الطاولة ثم أنهض وأتوجه صوب الباب الذي كان كسّاب قد عاد وخرج منه لاستقبال ضيفنا على باب سيارته. يبغتني هواءُ الليل بعبق البساتين التي تخلّل أشجارَها ونباتَها في عبوره من الشرق إلينا عبقٌ لا أميّز فيه نقاءَ الفوح ولا نوعَ مصدره من ورقاتٍ على أغصانها أو زهراتٍ طالعاتٍ من الأرض بلّلهنّ أوّلُ الندى، أو معلَّقاتٌ ومعربشاتٌ وملتفّاتٌ من الثمر، فالهواء لا يزال مثقلاً بغابة شجر الكينا وبهيمنة الصوت المنحدر إلى مصبّه في البحر، يبغتني هواءُ الليل فأفتح له رئتيّ وأمدّ يدي أصافح بها يد عازر الديّار، مربّتاً عليها، وهي لا تزال في يدي، باليد الأخرى، وأستدير رويداً رويداً لترافق خطواتي خطواته الموزونة الوقع والمسافة نحو باب القاعة فنعبره معاً، جنباً إلى جنب، وننأى بأنفسنا إلى طاولة في الزاوية التي نعرف على العمر أنها زاويتنا. لا تفوته اللباقة فيعتذر لي عن تأخره في المجيء حتى هذا الوقت فأنتبه للمرة الأولى أنها العاشرة والنصف ليلاً، وحينما نستقرّ في مجلسنا يقطع عليَّ الطريق مؤكداً عليّ أنْ لا أغلِّب نفسي بطلب المازة والعرق فهو قد اضطر إلى تناول الطعام مبكّراً مع بعض زوّاره من أقارب زوجته، ويسارع إلى القبول بمسايرتي في تناول كأس ثلثها ويسكي وثلثاها ثلج، مزاجه الذي لا يغيّره صيفاً أو شتاء. زيارته الأخيرة لي مع رهط من صحبه لا تزال رطبةً في ذاكرتي، ولكني أختار أن لا أشير إليها من طرف واضح أو خفيّ لأنّ ذكرها قد يحرّك الحديثَ في الإتجاه الذي يتحاشاه كلانا، ولأنّ حضوره المطمئنّ إنما يستمدّ اطمئنانه من ثقته بمعرفتي أنّ الصمت عن بعض الأمور بيننا هو بعضٌ من لغة السياج الذي نتكئ عليه، كلٌّ من الطرف الذي هو فيه، ليظل بيننا سياجاً وليظل السياج لنا الموعدَ والمكانَ واللقاءَ بعينه في آن معا. صمتي لن يخيّب ظنّه فعن كثيرٍ من الأمور صَمَتْنا في هذا العمر، في حضور الناس كما في غيابهم، وكنّا عقب كلِ صمت نزداد تفاهماً على الصمت لأنه اللغة الأوجز للسانيْن علّمتْهما أخطاؤهما فداحةَ الكلمات ولا جدواها. إبتسامة على شفتيه عابرة تخبرني أنه أحسّ بما يدور في خاطري، فيأخذ كلٌّ منّا كأسه بيده ويخضّها في الهواء خضّاً لطيفاً فتدور قطع الثلج مع استدارة الكأس، بعضها فوق بعض، محدثةً ذلك الصوت الذي لا يطيب الشراب إلاّ به فكأنه امتدادٌ نَغَمِيٌّ للخمرة، يطفو في الهواء لملاقاة خواطرنا فيراودها عن نفسه ويبعثرها أشتاتا شَتَتاً، فنرشف ثم نرشف، أذناً وفماً، ويعيد كل منّا كأسه إلى مكانها من الطاولة ونبدو وكأننا التقينا للحظتنا، فالجلسةُ من أوّلها، وُلِدَتْ لتوّها، كما تولد عادةً في سهراتنا، مرّة بعد كل قرقعةٍ لقطع الثلج في كؤوسنا. نترحرح ونتنحنح، ونقول ونسكت، وننظر ثم نغضي، ولا تزال مازتُنا الصمتَ عن خواطرنا ولا يزال جُلُّ حديثنا قرقعةَ الثلج في كؤوسنا حتى ينفتح من الطرف الآخر للقاعة بابُ المطبخ ويدخل علينا منه منصور يحثّ خطاه نحونا ويداه تحوطان بجهاز الراديو الذي نحتفظ به عادة في خزانة إلى يمين البرّاد مخصّصةٍ للصحون والجاطات والكؤوس والأكواب والشوك والسكاكين والملاعق حتى يحين موعد نشرات الأخبار الرئيسية، وما إن تستقرّ الراديو على طاولتنا حتى يفتل منصور أحد مفاتيحها ويتراجع خطوات تبعده عنا قليلاً ولكن لا تحجب عنه الصوت الطالع من الراديو بعناوين النشرة التي تؤكد على فداحة الخسائر في صفوف المظلّيين الإنكليز وعلى فظاعة القصف على بور سعيد، كما تؤكد أن الروس الذين يحيّون بطولة الشعب المقاوم للعدوان وتماسكه خلف قيادته لن يخيّبوا أمل الشعوب التي تنتظر بفارغ الصبر إعلانَ إنذارها للمعتدين بقصف عواصمهم إن لم يوقفوا الحرب فورا. "إذاعة صوت العرب" تخوض في التفاصيل التي بُثَّ معظمُها في نشرات النهار. عازر الديّار يدوّر طرف سبّابته على حافة كأسه ثم يدوّره في حركةٍ معاكسة وعيناه جامدتان في قلب الكأس. يظل على الحال هذه لحظات تأخذني وإياه بعيداً إلى ذلك الصيف الذي أعقب مقتل رياض الصلح بسنة أو سنتين وتمادى إلى حد العجب إقبالُ الزبائن فيه على السهر في مطعمي حول مازات العرق التي كنتُ قد زوّدتُ عليها تشكيلةً جديدة من اللحومات النيّئة والمطبوخة والخضار المقلية والمسلوقة والمتبلات والمعجنات وأشياء أخرى مما يتآلف مع مذاقات الملح والحامض والخلّ والحرّ والبصل والثوم التي حِدَّةُ طعومها، متفرقةً أُخِذَتْ أو مجتمعةً، وامتيازُ روائحها بعضها من بعض، تتآلف كلها مع طعمة العرق، إذ الماءُ، وبعده الثلجُ، يلطّف منها ويشفّف ويهفّف حتى لكأنك من الكاس في حضورة امرأة. صيفاً كان ذلك الصيف، تمادى فيه السهرُ والشرابُ ففاض الخيرُ علينا وفاض على الوجوه كلها الفرحُ، حتى وجه كسّاب الذي يتكتّم عادة على الدنيا فيلبس لها السحنة َ عينها والنظرة عينها مهما تبدّلتْ عليه وعلينا فصولُ الحياة. وصيفاً نُحسد عليه كان لولا تلك الطاولة التي تحت البلحة الصفراء وقد الْتَمَّ حولها خمسةٌ من الزبائن الجدد على المطعم، وإن لم تكن تلك الليلة ليلتهم الأولى عندنا. كنتُ أتابع سير العمل في كل مكان، فألاحق الطلبات التي يحضّرها في المطبخ منصور وحنقير ومن يعمل بين أيديهما لأتأكد من أن كل شيء سيكون على ما أشتهيه أنا لو كنتُ أنا الزبون عينه، وأنخطف بين فينة وأخرى إلى القاعة فأنقل عينيّ في الطاولات وأتبسم ردّاً على نظرة أو ابتسامة أو إيماءة أو تحية من هنا أو من هناك، ثم أتمشى صوب أقرب الأبواب إليَّ حتى لا أمرّ بين الطاولات فأقف هناك هنيهة أقلّب عينيّ بين الساهرين تحت شجرات البلح فيأتي إليَّ طَرَفٌ من أحاديثهم وتخفق في الهواء ضحكاتهم، فأطمئن وأنسحب إلى المطبخ الذي منه وفيه بنيتُ سمعة مطعمي والذي فيه عليَّ أن أبقى لتبقى. وما كاد يمضي عليَّ من الوقت دقائق، آمر فيها وأنهى وأصحّح وأوجّه حتى انقذف في أذنيَّ صوتُ عديّ مبهوراً مرتبكاً ومشوّشاً فاستدرتُ أستطلع عينيه ووجهه، لأفهم منه آخر الأمر أنّ واحداً من الزبائن تحت البلحة الصفراء للمرة الثانية ينادي كسّاب بيا كلب عَجِّلْ لنا بكذا أو كذا. كان ذلك بالطبع علامة سكره، حدّثتُ نفسي على الفور لألجم شيئاً تحرّك في داخلي. ولكنّ الضحكات التي كنت سمعتُها قبل قليل وأنا أقف بباب القاعة تفرقع تحت شجرات البلح ترددتْ أصداؤها في أذنيّ وأحسستُ بنظراتِ عيون لم أعد أراها تتحدّر من رأسي إلى قدميّ، تتفحصني، تقيسني، أو تفعل شيئاً آخر، فَسَرَتْ في سنسلة ظهري قطعةٌ من الثلج وتفجّر في وجهي وعينيّ ورأسي كله حريقٌ كان عليّ أن لا أخمده ليظلّ لجهّار الإسم الذي يليق بجهّار. إبتلعني الوقت والمكان أو ابتلعتُهما، فما ألفيتُ نفسي إلا تحت البلحة الصفراء، فوق الرؤوس الخمسة ترتفع يدي بمسدسي، وصوتي يسيّج رؤوسَهم بهدرةِ أنِ ادفعوا حسابكم واخرجوا من هنا يا أبناء الكلاب. وحينما أفاقوا من صعقتهم حذّرني صوتٌ من أصواتهم ألاّ أتمادى فأدفع ثمن كلماتي غالياً في بلدة الرئيس التي خمستُهم منها. العيون التي لا أراها تمزّق من حولي الهواء، وعُرْيي في ثيابي تسري فيه رعدةُ الثلج، فتنطلق الرصاصة الأولى والثانية والثالثة على كؤوسهم فتطير الشظايا في الهواء وتتراجع الكراسي الخمس من حول الطاولة وتمتدّ أيدٍ إلى جيوبٍ لتترك ما فيها بلا عدٍّ على أطراف الطاولة. وما كادوا ينطوون في مقاعد سيارتهم وتتحرك بهم السيارة قليلاً حتى تهيّأ لي أن يداً امتدت من إحدى نوافذها في الهواء فانطلقت الرصاصات من مسدسي تترى خلف السيارة التي انطلقت تخترق الليل لتختفي فيه كما تختفي الأشباح حينما تحدّق فيها العيون.

الصيف الذي فاض علينا بالخير لم يكن مكتوباً له أن يمضي على خير، فسرعان ما توقّفتْ سيارة أبو الوليد فخرج منها وأسرّ إليّ بأنّ اتصالاً تلقّاه قبل قليل من صديق له في قوى الأمن نصحه بأن يخفيني عن العيون وإلاّ فلن يطلع عليّ الصبح إلاّ وأنا في السجن. وبعدها اشتد البحث عنّي ليل نهار فزارني عازر الديّار في مخبئي ونقلني في سيارة عسكرية تدبّر أمرها إلى بستان له شرقي الجسر العتيق. وجاءني ذات ليلة بزجاجة عرق فجلسنا في غرفتي من بيت البستانيّ الذي كان يقوم على خدمتي ورحنا نشرب وهو يعمل بلا كلل على إقناعي بأن أذهب إلى محكمة بعبدا في الموعد الذي حُدِّدَ لمحاكمتي فالقاضي سيصدر حكماً مخفّفاً قابلاً للاستئناف. وضعتُ الكأس من يدي وأطلتُ النظر في عينيه فوضع كأسه على الطاولة وراح يدوّر طرف سبّابته على حافة الكأس، ولما طال صمتُنا أدركتُ أننا تفاهمنا على ما أردتُه منه بغير كلام. نادى البستانيَّ وأشار إليه أن يأخذ كأسي وكأسه ويأتينا بكأسين جديدتين. ولم ينظر أحدنا إلى الآخر حتى ارتفعت إلينا قرقعةُ الثلج في العرق فترحرحنا وتنحنحنا وكنّا وكأننا التقينا للحظتنا، فجلستُنا من أوّلها، لتوّها بدأت أو تكاد. موعدُ محاكمتي كان موعدَ تبرئتي، فلم أمكث في بعبدا أكثر من ساعة أو ساعتين.

عازر الديّار لا يزال يدوّر طرفَ سبّابته على حافة كأسه، والمذيعُ لا يزال يصرّ على تفاصيل أخباره. أفتل المفتاح فيختفي الصوت وتنقبض عنّا أشباح الحرب. أقول لعازر بأنْ ليس هناك من جديد، فيقول بأنه لن يكون الليلة ولا غداً ولا بعد غد أيُّ جديد. أقول ولكنّ الروس ربما، فيقول الروس لن يحاربوا من أجل العرب. أستطلع عينيه وكل وجهه فيتحرك في داخلي شيء فألحّ بأنّ الروس إن تدخّلوا لإيقاف الحرب فتدخُّلُهم واقعٌ في حساب مصالحهم. تفلتُ من شفتيه ضحكةٌ يداريها ويقول بأنّ حبّي لعبد الناصر أعمى بصيرتي عن حقيقة ما يجري في المنطقة. أقول له بأن كل حروب الدنيا كانت تخضع لقوانين المفاجآت المحتملة والحسابات المحتملة، فيبتسم هذه المرّة ابتسامةً عريضة وينحني صوبي فوق الطاولة ويقول لي صوتُه بنغمة الممازحة أنْ لم يبق لكم إلا ثلاثة أيام. ثلاثة أيام، يرددها ثانيةً، ويعكف إصبعين إثنتين من يده اليسرى على باطن كفه، فتنتصب، وتشتد في انتصابها، الأصابعُ الأخرى، ثلاثاً تذكّرني بثلاثٍ حُرِّمَتْ على المسلمين. كأسي تتحرك في يدي وكأسه تتحرك في يده، ولكنْ هذه المرّة دون أن تقرقع فيهما قطعُ الثلج التي كانت، في غفلتنا الطويلة عنها، قد ذابت كلها وأذابت معها الصوت الذي كان فيه لنا، بعد كل قرقعة، لقاءٌ جديد.

 

 

 

الفصل الثالث

1958


المخــتــار

من حرمةِ السياجات تعرّتْ أشجارُ البساتين التي نُشِّئتْ، كما تُــنَشَّـــأُ الأشجارُ عادة، في ورع الخلوة التي لا يخدش سريرتَها إلاّ هواءُ الفصول وإلاّ مواويلُ البستانيّ وأهله وجيرانه وإلاّ أصواتٌ قريبة أو بعيدة تتنادى بها عائلاتُهم من جلّ إلى جلّ لاجتماعٍ على طعام أو لاستراحةٍ على ركوة قهوة أو بكرج شاي. حاصَتْ كلّها البساتين وأُجْهِدَتْ في حَوْصَتِها حتى لو أنّ لأشجارها نعمةَ الترحّل لارتحلتْ كانت إلى تربة من الأرض أخرى وسيّجتْ نفسها من جديد بورع الخلوة، ولتغاضتْ كانت ربما عن المواويل والتناديات تصّعّد من حناجر الرجال والنساء والفتيات والفتيان وهم يقومون برعاية تربتها وتعهّدِها بالزبل والماء وبتهذيب أغصانها بالتشذيب الذي يهيئها لموسم الإيراق ولعبق الأنوثة الخضراء التي من أجلها ابْتُدِعَتِ السياجاتُ ودُعِّمَتْ بكثافةِ المعربشات من النبت والمشوِّكات من العلّيق وغير العلّيق.

حرمةُ السياجات نَهَكَتْها أعقابُ البنادق وأفواهُها وهي تغوص في كثافةٍ من اليبس واللدونة تلتفّ فيها العيدانُ بعروق النبت وزهره وثمره، نَهَكَتْها الأعقابُ والأفواه وفتحتْ فيها الأحذيةُ الغليظة مساربَ للظهور المنحنية يستحثّها المدرِّبُ على عبورها إلى الجهة الأخرى، وهكذا هكذا، حتى انهارتْ مع كل جيرة من البساتين جيرتُها ووُطِّئتِ الأرضُ كلها من نهر الأولي إلى نهر سينيق فاذا هي جيرةُ البنادق والأحذية الغليظة والعيون المقتحمة بغربتها الأبوابَ والشبابيك وحتى الهواءَ الذي يهبّ على البساتين من تلال الشرق أو يسبح إليها مع الأمواج المندفعة إلينا أبداً من أفق الغرب.

ورعُ الخلوة الذي كان وكانت أُشْرِبَتْه الأرضُ بكل ما انشقّتْ عنه من نبت، وكل ما دبّ عليها من حيوان وطير، وكل ما حوّم فوقها من نسيم وريح وجناح، فَتَرَ كما يفتر الوحيُ عن الأنبياء، فوحشةٌ كلُّها البساتينُ، برتقالاً وحامضاً وأفندياً وموزاً وأكدنيا وتيناً وبقلاً وزهوراً وحشائشَ وعرائشَ، ودجاجاً وغنماً وبقراً، وحتى التي كدتُ أنسى، وما أنساها، حتى شجرة الجمّيز التي في غفلة الغيب عنها كنتُ حفرتُ في جذعها لي ولبياض السرّ مخبأً كان لي ولها خلوةً من ورع البياض، وحشةٌ كلّها البساتينُ ووحشةٌ كلها شجرةُ الجمّيز التي أصبحت محطّة لدبّابة الجيش في النهار ومَلْطى لشباب المقاومة الشعبية في الليل، وحشةٌ كأنها الموت لولا أنْ يناديني من البحر شيءٌ لم يبح لي بنفسه فألبّي أنا وأقطع الطريق فأنزل نزلة فندق طانيوس وأعبر حديقته الفسيحة مربّعاً مربّعاً حتى تتوقف قدماي، وقد توقفتْ عيناي، عند ولادة موجةٍ في حركةٍ أوّلُها نهوضٌ وأوسطُها انحناءٌ وآخرُها التفافٌ على الذات، فيلتمع النورُ في عينيّ وتتناثر الوحشةُ كلها تناثر الرَشَاش الذي يحدثه تتابعُ الموج، فيقرأ قلبي إذ ذاك إشارة الغيب، فألبّي وأحمل البياضَ الممدّد، نائماً أمامي على رمل الشاطئ، وأندفع به فتغوص قدماي في الماء المتدافع نحوي، وأظل أدخل في عمق البحر، وأظل، حتى تصبح ملءَ عينيَّ من الموج موجةٌ أوّلُها نهوضٌ، فأنهض بالبياض معها، وأوسطُها انحناءٌ، فأنحني بالبياض في داخلها، وآخرُها التفافٌ على الذات، فإذا أنا، وهي ممدّدةٌ في هناءةِ نومها بين ذراعيَّ، نلتفّ في داخل الموجة، ويتوقف بنا ثلاثتنا الزمنُ، فلا الموجةُ تنكسر على منخفضٍ من الماء أمامها، ولا نحن نخرج من فلك التفافها، ولا تعرف سرَّ مخبئنا البساتينُ التي تعرّتْ من ورع الخلوة كلُّ سياجاتها.

 

منصور

بأكلي وشربي أعمل الآن، حامداً على ذلك ربي، فجمودُ الحال على حاله لا يزال، وليس لي غير هذا المطعم يضبّني من الفراغ، وقد ضبّني كل هذا العمر، أتحمّله ويتحملّني، نتفاهم بغير كلام في زمن البحبوحة كما في زمن القلّة والضيق، ثم مَنْ لي غير جهّار يحفظ حرمةَ العشرة فيبقيني في العمل، وشهورُ التوتر بين المقاومة الشعبية والجيش قصفتْ عمرَ الليل والسهرِ فماتت المازاتُ بغياب السهّيرة وجفّت الكؤوسُ على مَشَكَّاتها، لا يملؤها إلاّ الهواءُ ونثراتُ الغبار، وتحنّ هي، نعم تحنّ الكؤوسُ، على حدّ قول جهّار، إلى مكعّبات الثلج تصلصل مثل جرس الكنيسة في داخلها قبل أن ينصبّ الويسكي على الثلج بصوت كأنه القرقعة تنبعث من عنق الزجاجة التي استبدلها جهّار بزجاجة العرق منذ بداية الثورة، وكأنما عنجهيةُ قلبه تأبى عليه التصرّف أمامنا وكأنّ حالة الضيق قد ضيّقتْ عليه أسباب الحياة فكسره الخوفُ من داخله، فقبض يدَه وجيبَه وفمَه عن ملذات مزاجه. أبداً لا يكسره الخوفُ هذا الرجل، ولَهُوَ اليوم أكثر إحساسا بي منه بالأمس، يداريني حينما أصل صباحاً وكأنني ضيف دخلتُ عليه، لا عاملاً من عمّال مطعمه ويشيّعني قبل غروب الشمس بوصيّة الإسراع نحو بيتي في البراميّة، مردّداً عليّ الترنيمة عينها كل يوم أن أذكر اسمه بوضوح لأي مسلّح أو غير مسلّح إذا ما اعترضني معترض وأنا على الطريق. لا يكسره شيء هذا الرجل وكأنما الشدّة تستفزّ في داخله شيئاً فيُستفزّ، ولكنْ على طريقته التي لا أعرفها في أحد سواه، فيصفو مزاجُه ويرقّ إحساسُه بالأشياء وبالناس فكأنما الشدّة تجوهره، تجوهره إذا كان نصيبه منها مثل نصيب سواه، أمّا إذا كانت تستفرده هو وحده دون الناس، فوحده عندئذ دون الناس يتحوّل إلى شيء لا أعرف كيف أصفه، ولكنني أذكر منه عينين تحدقان ولا تريان وشفتين مطبقتين على صمتٍ يتحرّك داخل فمه فتتدوّر به شفتاه ثم تسترخي ثم تتدوّر ثم تسترخي حتى يأخذه من نفسه صوتُ أحد من هنا أو هناك أو دخولُ أحد عليه من باب من الأبواب المشرّعة. اليوم مزاجُهُ مزاجُ ترقُّبٍ وانتظار، فعيناه على الطريق تلحقان بكل سيارة آتية من صوب النهر باتجاه صيدا أو ذاهبة من صيدا باتجاه النهر. وليس يخونني ظنّي فها هي سيارة أبو الوليد تنعطف إلى الطريق الترابية التي بين المطعم ومجرى الساقية وتتوقف أبعد ما تكون عن الطريق العام، كما أصبح دأبه في اختيار هذا المكان منذ بدأت الثورة وراحت دوريات الجيش تجوب شارع رياض الصلح من ساحة النجمة حتى حاجز الجيش على جسر الأولي، بالجيبات أحياناً وبالشاحنات أحياناً أخرى، ومرّاتٍ بمصفحة أو دبابة، حسب توتر الأجواء أو هدوئها. ينزل من سيارته ويقحّ قحّة عالية، وقد أعطانا ظهره، ثم يرفع كفّ يده اليمنى فيغطي بها جانبَ خدّه الأيمن وينتر رأسه إلى الأمام نترةً واحدة أعرف منها أنه بصق في مجرى الساقية بصقته المعهودة كلما نزل من سيارته هناك. يلتفت إلى ناحيتنا ويبلع ريقه ويمشي فيصعد الدرجات ويهزّ برأسه محيّياً، وفمه مغلق على غير عادته وكأنما جفّ فيه الكلام. أنا وكسّاب وحنقير وعديّ تلحق به أعينُنا فقط، ونبقى في أمكنتنا حول الطاولة التي نجلس إليها منذ ساعات، بأعيننا فقط، نلحق به لأننا بحكم العادة صرنا نعرف أنّ صمته يعني رغبته في أن يجلس مع جهّار لوحدهما. لا يتحرك منّا أحد حتى عديّ الذي كَسَرَ عليه بالعشرة أكثر من أي واحد من أبناء جهّار، ربما لأنهما ذَهَبا بالسرّ عن جهّار مرّة أو مرّتين إلى بيروت للسهر في كباريه تلك الإسبانية التي انْطَوَشَ بها رأسُ عديّ فهو يستدرج أبو الوليد للسهر معه ليستفيد من خبرته في أمور النساء. في الأول كنتُ أستنكر صُحْبَتَهما في هذا الأمر بالذات، وبينهما من فارق العمر ما بين الإبن وأبيه، ولكن روح أبو الوليد الفكهة والسمحة تغريكَ في الآخر أن تأخذ مغامرتهما الليلية مأخذ اللهو والمسايرة. ثم إنّ شيئاً في نفسي يحدّثني أنه من الأفضل أن تظل الأمور على ما هي عليه فوجود أبو الوليد مع عديّ في سهرات الطيش لا بدّ أنه يحميه من التورّط في مشاكل السكر والخناقات التي تقع عادة بين القبضايات المتنافسين على الأرتيستات، وخاصة الإسبانية التي طَوَشَتْ رأسَ الشباب. إلاّ أنّ أخشى ما أخشاه هو أنّ أبو الوليد حبيّب حياة وأنّ الفأر الإسباني ربما بدأ يلعب بعبّه، وأنه هو الآن أصبح بحاجة إلى من يدير عليه باله.

 

عديّ

تصفيقاً شديداً تصفّق يدا أبي فنهبّ أربعتنا من كراسينا ونندفع واحداً خلف الآخر صوب أقرب باب من أبواب القاعة إلينا، فنعبره إلى حيث الطاولة التي نعرف سلفاً أنّ أبي وأبو الوليد يجلسان إليها، نهبّ ونندفع ونعبر وكأنّ كل واحد منّا هو المعنيّ بنداء التصفيق، وما أن نتحلّق حولهما حتى يشير أبي إلى حنقير ومنصور وكسّاب أن يعودوا من حيث أتوا ويشير إليَّ أنا أن أبقى وأجلس على الكرسي المجاور لكرسي أبو الوليد فأجلس بعد أن ألقي نظرة أخيرة على ظهر كسّاب وعلى كعب حذائه وهو يختفي عبر الباب الذي دخلنا منه إلى القاعة. أنا إذن مَنْ يريده أبي دون سواي، وأنا المعنيّ بنداء التصفيق، وحدي أنا.

إنتبهْ إلى كل كلمة سيقولها لكَ أبو الوليد، يقول أبي، وقد انحنى رأسه قليلا فوق الطاولة وانخفض حسُّه إيحاءً بأهمية الأمر الذي سوف يسرّ به إليّ الصوتُ الآخر. إلتفاتةٌ سريعة منّا إلى الأبواب المشرّعة ثم يأتي الصوت الآخر بالخبر. من صديق لي في الجيش علمتُ اليوم أنّ الهدنة المتّفق عليها بين قائد المنطقة العسكرية في الجنوب ورئيس المقاومة الشعبية في صيدا سوف يخترقها قريباً ضابطٌ يسمّونه جان الكسرواني، فهو يحضّر لكبسةٍ سرّية سيقوم بها على منطقة الكوزينا، أعني غابة الكينا الممتدة على طول الضفّة الجنوبية لنهر الأولي ما بين الجسر القديم والجسر المشرف على مصبّ النهر. أعرف أنك تعرف حدود المنطقة ولكنني بهذا التفصيل أريدك أن تنقل الخبر. والضابط الكسرواني، كما عرفتُ كذلك اليوم، هَيئتُهُ من أنصار رئيس الجمهورية الذي يحاول التجديد لرئاسته ست سنوات أخرى رغم المعارضة العارمة لرغبته. هذا ليس مهمّاً الآن، فالمهم أنّ الكبسة لا نعرف بالضبط متى ستكون، ولكنّ المعروف أنّ الهدف منها هو أسر أكبر عدد من شباب البساتين الصيداوية وأكبر عدد من الشباب الفلسطينيين الذي تسرّبوا من "مخيم عين الحلوة" إلى البساتين ليدرّبوا شبابَنا على استعمال السلاح. كل كلمة أقولها لك الآن يجب أن تنقلها بحرفيَّتها دون زيادة أو نقصان ودون تبهير أو تبخير حتى لا يُفهم شيء من الرسالة خطأً.

إلى هذه الدرجة إذن القضيةُ مهمةٌ وخطيرة، تحدّثني نفسي، وإذن للسبب عينه وقع الإختيارُ عليَّ أنا دون سواي لأنقل الرسالة الشفوية إلى رئيس المقاومة الشعبية في صيدا القديمة. أنا دون سواي. أنا. بالتأكيد أبي يقدّرني وبالتأكيد يضع في الميزان جرأتي ويرجّحها على مسكنةِ كسّاب، على طأطأةِ رأسه إذا تحرّك أو سكن وعلى ذلّ المسالمة التي ينوص بها صوتُه، خاصة في حضور مَنْ كانت جَيْبَتُهُ صوتاً له ومَنْ كانت النجومُ على كتفيه اسماً له وكناية. أبلع ريقي وأهزّ رأسي هزّاً خفيفاً موزوناً ليدرك أبو الوليد أنني أستوعب كل كلمة يقولها وأنني، وإن لم أكن بالإبن البكر لأبي، فأنا الأهمّ بين أبنائه لأنني وحدي دون سواي يُعَوِّلُ عليَّ في الأمور التي يتداولها الرجال. وكما في السِّلم فكذلك في أيام الثورة، أنا الذي أمثّل أبي عند وجوه العائلات وعند النافذين من موظفي السراي والإِشْلِهْ ولدى ضباط الثكنات الذين كثيرا ما كانوا يرتادون مطعمنا قبل اندلاع الثورة.

ينتهي من حديثه أبو الوليد فيشعل سيجارة ويأخذ منها نفساً عميقاً، وقد صغرت عيناه في وجهه، ثم ينفث الدخانَ من صدره، بقيّةً من الحديث لا يترجمها عن الصدر كتابةٌ أو كلام. عينا أبي كانتا كذلك قد صغرتا في وجهه وهو يقلّبهما بين وجهي ووجه المتحدث إليّ وكأنهما تقيسان الكلمات وتَزِنان أهميتها وترصدان استجابةَ عينيّ لكل ما تسمعه أذناي. الآن ينحني ظهرُ أبي قليلا إلى الأمام وتلتفّ كفّ يده اليمنى إلى الجيبة الخلفية من بنطلونه فيسحب منها ضَبْوَتَهُ ويفتحها ويناولني منها ورقتين من فئة الخمسة وعشرين ليرة. ثم يشرح لي بصوت خفيض أن أستعمل النقود كحجّة لدى حواجز الجيش التي تحاصر مداخل المدينة القديمة، فأتحجّج أنني مضطر إلى زيارة عمّتين لي، أم حنقير وأم إسماعيل، لأعطيهما ما تيسّر لأبي أن يقدمه لهما في هذه الظروف الصعبة. أبي يقول إنّ استعمال المعلومات الصحيحة على حواجز الجيش يسهّل العبور، لأنّ اسمه معروف لأجهزة الأمن ولمخابرات الجيش، ولأنّ هذه الجهات تعرف أنّ له أختين وابنةً يَعِشْنَ داخل المدينة القديمة. ألفّ الورقتين بحركة موزونة وأضعهما في ضبوتي وأضع ضبوتي في الجيبة الخلفية من بنطلوني وأقف استعداداً لتنفيذ المهمة. عيناي تنحدران إلى حذائي فألمح على الطرف الأيمن للفردة اليسرى عبقةَ غبارٍ لا أعرف من أين أتت، فأنحني بحركة موزونة وأمسح بأصابع يدي ثم أمسح حتى يشرق من السواد اللمعانُ الذي أحبّه.

 

سارِبْ الهَيّوبْ

مُحَبَّلَةٌ من بعضها القلوبُ، والرصاصُ ينادي الرصاصَ، وقلبي فارغٌ من كل ما تمتلىء به الدنيا، لا تنبض فيه إلاّ النجمياتُ التي لم تزل عالقةً في أطراف السماء، واهيةَ الضوء فكأنما خبّأت عن الأرض شعشعتَها  وأرسلتْها إلى الكواكب التي على الوجه الآخر للفضاء. كل شيء حولي ينوص، حلكةُ الليل والأنسامُ العابرة إلينا من تلال الشرق وحتى صوتُ الموج تحت قناطر الجسر العتيق. كلُّ شيء ينوص فيُحتمل إلاّ صوتُ الماء، فالوجود كله بدأ في الماء، يقول فلاسفة الإغريق، وعرشُ الله كان فوق الماء، يعلّمنا الكتاب الكريم، ويزيد فيروي عن لسانه تعالى أنْ جعلنا من الماء كل شيء حيّ. أنْ ينحلَّ صوتُه، إذن، كما تنحلّ الأشياء الأخرى إيذانٌ باختلال الوجود، وما الجفافُ من تدفقه في أذنيّ تحت قناطر الجسر العتيق إلا انكفاءُ الحياة إلى يبسٍ عدميٍّ في التراب قبل أن يصيب الترابَ طَلٌّ أو يغشاه الغيثُ فيتهزّ بالروح التي هي كنْ فيكون.

فارغٌ قلبي من كل ما تمتلئ به الدنيا، ولولا هذا النفَس الذي يتردّد واهياً خافتاً في صدري لملأني اليقين أنني أتأمل هذا العالم من واحدةٍ من الانسراحات التي تحوّم فيها أرواحُ الناس بعد انسلالها من الأجساد التي أبداً إلى خمود وهمود.

الرصاص لا يزال ينادي بعضه بعضاً، ولكن من بعيد، والمناوشات بيننا وبين الجيش لا تقدّم ولا تؤخّر، اللهم إلاّ ما توحي به الصحف من أنّ الوضع سيستمر على حاله حتى تنتهي مدّة الرئيس القانونية فيرحل ويُنتخب رئيس جديد. وذلك يعني، فيما يعنيه، أنّ السنة الدراسية ضاعت عليّ وأنني سأعيد صفّ الفلسفة وكأنّ الزمن توقّف بي وبرفاقي عند هذا التاريخ.

يوم يأتي اليومُ الذي يطلبون منّا فيه تسليمَ قطع السلاح، سأستأذنهم وآتي خلسة عند منتصف الليل فأقف هنا على الجسر العتيق وأرمي بسلاحي إلى مجرى النهر ليتفجّر من تحت القناطر صوتُ تدفّقِ الموج من جديد فتموج باللدونة أذناي ويصطخب في صدري الشيءُ الذي اصطخب فيه وهي تناولني، في طقّة الظهر، من على عتبة باب بيتها، إبريقَ الفخّار العتيق.

 

عَبَدْ البَرْبوشْ

مُمَسْمَرٌ على طرف الجسر منذ ساعات، هناك هناك، لا يتحرّك منه إلاّ رأسه، يلوي به إلى مجرى النهر وكأنه يريد أن يرى الماء، والماءُ ينحشر في كعب الليل ويتابع سيره تحت القناطر نحو البحر. غريب أمره وغريبة أطواره ابنُ المدارس، فمنذ أتى إلينا في البساتين، هارباً من المدينة المحاصَرة، والمدرِّب لا يشيله من فكره ويظل يذكّرنا أن نحوطه وندير بالنا عليه لأنّ حياة التدريب في البساتين، للغريب عن عيشة البساتين، صعبة أول الأمر حتى يتعوّد عليها ويألفها، ولأنّ سارب، كما يبدو، لا يزال نَعْنوعاً، مثل أولاد المدارس، لم تخشّنْه الحياةُ كما خشّننا نحن أبناء البساتين المشيُ في الجلول والوحول بأرجل حافية في الصيف والشتاء، تماماً مثل الدجاج والكلاب والبقر، وحملُ سلال البرتقال والحامض والأكدنيا من جلّ إلى جلّ إلى جلّ حتى نفرغها تحت السقيفة ونعبّئها في صناديق الخشب ونمسمر الصناديق ونصفّها فوق بعضها البعض لتأخذها آخر النهار إلى الحسبة في صيدا عرباتُ الحمير والبغال. نعنعةُ أولاد المدارس تخلّي الواحد منهم خَسِعاً يتعب بسرعة ويلهث إذا مشى مترين. كل هذا صحيح ولكن سارب يحيّرني لأنه حينما كلّفني المدرِّب أن أقوم بتدريبه على حياة البساتين وعلى كيفية التنقّل، في الليل وفي النهار، من بستان إلى بستان، وبالأخص من قلب السياجات، بطريقة خفيفة نظيفة حتى لا يحسّ بتحركاته أحد، وعلى كيفية طمس آثار المشي في التراب أو تضليل مَنْ يلحق به، إذا لحق به أحد، بالمشي على طريقة اللفّ والدوران، حينما استلمتُه من المدرِّب بدا لي خجولاً مثل البنات، كفّاه ناعمتان كأنه وُلِدَ صبيّاً بالغلط، فخفتُ أن أقسو عليه بالتدريبات فيهرب ونخسر عنصراً نحن بحاجة إليه للمحافظة على أمن البساتين وعلى حياة شباب المقاومة الشعبية، خفتُ وقلتُ في نفسي طوّلْ بالك عليه حتى يتكسّب خشونةَ الرجولة شيئاً فشيئاً. وكنتُ أظن أن الأمر سيطول حتى يصبح رجلاً مثلنا فكان يخيّب ظني بسرعةِ فهمه للأشياء فيأخذها وكأنها شربة ماء وبتحمّله المشقات بصبر لم أكن أتخيله موجوداً فيه. وبدأ رأيي فيه يتغير وترحرحت العلاقة بيننا، ترحرحتْ نعم، ولكن بقي فيه شيء لم أقدر على فهمه، فكنت أفكر فيه وأفكر لأحل لغز الصمت الذي يفلت عليه فجأة فيظل لسانُه مربوطاً لساعات وعيناه تنظران إلى شيء كأنه موجود أمامه وهو غير موجود. هكذا هكذا، كما هو الآن على طرف الجسر، يتمسمر فجأة، وكأنه تخشّب، ولولا رأسه الذي يلوي به إلى مجرى النهر أو يرفعه مرّة ويدوّره في الهواء كأنما يبحث في الهواء عن شيء يعرفه هو ولا أعرفه أنا لظننتُ أنه تمثال من حجر هبط علينا من السماء أو أنّ روحاً من أرواح الجنّ لبستْه وثبَّتته في وقفته التي هو فيها الآن. ربما الكتبُ التي قَرَّؤهُ فيها في المدارس خَشْخَشَتْهُ، فهو كلما تذكّر الأشياء التي فيها يغرق في سرحته وينساني ويقف هناك كالمضروب على عمره، ينبّش ويبحبش في العتمة التي تحته والعتمة التي فوقه على الشيء الذي ليس موجوداً إلاّ في خشّة رأسه. العِلْمُ، يا عبد، كان جدي رحمه الله يقول، مثلُ الكلام، كلمةٌ تحنّن وكلمة تجنّن، فَحُطَّ عقلك في رأسكِ وحُطَّ رأسك في البستان، فالعيشةُ مع الأرض أنظف للدماغ. فهل في عمركَ سمعتَ ببستانيّ نقلوه إلى مستشفى العصفورية؟ أبدا. كل سكان العصفورية، بما في ذلك الأطباء، أولاد مدارس وأولاد عائلات. جدي كان صاحب نكتة، وكان يقول ذلك لأننا كنا دائماً على قدّ حالنا، لا نقدر على المدارس ولا تقدر المدارس علينا، وطبعاً أنا لست ضدّ العلم، ولكن سبحان الذي ريّحني منه ومن خشخشات الرأس التي أراها في سارب وأسمع عن أغرب منها في غيره.

هَهْ ! شيء حدث له الآن، فهو يلفّ حول نفسه ويلفّ ورأسُه مرفوع إلى فوق كأنه لا يزال يلحق بعينيه الشيءَ الذي يعرفه هو ولا أعرفه أنا، والذي، في أغلب الظن، ليس موجوداً إلاّ في رأسه. وبالطبع هو ليس من عبّاد النجوم، ففي الغرفة التي ننام فيها يحتفظ بالقرآن ويقرأ فيه كلما كان لدينا وقت فراغ، ويصلّي أحياناً، وخاصة عند الفجر ويقول لي إنّ صلاة الفجر هي أحلى صلاة لأنّ الجوّ أصفى ولأنها تشهدها ملائكةُ الليل وملائكة النهار. ويخيل إليَّ وهو يحدّثني بذلك أنه فعلاً ينظر إلى الملائكة أمامه تتحرك وترفرف بأجنحتها فأحدّق في الهواء ولا أرى شيئاً فأستغفر الله وأستعيذ به ممّا أرى وممّا لا أرى ويطنّ في أذني صوت جدي، العلمُ، يا عبد، مثلُ الكلام، كلمةٌ تحنّن وكلمة تجنّن، فأترحّم عليه وأحسحس على الأرض تحت قدميّ وأقول لنفسي صحيح أنّ العيشة مع الأرض أنظف للدماغ.

ماريّا ! يا ماريّا ! يا ماريّا ! يدور صوتُه فوقه في الفضاء، كالصرخة تتلوها الصرخة، تتلوها الصرخة، وينفجر في الجوّ شيء كأنه نواح العاصفة في كانون وآذار، شيءٌ يقطع أنفاسي فكأن الهواء انتهى، وأحسّ أنني غبتُ عن الوعي لحظة أو لحظتين، ثم يلفّني بعدها الهواءُ طريّاً طريّاً فكأنّ نبعاً خفيّاً انفجر في السماء فغيّر الجوّ كله وسقطت منه علينا رطوبةٌ ونداوةٌ غريبتان. فما الذي يجري حولي في هذا الليل، يا الله؟ وهل يعني ذلك أنّ سارب وقع في اللعنة التي يقع فيها الذين لم تخشّنْهم الحياةُ ولم يتكسّبوا بعد رجولةَ الرجال؟ ماريّا هي إذن ! ماريّا صاحبةُ إبريق الفخّار !

 

 

أم ماريّا

أنفض يديَّ من رغوة الصابون وأترك الغسيل المنقوع في الحَلَّةِ حتى ينحلّ الوسخ في الماء الساخن ويصبح جاهزاً لِلْعَكّ فأعكّه حتى ينظف ثم أفوّحه في الماء البارد وأعصره وأسفّطه فوق بعضه البعض في الحلّة الأخرى، ثم أرفعها فأسندها إلى خاصرتي وأمضي بها فأنشر الغسيل على الحبال المنصوبة وراء البيت لتنشف على مهلها في الشمس والهواء. هذا كله كان قبل أن تبدأ الثورة وينتشر المسلحون من أهل الجيرة ومن الغرباء عن الجيرة وخاصة من "مخيم عين الحلوة"، أمّا اليوم فأنفض يدي من رغوة الصابون، وعيني على أبو ماريّا، فأمشي إليه وأنا أنشّف يديَّ بأطراف فستاني، وأسحب كرسي القشّ الواطئة فأجلس عليها إلى جانبه وأفْرِدُ له وجهي بالابتسامة التي يحبّها وأدقّ كتفي بكتفه وأمازحه فأهمس به "سارحٌ أنتَ في جلستكَ منذ الصباح، لا تهشّ ولا تنشّ، ولو أنكَ كنتَ منهم لصرختُ فيك وَحِّدوهْ ! ولكنكَ مثلي من أهل الكتاب!"، فتميل الكأس في يده نحوي ويميل وجهه إليّ بطيف ابتسامة، ويرتفع حاجباه قليلاً وينزلان مع هزّةٍ من رأسه أفهم منها أنْ ما نفع كل الكلام.

يخيفني سكوته أحيانا أكثر مما تخيفني فشّاتُ خلقه، فشّات خلقه بالصراخ مرّة، ومرّة بالمسبّات التي تعّلمها من رفاقه من جيرة الملّة الأخرى. ولطول بقائه في البيت وحول البيت في الأيام الأخيرة راح ينكشف لي ما كنتُ أجهله من رحرحة لسانه التي اكتسبها من عشرته لصحبة العرق في الليل وصحبة ركوة القهوة في الصباح وعند العصر. لسانه ترحرح أكثر من اللازم، وإذا طال به الأمر على هذه الحال فلسوف يكون لي معه كلام. إلاّ أنني في طويّتي أشفق عليه من الفراغ الذي هو فيه وأدعو له العذراء كل ليلة أن تتحنّن عليه وتخلّصه من اليأس فتملأ قلبه بنور ابنها الوحيد وتزيح عنه الخوف على ماريّا وعلى مستقبلها إذا ما حدث له شيء وتركها وتركني وحدنا في جيرة الغرباء الذين امتلأتْ بهم البساتين وجرّأتْهم أسلحتُهم على نهشنا بعيونهم وبأفكارهم كلّما مرّوا، صباحاً للتدريب في غابة الكينا، ومساءً وهم راجعون إلى مراكزهم للمبيت. وهم لا يتورعون عن التوقف ببابنا أحيانا لطلب شربة ماء، وماءُ النهر الذي كله لهم ليس عنهم ببعيد. هذا الذي جنّن أبو ماريّا في المدة الأخيرة وحبسه ليل نهار في البيت، لا يخرج إلاّ ليطوف حول أشجار البيت ويطوف وكأنه يدور حول نفسه، حتى إذا أخذ منه التعب والضجر، عاد وجلس على كرسيه الواطئة على مصطبة مدخل البيت وفتح قنينةً وصبّ في كأسه العرق وراح في سرحته التي هو فيها الآن.

أدقّ كتفي بكتفه مرّة أخرى دون أن أقول له شيئا، لأنّ الكلام والسكوت أصبحا توأمين، ولأنّ شهور الثورة علّمتني أنّ أجمل أحاديثنا هي التي نسكت عنها. والحديث الذي ما زلنا نسكت عنه، وهو يدور في رؤوسنا، ليس يختصّ بخوفه على ماريّا ومستقبلها بل يخصّني أنا، أنا التي كأنّ الحرب ولدتْني من جديد في عينيه وكأنما خوفه عليّ من العيون التي أصبحتْ كالرصد على بيتنا وشبابيكه وحتى على غسيلنا النسائيّ المنشور على حبال الغسيل خلف البيت، كأنما خوفه كَسَرَ في داخله الطمأنينة فاستيقظ وفتح عينيه فجأة على ما كان نسيه منّي، فكثيراً ما صرتُ ألقطه تنصبّ عيناه عليّ تتأملاني من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق، كأنه لأول مرّة يراني، وحينما يراني أنظر إليه وهو يتأمل وجهي ورقبتي وبياض زنديّ وقد رفعتُ عنهما الكُمَّيْن لتسهل حركتُهما وأنا أعمل وكذلك وهو يتأمل سحبةَ البياض من بطّة رجلي التي لا أذكره إلاّ ويده تحسحس عليها، حينما يراني أتأمله وهو يتأملني، يبتسم فمه ابتسامة مغلقةَ الشفتين، حزينةً كما لا أعهد الحزن فيه، فأنهض إليه وأنحني فوق رأسه، وأقبّله وأريح خدّي عليه، وقد انحدرتْ يداي تحلمسان على يديه ببقيّة الحديث الذي تبادلناه بالسكوت عنه. ودون أن يطلب مني ذلك، صرتُ أكثر حرصاً وتستّراً وحشمةً في مظهري كلما اقتحمتْنا العيون التي جرّأها السلاحُ على اقتحامنا. ولولا أن يطالني حديثُ الجيرة بشيء لفعلتُ مثل نساء الملّة الأخرى فعصبتُ رأسي بمنديل ولطوّلتُ كمّي وفستاني، لتنكسر عيونُهم عنّي وليحسّ هو أنني له وحده وأنّ الغرباء سيبقون غرباء عني وعنه وعن ابنتنا الوحيدة ماريّا.

أدقّ كتفي بكتفه من جديد، ولكنْ هذه المرة ليس بنيّة المزاح فمن بين الأشجار التي خلف البيت يتهيّأ لي أنّ أصواتاً خافتة يتداخل بعضها في بعض، أصواتاً لا أعرف إن كنتُ قد سمعتُها من قبل أم لا، فيلتفت إليّ أبو ماريّا هذه المرّة وقد اختفتْ عن فمه الابتسامةُ المغلقة الشفتين وانفتحتْ عيناه على وسعهما وكأنه بهما يحاول التقاطَ الأصوات التي تهيّأ لي أنها أتت من بين الأشجار التي خلف البيت. أنهض عن الكرسي وألتفت حولي متوقعة أن تطلّ علينا في أية لحظة وجوهُ شباب المقاومة الشعبية في طريقهم إلى غابة الكينا على ضفة النهر، ولكنّ أحداً لا يطلّ، والأصواتُ التي كانت، تختفي فجأة، كأنها لم تكن هناك في الأصل، فينهض أبو ماريّا ويتلفّت حوله مثلما تَلَفَّتُّ أنا وينظر إليَّ نظرة ذات معنى ويأخذ طريقه عن جانب البيت وينعطف حوله مثلما تَلَفَّتُّ أنا وينظر إليَّ نظرة ذات معنى ويأخذ طريقه عن طريقه عن جانب البيت وينعطف حوله عند زاوية الحائط ويمشي في التراب، دعسة وراء دعسة، على أقل من مهله، وأنا وراءه، رجلي خلف رجله، وعينٌ لي على ظهره والعينُ الأخرى تسبقه إلى الأشجار التي على حدود حبل الغسيل، وخوفي ممّا يدور في رأسه أفظع من خوفي مما قد تفاجئنا به الأشجار، فكؤوس العرق التي في رأسه ونظرتُه إليَّ كأنه يراني لأول مرّة بكلّ ما فيَّ من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق، كل ذلك يحسّسني أنّ هذا اليوم لن ينقضي على خير. وينغلق أمام عيوننا شبّاكُ غرفة ماريّا، وتحته يقف، دون أن يحسّ بقربنا منه، الشابُ الذي طلب مرّة شربة ماء، والذي حينما خرجتْ ماريا تناوله الإبريق، ارتفع في يده الإبريقُ وتجمَّد في الهواء، فلا هو يشرب منه ولا هو يعيده إليها، تَجَمَّدَ في الهواء تَجَمُّدَ يده وتجمّدتْ عيناه في وجهها وكأنه يرى سرّاً انكشف له فجأة، كما لا يزال ينكشف لأبو ماريّا شيء كالسرّ كلما نظر إليّ هذه الأيام. أفهم للتو ما لا أريد أن أفهمه وأحس بما يحس به الآن، ولأول مرة أشعر معه بالخوف الذي يخافه على مستقبلها إذا ما حدث له شيء وتركنا في الجيرة التي أصبحتْ أشبه شيء بالغربة. أبو ماريّا يقف، لا تتحرك منه رجل ولا يد ولا فم، وخلفه أنا، عينٌ لي على ظهره والعينُ الأخرى على الشاب الذي لا يحسّ بقربنا منه، والذي وجهه معلّق بدرفتيْ الشبّاك المغلقتين وكأنه في حالة انتظار، فلعلهما تنفتحان في أية لحظة، وهما لا تنفتحان. أبو ماريا يتنحنح فيطير الخوفُ عليه من قلبي وأعرف أنه لن يجنّ وأنّ اليوم سيمضي على خير مهما كان ذلك الخير موجعاً. يُنْزِلُ الشابُ وجهَه عن الشبّاك ويلتفت على أقل من مهله نحونا. ابتسامتُه الحزينةُ تحدّثنا بأكثر ممّا نريد أن نعرف. وقبل أن نعرف ما ينبغي علينا أن نفعله تذوب الابتسامةُ الحزينة بعيداً بعيداً في أشجار البستان.

 

منصور

يردّ عليَّ الصوتُ من وراء الباب أنه الجيش وأنني إن لم أفتح الباب سيخلعونه فأقول للصوت أن يصبر حتى أحضر المفتاح من غرفة النوم فيردّ من جديد أنه يعطيني دقيقة واحدة، ستين ثانية فقط لأفتح، وإلاّ. أركض إلى غرفة النوم لأوقظ تيريز ولأشرح لها أن تذهب في الصباح إلى المطعم وتخبر جهّار بأنهم أخذوني، إذا هم فعلاً أخذوني، ليتصرّف هو بمعرفته فيتصل بأبو الوليد وبأصحابهما من ضباط الثكنة ليتركوني قبل أن يحدث الذي قد يحدث فيكون مصيري مثل مصير الذين نسمع أنهم أخذوهم للتحقيق معهم بتهمة التعامل مع المقاومة الشعبية أو بتهمة كتم الأخبار عن الدولة. تيريز تشدّ فستانَها على جسمها وتبكّل الأزرار المفتوحة وتقول بأنها ستفتح الباب بنفسها وتقول لهم بأنني مريض، فأرجوها ألاّ تجنّ وأقف بوجهها فتدفعني بيديها جانباً وتندفع أمامي خارج الغرفة وهي تملّس على شعرها مرّة وتشدّ فستانها على جسمها مرّة حتى تصل إلى الباب فتدوّر المفتاح في القفل وصوتُها يسبقها إلى خارج العتبة أنْ لماذا كلّ هذا الدقّ والدنيا بعد منتصف الليل والناسُ في فرشهم بلباس النوم وأنّ الصباح لن يهرب منهم إذا انتظروه. يسكت الصوت الذي كان يدقّ ويأتي من الليل صوت آخر يسأل عني، فتردّ عليه تيريز بأنها زوجتي وبأنني مصاب بإسهال بدأ معي مع غروب الشمس وبأنها حَمَتْني عن الأكل وسلقتْ لي حبتين بطاطا وهَرَسَتْهما في الصحن وغطّت الصحن باللبن وبأنها لقّمتْني بيدها لأن جسمي كان مرخرخاً من كثرة الإسهال الذي لم ينقطع حتى الآن. الصوت الذي أتى من الليل يأتي مرّة أخرى، ولكن بحدة هذه المرة، أنِ اتْركينا ننفّذ مهمّتنا لأنْ لا وقت لدينا نضيعه في الأخذ والردّ. تيريز يعلو صوتها وتتقدم خطوة فتسدّ الباب وتقول أنّ الأخذ والردّ لن يغيّرا من حالتي وأنّ الصباح لن يهرب منهم إذا انتظروه. الصوت الذي أتى بحدّة يأتي بحدّة مرّة أخرى يسأل عن الشخص الذي يقف وراءها مَنْ يكون. تلتفتُ تيريز فتراني أقف بوجهها فتصغر عيناها في وجهها وتهزّ رأسها هكذا وهكذا وتهجم عليَّ فتفتلني بيديها فتلةً واحدة وتدفعني صوب باب غرفة النوم، وصوتُها يتوجّع في حلقها أنْ كيف تركتَ فراشكَ يا منصور وحالتك تتطلّب الراحة والدفء وأنّ كثرة الحركة تحرّك الإسهال وقد يفاجئك قبل أن تصل إلى الحمّام فتتّسخ البيجاما ويشرشر الإسهال على الأرض، فنكون في شيء ونصبح في شيء آخر، ولا أحسّ إلاّ ويدُ الصوتِ الغريب تمسك بكتفي وتشدني إلى الوراء فأتراجع خطوة خطوة حتى لا أنتبه إلاّ واليد الغريبة تضغط على كتفي وتُجْلِسُني على كرسي وإلاّ وفوق رأسي وجهٌ يطل عليَّ لا أذكر أنني رأيته من قبل بين وجوه الضباط الذين كانوا من زبائن المطعم قبل بداية الثورة، ولكنّ عيني تميّزه حينما يمشي ليدور حولي فتلمع في رأسي صورة لجانب وجهه وهو في الجيبّ العسكري الذي يتقدم الدبّابة، يلتفت وكأنه لا يتلفت وينظر بطرف عينه إلى المطعم كأنه يبحث فيه عن شباب البساتين دون أن تقع عينه مباشرة في عين جهّار أو عين أحد منّا ونحن نجلس حول الطاولة الأقرب شيئاً إلى الشارع، نلعب الورق أو طاولة الزهر. يتوقف فجأة وينزل صوته عليَّ من فوقي أن لن نأخذكَ إلى الثكنة هذه الليلة فشفيعتكَ الليلة امرأتك، وإن تكن سرعةُ خاطرها في تأليف القصص عن مرضك يعتبرها القانون محاولةَ التفافٍ على الواجب الوطني أو على الأقل عملية تزوير للحقيقة. ويرمي تيريز بنظرة كالحجر، فتردّ تيريز على الحجر بِطَوَّلَ الربُّ عمرك وحرستْ شبابَك العذراء. خَدُّ وجهه المشدود يسترخي ويبلع ريقه وكأنه يبلع معه ابتسامته. إذا كانت امرأتكَ تحبّكَ إلى الحدّ الذي تجرؤ فيه على استصغار الدولة والكذب عليها لتحميكَ، فأقلّ ما يمكنكَ أن تفعله من أجلها هو أن تساعدها لكي تحتفظ بك. يقول ذلك وعيناه تروحان وتجيئان بيني وبين تيريز، التي كانت قد قرّبتْ كرسياً إلى حيث يقف الضابط ودعتْه بالإشارة والابتسامة للجلوس. يزيح الكرسي بجانب حذائه ويرمي تيريز بنظرة كالحجر، فتردّ تيريز على الحجر بأنها ستعمل لنا القهوة وتخرج، ويداها تشدّان بالفستان على جسمها مرّة وتملّسان على شعرها مرّة. تظل عيناه خلفها على الباب الذي خرجت منه وكأنه يتوقع رجوعها للتوّ فأنظر أنا مثله وخوفي يزداد من أن تعود وتقول شيئاً لا يرضيه فيقع الذي أخاف وقوعه فيأخذونني إلى الثكنة بالبيجاما كما أنا. يحوّل نظره عن الباب إلى جهتي ويسحب الكرسي من رجلها بطرف حذائه ويدير مقعدها القشّ إلى جهته ويجلس مفرشخاً وصدرُه مُعَرَّمٌ أمامه ووجهه في وجهي فأحسّ أن لحظة الجدّ وصلتْ وأصلّي إلى العذراء أن تلهمني الجوابات الصحيحة على أسئلته. يفهّمني بالمختصر المفيد أنّ امرأتي ذكيّة وأنها تتعاون معهم بشطارة، دون أن يتمّ قوله أنّ عليّ أن أكون مثلها فأتعاون معهم لينتهي اللقاء على خير. هو لا يتمّ ولكن أنا أفهم. أتابع النظر إليه متوقعاً السؤال الأول، ولكنه لا يسأل شيئاً، بل ينحني إلى الأمام ويشبك يديه على ظهر الكرسي ليقرب وجهه من وجهي وكأنه على وشك أن يخبرني سرّاً، هذه الثورة سوف تنتهي، يقول، وأنتَ منّا. أتابع النظر إليه وأحس أنه يحاول الضرب على الوتر الذي لم يذكره باسمه ولكن يلمح إليه. أنتَ منّا، يعيد القول وتبحث عيناه في عينيّ عن الشيء الذي يبحث عنه ولا يجده. أنتَ منّا قبل الثورة وبعدها، يقول من جديد، شئتَ ذلك أم أبيتَ، فلماذا إذن لا تكون الآن منّا، وأنتَ منّا، فنعمل معاً للقضاء على المتمرّدين على سلطة الدولة وهيبة الرئاسة. أتابع النظر إليه ورأسي تدور فيه الأسئلة التي لم يختر منها بعد سؤاله الأول. أنا لا يهمّني أن تكون مسيحياً مثلنا، ولكنكَ مثلنا، كلبناني، ترفض بالطبع أن يتدخل الغرباء بين اللبنانيين ويحرّضوا فريقاً على فريق فتقوم الثورات كلّ بضع سنوات، ولو لم يتدخل عبد الناصر ويهرّب السلاح لجماعته عبر الحدود السورية، هل كنتَ تعتقد أنه كان بإمكان أحد أن يتجرأ على إعلان ثورة مسلّحة ضدّ رئيس الجمهورية بصرف النظر عن أخطائه أو هفواته؟ أليس يزري بكل لبناني أن يتدخل الغرباءُ في قضاياه الداخلية ولا يفعل شيئاً؟ أبلع ريقي فيبلع ريقه ويهزّ رأسه. وتدور في رأسي وتظل تدور الأسئلةُ التي لم يختر منها بعد سؤالَه الأول. نعرف كل شيء عنكَ وندرك أنّ جهّار يعاملكَ في مطعمه معاملة حسنة، ويجب أن تفهم أن المقصود ليس جهّار ولكنْ شباب البساتين والمنضمّون إليهم من "مخيّم عين الحلوة"، فأولئك هم الخطر على الدولة، ومتى تمّ تجريدهم من السلاح، تنتهي الثورة. ويسكت، فأبلع ريقي من جديد وأحسّ بأننا أصبحنا على عتبة السؤال الأول. أظنكَ فهمتَني، يقول بصوت أشبه بالهمس، وهذه المرّة لا ينظر إليّ، بل يلتفت إلى الباب الذي خرجتْ منه تيريز لتعمل لنا القهوة. تيريز لا تأتي، فيعجّل بالقول إنّ لجهّار ابْنَ أختٍ أبوه فلسطيني ويعمل معنا في المطعم، فهل يأتي من البساتين أحد بالسرّ ليراه ويتحدث إليه أو يسلّمه شيئاً، فأبلع ريقي وأحسّ بأن المقصود هو حنقير، فيعجّل بالقول من جديد أنّ لديهم معلومات عن مدرّبين من المخيّم تسلّلوا مؤخّراً لتدريب شباب البساتين من "حيّ القَمْلِةْ" إلى "حيّ مَكْسَرِ العَبَدْ" فامتداداً إلى الكوزينا على ضفّة نهر الأولي وأنّ أيّ شخص يتصل بابن أخت جهّار ليلاً أو نهاراً فهو مشبوه لأنّ كل مَنْ يتعامل مع الغريب فهو غريب عنّا مثله. قلبي يحدّثني أنه لم يقل كل شيء بعد وأنه يداور ويناور حتى يأخذ مني كلمة فيتلقّط بها ويجرّني إلى قول ما لا أريد قوله. ويذكر اسمَ أبو الوليد فجأة ويحدّق في وجهي ليرى ردّة فعلي، فأبلع ريقي من جديد، ومن جديد يرمي عينيه إلى الباب الذي خرجتْ منه تيريز، وإذ يرى أنْ ليس بالباب أحد، يلحّ صوته عليَّ بأن أكون عند حسن ظنّ الدولة بي، فهم يراقبون خروجي من البيت كل صباح ويتابعون نزولي بين البساتين في نزلة "زاروب الشيخ مْرَادْ" حتى أدخل المطعم، كما يراقبون رجوعي إلى البيت عند المساء، حتى يتأكدوا أنّ أحداً من شباب المقاومة لا يتعرّض لي من قريب أو بعيد. أنتَ منّا، يؤكد لي صوته الذي قوي الآن فجأة عن قصد، أنتَ منّا. الباب يؤكّد له أن تيريز لم تعد بعد، فيأخذ يشرح لي أنّ بعض المعلومات يمكن الحصول عليها إذا دُعِيَ جهّار إلى سهرة كأس عرق في بيت أحد وجوه ضيعة البراميّة، وكلّهم على علاقة طيّبة بجهّار، على أنْ تكون حاضرةً في السهرة أختُ زوجتي التي عينُها على جهّار منذ وفاة زوجها، كما تقول لهم معلوماتُهم. يظهر أنهم يعرفون كل شيء. فجأة تخطر لي فكرة فأفتح فمي لأسأله لماذا يأتي إليَّ بكل هذه الأسئلة ولا يحملها إلى زعيم البراميّة والهلاليّة وعبرا وسواها من قرى شرق صيدا، إلى عازر الديّار نفسه، فهو حليفُ الدولة على طول الخطّ، ولعل لديه كل ما يبحثون عنه. تكاد تخرج من فمي الكلمات ولكنّ قلبي يحدّثني أنّ ما بين جهّار وعازر الديّار يمنع أي واحد من الدخول بينهما من بعيد أو قريب، وأن هذا الضابط الغريب، بطريقة ما، عرف السرّ الذي يعرفه الصغير والكبير في الجيرة التي على ضفتيْ النهر وجيرة كل البساتين التي تقع في "سَقي صيدا" وجيرة القرى المطلّة على "السقي" من تلال الشرق، وهو لهذا أتى إليَّ أنا من بين كل الناس. صدري يضيق بأنفاسي، وحلقي أحسّ به كالحجر، فأشدّ على نفسي وأبلع ريقي من جديد. يفتح فمه ويغلقه هذه المرة على الكلمات، فمن الباب الذي خرجتْ منه تعود الآن تيريز، حاملةً بيدٍ صينيةَ القهوة، بركوتها وفناجينها، وباليدِ الأخرى تشدّ فستانها على جسمها مرّة وتملّس بها على شعرها مرّة.

 

أبو الوليد

لا الليلُ من ارتجاجاته يخفِّف عنّي، ولا النهارُ يسكّن من عزيف رياحه شيئاً، ذلك الصَّدْعُ الذي في جبل "إقليم الخرّوب" ترتجّ جوانبُه في رأسي أبداً أبداً منذ أن طقطقتْ بحذائها على الأرض، مِشْيَةَ الفَرَسِ، أختُ جان، هاجرةً خطوات المرأة المنهدلِ على جسمها الفستانُ انهدالَ الرذاذ. لا الليل ظلّ سباتاً ولا النهار معاشاً، والشمسُ والقمر تصدّعت بينهما رحابةُ الضوء، فليس لنا منهما إلاّ انكساراتٌ من اللَّمْعِ والغبش، كما الضوءُ من مقدّمة سيارتي انبعث ليلةَ اصطدمتْ زجاجتا الضوء المدوّرتان بالحائط الذي في شُبَّاكِهِ كانت تقف جانيت، فأفاق الليلُ كلّه وأطلّ عليَّ عيوناً طيّرتْ من رأسي العرق كله وطيّرتْ من الشبّاك الوجهَ الذي تكسّرتْ على بياضه البغتةُ والضحكةُ.

قبلها كانت النساءُ نساءً، لا أكثر ولا أقل، بعضهن يدخلن عليَّ، وبعضهن يدخلن فيَّ، وكلّهن يخرجن مني آخر المطاف، كما الشعرةُ من العجينة، فأستردّ نقائي إلاّ من خميرة الشوق التي أوّلُها العبقُ وآخرُها تَفَتُّحُ الفلّة، بياضاً ينفخ التخميرُ فيه نصوعاً، ويظلّ ينفخ، حتى يطقطق الثلجُ في كأس العرق ضحكاتِه بيضاءَ بيضاءَ.

من أعلى طريق الضيعة، أو لعله من بين أشجار الحُرْج، تلمع إشارةُ الضوء وتنطفئ، ثم تلمع بعد لحظات وتنطفئ، فأعدِّل من جلستي خلف المقود وتتحرك أصابعي فتنفتل بالمفتاح وتضغط قدمي على البنزين قليلاً فتتحرك السيارة بي، مَحْميَّةً بالليل الذي صار لي ولها سياجاً دون انكساراتٍ من اللّمع والغبش.

 

 

عَبَدْ البَرْبوشْ

أدْحَشُ علبةَ الكبريت في جيبتي وأقرفص منصتاً بكل أذنيّ إلى آخر نزلة الطريق فلا أسمع إلاّ السكوت، فأشدّ عينيَّ وأذنيَّ وألقط أنفاسي حتى لا يفوتني من الليل صوت أو حركة من قريب أو بعيد. سارِبْ الهيّوبْ يقرفص جنبي ثم يقعد على الأرض ووجهه مرفوع إلى فوق، يبحبش عنها، المجنونُ، كعادته، بين النجوم، وهي تغطّ في النوم في فرشتها، لا حسّ منها ولا خبر، وكأننا طلعنا الليلة إلى "الإقليم" لشمّ الهواء، وليس لتدريبه على تهريب السلاح من منطقة إلى أخرى في غفلة عن عيون الجيش وعيون من يشغِّل من سكان القرى لجمع المعلومات عن كل مَنْ يدخل إليها ويخرج منها، وعمّن يجتمع بمن، وأين ومتى يتم الاجتماع، وعن الهمس والغمز وهفوات العين واللسان، وحتى الأنفاس والآهات في غير موضعها. تفلت من سارب الهيّوب آهةٌ عميقة، وبعدها يطلع من صدره نَفَسٌ طويل وكأنه عرف أفكاري فتأوّه وتنفّس نكاية بي. ليس على المجنون حرج، أقول لنفسي خصوصاً أنها هي بدأتْ تجنّ على طريقتها. أسحب علبةَ الكبريت من جيبتي وأسحب منها ثلاثة أعواد أضمّها بأصابعي وأشحط برؤوسها على الجانب الخشن من العلبة فَيَشْعَطُ الجوّ برائحة الكبريت فألقط أنفاسي وأشدّ عينيَّ وأذنيَّ إلى نزلة الطريق لأتأكد أنه رأى الإشارة، فيأتي إليَّ هذه المرّة صوتُ موتور السيارة، مختنقاً من شدّة الطلوع ثم يقترب شيئاً فشيئاً، طاحِشاً في العتمة، فآخذ نفساً طويلاً وأغمض عينيَّ وقد ارتاح قلبي إلى أنّ أبو الوليد نجح في المرور على حاجز الجيش بدون مشاكل.

سارب الهيّوب يُنْزِلُ صوتُ موتور السيارة عينيه من السماء، ولكنه يظلّ قاعداً على الأرض، تبحبش عيناه في العتمة، ومن يدري لعله يكون نسي مهمّتنا فيظن أن ماريّا نزلت من السماء وأتت إليه في السيارة وكأنّ أبو الوليد شوفيرها وقد خبّأها له في الطابّوني. بعد الذي رأيتُه منه ومنها صار كل شي ممكناً، ولن أتعجب مهما صدر عنهما من فصول. ينطفئ صوت الموتور وينفتح بابٌ ثم ينغلق وتأتي الدعساتُ صوبنا على الإسفلت، فأنكز الهيّوب بكوعي نكزة خفيفة وأشدّ قميصه من على كتفه لينهض فينهض ويقف جنبي، وهو يأخذ نفساً من تلك الأنفاس الطويلة التي تعوّدتُ عليها منذ ليلة الجسر العتيقِ حيث صرخ باسمها صرخات شكرتُ معها ربي أنني لستُ مثله يُغْمى عليَّ إذا رأيتُ لِبَاسَ جارتي يلولح في الهواء على حبل الغسيل، مع أنه لم ير لباسها ولا غير لباسها المسكينُ وكل ما رآه هو إبريق الفخّار في يدها، فَانْضَرَبَ على عمره وصار يُهَوْدِسُ بها كالمجنون ويجرّني في الليل غصباً عنّي لأذهب معه حتى يقف تحت شبّاكها ويدقّ دقّته الخفيفة فتفتح له وتناوله شيئاً، أحيانا يريني إياه وأحيانا يخبّئه عني، إلاّ في آخر مرّة حيث ناولتْه رغيفَ خبز قالت إنه من خبزة اليوم مملوءاً بالقورما، فشاركني فيه فأكلتُ لقيمات صغيرة معه وتركتُ له الباقي إشفاقاً عليه، فالمجنونةُ قلبُها عليه، تريد أن تغذّيه حتى يقوى جسمه ويصير أقوى على الجنون من أي وقت مضى. شكرتُ ربي مرّة وأشكره الآن مرّة أخرى لأنّ البساتين نشّأتْني نشأةَ الرجال، فللمعول والمجرفة والسلال المملوءة بالبرتقال والحامض والأكدنيا أثرٌ في عضلات رجليّ وزنديّ وكتفيّ، وعضلات رأسي كذلك، وهذا هو الأهمّ.

نحنحةُ أبو الوليد تقول لنا إنه وصل فأحيّيه بالهمس فيردّ عليَّ بأنفاس العرق التي لا تخفى عليّ. كان يشرب إذن وهو ينتظرنا في السيارة، وزجاجته بالطبع لن يطلع عليها الضوء. وأعجب العجب أنه يشرب ولا يضيِّع، أمّا أن يشرب ويقود السيارة في العتمة على هذه الطريق الضيّقة فشيء مثل الكذب. يسألني صوتُه عمّا إذا كنّا لاقينا صعوبة في حمل الصناديق من الوادي إلى الحرج، فأطمئنه أنّ كل شيء كان على ما يرام، فيستعجلنا في حطّ الصناديق في الطابّوني ويخبرنا أن شيئاً طرأ على الخطّة، وأنه سيقود السيارة إلى مسافة قريبة من الجسر العتيق حيث عليَّ أنا وسارب الهيّوب أن ننزل الصناديقَ ونخبّئها بين الشجر ليتمّ تهريبها عبر النهر بعد أن يعبر هو الجسر ويتأكد حاجزُ الجيش أن السيارة لا رصاص فيها ولا رشاشات. شباب المقاومة أقاموا معبراً من الصخر والخشب في منطقة تضيق فيها المسافة بين ضفّتيْ النهر، يشرح لنا، ثم يؤكد لنا أنّ أضمن طريقة لدفع الشبهات هو أن ننقل الصناديق عبر بستان عازر الديّار المحسوب على الدولة في كل العهود.

ألتفتُ إلى ورائي وأصفِّر صفرة قصيرة أكرّرها ثلاث مرات، فتخشّ الأرض بين الأشجار على دعسات الشباب الذين لا نراهم إلاّ كالأشباح يقتربون من حافة الطريق حيث فتح أبو الوليد غطاء الطابّوني بانتظارهم. يصفّون الصناديق فوق بعضها في العتمة وينغلق الغطاء، وليس يُسْمَعُ من أصواتهم إلاّ شدّة أنفاسهم من ثقل الحمولة التي قريباً سيأتي دوري ودور الهيّوب لحملها عبر النهر مع شباب البساتين إلى أقرب بستان من الكوزينا. تختفي الدعسات مع الخشّة بين شجرات الحرج شيئاً فشيئاً فيهمس أبو الوليد بي وبالهيّوب أن نطلع في السيارة، وما أن نأخذ مجلسنا حتى يكسر العتمةَ وهدوءَها صوتُ الموتور من جديد. تستدير بنا السيارة وتأخذ في النزول على أقل من مهلها ورائحةُ العرق تهفّ عليَّ من جهة أبو الوليد وتكاد تقتلني كلما تجشّأ على راحته وكأنه في السيارة وحده.

كنتُ سمعتُ عن أبو الوليد أشياء كأنها عجائب الحكايات، وهي تشفع له برائحة العرق الليلة، فهو لو لم يكن محشوراً بين وظيفته في مكافحة تهريب المخدرات وإلحاحه على تسهيل أمور المقاومة الشعبية، لما كان اضطر إلى كل هذا الشرب. من مكافحٍ لتهريب المخدرات إلى مهرّب أسلحة، بالتأكيد يروح فيها بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، إذا بغتَنا فجأةً على لفّة كوع كمينٌ للجيش لا نتوقعه قبل وصولنا للجسر العتيق. السيارة تلفّ بنا على كوعٍ لفّةً بطيئة بطيئة ثم تتابع نزولها في العتمة، ووحده أبو الوليد يعرف أين صرنا.

هذا الرجل من "إقليم الخرّوب" يحيّر عقلي، فعنه يقولون أنه حبِّيبُ بطنه، حبّيبُ كأسه، وأنه حبّيب نساء. وهو مع كل ذلك حلو العشرة بين أصحابه ويُحْسَبُ له حساب بين مهرّبي الدخان والمخدرات. وأغرب ما سمعتُه عنه قصّتُه مع مهرّبي منطقة السَّعْدِيَّات الذين كانوا يعملون لحساب رجل مهمّ من رجال الدولة، من الملّة الأخرى، فلقد جاءه تحذير بنقله إلى منطقة أخرى إذا هو أزعجهم ورفض أن يغضّ النظر عنهم. أرسلوا له التحذيرَ مع واحد من العسكر الذين يعملون في دوريّته، واحدٍ من الملّة الأخرى، محاولين أن يحرّضوا بعض عسكره عليه، فطنّش على التحذير وظل يراقب تحركاتهم حتى ضبطهم بالجرم المشهود وتبادل معهم إطلاق الرصاص حتى جرح بعضهم فاضطروا إلى الفرار تاركين وراءهم التهريبة بكاملها. ولولا أنه أخفى أدلّة بينها رسائل وهدّد باستعمالها ضدّ ذلك الرجل من رجال الدولة إذا اتخذت الدولة قراراً انتقامياً بحقّه لَمَسَحوا به الأرض وقتها وَنسَّوْهُ حليبَ أمه.

يظهر أننا نقترب من منطقة الجسر العتيق فالسيارة تخفّ سرعتُها وأبو الوليد عيناه إلى الجهة التي أجلس فيها أنا، يحاول أن يرى من النافذة المفتوحة شيئاً وكأنّ شيئاً يمكن أن يُرَى في هذه العتمة. أسأله إن كان يبحث عن شيء بعينه لأبحث معه طالما أنني أقرب إلى النافذة منه فيقول لديه إحساس بأنَّ الخطّة يجب أن تتغيّر للمرّة الثانية دون أن يعلم بذلك أحد من شباب المقاومة حتى يعبر هو الجسر مع وَجْوَجَةِ الفجر ويسرّب لهم الخبر. في عمليات التهريب، يقول، على المهربين أن يعدّلوا ويبدّلوا من خططهم قدر ما يستطيعون، لأنَّ الاحتمال دائماً وارد أنَّ مَنْ يراقبهم قد يفكّر أحيانا مثلهم فيتوقع تحركاتهم وسكناتهم فيباغتهم ويأخذهم على حين غرّة. يقول إنه تعلّم ذلك من المهربين أنفسهم الذين كثيراً ما دوّخوه وكَيَّعُوهُ فكان هو وأفراد دوريته يطاردون أشباح أفكارهم لا أكثر ولا أقل. الآن يلعب هو دور المهرّب ويحسب حساب الذين أعينُهم عليه وعلى تحركات سيارته. دواليب السيارة تنزل من على طريق الإسفلت إلى التراب فنترجرج في مقاعدنا على رجرجتها، وما هي إلاّ ونحن بين أشجار الزيتون، والأغصانُ الواطئة تحفّ بجوانب السيارة فَيَلْطُشُ بعضُها كوعَ يدي المرتاحة على حافة النافذة المفتوحة، فأسحب يدي كلها إلى داخل السيارة وأميل بكل جسمي إلى الداخل خشية أن يطالني غصن فيؤذيني في وجهي وعيني.

رائحة العرق تخرج معه من السيارة، فترتاح أنفاسي، وأنا ألتفتُ إلى الوراء حيث يرتفع غطاء الطابّوني، فأنحني أنا من طرف والهيّوب من طرف ونرفع الصندوق الأول ونمشي به إلى داخل بستان الزيتون حيث تنحدر الأرض شيئاً فشيئاً كلما ابتعدنا عن جهة الطريق. نعاود الكرّة ونَسْتُفُ الصناديق فوق بعضها، اثنين اثنين، فيقول لنا أبو الوليد أن نُنْزِلَ كلَّ الصناديق على الأرض حتى تظل أوطى من مستوى الطريق فلا يراها ماشٍ أو راكب. الهيّوب تعلو أنفاسه كأنه يتنفّس الآن من فمه فأضحك في سرّي وأقول لا يزال بحاجة الى الرَّكِ والدَّعَكِ حتى يصبح جسمه كجسم الرجال، هذا إذا تركتْه الهيّوبةُ ولم تمتصّ ماوِيَّتَهُ قبل انتهاء القتال بيننا وبين الدولة. تفلت منه نفخةٌ طويلةٌ بدل النفس الطويل، وكأنما يقرأ أفكاري، فينفخ نفخته من جديد عن قصد نكاية بي وبها. أتغاضى عنه مشفقاً عليه وأشكر ربي أنني لم أتَرَبَّ تربيةَ المدارس مثله فأطلع مثله مهلهلاً مرخرخاً تَطْوِشُ رأسي بنت. الصناديق الآن كلها على الأرض. أسأل أبو الوليد عمّا يجب أن نفعله الآن فيشرح لنا أنه سيرجع بالسيارة إلى الوراء ويصفّها على طريق الإسفلت لننظّف دواليبها من التراب حتى لا يُلْفَتَ إليها النظر.

بعد الغبشة المنتشرة فوقنا وحولنا يوجوج الفجرُ شيئاً فشيئاً وتسرح عيونُنا حولنا لنعرف أين نحن بالضبط ولنطمئنّ أنّ أحداً لا يرانا من جهةٍ من الجهات الأربع. أبو الوليد يدور حول السيارة يتفحص دواليبها وينخّ مرّة بعد مرّة فيضرب بقبضة يده الدولابَ لِيَكِتَّ عنه ما كان تبقّى عليه من التراب الذي لم نره كله في العتمة. وإذ يرتاح إلى نظافتها، ينظر إلى الساعة في يده ويبدو على وجهه أنه قرر شيئاً. يشير إلينا أن نقترب منه فنفعل، فيشرح لنا بقيّة الخطّة ويدلّنا على بستان عازر الديّار الذي علينا أن ننتظر وصول شباب المقاومة من ناحيته لننقل جميعنا الصناديقَ إلى طرف النهر حيث شجرُ الكينا وشجرُ الغزّار ينزل إلى الضفّة ويحجب أشجارَ البستان عن الضفة الأخرى. يطلع في سيارته ويدير المحرّك ولكن السيارة تبقى في مكانها فأنخّ لأكلّمه من شبّاك الباب الآخر فأراه يحدّق في وجهه في المرآة ثم يفرك عينيه بيديه ثم يمدّ يده إلى أرض السيارة ويرفعها بزجاجة العرق الفارغة فيرمي بها في التراب، دون أن ينظر إلى وجه أحد منّا، ثم من شبّاك الجهة التي هو فيها يبصق على الإسفلت بصقته العرمرميّة، ثم تتحرك دواليب السيارة على مهلها وتنزل ما تبقى من مسافة الطريق لتلتفّ يميناً مع لفّة الكوع وتغيب عن عيوننا ونحن واقفان لا يحرّكنا شيء.

فجأة يرفع سارب الهيّوب وجهه إلى فوق ويستدير بعينيه نحو الشرق، وكأنه ينتظر طلوع الشمس. ثم فجأة يقترب مني وفي فمه كلام، فأحطّ عينيَّ في عينيه وأنتظر. فمه يظل مغلقاً ولكنّ عينيه تقولان لي أن شيئاً حدث له ولا أفهمه أنا. هذه النظرة الغريبة في عينيه لم أرها فيهما من قبل فكأنهما تتنفّسان. صدري فجأة يضيق وأحسّ بقلبي يدقّ دقّات كأنها الخبط على الضلوع. النظرة الغريبة في عينيه تنذرني أنّ شيئاً من الأشياء التي لا أفهمها ستقع في أية لحظة، ولا أحسّ إلاّ ويدي تمسك بها يدُه وتشدّ. أحسّ أنها شدّة الرجاء، ولكني لا أفهم من عينيه ماذا يرجوني أن أفعل. أحاول أن أفتح فمي لأستفسره ماذا يريد، فلا أعرف ماذا أقول ولا تواتيني الكلمات، فتظل شفتاي ملصوقتين ببعض، وقد نشف ريقي وتيبّس لساني في فمي. يده تشدّني بعيداً عن الطريق إلى داخل بستان الزيتون وتسبقني وتسبقه عيناه وكأنه يقصد مكاناً بعينه. أمشي معه وشيء في داخلي يقول لي أنْ لا أمشي، فأشدّ بقدميّ إلى الأرض ولكنه يسحبني وراءه بتلك القوة التي لا أعرف من أين تأتيه فجأة وكأنّ شخصاً آخر لبسه وتحرّك فيه. يلمع السرُّ بغتة في رأسي فأنتع يدي من يده ولا أسمع إلاّ صوتي يصرخ به أنْ لا. النظرة الغريبة في عينيه تئنّ أنيناً أسمعه في قلبي، فأصرخ به من جديد أنْ لا. عيناه تذهبان إلى آخر البستان وتنزلان وكأنما إلى بستان الديّار ثم تنزلقان إلى ضفة النهر، فأصرخ به من جديد أنْ لا ثم لا. تغسلني عيناه بالحزن الذي لم أعرفه في غير عينيه ويبتسم في وجهي ابتسامة أحسّ فيها أنه يسامحني لأنني أتخلّى عنه الآن. ولا أحسّ إلاّ وأطرافُ أصابعه تلمس أطرافَ أصابعي برفق وتنسحب بعيداً في الهواء، فتدور به قدماه وعيناه إلى مقصده الذي هو سرّه والذي يرفض أن يبوح به بالكلمات، وتأخذه بعيداً عني الخطواتُ حتى يضيع عني بين الأشجار لينفجر في رأسي صوتُ الموج الذي سيسمعه هو وحده حينما يبلغ ضفّة النهر. ثم أراني أركض خلفه والغصّةُ تخنق صدري، وينتابني شيء كالبكاء. سيخرقه الرصاص إذا لمحوه يعبر النهر مشياً على الممرّ الذي وصفه لنا أبو الوليد، أو سباحةً إذا هو لم يهتدِ إلى المعبر، فالضوء سيفضح لهم حركته، والضوء سيدلّهم عليه، وستمزّقه رصاصاتُهم وسأسمعها تخترق الهواء ولكنني لن أكون هناك لأرى دمه يسيل منه فأمسك بيده أواسيه حتى لا يكون وحده في لحظاته الأخيرة وحتى لا يظن أنني تخلّيتُ عنه في لحظة الجنون التي يضيع فيها العقل وتنذلّ الرجولة ويندفع المجنونُ إلى الموت لأنّ شوقه إلى عينيها أو صوتها أو حتى طرف فستانها يصبح عنده كلّ الدنيا وكلّ الحياة. هكذا خبّرني جدّي عن الحبّ وهو يحذّرني منه، وكنتُ أستمع إليه فرحان بقصصه مندهشاً لها، ولكنني لم أتخيل أنه مقدّر عليّ أن ألتقي بواحد من أبناء حكايات جدّي، وأن يجرّني جنونُه لأركض خلفه، كما أركض الآن، نزولاً نزولاً إلى ضفّة النهر.

قَصَبُ الغزّار لا يزال يحجبنا عن الضفّة ولكنني أسمع عبره صوتَ النهر. أيدينا تفتح لنا ممرّاً بين القصبات، عند النقطة التي وصفها لنا أبو الوليد، فيطلّ علينا المعبرُ الذي هيّأه شبابُ المقاومة، فأروح بنظري إلى آخره، فإذا هو صخورٌ رؤوسُها طالعةٌ من الماء وبين كل صخرتين لوحُ خشب أو جذعُ شجرة منشورٌ بحيث يمكن المشي عليه. الضفّة الأخرى من النهر لا أحد عليها، وأشجار الكينا في أمكنتها، وأنا أنظر إليها، للمرة الأولى، من طرف بستان الديّار. أشير إلى الهيّوب أن يمشي ورائي فأنا أعلم منه بهذه المعابر وبنقاط ضعفها، فيطيعني وتلحق بي عيناه وأنا أوازن نفسي وأنطّ نطّة نطّة. ندعس على الضفّة الأخرى وإذ نحن في الكوزينا التي يقصدها الصيداويون من المدينة أيام الجمعة في الربيع والصيف لقضاء النهار في الأكل والشرب وتدخين الأركيلة وشرب القهوة والشاي والغناء والعزف على الدربكّة والعود. يسمّونها الكوزينا ولا أدري من أين أتوا لها بهذا الإسم. اليوم يصفر المكان كله فلا يُسمع بين شجرات الكينا إلاّ صوتُ النهر. نمسح بعيوننا طريقَ الزفت من وراء شجرة ثم نقطعه ركضاً ونتسلق سور البستان المواجه لنا ونقفز إلى داخله ونقعد فجأة على التراب، أنظر إليه وينظر إليَّ، وكأننا لا نصدّق أننا أصبحنا في البستان الذي هي فيه.

يمشي أمامي وأراقبه من بعيد. يبدو أنْ لا شيء سيوقفه الآن. أشجار البرتقال تأخذه مباشرة إلى الفرن الطينيّ البعيد قليلاً عن البيت. أشمّ رائحة النار والخبز في الهواء فأعرف أنه يوم الخبيز. وفي لحظة كأنها رمشة العين أراها تقف في وجهه وكأنها طلعتْ عليه من الأرض، وفي يدها رغيف منفوخ، كأنما خرج لتوّه من الفرن. تضعه في يديه وتختفي، ولا يدور بينهما كلام غير النظرة التي يقول جدّي إنها تغني عن كل الكلام. أسحبه من كمّه إلى الوراء حتى لا يلحق بها وأجرّه إلى السور الذي كنّا قد تسلقناه منذ قليل. نجلس على التراب نتطلع كلانا في الرغيف، نتعجب من الفتحة المدوّرة التي في أعلاه وكأنّ إصبعاً دخلتْ فيه. يخضّ الرغيف بين يديه، ويخضّه من جديد، فنسمع شيئاً يتحرك فيه. يده لا تنتظر فتفلق الرغيفَ من جانب وترفع الفلقةَ العليا شيئاً فشيئاً، فتطلع في وجهنا هَبْلَةٌ سخنةٌ ويطلع معها إلى أعيننا ذلك الصليبُ الصغير الذي كان على صدرها يوم ناولتْه إبريقَ الفخّار فارتفعتْ به يدُه، لتظلّ ويظلّ معلّقيْن هنيهةً طويلةً في الهواء.

 

أمّ جميل

لا أمّ حنّا ولا أمّ سليمان ولا حتى القرود السود ستؤثّر عليّ وتغيّر رأيي في الناس الذين أحبّهم والناس الذين أكرههم. صحيح أني غريبة عن عبرا وأهلي ليسوا من أهلها أصلاً، وصحيح أني مستأجرة لغرفتين بين بيت أمّ حنّا وبيت أمّ سليمان، ولكن أمّ جميل هي أمّ جميل، تعمل بعرق جبينها وتدفع أجرة سكنها ولا تمدّ يدها للناس، وعلى الناس أن تفهم أنّ الذي يمدّ يده إلى جيبه ويدفع حرّ في عيشته وحرّ فيمن يحبّ وفيمن يكره. أيام عبد الناصر، لأني سَبَبْتُ الإنكليز والفرنساوية، كلُّ نسوان عبرا كَشَّتْ وجهها في وجهي، وإن ردّتْ واحدةٌ منهن على صباح الخير يا جارة، فمن طرف لسانها كانت تردّ، ومن دون تفضّلي اشربي معي فنجان قهوة. قهوتهنّ، على كل حال، لم تَعُدْ تنشرب، أيام حرب عبد الناصر وبعد الحرب، ومثلما يقول المثل، قهوةُ المُسِمِّ مُسِمَّة.

وهذه الجمعة كل عيون الضيعة عليَّ، وكأنْ لم يعد في الضيّعة إلاّ أم جميل. وطبعاً لأنّ الدورية وقفتْ ببابي مرّتين ولأنّ الضابط عزم حاله على فنجان قهوة عندي، صار بيتي محطة لعيون الناس. حسبتُ أول الأمر أنه يريد أن ينبش معي حديث السياسة ليعرف إذا كنتُ أحبّ رئيس المقاومة الشعبية مثلما يحبّه كل أهل صيدا، فَسَبَّقْتُ عليه وقلتُ له إنني وإن كنتُ صيداوية، فأنا لا أحشر نفسي في السياسة وأنني امرأة أغسل في بيوت الناس لأعيش أنا وإبني. سَبَّقْتُ عليه حتى لا يوقعني في الكلام ويعرف الذي في قلبي فيدبّر لي تهمة من تحت الأرض ويأخذني أنا وجميل إلى الثكنة. ولكنّ همّه كان في شيء آخر. قال إنه مهتمّ بغير الغسيل وغير السياسة، فتطلعتُ في عينيه ولم أفهم. الأشياء التي تعملينها في السرّ عن الناس، قال بصوت واط. فهمتُ عليه ولكني طنّشتُ وتجاهلتُ الأمر من أساسه، فعاد إلى نفس السيرة ولمّح إلى أنه يعرف عني أكثر مما أظن ويعرف أنّ خدمتي في المنازل فتحتْ لي قلوب الناس وأسرارهم. وما شأنه هو أو غيره بكل ذلك، فتحتُ فمي لأقول له، ولكنني قلتُ في نفسي أنّ التروّي أفضل، فهو الضابط والدولة دولته وليست دولتي أنا، وهو إنْ حَطَّطَ عليّ هَشَّلَني من هذه الضّيعة ومن كل هذه الأرض. وربما دبّر لجميل تهمة بالتعامل مع المقاومة ورموه في السجن ومنعوني من زيارته. أخيراً سَمّى الأشياء بأسمائها وطلب مني أن أشرح له كيف أعمل السحر وأين أضعه وإن كان مفعولُها مضموناً مع كل الناس. كل هذا كان معقولاً، ولكن لمّا وصل في حديثه إلى طلب الكشف عن أسماء العائلات أو الأشخاص الذين عملتُ لهم السحر، عرفتُ أنه يريد أن يوقعني في الفخّ ويستغلّني. قلتُ له إنّ الجنّ الذين يعملون السحر يؤذون الذي يتعامل معهم إذا كشف لأحدٍ سرَّ أعمالهم. قال هذا الكلام غير مقبول وأنني أخترع الأعذار حتى لا أتعاون معه. حاولتُ أن أُفهمه أنّ مثل ذلك حدث من قبل وأنهم آذوني لأنني خالفت أوامرهم مرّة، فهزّ رأسه غير مصدّق لكلامي وسألني السؤال الذي لم أكن أتوقعه وهو هل الجنّ يرفضون التعاون مع الدولة إذا احتاجت الدولة إلى معلومات عن بعض الناس. أول الأمر لم يذكر أسماء الناس، ولكنه عاد ولمّح إلى أنه يريد معلومات دقيقة عمّا إذا كان الذين أغسل في بيوتهم، وخاصة جهّار، يتعاونون في السرّ مع شباب المقاومة في داخل المدينة. ولما تلكّأتُ في الجواب عليه، نهض عن كرسيه ودار حولي دورتين ثم قال لي أنّ الدولة تعرف أنني أقبض الأموال بالسرّ مقابل عمل السحر بطلبٍ من فلان أو فلان، وأنّ عدم التعاون معه سيجعل وضعي صعباً داخل الضيعة وخارجها.

 

سميَّة

بَيِّضي لي وجهي، أرسل يقول لي مع عديّ، فظننتُ أنه لن يحضر عزيمةَ الغداء وطار عقلي، إذ كيف أستقبل الرجل الذي لا يحبّه زوجي في غياب أبي الذي هو في الأصل صاحب العزيمة؟ طار عقلي وعدتُ أطرح سؤالاً من هنا وسؤالاً من هناك حتى فهمتُ من عديّ أنّ في نيّة أبي المجيء إلاّ إذا طرأ طارئ ليس في الحسبان منعه من العبور على حاجزٍ من حواجز الجيش التي تحاصر المقاومة في داخل المدينة. رفعتُ رأسي ورحتُ بعينيّ إلى السماء من شبّاك غرفة القعود ودعوتُ من كل قلبي أن لا يخذلني الله فيسهّل على أبي دخول المدينة لينحلّ المشكلُ فلا يتعرّض لزوجي أحد من شباب المقاومة بكلمة جارحة أو بدفشةِ كتف كما حصل في الجمعة الماضية. أبي يعرف كيف يدبّر الأمور، والناس تحسب له حساباً، وخاصة رئيس المقاومة الشعبية الذي يعرف أنّ له كلمة في "سقي صيدا"، من منطقة الكوزينا إلى "بستان الكبير"، وأنّ المسيحيين والمسلمين يقدّرونه من أيام رياض الصلح، وأنّ مَنْ لا يحبّه منهم يعرف أنّ جهّار الجمري هو جهّار الجمري، لا يَنْمَزِحُ معه إذا قال كلمة أو نوى على شيء. وأبي يعرف كل هذا، وهو لذلك يطلب مني أن أقول لزوجي أن يذهب مباشرة بنفسه ويسلّم على رئيس المقاومة ويبلّغه سلامه ويدعوه إلى عزيمة غداء يوم الجمعة بعد الصلاة مباشرة. وأنّ العزيمة على سمك وصيّاديّة وطرطور على طريقة أهلي التي يحبّها ويفضّلها على طريقةِ كلِّ مَنْ فتح فمه في صيدا وقال إنه يعرف بأصول السمك والصيّاديّة والطرطور. وزوجي لا يشرب ويتحرّج من إدخال المشروب إلى بيته، وخاصة أنّ بيتنا بلصق "جامع الكيخْيا" والمئذنةُ تطلّ على سطحنا وعلى البراندة الشمالية. أخذتُ معه وأعطيتُ لعله يلين ويأتي بقنينة عرق، فأبي ورئيس المقاومة حبّيبا دَمْعَةٍ، والسمكُ لا يكون إلاّ على كأس عرق. إسودّ وجهه من الغيظ وأحسستُ أنه سينفجر، فهدّأتُهُ وقلتُ له أن أبي يعرف الأصول ولولا أنه متأكد من أنّ هذه العزيمة ضرورية لما أصرّ عليها، ودنيا اليوم غير دنيا البارحة، وعلينا أن نداري الظروف حتى نتجنّب الشرّ وأولاد الشرّ. ولمّا انفجر بالقول أني من بين الأيام كلها أريده أن يحوّل بيته يوم الجمعة بالذات إلى خمّارة، رفعتُ صوتي وقلتُ بأنه هو الذي جنى على نفسه حينما لم يدارِ أهل الحيّ فرفض حضور الإحتفال الذي أقامه صيّادو السمك لرئيس المقاومة في الساحة التي بين "جامع الكبير" و"مدرسة المقاصد"، جنى على نفسه في الظرف الذي فيه كلُّ أهل صيدا يهتفون بإسم رجل واحد ويتبعون رجلاً واحداً وزدتُ فقلتُ بأنّ حبّه له أو كراهيته لن تقدم ولن تؤخّر، وأنّ عليه أن يعمل بنصيحة أبي الذي يعرف الدنيا ويعرف أصول التعاطي مع الناس وقت الحشرة. إسودّ وجهه من جديد، فغيّرتُ صوتي وليّنته خوفاً عليه من أن يصيبه شيء ومازحتُه بالقول إنّ عليه أن لا يغضب لأنّ الغضب يسوّد وجهه وأنّ سمرته وحدها تكفيني. فجأة أشفقتُ عليه وتصوّرتُه يمشي من حارة إلى حارة ويدخل من بيت إلى بيت والكلّ يفتحون له سيرةَ الريّس ويحلفون بإسمه ويزوّدونها عليه قليلاً فيزكزكونه ويمازحونه بأنه قد يضطر إلى ضرب الإبر له إذا، لا سمح الله، صار له شيء ومرض، وهو ساكت يُبَرْبِسُ في قلبه ويلعن الساعة التي اشترى فيها هذا البيت داخل المدينة ولم يشترِ بيتاً أو حتى يستأجر في الهلاليّة ويعيش بين أبناء الملّة الأخرى الذين يقدّرونه ويعاملونه باللباقة التي يحبّها ويجاملونه في المناسبات والأعياد. لباقةُ أهل القرى المسيحية ولباقةُ العائلات المسيحية في صيدا أخذتْ عقله ونسي أنه ابن البلد وأنّ أولاد البلد يزكزكونه بحكم الألفة والجيرة وأنّ الصيداويين، كما بدأتُ أكتشف من عيشتي داخل المدينة، يحبّ أن يشتغل بعضُهم ببعض فيطلقون على بعضهم الألقاب ويؤلّفون عن بعضهم القصصَ والحكايات ويركّبون التركيبات التي تصبح وكأنها الحقيقة مع مرور الوقت. قلبي عَمِلَ عليه، لأنني أعرف أنه يعاني، ولأنني أعرف أنّ الناس لن تتركه بسلام حتى يجاملهم فيعلن لهم حبّه للريّس ولو كذباً، وخوفي يكبر أنه إذا ركب عقله وحَطَّطوا عليه فسيطفّشونه من كل أحياء صيدا. وأحاديث جاراتي كثيرة عن ألاعيب الناس في التضييق على أي واحد لا يجاريهم في كل شيء، فالناس في هذه الأحياء، كما تقول جارتي أم أحمد، مثل رفّ السمك، كلُّ السمكات تسبح في اتجاه واحد، وإذا غيّرت الإتجاه تغيّره كلّها دفعة واحدة. هي لم تَرَ بنفسها رفوفَ السمك في البحر، ولكنّ زوجها، وهو صيّاد عتيق، يحكي لها ويحكي عن البحر وحالات البحر وقصص الصيد والمصادفات الغريبة التي صادفها في حياته الطويلة. المهم أن صوتي لان في حديثي معه فاستردّ وجهُه سمرتَه وراح عنه السوادُ الذي يشغل بالي، وقلتُ له أن يهدأ فالدنيا بألف خير وأنّ أخْذَ الحياة بالعرض لا يأتي إلاّ بشغل البال، وأنّ الثورة ستنتهي آخر الأمر وتعود الأمور إلى مجاريها. تنازلتُ عن قنينة العرق وطلبتُ بَدْلَها صِدْرَ كنافة، وفي سرّي أنَّ ذلك سيبيِّض وجه أبي فيقول في سرّه إنَّ الذي خَلَّفَ سميّة ما مات.

عصر البارحة حَمَّيْتُ المكواةَ وقلبتُ الفستان الكحليّ على قفاه وملّستُه ثم ملّسته حتى صار أنعم من الحرير ثم قلبتُه على وجهه ومددتُه على طاولة المكوى ومددتُ عليه محرمةً طويلة وَمَرَّرَتُ المكواة عليها حتى لا يبقى فيه تحتها أثر لطعجة، ورفعتُ طرف المحرمة من جانبٍ كلما مرّرتُ المكواة عليها ثلاث مرات لأرى بعينيّ ملوسةَ الفستان تحتها، ثم رفعتُ طرف المحرمة من الزوايا الأخرى حتى ارتاحتْ عيني ورضي قلبي أنّ أبي أول ما يدخل علينا سينظر إلى لبسي ويقيسني بعينيه من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق ليرى إذا كانتْ بنته معزّزة مكرَّمة وأنّ مظهرها يليق بالعزيمة. رضي قلبي وأنا أراه يبتسم لي هازّاً رأسه هزةَ أنـــّي بيّضتُ له وجهه. وبالطبع لم أنس سْكَرْبينتي الكحليّة فأخرجتها من علبتها من خزانة الثياب ومسحتُ عليها بدهن اللوز ولمّعتُها بفرشاة الأحذية وبقطعة القماش الجوخ، مع أنها ليست بحاجة لمسح ولا لتلميع، ثم رجّعتُها إلى مكانها قبل أن يعود زوجي ويراني معجوقة مخفوقة لهذه المناسبة.

كلّ ذلك ورائي الآن، واليوم الجمعة، وعمّتي أمّ إسماعيل أتتْ مع طلعة الشمس من بيتها في "حيّ رجال الأربعين" لتساعدني في التحضير، وهي التي تدرّبتْ على يد جدتي وأخذتْ عنها النفَسَ الطيّب على الأكل كما أخذتُ أنا ذلك عن أمي. أتفاءل بعمّتي، وخاصة أنّ أمي لن تستطيع المجيء بسبب الظروف، فعمّتي هذه من بين عمّاتي الثلاث بسمتُها على كل وجهها منذ أن تدخل علينا حتى تخرج من عندنا، وحديثها، كصوتها، خفيف لطيف، واللهُ ونبيّه على لسانها، لا هو يتعب منهما ولا هما يتعبان منه، تحمد وتبسمل وتشكر وتتوكل، ومنديلها الأبيض نازل من رأسها على ظهرها وكتفيها فوجهُها في المنديل بياضٌ كبياض الياسمين المكبّسةِ حبّاتُه فوق بعضها في الياسمينة التي كانت تحبّها جدتي وتقطف منها وتملأ صدرها ثم لا تنسى أن تضع حبّة في كل منخر من منخريْها لكثرة ما كانت تحبّ الياسمين.

أوّل ما دخلتْ عليّ عمّتي قبّلتني وقالت لي أنها تشمّ فيَّ رائحة الأهل ورائحة البساتين وجيرة البساتين ثم دخلتْ إلى الحمّام فتوضّأتْ وفَرَدَتْ سجادة الصلاة فصلّت ركعتين لله وقالت أنها الآن أصبحت جاهزة لمساعدتي في كل ما أنا بحاجة إليه. السمك جاءنا مقشَّراً منظَّفاً من ميرة السمك فأفرغتُ الفَرْشَ في طشت وسيع وفتحتُ عليه الماء حتى امتلأ ورحتُ أفتح بطون السمكات سمكة سمكة لأتأكد من نظافتها من بقايا الدم ومن الأغشية الشفّافة التي تغطي، على طول البطن، الحسكَ الموصول بسنسلة الظهر. هكذا علّمنا أبي أن ننظّف السمك حتى إذا ما صفّوه في الجاطات كان منظره مهفهفاً وحتى إذا ما تحذلق أحد زبائن المطعم أو ضيف من ضيوف البيت وفتح بطن سمكة، ندم فوراً على أنه تجرّأ وشكّك في نظافتها من قلبها. هذا كله نفعله للناس، فكيف إذا كان هو بنفسه الذي سيأكل السمك؟ بيّضْ لي وجهي مع أبي، يا الله، أقول لنفسي، فعدمُ رضاه غضبٌ وغضبه شيء لا يُسَمّى. ثم أضحك من خوفي وقلقي وأقول لعمتي أنّ نظافة البيت والسمك والطاولة والصحون والشوك والسكاكين والملاعق وفوط الطاولة وإبريق الماء والكبايات والمملحة والمبهرة وفناجين القهوة، كل هذه الأشياء وغيرُها نظافتُها سترضي أبي ولسوف يعترف بنفسه أنّ سميّة هي بالفعل بنت جهّار. تضحك عمّتي وتقول أنّ أبي صحيح أنه صعب ودقيق في هذه الأشياء ولكن عليَّ أن لا أنسى أنّ شهرة المطعم قامت على سمعة النظافة وسمعة الأكل الطيّب، وأنّ جهّار الجمري يشرف بنفسه على كل شيء في المطعم. أرتاح قليلاً وأقول لها أنّ وجهها خير عليَّ فتقول أنّ علينا شغلاً كثيراً قبل أذان الظهر، وتتناول حبّة البطاطا الأخيرة في الصينية وتبدأ بتقشيرها، وأنا على الخشبة أفرم الحبّات المقشَّرة بنفس الطول والسماكة التي علّمنا عليها أبي في المطعم والبيت.

وهذه المرّة أخبيّء لأبي وضيفه مفاجأةً لن يتوقعها أحد. ولا حتى منصور. سوف أعمل ثلاثةَ صحون طرطور، واحداً ببقدونس، وواحداً بكزبرة خضراء، وواحداً بطحينة سادة. والدهشةُ ستأخذ عينيْ أبي وهو يقلّبهما بين الصحون والجاطات على السفرة ثم تتسع ابتسامته وهو يقول لضيفه بإعتزاز تفضَّلْ تفضَّلْ.

 

أبو بلال

لم أعد أعرف إذا كانت هذه الثورة ثورة رجال أم ثورة نساء، فأمّ بلال، للمرّة الثالثة، انكسر فيها شُرْشُ الحياء وذهبتْ إلى الريّسْ تشكوني إليه وتقول له أنني لا أنام في البيت وأنّ المقاومة الشعبية أخذتْني منها وأنها أحقّ بي من الريّسْ ومن مرافقتي له وأنها إن لم يقسم الريّسْ وقتي بينه وبينها فستترك الأولاد لي وتَهْشُلُ من البيت. ويضحك وهو يخبرني، بيني وبينه، بالأمر ويقول بأنّ الحقّ مع أم بلال وأنّ عليّ أن أراعي شعورها وأقضي معها بعض الوقت في البيت، فالثورة لن تُنْسيها لحظة أنها امرأة، وهي إن طال الأمر على هذه الحال ستعتبر الثورة ضرّتها وتتآمر علينا مع الدولة. يقول ذلك ويضحك فأضحك معه وأنا أعلم أنني مرافقه الخاص ولا أستطيع أن أتركه لحظة واحدة من ليل أو نهار، فهو ينسى نفسه أحياناً، وإذا أخذه التعب في الليل، وهو يتفقّد المتاريس على مداخل المدينة، يجلس ليرتاح على سلّم أقرب بيت، ولا يلبث أن يُقَوْقِعَ ويغرق في نوم عميق. ولولا أنّ عيني عليه، تلاحقه من مكان إلى مكان، لبقي ليلة البارحة نائماً على سلّم بيت أبو محمود الدلاّل حتى الصبح، ولكان ربما أخذ لفحة هواء في خاصرته أو صدره أو ظهره واضطر إلى لزوم فرشته لأيام، ولاضطر إلى المعالجة، ومعظمُ الأطباء يعيشون خارج المدينة القديمة واستدعاءُ أحدهم سيلفت نظر حواجز الجيش. صحّته أهمّ من كل شيء، فالشباب لا يسمعون إلاّ كلمته، ومرضُه قد يخلق البلبلة في روح المقاومة، وهذا ما لا نتحمّله الآن، خاصة أنّ الأخبار تتزايد عن نيّة ذلك الضابط الغريب الذي يهيّء لهجوم على شبابنا في منطقة الكوزينا. أمّ بلال عقلُها في فراشها وعقلي أنا في الأحياء والزواريب، ألحق به مثل ظلّه وأذكّره بالعائلات الفقيرة التي لا معيل لها إلاّ ما يجمعه هو لها من تبرّعات العائلات الميسورة ومن أصحاب النخوة من العائلات التي على قدّ حالها، فتضيّق على نفسها لتوسّع على الذين لا حيلة لهم ولا معيل إلاّ الرحمة التي يحطّها الله في قلوب الناس. وفي الإحتفال الذي أقامه صيّادو السمك للريّس في ساحة "جامع الكبير" الجمعة الماضية، خطب فيهم ونبّه إلى أن المقاومة لا تستمر بالسلاح وحده، وأنّ المعونات التي تتسرّب إلينا من جماعة عبد الناصر وجماعة سوريا لا تكفي لصمود المدينة في هذا الحصار الطويل لها إذا لم يعتبر كل واحد منّا أنه مسؤول عن كل صيدا وإذا لم تعتبر كل صيدا أنها مسؤولة عن كل صيداوي داخل منطقة الحصار وخارجها من الشباب المنتشر في البساتين من جسر سينيق إلى جسر الأوّلي. وانبحَّ صوتُه من زحمة الناس وعَبَقَ وجهه بالغضب وهو يردّد بأنه لا ينامُ رجلٌ أو امرأةٌ أو شيخٌ أو طفلٌ جائعاً في المدينة إلاّ وجوعُه لعنةٌ علينا جميعاً وأنّ الغنيّ هو مَنِ اسْتغنى عن بخله وتردّده في العطاء وأنّ المدينة كالسفينة، كلّنا بحّارتها وكلّنا محاصَرون بالموج من كل جانب، إن راقبناها جيداً ومنعنا عنها الثقوبَ واهتراءَ الأخشاب نجونا جميعا، وإن تراخينا وحَطَّ كل واحد منّا المسؤولية على جاره، غرقنا جميعاً، غنيّنا وفقيرنا، وابتلَعنا الموجُ وسلّمنا إلى السمك الذي حلّله الله لنا ولم يحلّلنا له، وأنّ الغنيّ عند إخواننا المسيحيين لا يدخل الجنة حتى يدخل الجمل من خرم الإبرة، وأنّ الغني عندنا سيُحمى على ما جَمَعَ وكَنَزَ من ذهب وفضّة ولم ينفقها في سبيل الله كما أمره بذلك الله، وأنْ لو كان الفقرُ رجلاً لقتله. وهاج الجمعُ وماج بالله أكبر الله أكبر الله أكبر، وشقَّ الفضاءَ صراخُ النساء الذي طغى على كل شيء، وهنّ يتدافعن بين الرجال للوصول إلى مكان الريّسْ. ولم يكن بقدرتي ولا بقدرة أحد الوقوف في وجههن، فانشقَّ لهنّ ممرّ من هنا وممرّ من هناك حتى أطبقن على الريّسْ بأيديهنّ، تمسح عليه على صرخةِ "الله يحميك يا ريّسْ"، وبوجوههنّ، ترتمي على كتفيه ورأسه ووجهه بالقبل والدموع على صرخةِ "يا أبو الفقراء يا ريّسْ". وتتماوج أصوات الجمع في صوت تحوّل فجأة إلى أغنية: "نِحْنا البَحْرِييّ يا ريّسْ، والريّسْ إنتي يا ريّسْ". والأغنية تتحول بدورها إلى رقصة، فتلتفّ النساء على شكل دائرة ويبدأ هزّ الخصر على تصفيق الرجال الذين أخذتْهم حميّةُ النساء فنسي بعضُهم أنّ زوجته أو أخته تهزّ وتخلع على طرب الرجال، ولعلهم لم يعودوا يميّز الواحد منهم الآخر، فالمشهد كان أغرب من الخيال، كان عيداً حضورُه هو وحده وصوتُه هو وحده وروحُه هي وحدها القادرةُ على جعله قَدَرَ المدينة في جحيم هذا الحصار الطويل.

طّوّلي بالكِ عليّ يا أمّ بلال، فليس للرجل لذّة في فراش امرأته، وكرامةُ مدينته مهدَّدة بأشباحِ الأحذية الغليظة وأعقابِ البنادق التي تهدّ الأكتاف والأظهر والأرواح، إذا سقطتْ أمام الحصار المدينة. طَوّلي بالكِ عليّ يا أمّ بلال. يا أمّ بلال.

هو ذا يطلّ أخيراً من بيت أبو محمود الدلاّل، وقد اضطر إلى استعمال بيت خلائهم، كما هو دأبه في دخول بيوت محبّيه، خلال تجواله في زواريب المدينة وأزقتها، لتناول لقمة على عجل، أو لأخذ غطّة على تعب، أو لقضاء إحدى الحاجتين. وكما هو دأبه، بحركة مألوفة لعينيّ، أصابعُ يديه تشدّان بنطلونه إلى فوق، وقد علا صدرُه بنَفَسِه ليغور بطنُه الممتلئ قليلاً في بدنه، وإذ يتثبّتْ بنطلونُه حول خصره وعلى وركيْه، يتلفّتْ في اتجاهيْ الزقاق بحثاً عنّي، فأهزّ رأسي ويدي في الإتجاه الذي سنسلكه، وتقترب بي خطواتي منه لتمضي بنا من ثمّ خطانا صعوداً صعوداً لتفقّد أخطر متاريس المقاومة من جهة مدخل المدينة الذي إلى جهة القلعة البريّة.

شباب المقاومة الذين على المتراس يلتفّون حوله التفافَ الأحبة المتوهجين بحضوره الذي ليس في عيونهم حضور القائد المتفقّد لجنوده بل الشيء الشبيه بروح الجيرة التي يحملها إلى كل المتاريس بمشيته المُهَرْكَلَةِ الشعبيّة وصوته الممتلئ العميق، يحدّثهم به واحداً واحداً وكلاًّ كلاًّ، فنبرتُه في غيونهم كما هي في آذانهم، لغةَ الجيرة ولهجةَ الألفة الموروثة وكأنما من حيطان البيوت الناهضة على طرفيْ الزقاق ومن بلاط الأرض الحجريّ الذي عاشر وَطْءَ أحذيتهم فألفها وألفتْه، في غدوّها ورواحها، في صعودها ونزولها، لغةَ الجيرة التي تفهمهما روحُه وأرواحُهم، فها هي وجوهُهم تتحدّث إليه وتستجيب لصوته قبل أن تتحرك بالحديث إليه أفواهُهم، وها هي قاماتُهم تنهض فوق قاماتهم وصدورُهم تنتفخ بأنفاسهم وتتصلّب أعناقُهم، فهم، في هذه الغفلة عن أنفسهم، أبطالُ اللحظة في متراسهم، حيث كفّاه العَفِيَّتان تتحسّسان أكياسَ الرمل وتربّتان عليها، بينما ينحني ظهرهُ ويكاد وجهُه يدخل في الفتحة المربعة في وسط أكياس الرمل، الفتحةِ التي منها يدخل الضوء إلى الزقاق، وعبرها تراقب عيونُ شبابنا تحركات الجيش بجنوده وجيباته ومصفحاته على الجانب الآخر للمتراس، ومن خلالها تخترق رصاصاتُ رشاشاتنا الجوّ في مناوشات الليل معهم أو مناوشات النهار.

وتندلق خطواتُه تحته على بلاطات الزقاق الحجرية فألحق به دون أن يوميء إليَّ أن ألحق به، وقد أخذتْه حالةٌ من الإنهماك الذي تنهمك به عيناه وحاجباه وجبينه وحتى فمه الذي يتدوّر ويتكوّر وكأنه يقلب فيه مضغةً من هواجس رأسه. حالة الإنهماك أعرفها فيه حينما تبغته، فلا أسأل عينيه ولا أتوقع منهما إيماءةً بجواب، فأنهمك باللحاق به وقد اندفعتْ به قدماه أمامي، كما تندفعان به الآن على بلاط الزقاق الحجري النازل أمامه وأمامي، وأندفع نزولاً خلفه، ويداي، كيديه، تلولحان في الهواء، وكأنما لتعدّل من سرعتنا ولتحفظ لنا توازننا، ورأسي تفلت عليه الصُّوَرُ من أيام المدرسة، فها أنذا أحمل شنطة الكتب، وقد لفّني المشمّع الواقي من المطر من رأسي حتى حذائي، أنزل النزلة عينها، وعيناي على سيل الماء الكارج في وسط الزقاق على طول الزقاق، من شدّة مطر الشتاء، وقدماي محشورتان، مسافةَ بلاطةٍ حجرية، بين مجرى الماء الكارج وحيطان البيوت، تنتقلان خطوة خطوة بحذرِ مَنْ يمشي على بَيْضٍ، والماءُ أسرع منّي يسبقني ويلفّ مع التفاف منعطفات الزقاق، وشنطةُ كتبي تنحشر في حشرة المسافة ويحفّ جانبُها بحيطان البيوت فتخشّ في أذنيّ تلك الخشّة التي يُزَنْزِلُ لها بدني، فأشدّ على أسناني وتُكَرْنِشُ عضلاتُ وجهي فأتصوره مجعّداً مثل صحن المجدّرة البائت من يوم إلى يوم. أنزل النزلة عينها والماء يسبقني، ويظلّ يسبقني ويسبقني ويسبقني.

أفتح عينيَّ على وسعهما وأغمضهما وأشدّ ثم أفتحهما وأرسلهما خلف خطواته وهو يتقدمني في وسط الزقاق تحت أشعة شمس الظهر، ويداه العفيّتان تلولحان على جانبيه، أرسل عينيّ خلفه ويعود إلى بالي أنّ جولةَ تفقّده للمتاريس اليوم ستقودنا إلى عزيمةِ الغداء لتصفية الأجواء، كرامةً لجهّار الجمري، ولطمأنة صهره بأنّ شباب المقاومة لن يتعرّضوا له بعد الآن، سواء أحبّ الريّسْ أم لم يحبّه، وسواء حضر احتفالاتنا في "ساحة باب السراي" والساحة التي بين "جامع الكبير" و"المقاصد" أم لم يحضر. المهم أنّ الأجواء ستصفو ونحن نُفَصْفِصُ السمك ونغمس الخبز المقليّ في الطرطور.

نزلة "حيّ الشارع" تكاد تنعطف بنا نحو "سوق الحيّاكين" لولا أنْ تمسك يَدُهُ بيدي، وقد تمهّلتْ قدماه حتى كادتا تتوقفان، وتشير الأخرى إلى بوابةِ بيتٍ عتيقة، ويسألني صوتُه الذي امتلاؤه يحرمه من نعمة الخفض والهمس أليس البيت الذي وراء البوابة بيت أخت جهّار المتزوجة من رجل من يافا أو عكا، فأهزّ رأسي بأنكَ لم تخطئ يا ريّسْ فذاكرتُكَ ذاكرةُ الأزقة والزواريب والمنعطفات والقناطر المعقودة في الهواء بين طرفيْ الأزقة والزواريب، وهي الناسُ في مساكنهم ومقاهيهم ومحلاتهم وحتى قبورهم، ذاكرتُكَ التي هي خارطةُ المدينة في تعرّجات ممرّاتها وابتهالات مآذنها وأبخرة حمّاماتها العامة وتأوهات فقرائها وانكسار خاطر يتاماها وأراملها. أهزّ له برأسي أنكَ لم تخطئ وأبقي لنفسي أحاديثَ نفسي ثم أندفع خلفه وقد اندفع فجأة وانعطف بإنعطافةِ الطريق يساراً، وقد وقف بباب محلّ االسمانة ومحل النوفوتيه رجالٌ وصبيان يحملون أكياسَ مشترياتهم أو لفافات من الورق النايلون الشفّاف فيها اللبنةُ والجبنة البيضاء والحمراء، ونسوةٌ من الحيّ بفساتينهن الطويلة الفضفاضة، متبضّعات ومتفرّجات، وكلهم وكلهن عيونٌ عليه وأفواهٌ تحيّيه وتدعو له بدوام الصحة وطول العمر، ويده وعيناه ورأسه وشفتاه كلّها تردّ التحية وتشكر الدعاء، وما هي حتى تعترض طريقَه امرأةٌ هي أختُ الرجال وتجاهره بالسؤال عن مدى صحّة الخبر الذي توسوس به صدورُ الناس فيستمع إليها في أناة مَنْ تعوّد الاستماع في أناة، ونظرُه في الأرض، ثم ينفرج وجهُه ويشعّ فكلّه ابتسامةٌ ورضى وطمأنينة وإذا بالكلمات تخرج من بين شفتيه وكأنها آتية من فجّ عميق أنِ اطْمئنّي يا أم فهد فالنهرُ وأشجار الكينا من أهل جيرتنا، وأنّ الجيرة تحمي شبابَها كما يحميها شبابُها، وأنْ لا خوف على الكوزينا ممّا يدبّرونه للكوزينا، فالنهرُ وشجرُ الكينا سياجُ المدينة ومَنْ سياجُه النهرُ وشجرُ الكينا فالماءُ والظلُّ حليفاه في الأرض كما في السماء.

في الأرض كما في السماء، صوتُ المرأة يتهدّج بالكلمات، وعيناها تلتمعان بالدمع الذي يلتمع ولا يكرج على خدّيها، فكبرياء أخت الرجال تشدّ بالوجه إلى أعلى، نحو السماء، فتفلت الابتهالاتُ في الجوّ وتختلط بصرخات الرجال وأصوات الصّبْيَةِ النحيلة، فتختلط الدعاءاتُ بهتافات الوعد وزمجرات الوعيد، ويندى الهواء، على حدّة الشمس، فيتغلغل في الجمع شيءٌ أدركه ولا أعيه، ويتغلغل فيَّ شيء كالغرغرة في صدري، فأكاد أهوي على الجمع ضمّاً وشدّاً وتقبيلاً. ويأخذني من نفسي صوتُه يتغلغل في أصواتهم أنْ لنا النهرُ وشجرُ الكينا والماءُ والظلُّ ووعدٌ من الغيب بما يشاؤه لنا الغيبُ، فيغيب عنّي الزقاق وأهل الزقاق، وأراني وكأنما في غبشة الفجر أنا على الجسر العتيق، في يدي الرشّاشُ، وإصبعي على الزناد، وعيناي ممدودتان في الغبشة ترسمان معركة الكوزينا، ثم لا يلبث أن يعود الزقاق إلى أهل الزقاق، وهو ينفلت من بينهم ملوّحاً لهم بألاّ يلحقوا به في جولته على المتاريس.

الخمسين مترأ التي أمامنا من الزقاق نقطعها ونلتفّ يميناً، وقد هرع صاحب متجر الأجبان والألبان بالتحية والدعاء والدعوة للريّسْ أنْ يبلّ ريقَه في هذا الحرّ بِقِدْرَةِ لبن، وهو المشهور بحبّه للّبن، فيضحك له الريّسْ شاكراً ويقول اليوم يوم السمك، واللبن والسمك لا يتفقان، ولكنه يعده بالمرور عليه في يوم آخر. خمسين متراً أخرى وإذ نحن على زاوية تنعطف بالطريق غرباً في اتجاه "قهوة القزاز" "ومطعم فلسطين" فلا أعرف نيته حتى أراه لا تتوقف قدماه ولا تنعطفان بل تسترسلان في دقّ الأرض شمالاً شمالاً صوب "ساحة باب السراي".

المقهى الذي على يمين الساحة، أول ما ندخل الساحة، معجوقٌ بقرقرة النراجيل وضربِ حجارةِ طاولاتِ النرد على خشب طاولات النرد ونتعةِ أصوات اللاعبين المحموقةِ من غيظ أو المنتشية بإنتصار، كلّ هذا الخليط المعبّق بدخان السجائر والنراجيل تصيبه السكتةُ لحظة أو لحظتين فالغبشةُ وحدها سيّدة المقهى، حتى إذا ما صدرتْ عن الريّسْ نحنحةٌ تلتْها سعلةٌ ثم استنكارٌ مُمَازِحٌ منه للذين رهنوا صدورهم ورئاتهم لمضارّ التدخين، تحلحلتْ أرجلُ الكراسي فتراجعتْ عن حفافي الطاولات فالكلّ وقوفٌ والكلّ تدافُعٌ والكلّ دعوةٌ إليه لمشاركتهم شفّةَ قهوة أو كاسة شاي ونَفَسَاً عجميّ التنباك، وابتسامتُه لهم جوابُه الوحيد المتكرّر على إلحاحهم، ريثما تهدأ حدّتُهم ويسكت ضجيجهم على نظرةِ عينيه المنتظرتين في أناةِ مَنْ تعوّد أن ينتظر بأناة. ثم يبلع ريقه ويقول لهم صوتُه الذي فجأة يأتي وكأنه آتٍ من فجّ عميق، يقول لهم أن اجتماع الليلة سيكون في "جامع الكبير" بعد صلاة العشاء وأنّ على بعضهم أن يتهيأ لمغادرة المدينة بعد منتصف الليل لمهمّةٍ سيحدّدها الإجتماعُ لهم على ضوء الأخبار التي وصلتْ مع الفجر من شباب البساتين الممتدة على طول منطقة الكوزينا. يتركهم للصمت ويمضي فأمضي خلفه وتعيدنا الطريقُ إلى الزاوية التي تنعطف بنا إلى "قهوة القزاز" و"مطعم فلسطين" فالدرج الذي ينزل بنا إلى "حمّام الشيخ" و"جامع الكيخيا" فننفتل جنوباً لتطالعنا "ساحة" المصلّبيّة" المعجوقة ببسطات الخضار الممدودة من داخل المحلات إلى الطريق، فنعبرها ونقطع المئة متر الأخيرة التي تفصلنا عن المفرق المؤدي، غرباً، إلى "جامع الكبير" والذي قبله بخمسين أو ستين خطوة ينتظرنا السمكُ والبطاطا المقليّ والطرطور.

الدرج الطويل ينهض أمام أعيننا ونحن نصعده درجة درجة، فنشدّ أٌقدامنا ونأخذ أنفاساً عميقة لا نلبث أن نسمع لها زفيراً متتالياً تشتدّ حرارتُه مع كل نقلة قدم. يدقّ على الباب بقبضته متجاهلاً جرسَ الكهرباء، ويلتفتُ إليَّ وفي فمه كلام تبلبله أنفاسُه العميقة فلا يستطيع قوله، وحينما يتهيأ لي أنّ فمه سينفلت منه الصوتُ الآتي وكأنما من فجّ عميق ينفتح البابُ على وسعه ممتلئاً بقامة جهّار المتأهّلة بالريّسْ، ومن ورائه أنا، باليد الممدودة وبالصوت الجهوري الآتي من قلب البساتين، وخلفه وجه أبو الوليد الذي أعرفه مورّداً بالضحك، والآن أراه ممسوحاً بحزن لم أعهده فيه غريب. حسناً أنكما جئتُما معاً، فلي معكما اليوم حديثٌ غير السمك والطرطور، يقول الريّسْ بحماسةٍ وُلِدَتْ لتوّها في صوته، وينغلق خلفنا البابُ، فألتفت ليطالعني الوجهُ الأسمرُ المرتبك لصهر جهّار.

 

المختار

أشحّل في موسم التشحيل وفي موسم التقصيف أقصّف عن الأغصان الثخينة العيدانَ اليابسةَ المثقلتَها بالعقم الذي تكرهه الأرض وتنوء به الأشجار التي ما كانت إلاّ لتكون كالكلم الطيّب، جذوراً غائرة في الأرض وفروعاً باسقة في السماء، حياةً مخفيّة يطفّفها الشوقُ للنور فتطفو به إليه، فهي السرّ والنجوى تلابسا في كشكول الغيب وهي الليل يُسْلَخُ منه الظلام فإذا هو نور مبين. أشحّل وأقصّف وتشحّل منّي المواسمُ وتقصّف، وشجرةُ الجمّيز على حالها، لا يمسّها مقصُّ الشجر، عصيّةً إلاّ على عصافير النهار وخفافيش الليل، راسخةً في التراب الذي وُلدتْ فيه، تسافر فيها وعنها وإليها الفصولُ والعصافيرُ والخفافيشُ، وأنا أحفر في جذعها كل صلاة فجر مخبأً يكون لي ولها سياجاً دون سياج الملّة الأخرى.

كلَّ صلاة فجر.

كلَّ صلاة فجر.

فللفجر على الليل دالَّةٌ، وعلى النهار، فهو السياجُ الذي عليه في عبورهما يلتقيان، مثلما لروحي صلاةُ الفجر سياجُ عبورٍ حدُّه الأذان، يَصَّعَّدُ سَفَراً للصوت الذي لا يعرف التيه لأنّ غايته الله، ذلك السَفَرُ الذي ربما لم يخطر لإبن عربي على بال فغاب ذكرُه له من كتاب الأسفار الذي أوّله الإستواءُ وآخره الحذرُ، وما بينهما ممّا له حميميّةُ الليل، سَفَرُ القرآنِ في ليلة القدر تنزيلاً وسفرُ الرؤية في ليلة الإسراء والمعراج تصعيداً، غاب عن باله ربما سَفَرُ الصوت في الأذان إلى الله، ولم يغب عنه أنّ "الليل أحبّ زمان للمحبّين" "لإختصاصه بمقام المحبة" وأنّ "الأسفار قناطر وجسور موضوعة نعبر عليها إلى ذواتنا وأحوالنا المختصّة بنا".

ذواتِنا وأحوالِنا المختصّةِ بنا، يا الله.

فَأَيْنَهُ، أينه، الأذان، يحلّ من الليل حنجرةَ التكبير والتشهّد فينحلّ من حنجرتي انتظارٌ له صدى الصوت، تعرفه وحدها الروحُ، فتنهض بي على سفر الصوت، لا على صداه، يقيناً تنهض بي إلى صلاة الفجر في سَفَر الفجر الذي على الليل له دالّةٌ، وعلى النهار.

فأينه، أينه، أذانُ الفجر، معبرُنا إلى ذواتنا وأحوالنا المختصة بنا، يا الله؟

الله أكبر، الله أكبر، وتنفتح على رحابة الله روحي، فلا أراني إلاّ منتصباً على سجادة الصلاة، ألفةُ ملمسها لباطن قدميَّ السكينةُ لجسدي. يتّسع الليل بالغرفة وتتّسع الغرفةُ بي وبالسجادة فإذا كفّاي اللتان ترتفعان إلى أذنيّ بالتكبير كأنهما موجتان في أول الصيف تسبحان من قلب البحر بيقينِ الحلولِ القريبِ على الشاطئ الذي هناك ينتظرهما، فتظلاّن تقتربان ولا تصلان، ويظل ينتظرهما ويستحثّهما بالشوق، وتظلاّن ويظلّ، وكأنْ لا حقيقةَ للقاءِ الموجِ بالشاطئ إِلاّ السفرُ إليه، وكأنْ سجداتُ الموج على الرمال انكساراتُ الصدى، تتتالى لتوحي أنّ الموجةَ السجدةَ تبشيرٌ بمثيلاتٍ لها خلفها، فكلُّ وصولٍ لها إليه، مفردةً، لا وصولُ.

الله أكبر، وأنحني بالركوع انحناءةَ اطمئنانٍ فتنسبل ذراعاي حتى تلمس ركبتيّ كفّاي. ثبّتْ أفكاري عليكَ وفيكَ، يا الله، فشيءٌ كورق الشجر اليابس تطؤه قدمٌ عابرةٌ، تخدش خشخشةُ تَكَسُّرِهِ ملمسَ الفجر وتخدش مسرى الكلمات في حنجرتي.

سمع الله لمن حمده، وأحصّل نفسي من انحناءة الركوع حتى أستوي واقفاً ثم أنحني من جديد للسجود بكل جسدي، تسبقني إلى السجادة ركبتاي، لتلحق بهما كفّاي، فتنبسطان على وسعهما، ثم يرتاح بينهما جبيني فتأخذ شفتاي تسبّحان بربّي الأعلى، على سخونة أنفاسي المرتدّة على وجهي من قبل السجادة. اللهم قنا عذاب القبر وعذاب النار وعذاب المرض وعذاب الموت. اللهم كُفَّ أذى الناس عنّا وأذانا عن الناس وعن أنفسنا، يا الله. اللهم اجعل لنا من نورك نوراً، نهتدي به ونتطهر به ونشفى به من كل أمراضنا وننجو به في الدنيا والآخرة، نوراً نمشي به في الناس، يكون لنا، في الدنيا والآخرة، انتصاراً وعزّاً، لا عزّة ولا انتصار إلاّ بك وبنورك، يا الله. اللهم أحبّنا كما نحبّك واجعلنا لمن نحبّ الحبَّ كله. اللهم إنك قريب تجيب دعوة الداعي إذا دعاك، فاستجب لي دعائي، كلّ دعائي، إنك على كل شيء قدير، عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.

الله أكبر، وأستوي جالساً على كعبيْ قدميّ، ثم أهبط على السجادة من جديد بكفيّ وجبيني وشفتيّ المسبّحتين بربّي الأعلى، فتخدش ملمسَ الفجر ومسرى الكلمات في حنجرتي خشخشةٌ كخشخشة تكسِّرِ ورقِ الشجر اليابسِ تطؤه قدمٌ عابرة فتنصتُ أنفاسي فهي لا ترتدّ من قِبَلِ السجادة على وجهي ساخنةً كعهدي بها. شيء غير الخشخشة يَرِدُ عليَّ لا أعرف من أين، شيء كهاجس صوت، إنْ مِنَ الليل أتى فمن حلمِ ابنٍ من أبنائي أتى، وإنْ من داخلي فهو صدى كلماتي.

الله أكبر، وأنهض حتى أستوي في وقوفي، وأنفاسي الآن أطول من ذي قبل وأعمق فصوتُها أعلى، وأعلى انتفاخةُ صدري وبطني بها. أبسمل وأكاد أشرع بقراءة الفاتحة فيدركني الإحساس بأنّ عليَّ أن أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم أوّلاً ثم أبسمل ثم أقرأ الفاتحة ، فأستعيذ بالله من الشيطان، حتى إذا ما خرجتْ من فمي كلمةُ الرجيم طُرِقَتْ على الشبّاك طرقاتٌ كأنها الحصى الصغير، فتنصتُ من جديد أنفاسي. "مختار، يا مختار، أنا عبد البربوش" يأتي الصوتُ الآن واضحاً، فألتفتُ صوب الشبّاك الذي عن يميني، وتنخدش في وعيي خلوةُ الصلاة فينسحب الفجرُ عنّي بملائكة الليل والنهار.

الأيام الصعبةُ لا فجر لها، وحتى نهايتها، حينما تنتهي، تنتهي بفجر غير فجرها، ليطلع عليها صباحٌ غير صباحها، وأنا المختار الذي لا ينتهي دوري ولا يتحوّل في عيون الناس، قبل الثورة وخلالها، الآن مشاكلُهم تطرق بابي في النهار، وتطرق في الليل شبّاكي، ضبّاطاً من الجيش كانوا، يستدرجونني لأكون لهم على أبناء جيرتي عيناً ترصد حركاتهم وسكناتهم، وفماً يشي إلى الدولة بخلجاتهم ونواياهم، أم كانوا من أبناء الجيرة، وقد حشرتْهم  الظروفُ وضاقت عليهم الأرض بما رحبت حتى اقتادتْهم خطاهم إلى مختارهم الذي إنما في الأصل اختاروه ليظلّ لهم عليه دالّةُ اصطفائهم له فهم لا يتحرّجون من طلبه حتى عبر شبابيكه، حتى في خلوة صلاته، حتى في غبشة فجره. يناديني الصوت من جديد ملحّاً عليَّ إلحاحاً لم أعهده من قبل في هذا الصوت فكأنما في نبرته خدشةُ النُّذُرِ، فيغور في قلبي شيء لا أكاد أميّزه. لا يتركني الصوتُ ولا حسحسةُ الأصابع على خشب الشباك ولا النقراتُ عليه بعقد الأصابع، فلا أحسّني إلاّ ويدٌ لي تدفع بدرفة الشباك إلى خارج البيت ليرتسم فيها، كأنما في اللوحة المصوّرة، وجهُ البربوش، وخلفه وجهان، أحدهما غريب عني والآخر سرّي الذي لا أبوح به إلاّ إلى الله. "راحا خطيفة" يقول الصوت، والبحثُ عنهما جارٍ ليل نهار، وبيتك البيت الذي لا يُشتبه به لأنك المختار. يقترب الوجهان فينحلّ فيما تبقّى من الغبشة الخيطُ الأسود والخيطُ الأبيض وتطلع الدنيا على نفسها بلون يغور له القلبُ لأنّ العين، وإنْ حدّقتْ فيه طويلاً، لا تراه.

على باب شبّاكي هما إذن ! إذن من المخبأ الذي لي ولها في شجرة الجمّيز سحبها الغيبُ ! سحبها إليه هو ! وإذن أُحِلَّ لي تشحيلُها وتقصيفُها واجتثاثُها، بإذنك أنتَ، ثم بإذنك أنت، يا الله.

 

عبَدْ البَرْبوشْ

القمرُ مرحرحٌ في السماء، على مهله يمشي إلى الغرب، كأنه لا يمشي، ونتفُ الغيم تدخل فيه وتخرج، ناعمةً كورق الصَّرِّ أو كمحرمة الحرير الشفّاف التي كان يتباهى بها جدي لأنها هديّةٌ من أمّ جورج، امرأةِ صاحب البستان الذي كان يُبَسْتِنُهُ لهم على أيام زوجها، مرحرحٌ لا يهمّه الوقت ولا يهمّه انتظارنا، القمرُ، لإشارة من شجرة من شجرات الكينا تنذرنا ببدء تحركاتهم من شارع رياض الصلح في اتجاه البساتين على الطريق الذي يشقّ البساتين المسيّجة بسياجاتٍ من الشوك أو الشريط الشائك المسنّن أو حيطان من الحجر والطين. فماذا نفعل الآن بكل هذا الضوء الذي سبق الفجر ونحن أوامرنا ألاّ نتحرك إلا في الظلام؟ الصبر إذن فلعل الغيم يغيّر رأيه ويسحب عن النهر والبساتين والسياجات، وعن شجر الكينا والطريق، الضوءَ الذي أتى في غير وقته فأربك خططنا وجمّدنا كلّ مجموعة في مكان، لا نجرؤ على التنقّل لتفقّد بعضنا البعض وللتشاور في كل الخواطر التي تخطر لنا.

وحده ساربُ الهيّوب على الأرض الليلة مأخوذٌ برحرحة الضوء، فرأسه إلى فوق، وعيناه في قلب القمر يبحبش فيه ربما عن وجهها أو فستانها أو ربما عن شيء آخر فيها يحبه أكثر من الوجه والفستان، شيء لعله يكون اكتشفه في الليلات الثلاث التي خبّأتُه فيها في بيت المختار، فالمتزوج، بلغةِ جدّي، ولو خطيفةً، ولو لثلاثة أو أربعة أيام بلياليها، يحنّ إلى ما يعرف أكثر ممّا يحنّ العازبُ الذي يُغْشَى عليه كلّما حرّك الهواءُ على حبل غسيلٍ حميماً من حميميّات بنات الجيران. ثلاثَ ليال يا هيّوب وصرتَ تعرف الدنيا أكثر منّي، فسبحان الذي جنّننكَ على غير ميعاد وجعل منك رجلاً قبل أوانك، وقد كنتُ أظنك خَسِعاً منعنعاً كأولاد المدارس. وأين تُراك الآن، أين تُراك يا جدي لتسمع مني الحكاية؟

يبغتنا من فوقنا، من شجرة السرو المفضوحة في الضوء، رفرفةٌ لجناحين، لا تراهما عيناي ولا عيون الشباب التي فتحتْها البغتةُ ورفعتْها على طول شجرة السرو، فوجوهنا يسأل بعضُها بعضاً عمّا إذا كان ما سمعناه رفرفةً لجناحين أو شيئاً آخر، شيئاً أكثر من حركةٍ تحرّكها عصفورٌ من غصن إلى غصن أو من سروة إلى سروة، شيء كإشارة لنا من الليل علينا أن نفسّرها بأنفسنا قبل أن تفسّرها لنا بغتةٌ من بغتات الغيب. بغتة من بغتات الغيب ! الليلةَ صوت جدّي وكلماته في صوتي. شيءٌ قاله مرّة في أحاديثه عن القدر الذي يغمز بطرف عينه ويرحل، تاركنا نبحبش في قلوبنا عن معنى الغمزة، ساخراً منّا، يؤكد جدي، لأننا كلّما لَوَيْنا المعنى لَوَتْنا الحيرةُ، فوجوهنا يسأل بعضها بعضاً لا تزال، ووحدي يرعشني صوتُه الذي لم أعد أفهم كلماته، وكنتُ أظن، وهو يحدثني أحاديثه، أنني في استماعي إليه كنتُ أحفظه وأفهمه عن ظهر قلب. شجرة السرو يتحرّك فيها الشيء من جديد. صوت جدي يشدّني إلى الأرض فأشدّ بدعستي على التراب فأحسّ بالتراب يترحرح تحت قدميّ وينزل في الأرض شيئاً. عيناي كذلك تتشبثان بالأرض فيبتسم وجه جدي وتقول لي عيناه أنني بخير ما دامتْ قدماي تتشبثان بالأرض. شجرة السرو لا يتحرّك فيها الآن شيء، وأكاد أراها، والضوءُ ينسحب فجأة عن السياج والأرض والشجر، وقد اسودّتْ من جديد فهي قضيبٌ من الفحم على هيئة عرنوس ذرة.

حسن الوروار ومحمود الدندول والهَنْسْ بَنَلْتِي يرمون بأنفسهم إلى الجانب الآخر من السياج ولا يلتفتون إليّ فأقفز فوق السياج وأهرول خلفهم عبر الشارع إلى سياج البستان المواجه لنا، وإذ نهمّ بالقفز إلى داخل البستان الآخر تأتينا أصوات مخنوقة وهسهسات مقطّعة أن ندخل واحداً واحداً عبر الفجوات التي هيّأتْها لنا مجموعةُ الشباب هناك لتسهيل انتقالنا إلى ناحيتهم في أقل وقت ممكن حتى لا يبغتنا من جديد ضوءُ القمر إذا ما ترحرح عنه الغيمُ وتركه في حال سبيله. بالتأكيد هذه خطة مدرّبنا الفلسطيني "أبو الليل"، فهو لم يترك سياجاً في بساتين "حي القملة" و"حيّ بستان الكبير" و"حي الوسطاني" و"حيّ مكسر العبد" ومنطقة "الكوزينا" إلاّ وعلّمنا كيف نفتح فيه ممرّاً لنا وكيف نموّه الفتحة بعد مرورنا بالشوك وعيدان الأغصان حتى لا تكتشفها دوريات الجيش فتعرف تحركاتنا وترصدنا وتلاحقنا حتى يسقط منّا مَنْ يسقط ويؤسر مَنْ يؤسر. تتموّه الفجواتُ المدوّرة بالشوك وعيدان الأغصان على هسهسات الشباب وحفحفة ملابسنا واحتكاك أسلحتنا بعضها ببعض ثم نرتدّ بعيداً عن السياج إلى قلب البستان في خطّ ترسمه لنا الفسحاتُ التي بين صفوف الأشجار. وكأنما انفتحت الأرض أمامنا فجأة، ينهض في وجوهنا من التراب، ويسقط علينا من الشجرات الغليظة، رجالٌ تتخرطش أسلحتُهم قبل أن يأمرنا من بينهم صوتٌ بأنْ نرسو في أمكنتنا بدون حركة أو صوت. خرطشةُ أسلحتهم كانت أسرع إلينا من انتباهنا لأنفسنا، والصوت الذي أمرنا يأمرنا الآن أن نعرّف بأنفسنا واحداً واحداً، وكلاًّ بصوته. عبد البربوش، حسن الوروار، محمود الدندول، الهنس بنلتي، عمر السمّاك، تكرج أصواتُنا بأسمائنا في الليل فأحسّ لها بغرابةٍ وكأنها ليست منّا، فيعود الصوت الآمر، هذه المرة بلهجة التهديد، ليسأل الهنس بنلتي عن اسمه الحقيقي فأسرع أنا لأشرح معنى الإسم الذي ألصقه به شبابُ الحيّ أيام تدرّبهم في "الملعب البلدي" على كرة القدم فإذا بوزُ الرشّاش في بطني، يشدّ يشدّ، والصوت الذي وراء الرشّاش يحذّرني من فتح فمي مرة ثانية. الهنس بنلتي يقول لهم أن اسمه الحقيقي عارف الحلبي وأنّ الاسم الآخر مزحة من مزحات الشباب. وتكرج بقيةُ الأسماء في الليل بأصوات غريبة عن أصحابها حتى آخر شخص فينا. الصمت الذي سقط علينا يكسره الصوتُ المخنوقُ الغاضب يسألنا عن بقية الشباب، فيقول له الهنس بنلتي أننا نشكّل دورية صغيرة من دوريات المقاومة تتفقد البساتين في الليل. نعرف ما تفعلون في الليل والنهار، يهجم علينا الصوت الغاضب، ولا يهمّنا ما تفعلونه طالما أنكم لا تخرجون من حدود البساتين إلى ما خلف الجسر العتيق، فبيننا وبين قيادتكم تفاهم على أنّ مشاكلكم مع الجيش يجب أن تبقى محصورة في حدود البساتين. قلبي يحدّثني بأنّ صاحب الصوت ورفاقه من شباب منطقة "عِلْمَانْ" ولعلهم من شباب عازر الديّار، فهو مرجعُ القرى المسيحية من شرق صيدا إلى شرقي الجسر العتيق نزولاً إلى منطقة "الرميلة". ولكن ماذا يريدون؟ وكيف اتفق نزولهم إلى هذا البستان جنوبي النهر ليلة توقُّعِنا لهجوم الجيش؟ هل يتجسسون لحسابه؟ رأسي لم يعد رأسي، وقلبي يحدّثني برفرفة الجناحين في السروة، وصوتُ جدّي يبغتني بكلمات يقطعها عن أذنيّ الصوتُ الآمر يسأل عمّا إذا كان أحدنا يعرف شاباً بإسم سارب الهيّوب. أسرع لأقول له أن الهيّوب نقلتْه قيادةُ المقاومة إلى المدينة وسرّحتْه من الخدمة في المقاومة الشعبية. الكذبةُ أكبر منّي ولكن لا مجال الآن لإستردادها. الآن، والآن فقط، أنتبه إلى أن الهيّوب كنّا نسيناه تحت شجرة السرو خلف السياج الآخر، نسيناه في زحمة اللحظة التي غاب فيها القمرُ وترك لنا الليلَ نتسلل فيه من بستان إلى بستان. الرشاشاتُ تبتعد عنّا ويستوحش قلبي وأنا أسال نفسي عمّا إذا كان أحدهم قريباً لماريّا.

ليلة اختطفها الهيّوبُ واختطفتْه أمام عينيّ وأنا أنظر إليها ترمي إليه من نافذتها ببقجة ثيابها ثم تجلس على حافة الشباك وتدلدل قدميها في الهواء، فيتأهّب هو ليمسك بها، ولا يدري من أين، ليساعدها على النطّ إلى أرض البستان، ليلتها لعنتُ الساعة التي قبلتُ فيها بالخروج معه من البيت وحدّثني قلبي أنه كان قد دبّر الخطّة معها بطريقة ما، بإشارة من يد أو غمزة من عين أو همسة مرّرتْها له ومرّر لها مثلها آخر مرة صحبتُه فيها إلى نافذتها، لعنتُ نفسي ليلتها وأدركتُ أنّ نعنعة ابن المدارس يختبئ فيها احتيالٌ احتال به عليّ فجرّني على طريق جنونه وأنا الحاسبُ أنني أداريه من باب الشفقة، لأقف معه تحت نافذتها وهي تزحط شيئاً فشيئاً على حافّة الشبّاك ويداها مشدودتان كل واحدة على درفة، لتوازن نفسها، حتى لا تقع طبّاً على الأرض، ومع كلّ زحطةٍ ترتفع يداه إليها أكثر ويزحط فستانُها عنها شيئاً إلى فوق، وشيئاً فشيئاً حتى تصبح كلّها في الهواء وتنزل علينا نزولَ السكينة والطمأنينة فنرتاح من خوفنا عليها ولا نراها إلاّ وهي بيننا تملّس بيديها على أطراف فستانها الذي كان قد ارتدّ مع نطّتها في الهواء إلى أعلى من ركبتيها وأعلى حتى ممّا تعوّدتُ أن أراه، سِرْقَةً، في بنات جيرتنا، وهنّ ينطّنَّ على الحبل في غفلةٍ عن أهلهنّ. ليلتها المجنونُ والمجنونةُ سحباني معهما من جلّ إلى جلّ، وأنا أحمل لهما بقجة الثياب، حتى وصلنا إلى الغرفة التي فيها يبيت فدخلتْ هي ووقف هو لحظة ساكتاً ثم التفتَ إليَّ، وكنتُ على بعد خطوات منه، لا أدري ما ينبغي عليَّ أن أفعل، فتقدم مني على مهله ورفع عينيه في عينيّ فرأيت فيهما، لتعوّدي عليه، نظرةَ العرفان بالجميل، فلان له قلبي وسامحتُه على جرّه لي معه، من حيث لا أدري، على طريق جنونه وجنونها. ثم ناولتُه بقجة الثياب، ثيابِها، فضمّها بيديه إلى صدره واستدار ومشى، وما هي حتى انغلق خلفه البابُ، فاستوحش قلبي ورغرغ فيه شيءٌ لا عهد لقلبي به، فاستدرتُ بدوري وسرتُ خطوات في الليل الممتد أمامي، والرغرغةُ في قلبي تمتدّ منه إلى كل صدري وتصعد كعبقة البخار إلى حنجرتي، فأشدّ على حنجرتي، وأشدّ على أسناني، وأكتم نَفَسي، فينفجر في داخلي شيءٌ أقوى منّي، فأنحني وآخذ وجهي في كفّيَّ، وقد ركعتْ قدماي على التراب، وفَلَتَ عليَّ البكاء، ساخناً ساخناً كأني لم أعرف قبل الليلة البكاء.

ثم طلع علينا الصباح وكانت حكايةُ الخطيفة قد تسلّلتْ إلى كل بيت فهي على كل لسان وباب ونافذة ومصطبة دار. ثم اضطربتْ عيونُ الجيرة في وجوه أهل الجيرة وسكتتْ أحاديثُ نساء ورجال الملّتين، فالمخطوفةُ قاصر والخاطف غريب عن أهل الجيرة والقصّة تكبر وتظلّ تكبر حتى تصبح مسلماً يتطاول على عائلة مسيحية، وحتى تملأ الأرجلُ الغاضبة مصطبةَ عازر الديّار، مرجعِها وقت الضّيم، والضّيمُ لا بدّ أن يرفعه الديّارُ حتى لا يفلت الوضعُ من أيدي الكبار وتنخضّ الجيرة ويطوف علينا النهر في غير موسم الطوفان. قلبي يحدّثني أنّ شباب الملّة الأخرى سيقلبون الأرض بحثاً عن ماريّا لاستردادها وردّها إلى أهلها، فأشرح الأمر للهيّوب فيقبل على الفور خطّتي بالانتقال قرابة الفجر إلى بيت المختار الذي لن تطاله الشبهاتُ لما للمختار من مكانة عند الملّتين. ولكنّ الفرحة لا تدوم، ففي مساء الليلة الثالثة يبغتُنا صوتُ جهّار الجمري من وراء الباب وتلحّ على الباب دقّاتُ الإصرار حتى يفتح له المختار فيدخل، وفي يده محرمةٌ ملفوفٌ بها مسدسُه، ويجلس ويتحدث بهدوء وأناة فيشرح الوضع للمختار، وأنا أستمع على مقربة منهما. المختار يعده بالمساعدة في البحث عن الهاربيْن، فيؤكد له جهّار على خطورة الوضع وضيق الوقت فالديّار بنفسه طلب منه التدخل لتعود المخطوفةُ على يديه هو، جهّار، إلى أهلها، فَتُطَيَّبُ الخواطرُ الهائجة ويبرد الدم في العروق. وما أن يهمّ بالوقوف جهّار حتى يخرج من مخبئهما الهاربان، وصوتُ الهيّوب، حزيناً كما لم أعرف الحزن، يبغتُنا بهدوئه وكلماته أنْ لن يكون بين الملّتين بسببهما دمٌ أو جارحٌ من كلام، وهي خلفه، كفّاها على كتفيه، مستسلمتين استسلامها لنهنهة البكاء التي تحرق صوتَها وتحرق حولنا الليلَ كله والهواء.

البستانيُّ الذي يعرفنا ونعرفه يشدّ البوابة الخشبية إلى داخل البستان متراجعاً خلفها إلى الوراء شيئاً فشيئاً ونحن وراءه على بعد خطوات ننتظر منه الإشارة المتفق عليها لنتسلل واحداً واحداً إلى الطريق التي ستأخذنا صوب الجسر العتيق، وما أن يطمئنّ حتى يطمئننا أنّ لا أحد هناك فنأخذ بإشارة الوروار الذي يتقدمنا ونلحق به، السمّاك والدندول وأنا والهيّوب، وخلفنا الشبابُ الذين التحقنا بهم والتحقوا بنا من جل إلى جل ومن سياج إلى سياج فإذا نحن ولا يعرفنا كم نحن إلاّ الليل الممتدّ أمامنا وخلفنا، نلحق بخطى الوروار الآن كلنا، وخطانا على الأرض تدلّنا وتقيس لنا ما تبقّى من الطريق حتى اللفّة التي تلفّ إلى الجسر العتيق. الهيّوب الذي كنّا استرجعناه من تحت السروة وسَمّعَهُ الوروارُ كلمتين حذّره بهما من التخلّف عنّا قدماه أمام قدميّ على الأرض وعيناي عليه حتى لا يفلت منّا هذه المرة في سرحاته المجنونة، والقمرُ لا تزال تدخل فيه الغيماتُ وتخرج، وأنا يدي على قلبي أن يغفل الهيّوب عن مهمّتنا الليلة فيأخذه القمر من جديد ويحمله إلى المجنونة التي قلبي عليها وعليه من شباب منطقة "عِلْمَانْ" الذين جرّأتْهم الفضيحةُ على دخول بساتيننا في الليل وعلى كسر حرمة الجيرة كسرةً كانت ستجرّ عليهم الويلات لولا أنّ الغلطة في الأساس هي غلطة الهيّوب المحسوب على جيرتنا.

واحداً واحداً نلفّ مع لفّة الطريق إلى الغرب، على يميننا بستانُ "قبر شْمونْ" وعلى يسارنا سور البستان الحجري الذي يلفّ معنا ويظل هو هو، على طول المسافة التي تفصلنا عن الجسر العتيق، سياجاً لنا من العيون التي ترصدنا بلا شك من نقطة ما على جسر الأوّلي، سياجاً لنا فوق أكتافنا ورؤوسنا وأسلحتنا تعلو أحجارُه والطينُ الذي طيّنوه به سنة بعد سنة حتى صار أسمك من أسوار البساتين الأخرى التي لا يُخاف عليها من فيضان النهر زمن فيضانه. يرغرغ قلبي بالطمأنينة وأنا أتحسس خشونة الطين ويصحو صوتُ جدي يحدّثني عن الأرض فيحدّثني هذه المرة عن النهر في صيفه وشتائه ويضحك من كلّ قلبه فتختلط ضحكتُه بأصوات الماء، فتصحو في أذنيَّ، كما في غفلة الحلم، خرخرةُ صوتِ الوروار أنِ ابْقوا في أماكنكم على يسار الطريق لصق السور، فنقف وتنقطع أصداءُ دعساتنا المتتابعة فوق الطريق. ودون أن أرى ما يجري أمامي بوضوح أفهم أن الوروار لا بدّ أرسل أحد الشباب يستطلع لنا نواحي الأرض التي يقوم عليها طَرَفا الجسر، من جهة الطريق التي نحن عليها ومن جهة البستان الذي عبر النهر والذي إليه ينتهي الجسرُ الممتدّةُ عليه وصلاتُ خطّ السكة الحديدي في طريقها إلى "كعب الصخر". رأس الهيّوب يتحرك أمامي وحركتُه هي هي إلى فوق، كأنه يبحبش في الغيمات عن القمر، في الوقت الذي لا يتمنى أحد منّا أن يجد القمر، لا في الغيمات ولا وراءها، يتحرك رأسُه حركة واحدة ويجمد في مكانه من الليل، فتحدّثني نفسي أن أقطع عليه حبل أفكاره، أن أتحرّش به وبأحلامه، فأفتح فمي لأقول له أن ينسى كل شيء الآن إلاّ الطريق التي نحن عليها وإلاّ شجرات الكينا التي تنتظرنا جذوعُها العفيّة خلف الجسر العتيق حيث سنتمركز كما هي الأوامر المنقولة إلينا اثنين اثنين خلف الجذوع الضخمة وواحداً واحداً خلف الجذوع المعتدلة، أفتح فمي لأقول هذا وشيئاً غير هذا، فيأخذني على حين غرة شيء كأنه صوته، يقول لي أنَّ غياب القمر في الغيم لن يمنع عنه رؤية أسوار البساتين الناهضة أمامنا على طول الطريق حتى آخر منطقة الكوزينا، حيث الإنعطافة الأخيرة نحو الجنوب، والتي هي انعطافة السور الذي يفصل الطريق عن البستان التي هي فيه. الشيء الذي كأنه صوته يقول أكثر من هذا ويذكّرني بأكثر مما أريد أن أتذكر. رأسه العنيد لا يتحرك، ومسحةٌ من القمر تمرّ على مهلها بين غيمتين، وكأنما نكاية بنا لأن رجاءنا الليلةَ في الليل، ولولا أنها تختفي من جديد لفضحنا الضوءُ لعيونِ أعدائنا، صفّاً طويلاً من القامات والأسلحة. رأسُه لا يتحرّك وصوتُه لا يقول، ولا يقرّبني منه الآن إلاّ ابتعادُها عنّا في هذا الليل الطويل الطويل.

الوروار صوتُه الآن أوضح، يأتينا من تحت "الجسر العتيق" فلعله اطمأنّ إلى خلوّ المنطقة من دوريات الجيش فأمرنا بالإسراع إلى يمين الطريق لقطع المسافة الباقية ولنتفرق خلف جذوع شجرات الكينا قبل أن يفاجئنا الفجرُ بتحركات شاحنات الجيش وجيباته ومدرعاته وربما دباباته التي كانت عصر أمس تأتي وتروح على طول الخط من منطقة "الرميلة" إلى طرف "جسر الأوّلي" حيث تلتفّ على نفسها وتدور قرب "معمل الثلج" ويهدر صوتُ جنازيرها على الزفت وهي تبتعد شيئاً فشيئاً في محاذاة بستان عازر الديّار، فبستان "الرمل" الذي لا يزال يبستنه يحيى الجمري لأصحابه البيارته، فبستان "البلح" لآل الخيّاط، وكل ذلك نعرفه ولا نراه فشبابنا المدرَّبون على التسلّل السريع من بستان إلى بستان، على يد مدرّبنا الفلسطيني "أبو الليل" ومن صحب معه من "مخيم عين الحلوة" إلى منطقة الكوزينا في الأيام الأخيرة، كانوا يعودون إلينا بالأخبار أوّلاً بأوّل. وها هو الجسر العتيق، فوق قاماتنا تعلو دعائمُه الإسمنتُ التي أضخم من جذوع شجرات الكينا، إلى جهتنا على شمال الطريق دعامةٌ نصفُها داخل البستان ونصفُها الآخر مغروز في الطريق، ودعامةٌ مثلها ضخمةٌ نصفُها على الطرف الشمالي للطريق والنصفُ الآخر في مجرى النهر، والدعامةُ الثالثة على الضفة الأخرى للنهر، نصفٌ في المجرى ونصف في تراب التلة، أنظر إليها كلها في لمحات سريعة فيرغرغ في داخلي الشيء الذي يفتح عينيَّ على الليلة التي وقف على خشبات الجسر فيها الهيّوبُ يبحبش عمّا يبحبش عنه في القمر ليصرخ فجأة كالمجنون بإسمها، بإسمها هي التي اختطفتُه قبل أن يختطفها بزمان. الوروار صوتُه في أذنيّ أنْ دِرْ بالَكَ على الهيّوب دون أن يذكر اسمه. أطمئنه بهزّة من رأسي وقد اضطرب كل شيء فيَّ لهذه التوصية المفاجئة، ويصحو صوتُ جدي يحدثني عن القدر الذي يغمز بعينه ثم يمضي تاركنا نبحبش عن معنى الغمزة، وتعود إليَّ من أغصان تلك السروة رفرفةٌ لجناحين.

على إشارة من يد الوروار ننخطف إلى الجهة الأخرى من الطريق وننطّ إلى الأرض الترابية فإذا نحن وجهاً لوجه مع أول شجرة من شجرات الكينا، وحيدةً تقف بجذعها الممتلئ العفيّ وقد تَكَرْنَشَتْ تحت أقدامنا جذورُها النافرة من التراب فجعلتْ مسيرَنا حولها دعسةً عالية ودعسةً واطية وزحطةً بين دعستين. نتابع سيرنا فتتسع أرض الكوزينا كلّما انحدرنا غرباً ويكثر عدد الشجرات كلما انخفضتِ الأرضُ تحت أقدامنا لتكون أقرب ما تكون من مستوى مجرى الماء في النهر. يقرقع الحصى تحت قدميّ فأعرف أنني أخيراً حاذيتُ المجرى، وحتى لو لم يقرقع الحصى لعرفتُ، فصوتُ الماء المنساب ضعيفاً، كما هي حالته في الصيف، يأتينا من الجانب الشمالي للمجرى حيث هو أعمق والماء فيه أغزر وقصبُ الغزّار على حافة الضفة، أعرفها وإن أكن لا أراها الآن، فَعَبْرَها كنّا هرّبنا الأسلحةَ من قرى إقليم الخرّوب إلى شباب المقاومة في البساتين - - هذه البساتين التي تربطها بالنهر وبالكوزينا جيرةُ الأرض والهواء وزقزقة العصافير التي تأتي إلينا بالفجر وقد انتظرناه على خوفٍ طويلاً طويلاً.

زقزقةُ العصافير فوق رؤوسنا تنتقل من غصن إلى غصن ومن شجرة إلى شجرة وما هي إلاّ لحظة ولحظة حتى تزخّ علينا زَخَّةَ المطر، والزِّكْ زِكْ زِكْ التي بدأتْ خجولةً مترددةً تشتدّ وتحتدّ وبعضُها يخشوشن، وليس في الأغصان لغير الصوت من أثر. وكأنما الزقزقة جيش من الأصوات التي تقول لليل أن يرحل فيرحل، كما كان يروي لي جدي، ينكسر شيء في الجوّ لا أعرف كيف ينكسر وينزل على الدنيا صفاءٌ كالنور البارد فينمسح الخوفُ من قلبي ويرغرغ في صدري شيء كصباح العيد. أنصرنا بنورك يا الله، وتصيبني حالةُ السجود فلا أحس إلا وجبهتي على التراب، وحينما أنهض يطالعني وجهُ الهيّوب يتأملني في صفاء حلّ فيه هو أيضاً. ولا يأخذني من عينيه ولا يأخذه من عينيّ إلاّ طلقةٌ عميقة لعلها من مدفع دبابة واقفة على جسر الأوّلي. وتتلوها طلقة عميقة ثانية قبل أن تصيب الأولى هدفَها فتنفجر. ثم ثالثة فرابعة ثم ترتج الأرض تحتنا بأصوات الانفجارات من خلفنا ومن أمامنا وعلى يميننا في مجرى النهر. جذوعُ شجرات الكينا متارسينا الآن فنتمترس بها وننخفض حتى تلتوي أرجلُنا ونكون في وضع القتال. شيء فينا يرفض الإنبطاح، ولا صوت للرصاص بعد، فلعلهم خطّطوا لتدمير الجسر العتيق ولإحراق حرج الكينا عن بكرة أبيه، على طريقة الأرض المحروقة، كما شرح لنا المدرِّب الفلسطيني مرة. وإذن فعلينا أن نغطس في ماء النهر حيث المجرى أعمق إذا اندلعتْ الحرائق في كل الشجرات. يا الله أبعدْ عني هذه الأفكار وثبّتني على الإيمان بقدرتك على نصرنا، يا الله. الإنفجارات خلفنا تزداد وتعنف وتلاحقنا الأصوات بالأمر أن نتقدم بسرعة إلى الأمام حيث مساحة الأرض أوسع. وكأنما بسحر ساحر يسقط علينا من إحدى الشجرات صوتٌ ينذرنا بتحرّك آليات الجيش على طول جسر الأولي وبإلتفاف طلائعها نحو الطريق الضيّق المتفرّع من شارع رياض الصلح والمتجه، في قلب البساتين، إلى منطقة الكوزينا فالجسر العتيق. الصوت من أعلى الشجرة تبتلعه القذيفة التي أصابت أعلى أغصان الشجرة، وما هي إلاّ وطقطقةٌ من فوقنا تهوي بغصن عظيم وبصرخةٍ تضرب الأرض ولا نرى لصاحبها من أثر. ننتظر حركة من مكان ما، يداً ترتفع في الهواء، رأساً ينهض من بين الأوراق، وأنفاسُنا محبوسةٌ في صدورنا، ولا من حسّ ولا من خبر. الوروار يسبقه صوتُه إلى حيث عيونُنا ونراه يقفز كالمجنون من طرف الغصن المكسور إلى طرف، ورأسُ رشّاشه يبحبش في الأوراق، والشباب، واحداً واحداً، يصلون إليه من كل جهة، وكأن المعركة كلها تتركّز في هذا المكان بعينه، وكأنّ القذائف توقّفتْ، وما توقّفتْ. رأس رشاشه يجمد في الهواء، فيركع هو على الأرض وتطلع الصرخة من قلبه فلا أراني إلا وقدمايَ تتوقفان بي فوقه وعيناي تحدقان في جمجمة محطّمة وجسم لتوّه ودّع الحياة. إحملوه من هنا قبل أن يصلوا، يأمر صوت الوروار، وقد انكسر فيه شيء لا أعرف وصفه. وإذ يتقدم بعض الشباب أكثر فأكثر وتتردد الأيدي في انتشال الجثة وحملها، يخلع الوروار قميصه ويركع مرة ثانية على الأرض حيث يبسطه ويمرّره برفق تحت الجمجمة المحطّمة ثم يلفّه عليها حتى لا يُرى منها شيء. الهيّوب، ولا أدري من أين هبط علينا، يضع كفّيه تحت القميص المربوط فتنهض الأيدي التي تجرّأتْ بالجسم كله وتمضي به جنوباً جنوباً في اتجاه البستان الذي مرةً قفزتُ إليه من فوق سوره مع الهيّوب في زمن جنونها وجنونه.

يتلملم الخوفُ والألمُ واليأسُ وما لستُ أدري، كلّه يتلملم في داخلي ويعصر صدري حتى لتضيق بأنفاسي ضلوعي فأفتح فمي أتنفّس منه أنفاساً قصيرة تأخذ الضغط عن صدري، وأدير وجهي بعيداً عن المكان الذي حملوه إليه حتى لا أرى ما كان يمكن أن يحلّ بي لو كنتُ المحمولَ مكانه. الصُّوَرُ في رأسي لا أقوى على طردها من رأسي ويلحّ عليّ فيما يلحّ ما لا أقوى على النظر إليه، فالمحمولُ ينزل على الأرض ويمشي معهم وأيديهم تحمل الآن الهيّوب، وعلى سور البستان تقف هي في ثوبها الأسود ويداها تلولحان في الهواء ثم تطير نحوي وتمسك بكتفيّ وتهزّني وتهزّني، ورأسُها يشير إليَّ وإلى حيث لا يزالون يحملونه تحت سور البستان، فأفهم أنها تطلب منّي أن أحميه من الموت من أجلها هي، ثم تختفي الصُّوَرُ كلها على صوت جدي يذكّرني بصلاة الخوف فلا يتردد قلبي لحظة واحدة فيرغرغ بإقامة الصلاة فأركع وأسجد مرتين وأقوم فأركع وأسجد مرتين، وأنا واقف لا أتحرك، تماماً كما كان علّمني جدي من تجاربه التي عاشها في حرب السّفَرْبَرْلِكْ أيام الأتراك. وتدفشني يد من خلفي وصوتُ الهنس بنلتي يفختُ طبلةَ أذني أنِ ابتعدْ عن مرمى القذائف يا مجنون. أركض مع الراكضين إلى متّسعِ الأرض الذي تنهض فيه أضخم شجرات الكينا وأقف خلف إحداها. كل شيء صار الآن أوضح في النور. على الجسر الطويل أكثرُ من دبّابة، أو ربما دبابة ومصفحتان، فمن الغرب إذن يأتينا خطر، ومن الطريق المتفرّعة من شارع رياض الصلح ننتظر وصول آليات الجيش وشاحنات جندهم لمحاصرتنا وإحكام الكمّاشة علينا. وإذن من الجنوب كذلك يأتينا الخطر. والطريق التي أتينا عليها من الشرق مرمى لقذائف المدفعية، وهي لضيقها أخطر الأمكنة علينا ولا يمكن الرجوع إليها مهما اشتدتْ المعركة ومهما بلغتْ خسائرنا. بالطبع البساتين التي خلف الأسوار محسوبة علينا، ولكنها مثل الكوزينا معرّضة للاقتحام بالدبابات، ورشاشاتُ مصفحاتهم تحصد الأخضر واليابس لو فُتِحَتْ على شبابنا نيرانُها. الأوامر تشدّد على ملازمة مجرى النهر والأرض التي حملتْ شجرات الكينا عمراً هو من عمر النهر، فالكوزينا للصيداويين الحدُّ الفاصل بين ما لهم وما للآخرين، هي جنّتُهم في الربيع ومصيفُ فقرائهم في الصيف، حيث رجالهم ونساؤهم وشيوخهم وأطفالهم عائلة واحدة، وحيث قرقرة أراكيلهم ودخان مواقدهم وروائح شوائهم أنفاسُهم الطيّبة يتنفسونها كما يتنفسون طعم الحرية الذي لا كرامة للحياة بدونها. أوامر الريّسْ من المدينة المحاصَرة أن نستميت في الدفاع عن هذه الكوزينا لأنّ الأحذية الغليظة إذا وطئتْها بانتصار ستكسر بعدها عنفوانَ المدينة التي لا يحتمل أهلُها سيرةَ الهزيمة، وهي التي أحرقتْ نفسها في التاريخ القديم مرتين. تعود إليَّ الآن كلّها كلماتُ الريّسْ على لسان المدرّب، مرة بعد مرة بعد مرة، كلها تعود كحبّات الجمر تلسع صدري فتحمى أنفاسي وتتتابع مسرعة، عميقة، فيذهب عنّي الخوف، يطير لا أدري كيف ولا إلى أين، فأتلفتُ حولي وتتذكّر عيناي فأركض في كل اتجاه أفتش عنه وأصرخ باسمه على مدى صوتي، وعلى مدى الأرض يزخّ علينا الرصاصُ الآتي من الآليات المندفعة نحونا بهديرها الذي لن يُبقي لنا على غصنٍ عصفوراً تأتي إلينا زقزقتُه من فوقنا بالفجر، لو بقيتْ حيث مبيتُها العصافير.

يدٌ هائلةُ الشّدّة تنتشلني من الركض في كل اتجاه وتثبتني من رأسي إلى قدميَّ على جذع كناية، وإذ بصوت الهنس بنلتي يصرخ بي في صوت مكتوم أنْ ما أصابك أيها المجنون تُعَرِّضُ صدرَكَ للرصاص المنهمر علينا؟ فأجيبه بأصوات متقطعة وبأنفاس تحرق فمي وصدري، فيهزّ رأسه هكذا وهكذا وأسنانه تشدّ على بعضها، ثم ينتع يدي إلى أسفل فأنخّ على نخّته، فإذا نحن ورُكَبُنا في التراب، وكلّ منّا رشّاشُه بين يديه في وضع الاستعداد للردّ على الرصاص بالرصاص لحظة تُعطى الإشارةُ المتفق عليها. الوروار أكّد علينا، كالمدرّب الفلسطيني، أن نصبر ونظل نصبر فلا تطلع من جهتنا طلقة واحدة حتى يصرخ بنا هو، الوروار بنفسه، الصرخةَ المتفق عليها. المرحلة الأولى من المعركة هي تَرْكُهُمْ يزخّوننا برصاصهم حتى يتوهموا بأنهم سيطروا على الموقف، ونحن بحماية جذوع شجرات الكينا، هَمُّنا ألاّ يسقط منا قتلى أو جرحى، ثم تأتي لحظة المواجهة بعد أن تكون آلياتهم قد انتشرتْ حتى الجسر العتيق. حتى الآن سقط منا قتيل. ويا لها من سقطة ! حتى الآن تبخّشتْ جذوعُ الشجرات بالرصاصات التي تبحث عن صدورنا. صحيح ما قاله المدرِّب أنّ الجيرة تحمي أهلها وقت الحشرة. وأنتِ الآن جيرتُنا يا جذوعاً صمدتْ من أجلنا وسنصمد من أجلها. على لسان المدرِّب تعود إليَّ كلماتُ الريّسْ أنّ الحديدَ والنارَ وجنازيرَ الدبابات ستمرّ كما تمرّ العواصفُ والفيضاناتُ من كل عام، ولكن لن يكون لها أكثر من أن تمرّ، فالصيف سينتهي وستنتهي فترة رئاسة الجمهورية، وحين يأتي الربيع ستعشّش السنونو وكل العصافير فوقنا في الأغصان التي هي جيرتها وجيرتنا، ستعشّش من جديد وستمتلئ أرضُ الكوزينا بروائح تنباك الأراكيل وروائح الشواء وعبقة دخان المواقد وسيغنّي الصيداويون ويرقصون، فبخّشي يا رصاصات الدولة أشجارَنا، بخّشيها واستقوي على صمتها فعمّا قليل سنكون نحن أصواتَها، صدورُنا ورؤوسُنا وأيدينا وأرجلُنا وكلُّ عرق ينبض فينا بدم الحياة. أعرف أن روحك الآن تُحَوْحِمُ عليَّ يا جدي، وأحسّ بأنك تتغلغل لا في دمي فحسب بل حتى في أنفاسي وصوتي، ولن أخيّب ظنّك، فأنتَ الأرض التي كنتَ تحدّثني عنها وتحبّبني بها حتى لا تغريني حميّةُ الشباب بالرحيل إلى المدينة والسكن فيها. أنتَ الأرض وأنا أنت، فلماذا يتأخر عنّا الوروار بالإشارة المتفق عليها لنحسم هذه المعركة التي انتظرناها طويلا؟ على زخّ الرصاص أميل برأسي قليلاً إلى طرف الجذع حتى يتسنى لعيني اليمنى أن ترى ما يجري على الطريق. دبابة ضخمة في مواجهتنا تماماً والمدفع يتحرك فوقها وكأنما يوجّهونه إلى هدف معين. لعلّها نفس الدبابة، أو لعلها مثلها، التي منذ أقل من أسبوعين توقفتْ على الطرف الآخر للشارع تماماً في مواجهة مطعم جهّار الجمري وصرخ الضابط من مقعده في الجيب بعسكره أنّ دوّروا المدفعَ صوب المطعم، للترهيب والتخويف، لعل أولاد الجمري وشغّيلته يسلّمون الضابطَ أسماءَ مَنْ يعرفون من شباب حيّ "مكسر العبد" وأبناء البساتين الأخرى وأحيائها ممّن يعملون في المقاومة الشعبية. إبن أخت جهار، الفلسطيني، أكَلَها من الضابط كفّاً لأنه قال بأنه لا يعرف من "مخيم عين الحلوة" أحداً له علاقة بتهريب السلاح إلى شباب البساتين وبتدريبهم على القتال. فلسطيني ولا يعرف ! نَهَرَهُ صاحبُ الكفّ. كنتُ أنا والدندول والهنس بنلتي خلف سياج البستان على يمين المطعم، ولو أنهم أحسّوا بوجودنا لكان الذي كان. وبدل أن يأخذوا ابن أخت جهّار، سحبوا ابنَ جهّار نفسه، كسّاب، الذي مشى إلى الجيبّ بين اثنين من العسكر، مقوقع الظهر محنيّ الرأس وقعد خلف الضابط الذي أشار للسائق أن يلفّ ويعود في اتجاه صيدا وأشار للدبابة أن تلحق به، وكذلك لشاحنة الجند. وكان وحده الله يعلم ما كان سيحلّ بكسّاب في ثكنة الجيش لولا أن تدخّل عازر الديّار لدى قائد المنطقة ووضع وزنه المسيحيّ لإطلاق ابن جهّار على الفور كرامةً لجهّار الذي لم يكن في المطعم حينما حدث الذي حدث. الله أكبر، الله أكبر، على مدى الكوزينا يزمجر صوتُ الوروار وكأنه أصوات مجمّعة تطلع من حنجرة واحدة، وعلى مدى الأرض تزمجر رشاشاتنا وأصواتنا الضخمة كجذوع شجرات الكينا بالله أكبر الله أكبر، وكالنهر في زمن فيضانه نندفع من مخابئنا نحو الطريق بأسلحتنا وأجسادنا، وشيء في داخلنا يسبقنا إليهم ويسبقنا ويسبقنا.

في لحظاتٍ اختفوا عن أنظارنا، فلعلهم انبطحوا على الأرض ولعل بعضهم انسحب إلى خلف الدبابة والشاحنة والجيبّات، يحتمون بها من رصاص البغتة ومن أصواتنا التي أشدّ من أصوات الرصاص. الذي يركض أمامي ينحني فجأة على صرخة مكتومة واندفاعُهُ يموت في رجليه فيأخذه البطءُ شيئاً فشيئاً حتى ينهار على التراب وبينه وبين الدبابة أمتار. أصل إليه وأرمي بنفسي على الأرض اتّقاءً للرصاص الذي لا يتوقف، وما أن أضع يدي على كتفه حتى أكتشف أنه الهنس بنلتي وأنّ إصابته في صدره. أقلبه على ظهره وأضع يدي على الجرح لعلني أوقف الدم الذي ينزف منه، فيظل ينزف فأخلع عنّي قميصي وألفّه على بعضه حتى يسمك وأضعه على الجرح وأشدّ قليلاً لأخفّف من قوة النزيف فتطلع صرخةُ الهنس بنلتي طويلة، من تلك الصرخات التي لا تعرف أنها موجودة في الصدر حتى تملأ أذنيك وقلبك وتهزّ كل شيء فيك. الدنيا تسودّ في عينيّ فأصرخ عن يميني وشمالي أن أسرعوا فجرحُهُ خطير. الرصاص والأرجل لا تأبه لصراخي فأنحني على أذنه أقول له أنْ لا يخاف فيئنّ أنيناً غريباً فيملؤني خوف غريب وكأنّ شيئاً في الهواء يحوّم حولنا ويقترب منّا ولا نراه. أنينُه يتحوّل إلى صوت مخنوق، ويده تشدّ شدّة ضعيفة على يدي، وصوتُه يقول لي أن أسلّم له على أهله وأطلب من أمه أن تسامحه لأنه لم يستطع أن يفي بوعده لها فيعود. الغصّة تقطع نفسي، وصدري يطبّق بعضه على بعض، وقبل أن تأخذني جهشةُ البكاء، يطلع من جهة سور البستان المواجه لنا صرخةٌ عظيمة فإذا هي جيش من الحناجر يشقّ الأرض والسماء بالله أكبر الله أكبر، فوق صوت الرصاص الآتي معه من البستان، بستانِها هيّ، يزخّ على الآليات المحاصَرة الآن زخّة لا تعرفها الكوزينا إلاّ في أمطار كانون وكانون وشباط وآذار. إذن فهذه هي المفاجأة المخبّأة لنا والتي ألمح إليها مدرِّبنا مرات ومرات ورفض أن يبوح لنا بها. هي تبوح بنفسها الآن ! هي تبوح بنفسها ! فيا الله، يا الله، منك وحدك النصر، فانصرنا حتى النهاية، إنك على كل شيء قدير. ويلتوي الوجه الذي تحت عينيّ إلى جانب الأرض وترتخي جفونُه ويسيل من طرف الفم المفتوح خيطٌ من الدم، ينزل على الخد فالرقبة فالقميص، فأغمض عينيَّ وتتسارع أنفاسي، وقلبي يطلع إلى حنجرتي فأختنق بالغصّة بعد الغصّة بعد الغصّة. اليد التي تسحبني من تحت إبطي وتجرجرني إلى خلف جذع كناية أعرف أنها يد الهيّوب، الذي وجدني بعد أن ضيّعتُه، يحميني من زخّ الرصاص وأنا الذي وكّلَتْني هي بحمايته. ينحني عليَّ فارفع عينيَّ إليه وأرى في عينيه الشيء الذي رأيتُه فيهما مرة ولم أفهمه وكلّ ما عرفتُه وقتها أنني وجدتُ نفسي أركض خلفه في بستان الديّار لنبلغ النهر فنقطعه على الممرّ الخشبيّ فنخترق الكوزينا فالطريق الذي دون السور لنقفز فوق السور إلى البستان الذي هي فيه لتناوله هي من خبيز الفجر رغيفاً منفوخاً وتختفي لا أذكر كيف ولا أين. وتهبط علينا الوجوه والأقدام والأصوات بأنّ الريّسْ هو الذي كان يقود المعركة، متخفّياً حتى لا يُكتشف أمره، وأنه عند غروب الشمس، يوم أمس، نزل إلى دهليز قديم من جهة "القلعة البريّة" وظل يمشي فيه حتى رأى ضوءَ قنديل ينتظره عند فتحةٍ من الأرض فطلع منها فإذا هو بين رجالٍ له ينتظرونه، وإذا هو في جنينة بيت من بيوت "سهل الصّبّاغ"، فظلّ رجالُه يهرّبونه من بستان إلى بستان حتى أوصلوه، منتصف الليل، إلى "حيّ مكسر العبد" فالبساتين المحاذية للكوزينا، فقاد المعركة دون أن ينتبه إلى حضوره بينهم إلاّ الذين كانوا تحت إمرته مباشرة. وتختلط عليَّ الأصواتُ والوجوه ولا أنتبه إلاّ لرجل في ثيابه العسكرية يقترب مني وكأنه يعرفني فأصرخ أن أبعدوه عنّي، فتهبط عليَّ الأصوات بأنه لم يعد منهم، فلقد انضمّ هو وكثيرٌ غيره إلى المقاومة الشعبية، فصار منّا، وصار فوقي تماماً، وهو ينظر إليَّ وفي عينيه شيء غريب لا أفهمه حتى يصرخ بهم أنني مصاب في كتفي وأنّ الدم سارح منّي وأنني بحاجة إلى إسعاف، فتهبط عليَّ الأيدي ويتمزّق قميصي ويوضع على مكان الجرح شيءٌ لا أعرف ما هو ولا من أين أتى، ثم تحملني الأيدي، وما أن أرتفع قليلاً عن الأرض حتى تلتفت عيناي إلى جهة السور، وكما كان حدّثني قلبي، أرى الهيّوب يشدّ بنفسه إلى فوق ويلفّ ساقَه على حافة السور ثم يختفي قبل أن أقول لأحد أن يلحق به ويمنعه من ركوب جنونه. أغمض عينيّ حينما تضعني الأيدي خلف جذع كناية، وسرعان ما تفوح رائحةُ الخبز من الفرن الطينيّ الذي على مسافة شجرات من بيتها، وينفتح في وجهي الرغيفُ المنفوخُ فتطلع عليَّ منه الهَبْلَةُ السخنةُ فيعبق الجوّ بخميرة العجين، فيعبق به كلّ وجهي، وأنفاسي، لكأنما تخمّرتْ بالعبق، تتهلهلُ بين حنجرتي وشفتيَّ.

 

 

 

الفصل الرابع

1974-1975

 

سامح

أفتل مفتاحَ بابور الكاز على آخره وتظل دائرةُ النار أضيق من كعب الطنجرة المركّزة على القوائم النحاسيّة الثلاث، فأنخّ ثانية وثالثة لأرى فلا يتبدّل من الأمر شيء، فأحصّل نفسي على شيء من العتب وأمسك بطرفيْ الشيّال أثبّتهما على حافتين من الطنجرة متقابلتين وأُنْهِضُ الطنجرةَ في الهواء، مائلاً بها يمنة لأنظر بوضوح وأرى وأقيس قوّة النار فيلمع رأسي بالصورة وكأنّ عينيّ لم تَرَيا من قبل تاجاً من النار يهدر احمرارُه بالصوت  والحرارة، فيعجبني التشبيه فأهجس في نفسي أن لا أدعه يهرب من ذاكرتي كما عادةً تهرب الصور والتشابيه التي تخطر لي ولا أدوّنها في دفتر أو ورقة تَوَّ خُطورِها ببالي وقبل أن تزحمها في خيالي المستجدّاتُ التي تتوالد مرةً من استفاقات الذاكرة على مختزناتها ومرةً من اصطدام عينيّ بالمرئيات التي وكأنها لم تكن أبداً في الوجود قبل اللحظة تينك عينها، والتي تأخذ الوعيَ كله على حين غرّة في مثل هيمنة الله، تعالى عن كلّ تشبيهٍ اللهُ، فأحطّ الطنجرةَ من جديد على القوائم النحاسية للبابور ويعود إليَّ صوتُ أمي في مطبخها ويقول بأنها جرّبتْ من السوق كل البوابير وأحسنُها كان بْريموسْ، وبْريموسْ الآن، ونحن في زمن الغاز والبوتوغاز، يخذلني يا أمي في هذا الصباح بالذات فشعري المزيّت لا بد من تحميمه بالماء الساخن، المعدَّل، على قدر احتمالي، بالماء البارد، ليكون مهفهفاً مثل طلّتها، هي التي وعدتْني أن تأتي من دَيْرِها في الأشرفية لتلتقيني اليوم وتهديني نسختها الخاصة من الإنجيل وقد احتفظتْ بها على نيّتي منذ اليوم الذي وجدتْ نفسها تجلس فيه إلى جانبي في درس فقه اللغة على غير ما نيّة مبيّتة منها أو مني.

أحطّ كفيّ في جيبتيْ بيجامتي وأتمشى في خطى هفيفات حذرات فأعبر الممر إلى غرفتي وأردّ البابَ ورائي بطرف مشّايتي وأجلس على طرف سريري، أحدّق في الأرض العارية تحتي، قديمة ً قدم البيت الذي لا تاريخ له إلاّ حكاية أهل صاحبة البيت، شيّدوه من قبل أن أكون وتركوه لابنتيهما، وديعة، التي تزوجت وانتقلت لتعيش مع زوجها في كفرشيما، وماري، التي ألزمتْها سمنتُها وتورّمُ رجليها الإقامةَ في بيت الأهل، تحرس فيه ذكراهم المعلّقة على حيطان غرفتها في أطر خشبية داكنة، وتستعيض عن غيابهم جميعاً بجيرة طلاب الجامعة، تؤجّرهم الغرف الأربع الزائدة عن حاجاتها وتستعين بما تقبضه منهم على لقمة العيش، كفافُ يومها بليلتها صلاتُها على حبّات مسبحتها الطويلة، وغربتُنا، تقتات بكسراتٍ من أرغفتها وفتات، والخضارُ التي تسلقها في المطبخ الذي نتقاسمه معها  ليل نهار. هي فينا ونحن فيها، تمتلئ بنا جميعنا الغرفُ المنفردات عن بعضها البعض، فهي طرابلس للطالب الذي من طرابلس، وبعلبك لابن بعلبك، وبيت الدين لابن بيت الدين، ولي أنا الأرضُ كلها من بستان البلح على "كعب الصخر" إلى آخر بستان على أطراف سينيق، هي لنا كل ذلك ونحن لها الحقيقةُ التي تأتي وتروح والحكاياتُ التي لا تكتمل لأنها ما أن تبدأ من طرف حتى يشدّ بها طرفٌ آخر لم يكن في الأصل من خيوط الحبكة، ثم تختلط الأطراف وتتشابك وتتقطع وتزدحم بالبنات الداخلات على حياة الشباب تحت سقفها فتغنى الحبكةُ وتصبح ماري جزءاً من الحكاية تتسلّم الرسائل وتسلّمها وتبلّغ الغائب بما غاب عنه متى عاد، وتُحَيَّا وتُحَيّي، تحت سقف بيتها التقت بهم وبهنّ، أو على طريق الجامعة وهي تقصد دكان الزحلاوي لشراء خضارها وخبزها وبنّها الذي تخبّرنا رائحتُه على النار بأنها نهضتْ من النوم ومسحتْ بعبق قهوتها عن حيطان غرفنا ما بقي عليها من غشاوة الليل.

الصبحَ هذا قهوتُها تأخرت كالعادة عن موعدها، كما هي عادةُ ماري صبيحة كل أحد، تأخذ وقتها على مهلها، فمن بقي منّا في بيروت لعطلة آخر الأسبوع، سيأخذ وقته مثلها على مهله بالطبع، إلاّ أنا، فقبل زقزقةِ أوّلِ العصافير في الشجرات على مدخل البيت كنتُ أقف وراء زجاج النافذة أتسمّع إلى أنفاسي وأنظر حتى أتأكد من أنني لا أرى، فأغمض عينيّ تمام اللحظة التي يستغرقها انفراجُ شفتيّ المطبقتين شبه انفراجة  وكأنما عن ابتسامة صفراء ألوّنُ بها طرفَ الفجر الذي لم يولد بعد فلعله يغريه اللونُ فينصدع ويكون من أجل خاطري الفجرَ تمام اللمحة التي أفتح فيها عينيّ من جديد. أفتحهما الآن وليس إلاّ أنا والأرض العارية تحتي، رأتْها عيناي أم لم ترياها، فأنهض عن طرف السرير، وقد انسحبتْ من جيبتيْ بيجامتي كفّاي، وأمشي نحو الباب فأفتحه بطرف مشّايتي، وأعبر الممرّ إلى المطبخ، وأبوابُ الغرف على الميلتين هي هي، جرداء ناشفةُ الخشب المشقَّق ههنا والمُطَقَّق ههناك، ترى عيناي ذلك أم لا تراه، فيأتي إليَّ هديرُ البابور من على مصطبة المجلى، هيّناً على أذنيّ أول الأمر، يشتد مع كل خطوة لي تجاه مصطبة المجلى شيئاً فشيئاً حتى لا يعود لصوت الصمت من مدى لا في أذنيَّ ولا في فضاء المطبخ، فالهديرُ الهديرُ هو الشيء كلّه لولا توهج النار الذي تغريني حمرتُه وأطرافُ صفرته فأنخّ لأرى وأملأ عينيّ فيمتلئ كل ما فيَّ، في شيء كيهمنة الله، تعالى عن كل تشبيهٍ اللهُ، يمتلئ كل ما فيّ بشيء أشبه بالرؤيا فإذا القوائم النحاسية الثلاث للبابور أضلاعُ الثالوث المقدس وإذا تاجُ النار فوقها النعمةُ، البركةُ، المنبثقة من تلاقيها ثلاثتها في كلٍّ واحد موحَّد. فيأخذني شيء كالحدس إذ تنبثق في الفضاء حروفُ اسمها E,C,A,R,G، فأهتفه لنفسي جْريسْ إذن هي! جْريسْ! النعمةُ المرأةُ، والبركةُ الراهبةُ؟ ففي أيٍّ من غيبك جمعتَ لي كل ذلك، يا الله؟

أغطّس طرفَ إصبعي في الماء فترضيني سخونتُه، وشيءٌ فيَّ يستعجلني فأطفئ البابور وأصبّ ماء الطنجرة كله في الطشت على مصطبة المجلى وأعدّل الحرارة بِكَيْلاتٍ من ماء الحنفية البارد، وأخلع جاكيت بيجامتي فأضعه على كرسي قريب وأقصف نفسي فوق المجلى ناخّاً النخّةَ التي لا بدّ منها وأصبّ من الكَيْلَةِ على رأسي شيئاً فشيئاً، وأصابعُ يدي الأخرى تدور بالصابونة العربية المطيّبة على شعري المزيّت وعلى طاسة رأسي التي وكأنما حركةُ الصابونة عليها حَلْمَسَةُ اللذة لها، خفيّةً كالسر تسري في مساماتها، فأضغط بأصابعي أكثر فأكثر ثم أتراجع عن فعلتي خشيةَ أن يهرّ من شعري أكثر مما ينبغي في الغسلة الواحدة، وفي اليوم الواحد، أربعين شعرة لا أكثر ولا أقل، وإنْ يكنْ لا بأس بأقلّ من ذلك شيئاً قليلاً. رغوةُ الصابونة تعبق بها أنفاسي وينغنغني شيء في صدري كالنغنغة التي كنتُ أحبّها وأسعى إليها وأنا أمصّ زهرَ المرجان الأحمر قرب طلمبة الماء، إلى جانب الياسمينة، على آخر سياج الورد في بستان بيتنا القديم عبر النهر، فأفتح رئتيّ وأغلقهما على الماضي والحاضر، وينفتح في عينيّ المضمومتين على جفونهما وجهُها الأبيضُ الرقيقةُ تكاوينُه وتنفرج ملاسةُ شفتيها عن هجسة ابتسامة تشعّ لها عيناها لحظةً وتتورّد أطراف خديها بشيء من تاج النار في البابور. أصبّ آخر كيلة ماء في الطشت على شعري وأغنّج طاسةَ رأسي بآخر حلمسة لأصابعي عليها، فترعشني النغنشةُ لآخر مرة قبل أن أحصّل نفسي من تلك النخّة التي قصّتْ ظهري، فأعتدل في وقفتي وتفتش عيناي حولي عن المنشفة التي أتذكّر كالعادة أنني كعادتي نسيتُها في غرفتي، فأنخّ إلى الأمام نخّة خفيفة حتى لا تنزل بقايا الماء من شعري المبلل على فَنَالَّتي، وأهرع عبر الممرّ إلى غرفتي فأجلس على طرف السرير أنشّف شعري وأقلب المنشفة من وجه إلى وجه كلّما تبلّل أحدهما أكثر من الآخر.

بنفسي فنجانُ قهوةٍ أرشفه على مهلي ريثما ينشف شعري، ومرتبان البنّ لم يبق فيه مقدار ملعقة صغيرة أتدبر بها أمري، فنصفُ الركوة الصغيرة ماءً على ملعقة صغيرة من البنّ وبدون حبّة سكّر واحدة يصبّ ثلاثةَ أرباعِ الفنجان قهوةً مُرّةً حتماً تعدّل مزاجي وتصفّيه من غشاوة الليل، ولكنّ ذلك لن يكون، فليت ماري يوقظها شيء وتمرّ ببابي إلى المطبخ بركوتها لغلي قهوتها على غازها وإذنْ لتعرّضتُ لها، وهي لا تنقصها اللباقة، فتشركني بقهوتها، ولا حرج، فأنا أذكرها بشيء من الحلويات أو الحمضيات كلما ذهبتُ لزيارة الأهل في صيدا. ولكن ماري لا تستجيب، والمنشفةُ تتقلب على شعري من وجه إلى وجه، ووجهها هي يطلّ عليّ من موقف الأوتوبيس في "كورنيش المزرعة"، حيث تنزل وتسير صوب الجامعة، دائماً وأبداً إلى يمينها أو شمالها راهبةٌ في الأربعين من العمر، أقصر منها بقليل وأكثر منها امتلاءَ جسدٍ ووجهٍ وأسرع منها ابتسامةَ فمٍ ومفاتحةً بحديث. ولسوف تأتي معها اليوم إلى موعدنا كالحارس الأمين وتقف قريباً منّا تتبسم لنا ونحن نتجاذب أطراف الحديث وأطراف الصمت، كما نفعل عادة بعد كل محاضرة حيث نهرع مع الهارعين إلى براندة الطابق السادس، يدخّن منّا من يدخّن، ويسأل زميلاً له عن مسألة في المحاضرة لم يفهمها مَنْ يسأل، ويتحرّش بكلّ ليلى مجنونُها، والراهبةُ التي بعمر الورد الأبيض وأنا ننشدّ إلى لحظات من الخلوة في الهواء الطلق، محشوريْن في زاوية البراندة حيث لا ممرّ لأحد يقطع علينا ما نحن فيه. أو هكذا يطيب لنا أن نتخيل، فعينا الراهبة الأربعينية وابتسامتها التي لا تكل تحرسنا ربما حتى من أنفسنا. ولكنها قد لاتأتي اليوم معها عن قصد أو عن غير قصد، فإنْ فعلاً هبطتْ عليَّ جْريسْ، وحيدةً كما أنا، فكيف عليَّ أن أتصرف في لقائنا الأول الذي لا علاقة له بمحاضرات فقه اللغة العربية ولا بالغزل الأموي ولا حتى باللغة السريانية التي تجيدها أكثر منّي؟ تناولني هكذا نسختَها من الإنجيل وتمضي؟ ذلك لن يكون، فللهدية تتمّة مضمرة في نيّتها، ونيّتُها الغيبُ الذي ما زلتُ أرقبه وأستدرجه إلى البوح فيستدرجني إلى الصبر الذي أبداً يمحو اللحظةَ ليؤكد لي أنّ غداً أدنى لمنتظره.

وها قد جاءنا الغدُ وها منتظرُ الغدِ قد جفَّ شعره من كل بلالة ورطوبة، فأقصف المنشفة على ظهر الكرسي، فنصفٌ يتدلى فوق قاعدتها الخشبية ونصفٌ من الجهة الأخرى يتدلّى في الهواء. بنطلونُ بيجامتي أعلّقه بالمسمار الذي خلف الباب وفوقه الجاكيت التي بعد لحظة أو لحظتين ستزحط عن طرف المسمار وترتمي على الأرض العارية لألتقطها وأعلّقها من جديد وأشدّها حول طرف البنطلون شدّة لا تفلت بعدها أبداً. لماذا لا أشدّها تلك الشدّة من المرة الأولى، لا أدري، ولكنني لا أشدها. أبتعد عن الباب وأحورُ وأدور مرهفاً سمعي كله لألتقط هَبْطَتَها على الأرض فيخونني سمعي، على ما أحسب، فأهبط بعينيّ إلى حيث كان يجب أن تكون الآن، فتظل هي فوق ويظل رأسي منحنياً إلى تحت، وأبدأ بهزّة رأسي أعدّ واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة، وتظل هي فوق ويظل رأسي يهزّ ولكن بدون عدّ هذه المرة. عليّ أن أذكّر نفسي حينما أذهب إلى دكان الزحلاوي أن أشتري من عنده مسماراً أطول.

وجهها يطلّ عليَّ من موقف الأوتوبيس ولا يفارقني مهما تحايلتُ عليه، فكل انشغالاتي عنه تردّني إليه، وتردّني إليه بصفاء أكثر فكأنما ابتعاداتي عنه تجليةٌ لتكاوينه في خيالي فأنّى لها أن ترسم الكلماتُ ما يظل يهجم عليّ بنقاءٍ أرهف من نقاوة البشرة وأشفّ من ورق الياسمين، وأنّى لهروباتي منه أن تنفي منه الحضوراتِ المسترهفات بحدّ المشحذ تتوالى عليه المسحاتُ مثلّمةً لتعود هفافاً ثم هفافاً ثم هفافاً من بياض؟ أزرّر قميصي الأبيض وأحشر أطرافه في البنطلون الأسود وأدور حول نفسي في مرآة الحائط، وأتذكّر، فتعبق حرارةُ الدم في وجهي، فتنزل أصابعي تتأكد من طلوع السحّاب إلى مستوى الحزام من البنطلون حتى لا يتكرر المشهد وتتغامز عليّ البنات كما تغامزن مرةً وأنا في طريقي إلى الجامعة، فتحةُ سحّابي تنفرج وتنغلق بين كلّ نقلة قدم وأخرى، وعيونُهنّ متّسعات بدهشة المرح، وأنا يأكلني حيائي ولا أفهم حتى تسرع إليّ فَكِهَةٌ من الزميلات الطرابلسيات وتقول بلهجةٍ أرخاها الضحك المكتوم أنْ يبدو أنك فتحتَ دكاناً تزاحم به دكان الزحلاوي يا سامح ! أدور حول نفسي وألفّ ثانية في المرآة وأتوقف جانبياً لأرى بروفيل السحّاب وأتأكد منه للمرة الأخيرة. شيء يبرغل فيَّ الآن فيضيق صدري بأنفاسي وأسحب بأصابعي الورقات المالية من جيبة بنطلوني فأعدّها وأعيدها وألقي على شعري وقميصي وجاكيتي الرمادية وحذائي النظرة الأخيرة في المرآة وأفتح الباب بطرف حذائي وأخرج إلى الممر فالبوابة فممشى الحديقة الصغيرة فإذا أنا في هواء الصباح البارد يتلاعب في الشارع هابّاً علينا من الغرب، من جهة اليونيسكو.

بيني وبين مباني كلية الآداب مئةُ متر وفسحةٌ من الهواء أعبرهما معاً بقدميّ وأنفاسي، صعوداً في اتجاه "كورنيش المزرعة" حيث الشارع يلتقي بالكورنيش على حدود محطة البنزين التي من على ميلتها ستطلّ عليَّ جْريسْ حينما تطلّ. لا في المحطة ولا في الشارع أحد، وحتى سيارات السرفيس انسحبت من المشهد لأظل وحدي أنا، فألقي بعينيّ إلى موقف الأوتوبيس وأستردّهما وأستدير فأنزل النزلة حتى أصل إلى مبنى الكلية الأول عن يميني فأعبر إلى مدخله المفتوح على الشارع، تَوّاً إلى المصعد الكهربائي. أدخله وما هي إلاّ وأنا في الطابق السادس وبابُ القاعة مقفل فيبرغل شيء في صدري وأهبط إلى المدخل فأقف هناك ويداي في جيبتيْ بنطلوني، لحظةً يتيمة أقفها أضرب بعدها الزفت بنعليّ وأمشي ثم أمشي ثم أمشي بين طرفيْ الشارع ورأسي يضجّ بالدم العابق بعسل زهر الأرجوان وزخمة زهر البرتقال، فأتمنى لو يخدّرني شيء، كأس كونياك أو كأس عرق، على الريق، مزاجُها الهواءُ البارد، إن كان لا بدّ لها من مزاج، عاريةَ النكهة، كجسدي قبيل شروق الشمس على مصبّ نهر الأوّلي، محروساً من عيون الجسر بِحُرْجِ السروات وشجرات الكزبرينا، كما أراد له الله أن يكون من أول ما كان الخلق، نكهةً لماء البحر، بل لمسحةِ الصيف العائمة على الماء مزاجاً صرفاً، في خلواتِ الصّبا الأول، فلا يتبدّل منه شيء ولا منه شيء ويظلاّن اثنين واحداً، كلاهما ثم كلاهما ثم كلاهما الماءُ.

"ما أجمل خطواتكِ بالحذاء يا بنت الأمير"، سليمانُ النبيُّ تحرّكه الرؤيا بالكلمات، فيأخذه من المنادَى الحبيبِ الكلُّ، فهي لعينيه حركةٌ في مطلع النشيد السابع، خطواتٌ تحمل إليه، لو اكتفى بالحركة وحدها، إيحاءَ الجسد الذي يتغنّى به في رواية "الأرض" الفرنسيُّ زولا، حيث المرأة تعمل في الحقول، كلُّ التفاتةٍ منها ايماءةٌ لخيال الرجل، وكلُّ انحناءةٍ لها فوق التراب وكلُّ انتصابةِ قامةٍ في الهواء وكلُّ شدّةِ يدٍ على منجل وتوتّرِ عضلٍ في زندٍ وترجرجٍ عن يمين وعن شمال مما تحت وركيْ ثوبها، كلّ ذا كلّ ذا مهرجانٌ لمجتزءاتٍ من الأنثويات المشظِّيةِ لعين الرجل المشرذِمَةِ لخياله الباحث أبداً عن مركزيّةٍ للرؤية والرؤيا، فتقوم قيامةُ الوعي المنهزِمِ عن السيطرة على ما لا سبيل إلى تثبيته من إيماءاتِ الحركاتِ، في لحظةٍ أو في حيث، إلاّ باغتصابِ الجسد عينه وتعليقِ قدرته على ابتداعِ التنوّع اللا متناهي الذي عَزاه شكسبير إلى كليوباترة. ولكنّ سليمان ليس بزولا، وهو إلى الإنكليزي منه أقرب. "ما أجمل خطواتك بالحذاء يا بنت الأمير"، ويستحوذ على وعي سليمان لا وعيُه الساميُّ فتنهال عليه الهواجسُ المدوَّراتُ والهواجسُ النافراتُ، ففخذاها دوائرُ وسُرَّتُها كأسٌ مدوَّرةٌ وثدياها كعناقيدِ الكرْم وعناقيدِ النخل وأنفُها كالتفاح، المدوَّراتُ المدوَّراتُ والنافراتُ النافراتُ، تترى ثم تترى، ليُختتم النشيدُ بتحويمةٍ حول زهر الرمان وما للرمان من هيمنةٍ في مختزن الدلالات.

تقف أمامي بوجهها الإجاصيّ وتناولني بيدٍ لها الوعدَ فتتحرّى في الهواء البارد أصابعُ يدٍ لي أصابعَ يدٍ لها وتكتنفنا هالةُ الصمت على هبطةِ عينيَّ إلى حطّة قدميها. مأ أجمل خطواتك بالحذاء يا بنت الأمير.

 

عديّ

بالفعل يبيّض الوجه أبو الوليد، فَبِذْلَتُهُ المدنيّة لابستُه لُبْساً، كما تبيّض الوجهَ اللمعةُ التي في رأس حذائه، فكأنما دُهْنُ اللّوز نشف عليه لتوّه. سأحتال عليه قبل الوصول إلى المستشفى وأتحجّج بشيء أو بشيء حتى نتوقف قرب دكان أو مقهى وألهيه عن نفسي بلفتِ نظره إلى امرأة تعبر الشارع أو صبيّة بالكعب العالي الذي ينصرع به، على الرصيف تتمشى وتتوقف، تتفرّج على الفاترينات، فيتفرّج هو عليها في اللمحة التي أكون فيها أنا أشرتُ إلى ماسح أحذية أن يسرع إليّ فأعطيه رجلي وأؤكد عليه أن يخطف يديه خطفاً بالتلميع حتى تصبح طلّةُ حذائي كالصينية التي أهدتْها سميّة إلى أبي في العيد الماضي والتي يتمارى فيها الواحدُ فهي أصفى له من صفحة المرآة. طلّة حذائي يجب أن تغطّي على طلّة حذاء أبو الوليد، فأنا الذي يجب أن يلفت نظرَ الممرّضات، كما لفتُّ نظرهن المرة الماضية بملاسة قميصي التي لا تعلو عليها ملاسةُ قميص. تنحبك الخطّةُ في رأسي فألتفتُ إليه وأقول له أن مرسيدسه الجديدة بلونها الأسود اللمّاع وفرشها الأحلى من كنبات الصالون تكسر ولا شكّ أعناقَ النساء. يترجرج رأسُه بقهقهةٍ يحمرّ لها وجهه كأنه طالع من سكرة نبيذ. ذكِّرْني أنْ نمرّ قرب "السان جورج" في طريق عودتنا من المستشفى، يقول لي وعيناه لا تلتفتان إليَّ. أصابعه على الدركسيون تطقطق ورأسُه يهزّ هزّات خفيفة وكأنما تحسّراً على شيء. تحنّ إلى السباحة في غير فصل السباحة، فلا بدّ أنّ وراء الحنين قصّة، أقول، وعيناي عليه، فيضرب بيده على فخذي ويقهقه من جديد. أعرف أنكَ تحبّ قصصي، ولكنّ بعض القصص سأرويها لنفسي فقط لأنني وعدتُ أباك ألاّ أتفوه بها أمام أحد، يقول بصوت ليّن تفوح منه ذكريات لا أتبين بالضبط رائحتها، ولكن كلّها ميّالة إلى رائحة النساء. أسأله عن علاقة أبي بمسبح "السان جورج" فينهرني بنظرة ماكرة ويؤكد لي أنني لن أتصيّد منه عن أبي أخباراً تخصّه وتخصّ أبي وحدهما، ولكنه يسهّل الأمر عليَّ ويعدني أن يحكي لي بعض ما جرى ذات يوم.

صرنا على "مستديرة الكولا" والعجقةُ يقتل بعضُها بعضاً مع أنه يوم أحد. يلفّ بالسيارة لفّة طويلة وإذ نحن في الشارع الذي على طوله شجراتُ الكينا، على الميلتين، يلعب بأغصانها العالية الهواءُ، فأفهم أنه سيأخذ طريق اليونيسكو فطريق الروشة، بَحْري بَحْري، حتى منطقة "عين المريسة"، ومن هناك يلفّ إلى شارع ضيّق فإلى الطلعة التي تحطّنا في شارع مستشفى الجامعة الأميركية. ولا ماسح أحذية واحد، لا على هذا الرصيف ولا على ذاك. "وطى المصيطبة" اليوم كأنها ليست بالوطى. ربما في الشوارع الفرعية على طريقنا نصادف ولداً يمسح فنمسح. المهم ألاّ نصل إلى المستشفى بدون اللمعة التي ستلفت عينَ الممرضات. تنطّ عيناي من رأسي وأصرخ بأبو الوليد أن يتوقّف فوراً، فيخفف السرعة وقد أربكتْه صرختي. أقول له أن يرجع قليلاً إلى الوراء لأتأكد من أنّ ما رأيتُه كان فعلاً ما رأيتُه. نظرتُه التي يرميني بها تتّهمني بالجنون، فأرجوه أن يطاوعني لأنّ ما رأيتُه يوقف شعرَ الرأس. يقول يظهر أنكَ رأيتَ تنورةً يلعب بها الهواء. أؤكد له أن الموضوع أكثر من مزحة. تعود بنا السيارة إلى الوراء على أقلّ من مهلها حتى نصل إلى المفرق الطالع نحو السفارة الروسية. أشير له بيدي أن يتوقف فيتوقف وأشير له برأسي أن ينظر فينظر. تحت صفّ من الشجر الذي بعضُه مزهّر باللون الليلكي تتمشى راهبةٌ إلى جنب سامح الذي لم تخطئه عيني منذ اللمحة الأولى. يظهر أن أخاك غَطَّى على الجميع، يقول وجهُه. وماذا يفعل بالراهبة هذا المجنون، يطلع صوتي من فمي مخنوقاً بالخيبة. عينا أبو الوليد ليستا في وجهه فأنظر إلى حيث أخي من جديد. تعبي فيه ضاع كلّه، يتمتم شيء في داخلي، وتدريبي له على النساء، على طريق جزين، لم يكن كافياً كما يبدو، وإذن فلا بدّ من سحبه إلى حيث كان يجب أن أسحبه من زمان. عيناه ليستا في وجهه، فلعله الآن في تلك القرية من إقليم الخرّوب حيث القصّة تقول إنه كان مرّة مولعاً بإمرأة مسيحية وإنه كاد يفقد عقله حينما تركتْه. ولا ريب أنّ الشيء بالشيء يُذكر. ما بقي لنا من الطريق حتى المستشفى قد يغرقنا في صمتٍ عرفتُه فيه أكثر من مرة، يهبط عليه كأنما من لا مكان ولا يتركه إلاّ بعد أن يحفر في وجهه ملامحَ عمر لا تليق بحبّيب كأس، حبيّب بطن، حبيّب نساء، مثله. وقد لا يعود إليه صوتُه إلا حينما ندخل الغرفة على عازر الديّار للإطمئنان عليه بإسم أبي والإستفسار عن نتائج فحوصات المسالك البولية التي بسببها أُدْخِلَ الديّارُ المستشفى.

 

رنده الحَيْفاوي

لو كان مثلي ملتزِماً لكان اختلف الأمر، ولكان اشترك اليوم في تظاهرة الصيّادين فارتفعت به أصواتُ المتظاهرين صوتاً وازدادتْ الأيدي الملوّحة بالغضب قبضتين، فحجم الكتل البشريّة في الشارع أمر جوهري للتأثير في معنويات رجال الجيش ومعنويات الذين وراءهم من أصحاب القرار. لو أنه كان ملتزِماً، لو أنه كان. ولكنْ لا، فحينما احتاجتْ إليه صيدا ابتلعتْه بيروت، ابتلعتْه لا أعرف كيف ولا أين، فحتى ماري لا تعرف أي ساعة ترك غرفته ولا أي ساعة سيعود.

يضع الكرسون فنجانَ القهوة على الطاولة أمامي وكبّايةَ الماء ويبتسم ابتسامة العارف أنني أنتظر سامح، فهو يعرفنا نأتي معاً أحيانا، مع شلّة من الرفاق، "فباتيسيري الجندول" ملتقى حميم من ملتقيات طلاب كلية الآداب، لقربه منها ولموقعه من موقف الأوتوبيس وسيارات السرفيس على "كورنيش المزرعة". الكرسون تظل عينه عليَّ، وشيء فيَّ يحدّثني أنّ في وجهه كلاماً، وهو عادةً قليلُ الكلام. أتجاهل وجهه وأرفع القهوة إلى شفتيّ. يهفّ عليَّ البخارُ الطالعُ منها برائحة سامح، فأغمض عينيَّ وأتنشق نفس الرائحة، نفس طعم الرائحة على شفتيه، أول مرة تخاطفْنا فيها القبلاتِ في شقّة ابنة خالتي المطلة على الروشة من شارع استراليا، عشيّةَ اجتماعٍ لشباب وبنات الحزب. من الطاولة التي ورائي يسأل صوتٌ عن الصحن اليوميّ ويطلب صحنين. صيادية سمك ! فتعود إليَّ من التظاهرة وجوهُ الصيادين وأصواتُهم وقبضاتُ أيديهم وأكتافُهم يَرْتَصّ بعضها ببعض حتى تختنق بين أجسامهم المسافاتُ وتغصّ من غضب أنفاسهم ممرّاتُ الهواء بين أعناقهم ورؤوسهم، وهم يتدافعون لاختراق حاجز الجيش المدعّم بصفوف وصفوف. أطرد من بين أهدابي الجرحى وأطرد كعبَ البندقية التي انهدّتْ على كتف الريّسْ مرة بعد مرة حتى تلقّتْها عنه صدورُ الصيادين التي طلعتْ على الجنود طلوع الموج في زمن النَّوِّ.

ينفتح الباب ليدخل رجل وامرأة فيسبقهما الهواءُ البارد إليَّ، يذكّرني أين أنا فأعود إلى قهوتي أتسلى بها وأقطّع الوقت. صوت المرأة لَكْنَتُهُ فلسطينية شيئاً ما، وكذلك صوت الرجل. أكاد ألتفت إلى الزاوية التي انزويا بها ولكن عين الكرسون تردّني. الوقت وقت غداء، ويكفيني أنني غامرتُ بثمن القهوة وثمن تذكرة البوسطة من صيدا إلى بيروت. ولولا شقّة ابنة خالتي على الروشة لكنتُ عدتُ إلى المخيم مباشرة بعد تظاهرة الصيادين. أخي إبراهيم يفهمني لحسن حظي، والآن يكون قد أقنع الأهل أنه هو الذي نصحني بالذهاب إلى بيروت اليوم لأكون جاهزة صباح الغد لدروسي الجامعية في حال تصعّد موقفُ الصيادين ونزل الجيش فقطع الطريق بين "مخيّم عين الحلوة" وصيدا. ولحسن حظي أن أخي ليس مثل حامد، أخ مريم في رواية "ما تبقّى لكم". ولو أنّ غسان كنفاني لا يزال حيّاً لكنتُ طلبتُ منه أن يعدّل من أفكار حامد حول علاقة المرأة بالرجل، أو على الأقل أن يضيف إلى روايته شخصية شاب فلسطيني متحرّر من الهواجس القبلية التي تقمع المرأة وتذلّ الرجل، يصوّب بها نظرة الفلسطيني إلى نفسه، فحامد ليس كلّ شبابنا، كما ليس كلّ شبابنا كإبراهيم. سامح يقول إنّ كنفاني لم يتعلّم جيداً من فوكنر كيف يجعل من التناقضاتِ المجالَ الحيويَّ لتصوير ما يُسَمّى الحقيقة، يعدّل بعضُ أطرافها بعضاً.

لم يعد في الفنجان نقطة واحدة أتسلى بها، فأقلب الفنجان بين أصابعي، أتسلى ببقايا البنّ فيه، وقد تبدّتْ لي أخيلةٌ لطيور وأخيلةٌ لرؤوس نساء ولقامات رجال. تعلو في داخلي الضحكةُ المُرّة وأسمع صوتي يردد هو ذا إذن معنى "ما تبقّى لكم"، هو ذا، فتحمَّسي، يا غبيّة، لأدب كنفاني الهازئ بكِ، بعد اليوم، تحمسّي ! أطبّ الفنجان في الصحن وأعلك الضحكةَ المُرّة ثم أفلش على الطاولة فوطةَ سفرةٍ ورقيّةً عليها إسمُ الباتيسيري وأقرّر أن أكتب رسالة قصيرة إلى سامح أتركها له مع ماري إذا كان لم يعد إلى غرفته بعد. سأخاطب خياله لأنني بذلك سأعذبه أكثر. أعرف رجلاً لم أعد أعرفه، يمشي قلمي بالكلمات، أعرف أنه يعرف من ثقافة الغرب أكثر مما أعرف لحيازته الليسانس في الأدب الانكليزي لسنوات قبل أن أبدأ دراستي الجامعية، وأعرف أن التحاقه بقسم الأدب العربي الآن نابع من حلمه بدمج ملامح الأدبين في تجاربه الشعرية مستقبلاً، أعرف كل ذلك عنه ولا أزال لا أعرفه، ولكنني أعرف الصيّادين في مدينته. وأعرف أن كل السمك الذي أكله في صيدا إنما أكله من سهر ليلاتهم وعناد شباكهم ونظافة فروشهم وسلاّتهم، ويوم هُدِّدَتْ قواربُ رزقهم بالشركة التي روّجتْ لها الدولةُ لتستولي على كل حقوق الصيد في المياه اللبنانية، يوم خاف الليلُ على قناديل الصيد أن تهجر أمواجَه واقشعرّتْ خيوطُ الشباك المنشورةِ على الخشب من هول الشمس والريح، وطقطقتْ خشباتُ الفروش وقصباتُ السلاّت من عتب على الأيدي التي لم تعد تغطّسها في طراوة الماء، يومها خَذَلَ غيابُهُ الرجالَ الذين يصنعون لنا الأيام، ومن ذكراها، تاريخاً للحياة. وحده الريّسْ من وجوه المدينة ظلّ وفيّاً للذين حملوه سنين طويلة في شخاتيرهم ورفعوها فوق أكتافهم وطافوا به وبها شوارعَ المدينة التي كان ملوكُها، أيام فينيقيا، شعراءَ فصار الناسُ فيها اليوم القصيدةَ والسيفَ، لأنّ صوتَه لهم كان العيدَ الذي لا تعيّد إلاّ عليه المدينةُ ولأنّ صوته لهم كان الروحَ التي تشحذ القصيدةَ والسيفَ. فأين تُراك كنتَ، وأين تُراك أنتَ من كل ذلك، يا ابن الجمري؟ نسيتَ تُراك أنّ الإنسان قضيّتنا وأنّ الأرض كلّها خطّنا الأحمر؟

 

إيميهْ رزق

بالحبر الصيني يريدني أن أرسم له غلاف ديوانه الأول، فولعه بالألوان لا يضاهيه سوى ولعه بالموسيقى، يقول، وموسيقى الشعر خاصة، ويلمّح إلى أنه لو كان مثلي رسّاماً لكتب سمفونيات بالألوان. وبالحبر الصيني طبعاً. من أين جاءته فكرة الحبر الصيني، سألته مرة، فجاء جوابه مغمغماً، من الأستاذ المصري الذي علّمه الرسم في "مقاصد صيدا" أيام تلمذته في الإبتدائي والتكميلي، والذي نسي اسمه الأول وعلقت بذاكرته من ذلك العمر فقط كلمةُ "البنّان" الذي على حدّ قوله، كان، كما يوحي إسمه، مولعاً بلبنان. المهم الغلاف الآن، فالموضوع هو كعنوان الأمسية الشعرية الأخيرة التي أحياها في كلية الآداب، يدور حول الخمرة والغزل. والكأس والقيثارة وخصلة الشعر النسائية رموزٌ إعترض عليها وقال إن الحبر الصيني يوحي له بملامح أشياء أخرى، وهو لذلك يتوقع ويلحّ في توقعاته، أن الإيحاءات ستهبط عليَّ بغنى أكثر وتنوّع أشمل إذا أنا عشتُ مع قصائد الديوان في خلوات ليلية أطول أقرؤها، بل أنشدها، بل أنغّمها تنغيماً. يظن أنني متفرغة لغلافه وينسى أنني طالبة في كلية الفنون التي يحسب أساتذتُها أننا متفرغون لمتطلباتهم 24 على 24. ولولا أنه على شيء من الحياء حتى وهو ينشد شعره لكنتُ اعتذرتُ منه وانتهى الأمر بيننا في مصافحة التعارف التي جمعتْنا بعد نزوله عن المنصّة. تيريزا التي كانت تدفعني إلى لقائه دفعاً والتي كانت حجّتها لإقناعي بحضور الأمسية عنوانُها بالذات، والذي بكلمتين فقط نجح في التحرّش بخصوصيّات كلّ شابة وكل شاب، تيريزا لم تكتفِ أبداً بمشاركتي غرفتتي في "الفواييه" حتى جَرَّتْني إلى حديث معه انتهى بنا إلى مشروع الغلاف. والليلةَ ذهبتْ هي لحضور فيلم يعلم الربُّ في شقة مَنْ وتركتْني  مع الورق والألوان والرِّيَشِ وهذه القصائد التي تنتظر منّي ترجمةً لها، بالحبر الصيني طبعاً.

أنشر أوراقه على سريري وأسوّيها بأصابعي لأميّز بين عنوان وعنوان، مع أن العناوين قد لا تعني ما كان ينبغي أصلا أن تعنيه، فالنصّ قد يقترح شيئاً آخر، إستناداً إلى ثقافة المتأمل في النص وإلى مزاجيته الفنية. سأبدأ لا من حيث يبدأ الديوان حتى لا يلتزم خيالي بتسلسل الإيحاءات كما رتّبها هو في خياله. سأعطي نفسي حرّيةَ حركةِ يدي، ولكي يكون لحرّيتي معنى فسأغمض عينيّ حينما أصابعي تختار. تخشّ الورقة وأنا أرفعها في الهواء فأفتح عينيّ على سطور بلا عنوان، ولكنّ كلماتها مُشَكَّلَةٌ، بالضمة والفتحة والكسرة والسكون. هذه بادرة خير، أحدّث نفسي، وأقرأ. صليبانِ ؟! الكلمة الأولى في قصيدته صليبان ! مسلم وصليبان! هذا أكثر مما تحتمله الحالة المتوترة في البلد! ثم كيف يتصل ذلك بموضوع الديوان ؟ طبعاً، للصليب والخمرة دلالات مسيحية واضحة، ولكن أين يقع الغزل من هذه الدلالات؟

يظهر أنّ المشكلة لن يحلّها الحبر الصيني وحده. على كل حال، علّمونا في المدرسة أن لا نبدأ بطرح الأسئلة حتى نقرأ كامل النص، وأكثر من مرة، وحتى نطمئن إليه، كلّه أو بعضه، فطرحُ الأسئلة يكشف المسافةَ التي قطعها السائل إلى قلب النص. وأنا لم أقطع من المسافة إلاّ ما بين يدي وسريري والكلمة الأولى. أجلس على طرف السرير وأقرأ:

صليبانِ ؟ كيف ؟ تُرى ما الخبرْ

حملتِ تُراكِ ذنوبَ البشرْ ؟

فمن عنقِ الفجرِ أحلى وأحلى

صليبٌ تدلىّ

وقال تألَّمْ

غداً سوف تندمْ

فقبلكَ أنَّ المسيحُ وقال إلهي تخلّيتَ عنّي لماذا؟

 
 

ملهمتُه مسيحيّة إذن. ولعلها من طالبات صفّه. ولعله يتقرّب إليها من خلال قبوله للصليب المدلّى من عنقها. إستراتيجية التطمين، هذا ما أسمّي البداية. وإن كنتُ لا أفهم لماذا لم ينشد هذه القصيدة في الأمسية. أتابع القراءة:

وحَدَّقَ خدّاكِ في حلبةِ النارِ

فماج الشقيقُ ولما تألّقْ

تنادتْ تلوّحها جمرتانِ

ودمدم لونُ النبيذِ المعتّقْ

الصليبان إذن خدّاها المتوّردان. عجيب كيف تلتقي حمرةُ الخدّ الدنيوية بحمرة النبيذ الدينية. أتابع من جديد:

هَصَرْتِ الخوابي
 
وجمرَ الروابي
 
فباللهِ قولي
 
وقلبي عليكِ
 
لماذا صلبتِ المسيحَ على وجنتيكِ؟
 

اللوحة التي يرسمها لملهمته تعطي مركزيَّةَ الصلب لخدّيها وليس لعنقها. مسيو سامح إذن حبيّب خدود ! أتابع:

ومن عنقِ الفجرِ أحلى وأحلى

صليبٌ تدلّى

وقال تألَّمْ

غداً سوف تندمْ

ومثلكِ للعشقِ سهدٌ وعلقمْ

ولكنّ مثليَ لا يتعلّمْ

ولن يتعلّمْ

 

أخيراً ينتقل من الملهِمة إلى المُلْهَم. نقطة ضعف أسجّلها عليه لولا شفاعة الموسيقى وشفاعة هوسه بالألوان: الفجر والنار والشقيق والألق والجمرتان والنبيذ والوجنتان وطبعاً الصليب الذي له دلالة التضرج بالدم. الرموز المسيحية تعبق بها سطورُه فكأنما خيالُه مسكون بالمسيح. القصيدة تشغل بالي، ولا بد من أن أراه ثانية... لأطرح عليه... لأقول له... لنقرأ القصيدة معاً، فقد يلهمني ذلك بشيء للغلاف.

 

بَرْجيسْ السَّلَيْلاتي

معركتنا في هذه المنطقة وليست في الأشرفية، أقول لبرناديت وفيكتور، فتهزّ برناديت رأسها فيهتزّ الحَلَقُ المدندل من أذنيها، وترى أنني لم أتأقلم بعد مع إكسسواراتها الجديدة فترفع يديها وبأصابعها توقف اهتزازَ الحلق وهي تنحني على الطاولة بصوت ناعم تتألَّف به ذوقي، كما هي عادتُها كلما أتتْ بجديد، وخاصة كلّما شدّتْ حزاماً جديداً، عرض أربع أصابع، على خصرها ليطنبر وركاها وتترجرج مؤخرتُها وكأنها أرتيست في كباريه. في الأشرفية هي حرّة ولكن هنا بين اليونيسكو ووطى المصيطبة والمخيم الفلسطيني، يلزمها عشرون عذراء لحماية ما تبقى من عذريتها، فنظراتُهم الجوعانة وحدها تحفر خنادق في فستانها. ولولا أنها خطيبتي لكنتُ قلتُ لها ما لا تحبّ أن تسمعه امرأة لا منّي ولا من أي رجل آخر. العهرُ النسائي في دمها وبالتأكيد تبسطها نظراتُهم تنهش منها قطعةً مع كل حركة تتحركها، على الكرسي كانت جالسة أم على الطريق تسير. ماما على حقّ، فجيل البنات اليوم انفسد بالاختلاط مع المسلم والشيعي والدرزي وحتى الفلسطيني، والتلطيشُ ما عاد يكفي والآتي أعظم. يمكن أن تكون الماما زوّدتْها حبّتين، ولكن من يقنعني، وبكل موضوعية وتجرّد، أنّ الشاب المسلم متحضّر كفاية ليرى في البنت شيئاً غير الجنس. صحيح أن شبابنا مولع بالجنس، ولكننا نتعامل مع البنات بطريقة حضارية. مَرْبانا غيرُ مرباهم، قلتُها لبرناديت ألف مرة في السنوات الأربع الأخيرة التي انكتب فيها علينا أن نقضيها في كلية الآداب بمنطقة اليونيسكو وبرناديت تتبسم وتنحني عليَّ بهمستها أنْ يا حبيبي طوّل بالكَ عليَّ فلبنات الأشرفية الصيت ولبنات غيرها الفعل.

في هذه المنطقة معركتنا، أكرّر قولي موجّهاً صوتي هذه المرة أكثر لفيكتور. يعطيني حضورَه وكأنه بذلك يتجنّب أن تقع عينه في عينيْ أحد. لا أدري مَنْ بالضبط  فالكافيتيريا مثل خلية النحل. هذه المنطقة بالذات، أشرح له، لأنها ليست مثل كأس العرق السّيك، نظيف ونقي وصاف مثل عين الديك، فهي أشبه ما تكون ب bowl ال punch، تختلط فيه الألوان وتتمازج ولا تعرف أين تبدأ نكهةُ الكرز وأين تنتهي نكهةُ الدرّاق، وبينهما تفقد تمييزكَ لمدى قوة ال gin في المزيج. في الأشرفية العرقُ عرقٌ، مرتاحٌ حتى من جيرة الماء. لذلك أقول أن معركتنا هنا وليست هناك. واختلاط الأوراق هو ما يجب قياسه وإعادة قياسه بميزان تحالفات القوى الطلابية التي لا تستقر على حال والممسوكة من أطرافها خارج الجامعة. إنتخابات ممثلي الطلاب هي المعركة الحاسمة بين "تيار الوعي"، اللبناني الهوية، مثل كأس العرق السيك، والتيارات اليسارية والإسلامية التي تعتقد أنها تستقوي بالسلاح الفلسطيني في الجنوب وبيروت علينا وعلى الجيش، وعينها مغمضة عن حقيقة استقواء المنظمات الفلسطينية علينا نحن وعلى الجيش بالولاء العروبي واليساري والإسلامي الذي تستمده من العمى من هنا والعمى من هناك والعمى من هنالك.

أبو الزوز يأتي بالقهوة لي ولفيكتور وبالشاي لبرناديت. وليست نكهةُ الشاي ما تحبّه برناديت بل الدراما التي تعيشها وهي تقصف حبّةَ السكّر بالنصف وترخي إصبعيها بها في الشاي وتتأملها تهبط إلى القعر ثم برؤوس أصابعها تمسك بطرف الملعقة الصغيرة وتغطّسها على أقل من مهلها وتروح تدوّرها في الفنجان وتدوّرها حتى يذوب السكّر الذي يكون قد ذاب من أول دورتين، ثم يأتي المشهد الأهم فترفع الفنجان إلى شفتيها، وبدل أن ترشف، تُذَبِّلُ عينيها وتتنشق بخار الشاي. برناديت تشرب الشاي من أنفها، سحبةَ بخارٍ وراءَ سحبة، وفي ظني أنها تفعل ذلك لتأكدها من أن أحد المعجبين يتأملها من على طاولة أخرى ويذوب بحركاتها كما يذوب في فنجانها السكّر، ويشرب هو الآخر فنجان شايه من أنفه. عهرُ المرأة لا حدود له، والمسلمون، إذا كانوا يفهمون شيئاً، فبالتأكيد يفهمون أنّ كيدهنّ عظيم. صراحتُهم في أمور المرأة غابت عن كل الأناجيل. الحقيقة حقيقة ولكنّ السكوت عنها أفضل، خاصة الآن ونحن نتهيأ للمعركة الأخيرة معهم. أتنحنح وأقول لبرناديت أن الشاي سيبرد فترشف ثلاث رشفات من أطراف شفتيها وعيناها مصرّتان على الذبول. لن تؤثر فيَّ حركاتكِ يا بنت النَّانُّو، وإنْ لم تفهمي بعد أنّ غيركِ من بنات الأشرفية يتدربن الآن على السلاح، فسيأتي يوم يقتحم فيه عليكِ البيتَ يأجوجُ ومأجوجُ وليس لكِ من الخبرة ما تحمين به نفسكِ. فيكتور ينظر إلى ساعة يده ويزمّ شفتيه قليلاً ثم يلتفت إلى طاولة في الزاوية البعيدة من الكافيتيريا ثم يرجع بعينيه إلى طاولتنا، ينهض من الزاوية شاب كنتُ رأيتُه مرة في اجتماع لنا في كلية التربية ويأتي صوبنا دون أن تكون عيناه علينا. ينحني قليلاً ويضع ورقة مطوية في يد فيكتور ويبتسم ابتسامة مجاملة مقتضبة ويهزّ رأسه كذلك هزّات مقتضبة ويتجه صوب الباب ويختفي. فيكتور يتجاهل نظرتي ولكنني لستُ بحاجة لشرحه. يدخل من الباب إيلي الفَزَّاري ويكرج إلينا وعلى وجهه عجقة أخبار. يجلس بيني وبين برناديت التي يعرف أنها تستهضمه، وبعد أن يأخذ نفساً عميقاً ويحطّ كوعيْه على طرف الطاولة يهمس بأنه حضر الاجتماع الجماهيري للإخوان في كلية التربية وجاءنا بمعلومات عن تحضيرهم للانتخابات وكيفية تصوراتهم للمعركة. إلاّ أنه يصرّ قبل أن يفلش لنا الأخبار أن يروي آخر نكتة سمعها من الإخوان. مع إيلي لا ينفع الحوار فالنكتة قبل الأكل والشرب. يشير إلينا أن ننحني فوق مستديرة الطاولة فننحني ويخبّرنا إيلي. بنتٌ من الأشرفية شرّفتْ على "البسطة" و"المصيطبة" و"الطريق الجديدة"، ولمّا عرفتْ منها المامّا عن مغامرتها قالت لها "انتبهي يا مامّا من وْلاَدِ الإسِلام، وْلاَدِ الإسِلام زعرانْ" فاحتدّتِ البنتُ وردّت على أمها باللهجة البسطاوية "زعرانْ صحيحْ، بَسّ بْيِلْبَقِلْهُنْ !" بنتُ النَّانُّو ضحكتُها ولا السينما سكوبْ.

 

سامح

كيف تركتُه يستدرجني من غرفتي ويستبيح نزوعي إلى الظلّ والخلوة فيجرّني معه إلى أول سيارة تاكسي يطالعنا بها "كورنيش المزرعة"، حتى إذا ما استقرّ بنا المقعدُ الخلفيّ ارتفعتْ يده إلى كتف السائق الملتفتِ إلينا، فأوعز إليه بخشخشة الليرات أن يحطّنا على باب "مطعم نصر" المطلّ على صخرة الروشة، فتنطلق بنا السيارة بعينيْ السائق اللتين تقيسان الباكاوية بطلاقة اليد... كيف تركتُه يستدرجني؟ كيف كيف؟  و"أَمْرَكْ يا بيكْ" هي هَوَسُ عديّ، فينالها، الباكاوية، وأنا بعد لم أستجمع في خاطري كلّ الأشياء التي كَرَّها عليَّ صوتُه الذي خفتُ أن يتسرب إلى الغرف الأخرى بأعاجيب حكاياته التي لو استباحتِ الآذانَ الأخرى فوصلتْها وأسمعتْها لاستباحتْني العيونُ غداً في الممرّ والمطبخ وعلى مدخل البيت، استباحتِ الظلَّ والخلوةَ اللتين هما عصمتي من غضّة الحرج وانكماشة الروح في جسد يضيق عنها حتى في هدأة طمأنينته وطمأنينتها؟ كيف وكيف وكيف، لو كانت تغيّر لنا الآن كيف شيئاً.

صوت الموج والريح يعبر الليل المهيمن على مدى البحر الذي نحسه ولا نراه ويعبر إلى طاولتنا زجاجَ النافذة التي تقف حاجزاً وممرّاً بين النور والظلمة، بين هدراتٍ وانقصافاتٍ تطرأ علينا كما تطرأ على الذاكرة ارتداداتٌ لكوابيس من عهد الصبا، وبين ضحكاتِ وقهقهاتِ الشرابِ، مخشوشنةً على طاولة من ورائنا، وعلى طاولة تلقاءنا كناريّةَ الكرجاتِ، وعلى ثالثةٍ في زاويةٍ تقاطيعَ لا تقطيعَ بينها، كما هي موجاتُ الصيف على مصبّ نهر الأوّلي قبيل شروق الشمس بنسماتٍ أو قل أقلّ قليلاً. كأنّ عيوناً مبغوتةَ الحدقات من خلل الأصوات والقهقهات وكرجات الكنار تنسلّ إليَّ، فاضحةً لي حضوري بحضورها الأنثوي الذي تلحظه في لمحةٍ عيناي وتنكره على عينيَّ ريبةٌ في قلبي.

صينيتان عريضتان على كفّين وأصابعَ عشرٍ تقتربان من طاولتنا وكأنهما تطيران في الهواء من تلقاء نفسيهما، وتنحدران في خفّةٍ لم أعهدها في كرسون واحد من الذين عملوا ويعملون في مطعمنا. محترِفان في توازنِ الخطوِ وفي فتل الأصابع تحت الصينية ليسهل على الكفّ حَطُّها من مستوى الكتف إلى مستوى الطاولة حيث أصابعُ اليد الأخرى تنثر شخاتيرَ المازة في خفّةِ ساحرٍ فلا العينُ تلتقط من شختورة طرفاً حتى يسحبها إليه طرفٌ من الشختورة التالية فالتالية، فيدٌ تنثر من أول الطاولة إلى وسطها ويدٌ تنثر من وسطها حتى حدّها الملتصق بحافة النافذة، فيخشع الشرشفُ الأبيض تحت الألوان وكأنما هبط فجاءةً عليه ربيعٌ كما تهبط موائدُ الإعجاز في تراثات الأمم على العابثين بالغيب مرةً، ومرةً على الذين قلوبهم لم تستفق بعد من دهشة التصديق فأحبّتْ أن ترطّب بالطمأنينة الدهشةَ فَنُوِّلَتْ ولم يكُ نوالُها شيئاً قليلاً. المازة الإكسترا بالأربعين من شخاتيرها ليست إنجيليةً هذا المساء وهي إلى اليونانية أو الرومانية أقرب، فالسّرفُ سرٌّ من أسرارها وتَعَاتُبُ ألوانها طقس من طقوسها، وأما شخاتيرها فمن أساطيل التجارة الفينيقية على الساحل الممتد من صور إلى صيدا فجبيل.

عديّ يقول والكرسون على دفتره يسجّل الطلباتِ التي تستحدثها ذاكرةُ عديّ ويعلو بها صوتُه أكثر مما تحتاجه أُذُنُ الكرسون، فإذا الهواء حولنا رؤوسٌ تتلفت وعيونٌ تستفسر عمّن سيأكل جاط الكبّة النيّة وجاط الفستق الحلبي وسمكة اللقّز المشوية و و و، ونحن اثنان طاولتُنا فُرْجَةٌ للعين ويدُ الواحد منّا لا تطال الشخاتيرَ على الطرف الآخر من الشرشف الأبيض. تنخطف رِجْلا الكرسون صوب باب المطبخ ويغيب قليلاً ليخرج رجل في كامل أناقته السوداء ويتجه إلينا في خطى رصينات وابتسامته تسبق خطواته فينكمش شيء في داخلي وأحسّ بالحدقات المبغوتة تتّسع وتزداد اتساعاً حتى لكأني أجلس في داخلها. يحيّي الرجلُ بأناقة ويعتذر لاضطراره إلى طرح السؤال علينا للتأكد من أنّ الكرسون لم يأخذ طلباتنا خطأً، فيفلش عديّ يديه وصدرَه وصوتَه بالتأكيد على صحّة الطلبات المسجَّلة. آه فهمت، أنتم تنتظرون ضيوفاً لكم، يقول ويهمّ بالذهاب فيستوقفه استهجانُ عديّ للتطفل الذي لا مبرر له. ترتفع كأسُ عديّ وتفرقع ضحكته في الهواء. المازةُ للنظر، تشرح كلماتُه، والطلباتُ الأخرى احتفاء بعيد ميلاد أخي، ويشير إليَّ. طاولتُنا ونحن الآن فُرْجَةٌ، والحدقاتُ المبغوتةُ تدور بي وتدور في محاجرها، فآخذ كأس العرق وأردّها ردّةً واحدة في فمي لأسرّع من مفعول العرق فيَّ فلعلني يترحرح جسدي وتنفكّ عنّي دائرةُ الحدقات التي لها قوّة السحر، كما للعيون التي في قصص إدجار ألن بو. الآن أنا أحد أبطاله، والزبائن حولنا، وكأنما في جوقة واحدة، ترتفع أصواتهم وتنقضّ عليّ بأغنية Happy Birthday To You فأغمس عينيّ في الزيت المكسَّح في شختورة الحمّص وأركّز فكري كله على لمعانه تحت الضوء، حتى لا أرى. وحتى لا أعي، أنقل عينيّ إلى بطحة العرق فأصبّ منها كأساً وأردّها ردّة واحدة، سيك، فيفرقع الهواء بالتصفيق ثم لا أدري إلا وفستانٌ يعترض وعيي، كلّ وعيي، فأرفع إلى صاحبته عينيّ، فإذا الوجه المبغوت الحدقتين قد ترحرحتْ عنه البغتةُ، وإذا التي أنكرتْها على عينيّ ريبةٌ في قلبي هي عين الفتاة التي الألسنُ في كافيتيريا الجامعة تصنّفها بفتاة الكاتالوج.

عديّ يبتسم لها ابتسامة مَنْ لم يفاجئه حضورُها، وتتبادل عيناه وعيناها نظرةً فيها شيء أقلّ قليلاً من الألفة وأكثر قليلاً من المعرفة، فيتحرّك الفستانُ خطوة ثم خطوة حتى إذا ما سحبتْ بخفّة السحر عن يميني الكرسيَّ يدُ الكرسون الذي كان وكأنه لم يبتعد عن طاولتنا لحظة آلفتْ هي نفسَها مع المسافة واستقرتْ على يميني فكأنها حصّتي من الليل. ما يتبادلانه من كلمات يفلش على شرشف الطاولة الذي لا متسع عليه لشختورة أخرى واحدة حقيقةً بوسع الشرشف كله. مازة فوق مازة، يحدّثني العرق في رأسي. إذن أنا الليلة نديمه على المازتين، وندماؤه على العمر الكابتن حسّون وطوني السمسار والمحامي جوزيف، وأبو الوليد الذي ربما الآن الشيبةُ التي يصبغها توسوس له بالحرج من منادمة لَفَّاتِ الأنظار بحركاته وتصرّفاته من مثل عديّ المشغوف بالتمثيل على نفسه من حيث لا يدري فهو يتحرك في الأماكن العامة كمن يتحرك على خشبة مسرح، بطلاً لا تنزاح عنه دائرةُ الضوء، ولا ينبغي لها، ولو انزاحت لشدّها إليه عتبُهُ، بطلاً فرداً لا يصلح أن يمثّل في أيّ من مسرحيات تشيكوف حيث المجموعة تلغي الفرد. العرق في رأسي يحدّثني أن أفتح مسرحاً خاصاً به وأن أغري به الذي أخرج مسرحية "القبضاي"، قبضاي العالم الإيرلندي، فيغيّر في النصّ شيئاً ليصبح لنا قبضاي الجنوب اللبناني. ومن يدري فلعله الآن يراقبنا من خلف نظارتيه ويعايش النصَّ المُعاش ليستلهم منه التعديل الذي لا بدّ منه لنصّه المكتوب. أحسّ بعينيّ تستديران بوجهي من طاولة إلى أخرى وكأنني أبحث عنه، وما هي حتى يخفّ رأسي وتأخذه الدوخةُ لحظات فأتمسك بطرف الطاولة ويتوقف نَفَسي وأحاول أن أعدّ في سرّي منتظراً نهاية اللفّة التي ألفّها، وأنا أعرف أنني لم أزل ثابتاً في مكاني. العرق يفعل ذلك أحياناً، يطمئنني صوتُها، وأصابعُ من يدها تتلمس من تحت الشرشف مسحةَ الفخذ من بنطلوني ثم تنطبق على استدارته الكفُّ كلها وتأخذ تمسّج لي وتمسّج وكأنما في بنطلوني من العرق خَدَرٌ عميق. من أي صفحة من صفحات الكاتالوج طلعتْ عليّ فتاةُ جامعتي لم يعد يهم الآن، فَشَرْحَةُ الحامض التي يناولني إياها عديّ لأمصّها سأمصّها حتى قبل أن تأتي سمكة اللقز المشوية. يترحرح خاطري بالأفكار وأقول لنفسي إهدئي فتهدأ وكأنما بفعل السحر. الضحكة تكاد تتحرك على شفتي وأنا أستمع إلى عديّ يحدّثها عن سكرةٍ سكرها مرة هو والكابتن حسّون في المطعم هذا بعينه وكيف أن الكابتن لم يعد في وضع يسمح له بقيادة السيارة ليرجعا على ضوء الفجر إلى صيدا فتماسك هو وأجلس الكابتن في يمين المقعد الخلفي وجلس هو في يساره ثم مدّ بنفسه فوق ظهر المقعد الأمامي وأدار مفتاح السيارة فانطلقتْ، حتى بدون أن يدعس أحد على دعسة البنزين، وظلّتْ تسرع بهما من شارع إلى شارع، وهو يداه على الدركسيون يلفّه يميناً وشمالاً، هو الذي لم يقد في حياته سيارة من قبل، حتى إذا ما شارفا جسرَ الأوّلي خلص البنزين من السيارة فتمهلتْ وتمهلتْ، دون أن يدعس أحد على دعسة الفرامل، حتى توقفتْ قريباً من معمل الثلج، فنزل منها ومشي بقية المسافة إلى البيت تاركاً الحسّون مكوَّماً في نومته على المقعد الخلفي. تترحرح الضحكة في فمي أكثر مما كنتُ أخشاه ويقول له صوتُها أنها قد تفعل يوماً ما ما لن يخطر له على بال، وإذ يصرّ على معرفة ما تخبئه له في بالها، تنحني على الطاولة ويهمس صوتُها بالسرّ أنْ ستقدّمه إلى أساتذة المسرح في كلية الفنون، فهو إن لم ينجح في التمثيل فسينجح  حتماً في كتابة السيناريو. الخبيثةُ فيها ظُرْفٌ، وكنتُ أحسب الكاتالوج باردَ الصفحات.

جاطُ الكبّة وجاطُ الفستق الحلبي الذي تأخّر عن موعده وسمكةُ اللقّز المشوية، مسطَّحةً في جاط مستطيل تحفّ بها شرحاتُ الحامض المدوّرة وعروق البقدونس، وصحونٌ غيرها لا أميّز من أطعمتها شيئاً، تنزل كلها على الطاولة دفعة واحدة فينحشر بعض الشخاتير ببعض ويُرْفَعُ بعضُها ويُمْشى به إلى المطبخ فتستحيل اللوحةُ إلى مائدة للطعام، وسحرُ التنسيق الأربعينيّ يرتفع عنها فيتبخر الإعجازُ الذي كان هبط بها علينا. عيناها على السمكة المشوية، حفيدةُ عفاف، تلمع الكلمةُ في خاطري، فتكرّ أمام عينيّ عناوينُ الصحف وتحقيقاتها في فضائح الجدّة عفاف، محظيّة السلطة قبل ثورة ال 58 والتي حوّلتْ بيروت إلى محميّة من الشقق المفروشة وأنشأتْ نظام الكاتالوج بصور لستّاتِ بيوت ولبناتِ بيوت، تحت الطلب وعلى التلفون وبالساعة أو الليلة، ولفتياتٍ جامعيات طامحات إلى حياة عصرية وبحبوحة في مصروف الجيْب، نظام الكاتالوج الذي يبدو أنّ عديّ قد عجنه وخبزه وذاقه ويريد أن يذيقني إياه الليلة معه. عفاف إذن لا تزال تعيش في حفيدتها، وإن تكن السلطةُ التي حَمَتْها قد تغيّرت مرة بعد مرة. سمكة اللقّز سفائنُها توزّعتْ في صحوننا، وكما الذوقُ يقضي، في صحنها هي أكثر، فعديّ، كأنه أبي الآن، يحدّث المرأة باللغةِ التي تحبها المرأة أكثر، تخصيصِها بلفتة التكريم في الأماكن العامة.

العرق لم أعد أجرؤ على تناوله بعد اللفّة التي لفّها رأسي، والسمك لا بدّ من التنقير به تحت إلحاح عديّ، ونفسي كأنما تركّزتْ بشرحة الحامض التي مصصتُها، واليدُ التي مَسَّجَتْ لي مشغولة عنّي بالشوكة التي استهوتْها سفائنُ السمكة البيضاء فهي، إمّا نازلة إليها وإمّا طالعة بشرائح صغيرة منها إلى الفم المضمومةِ شفتاه، إذا انضمّتا، على شَدَّةٍ فاسترخاءةٍ فشدّةٍ فاسترخاءةٍ تواكبان مضغ الشرائح البيضاء. أنتبه لنفسي أراقبها برحرحةِ مَنْ لم يعد عنها ولا عن الجوّ غريباً.

تُمَرِّرُ بين شفتيها شرحةً من شرحات الحامض ثم تفرك بها أصابعها فوق صحنها، مع أنّ يديها لم تَمَسّا إلا الشوكة والسكين وشيئاً من شرحات الخبز، ثم بطرف الفوطة البيضاء تمسّ شفتيها المنفرجتين مسّاً رقيقاً. يشعل لها عديّ سيجارة من قدّاحة مذهّبة لم أكن رأيتُها معه من قبل فتأخذ نفساً عميقاً وتلوي برأسها إلى الوراء قليلاً وتتدوّر شفتاها لترسل سحبات الدخان الأبيض نحيلةً وكأنما ترسلها من خرم الإبرة. تنحني فوق الطاولة وتوحي لعديّ أنْ قد حان الوقت لتناول القهوة في شقتها. عيناها تبغتاني بنظرة فيها من الاستفزاز مقدار ما فيها من النجوى فأكاد للحظة أن أتحول إلى أحد أولئك الذين يستمتع إدجار ألن بو بتسليط العيون المهيمنة عليهم وتعذيبهم بها ببطء لا يقدر عليه سواه. أفلت عينيَّ من دائرة حدقتيها وأنهض على نهضة عديّ الذي كان قد أشار إلى الكرسون بإصبعه ونَقَدَهُ الحساب المرقوم في الفاتورة ثم فَلَشَ ورقة الخمس وعشرين ليرة ومدّ يده بها إليه وإلى العيون التي اقتحمتْنا وشوشاتُها. الكرسون يفلش درفةَ باب المدخل أمامنا وينفلش أمامنا الليلُ المُضاءُ شارعُ رَوْشَتِهِ ورصيفاها بقناديل الكهرباء. أزرّر جاكيتي وألتقط الشوارد في الريح من خصلات شعري فتهزأ مني كعادتها الريحُ وتعبث بي من جديد فأجاهدها وتجاهدني حتى يلمّني الحياءُ على بعضي وتنكسر يدي إلى جانبي في اللمحة التي تأخذ بيدي الأخرى يدُها التي أكتشف تصميمَها على سحبي معها عبر الشارع إلى الرصيف الشرقي، والريحُ تصفع أقفيتنا وتستحثّنا على العبور السريع. صعوداً نحو شارع أوستراليا تدفع بنا الريح، وهي تركض بنا خطوات وتعبث بالليل ضحكاتُها. لو كنّا في الصيف لكنّا تناولنا قهوتَنا تحت هذا القنديل، يحاور الليلَ صوتُها وتُفْلِتُ يدي لتشبك يديها حول عمود الكهرباء وترخي بنفسها إلى الوراء وتمرجح نفسها هذه الناحية وتلك وتلفّ وتدور حول العمود الذي سلّط عليها الضوءَ من فوق فهي بطلةُ اللحظة التي ضَمَّرَتْ حضورَ عديّ وأحالتْه إلى شخصية ثانوية عبثاً تحاول أن تشعل سيجارة في عصفات الريح.

تنطّ مهرولةً أمامنا على وقع ضحكاتها فتنطّ مهرولةً في إثرها عيونُنا وخواطرُنا، وتنشر ذراعيها على أمواج الريح فننشر على أمواج الريح أشرعتَنا، وتنعطف الساريةُ أمامنا يميناً فتنعطف بإنعطافها ساريتانا، ويرسو القاربُ الذي ضلّتْ عنه حمامةُ نوح فيرسو برسوّه قاربانا، وإذ يستقرّ بنا الطوفانُ على جبل النجاة المشعشعةِ نوافذُه المنضّدة كالجنائن المعلّقة، ستائرُها الوردية مسروقةٌ من أشعة شمسٍ عبرت سياجَ الورد في بستان بيتنا عبر النهر، نهرول خلفها حتى في رسوّنا وتصرخ في إثرها عنّا الريحُ لأننا أعَرْناها الصوتَ والحنجرةَ والكلمات التي لم تولد لها بعد حنجرةٌ لأنها الكلماتُ التي وراء الريح والغيم والليل والنهار والشمس والقمر ولأنها تَعَاتُبُ الأزلِ والأبدِ على المدى الذي شُقَّ للحنين بينهما، المدى الذي، كالشِعْرِ، زمنُه الحدسُ، زمانُ اللازمان.

الحدسُ زمنُ الشِعْرِ، وها مدخلُ البناية يعلّق الوجودَ وتاريخَ الوجود فكأنما لم يكن كل ما كان. تحدّثنا البنايةُ المجاورة أن الطابق الرابع منها كان شاهداً على تسارق أول قبلات الحنين بيني وبين رندة الحيفاوي وأنها قد تكون الليلة هنا في شقة ابنة خالتها. شيء حدسيُّ الخزيِ يهزم ساريتي فينهار شراعي ويصرخ في داخلي صوت أنْ لا لا لا، فأركض في الشارع هارباً من غصص في حلقي مرّة كالهزيمة.

ما الذي صَحَّاهُ عليَّ اليوم فَصَحّى الأوديةَ التي في تلافيف صخورها أئد المولودةَ من مُتْلِفَات العناصر فيَّ، حنيناً إلى الصلصال من الأرض كانت أم ابتهالاً إلى تجنيح المُتَوِّقات إلى ما خلف سياج الريح والغيم، والشمس والقمر، أئدها ولا أسألها، فالسكينةُ والطمأنينةُ المنتهى، ولو إلى شهر، فأسبوع، فيوم، ليصحو هو عليَّ اليوم فتصحو به عليَّ الأوديةُ الهاجعة في رحمة من رحمات الله ؟ صفعاتُ الريح رجماتٌ في وجهي، ورجماتٌ في وجه الرصيفِ والشارعِ والرصيفِ الآخر ضرباتُ قدميَّ، وصخرتا الروشة اللتان ترجمهما قصفاتُ الموج، كل ذا يفتح للجحيم عليَّ الآن البوابات التي كنتُ أغلقتُها منذ حين. ولكنها الجحيم الباردة التي تتساوى لسعاتها بلسعات النار. تجمّد كان مفعولُ العرق في رأسي وتجمّد كل شيء فيَّ إلاّ صورة المبنيين اللذين وُزِنَ بأحدهما الآخر، تنافراً وتجاذباً، كما تولد الصورةُ الشعرية البَرَدوكْسِيَّةُ في بغتة حدس. لا ألتفت إليه ولكن خطواته تظل تسعى إليَّ، وحينما يحاذيني، صامتاً، لا يتحدث فيه إلاّ هزّاتُ رأسه، عتباً واستفساراً واستنكاراً، بالطبع، لتضييع فرصةٍ سلفاً مُسَدَّدَةٍ تكاليفُها ؟ أعتذر إليه بهزّات من رأسي على إفساد مشاريع ليلته الباهظة وبإبتسامة منكسرة لا أعرف إذا هو يلحظها الآن على شفتي. أنتَ مجنون مثلي، يجاملني صوتُه في الريح. ولكن جنونك من نوع آخر. أستجيب للمجاملة ونأخذ نتمشى على الكورنيش مبتعديْن شيئاً فشيئاً عن أضواء مطعم نصر. يجاملني ثانية بسيجارة فأجامله بأخذها وإن يكن حلقي لم يرتح بعد من طعم المرارة. يعطي ظهره للريح ويقدح قدّاحته فتلمع النارُ وتختفي داخل استدارة كفّ يده الأخرى. تأخذني الحميّةُ لتسديد بعضٍ من دينه عليَّ الليلةَ فأستدير وأحيط استدارةَ كفّه باستدارةٍ أوسع من كفيَّ، فيشفط النارَ إلى طرف سيجارته، ويشفط نَفَساً طويلاً آخر يؤكد به تَحَكُّمَ التبغ بالنار. أقلب آخر كلمتين وأعير الباءَ للكلمة الأخرى منهما لأصحّح المعنى في رأسي وأبتسم للطرافة التي تتحكّم فيها بوعينا الكلماتُ. كل ذا بعيد هو عنه الآن فما أن يشعل لي سيجارتي من سيجارته حتى ينظر إليَّ من جديد نظرة عتب منقّحة، سقط عن طرفيها الإستنكارُ والإستفسار، ثم ما يلبث أن يهتزّ رأسه كما اهتزّ من قبل، عتباً واستفساراً واستنكاراً، وتطلق أصابعُه بقيّةَ سيجارته في الليل، ويدقّ حذاؤه على بلاط الرصيف، وتقبض كفُّه على ساعدي وتروح تهزّني وكأنني وتد تريد اقتلاعه من الريح. هذه ليلةُ الشِعْرِ، تحدّثني ذاكرتي، أفليس لغةَ الشعر البَرَدوكْسُ؟ ولكنني لن أسلّمك إلى جنونك فالعمرُ قصير، يحاورني صوتُه، وأقصر منه عمرُ اللذة التي في بدنك، يتابع في لهجة الذي عاش وعرف وتألم وتعلّم. أم أنك ستعلِّم بدنك الكسل ليصبح آلة للبول وحده قبل أوانه، يصرخ بي مؤنباً شيءٌ أعمقُ من الصوت، وأكاد أشتمّ رائحةَ العار الذي في أنفه، العار الذي سأحمّله آلَ الجمري لو تلكأتُ عن إثبات بنوّتي لجهّار وأُخُوَّتي لعديّ برفع راية دَيونايْسَسْ، بكأسها وفَالَسِها، وقد كنتُ ظننتُ أنني ارتحتُ من عبء الراية يوم تركتُ صيدا ولو إلى حين. عازر الديّار يجب أن يكون عظةً لك حتى لا ترمي بعمرك على قارعة الطرقات مع نساء لا علاقة لهنّ ببدنك، يفاجئنني بالسّرّيْنِ صوتُه. ترسو في بلاط الرصيف وفي الريح والليل قدماي وجسدي وأنفاسي. وقبل أن أفتح فمي بشيء، يصرخ بي منه من جديد ذلك الشيءُ الذي هو أعمق وأغرب من الصوت أن انتهى عازر الديّار، فهو الآن في سريره في المستشفى يستجدي حتى البولة الواحدة، بولةً تبقي عينيه مفتحتين، لا على النساء اللواتي ستحرقه شهوتُه إليهن، وقد لا ينالهن، ولكن على النور الذي سيظل يؤكد له أن ظلمة القبر لم تهبط عليه بعد بل ستمهله شيئاً قليلاً.

فجأة صار عدوَّه الليلُ فها هو يركله بقدميه ويستدير عليه لاحقاً به بركلاته ويصفعه بقبضتيه وكفيّه ويصرخ في وجهه ويشتم ويُسمِعه من المفرداتِ سياقاً صيداوياً من لغة أهل البساتين ولكنةِ أهل المدينة القديمة الممطوطةِ المرخيّةِ الحنكِ، ويلقي عليه من ساحة السمك شِباكاً ليضبّه في سلّة من سلال الصيّادين ويكتم أنفاسه، والليلُ لا يفتح للنور نافذةً ولا باباً ولا حتى كوّةً فحتى القناديل انطفأت وغاضت في المسافة صخرتا الروشة ولم يعد على الكورنيش إلاّ أنا وهو، يدور حول الليل وأدور حوله حتى لا يدوخ وحده ويسقط على بلاط الرصيف ويتركني وحيداً أفتّش عن معنى كل ما جرى ويجري. سمكة اللقز لن تذهب سدى، ولا العرقُ، ولا المازةُ الإكسترا، رضيتَ بذلك أم لم تَرْضَ، وإن كنتَ تصرّ، ولن أسمح بذلك أبداً، فأنت الآن ستنزل معي إلى البلد، الآن إلى ساحة الشهداء، في زيارة عرفان بالجميل للشارع الذي درّبني على النساء وجعلني ما أنا، يتهافتُ عليَّ من فمه جنونُه. من العبث أن أتوقع منه أن يفهم مني الذي بعد لم أفهمه أنا من نفسي، وإن فهمتُه فلا سلطان لي عليه، وإذن لا خوض في شرح أو حوار، فالذي حدث من خذلاني له على مدخل بنايتها قد حدث وانتهى الأمر. يبقى الديْنُ الثقيلُ الذي حمّلني إياه الليلةَ والذي لا بدّ من إيفائه، لأنّ ذلك حقّ له عليَّ ولأعتق نفسي من الأسر الذي ربطني به ذلك الحقّ. أُفهمه أنني سأصطحبه في زيارة العرفان بالجميل على أن لا أكون له في طقوس الزيارة شريكاً، ولكنني أخفي عنه حقيقةَ أنه ذاهب ليطفيء ظلمةَ الليل بصرخةِ الهلعِ التي كان أرسلها آدمُ في ظهور بنيه، الهلعِ من احتمال سقوط الراية قبل سقوط العمر، فرحلتْ إلينا الصرخةُ وكأنما في سناسل ظهور غجرية وحلّتْ علينا أصداؤها لعنةً، وكان أمراً مقضيّا. ذلك شيء أبقيه لنفسي، بقيّة هذا الليل على الأقل.

تلفّ بنا التاكسي وتنسلّ في شوارع جانبية لا أعرفها، أو أنني أعرفها في وضح النهار، وقت المحالّ مفتّحةُ الأبواب، تلمع واجهاتُها وأبوابها الزجاجية بالصفاء وبضوء الكهرباء أو نور الشمس وتشعشع فاتريناتها بالألوان. الشوارع الفرعية أَنْفَاقٌ حيث القناديلُ تفحّمتْ بالعتمة، وحيث اصفرّتْ وبهر اصفرارَها مشاويرُ تقطعها المسافةُ تحت شرفات البيوت العتيقة، مصّونةً بالدرابزينات المعكوفةِ ذوائبُ قضبانِها إلى الداخل أنصافَ دوائر أو ثلاثةَ أرباعها أو قل أقلّ قليلاً، ومسيّجةً بأصص النباتات اللوزية والإجاصية والإبَرِيّةِ الوريقات وأصص تفرّخ الآن جذوعُها وأغصانُ نباتاتها، وإن كنتُ لا أرى تفريخَها رؤية العين، فلقد جاوزنا منتصف شباط ولا بدّ أن يكون للفصول ما رضيتْ به الفصول. المسافة هنا مشاوير تقطعها المسافة، ونحن في المقعد الخلفي كعصفوريْن سكنتْ أجنحتُهما، فالزمن الآن يطير بهما إذ ليس إلاّه سكونٌ وحركةٌ ومدى وقياسٌ للمدى.

تنزل بنا التاكسي نزلة السراي فيطالعنا تمثالُ رياض الصلح في الساحة التي احتلَّها لنفسه من العاصمة والتاريخ بعدما تخلّى عنه الأفقُ الصيداوي الضيّق ولم يبق له من مدينته إلاّ ولاءُ رجال من عائلات قليلة صمدتْ في وجه الطبقة العائلية الجديدة التي ضَمَّرَتْ حجمَ لبنان إلى حجم طموحاتها من "جسر الأولي" إلى "جسر سينيق". من الرجال الذين صمدوا كان أبي، وقصّتُه مع المدينة التي حطّمتْ زينةَ الاستقبال في شارع رياض الصلح لترويع محبّيه عن استقباله ظلّتْ عقوداً من الزمن تذكّر المدينةَ وسياسيّيها بأنّ جهّار الجمري جلس وحيداً صبيحة ذلك اليوم على الكرسي في مطعمه ووضع سلاحَه على الطاولة، مرئيّاً لتظاهرةِ السيارات والبوسطات التي مرّتْ ورأتْ ولفّتْ وما تجرّأ على النزول منها رجل ليحطّم الزينةَ المرفرفةَ في الهواء على عرض الشارع من سطح المطعم إلى سطح المقهى المواجه، والذي كان آنذاك لرجلٍ آخر من آل الجمري. تلاحقني الليلةَ صيدا في كل مكان.

شيء في التمثال ينادي فيَّ شيئاً فأهمّ بالطلب من السائق أن يتوقف وينزلنا هنا فتعترضني من عديّ انحناءتُه إلى جهتي لينظر إلى "بناية العسيلي" عن شمالنا فأنظر مثله فاذا هي لوحةُ الإعلان السينمائي المضاءة بالكهرباء تفوّت عليَّ فرصة الكلام فتسترسل التاكسي في انحدارها بنا شرقاً فشرقاً. الشيء الذي في التمثال يشدّني يشدّني إلى أكثر من مساحة التمثال، فعن يميني، تماماً على الزاوية التي يؤلّفها التقاءُ نزلة "البَسْطَهْ" بالساحة، كان يشعّ، حينما عبرناه، ضوءٌ على الباب الخشبي لمطعم الحمّص والفول لابن عمتي عثمان، فتحه بعدما انشقَّ عن أخيه إسماعيل تاركاً له دكانَ السمانة في "ساحة باب السراي" ليديرها بنفسه لنفسه. وعلى مسافة أمتار من مطعم الحمّص والفول ربما كان يتمشى ناطورُ كاراج البوسطات لخط صيدا بيروت لمالكها الصيداوي الذي، من أول تفتّح وعيي على البوسطات، كان اسمُه في نزالٍ مع اسم الصيداوي الآخر الذي ها هو كاراج تاكسياته وسرفيساته المرسيدس في آخر نزلة الساحة، كعادته يتأخر موعدُ إقفاله مساءً إلى ما بعد توقّف نقلاتِ البوسطات ليقلّ من الصيداويين أهلَ البحبوحة وخاصة المتأخرين منهم في رحلة العودة، بطارئٍ من عمل أو بطارئٍ من سواه. وبين الكاراجيْن ينفتح في خيالي، وقد عبرناه، مكتبُ ابن عم أبي لتخليص المعاملات، لَهْفَتْ الجمري الذي ذاع صيتُه في عهد الرئاسة التي شُهِرَتْ بتزوير نُمَرِ السيارات العمومية، والذي نهرني مرة ونحن في طريقنا إلى منزل رئيس مجلس الخدمة المدنية بالقول "شوْ؟ بْيِظْهَرْ مَنَّكْ لبناني؟" لأنني رفضتُ، من باب الخجل والحياء معاً، أن أحمل إلى الرجل هديّة تؤمّن لي فرصة الدخول إلى وزارة المالية وذلك بعد إعلان نتائج امتحانات المجلس التي كنتُ أنتظرها آنذاك. ولقد حسمتْ لباقةُ الرجل الذي أصرّ على أن نشرب معه قهوة الصباح، وأهل بيته بعد نيام، موضوعَ الهدية من أساسه إذ فاجأنا بأنّ اسمي نال أعلى علامة بين المتبارين السُنّة وبأنّ ذلك يخوّلني الدخولَ إلى وزارة الخارجية دون وساطة أو واسطة. يتلفّتُ قلبي إليهم جميعاً بحنين الغريب إلى رائحة الأهل والجيرة فتنداح الساحةُ ورائي إلى دائرة منهم مغلقةٍ على التمثال في وسطها، فأغلق عينيَّ، وقد دخلتْ بنا التاكسي ساحة الشهداء، لأرى الصيداويين وكأنما التفّوا على بعضهم في غربةِ هجرتِهم إلى الرزق والبحبوحة فحطّوا رحالَهم في واحةِ الرجل الذي نذر نفسه للوقوف وللابتسام، تحت عكفةِ طربوشه، الابتسامةَ التي لا يكمّل رحابتَها إلا نهوضُ ذراعه في الهواء بكفّ التحية والترحيب، ليظل حضورُه الأنسَ لهم وربما العَتَبَ المترفِّع على مدينتهم التي كسرتْ زينةَ استقباله وأسقطته في الانتخابات النيابية فحكم له التاريخ أن يأتوا هم الآن إليه، ينسبونه إلى أنفسهم وينسبون أنفسهم إليه، فكأنما في غربته وغربتهم صار لهم الواحةَ والمدينةَ والوطن.

تتمهل التاكسي وهي تحاذي أوتوبيسات الدولة المصطفّة في موقفها وتستفسرنا عينا السائق في المرآة إن كنّا سننزل هنا أم في مكان آخر من الساحة، فتعلو نبرة عديّ بتحديد المكان فتنعطف بنا التاكسي شمالاً وتحاذي الرصيف لتتوقف عند بناية الأمن العام. أشمّ رائحةَ الدولة وأنا أرفع نظري إلى سلّم البناية التي كنتُ صعدتُه مرة لأسلّم رسالة إلى ضابط تربطه بصهري صلة قرابة بعيدة. عديّ تعلو نبرةُ كلّ شيء فيه، دقّاتُ قدميه على الرصيف، نحنحتُه التي ترتجلها حنجرتُه بديلاً من الكلمات والتفاتتُه المتكررة إلى وجهي لقراءة احتمالاته، فأقطع على نبرته محاولتها للعبور إليَّ والتأثير فيَّ بنبرةٍ تُفهمه أنني سأتمشى في الساحة تحت شجرات البلح ريثما يقضي حاجته في حِمى وحُمَّى وحُمَيَّا الدولة التي أطلقتْ اسمَ المتنبي على شارع مَبْغاها الرسميّ ربما لتخلّد مكابرته المأثورة في قوله "وللخَوْدِ منّي ساعةٌ ثم تنقضي". الشطر الثاني من النبرة أعابث به نفسي وحدها بالطبع فمن العبث أن أفسد علي عديّ، بأخبار الشعر العربي، زيارةَ العرفان بالجميل التي يهمّ بالقيام بها الآن، وقد ابتلعه الشارعُ الفرعي في عين اللحظة التي لَفَظَ إلى الساحة سواه. لَفَظَ، يلفظُ، ألفظْ، لافظٌ، ملفوظٌ، ملفوظٌ فيه، ملفوظٌ لأجله، ملفوظ ملفوظ ملفوظ، وترتاح صرخةُ الهلع التي عبرتْ إلينا قاراتٍ من سناسل الظهور الغجرية على رفرفة الراية التي ورّثها آدمُ بنيه.

ترى ما الذي ستقوله رندة الحيفاوي غداً وأنا أروي لها حكاية السناسل الغجرية ؟ رؤيا شعرية نتسلى بها على كأس في خلوة، أكاد أسمع جوابها في الريح. ولكنّ رؤياكَ ليست آخر ما تبقّى لنا لنسترجع بها فلسطين أو حتى نردع بها إسرائيل عن اعتداءاتها على جنوب لبنان والمقاومة الفلسطينية فيه، ينبض صوتُها بالحماس. أشحط كعبَ حذائي على الرصيف شحطاً لأزعجها بالصوت البغيض، فلا يثنيها ذلك عن الحوار، وتعود إلى حشر غسان كنفاني بيني وبينها فأقصد هذه المرة إلى إزعاجها عن جدّ فأعيد عليها مقولتي أن الفنان في كنفاني انتصر على السياسيّ فيه حينما كتب "ما تبقّى لكم" وأنّ السياسي فيه انتصر على الفنان حينما كتب "أم سعد" وأنّ الأولى للنخبة التي تفكّر أكثر وتحسّ أقلّ والثانية للجماهير التي تحسّ أكثر وتفكّر أقلّ. تصرخ بي أن نخبويةَ التقنيات لن تحرر لنا فلسطين، فأصرخ بها أنها ستحرر العقل العربي من خطيئة الاسترخاء في عاداته الفكرية، وأشحط بحذائي من جديد على الرصيف شحطةً أطول من الأولى فتسدّ أذنيها بباطن كفّيها وتتقلص ملامحُ وجهها ثم تسترخي على ابتسامة تتوسل بها تعليقَ الحوار الآن لوصولنا، فجأة ودون أن ندري، إلى شارع أوستراليا، إلى شقة ابنة خالتها التي لن ترجع من عملها في مدرسة الأنروا، لا هي ولا أي واحدة من مُساكِناتِها الثلاث، قبل ساعة من الآن أو ساعتين.

الساعة التي للخَوْدِ منه سألفّ بها ساحةَ الشهداء عشرين مرة فإن انقضتْ تكون انقضت وانقضى معها مفعولُ سمكة اللقز وإنْ لَمْ فسأقضّ مضجعَ الرصيف وأقصّ عليه حكايةَ قدميَّ اللتين ضاق بهما المقعدُ الخلفي لسيارة الكابتن حسّون، ذات ليلة مجلّدةِ الهواء من ليالي كانون الثاني لعاميَ السابع عشر، والتي ارتأى عديّ أن ينقلني فيها من مرحلة "راحلتي رِجْلاي وامراتي يدي" إلى المرحلة التي أكسر فيها عينَ المرأة فأكون جديراً بأخوّته وبحمل راية آل الجمري بعده، هناك على مرتفع من مرتفعات شارع جزين بين عبرا ومجدليون أو بين مجدليون والصالحية، حيث قدماي، بحذائيهما الملمّعيْن، تنزلقان من فسحة الباب المفتوح إلى الهواء الطلق المجلّد خارج السيارة وترفرفان ورائي في العتمة بحثاً عن الموعد المدفوعِ ثمنُ إيفائه سلفاً، والممدَّدَةُ على المقعد الجلدي تستحثّ السناسلَ الغجرية على الوصول، وذاكرتي تعابثني بأغنية فيروز البَرَدوكْسِيَّة "تَعا وْلا تِجي"، فتعلو نبرةُ خجلي من نفسي إلى حدّ أتمنى معه لو أسقط مغشياً عليَّ، كما يسقط فجأة أبطال قصص المنفلوطي، أو أن يتجمّد من الصقيع كلُّ شيء فيَّ، إلاّ موضعاً، ويجدني الكابتن وعديّ على هذه الحال فتنجو بذلك السمعة الطيبة للجُمريين وأنجو أنا من حَثَّ، يحثُّ، حُثَّ، حاثَّةٌ، حَثّاثَةٌ، مُسْتَحِثّةٌ، حِثِّيَةٌ، حاثّةٌ له، حاثّةٌ معه، وحاثّةٌ لأجْلِهِ وأَجَلِه.

شرُّ الأمور إذن مضحكاتُها وشرّ ما فيها أنها لا بدّ منها، المرأةُ. والرصيف الذي هو قارعة الحكايات سوف يستمع إلى حكايتي بالصبر الذي عوّدتْه عليه قرقعةُ الأقدام ولسوف يضحك مثلي عليَّ ولكن بمرارة أشفّ من مرارتي، وأقف أنا أنتظر هطولَ المطر الذي سيمحو، بين كل بلاطتين من بلاطاته، سطرَ الفراغ الذي تركه البلاّطُ لكلماتي أملؤه بها في الصحو، ليسوّيَ بينها وبين سطح البلاطات الهَطْلُ المتجمعُ ويجرفَ الكلمات، كلماتي، مع الرمل والوحل والغبار ونتفٍ وكِسَرٍ وبقايا، نزولاً نزولاً إلى مربعات الشِباكِ الحديدية حيث تنحدر بقرقعةٍ لها أخيرةٍ إلى سواقي النسيان لتُنسى.

من بناية السينما ريفولي التي تتصدّر الواجهة الشمالية للساحة تطالعني اللوحةُ المضاءةُ بوجهين أعرفهما من سهرات ذلك الصيف الذي كان فيه مطعمُنا قبلةً ومزدحماً لعائلات المدينة التي استثار خيالَها تصويرُ مقاطع من فيلم "الراهبة" في دير أو كنيسة على مرتفع من مرتفعات القرى شرقي صيدا فأشعلتْ الليالي بموائد السمك المشعشعةِ بأربعين شختورةً من المازة الإكسترا على شرف هند رستم ويحيى شاهين، بطليْ الفيلم ورمزيْ الأنوثة الغامرة والرجولة المفحمة في السينما المصرية آنذاك، وجهين أعرفهما ولا يعرفاني لأنني من بعيد كنتُ أراقبهما وأراقب أبي جالساً على رأس الموائد لإلحاح المولِمين عليه، وخاصة عند أَخْذِ صُوَرِ المحتفى بهما وهما يتناولان الطعام، وعديّ يحشر كرسيه بكرسي أبي ليكون معه في كل الصور، أعرفهما لا أزال لطول ما تأمّلتُ الصور بعد رحيلهما، على صدى تشبيه أبي لها بطائر التِّرْغَلّ والسُّمُّن، ولطولِ ما لعبتُ دور المخرج فغيّرتُ في مقاطع الفيلم وبدّلتُ حتى أثرتُ اهتمامَها بتقنياتي التي استوحيتُها من أنوثة بحر الصيف الغامرة قبيل طلوع الشمس بنسمات أو قل أقل قليلاً، لينتهي الفيلم بإشهارها إسلامَها على أن لا تخلع ثوبَ رهبنتها أبداً. بَرَدوكْسٌ آخر ينبثق من ثقافتي الساميّة. وإذن كان كلُّ ذلك ليهيّئني الغيبُ لألتقي هذا العام بجْريسْ التي قَلَبَتِ السمرةَ المصرية بياضاً وظلّتْ مع ذلك راهبة.

ومع ذلك فثوبُ الراهبة لم يُجْهِضْ بعد من السمرة الفلسطينية خواطرَ المرأة، تلحظُ في حضور أخرى احتمالاتِ السطور التي تركها البلاّطُ على الأرصفة لتملأها الحكاياتُ بتلكم الكلمات. رندة الحيفاوي جَنَحَتْ عليها الأحداثُ من كل جهات الأرض فكأنما لا يكفيها أنها محمومةٌ بتعبئة شباب المخيّم للمشاركة في التظاهرة التي يهدد الصيّادون بتفجيرها في وجه السلطة، ولا أنها مهمومةٌ بأصداء صراعات تنشب بين عائلات من القرى الجنوبية ومسلحي المقاومة الفلسطينية، ولا أنها مغمومةٌ بشائعات تَسَلُّحِ طلاب الأشرفية بالبونيات والجنازير لاستخدامها يوم انتخابات ممثلي الطلاب في كلية الآداب وكلية التربية، لتهبّ عليها الآن الرياحُ المسيحية، صرفةً، أنثويةً، وبياضاً في بياض. حصانةُ ثوبها سبب آخر لجراءتها عليكَ، قالت لي مرّة رندة، ولم تُسَمِّ السببَ الأول، فتجاهلتُ ما أضمرتْ وتعاهدنا بصمت على الصمت.

لي عشرُ دقائق وأنا أنظر إليكَ تقف كالمخبول وعيناك عليها، يعاتبني صوتُه من خلفي بنبرة منقّحة لا يجوز وصفها الآن بالنبرة، فقد استرختْ باسترخاءة حنكه السفلى ولفتتْني إليه بعاطفةٍ من الإشفاق لا أدري من أين نبعتْ في هذا الليل وفي هذه الساحة وعلى هذا الرصيف. أشحط قدمي شحطةً وأشحط أخرى وتغرورق عيناي بشيء لا أظنه الدمع، فلعله عَتَبَةُ باب البيت التي لا تزال تمسحها بعينيها لنا أمي وتنتظر عندها لعلنا نرجع إليها، كلٌّ من غربته، ذات صبح أو ذات مساء. أسير إلى جانبه في صمت ولا أنظر إليه. نتمّ ما تبقى لي من دورة الساحة ونتوقف على رائحة البنّ على مسافة خطوتين من محل "بن نجّار". أحبّ الجلوس على الكراسي المرتفعة مرتفقاً حافة ال counter الطويل، وقدماي المرتفعتان شبراً عن بلاط المحلّ تستريحان على حافة الدائرة الحديدية المعدّة لهذا الغرض. ألتفت إلى عديّ فلا أراه. أطلّ إلى داخل المحلّ المحاذي فأراه يمتطي كرسياً أنيقة ويمدّ بإحدى رجليه إلى الأمام فيثبتها على المقعد الوطيء المخصّص لها وأرى يداً تهبط بفرشاة على الحذاء تلمّعه، على لمعانه، تلميعاً.

 

بَرْجيسْ السّلَيْلاتي

مثلَ البلاطةِ على قلوبهم رئيسُ الجامعة الآن لأنّ عميد الكلية المحسوب عليه فرض على الصفّ كتابَ "شعراء المسيحية"، ليقرأ لنا منه نصوصاً منوّعة ويشرحها لنا في ساعات محاضراته. إرضاءً لخاطر رئيس الجامعة شَرَّانا الكتابَ بكامل أجزائه، يقولون بوقاحة تعصّبهم. والعميدُ الذي من ملّتهم هو في ظنّهم مَسّيحُ جوخ لمعلّمه المسيحي الذي كسر عينَه بمنصب العمادة وسَوَّق عبره الكتابَ، متناسين أن الرئيس مرجع من مراجع الأدب العربي قبل أن يكون رئيساً للجامعة، ومتجاهلين عن سوء نيّة الحقيقةَ التاريخية التي يطرحها عنوان الكتاب. يتبسم فيكتور وحاجبُه الأيسر يرتفع كعادته كلما تهيّأ له أنني صرتُ مثل غيرنا، أنظر بعين لأرى ما أحبّ وأغمض الأخرى حتى لا أرى ما أكره. هذا هو منطقه معي. حاجبه ينخفض إلى مستوى الحاجب الآخر. المنطق الآخر يقول أن عديّ بن زيد العبّادي والأخطل التغلبي وغيرهما كلّهم نصارى ولكنهم قبل نصرانيتهم شعراءُ البيئة اللغوية والبيئة الأدبية، وكلتاهما عربية، أحبَّ ذلك من أحبّ وكره ذلك من كره، تجابهني كلماتُه وكأنها مصوّبة إلى أذن عدوّ. أسبّ الساعة التي فتحتُ فيها فمي وسلّمت نفسي لمزاجه المشاكس. فيكتور الشرتاني لم يعد يُطاق منذ حَلَفَتْ عليه صاحبتُه بالطلاق لأنه ذكر البونيات والجنازير أمامها وأصرّ على المشاركة في معركة الانتخابات. مَرْلين تصرّ على ضرورة التصرّف الحضاري حتى لا نصبح مثل غيرنا وتسقط المقولةُ التي كلّفتْ أجدادنا وآباءنا نضالاً دام قروناً بقرون، تصرّ على ذلك وتصرّ في الوقت الذي تتسلح فيه الأحزاب والقوى المسيحية حتى لا يسقط لبنان في أيدي يأجوج ومأجوج والمقاومة الفلسطينية التي هي أحبّ على قلوبهم من جيرتنا. بعد ثلاثة أيام معركتنا معهم. ولا أعرف كيف سننتصر عليهم فيها، ونحن نِصْفُ بناتنا مثل برناديت، يشربن الشاي من أنوفهن، ومثل مرلين، يفضّلن الأتيكيتْ على الحرب.

النصفُ الآخر الذي يتدرب على السلاح منهن الآن سَيَفي بالغرض، أعزّي نفسي بنفسي، فتقاطعني ابتسامتُه المشاكسة وتقول لي إنه يعرف أنني أحدّث نفسي. تمتمةُ شفتيَّ فضحتْني. دائماً تفضحني العاهرة.

 

جابر عُبَيْدُ الله

لا بيروت ولا دمشق ولا بغداد ولا القاهرة ولا حتى مكة المكرمة، بل القدسُ وحدها، القدسُ وحدها معركةُ الغيب، فهي القِبلةُ المثلّثةُ المسطّحات، كهرم فرعوني بُنِيَ بأحجار وألواح ساميّة. كلّ الطرق التي تؤدي إلى روما أدّتْ إلى روما، وكل الطرق التي تؤدي إلى مكة أدّتْ إلى مكة، وكلّ الطرق التي تؤدي إلى القدس أدّتْ إلى القدس، إسراءً زمن المصطفى، ففتحاً سلاماً في زمن عمر، فاغتصاباً بالدم فانعتاقاً به زمن الصليبيين، ثم اغتصاباً إسرائيلياً بالدم سيحيلها إلى عاصمة الصلب بانتظار مجيئه الثاني ولحفرِ القنبلة الفراغية بحثاً عن هيكل سليمان تحت دعائم الأقصى.

غضّوا من أصواتكم، أحبّتي وطلاّبي، فالله أكبر الله أكبر في قلوبكم تخيفهم أكثر منها في أفواهكم.

تحت المسجدِ الهيكلُ، ذلك هو مكرهم الذي يمكرون لردّ مكرِ الكتاب الذي سرق أنبياءهم، يَدَّعونَ، وما هو بالسارق ولا المستعير ولكنه الحافظُ لما ضيّعوا وحرّفوا، تحت المسجدِ الهيكلُ، ذلكم هو الشِعْرُ المجسِّد الذي به يغنّون لِمِزقِهِمْ في الأرض السِّفْرَ الجديدَ، وبه يسقون شتولَ كرومهم لتحمل لهم عناقيدَ الغضب ولتسمّم جذورُها، يَرْتَجون، جذورَ كروم السيد المسيح، فنبيذُه لشعبه غداً لن يكون لشعبه رَوْحاً ورِيَّا.

غُضّوا من أصواتكم، أحبّةَ الإسلام، غضّوا، فلدرجات السلّم كما لحيطان القاعة الستة آذانٌ ترصد في نداوة الهواء تَرَطُّبَ أفواهكم باسم الذي له وحده الغيب كله وله العزة جميعا. الله أكبر الله أكبر في قلوبكم تخيفهم أكثر منها في أفواهكم، لأن الاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان من سمات انضباط القلب والعقل في طمأنينة توحّدهما. مَلَّ من إفراغنا فيه حماسةَ قلوبنا الهواءُ، فتنفُّسُ عقولنا فيه المرتجى. ودعوتي لكم اليوم إلى هذه القاعة هي حجّة للعقل على القلب الذي تفجرت شرايينُه بين الفلسطينين والقرى الجنوبية من صوب، وبين الأحزاب المسيحية والتيارات اليسارية والإسلامية من صوب آخر. والتدريبُ على السلاح الضاجّةُ به الأرضُ شهادة للأرض علينا أننا ابتلينا بالفتنة التي بعضُ مظاهرها في إطار صراعاتنا الجامعية المحاولاتُ المستميتة للهيمنة على أقسام التاريخ والفلسفة واللغة العربية وآدابها من قِبَلِ الذين يزعجهم أن يكون للعصر الاسلامي بأبعاده الثلاثة المكانةُ التي يستحقّها في برامجنا الجامعية. ولأنّ الناس أعداء ما جهلوا، فإسدال الستار على الإسلاميات، تاريخاً وأدباً وفلسفةً، سوف يُقصي أجيالنا عن ينابيعها التراثية ويجهّلها بها فتستصغرها وتستخف بها، كما هو المُشْتَهى عند الذين يزكّون العصر الفينيقي على حساب العصر العربي من تاريخ لبنان. ومن المظاهر الأخرى للفتنة أيّما مقولةٍ سياسية تتحدث بعروبة لبنان وتحذف من خارطة العروبة شبهَ الجزيرة العربية واليمنَ، مصدريْ الشعر العربي الأول ولغته، وتتنكّر للدور الذي لعبه العراقُ قديماً ومصرُ حديثاً في تاريخ اللغة العربية والأدب العربي. مظاهر الفتن شتى، والخير يُبتلى به كما الشرّ.

غُضّوا من أصواتكم، بحقّ المصطفى، أحبَّة الاسلام، فالله أكبر الله أكبر في قلوبكم تخيفهم أكثر منها في أفواهكم.

ولقد اختاركم الغيبُ، طلاّبي وأحبّتي، لتكونوا عينه ولسانه ويده، فلا تُلْهِكُمْ صغائرُ فِتَنِكُمْ فتستنفدوا فيها أرواحكم وأجسامكم. ومن مسوِّفاتنا عن معركة الغيب معاركُ الطرق، فلا تلهكمْ عن أفق الأقصى انتخاباتُ لجانكم وممثليكم. خوضوا معركتكم بعد غد بانضباط العقل والقلب فتوحّدُهما هو الطريق التي ستسدرجنا عليه إليها بغيبها القدسُ.

غُضّوا من أصواتكم، أحبّة الإسلام، فالله أكبر الله أكبر في قلوبكم تخيفهم أكثر منها في أفواهكم.

 

رَضِيَّهْ المَهادي

حينما ظنّتْ تغريد أنها هربتْ إلى الأبد من بيئتنا الجنوبية التي أصبحت تُحْرِجُها بملاءات نسائها وفساتينهن التي تمسح بأطرافها الأرضَ، ومن اللهجةِ الجنوبية التي تكسر كلَّ فتحةٍ ممدودة في اللغة، فحسّانْ حسّينْ، وكمالْ كميلْ، وشبابْ شبيبْ، ومن أكلاتِ الفراكِةْ والمَلْسِةْ والهريسة، وتزوجتْ المارونيّ كميل النَّسّار، المكسور الميم من دون مساعدة أهل الجنوب، قلتُ المجنونةُ طلعتْ من جلدها وغرّها أنّ بيتَ النَّسّار أولادُهم لهم الحقّ برئاسة الجمهورية ولهم فرصُ وظائف أهمّ من الرئاسة بكثير إذا لزم الأمر. قلتُ كما كان الناس يقولون. ولكم سمعتُ أمي في صبحيّاتها تبصق، وتبصق معها جاراتُها، على هاكِ الأيام التي صارت فيها بنتُ "هاتْ فِنْجينْ قهوة يا سَقّي" على باب قهوة البيدر تتعيّر بلبسنا وأكلنا وعاداتنا وتتشوّف، على حد قول أمي، على "شَبِيبِ البَلِدْ" الذين من ملّتها وملّة أهلها وأجدادها.

كنتُ آنذاك أعرفها ولا أعرفها وكنّا من عمر واحد. وكان أخوها علي تبحبح رزقُه في أبيدجان فكفَّ يَدَ أبيه عن بيع القهوة على البيدر وأجبر أهله، بعد أخذ وردّ وتهديد بقطع المساعدة عنهم، على نقل أخته من مدرسة الدولة إلى مدرسة الراهبات وحَطَّ لها معلمة خصوصيّة لتلاحق دروسها وتحسّن لغتها الفرنسية. كانوا تسعة شباب في البيت وتغريد وحدانية أهلها فجاءت البحبوحةُ على حظّ تغريد فتدلّلتْ في الراهبات معنا وصارت تلبس مثلَ لبس البنات في سنّها وتمشي على ممشاهن وتتحدث بأحاديثهن، وكانت قويّةً حربوقةً فلم تسمح لتلميحاتهن بأنها لا تزال بنت بائع القهوة على البيدر أن تكسر من طموحها شيئاً، فتعلّمتْ مثلما تعلّمن ونجحت مثلما نجحن، ونقلها أخوها إلى المدرسة الداخلية في صيدا، كما كانت تفعل العائلاتُ المهجرية الميسورة في الجنوب آنذاك، لتتابع دراستها في صف الفلسفة المختلط.

في صيدا تبدّلت علاقتي بها وتغيّرتْ أكثر مما كنتُ أحسب لها أن تتغير، فغربتُنا قرّبتْنا من بعض وَهَدَم ما تبقّى بيننا من سياج الحذر ترحرحُ الهواء في صيدا ونقاوتُه إلى حدَّ ما من حدّة الغيرة والشماتة التي تختنق بها أجواءُ العائلات المهجرية في الجنوب.

صحيح أنّ المدرسة كانت إسلامية وصيداوية بكل معنى الكلمة، ولكننا لم نكن بين بناتها ولا معلماتها غريبات، وأعجبُ عجبنا كان حينما اكتشفنا بعد شهور أن الطلاب المسيحيين في المدرسة كانت الإدارة قد اتصلتْ بالكنائس الصيداوية وأمّنتْ لهم "خوري" يدرّسهم ديانتهم في الساعة المخصصة أسبوعياً لمادة الدين، بدل تسكّعهم في الملعب في الوقت الذي يشرح الشيخ للطلاب المسلمين مبادئ إسلامهم. في تلك المدرسة اكتشفنا كذلك أنّ كَرَّم اللهُ وجوههم الإمام علي والحسن والحسين، ومعهم نهج البلاغة، ليسوا ملك الشيعة وأن الصيداويين يسمّون حسن وحسين وعلي ويحفظون خطب الإمام ويتبارون بها. وأغربُ الغريب أنهم كانوا يحبّون فراكتنا وملستنا وتطلب منّا زميلاتنا أن نحضّرها لهنّ في بيوتهن أيام الجمعة وأيام العطل، فكانت تغريد تنكر معرفتَها بكيفية تحضير الأكلتين وتطبّقني بكثيرٍ من الإلحاح أن أفعل مثلها بحجة أننا لسنا من عجائز القرى، من الدقّة القديمة. وهكذا كان، فبقيتْ زميلاتنا الصيداويات فاتحاتٍ أفواههن للهواء حتى تبرّعتْ بتعليمهن على تحضير الأكلتين بناتٌ من صور.

من الجنوب إلى صيدا كانت الرحلة أكثر من مسافة بين مدرستين. وقعتْ تغريد في حبّ أستاذ السيكولوجي وصارت تحلّله ويحلّلها، وكنتُ أنا، على غير إرادة مني أول الأمر، أرافقها إلى حيث كان يجب ألاّ تذهب وأطنّش على ما أسمع وأرى، رأفة بها وخشية أن أتركها وحدها معه فتكون فضيحةٌ تنال من سمعتها وسمعتي لأننا من نفس البلدة. رأيتُ وسمعتُ وأكلتُ الهَوَا وسَكَتُّ. والأيام أثبتتْ لي أنني لم أكن معصومة مثلما كنت أظن، فقد كنت أظن تربية أهلي لي كانت أفضل من تربية أهلها لها، لم أكن معصومة، ولأنني لم أكن، فسرعان ما تعلّمتُ أنّ القلب متى دقّ رأى بلمحةِ العين ما لا تحبّ له الطوائفُ والمللُ أن يراه. فيكف إذا ساعده عقلُه على ترجيح حساب على حساب؟

حساباتي، وحسابات تغريد قبلي، كانت، في نهاية المطاف، ترجيحاً لغيب على غيب. فأيُّنا، حين تزوجتْ وانتقلت إلى الأشرفية، كان يخطر ببالها أن أولادها ستصبح عليهم الأحياءُ الإسلامية من بيروت خطراً يهدد حياتهم كلما انفجر الوضع هنا أو هناك بين الطوائف والأحزاب وبين الفلسطينيين والجيش؟ خروجُهم وخروجهن من البيت صار لنا الآن محنةً، وبقاؤهم وبقاؤهن فيه، من أجلنا، لهم ولهن بلاء. وغداً شوارعُ بيروت ستكون علامة الاستفهام الكبرى لتهيؤ كافة المتقاتلين على الأرض للمشاركة في معركة انتخابات الحسم في الجامعة اللبنانية. أيُّنا كانت وقتها تدري؟ أيُّنا كانت وقتها تحسب إلا حسابَ الربح فتعدّد لنفسها الإمتيازات الشخصية والإجتماعية التي كانت تحلم أن يمنحها إيّاها الزواجُ من مسيحيّ؟ حساباتي، كحساباتها، كانت ترجيحاً لغيب على غيب. والآن تضيء إحدانا لهم ولهن الشمعةَ في الكنيسة، وفي سرّها تقرأ لهم ولهنّ  ما تيسّرَ من سور القرآن الكريم، كلّما ألَمَّ مرض أو اقترب امتحان. والحالة الآن أكثر من مرض وأكبر من امتحان.

لا، لا، لن أستسلم لكل هذه الأفكار، فأنا الليلة أملأ دفتر مذكراتي لأفرغ نفسي من نفسي وأنام، فكل يوم يحمل همَّه معه وكلُّ ليلةٍ أَرَقَها. الحياة يجب أن نؤرّخ كل لحظاتها، علّمتْني مهنةُ الصحافة، إلاّ أنّ الأدب، أجمل الأدب، كما علّمتْني المطالعةُ وأقنعتْني تجربتي، هو تأريخ اللحظات التي تستحيل في حياة أصحابها حِقَباً. الليلة إذن أفرغ نفسي في دفتري لأنام أو لأحاول أن أنام على الأقل، فغداً، كما تقول الرواية، يوم آخر، وقد يكون اليوم الذي أجلس فيه إلى مكتبي وأوراقي وقلمي وأبدأ فيه كتابةَ الرواية التي لم يكتبها عن المرأة في الجنوب المهجري بعد أحد.

 

إيميهْ رزق

 

" نَهْكاً نَهَكَ الناهِكُ جسدي !"

أيُّ مطلعٍ مُنْهِكٍ لقصيدة !

" لا يُحَلّي العُرْسَ مثلُ فضيحة !"

لا شيء بالطبع إلاّ إذا كنتِ أنتِ العروس يا ست تيريزا !

"زجاجةُ خمرٍ فمي ولسانُه فَلّينتُها !"

إذن لا تنسيْ أن تُفَرْشي أسنانكِ جيداً قبل العَشاء !

ثلاثةُ مطالع لثلاثٍ من القصائد تكفيني لليلة واحدة. ولماذا أنا من بين كل الناس اختارتْني لأرسم له غلاف ديوانه لو لم يكن في نيّتها أن تحرجني وتفتح سيرةَ قصائدها بعد وقوعي في الفخّ؟ من بين كلّ طلاب الفنون أنا لأنّ إسمي ايميهْ ومن بيت رزق؟ صدق الذي قال إنّ الحبّوبَ على أمره مغلوبٌ وإنّ الرزقَ السايب يعلّم الناس على الحرام. وإذا صحّ فعلاً أن الإسم أحياناً لعنة على صاحبه فإسمي كان عليَّ لعنتين اثنتين لولا أنْ أبطلَ أولاهما لقائي به أمس لنقرأ معاً قصيدةَ الصليبيْن فشدّني صوتُه إلى واحدة من خمرياته التي أنشدها لي بالحياء الشفيف الذي في صوته وعينيه، وعيناه من بين جفونه كعابر السبيل تعبران إليَّ المسافة وتمرّان كالصُدْفة على المُدَلّى من عنقي، وحينما بأطراف أصابعي أقلّب الصليب على حافة صدري تعبقان بشيء لم أره يعبق في عينيْ رجل قبله. أبطلَ أولى اللعنتيْن لقائي به وجرى صوتُه في أذنيَّ مجرى الألوان في عينيّ فتشكّلتْ في خيالي مشهديّةُ القصيدة، لوحيّتُها التي ربما أراد أن يحدثني عنها بصوته فنابت عن شفتيه عيناه، فتمّتْ لي الرؤيا، وأنا في غفلة عن الرؤيا، ثم ضيّعتُها حينما تنبّهتُ إلى غفلتي عنها، كما يملأ العينَ من الألوان لونٌ بعينه، تراه وأنت لا تأبه له ما يكون ولحظةَ تستفيق على إرادتك إيّاه يضمحل كأنه كائنٌ لم يكن وليس يكون.

المهم الآن أنه دعاني إلى مطعم أهله في صيدا لِيُبَرِّمَني في البساتين حوله ولِيُمَشْوِرَني على شاطئ صباه، ليريني كيف يتحوّل المكانُ من مجرّد مكان إلى لوحة رمزية بتسليط الوعي عليه، فالمطعم، كما يصفه، حدّاه لونان: الخضرةُ شرقاً والزرقةُ غرباً، فقبلتُ الدعوة وتمنّيتُ لو أذهب معه لحظتها لولا أننا في شباط. شكرتُه واتفقنا على البَرْمَةِ والمَشْوَرَةِ في أوائل نيسان.

ربّما المنهوكةُ تيريزا تطلع آخر الأمر أذكى ممّا أتصورها، فحدسُها هذه المرة مفحِم في دلالته على أنني لا أزال بحاجة لتوسيع أفق ثقافتي لتنمو رؤيتي لفنّ الرسم نموَّاً شمولياً في جذوره وتوجهاته. وتعطيني لذلك مثلاً، لا من تجربة رسّام بل من تجربة الموسيقي بيتهوفن الذي أدرك علاقةَ الفنون بعضها ببعض فطلب من الشاعر شيلر أن يكتب له قصيدة عن الفرح ليصوغ عليها المقطع الذي سيسمّيه في السمفونية التاسعة "أغنيةَ الفرح". ومَثَلُ تيريزا الثاني مأخوذ من تجربة رسّامي غلافاتِ الكتب والرسوم التوضيحية للقصص في الشرق كما في الغرب. خُذي اللوحات التصويرية لقصص الحيوانات في "كليلة ودمنة" مثلاً، تقول لي تيريزا. آخذُ المثلَ وأسكت لأنني أحس بأنها على وشك أن تستدرجني إلى الحديث عن مجموعتها الشعرية. وحينما تهجم على غرضها منّي تستعجلني وأذكّرها بأنها لم تجد بعد لقصائدها ناشراً، ترفع حاجبيها كالمصعوقة وتقول هل سمعتِ في حياتك أنّ كاتبة لم تجد لنفسها ناشراً؟ وتتبسم متمّةً جملتها، بخبث، آخر الأمر. ثم تدور حول نفسها دورتين وتنحني فوق رأسي وتهمس، وكأنما بسرّ يجب أن يبقى سرّاً بيننا، أنّ لوحاتي، مثل قصائدها، ستجد من يتبنّاها آخر الأمر، مهما تأخّر ذلك الأمر؟ أعرف في قلبي معنى ما تقول، ولكنني أحاول، وعبثاً أحاول، أن أضع في إطار لوحةٍ ملامحَ شخصيتها، ال essence الذي هو حقيقة تيريزا المرأة. ربما يساعدني هو في ذلك. يطلّ عليّ الصوتُ الذي بتُّ أعرفه من داخلي بلفظة لا. أتبسم له وأسكت.

تسحب مفتاحَها من الباب وتدخل، وصوتي الذي كاد يداعبها بِنَهْكاً نَهَكَ الناهكُ جسدي تبتلعه حنجرتي. تغلق الباب وتجرّر قدميها إلى سريرها وتستلقي على ظهرها مغمضة العينين. أقف فوقها ويسألها عمّا دهاها صمتي. أصابعها تتسلل إلى حقيبتها، تغيب فيها لحظة ثم ترتفع إلى عينيّ بشيء معدنيّ مسنّن سرعان ما أتبين فيه شكل البونيا. تفتح عينيها وتجيبني عن سؤالي بأنها وجدتْها  في حقيبة برجيس مع كتبه.

 

رندة الحَيْفاوي

ليلةَ ذهب مع أخيه إلى "مطعم نصر" ثم هرب في اللحظة الأخيرة من التجربة التي كان نصبها له مع المسكينة في شقة من شقق البناية التي تلي بنايتنا، ليلتها رأيتُه في منامي على غير ما ميعاد، ولم أكن أعرف من قصته تلك شيئاً. لا أذكر بالضبط أين كان وكنتُ ولكنّ المركب الذي كنّا فيه كان يعلو ويهبط مبتعداً بنا عن الشاطئ المظلم، والناسُ على ظهره يهمهمون بما لا نفهم ويتبادلون أمكنتهم حولنا وتضيق المسافة الضيقة بيننا وبينهم ثم ينحشرون بيني وبينه، والموجُ يعلو بنا ويهبط وحفحفةُ ثيابهم بثيابي تخنق الهواء المتبقّي لي في الفضاء فأصرخ صرخة النفَس الأخير فيرتجفون عنّي إلاّ يداً تشدّ على ذراعي شدّة التطمين فأحدّق في الليل فإذا لصاحب اليد وجهٌ تظلّ ملامحُه المحيّرةُ تتضح لعيني ملمحاً ملمحاً حتى أكاد أميّز فيه شيئاً من وجه غسان كنفاني فأصرخ به ألاّ يدعهم يفعلون بي ما يفعلونه بمريم أو يكادون في روايته عن ما تبقّى لنا ليلة تهجيرها مع الحيفاويين من ميناء حيفا. يصرخ من آخر المركب صوتُ سامح أنه لن يدع ذلك يحدث لي أبداً لأنّ ذلك ليس آخر ما تبقّى. تضمحل الملامحُ ويظلّ المركب يعلو ويهبط مبتعداً بنا عن الشاطئ كأنما إلى ما لا نهاية.

حينما رويتُ له الحلم في اليوم التالي ذبلتْ عيناه وبدا فجأة أقربَ إليّ من أية لحظة جمعتْني به من قبل. لحظتَها روى لي ما حدث معه في تلك الليلة، وكان حزيناً حزيناً حتى أنني أحسستُ بالندم على مساررته بحلمي الذي زاد على آلامه ألماً. ولكنّ كوّةً من غبش الفجر بيننا كانت تفتحها كلماتي له وكلماته لي، تقرّبنا وتبشّرنا بالخوف الذي وُلِدَ من أجلنا، نحن الذين قبله كنّا نسياّ منسيّاً.

إبقاءً على الخوف الذي وُلِدَ لأجلنا جفاني الليلة النومُ وجلّدتْ تحتي فراشي، وحرامي الذي في دقائق كانت تشعله أنفاسي المحبوسة فيه من أعلى رأسي إلى أصابع قدميّ، كأنما سَرَّبَ أنفاسي عبر فتحات لم أحسّ بها انفتحتْ بتقلّبي بين الكتّان والصوف. جفاني النومُ حتى مطلع الفجر وما هي حتى أسلمتُ أذنيَّ إلى الصوت المنفرد بالتسبيح يتموّج في الريح نحو شبّاكي ثم إلى الأذان يدعو إلى الصلاة التي هي خير من النوم فرددتُ عنّي الحرامَ وحصّلتُ نفسي في السرير على أقل من مهلي حتى لا تستيقظ ابنةُ خالتي قبل وقتها، وحينما استدرجتْ أصابعُ يدي كلساتِ الصوف من تحت مخدتي فَرَدْتُهما وشممتُهما كعادتي وسلّلتُ إليهما قدميَّ، وعلى أقل من مهلي تحسستُ طريقي إلى الممر الذي أخذني مباشرة إلى ركوة القهوة في المطبخ وقد تموّجتْ نفسي بشهيّة غريبة إلى البنّ، وأنا في الصباح شرّيبةُ شاي مثل كل أهلي، فمخيّمنا مخيّمُ شاي، يستيقظ على غليان البكرج ورائحة التبغ وينام عليهما. القهوة تأتي لاحقاً، دائماً لاحقاً. جدي، رحمه الله، سمعتُه مرة يرفع صوته على أخي سليمان لأنه بدأ نهاره بفنجان قهوة. تتشبّه بالصيداويين يا ولد؟ العاداتُ الفلسطينية كانت بالنسبة إلى جدي الترابَ الذي تركه هناك والذي كان يتشهى ألاّ يموت قبل أن يركع عليه ويشمشم رائحته مرة أخرى. رائحةُ الهال في البنّ فعلتْ بي ما كنتُ أتمناه فرفعتُ الركوة إلى وجهي ليلفحه البخار فلفحه وأنا أتنشق، لا رائحةَ البنّ، أحس فجأة، ولكنْ رائحةَ الخيانة. المخيّم كلّه عيون عليَّ. جنونٌ، قلتُ لنفسي، وقرّبتُ الركوةَ من النار فما كادت تفور القشوةُ حتى رفعتُها قليلاً عن مَطَالِ اللهب. الأحاسيس الغريبة تفاجئنا دائماً وتحفر لعيوننا الوديانَ السحيقةَ التي فينا ولا نراها. لا أريد أن أراها فما أبشع أن تغرّبنا عاداتُنا عن الآخرين لأنّ لهم عاداتٍ غير التي لنا، نهرتُ نفسي بفجاجة وملأتُ فنجاني الأول على أقل من مهلي حتى لا تنكسر القشوةُ على سطح الفنجان. إنحنيتُ فوقه على الطاولة وتنشّقتُ. هو علّمني ذلك، فبعض الناس، في رأيه، يرشفون بشفاههم والبعض الآخر بأنوفهم، وكلٌّ بالغٌ هواه. رائحتُه عَبَقَ بها وجهي كله، تنفّستُها مع البخار وابتلعتُها مع القهوة.

قبل أن تنهض ابنةُ خالتي وشريكاتها في الشقة من النوم تسللتُ إلى الشارع ومشيت. المحالّ كلها كانت أقفيةُ أبوابها تستقبل الريح. شارع أستراليا بدا لي خالياً كما أتخيل عادةً قارّةَ أستراليا قبل أن يكتشفها ويطأها أهلُ القارات الأخرى، فارغةً إلاّ من الريح المائجة في غاباتها في إثر ريح. مشيتُ وحدي ولا من سيارة أجرة أو باص مدرسة أو عربة خضار أو حتى كنغارو. نهار الجمعة على كل حال تخفّ فيه حركة السير قبل الظهر، فالجمعة للمدارس الإسلامية عطلة، قلتُ أعزّي نفسي. من كل شارع متفرّع إلى شارع الروشة كانت الريح تهجم عليَّ باردة تلسع الوجه لسعاً، ولولا تلفّعي بالمشمّع الواقي من المطر، فوق كنزة الصوف، لكنتُ أُصِبْتُ بأكثر من صفقة هواء. الشارع أخذني من نفسي فتسليتُ به عنها حتى قطعتُه إلى آخر موقع قدم فيه. النزلةُ التي تتفرّع من الشارع وتنزل إلى جهة حلويات الحلاّب نَزَلْتُها بحذر شديد خشية انزلاق قدميَّ فوق زفتها الناعم. النورُ الطالع على الرصيف من الواجهة الزجاجية نقلني من القارة الأخرى إلى بيروت.

وهكذا هكذا حتى أعطيتُ ظهري للريح. البحرُ من ورائي وكورنيشُ المزرعة من أمامي وليس لي، والله، إلاّ الصدق والصبر. تبسّمتُ ضاحكةً لنفسي رغم برودة الجوّ، فالحركةُ التي يعلّمونا في الجامعة أنها essence الوجود حرّكتْ في الوجود أكثرَ من شيء هذا الصباح. حرّكت الدورةَ الدموية في شراييني طبعاً. حرّكت الزمنَ في المسافة التي قطعتُها. حرّكتْ ذاكرتي بما أحبّ وما لا أحبّ. ولكنّ أهمّ ما حرّكتْه كان روحَ الفكاهة التي كانت روحي حُرِمَتْها زمناً. أم أن الفكاهة مظهر معكوس من مظاهر المرارة، واستنتاجي، إذن، في غير محلّه ؟ في كتابه عن الضحك يقول برجسون إن للفكاهة وظيفة، كما في النصوص الأدبية، وهي تصحيح الخلل في السلوك البشري، لا عن طريق القمع، بل بالمبالغة في تصوير الخلل إلى حد ال grotesque فلا يرى المشاهد أو القارئ نفسه إلاّ في موقع الضاحك من نفسه. فان صحّت هذه النظرية، سألتُ نفسي وأنا أجوز تقاطع اليونيسكو، فما الخلل الذي تصحّحه الآن فيَّ فكاهتي؟ ما بين تقاطع اليونيسكو والمفرق النازل بالشارع الفرعي إلى مباني كلية الآداب تجاذبتْني الإجاباتُ التي كان لا بدّ أن أذروها جميعاً للريح لتبقى لي من الفكاهة التي طرأتْ عليَّ لبقيّةِ اليوم بُقْيَا.

البَواقي من الدقائق التي تفصلني عن باتيسيري الجندول أغرتْني بمتابعة المسير، وإن كنتُ أعلم أنه لا يستقبل الزبائن قبل الثامنة. كورنيش المزرعة الآن كانت تقطعه السيارات على الميلتين. كانت دبّت الحياةُ على الأرض بمظاهر شتى. سآخذ النهار على مداه وعلى هواه، وسأحاول ألاّ أفلسفه، رشفةً رشفةً كما قهوتي وخطوةً خطوةً كما مشيتي، هكذا أحسبني فكّرتُ. ثم تمهلتْ بي قدماي عند مفرق السفارة الروسية، فالشجراتُ التي تظلّل رصيفيه لَكَمْ ظلّلتْنا وغيرَنا، ولكم ستظلّل مَنْ بعدنا ليظلّ في لغة الطلاب والطالبات شارعَ الغرام شارعُ السفارة التي تظلّل بالدعم مخيماتنا وقضايانا، كما ظلّلتْ في الطرف الآخر من الأرض الفيتكونغ في نضالهم ضد أميركا والمتعاملين معها من شعب فيتنام، وكما ظلّلتْ وحشَ الشاشة الكوبية فيديل كوسترو ضد جيرانه من كاوْبويات الغرب الأميركي. وحش الشاشة الذي رغم عَلْمَنَتِهِ الشيوعية فقسماتُ وجهه ولحيتُه الطالعةُ من غابات الهافانا تؤهّله للعب دور من أدوار أنبياء العهد القديم، لو كان يتجرأ على ذلك مخرجو هولييود. الخيمةُ الحمراء مظلّتنا وسيمزقها اليوم في الانتخابات فوق رؤوسنا شرَّ ممزَّقٍ يمينُ الأشرفية ويمينُ الأحزاب الدينية الأخرى، إذا استطاع ذاك أو استطاع ذاك، ولعلّهم ولعلّنا.

باتيسيري الجندول استوقَفَ قدميَّ على الآخر. طاولاته البيضاء معرّاة من شراشفها التي تلبسها في زمن الصحو، وكراسيّه تلفّ في مقاعدها الريحُ وتمضي. غريب كيف لا يزالون يتركون الطاولات والكراسي في أماكنها ليل نهار وكأن الطقس نفسه يحرسها من أيدي العابثين ومن نزوات المسلحين علانية وفي الخفاء، تعجبتُ في قرارة نفسي أنها تُتْرَكُ هناك وتبقى. جُزْتُ بعينيَّ واجهةَ الخمور الزجاجية والبرّاد الطويل الذي تُحفظ فيه الروستو وورق العنب بزيت والأجبان بأنواعها والمرتديلا والجومبون وكل ما يمكن أن يشتهيه محبّو الساندويشات، ثم أرخيتُهما على المقعد الجلدي الأسود الذي يزنِّر الحائط يسار صالون الباتيسيري. هناك جلسنا أول مرة جلسنا فيها منفرديْن. من وراء ظهر الشلّة تواعدْنا وذهبنا والتقينا. إستبقاني يومها على الغداء والنبيذ وحَطَّ على الطاولة كلَّ ما في جيبه. لم أكن أريده أن يتكلّف عليَّ ولكنه صاحب مزاج، ومتى ركبه مزاجُ النبيذ فالحكيُ معه تضييع وقت. أكلنا وشربنا وترحرحنا، فقد كان ذلك يوم أحد، والجامعة وأهلها في عطلة. وكان ذلك ثالثَ اليوم الذي صفّى فيه المخيّمُ واحداً من رجاله الذين كانوا يتعاملون مع المخابرات اللبنانية منذ نشوء المكتب الثاني فتأذى منه رجال كثير ونساء. كان يعرفه سامح، يعرفه أكثر مما كنتُ أتمنى، فقد كان طوال السنوات التي عمل فيها في الأونروا يميّل إلى مطعم الجمري لطعام أو شراب. وكان شرّيباً أكثر منه أكيّلاً وجلستُه كانت تمتدّ ما بين العشر والثماني عشرة علبة بيرة. ولم يكن يشرب إلاّ شْلِتْز، أغلاها.  وكانوا يحبّونه في المطعم لسلاسته ولأناقته ولأنه دفّيع. سامح أصيب بسكتة لسان حينما نقلتُ له النبأ، فقد كان من العسير عليه أن يتصور رجلاً تجتمع فيه كل هذه الصفات ويكون عميلاً. بعد ذلك كففنا عن ذكره، ولكننا كنا نعود إليه دون أن نلفظ اسمه، كلّما جرّتْنا مناقشة رواية كنفاني إلى موضوع الخيانة التي يجب استئصالها من التراث الفلسطيني والعربي لتتمكن الأجيال المناضلة من استرجاع الأرض المسلوبة. هكذا كان يفكر كنفاني في الرواية، وسامح قال لي أكثر من مرة أن كنفاني غامَرَ بكل وجوده حينما أشار بإصبع وقحة إلى العار الذي تكره شعوب الأمة أن يُشار إليه إلاّ بطريقة عابرة وكأنما لتنفي عن نفسها نقصاً ربما كان في أصل التكوين، أو ربما لتخفي تواطؤها المُضْمَرَ في الغيب في نسف سيارة كنفاني ومصرعه مستقبلاً. نُسِفَ من عالم روايته، يقول سامح، حتى لا يضيف عليه جديداً من حساب البقايا، فكانت له الرواية، بعده، مَحْياً ومَبْقى.

لا يحفظُ العِشْرَةَ من ليس له بَقْوَهْ، تقول أمي بنيّة التعريض بأهل المخيم الذين انتقلوا من تحت سقوف الزنك إلى تحت سقوف الباطون والحجر الرملي في أزقة صيدا القديمة وزواريبها بعدما رحل عنها إلى منسرحات الهلالية وعبرا العائلاتُ التي ترحرحتْ أحوالُها ولم تعد المدينة القديمة تليق بطموح بناتها وشبابها. ليس له بَقْوَهْ من لا يحفظ العِشْرَةَ، بمرارةٍ ترددها فنفهم عتبها على أم محمود وأم داود اللتين لم تدعسا أرضَ المخيّم بعد أن استأجرتْ لعائلتيهما الأموالُ المنهالةُ عليهما من محمود وداود في الكويت شقةً وشقةً قربها في شارع "مستشفى دلاّعة". حتى أزقة صيدا وزواريبها صارت دون المستوى. جدي، رحمه الله، كان يقول أن التشبّه بالصيداويين سيضيّع علينا فلسطين مرة أخرى. ولكنّ حِفْظَ العِشْرَةِ الذي كان لسانَ أمي كان ما آلمني أكثر وكان من جملة ما حملتُه معي إلى بيروت دون أن أدري، فمن يقنعني الآن، بعد الأربع سنوات التي قصدتُ فيها بيروت، أنني لم يَنْمُ فيَّ إحساس غريب متشعّب تجاه الأمكنة التي تردّدتُ عليها ولا أزال، والتي إذا انقطعتُ عن إحداها فترة لفحني منها تساؤلٌ وعتاب؟ قاعاتُ الجامعة، مكتبتها، قاعة المطالعة، الكافيتيريا، مداخل أبنيتها المفتوحة على الرصيف، الكنيسة القديمة عبر الشارع، والأرض العراء التابعة لها، نطلّ عليها من براندات أبنية الكلية بين حصّة وحصّة، والبيت القديم بطابقين في أعلى طلعة الشارع، والمسوّر بسور وطيء تطلّ من فوقه على المارّة أغصانُ شجرة "الفتنة" وقربها شجرة الياسمين، والذي غرفاتُه تستأجرها طالباتٌ من طرابلس وغيرها من مدن الشمال وقراه، ومحطةُ البنزين على رأس الطرف الآخر لطلعةِ الشارع، ومحطة الأوتوبيس على كورنيش المزرعة، فمقهى ومطعم سيمونيدس على رأس شارع السفارة الروسية، فالجندول الذي كان لنا ولغيرنا سياجاً خلفه يُرْفَعُ العَتَبُ وتتهافت اللهفةُ حديثاً فحديثاً فحديثاً، كلّها كلّها الأمكنةُ مخيّمي الآخر الآن، ومثل أمي التي ورّثتْني بَقْوَتَها، روحي تحفظ العِشْرَةَ من تلقاء روحي، ويا ويل جدي في قبره لو ساررتْه بما لا تسارر به أحداً، من تأرجحها، في لحظاتها العسيرات، بين حيفا التي عشرتي لها عشرة الذكريات في فم الأهل، وبيروت التي عشرتي لها عشرة العين والقلب والقدم، فهي الجيرةُ والمجيرةُ والسياجُ.

زمّور السرفيس العابر بالجندول أعادني إلى الرصيف،  وهالني ما كانت تتهافت به خواطري فكأنما كنتُ أودّع الأمكنة، لا أتذكرها، فأمامي، إلى أين لا أدري، رحيل قريب. الفكاهة كانت تخلّتْ عني وبرجسون كأنما انتقم لنفسه مني لأنني لم أتمّ قراءةَ كتابه بعد. فيلسوف الحدس والضحك تخلّى عنّي لأنني لم أكتسب بعد جدارةَ الاستمتاع بعلمه. هكذا إجتاحني إحساس مؤنِّب أدركتُ مرامَه. ولكنَّ برجسون لم يَعِشْ في المخيم ليعرف الفرق بين الضحك الفَكِهِ والضحك الممرور، تمرّدتُ عليه في سرّي وقرّرتُ أن لا أتمّ قراءة كتابه إلاّ بعد تخرّجي نهاية العام، لا قبله. قراري، الذي استحضرَ عينيْ أستاذ المسرح الحديث مبهوتتيْن بعلامة الرسوب التي نالتْها مقالتي في امتحانه، بغتَني بضحكة لم تطلع من قلبي ولكنها كانت كافية لتصالحني حدسيّاً مع الفيلسوف الفرنسي. كنتُ قد التففتُ ومشيتُ نحو مقهى سيمونيدس حيث أخذتُ نزلة شارع السفارة الذي قرّبني شارعاً من بيت  ماري، مرهِفاً بذلك إحساسي بالوقت.

بعد نصف ساعة تفتح الكافيتيريا، ومن الآن حتى الثامنة سأعدّ بلاطات الشارع. ولكنْ فوقي سقوفُ سبعِ برندات، يخطر ببالي، لسبعة طوابق، الأول للكافيتيريا والثاني والثالث لقسم الفلسفة والرابع والخامس لقسم الأدب الإنكليزي والسادس للمطالعة والسابع مغلق على ما فيه، فتنهض عيناي من سقف إلى سقف حتى تنتهيا من العدّ ثم تنخفضان إلى الرصيف، تفتشان عن البلاطة التي بها ينبغي أن يبدأ العدّ من جديد. الطوابق فوقي تشغل بالي مرة أخرى، فالإنتخابات ستجري في قاعاتها التي شهدت في العام الماضي عراكاً بالأيدي والكراسي، كما شهدتْ هجومَ أنصار "تيار الوعي" على الصناديق ورميها إلى الشارع حيث السيارات تنتظر للهرب بها وإخفاء الدليل على انكسارهم في عدد الأصوات. اليوم يوم حسم آخر والشباب الملتزمون جاهزون للتعامل مع كل طارئ، حتى طارئ الإشاعات التي تسرّبتْ إلينا عن أساليب عنف ستنزل إلى الساحة للمرة الأولى. فَرْزُ النتائج يتأخر إلى المساء، ومن الآن حتى ذلك الوقت ستنكشف النوايا وتتعدّل خطط المواجهة على ضوء المستجدّات أوّلاً بأول.

الأصواتُ تنزل مع أصحابها من أعلى الطلعة ولا تسبقهم إليّ، فاليوم يوم الهمس والخفض والحديث من طرف الشفاه ومن زاوية الفم وبالغمزة ورفع الحاجب وإيماءة الرأس وفقشة الأصابع. أفواههم وأيديهم في حركة، وهم يجوزون بشجرة "الفتنة" وشجرة الياسمين مسترقين النظرة تلو النظرة إلى شبابيك غرف الطالبات الشماليات. خلفهم رفّ من ألوان القبعات الصوفية ووجوه أعرف أنها تعرف مهمتها اليوم. فبالرغم من تسيّس الصراع وتطيّفه يظلّ اليوم يوم المرأة، فهي صوت، وصوت أنوثتها الصوت الذي به تُستدرج الأصواتُ إلى فتحات صناديق الاقتراع لتهوي هناك وتبقى. تتجمد عيناي في الثوبين الطويلين إلى الأرض، ينحدران خلف رفّ القبعات الصوف وكأنما انحداراً، لغياب حركة الأقدام من المشهد. إذن هي ورفيقتها مبكّرتان هذا الصباح. ترتدّ عيناي عنهما إلى أسفل الشارع فتتصدّع فوقي سقوفُ البراندات السبعةُ. صدفةٌ مجيئهما معاً أو موعد للقاء؟ بلاطات الرصيف تأخذ مني عينيّ. سامح صاعدٌ إليَّ من الجنوب، وهي، مع الراهبة الأخرى، نازلة إليَّ من الشمال، وأنا يعصرني انقباضُ المسافةِ بينهما مع كلّ نقلةِ قدمٍ خطوتين فخطوتين فخطوتين.

كيف أحارب مَنْ لثوبها دالّةٌ على روحه وتسفح من أجل خلاصه العطاءَ نقيّاً، حبَّها له في الله الذي هو له إله ولها إله وفي المسيح الذي يتقاسمان بالمحبّة ذكرَه، هي التي اعترفتْ له، فاعترف لي أنّ خلاصها في خلاصه وأن روحها التائهة وجدتْ أخيراً قضيّتها على الأرض، فهو essence وجودها، صليبُها الذي ستحمله على طريق جلجلتها لتكون جديرة بالنداء والنداء الذي هو وَحْيٌ لها منه، ذلك الذي سفح من أجل الخلاص العطاءَ نقيّاً نقيّاً؟ وفلسطينُ بيننا ولنا، تحبّها هي من أجله هو وأحبّها أنا من أجلها هي، فكيف تعيش على حبّ أرضي، وعلى أرضها أنا، وتجرؤ روحي على هجسة الشّرّ ما بيننا؟ عداوتُنا وُلِدَتْ مَيْتَةً وباقيةٌ حربُنا رغمنا. يأخذاني إليهما من بلاط الرصيف فهفهفةٌ وهفهفةٌ موجعة. يحدّثاني هنيهة عن الانتخابات ثم تتسع الدائرة بنا صوتاً فصوتاً ثم يختلط بعض الأصوات ببعض وتضيع في مرج الأفواه دائرتُنا لتتقطع شللاً صغيرة، فيسود الرصيفَ المتصل بمدخل البناية، فيما يسوده، الهمسُ والغضُّ والخفضُ والسعالُ والنحنحةُ وشعطةُ أعواد الكبريت تُشْعَلُ بها السجائرُ وشحطةُ قدم وانبغاتٌ بلقاء بعد طول غياب وعناقاتٌ وطَقْشُ قبلات. أركّز عينيّ وفكري على تفاصيل المشهد لأخرج من دائرتيهما. تخترقني نظرتُه ويفهم. ولكنّ شيئاً فيه يتمرد على أحاسيسي، فيبتسم، وكأنما بأسف، ويدير ظهره ويمشي مع مجموعة منهم ومنهن نحو الدرج ليغيبوا واحداً واحداً واثنين اثنين في عطفة المستديرة الأولى الصاعدة بهم وبهن إلى الكافيتيريا والطوابق الأخرى.

أمسيتُه الشعرية في الغزل والخمرة، إذن، فتحتْ عليه أبواب كل شيء وكسرتْ دائرةَ الرعاية التي كنتُ أحيطه بها وحدي، فالراهبةُ أمسكتْ لا بيديه، بل بروحه الهفّافة إلى قداسة ضوء، وتركتْ نهباً لسواها عويلَ جسده الضارب في التراب أينما وجد الأرض، فأنا الآن تلّةٌ من التلال التي تلفظها الأرضُ مكاسِرَ لذيّاك العويل المضّرج بالريح والبرق والرعد والسيل المصبوب كلّه من كل فجّ عميق. وها هو الشارع تنبتُ فيه التلالُ وتنحدر في عينيَّ إليَّ، فَإيميْه، بعد جْريسْ، تَرْتَعي روحَه، لا بنيّة الخلاص والتخليص ولكن بغلاف الكتاب الذي قصائدُه ترتعي روحَها، فيتغلغل أحدُهما في الآخر على مرأى ومسمع من جسد منعّم بحرّيّة لا تحدّها حصانةُ ثوب. إتفقا عليَّ، الدينُ والفنُّ، وكسرا دائرةَ رعايتي له، ولم تنفعني المظلّةُ الحمراء في قليل أو كثير. لو كان لماركس حدسُ برجسون لتبدل في التاريخ شيء كثير ولشرّعتُ في معركتي معهن سلاحاً غير سلاح بلقيس وغير إعجاز الخلاص وغير إيحاء الخطوط والألوان، ولكنتُ، لا، لن أكون إلاّ وسوى نفسي، أنا رندة الحيفاوي، بلحمي ودمي وإرادتي على الدرس والتحصيل لأتخرج نهاية العام ولألتحق بمدارس الأونروا، كإبنة خالتي، فأثبّت في الأرض قدميَّ، ولأصنع، على مرأى من الشمس ومسمع، سلاحَ قضيتي، وكل القضايا، فأهذّب كتابتي الأدبية كما هذّبتُها من قبل وأبدأ من حيث انتهى كنفاني فأضع روايتي الأولى عن الوجه الآخر للتجربة الفلسطينية مركزةً على التوجهات الجديدة التي تتوجهها الفتاةُ الفلسطينية التي عبرتْ قدماها عتبةَ المخيم وعتابَ الوجوه التي لا تفهم من معاني الحرية إلا رجولتَها. ما تبقّى له ولجيله كان حساب البقايا وما تبقّى لروايتي فبقايا الحساب. وقتَها تنكسر الدائرةُ التي رسمتُها حوله وحول نفسي بنفسي فأقفز حرّةً في الهواء وأحلّق بجناحين سيبهر عينيه وأذنيه خفقانُهما، فيضرب هو في الريح بجناحين وينأى عن التلال كلّها إليَّ حيث أنا له في الريحِ الإعجازُ والإيحاءُ وتلّةٌ طيّرتْها له الأرضُ، مهفهفةً، ترابُها خير له وأبقى. اللحظةُ وَلَدَتْ حدسَها، فلأثبّتِ الآن قدميَّ في الأرض وأؤدي واجبي المشعّب في يوم الانتخابات هذا، فغداً وغداً وغداً يوم آخر.

من مخيمات صيدا وصور وسائر الجنوب تلتفّ حولي الوجوه الفلسطينية الملتزمة تبحث في عينيّ عن نظرةِ تقييم لاجتماعات البارحة وليلة أمس فأفتح عينيّ في الوجوه وأصلّب عنقي وأقول حساباتُنا في محلّها وخطّتُنا كما رُسِمَتْ وتجنُّبُ المشاداة والإنجرار وراء الاستفزازات المدروسة نلتزم به حتى آخر لحظة، فلا يعجب كلامي بعضَهم فتهتزّ بالإستخفاف رؤوسٌ، فأكرر قولي، بينما شيء في داخلي يحدثني بأن الإشاعات إذا صحّتْ كلها فاللحظةُ سوف تتحكم باللحظة، وآخرُ الدواء الكيّ. أصرفهم إلى مهماتهم في أبنية الكلية الثلاثة ولا يأتي على ذكر الأسلحة منّا أحد، وما كنتُ لأصدّقهم ولو حَلَفوا، فابن المخيّم يخبّئ سلاحه في سيكارته إذا انحشر، لطول ما تهجّر وطورِدَ وكُبِسَ وتفتّش. تمرّ بمحاذاة الرصيف سيارة سوداء صغيرة على مهل، والشبّان الذين فيها غرباء عليَّ، إلاّ واحداً، الجالس بجانب السائق، أعرفه من الكافيتيريا بإسم برجيس. نظرتُه لا تريحني، ويثير شكوكي تلفّتُ الشابين في المقعد الخلفي للسيارة. الإشاعات حيّة في خاطري ولكنّ استسلام الخيال لها يشلّ الإرادة عن التحكّم في الموقف، وهذا ما لن أسمح به أبدا. أعطيهم ظهري وآخذ في محادثة ممثلي الأحزاب اللبنانية اليسارية والتقدمية والدينية عن قصد وتصميم ليفهم الشبّان الأربعة أن حركات التشويش، كتمهّل السيارة بقربي والإلتفات المتعمّد إليَّ للإيحاء أنني مراقَبة، كلّها دعستُ عليها ومشيتُ. وقبل أن أميّز مَنْ فيها، تمرّ سيارة أخرى مرسلةً من أشكمونها صوتاً مشحوناً يخزّق الأذن، وتَجْعَرُ ثم تجعر ثم تجعر حتى تختفي أسفل الشارع وقد انعطفت بسرعتها المجنونة نحو شارع أبي شهلا. الأرجل والوجوه الآن على الرصيف وفي قلب الشارع، تفتش عن السيارة التي لن يأخذ تشفيطَها اليوم أحد إلاّ على محمل الإستفزاز. ولكن السيارة في منأى عن العين. شباب الأحزاب ينهمرون من البنايات الثلاث فيرابط بعضهم على مداخلها، وقد اتخذتْ أجسامُهم هيئةَ الجاهز والمتحفّز لكل طارئ، وبعضهم الآخر تضرب الزفتَ أقدامُهم ضرباتِ النحن هنا ويحوّمون حول سيارة الشبّان الأربعة. من شبابنا يضرب شابٌ بكفّه المنبسطة على ظهر السيارة وينخّ مشيراً باليد الأخرى لمن في داخلها أن يبعدوها من هناك. السيارة لا تتحرك. على الرفراف الأمامي والرفراف الخلفي يصعد شبابنا وينزلون مرة بعد مرة والسيارة باقية في محلّها لا تتقدم ولا تتأخر. ينزلون وتقبض أيديهم على الرفرافيْن ويضغطون نزولاً فصعوداً فنزولاً فصعوداً فتنخضّ السيارةُ بمن فيها وتنخضّ. تنفتح الأبواب الأربعة ويخرج منها الشبّان ويخاطب برجيس شبابنا بلهجة متهكمة أنّ مَنْ يريد إبعاد السيارة عليه أن يبعدها بنفسه. يُسقِطُ مفتاحَ السيارة في جيبه ويتمشى على مهله نحو الرصيف الذي أنا عليه. أقرّر ألاّ أُنْزِلَ عينيَّ من عينيه فحالةُ الإستفزاز واضحة والإنسحاب منها صار الآن وراءنا. يقف في وجهي تماماً وينظر إليّ بإستخفاف. لا أعتقد أنكِ لبنانية، يرجمني صوتُه المستخفّ. لستُ بحاجة إلى بطاقة هويتكَ، أردّ عليه وقد تمالكتُ نفسي. ولكنكِ بحاجة إلى وطن، يرجمني من جديد. يدفشه أحدُ شبابنا ويتهمه بالتمرجل على امرأة. يردّ على الدفشة بدفشة، وصوته المستخفّ يقول نعم أتمرجل عليها لأنني لم أصادف بعد رجلاً. أرفع يدي لشبابنا فيلتزمون أمكنتهم متمالكين أصواتهم وأيديهم معاً. تتمنّون خروجَنا من لبنان حتى لا يكثر بنا عددُ خصومكم؟ أطمئنك أننا سنخرج، وعبر حدودكم الجنوبية، أصفعه بما أعرف أنه لا يحب سماعه. وهل يكون خروجكم باحتلال قرى الجنوب واستخدامها، كلّ حزب من أحزابكم، لأغراضه الشخصية؟ أم باحتلالكم لحليفتكم صيدا، كما حدث أيام الكفاح المسلّح؟ قالها الحقودُ، قال الشيءَ الذي لا أحبّ سماعه، الشيء الذي لا ينطبق على حساب البقايا بقدر ما ينطبق على بقايا الحساب. أصعفه وكأنني لا أصفع رجلاً، بل ذكرى، ذكرى كنفاني نفسه، لأنه تجرّأ وفتح حديث الخيانة ثم أغضى، أو ربما لم يسعفه الحدسُ، فأبقى مغلَقاً على أوراقه الثائرة حديثَ الخطايا التي يمكن لسكرة السلاح أن ترتكبها في حقّ الجيرة التي احتضنتِ السلاح وتظلّ تحتضنه حتى بعد تخلخل سياج الجيرة، فلماذا أغضى، ولماذا تخلّى عنه حدسُه، فلم يجنّبنا نَعْرَةَ البَقْوَهْ التي هي لسان أمي، وقد ترتدّ علينا من الجيرة صمتاً أشدّ من التخلّي ساعةَ تدقّ ساعةُ الحرب، حربنا الفاصلة مع اسرائيل؟ يصفعني، ولا ألومه، الحاقدُ، ولا أراه إلاّ مرميّاً على الأرض، كأنما اختطفتْه أيدي شبابنا في الهواء اختطافاً. أفيق من وهلة الصفعة على أصوات نسائية تصرخ فوق برجيس، وإذ من بين النساء تنهض برناديت، يدها تشدّ بيده لتنهضه عن الأرض، وحولها مرلين وإيميه والشبّان الثلاثة واثنتان أراهما لأول مرة، نظراتُهن إليَّ توقظ في عينيَّ مريمَ، أخت حامد، تتجوّل عيناها بعصبية في نواحي مطبخها. ثم يمضين به بعيداً عن المبنى إلى الرصيف الآخر ثم يتجهن به صعوداً إلى رأس الشارع، ومع كل خطوة أو خطوتين يكبر عددُ اللاحقين به وبهن حتى يختفي الجمع في كورنيش المزرعة إلى جهة محطة الأوتوبيس. كان يجب أن نلقّنه درساً أقسى حتى يتربّى به الآخرون، يرتفع صوتٌ بالتعنيف. ألتفتُ بغضب وأصرخ بصاحب الصوت، بِهَفْوَتْ البيشْ نفسه، ذلك المتطرّف الذي لا همّ له إلاّ تأجيج النار ليدفع بنا كلّنا إلى أتون اللهب حتى بعدما اتفقت الأحزاب ليلة أمس على الالتزام بضبط النفس لتتم الانتخابات هذه المرة فلا تُؤجّل إلى ما لا نهاية، أصرخ به أنّ لَكْمَ الخصم بالأرجل كان خطأً فادحاً قد ندفع ثمنه غالياً، فيحتدّ صوتُه بكان شرّاً لا بدّ منه وبأولئك لا يفهمون إلا اللغة التي يجيدونها. أفتح فمي وأغلقه على صوته هو من ورائي. ألتفتُ إليه، فإذا خليط من الدهشة والبلبلة في عينيه وخليط من القلق والإستفسار في عيون الراهبتين. متى نزل ثلاثتهم من البناية لست أدري ولست أدري ما ينبغي عليَّ قوله حتى لا يزلّ لساني بما لا أحبّ فيُفتضح من أمري أمر. فكاهة الروح لا تسعفني، وأنّى لها، والهواء البارد يشتد علينا مثقلةً لسعاتُه بالإنتظار الذي كنتُ أراه في عينيْ جدي وهو يجلس على باب بيتنا في المخيّم، ساعة العصر، لا يدري من أي الزواريب نعود إليه من مدارسنا. أصلّب عنقي في هبّات الهواء وتبتسم إرادتي على شفتيّ. لا برجيس ولا الراهبة ولا هَفْوَتْ البيشْ ولا الباقياتُ والمستبقَياتُ من هفوات سلاحنا وخطاياه، ولا ما تركه لنا ناقصاً ناقصاً ومبتوراً مبتوراً من الوجوه الأخرى للتجربة الفلسطينية أدبُ كنفاني، لا هذه ولا تلك، ولا كلّها مجتمعة، ستكسر الريشَ في جناحيَّ اللذين رغم الخدشات سينهضان بي إلى قدري، لأنني لن أكون إلاّ وسوى رندة رندة رندة رندة الحيفاوي. أخوض على عمد في حديث مشترك معه ومع حصانة الثوب التي تُجَرِّؤها عليه وأستدرجهما إلى عينيَّ بصوتي الذي لم يعد ينتظر شراكةَ الأصوات ليصبح صوتاً. أصواتٌ ما تأتينا ضعيفةً في الريح وكأنما قادمة إلينا من فجّ عميق. نتلفّتُ في كل اتجاه ولا نعرف لها مصدراً فنتلفّتُ من جديد. من الرصيف الذي نحن عليه ومن مداخل البنايات ثلاثتها الأصواتُ من حناجر شبابنا تعلو في كل الاتجاهات على الأصوات القادمة إلينا وكأنما من فج عميق. من رأس الشارع أقدامٌ محشورة بأقدام وأكتافٌ بأكتاف ومعاطفُ مفتوحة في الهواء بمعاطف مفتوحة في الهواء ولولحاتُ أيدٍ بلولحاتٍ، حشد هائج ينزل نحونا ويظل ينزل، تتقدمه غِلاظٌ من الأبدان بخطى مفرشخة تدق الزفت تحتها دقات النحن هنا، وشبابنا يسدّون مداخل البنايات ليمنعوا اقتحام الغضب لمراكز الاقتراع لإيقاف عملية الانتخابات التي نعرف أنها لصالحنا سلفاً. تنفتح في صفّ الأقدام الأول من الحشد فتحةٌ يطل علينا منها وجهُ برجيس، ويدٌ له تلولح في الهواء والأخرى في جيب معطفه فتتحرك في عينيَّ من جديد مريمُ، أخت حامد، تتجول عيناها بعصبية في نواحي مطبخها. عينا برجيس تجوزاني وتحطّان كأنما على هفوتْ البيشْ، فأردّد النظرَ بينهما وأعيد، وما هي إلاّ لحظة كلحظات الغفلة حتى ينشقّ جيبُ المعطف عن يدٍ قَبْضَتُها مسنّنة بأسنان البونيا، وإذ بالأيدي ترتفع على صرخات الوعيد وتلتحم الأقدام بالأقدام والأيدي بالأيدي. البيشْ ضاع لا أعرف أين وبرجيس عيناه في كل مكان ولا مكان. من على بعد خطوات تأتي صيحاتٌ تنفرج لها فسحةٌ وإذ بحَمَلَةِ الجنازير يفرشخون ما بين أقدامهم وتأخذ أيديهم وأذرعهم تدور في الريح، وما أن يهمّوا بالتقدم نحونا حتى ترمي بنفسها بيننا وبينهم مرلين، تصرخ بهم أن لا يهدموا في لحظةٍ ما بناه النصارى لأنفسهم وللبنان في قرون وقرون. إيميه ترمي بنفسها هي الأخرى إلى جنب مرلين وتندفع نحوهما برناديت في اللحظة التي تنصبّ على رأس مرلين حلقاتُ واحدٍ من الجنازير الطائرة نحونا في الهواء. مرلين تهوي فتهوي فوقها إيميه فارشةً حولها يديها تحميها من الأقدام الغاضبة. شبابنا يرفعون الكراسي في وجه الجنازير كما هي خطّتنا من الأساس. تعلق أطرافُ الجنازير بأرجل الكراسي ويبدأ الشدّ والنتعُ وتقصر المسافةُ حلقة فحلقة فحلقة حتى تلتحم الأيدي بالأيدي ويعلو صراخ عظيم. البونيات تملأ الهواء، لا يزاحمها فيه إلاّ صرخاتُ المطعونين بها. تنفتح من ناحيتنا السكاكينُ بستّ طقّات فيتعادل صراخ من هنا بصراخ من هناك ويسقط من هنا وهناك ما لن أحصي له عدّاً. صوتُ سامح من ورائي يصرخ بي أن انتبهي فألتفتُ بجفلة، وإذ بيد برجيس ترتفع في الهواء وهو يقترب مني، عيناه لا تريان شيئاً غيري. مريم تفتح عينيها في عينيَّ. على طاولة مطبخها تلمع شفرة سكين. تمسك بها يدي وأنتظر. جْريسْ ترمي بنفسها بيني وبينه. حصانةُ ثوبها لا تعني ليده شيئاً. البونيا من فوق كتفها تخترق الهواء إليَّ لتصبَّ في الكتف التي حشرتْ نفسها بيني وبين اليد الحاقدة. صرخةُ سامح لن تعادلها إلاّ صرختُكَ يا برجيس. تلوّح له في يدي سكينُ مريم أن تعالَ وخُذْها منّي يا صديق السلاح. سامح يهجم بغضبه، ويدٌ له تشدّ على الكتف المطعونة. البونيا ترتفع من جديد وترتفع بينها وبين سامح ذراعا جْريسْ. صدرُها يتلقّى الطعنة. خُذْها الآن مني إذن أيها الحاقد فلقد سَوَّفْتُها لكَ بالصبر طويلاً طويلاً. لا أعرف أين أصبتُه، فرأسي كأنما طار يطير فجأة في الهواء، وهذا أنذا أحسّني أتهاوى إلى الأرض، عيناي غَبَشٌ في وجهي، وصوتي كأنه الصوتُ أنْ لا، لا يمكن أن يحدث ذلك الآن، ففي أول الطريق أنا، وجناحاي لم ينكسر بعد فيهما الريشُ، فَإنْ هي إلاّ خدشات وخدشات، وها هي الطريق أمامي، ها هي ذي في الغبش تفتح لي من المسافة عمراً، بَقَاءً لي كان ذلك العمرُ أم اسْتبقاءً، ما هَمَّ؟

 

عَبَدْ البَرْبوشْ

من كل الزواريب تَنْصَبُّ رفوفُ الناس في ساحة ميرة السمك كأنهم عَدَّانُ الماء في البساتين انفتح على وسعه فاندفع بكل زخمه، لا تلحق به رِجْلٌ ولا يد ولا عين، والساحة كأنها الجلّ الذي ينفلش فيه العَدَّانْ فتشرب منه الأرض ويظل الماء يعلو ويعلو بين أكتاف التراب حتى يغطي التراب كله. وساحةُ السمك اليوم مثل "بَحْرِ العيدْ" في العيد، ولكن بدون المراجيح المنصوبة للأولاد ولا بيّاع الزمامير والبلاوين ولا عربة الفستق والبندق والبزر المسخّن ولا غزل البنات ولا كشك الفلافل والطُرْشي بخردل ولا صدر السمسميّة على رأس بائع السمسميّة ولا بائع المعلَّل يكسر أصابع المعلَّل ولا حبال المَلْبَنْ المدلدلة في الهواء، اليوم ساحة السمك لكل الناس، وليست للصيادين وحدهم والمشترين والمعيّدين، لكل الناس من الكوزينا إلى سينيق لأنّ السمك خلقه الله في البحر ليصطاده كل الناس، مثل الطيور في السماء، ولم يخلقه للدولة لتؤجّره مع البحر للشركات التي تشتري الوزراء والنواب وتقطع رزق العيال التي تعيش من البحر ولا تعرف إلاّ شغلة البحر. من جسر الأوّلي إلى جسر سينيق، صوتُ الريّسْ مَرَّ علينا في الليل لنكون معه ومع الصيادين اليوم لأنّ البحر إذا انسرقَ وسكتْنا عن سرقته فماذا بعد البحر يبقى من كرامة صيدا ؟ في ال 58 حاولوا أن يدعسوا كرامتنا في الكوزينا، حاولوا أن يسرقوا جيرةَ النهر منّا، النهر، الذي كالبحر، خلقه الله لنا وليس للدولة، واليوم يحاولون أن يدعسوا كرامتنا في البحر، كأنما يريدون أن يحرمونا من كلّ جيرة ماء. كما نصرتَنا يا الله في ال 58 سننتصر اليوم بآيتك الكريمة "وجعلنا من الماء كل شيء حي." 16 أو 17 سنة بين معركة النهر ومعركة البحر، وكلّنا كبرنا، 16 أو 17 سنة، كلّنا كبرنا، وبعضنا ذهب إلى رحمة الله، وبعضنا أصبح خِتْياراً في بيته، بيننا وبينه عتبةُ الباب، فآهِ من عجز قدميه الذي يمنعه من أن يكون معنا، وآهِ من العجز الذي يحرمنا من عِشرة صوته ينضاف إلى أصواتنا في وجه الذين يتاجرون ببحر الله، وبعضنا أصبح أباً لصبيان وبنات، فكيف سيحبّنا ويذكرنا بالخير أولادُنا وأولادُ أولادنا إذا فتحوا أعينهم غداً ليكتشفوا أننا ورّثناهم مدينةً للذلّ والخنوع ولم نحرس لهم كرامة الماء بين الأوّلي وسينيق؟ معكَ اليوم، يا"أبو الفقراء"، نحن، كما في كل يوم، وقلوبُ الذين رحلوا عنّا معكَ، ومعكَ قلوبُ الذين بيننا وبينهم عتباتُ بيوتهم، يمنعهم العجزُ أن يعبروها إليك. معكَ أصواتُنا اليوم، عاليةً في وجه المتاجرين ببحر الله، وعاليةً فوق ضمير الذين من مدينتنا باعوا أنفسهم لأول مُشْتَرٍ يا "أبو الفقراء".

أشدّ محمود من يده وأقرّبه إليَّ حتى لا أضيّعه في هذا العَدَّانْ من الناس فيحاول الإفلات مني ويقول إنه كَبُرَ على مَسْكِ يدي، فأقول له وإن كبرتَ فأنتَ لا تزال في عيني وقلبي البربوشَ الصغير، فينتع يده من يدي ويرجوني أن لا أحرجه أمام الناس وخاصة إذا التقى برفاق مدرسته. أعرف أن الحقّ معه، ولكنّ هذا الحشد يخيفني، وإن كان يرضيني كرامةً للريّسْ، فالساحة مثل يوم القيامة، رؤوس تموج في رؤوس، وأصوات في أصوات، وكأننا لسنا في شباط وساحة ميرة السمك كأنها ليست مَلْطَشاً للريح. فجأة تعلو الأصوات بالهَوْبَرَةِ من جهة القهوة التي في آخر الساحة، وإذ بألواح من الخشب تخرج من مخزن للخشب في البناية نفسها، ترفعها الأيدي فوق الرؤوس والأكتاف ثم توقفها على الأرض، ويصل إليَّ الصراخ بالخبر أن بعض الشباب من فرط حماسهم دخلوا المخزنَ المفتوح وحملوا الألواحَ ليضعوها كالمتاريس بينهم وبين الجيش إذا هاجمهم في "ساحة النجمة". وتهدر الأصوات بالله أكبر، يا ريّسْ، والريّسْ إنتي، يا ريّسْ، فيدقّ قلبي ويرغرغ فيه شيء من رغرغة أيام زمان، أيام المقاومة الشعبية ومعركة الكوزينا. الله أكبر، يا ريّسْ، والريّسْ إنتي، يا ريّسْ، وترتفع ألواحُ الخشب عن الأرض وتمتد في الهواء فوق الرؤوس ويبدو لي أنها ترجع إلى الوراء، فأهزّ رأسي وأعرف أنه وصل الريّسْ، وأنه أمرهم بإرجاع الألواح إلى المخزن، إلى أصحابها. تعلو الأصوات بالهوبرة من جديد ويعلو الريّسْ محمولاً على الأكتاف، ويداه ممدودتان في الهواء، تمسك بهما من هنا وهناك أيدٍ لعلّها أيدي الصيادين. بين القهوة التي في آخر الساحة والقهوة التي تواجه الرصيف الخشبي الداخل في البحر، تماماً فوق مكتب اللينشات البحرية، ينفتح شبّاكٌ من شبابيك بيت ويطلّ منه رأسُ رجل لا أذكر أنني رأيتُه من قبل، هيئةُ العمر عليه وشيبتُه تطير في الهواء على رأسه ووجهه، ولا تتحرك يداه الممسكتان بشيء كأنه مكبّر الصوت. وجهُه ملتفتٌ إلى الجهة التي يأتي منها الجمعُ بالريّسْ محمولاً على الأكتاف. أتمسك بحديدةٍ لشبّاك المقهى، ويتمسك بي محمود، فشيء في هيئة الرجل يقول لي أنّ في وجهه كلاماً وأنّ في الكلام شيئاً من حديث جدي لي عن الغمزة التي يغمزها القدر ويتركنا لنفسّرها بأنفسنا قبل أن تبغتنا بغتةٌ من بغتات الغيب. هواء شباط اليوم ليس هواءَ البساتين، فلماذا طاوعتُ صوتَ الريّسْ وتركتُ الأرضَ التي أوصاني جدي ألاّ أتركها فأتيتُ إلى هذه الساحة لأرى الوجه الذي فيه كلام يقف بشبّاك البيت من فوقنا وينتظر؟ سأنتظر مثله حتى يقترب الريّسْ منّا أكثر، فقلبي يرغرغ فيه الآن شيء غير الرغرغة التي أعرفها فيه. الأصوات المائِجة بالتكبير تملأ أذنيّ وعينيّ ولا أعرف إن كان الذي رأيتُه يمرّ في الوجوه من لحظةٍ حقيقةً هو وجهُ الهيّوبْ أو كأنما شُبِّهَ لي في زحمة الوجوه، شُبِّهَ لي لحظةً لأتذكره بعد هذا العمر الذي زَحَمَنا بالركض والتعب والأولاد ونَسَّانا وجوهاً كنّا عرفناها وألفناها وكان بيننا وبينها الكثير الكثير. قبلكَ، يا ريّسْ، يطلع صوتُ الوجه الغريب من مكبّر الصوت ويتوقف. العيون كلّها ترتفع إليه. قبلكَ، يا ريّسْ، كان رياضُ الصلح، يقول الصوتُ ويتوقف من جديد. تتوقف المظاهرة، والريّسْ على الأكتاف يرفع عينيه إليه ويبدو للحظةٍ وكأنه تمثال انحفر فجأة في الهواء. قبلكَ كان رياض الصلح، ومثلكَ كان من صيدا، وكبيراً كان، أكبر من حجم صيدا، وأوسع من أفق المِلَلِ والطوائف، وفوق ما يحتمل بعضُ خصومه. ولكنه تفاهم حتى مع الانكليز والفرنسيين ليرضي جماعتهم، ليبقى لبنان وليبقى الاستقلال. رياض الصلح كان من صيدا مثلك، وكان حجمُه أكبرَ ممّا يحتمل بعضُ خصومه. رياض الصلح قُتِلَ لأنَّ حجمه كان أكبرَ ممّا يحتمل البعضُ. وحربُ الطوائف في لبنان بدأتْ، وإن لم تنفجر بعد، وخصومُكَ يا ريّسْ من دولة ال 58 يسلّحون أحزابهم ويهيّئونها للحرب. تظنّهم يسمحون لكَ بأنْ تكون طرفاً في هذه الحرب وتعيد إنشاءَ المقاومة الشعبية بمساعدة الفلسطينيين؟ أنتَ تتحدّاهم كل يوم بصوتكَ الذي لم يسكتْه إسقاطُهم لكَ في الإنتخابات. أنت هاجس من هواجس حساباتهم، هاجس من هواجس حساباتهم، هاجس من هواجس حساباتهم. مكبّرُ الصوت والصوتُ والوجهُ يختفون جميعاً في فتحة الشبّاك وتنغلق الدرفتان ويظلّ الصمتُ تعصف به الريح ولا تحرّكه عنّا. أصابعي المشدودة على حديدةِ شبّاك المقهى أحرّكها فلا تتحرك. مجنون! مجنون! من كان ذلك المجنون؟ أخيراً تصرخ الأصواتُ من كل الجهات وتتحرك المظاهرةُ من جديد على صوت الله أكبرْ يا ريّسْ، والريّسْ إنتي، يا ريّسْ. أنجرف أخيراً مع المظاهرة ومحمود ممسك بيدي، ورأسي تدور به الأفكار وتتقلّب الصور كالحمّى.

يغمرني شعورٌ أنني لستُ في الدنيا التي أعرفها، وأحس بأنّ عَدَّانْ الناس أشبه بمنام غريب أراه في نومي فأفتش عن تراب البساتين تحت قدميّ ولا أجده. رأسي تدور به الأفكار الغريبة كالحمّى. الذي كأنما شُبِّهَ لي لا أعرف إذا كان شُبِّهَ لي أم أنني حقيقةً رأيتُه، بلحمه ودمه، وإذن، فما يدريني أنّ الوجه الذي كان في الشبّاك حقيقةً كان أو أنه كان شُبِّهَ لي، فما يدريني؟ أفتش عن تراب البساتين تحت قدميّ ولا أجده. عَدَّانْ الناس يأخذني معه ولا أراني إلا أمرّ ببوابة القلعة البحرية وبالمستشفى التي فوقه بقليل وألفّ مع الناس لفّتهم فنطلع الطلعة التي تحطّنا في أول "شارع الشاكرية"، على يميننا "الإِشْلِهْ" التي لا نرى على بابها دركياً واحداً، ونشدّ أقدامنا في الشارع إلى حيث ينتظرنا عَدَّانْ آخر من الناس. الأصوات تقول إن نائب صيدا وجماعته هم الذين ينتظرون وصولنا عند تقاطع الشاكرية بشارع الأوقاف ليكونوا مع الريّسْ على رأس المظاهرة التي ستتجه بعد قليل إلى ساحة النجمة حيث الصيّادون سيدخلون إلى مبنى البلدية للإعتصام هناك حتى تتحقق مطالبهم.

على ملتقى الشارعيْن، فوق الرصيف الذي على زاويته دكانُ الخضار وعلى زاويته الأخرى محلات البنّ والبهارات، يقف رجل لا أعرفه على منصّة خشبية وفي يده مكبّر للصوت أكبر من الذي رأيتُه هنالك في الشبّاك. محمود يسألني وأنا أجيب، ويظهر لي في عينيه أنه ضاق خلقه من الإنتظار فهو يريد أن يعرف ماذا سيقولون وإذا كان الريّسْ سيخطب فينا من على تلك المنصّة. أردّ عليه بما أعرف وأترك الباقي للوقت. همّه الأكبر ساحة النجمة لأنه سمع أن الجيش سيكون هناك. حماسُهُ يصوّر له أشياء، أقول لنفسي، ففي عمره كنّا نحبّ أن نتخيل المعاركَ والمُقَاتَلات ونشترك فيها وكأنها تحدث بالفعل فننطّ ونُشَبِّرُ بأيدينا ونركل بأقدامنا وتشتد أنفاسُنا حتى نستيقظ من الحلم على صوت ينادينا من هنا أو من هناك. الصوت من مكبّر الصوت يدعو الناس إلى الهدوء مرة ومرتين وثلاث مرات ثم ينزل عن المنصة. يصعد آخر ويتحدث عن تجمّعِ الأحزاب الذي أتى لمناصرة الصيادين في قضيّة وجودهم، وحينما يذكر مناصرةَ أحزاب المخيّم للصيّادين يعلو في الجوّ صراخ عظيم. يشير بيده للناس أن يخفّفوا من صراخهم ويقدّم خطيبَ الأحزاب الفلسطينية الذي سيتحدّث بإسم الفلسطينيين والصيداويين معاً لاختصار الوقت. ينزل عن المنصّة فيصعد إليها، تباركتَ يا ربّ، عبّاس أبو الليل بلحمه وشحمه، مدربّنا أيام معركة الكوزينا، وكنتُ أظنه سافر إلى الخليج بعد ال 58 مع الذين ضيّقتْ عليهم المخابراتُ فسافروا طلباً للرزق والأمان. إذن عاد أبو الليل بلحمه وشحمه، وإن كان جسمه الآن أمْلاَ وأعْفَى وشعرُه مغسولاً بالشيب. 17 سنة يا أبو الليل بين سياجات البساتين ووَقْفَتِكَ على المنصة الآن، فهل صوتك الذي كان يحمل لنا صوت الريّسْ من المدينة المحاصَرة بأوامره ووصاياه لا يزال يدخل القلب من غير استئذان؟ قلبي تعود إليه الرغرغة القديمة ويتعلق نظري بالوجه الذي كان دائماً يأتينا بالكلام. أهلي وجيرتي، أيها الصيداويون، مكبّرُ الصوت ينشر في الهواء البحّةَ التي كنتُ أعرفها في صوته. أن أقول إننا اليوم وإياكم في خندق واحد، فهذا حديث قديم، وأنْ أقول إن الطريق إلى فلسطين تمرّ من صيدا، ومن ساحة ميرة السمك بالذات ومن شارع الشاكرية وشارع الأوقاف وساحة النجمة، فذلك تكرار لا مبرّر للوقوع فيه، وأنْ أقول ما تعوّدتِ المنابرُ والمنصّاتُ أن يُقال عليها، فليس لنا في ذلك شِبَعٌ ولا رِيّ. إذن ماذا لكم يا أحبّتي أقول، وقد رعيتُ بساتينكم وشوارعكم ورعتْني من أول عهدي بالبساتين والشوارع والمدن؟ بقطف البرتقال والحامض والأكدنيا في بساتينكم اشتغلتُ، بصبّ الباطون في أساس بناياتكم عملتُ وعملت، على العربات في زواريبكم وأزقتكم وساحاتكم بعتُ واشتريتُ، ومعكم حزنتُ في أيام الحزن ومعكم في الأعياد عيّدتُ، وأيام ثورتكم كافحتُ ودرّبتُ وحاربتُ. ومعنا كنتُم بقلوبكم وأفكاركم ومواقفكم منذ وفودنا إلى هذه الأرض في ال 48. تلاميذ مدارسكم من أجلنا عَطَّلوا وتظاهروا وطورِدوا في الشوارع والزواريب والأزقة، وحوّلوا أنظارهم إلى عكا وحيفا ويافا والقدس فأصحبتْ مدنُنا عواصمَ لضميرهم وخيالهم وثقافتهم، ولقد تجايرْنا فكنتُم لنا الجيرةَ الطيّبة وتعاشَرْنا فكنتُم العِشْرَةَ الحسنة، ولقد أوذينا، في ضعفنا، ممّن يكره وجودَنا، وآذيْنا، في قوّتنا، مَنْ كان لنا عوناً على هذا الوجود، فتبّاً ثم تبّاً ثم تبّاً لما أتى به الغَفَلَةُ المتسرّعون منّا تجاه هذه المدينة وتجاه ريَّسها في زمن مضى، فغفر لأهلنا الخطيئةَ أبو الفقراء وَوَأَدَ الفتنةَ بحكمته وعافيته. أقول هذا، وأقوله الآن، لأنّ الطريقَ إلى فلسطين غداً تمرّ بالذاكرة ولأنّ الذاكرةَ اليوم تجمعنا وإياكم في مسيرتكم ضدّ القهر والعدوان. أيّها الصيداويون، يا أهلنا وعشيرتنا وجيرتنا، تُؤذى عيالُكم في رزقها، أفنسكتُ؟ وتُمَرَّغُ جباهٌ في التراب، أفنرضى؟ ويُهَدَّدُ لنا حلفاءُ، أفنغضي؟ أنكون السمكَ الصغير يأكله السمكُ الكبير في البحر الذي يوشك أن يصبح لا بحر؟ أنكون عبيداً وقد ولدتْنا أمهاتُنا أحراراً؟ أبداً، يا أحبّتي، فبإسم الذاكرة أخاطبكم، وبإسم الذاكرة أناديكم أنْ سيروا إلى مصيركم ومصيرنا على بركة الله. ينخفض مكبّر الصوت وينزل عن المنصة أبو الليل ويختفي عن عينيّ في وجوه الناس. لن أخاف أن يكون شُبِّهَ لي هذه المرة، فهذه المرة كان حقيقةً ما رأيتُ، وإن كان ما سمعتُ ليس لغةَ البساتين التي كان يحدّثنا بها أبو الليل. بحّة صوته لم تتغير، صحيح، ولكنَّ خطابه كان كلمتين، وأيّام البساتين كان يحكي ولا يسكت، مثل العَدَّانْ، وكان كلّ شيء فيه يتحرك من شدّة حماسه. وقفتُه هدوء وصوتُه هدوء وطلعتُه إلى المنصة ونزولُه عنها هدوء في هدوء. غيّره العمرُ بلا شك، والسفر إلى الخليج إذا كان سافر زمناً ثم عاد. ولكنْ لماذا لم يطلع الريّسْ على المنصة ويخطب كالعادة؟ الهيئة أنّ الأحزاب حاسَّةٌ بشيء وتريد أن تحميه من الغدر. الأحزاب تعرف ما يجري من تحت لتحت. ولربّما. تخفّ الضجّة أمامنا، وإذ بمنظّمي المظاهرة يصفّون الناس صفّاً وراء صفّ ويضغطون كلَّ صفّ بأكبر عدد من الرجال والشباب. فالكتفُ ملزوزة بالكتف، حتى يكونوا كالمتراس لا يخترقهم أحد. ثم يتحرك عَدَّانْ الناس في شارع الأوقاف ثم لا يلبث أن يندفع نحو ساحة النجمة، فأندفع معه، ومحمود إلى جانبي وقد أخذه حماس عظيم. دائماً شارع الأوقاف، دائماً من هنا المظاهرات تمرّ، من أول مظاهرة مشيتُ فيها أيام عبد الناصر إلى هذا اليوم. وفي كل مظاهرة مشيتُ فيها كانت تلفت نظري ساحةُ الكنيسة الواسعة التي نمرّ بها الآن وبواباتُ سورها المفتوحة التي لا أذكر أنني رأيتها مغلقة إلاّ اليوم. محمود يشد برقبته ورأسه إلى فوق، يريد أن يرى أين صار الناس أمامنا، كأنه يستعجلهم الوصول إلى ساحة النجمة، فأشفق عليه من حماسه وأقول كنّا في عمره مثله. منذ وُلِدَ لي هذا البربوشُ ورأيتُه يرضع حليبَ أمه، ويداه الصغيرتان على صدرها، كأنه يخاف أن يفلت من فمه الحليبُ، وقلبي عليه مثل عجينة الخبز. صحيح أني أريده أن يصبح رجلاً مثل أهل البساتين ولكنْ ماذا أفعل بعجينة الخبز غير أنْ أخفيها عنه حتى لا يطلع مرخرخاً ومنعنعاً مثل أولاد الذوات؟ المحلات بعد الكنيسة كلها مغلقة، وهواء شباط يلسع وجوهنا ويمشي معنا، بل هو يسبقنا ثم يلتفّ علينا ويضربنا من جديد. الله أكبر يا ريّسْ، والريّسْ إنتي، يا ريّسْ، من ورائنا يأتي الصوتُ عميقاً كأنما من آخر العدّان، ويأخذ يعلو ويقترب حتى تلحق به حناجرُنا وتلحق بحناجرنا أصواتُ الصفوف التي أمامنا. نعبر بسينما الريفولي ونقترب أكثر فأكثر من ساحة النجمة. قلبي يدقّ وأتمنى لو تركتُ محمود في البيت فما زالتْ أمامه مظاهراتٌ كثيرة يمشي فيها غير مظاهرة اليوم. ولكنّ محمود يشدّ برأسه إلى فوق يريد أن يرى إذا كنّا وصلنا إلى الساحة ويده وصوته يشبّران في الهواء، وقد نسيني الآن تماماً. أشدّ بقدميّ إلى الأمام وأطحش بكتفيّ حتى أتقدم عليه ويصير خلفي. تطحش من حولي الأكتافُ وتضرب الأذرعُ في الهواء بأذرع مثلها في الهواء. العَدَّانْ لا يوقفه الآن شيء. من الأوّلي إلى سينيق، هدرةُ الماء في صقيع شباط تلسع وجوهنا وأعيننا وآذاننا وتلفّ علينا وتدور، وتلفّ بها وتدور حناجرُنا، فأصواتُنا الريحُ والماءُ، وصوتُ محمود يَنْبَحُّ في أصواتنا، فألتفتُ من فوق كتفي لأراه ولا أراه، ومن فوق كتفي الأخرى لأراه ولا أراه، ويكسر الصقيعَ من فوق رؤوسنا زَخُّ الرصاص فأصرخ به أن اركعْ وراء أقرب كناية إليك واحْتَمِ بها، فتصرخ أسرابُ العصافير من رؤوس الكنايات وإذ أنا في الكوزينا أركض من جذع كناية إلى جذع كناية أبحث عنه المجنونُ لأحميه لها، هو الذي معنا الآن في الساحة حتى وإن كان شُبِّهَ لي، حتى وإنْ تكن تصرخ الأصواتُ في أذنيَّ من الأوّلي إلى سينيق أنه سقط بالرصاص، سقط الريّسْ بالرصاص في أول صفّ من المظاهرة. أبحث عن تراب البساتين تحت قدميّ ولا أجده.

 

عَازَرْ الديّارْ

قبل أن يُفْتَحَ عليكَ أبوابُ كلّ شيء ويصير مطعم الجمري أكثر من اسم لمكان وأكثر من مكان يلتقي فيه الناس على طعام وشراب، قبل أن يصبح شارةَ العزّ لكَ ولكلّ من اختلف إليه فَأوْلَمَ لوجوه الناس فيه وأولم الناسُ له فيه، يتبارون كلهم في المجاهرة لضيوفهم ولأنفسهم بأنْ لا مكان إلاّه يليق بمناسبات تكريم بعضهم لبعض، قبل هذا وذاك كنتُ أمرّ عليكَ، في عامك الأول للمطعم، وأضع يدي على كتفك وأقول لك دُقَّ على الحائط مرّة كل يوم، يا جهّار، ولسوف يأتي اليوم الذي ينفتح لك الحائطُ فيه وأنت تنظر إليه. كنتُ أرى ذلك اليوم يأتي، ويوم أتى أتيتَ إليَّ تزورني ليلة من ليالي الصيف على غير ما ميعاد لتذكّرني بكلماتي التي كانت ربما شيئاً من الإلهام آنذاك، شيئاً كالأحلام التي تراها العينُ على حواشي مازة العرق، وقد أذبلها النعاسُ الذي لم يستولِ عليها بعد. أو ربما كان ذلك شيئاً من فعل الإيمان الذي يقول المطرانُ إنه متلبّس بي، الإيمان الذي، على حدّ قوله، شيءٌ فيَّ ظل يجاهده عنّي كل هذا العمر، فأنكره ويلحّ عليَّ، وكأنني أنفض عني ذكرى خطيئة ارتكبتُها ولا أحب استرجاعها أو وصمةَ ضعفٍ أخاف أن تقلّلني في عيون الناس، وأنا الذي في عين نفسي الكثير الكثير. إنكاري لإيماني هو جوهر إيماني، يحاول أن يقنعني المطرانُ، فمعركتي الدائبة معه دليل على تلبّسه بي، يقول لي، ولو لم يكن الإيمان في الأصل لما كان حصل بيني وبينه في الأصل عراك. كنتُ دائماً أضحك في سرّي وأقول المطرانُ يحاول أن يروّج بضاعتَه ولا يعرف كيف. تعرف رأيي في رجال الدين، كل رجال الدين، فهمُّهم إدخالُكَ الجنّةَ بالقوة، وإن يقدروا عليكَ كفّروكَ وصلبوكَ في الدنيا وهيّأوا لكَ مكاناً يليق بك في جهنمهم في الآخرة. بالقوّة إلى الجنة أو بالقوّة إلى النار ثم يقولون لكَ أنّ الله جعلك مخيَّراً. إبتسامتُكَ الضائعةُ تقول لي إنك تستمع إلى كلام يحرج فيكَ شيئاً. أطمئنك بأنّ ذلك لن يغيّر فيك ولا فيَّ مقدارَ حبّة خردل، فكلانا ابنُ هذه الدنيا، كنّا وسنبقى. وسواء هي الدنيا التي ألحّتْ عليَّ أن أرسل إليكَ مساء أمس لتأتي إليَّ باكراً هذا الصباح أم هو ذلك الشيء الذي يسمّونه الإلهام، أم الشيء الذي هو من السرّ أخفى، سواء ذلك أو تلك أو ذاك، فلقاؤنا اليوم، كلقائنا أول مرة، كان مقدّراً لنا في الغيب من أول ما كان الغيب، وإذن فلا بدّ لنا منه، وقد كنتُ استمهلتُ نفسي فيه طويلاً. نحن لم نتحادث كثيراً في هذا العمر، يا جهّار، وإن كنّا تكلّمنا فيه طويلاً. ولطالما كان سكوتُنا عن الأشياء أجمل أحاديثنا. اليوم لن يكون في حساب ذلك العمر، لأنّ البوحَ وحده، اليومَ، لا السكوتُ، هو الحديثُ الذي لا بدّ منه والذي إن لم يكن أجمل أحاديثنا فلعله أن يكون أصدقها على الإطلاق.

يدير ظهرَه لي وتخطو به قدماه بعيداً عني على بلاط الغرفة فالممرّ، مثقلتيْن مثقلتين كأنما يكلّفهما ما لا طاقة لهما به. أتذكّر الدقّاتِ التي لا تدقّها على الأرض إلاّ قدماه وأعرف أنها ضاعت منهما لأنه الآن مثلي غريب في هذه المدينة في هذه المستشفى، لا هواؤها من هوائه ولا بلاطها من أرضه وترابه. أناديه أن لا يبتعد كثيراً عني ليتمّ بيننا اللقاءُ الذي لا بدّ منه، فلا يعيده إليَّ ندائي ولا يمنحني منه حتى طرفَ التفاتة.

بِهَوْلِ صباها تعبر البابَ إليَّ وحدها من بينهن جميعاً، وبهول صباها تتبسم في وجهي وتصبّح عليَّ وتتحدث إليّ وكأنها وكأني لا نعلم أنّ دائرة الحياة تضيق عليَّ وأنّ وجه الضيق يأتي من حميميّاتٍ لي تَطَّلِعُ عليها بيديها وعينيها وهي ترتّب كل يوم أموري ولا نتحدث عنها لأن الحديث عنها مَحْرَجَةٌ لكلينا وانكسارٌ لذلك الذي كُنَّ يَحْسَبْنَ حسابَه بالشوق والترقّب والخوف، يَرُزْنَني به فهو القبّانُ في عيونهن ونواياهن، والذي هو اليوم مَرْزَأَةُ العمر، شَحَّ حتى عن البولة اليتيمة يستجديها الطبُّ منه وأغريه أنا بلذّاتٍ مضمراتٍ له في الغيب فلا عليَّ يردّ ولا للعلاجات المستحدثة لأجله يستجيب. كأنه ليس منّي، هذا المغرَّبُ عن جسدي، وقد كان حولي وحيلتي في الحمّام كما في سريري. وكأنما النعمة صارت نقمة فتحولتْ آلةُ الوصل إلى آلة النفي، فَيَداها عليَّ الغربةُ التي تسبق الموت، وتسبق حتى لجنة الأطباء إليَّ، وأنا إلى الكاتب بالعدل أحوجُ منّي الآن إلى الأطباء الذين رحلتُ عنهم وعدتُ إليهم، من هنا، من على هذا السرير، ولا هم أحسّوا ولا هم عرفوا ولا تجرّأتُ على مساررتهم بما حدث لي تلك الليلة التي فيها رحلتُ ورأيتُ وعدتُ، ربما لأنتظر البولةَ اليتيمة، بولةَ الخلاص، ما تجرّأتُ على مساررتهم حتى لا أُتّهم بالجنون، وإن يكن الجنونُ أحبَّ إليَّ ممّا أنا فيه لو كان إلى مقايضةٍ بينهما من سبيل. تتبسم في وجهي وتلقي على الغرفة النظرة الأخيرة ثم تعلّق عينيها بعينيّ لحظاتٍ كأنهن امتنانُها لما تقوله لها عيناي عن هَوْلِ صباها كل صباح حتى وأنا في هزيع احتمال الموت الحاضر فيَّ أبداً. ثم تأخذها قدماها من عينيّ إلى الممرِ فتغيب في أول عطفة من عطفاتهِ إلاّ أطراف أصابع يدٍ لها، كأنما تنفصل عنها لمحةَ العين ثم تلحق بها، فأرجو في سرّي ألاّ تعود إلى غرفتي ثانية، فما حدث اليوم بيننا ما كان ليحدث لولا أنه مقدّر له أن يكون شيئاً من زوّادةِ الرحيل، اليومَ نودِيَ بي لذيّاك الرحيلِ أم نودِيَ بي غداً.

طرفُ محرمته البيضاء لا يزال ظاهراً من فتحة جيب جاكيته، وقد سَهَا عنه لإنشغاله في احتمالات مصارحتي له بالأمر الذي يخاف أن يمرّ من شفتيّ إلى أذنيه. يَتَجَنَّبُ النظر إلى عينيّ وهو بعد في الممرّ على مسافة خطوات من الباب، ثم وهو يعبر الباب قاصداً الكرسي التي بين النافذة والسرير. المجنونُ يُؤخَذُ على قَدِّ عقله، كان يقول إسحيّا، والمحّبُ على قَدّ ضعفه. فعلى أيٍّ من المَحْمَلَيْنِ آخذُ هروبه من حتم اللقاء الذي لا بدّ أن يتم بيننا ليتمّ لي ما أريد، وهو ممعن في تجاهله للفسحة المتبقية لي من الزمن لأصرّف فيه أمور زوجتي وولديَّ في كل ما أملك مما يعرفونه ولا يعرفونه حتى اللحظة؟ أتنحنح وأفرك كفيَّ ببعضهما وأهجم عليه بنيّتي أن أجعل منه المنفِّذَ الأوّلَ للوصية التي سأملي تفاصيلها على الكاتب بالعدل ساعةَ تصل به زوجتي إليَّ قرابةَ الظهر، بحضور محاميَّ الخاص جوزيف. ولحظةَ أبوح له بأنني سأطلب من المطران أن يكون المنفِّذ الثاني للوصية، يرتفع رأسه وتجبهني عيناه بأن ذلك هو الجنونُ بعينه. على عين الجنون أصرّ لأنه، وإن يكن ابنَ هذه الدنيا مثلي، ففيَّ شيء أعتقُ في معرفة الناس منه ومن كل من عرفتُ في هذا العمر في جيرتنا وجيرة المدينة برمّتها. أفتح له قلبي ليفهم أنني أعرف أصول التعامل مع وجوه الناس من أهل السياسة والدولة والدين وأعرف أنّ ذلك إنما هو من أدبيات الحياة وشرٌّ لا بدّ منه، وأنني أراعي أصول الحياة ما دمتُ أنا الذي يلعب لعبة الحياة. أمّا وبيني وبين زوجتي وولديّ الأبديةُ التي سَتُسْقِطُ من أدبيات الوجود حسابي، فقراري في موضوع الوصية يجب أن ينبع من معرفتي بالناس لا من حساسيات الكرامات الاجتماعية والدينية التي قد ترفع مَنْ لا أحبّ وتعزّ مَنْ لستُ به أثق. يحاورني أنّ أهل ملّتي في المدينة وفي قرى شرقي صيدا ستلوي أعناقَهم هكذا وصيّة وأنهم سيتنكرون لزوجتي وولديَّ بعدي. على عين الجنون أصرّ لأنه لم يحزر بعد أنّ محارمَ الورد من سياج الورد من أم يحيى، وأنّ حياتها التي كانت أجمل حكاية من حكايات طفولتي، وأنّ سكرةَ العرق التي سكرناها على الجسر حتى مطلع الشمس فجعلتْ منّا الحكاية التي صرنا وبقينا بطليْها، وأنّ ديونَ الجيرة التي تبادلناها أخذاً وإيفاءً ثم أخذاً فإيفاءً حتى لم نعد نعرف مَنْ منّا له على الآخر أكثر أو أقل، وأنّ الطمأنينةَ التي يمشي الواحد منّا بها إلى الآخر على ثقةٍ أنّ طلباً له منه لن يُمْهَلَ أو يُهْمَلَ أو يُرَدَّ، لم يحزر بعد جهّار أنّ ذلك كلّه يجعله في حساب الغيب أصدقَ شاهد وآمنَ رقيب على وصيّتي مِنْ كل مَنْ عرفتُ وعاشرتُ في هذا العمر من ملّته وملّتي سواء بسواء.

يتململ في كرسيه على غير هدى وتتحسس أصابعُ يده المحرمةَ البيضاء في جيب جاكيته وتسحبها ثم تعيدها ثم تسحب منها طرفاً بأطرافها، ثم ينهض متردداً ويتمشى صوب النافذة المطلة على حديقة المستشفى، عيناه بالأسى وحده تلمعان، تماماً كما هما كانتا حينما دخل عليَّ أول ما دخل هذا الصباح، وتماماً كما ظلّتا وأنا أحدّثه، بالأسى وحده تلمعان وقد ضاع منهما الشوقُ المسحورُ الذي ربما نسيه في حميميّات لقائه بها ليلة الأمس، تلك التي خلّفتْ وراءها في بيروت زوجَها وأولادَها وسكنتْ في بستانها قريباً من مطعمه لتكون له على مرأى من أهل البساتين ومسمع، والتي حتى المطران تحرّز من مصارحتها بالحَرَجِ الذي ألحقتْه بالملّة وقد جاهرتْه بالجنون الذي لا يقدر على محاورته ومداورته إلاّ أبناء الدنيا. عنها لم يحدّثني جهّار وعنها لم أسأله لأنّ سكوتنا كان دائماً حديثَنا المسهبَ عنهن، الفاجراتِ اللواتي من أجلنا يتخلَّيْنَ عن كل شيء فنحبهنّ ونعشق فيهنّ ذلك، الفاجراتِ، نعشق فيهن ذلك لأنهن يَضَعْنَنا، وقد تخلَّيْنَ مرةً، على شفير احتمال آخر بالتخلّي، فيصهل في عروقنا الدمُ مَجْلُوّاً بالخوف تارةً وتارةً بالحنين. تأمّلْ حديقةَ المستشفى الآن، يا جهّار، بالأسى وحده في عينيكَ، فعمّا قليل أترك لكَ الدنيا، سَهْواً رَهْواً أتركها لكَ ونفسي بها لا تزال. ولكن قبل فراقنا توضيبُ الوصيّة، وقبل الوصية الشيءُ الذي لن يشركنا فيه من اللقاء المحتّم بيننا أحد. كان لكَ الوعدُ منّي أن يكون حديثُنا اليوم أصدقَ أحاديثنا على الإطلاق، أقول له ليلتفت إليَّ فيلتفت متردد العينين، لا هما عليَّ ولا هما على شيء بعينه. اللحظةُ لحظةُ الإيفاء، حتى لا يظلّ الوعدُ وزراً أحمله معي إلى الأبدية. والإيفاءُ لن يكون إلا بالبوح لأنّ ما حَدَثَ لم نتحدث بمثله من قبل لنفهمه الآن إيماءً، ولا أحسب أننا سنفعل ذلك بعد هذا اللقاء. مَنْ كان يقول أنّ حياة عازر الديّار تعادل بولةً واحدة يبولها فيرجع للحياة؟ مَنْ كان يظن أنّ ذلك كان لي أبداً في الغيب وأنّ الغيب لم يقدّر لي أن أقرأه أو أن يُلمح لي به إلماحاً في حلم أو يقظة؟ لقد متُّ وعدتُ إليكَ، يا جهّار، لا أعرف كيف متُّ ولا كيف عدتُ، ولكنَّ الحجابَ رُفِعَ هنيهةً من الليل بين عينيّ وبين ما رأيتُه بعينيّ من هَوْلِ جمالٍ ومن هَوْلِ هَوْلٍ، فالويلُ، أقولُ لكَ، ثم الويل لمن لا يؤمن بأنّ الله موجود. ظُنَّ بي الظنونَ كلّها إذا شئت ولكنْ لا تسألني أن أروي لكَ أكثر عمّا رأيتُ وعرفتُ. نعم لا تسألنْي ولا تلحّ عليَّ بالدهشة التي تملأ عينيكَ، فاليوم كلٌّ يروي حكايته على طريقته، ونحن حكايةُ الله يرويها لغيبه بغيبه.

ما أعَفَّهُ عن أخذ لحظات الضعف، ضعفه، مأخذَ الأمور لا بدّ منها ولا منجى، وما أعفّ عينيه عن أخذ عينيّ بالنداوة التي فيهما الآن، النداوةِ التي ستحيلهما إلى بركتيْن نضّاحتين يوم يسير وراء نعشي ويداه مدلدلتان على جانبيه لا تكفكفان عنهما دمعاً ولا تمسحان له من الدمع خدّاً وخدّاً. يومها لا مفرّ له من حتم اللقاء ولا مهرب، كما يهرب الآن منه فيتمشى في حديقة المستشفى، محرمتُه البيضاءُ تمسح من على وجهه الضعفَ الذي يظنّ أنه مخفيه عن الناس وعنّي. سأشتاق إلى عينيه المسحورتين بالشوق المذبّلتيْن بالأسى وسأشتاق إلى ضعفه الذي سيجعله محطَّ أنظار الناس في جنازتي فلا يكون نصرانيٌّ قبلي بكى بكاءَهُ عليَّ محمديٌّ قبله.

 

المختار

 

صباحُ الخيرِ يا اللهْ        وأنتَ الخيرُ يا اللهْ

برأتَ الغيبَ، كلَّ الغيب، ما ترضى له يرضاهْ

فمنكَ الليلُ والأرياحُ والأشباحْ

ومنكَ الدمعُ، آهُ الجرحِ، ما ناح به النُوَّاحْ

ومنكَ الصبحُ والإصباحُ والمصباحُ، يا اللهْ

ومنكَ رحابةُ النورِ المنزَّلِ من سَمَاكَ إلى سَمَاهْ

عليَّ الأرضُ ضاقتْ والفضاءُ مَدَاهُ غاضَ، فكيف غاضَ تُرى مَداهْ؟

على قلبي بنوركَ وسِّعِ الرؤيا فليس له سوى الرؤيا حياهْ

وعَلِّلْهُ بماريّا فماريّا كوعدِ الغيبِ بالبعثِ

بحورِ العين تُنْشِئُهُنَّ إنشاءً بروحٍ منكَ مُنْبَثِّ

ويا ربَّاهُ، يا ربّاهُ، ما ضَرَّ جنانَ الخلدِ لو إنسيّةٌ حَلَّتْ بحوريَّة

بإسمٍ كان مَاريّهْ

وكانت حظّيَ المقسومَ لي في الغيب مِنْهُنَّهْ

وكان بياضُها الجَنَّهْ

بياضُ العشرِ والسنتينِ لا قَلَّتْ ولا زِدْنَهْ

وكان اللهفَ مشيتُها، تنفُّسَ ياسمين الفجر في فجرٍ من الفتنَهْ

وكانت كلُّها لي شَجْرَةَ الجميّزِ بالجميّزِ، كم كنّا قطفناهُ وذقناهُ

ونِمْنا في حنايا الجذع مَحْمِيَّيْنِ من رصدٍ رُصِدْنَاهُ

وكانت كلّها لي موجةَ البحرِ التي كنّا سكنّاها

لوِاذاً من فضولِ الناسِ من آهٍ وأوّاها

وكانت كلّها لي رحمةً من عرشكَ الرحمنِ، يا اللهْ؟

وماذا كان ضَرَّ الغيبَ لو كان كما نهواهْ؟

فيا اللهُ، يا اللهْ

على قلبي بنوركَ وسِّعِ الرؤيا فليس له سوى الرؤيا حياهْ

وهذا الجسمُ، هذا الجسمُ أفناهُ الدعاءُ فكلُّهُ شفتاهْ

تطيبانِ إذا صعدتْ صباحُ الخير، يا اللهْ

إليكَ، فأنتَ كلُّ الخيرِ، كلُّ الخيرِ، يا اللهْ.

 

 

 

 

تمت في 17 أيلول 2001

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية