د. صلاح الدين الحريري

تعريف برواية "على قارعة الغيب"

تعريف برواية "على قارعة الغيب"

"على قارعة الغيب" هي الجزء الثاني من الرباعية الروائية "سفر اللعنة والتوبة":

في الجزء الأول – "وعد شباط" – يتعرف القارئ إلى أفراد عائلة الجمري وهم يتوجهون بنعش الأم إلى المقبرة التي خارج المدينة حيث يوارون جثتها التراب. إن الومضات التي تضيء على جوانب متعددة من تجاربهم الشخصية والاجتماعية والسياسية، تلفتنا إلى مَلْمَحٍ هام من ملامح التجربة الانسانية التي تكتنف وجداناتُها كافةَ الشرائح التي يتكون منها المجتمع اللبناني. هاجسُ المسلم بالمسيحي – الملمح المشار إليه آنفاً – تشي به بعضُ المونولوجات التي تنسج صفحات الرواية. أما هاجسُ المسيحي بالمسلم فإنه يتسرب إلى القارئ عبر وعي الشخصيات المسلمة، وذلك لغياب الشخصيات المسيحية عن هذا النص. والاسرائيلي/اليهودي هو الآخر هاجس من الهواجس التي تحملها الذاكرة الإسلامية من زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. "وعد شباط" تشي للقارئ بهذه الهواجس وشايةً رقيقة فتتركها معلّقةً في خاطره كهمّ باطنيّ أكثر منه واقعاً يتحكم في صياغة قدر الشخصيات، أفراداً وجماعات. "على قارعة الغيب" تتحول بهذا الملمح من حالة الهجس إلى حالة التجسيد، إذ كل علاقات أبناء الجيرة والحي والمدينة والوطن تنبض – في وعي كل الشخصيات – بحساسية الهوية الدينية/الطائفية وبرؤية الآخر على أنه المختلفُ والمغايِر. ( "وعد شباط" تجري أحداثها في أوائل التسعينيات؛ "على قارعة الغيب" تجري أحداثها بين الأربعينيات ومنتصف السبعينيات. )

         "على قارعة الغيب" تأريخ لوجدان شعب، ولكن الوجدان هنا يلبس عباءة التاريخ في محطات أربع تتمحور حولها الفصولُ الأربعة التي تتألف منها الرواية: الأربعينيات إلى أوائل الخمسينيات ؛ 1956 (العدوان الثلاثي على مصر) ؛ 1958 (الثورة ضد الرئيس كميل شمعون) ؛ 1974 – 1975 (المعارك الطلابية في بيروت واغتيال النائب معروف سعد في صيدا). التاريخ حاضرٌ ليس كحدث بل كحالة أو حالات وجدانية يولّدها الحدثُ ويحلّ محلها في بواطن الشخصيات، حيث تفور وتزبد أحاسيسَ ونوايا تنطلق بها الألسنةُ أحياناً في غفلة عن الإرادة ليندلع حوارٌ متشنجٌ هنا ولترمق بعضها البعض عيونٌ تنـزّ دوائرُها بالبغض أو الشماتة أو العتب.

         شخصيات "وعد شباط" تتمحور في مجملها حول عائلة جهّار الجمري، وهي تجدد ظهورها في "على قارعة الغيب". دائرة الرواية تتسع الآن لتشمل عدداً أكبر من شخصيات البيئة الإسلامية وعدداً آخر من الشخصيات المسيحية تدور في فلك عازر الديّار، الجار المسيحي لجهار الجمري، واللذيْن ترعرعت بينهما وتوثقت صداقةُ الجيرة وصحبةُ المنادمة. في عيون الجيرة الواحدة، كانت علاقتُهما الحميمةُ بمثابة الملتقى والمرجع لأبناء الطائفتين، سواء في حلاوة الأيام أو في مرّها، في زمن التصافي أو في زمن التشاحن والتصادم.هذه الصداقة الحميمة بين الرجليْن يتوِّجها عازر الديار وهو على فراش الموت في مستشفى الجامعة الأمريكية باتخاذه القرار أن يجعل من جهار الجمري المنفّذ الأول لوصيته، على أن يكون مطران صيدا المنفّذ الثاني. هذا بالطبع سيثير ثائرة أهل ملته، ولكن عازر الديار سوف يبني قراره على أساس التجربة الحية التي عاشها مع صديقه المسلم. إن "محارمَ الورد من سياج الورد من أم يحي" وإن سكرةَ العرق التي سكرناها على الجسر حتى مطلع الشمس" وإن "ديونَ الجيرة التي تبادلناها أخذاً وإيفاءً" وإن " الطمأنينةَ التي يمشي الواحد منا بها إلى الآخر على ثقةٍ أن طلباً له منه لن يُمْهَلَ أو يُهْمَلَ أو يُرَدَّ " كلها تجعل من جهار "أصدقَ شاهد وآمنَ رقيب على وصيتي من كل مَنْ عرفتُ وعاشرتُ في هذا العمر من ملتّه وملتي سواء بسواء" (202). هذه الصداقة لم تلغِ من وعي أحد تجذُّرَ الاختلاف بينهم على أساس الهوية الدينية. ولكنّ ذلك ما كان ليلغي خيارَ التعايش في إطار فلسفة فطرية عمادُها، في لغة عازر الديار، أن "الجيرة ملّة الخلاص" وأن "الكبير في الجيرة كبير للجميع" وأن "المناسبات الكبرى لا ملّة لها إلا ملّة الشراكة" (62). هذه المقولات كانت  بمثابة الضابط الأخلاقي/الاجتماعي للأحاسيس الدينية/الطائفية، يكبحها إن جنحت إلى التهور، سواء في زمن التشنجات السياسية التي كانت تعصف بلبنان والمنطقة ، أو في زمن الخلافات الفردية بين أبناء الطائفتين. الرواية تؤرخ لتلك المرحلة حيث ساد التعادل بين الانتماء إلى الدين والانتماء إلى الجيرة، المرحلة التي كان فيها التعايشُ أسلوبَ حياة وخياراً واعياً لم يفرضه على الناس أحد. المرحلة تلك كانت بمثابة فردوس أرضي لا علاقة للسماء به، فردوس صنعه الناس بالتجربة الحيّة والممارسة اليومية. ولأنهم أنفسهم تخلّوا عن فلسفة التعادل التي ظلّلتْهم بالسلامة والأمن فقد ضيّعوا، وربما للأبد، الخلاصَ الخلاصَ الذي كان واقعاً معيوشاً في تجربتهم، لا مجرد حلم طوباوي حلموه أو مرتجى مسوَّفاً لهم في ثنيات الغيب. الرواية، إذ تلحظ متغيرات التاريخ، هي بمثابة رصد لنهج حياة، لأسلوب عيش، كان واقعاً جليّاً ثم انتهى – إنها الإحتفال والمرثيّة في آن معاً.

         إن ظاهرة التعادل بين الإنتماء إلى الدين والإنتماء إلى الجيرة هي تقنية إستراتيجية تهدف إلى تطوير حبكة الرواية على أساس أن كل التجارب الإنسانية ترتبط إرتباطاً عضوياً بالتوتر الذي يفرزه تزَامُنُ الإنتماءيْن في كيان كل فرد. ظاهرة التعادل هذه تكرّس نفسها في تجليات ثلاثة : أولاً، الصداقة المتينة التي تربط جهّار الجمري وعازر الديّار؛ ثانياً، رعاية أم يحي لنساء جيرتها وكأنها الأم الكبرى لهن جميعاً؛ ثالثاً، العشق المتبادل بين رجال ونساء من الملتين.

         تَزَامُنُ الإحساس بالإنتماءيْن لدى كل شخصية ينبض به المشهدُ الأول من الرواية، كما المشهدُ الأخير، الذي هو صدى صريح للمشهد الأول، كما المشاهدُ الجمّة المتناثرة بين البداية والنهاية. في مستهّل الرواية تنطلق أم ميلاد إلى منـزل آل الجمري لتعزيتهم بوفاة أم يحي  الجمري "وأداء ما يفرضه حدثُ الموت على أهل الجيرة الواحدة " (8). وَعْيُها لواقع التعايش بين الملتيْن يترافق مع هاجس كونها تنتمي إلى الملّة الأخرى المسكونة بمقولة الصلب والطقوس المرتبطة به. هكذا تهجس أم ميلاد: "أصلّب على صدري مرة ثم مرة أخرى قبل أن تنعطف الشجراتُ بي وتنعطف الطريقُ بي وبالشجرات إلى بيتهم الملتف بشجرات الكينا العتيقات عتق جيرتنا". (8). وبسبب وعيها لتزامن الإنتمائين يتهيّأ لها أن عيون جيرانها من آل الجمري ترمقها من بين الأغصان مستهجنةً منها رسمَها إشارة الصليب على صدرها حتى " تمتد بيني وبينهم حشرجةٌ من العتب" (8). ولكنها لا تتوقف لحظة واحدة فهي تواصل مسيرها إليهم بعزم أكيد لتأدية ما تفرضه الجيرة عليها من واجب التعزية. الصدى الصارخ لمضمون هذه اللحظة ولدلالاتها يأتينا، في خاتمة الرواية، بصوت عازر الديّار وهو على فراش الموت يتخيل حزن صديقه المسلم، جهّار الجمري، عليه يوم توافيه المنية: "سأشتاق إلى عينيه المسحورتين بالشوق المذبّلتين بالأسى وسأشتاق إلى ضعفه الذي سيجعله محطَّ أنظار الناس في جنازتي فلا يكون نصرانيٌّ قبلي بكى بكاءَهُ عليَّ محمديٌّ قبله" (204) هذا الإحساس اليقيني بضرورة التعاطف بين أبناء الملتين وضرورة التأكيد المسلكي لهذا التعاطف – وكأنما للمجاهرة بحقيقة التعايش وحتميّته- يعبّر عنه في الفصل الأول عازر الديّار وهو يتأهب للتوجه صوب منـزل المتوفاة للمشاركة في تشييعها. يقرر بينه وبين نفسه أن يكرم جهّار، إبن أم يحي، "في موسم حزنه عصر يومنا هذا، فأجمع له حولي من الهلالية وعبرا والبرامية والقرى الأخرى لشرقي صيدا موكباً من المعزّين لم يجمعه نصرانيٌ قبلي لمحمديٍّ قبله" (37). وبين المشهد الأول والمشهد الأخير من الرواية تتكرر الأمثولة عينها للتأكيد على أن هذه الظاهرة في تجربة اللبنانيين تكمن كموناً عميقاً في وجدانهم الإنساني. مثالان آخران من الفصل الأول جديران بالذكر. في المقطوعة المخصصة لصفية، إبنة أم يحي، تجتمع المعزيات من نساء الطائفتين حول فراش الفقيدة في حالة حزن لا نفاق فيه. كلهن يلهجْنَ بعاطفة الوفاء للجارة التي كانت تحب الجميع وتهبّ لنجدة الجميع في زمن الأزمات الشخصية والعامة. ولكن مناسبة الوفاة تأبى إلاّ أن تذكّرهنّ بأن بعضهنّ ينتمين إلى الملة الأخرى. فما إن تصل قارئة القرآن إلى الآية التي تقول " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم" حتى "تنخفض عينا أم ميلاد إلى أرض الغرفة وتنخفض معهما عيونُ المعزيات المسيحيات، فعيونٌ تتحاشى عيوناً وقد سرتْ بينها حشرجةٌ من الحرج عبَقَ بها لتوّه جوُّ الغرفة" (29-30). ولكنّ أحدً منهن لا يغادر الغرفة. بل على العكس، فأم ميلاد تنهض وتستأذن" أن تكون شريكتهنّ في تحميم أمي وتكفينها حين يئين أوان الرحيل. فلأمي على الجيرة حقُّ توديع الجيرة لها" (30). صوت القارئة يباغتهن جميعاً "أنَّ غسل الميت شأن من شؤون المسلمين لا تشارك فيه ولا تتطفل عليه من كُتِبَ عليها ألاّ تغسل موتاها" (31). تلك هي اللحظة الأشرس في سياق وعيهنّ لما يفرقهنّ، إذ "تجمح البلبلةُ بالعيون والأفواه وتختلط النظرات بالنظرات والنوايا بالنوايا" (31). ولكن واحدةً منهنّ لا تغادر الغرفة بالرغم من أنهنّ، أهلَ الجيرة الواحدة، تحوّلْنَ للحظة إلى "أهل جيرتنا الجامحة" (31). ختاماً، يمكن القول إن تزامن الإحساس بواقع الولاءيْن، للدين وللجيرة، يظل الظاهرة الأقوى التي بها تتطور حبكة الرواية من مبتدئها إلى منتهاها.

         بالإضافة إلى بروز جهّار الجمري وعازر الديّار كصديقين حميمين تلهم صداقتُهما كِلا الطائفتين ضرورةَ بل حتميةَ التعايش، فإن شخصية أم يحي الجمري تنتصب في ذاكرة الجميع كظاهرة تتخطى بإنسانيتها الفوارق والتشنجات التي قد تنبثق عنها لتعكّر أجواء الجيرة بين آنٍ وآن. ما يرد على لسان إبنتها صفية ولسان عازر الديّار ولسان أم شريف يرسم لنا صورة المصْلِحِ الصامتِ اللسانِ، الناطقِ الفعلِ، النابذِ لكل ما يهدد بالفرقة والنـزاع. هي الأم الكبرى، المعطاءُ بلا حساب، الحاميةُ للكل لأنّ الكل بمثابة أبناء لها، سعادتها من سعادتهم وحزنها صدى لعذاباتهم. هي التي لغتُها لغةُ الطبيعة لا لغة الناس. أجل، فباللغة المستوحاة من جيرة الطبيعة، تتفوق أم يحي على سائر شخصيات الرواية. شمولية نظرتها إلى بني البشر تترجمها رمزيةُ مفرداتها التي بها تخاطب الجميع، وبصورة خاصة نساء الجيرة الواحدة. فما هي، إذن، تلك المفردات وما هي دلالاتها؟

 مفردات لغة أم يحي ليست الكلمات المنطوقة وإنما هي مسلكيات تعكس دلالاتٍ يفهمها الآخرون فهماً عميقاً ويترجمونها بلغتهم المحكية. مسلكياتُها مواقفُ وتوجّهاتٌ، لغةٌ أشبه ما تكون بلغة الطقوس وإيماءات النوايا،تنعكس في الإنطباعات التي تتركها حياتُها في ذاكرة شخصيات الرواية. في مقطوعة إبنتها صفيّة، تطل علينا أم يحي بصورة الأم التي إذا غضبت من بناتها تنهرهنّ "بطرابين وردها" (28). ولحرصها على حمايتهن من  الحزن والأسى يوم تموت، تُيَبِّسُ الوردَ في المناشف التي سيستعملْنَها بعد تحميم جثتها، فيفوح عليهن العبقُ المخبّأ في المناشف "فَيُطَفَّفُ بالوردِ حزنُنا عليها" (28). في حياتها كانت "لنا ولسياجها سياجاً سيّاجاً" (28)، وهي كذلك لهنّ يوم وفاتها. يتذكّرنها بلغة الأرض والطبيعة المعطاء، كما يتذكّرنها وكأنما هي توصيهن بالتحلّي بالصبر واللباقة مع أهل الجيرة ممّن يحببن أو يكرهْنَ ،"فللجيرة عندها رحمٌ لا يُستحبّ قطعُها" (29). تترجم صفية نوايا أمها بهذه الكلمات: " فَوحةُ الوردِ في حياتكِ والموت هي الرحم التي نعاهدكِ يا أمي أن لا نقطعها بيننا وبين الناس أبداً" (29). وسياج الورد الذي اشتهرت به أم يحي عمرتْ من خلفه "قاصيَ البيوت ودانيها بفوحة الورد الشاردة إلى الشبابيك وبطرابين الورد ساعيةً إلى الأبواب ملء مناديلها البيض، سوانحَ من نواياها التي بها رَعَتْ أقدار جاراتها وبها أخمدت ألسنة السوء دونهنّ" (30)، فكأنما كانت حتى من خلف سياجها "فوحة الرفق والحب" (30) تعبر كل شباك وباب في زمن محن النساء وفي مواسم سعادتهنّ. ذاكرة م شريف تؤكد هي الأخرى على هذه الإنطباعات، فهي التي فقدت عذريتها في علاقة عابرة مع جهّار زمن الشباب وجَرَتْ بخبرها ألسنةُ السوء، ثم كان لها من أم يحي الرقيب الساعي إلى كفّ الألسنة عنها يوم تزوجت من إبن جيرتهم عدنان. هكذا تتمثل الذكرى في خواطر أم شريف: "وما كان أغرب من مَكْرِ الليل والنهار إلاّ صفيةُ تطرق بابنا (صبيحة اليوم الأول لزواج أم شريف) بطرابين الورد من سياج أم يحي، ملء منديلها الأبيض، مشعشعةً على وجه سلتها الملأى بأرغفةٍ خبزتْها لنا على وجه الفجر وبفطائر الفرفحينة الهنية... "(33). هذه المبادرة الرمزية هي اللغة التي تخاطب بها أم يحي الجيرةَ كلها فتحرج بها ألسنة السوء وتكف عن جارتها الأذى. طرابين الورد، أرغفة الخبز، فطائر الفرفحينة هي لغة التعاطف، لغة السياج الذي تزنّر به الأم الكبرى سمعةَ المرأة التي انحرف بها مرةً عن الجادة طيشُ الشباب. ذاكرة عازر الديّار، مثل سابقتيْها، تضيء على الدور التوفيقي الذي لعبتْه أم يحي في حياة الملتين: "الوفاءَ الوفاءَ لذكراك يا أم يحي، فلقد كنتِ في جيرتنا لجيرتنا أكثر مما يكون لجاره الجارُ، ومناديلُكِ البيضُ، مشعشعةً بطرابين وردكِ التي عبقتْ بفوحها أيامُنا وأعمارُنا خجّلتْنا في مواسم النعرات حتى من وساوسنا السود فزجرناها ثم دفعناها كما تُدفعُ السيئةُ بالحسنة في شريعتكم وكما يُدفع في شريعتنا الذنبُ بالغفران " (38).

         ظاهرة التعادل بين الإنتماء إلى الدين والإنتماء إلى الجيرة تتجلى ليس فحسب في سلوكيات أم يحي وفي الصداقة الحميمة التي جمعت جهّار الجمري وعازر الديّار بل كذلك في سلسلة من الغراميات التي عصفَتْ برجال الجيرة ونسائها من الملتيْن ففرضتْ نوعاً من الإختراق الإنساني لمقولة الملل والنحل. بأربعة أمثلة رئيسية يمكن إختصار هذه الظاهرة: علاقة أم ميلاد بجهّار، علاقة جهّار بهتون، علاقة المختار بماريّا، علاقة سارب الهيّوب بماريّا ذاتها.

         ولكن قبل دراسة هذه الأمثلة لا بد من الإلماح إلى أن الفصل الأول من الرواية يبدو وكأنه إحتفال بالطبيعة – البساتين والأشجار والثمار والحشائش والورد والتراب والنهر والبحر – وبالطبيعة البشرية ، خاصة في متجليات العاطفة والرغبة اللتين تعصفان بشباب وشابات ورجال ونساء من كلتا الطائفتين. بكلمات أخرى، يحاول الفصل الأول أن يستعرض الوضع الإنساني في مستواه البدائي، الفطري، الغرائزي حيث الأشياء هي هي في طفرتها الأولى التي لم تعبث بها أو تبدّلها الثقافةُ والأعرافُ الإجتماعية. ولأنّ زمن الرواية ليس بالزمن البدائي ولأن الإنتماء الطائفي – أحد المكونات الثقافية- حاضر بقوة ، فلا مناص من وقوع المجابهة والصدام بين فطرة الفرد وأعراف الجماعة.

         أول الأمثلة على ظاهرة الهوى المتبادَل بين رجال ونساء من الملتين هي حكاية أم ميلاد. في أول طلعتها إنجذبتْ أم ميلاد إلى جهّار الجمري إنجذاباً عنيفاً وعاشت معه، خفيةً، قصة حب لم تنتهِ إلا برحيله بعيداً عن أرض الجيرة. إنتهت العلاقة بينهما حتماً، ولكنها أبداً لم تنطفئ في وجدان العاشقة المهجورة. هي الآن، وهي تحث الخطى نحو منـزل أم يحي لأداء واجب التعزية، تحلم أن تلتقي به "وأنا جالسة مع المودعات فوق رأس الراحلة، عيناي مملوءتان بالباب الذي سيمتلىء به لحظةَ يخدّر دخولُهُ علينا الموتَ والحياةَ، فينكسر وداعُهُ لها بلقائه بي ويكون لقائي به وداعي لها" (9). ذاكرتها مترعة لا تزال بماضي الوجد والهيمان، بذكرى نزولها إلى ضفة النهر حيث غزارة القصب "تكتمنا كالسر عن شجر البرتقال المصطفّ وراء كَتِفٍ من التراب عالٍ وعريض" (8). ولقد "كان النهر كله لي وله، ضفّتُهُ صَيْفُ عرينا" (9). أما في الشتاء فكانت تختلي به في الغرفة التي أُلحِقت بغرفة المونة، حيث، حينما يتبادلان الهوى على ضوء القنديل الشحيح، "لا تكاد ترى العينُ مني ومنه غيرَ تقصّفِ العري على رائحة التبن في المعلف ورائحة الروث تحت أرجل البقرات ورائحة الدجاجات في القنّ، وتهيّج كلُّها أنفاسَ الليل وتمتزج برائحة العرق المصبوب عليَّ من رجفات جسمه..." (9). علاقتهما ارتبطت في ذاكرتها بضفة النهر وبالريح "لأنه قبل ذا كان هو الريح" (9) وبالروائح البدائية للروث والقنّ والتبن والعرق المصبوب عليها من جسد جهّار. هو ذا التجسيد الحقيقي للوضع الإنساني في مستواه البدائي، الفطري. إلاّ أن القصة لا تنتهي عند هذا الحدّ، فأم شريف، غريمة أم ميلاد في جهّار، تلاحقها بالعين واللسان، غيرةً وحسداً وتجريحاً. العاشقة الخاسرة تهجس لا تزال بالحسرة لأن غريمتها المسيحية "حطّتْ عينيها عليه، وحوله رسمتْ دائرة السحر" (11) وسحبتْ قدميه إلى بيتها هي، هي التي بحيلة الخمرة المحرّمة وحيلة "البياض الكافر الذي تعرّيه له كتفاها" (12) حرمتْ منه أم شريف وسجّلتْ لبياضها الكافر النصرَ الأكيدَ على البياض الحلال. تنتهي المنافسة بين المرأتين بالتعادل في قسمة الحظ، إذ يرحل جهّار إلى الضفة الأخرى من النهر مخلّفاً كلاً منهما فريسةً للشوق والحسرة والإنتظار. اللغة التي تصف بها أم شريف مأساة أم ميلاد تشي بحقيقة أن مأساتهما كانت آخر الأمر واحدة. رحيل رَجُلِهِما " كسرها كما لم يكسر امرأةً رجلٌ من قبل فشرّدها عن روحها" وتركها " وحيدةَ خلوتها بالليل والريح وجلول البرتقال الممتدة من جيرتنا حتى ضفة النهر الذي عنده كأنما خلعتْ شبابَها ونسيتْهُ عشيةَ رحل جهّار عنها وعنّا إلى الضفة الأخرى التي وُلِدَتْ لنا، على حين غفلة منّا، من مواجع الغيب، كما تولد الصدفةُ من صدفةٍ أغربَ منها " (11). وشوقُهما إليه، بعد كل تلك السنوات، يجمعُهما من جديد في مناسبة أدائهما لواجب التعزية بأم يحي، أم معشوقهما جهّار. في المقطوعة المخصصة لها تسجل صفيّة لحظةَ اللقاء بين هاتين المتنافستيْن قديماً على قلب جهّار والحَرَجَ الذي فاضت به عيونُ المعزيات من نساء الملتين، النساء اللواتي كنّ يَلُكْنَ أحاديث العاشقتيْن منذ زمن بعيد (29). حتى وإن أحجمتْ صفية عن طردهما من البيت، فأحاسيسها وأفكارها هي لغة الثقافة والأعراف التي تنكر على الإنسان الفرد إنسياقَهُ الجارف مع فطرة العاطفة والشهوة، فتعنّفه بالنظرة إن لم تستطع أن تزجره وتنبذه بالكلمة الصريحة.

         ثاني الأمثلة حكاية جهّار. قبل أن تنشأ بينه وبين أم ميلاد تلك العلاقة التي سلف ذكرُها، كان جهّار قد أولع ولعاً جنونياً، وهو في سن العشرين، بفتاة في السادسة عشرة من عمرها، إسمها هَتونْ. وكانت عائلة هتون قد رحلت من مسقط رأسها في الدامور ولجأت إلى بيت إسحيّا، جار عائلة الجمري، هرباً من مشكلة كان والدها قد تورط فيها بسبب تفتّح عيون  الرجال على إبنته. وحينما دَهَمَهُمْ الليلُ قبل بلوغهم بيت قريبهم إسحيّا، توقفوا بباب عائلة الجمري فاستقبلتهم أم يحي وأرسلتْ معهم جهّار، يحمل أمامهم القنديل ليضيء لهم الطريق صوب مقصدهم. هتون، البيضاء البشرة، كانت ترتدي ثوباً أسود، والصليب يتدلى "بسلسلة رهيفة من بياض عنقها" (41). وكما لا يزال يتذكر جهّار، فقد سارت الفتاة بمحاذاته "وكان وجهها طيّعَ الإنعطاف إلى ناحيتي" (43). أخيراً لانت "ملامحُ وجهها وتفتّح الضوء في عينيها وهي تأخذ عينيَّ بخيط من شعاع" (43). ثم كان بينهما الذي كان. كانا يتسللان عبر جلول البرتقال، قدماه وقدماها تغوص في طين البستان ووحوله "وكأننا نغوص في تلة من عجوة التمر" (44) وينـزلان إلى ضفة النهر ،ليلاً، حيث يتساقيان الهوى في غفلة عن عيون الناس. جسداهما كانا يتّحدان بالماء والتراب: " ولكم ، بعدما اغترفتْني مرات بعينيها واغترفتُها بعينيَّ، توحّدَ بنا الماءُ والترابُ، نتقلّب عليه وفيه وتسري فينا لدونتُهُ كما تسري فيه لدونتُنا..." (44). تلك هي طفرة العشق البدائي حيث الأرض التي منها الجسدُ هي لغته كما هو لغتها. بالنسبة لجهّار لم تكن تلك بالعلاقة العابرة، فلقد جمحتْ به عاطفتُهُ نحو المستحيل فتصوّر هتون زوجة له وباح لها بالوعد " أنْ ستكونين لي سَكَناً في عين الله وفي عيون الناس حينما يئين الأوان..." (44) . ولقد تمتع أحدهما بالآخر شهوراً طويلة حتى أن هتون التي "بَشَرَتُها لجسدها سياق" (45) استأثرتْ لنفسها بعينيْ جهار وقلبه وحواسه كلها، وحتى أن جهار إستولى على كل كيانه ذلك الجموحُ الذي "قَلًّصَ حدود العالم إلى مواطئ قدميْ هتون" (45). جسدها، في وعيه وخياله، صدى لجمالات الطبيعة، ففي ثدييها اللتيْن كبرتقالتيْن "هزجةٌ من هزجات عتوّ الصبا" (45). سُرَّتُها " حبَّةُ الفلّ" (45). بطنُها " فسحةٌ من نقاء الياسمين" (45) شَعْرُ عانتها "تعويذةُ ورقِ التوت" (45). فخذاها زنبقتان "من هفاف الحرير" (45). كتفاها وأليّتاها "عجوة القمر" (45). وهي، حين يرفع، بذراعيه القويتين ، كاملَ عُرْيِها في الهواء، فوق كتفيه ورأسه، ليواجه بها وجه الشمس، تتحوّل في عينيه وخياله فإذا هي "صرخةُ الطين تَجَلَّى  شُعَلا" (45). هذا التلاحم، بل التماهي، بين الطبيعة والإنسان ما هو إلاّ الصورة الأنقى للفردوس البدائي المنبثق من فطرة التكوين. ولأن زمن الرواية ليس بالزمن البدائي، فإن الأعراف الإجتماعية والحساسيات الطائفية ستقف كالسدّ في وجه الفطرة الإنسانية وعفوية التجاذب والإنجذاب، وقد تضطر إلى قمع كل ذلك وتدميره إلى الأبد.

إزدواجية القدر في هكذا علاقات تهيئ لحبكة الفصل الأول من الرواية أن تصل إلى الذروة التي ليس بعدها إلا الإنزلاق نحو الهاوية. الوقت هو نيسان، زمن إحتفال الطبيعة بقدراتها وبمكنوناتها. العاشق في العشرين النيساني من عمره. المعشوقةُ في السادسة عشرة من نيساناتها. وفي اللحظة التي يجاهر فيها الجسدُ بعشق الجسد، في زخمٍ إحتفالي عارم، حينما عُرْيُ هتون يرتفع في الهواء فوق عري جهار، حينما يتوهّج الطين ليتجلى شعلاً في وجه الشمس، إذذاكَ، إذذاك، يوجّه القدر الإجتماعي/ الطائفي، بشخص والد هتون، إلى هتون، طلقتْين من الجفت الذي كان قد حمله معه من الدامور. في لحظة هُوِيِّها إلى الأرض يعود جسدها إلى حالته الترابية وينتهي زمن التحولات الإحتفالية. ذاكرة جهّار تشبّه الطلقتيْن بـِ "نظرتيْن رمتْهما عينان محشوتّان بصمت وظلام"(46). عينا الثقافة والأعراف هما القدر الآخر لهذا الجسد، لهذه النفس، لفطرة الطبيعة فيهما. لا تخبّرنا الرواية إذا ما الطلقتان هما ما أنهيا حياة هتون، ولكن الأكيد أنها رمت بنفسها في النهر في لحظة الذعر والهلع. محاولة جهّار للإمساك بها وانتشالها من عمق النهر هي اللحظة الأشرس في تجربته، فأصابع النهر تسحبها بعيداً بعيداً صوب البحر، وتخلّف له منها ذكرى الفاجعة. هي الماضي الفردوسي الذي كان، وهي الماثلةُ أبداً في سياق الحاضر وربما المستقبل. هذا ما تنطوي عليه كلماته الأخيرة إذ يحدّث نفسه أنْ

"كلُّ نسائي بعدها الحنينُ إليها،

تلك التي شوقي إلى قُبْلَتِها أوّلُ القبلةِ،

وتلك التي رائحتُها فاتحةُ الأحزان في جسدي" (46).

      ثالث الأمثلة حكاية المختار. هذه الشخصية لا إسم لها في الرواية إلاّ هذا اللقب الإجتماعي الذي إكتسبه لثقة أهل حيّه به وإنتخابهم له ليسهّل لهم معاملاتهم الرسمية وليكون رمزًا للأب الكبير في حياة الملتين اللتين تنتظمهما الجيرةُ الواحدة وليكون " أعقلهم وأركزهم أجمعين" (76). وهو، مثلهم جميعاً متين الصلة بهويته الدينية ومواظبٌ على أداء واجبه تجاه أبناء الجيرة الذين إذا حشرتهم الظروف "لا يتحرجون من طلبه" حتى عبر شبابيكه، حتى في خلوة صلاته، حتى في غبشة فجره" (128)، وذلك في زمن السلم كما في زمن الحرب الأهلية التي إندلعت عام 1958. هو المسلم الذي هواه مع مصر المسلمة زمن العدوان الثلاثي على بورسعيد ولكنّ هواه يظل في ضلوعه فلا يتأذى منه النصارى من جيرانه المتعاطفين طائفياً مع الجيشين الفرنسي والبريطاني في إعتدائهما على مصر. يسمع ويرى ويهجس بالنوايا التي تسلخ فريقاً من فريق، ولكنّه يلزم آدابَ اللباقة المتعارَف عليها في ممارسة التعايش المتوارَث. أما على الصعيد الذاتي فهو الجامعُ للورعِ الديني، متجلياً في ولعه بصلاة الفجر، والعشقِ الدنيوي، متجليّاً في ولعه بماريا، إبنة الإثنتيْ عشر ربيعاً. هو خليط عجيب من الأحاسيس والميول التي تتفاعل في كيانه لتجعل له فرادةً لا تشركه فيها شخصيةٌ أخرى من شخصيات الرواية. الولع بالأنوثة قَدَرُهُ، كما هو قدر العديد من رجال وشباب الحي. ولكنّ فارق العمر بين العاشق والمعشوق هو المشكلة الحقيقية في تجربة المختار. ولذلك كان حتماً عليه أن يطبق صدرَهُ على سرّه فلا يطلع عليه أحداً، وأن يعاني من غربة شرسة في بيئته التي تستهجن أعرافُها فَرْقَ ما بين الأربعين والثانية عشرة. يحدّث نفسه بماريا،يهجس ببياضها الفتّان، يناجيها في سره: " ماريّا، يا ماريّا، يا مسيحية البياض، يا سابغتَهُ، اهجعي، فلعينيكِ النومُ بلسمٌ في الفجرِ وفي ذمة الصبح والضحى، ومنّي لكِ مع كل صلاة فجرٍ نهنهةٌ من دعاء" (13). في مناجاته الصامتة لها يتماهى الدينيُّ والدنيويُّ، الروحُ والجسدُ، وتنبسطُ هذه الظاهرة على مدى الرواية حتى أن المختار، وهو في صميم عزلته، يخاطب الله مناجياً إيّاه أن يحوّل ماريّا إلى واحدةٍ من الحور العين لعلها تكون نصيبه في الآخرة. تلك هي طريقته الحُلُمِيّة في مواجهة الأعراف. ولكنّها ليست الطريقة الوحيدة. معاناته في عشقها تشعل خياله بالإحتمالات، فهو وهي مطارَدان بعيون الجيرة المستنكِرة، وهو لهذا مهووس بحمايتها من تلك العيون. مرةً يحفر في جذع شجرة الجمّيز "لي ولبياض السرّ مخبأً كان لي ولها خلوةً من ورع البياض" (90)، " مخبأ يكون لي ولها سياجاً دون سياج الملّة الأخرة" (76). ومرةً يخبّئها داخل موجة تنهض وتنحني وتلتفّ على ذاتها ويتوقف بها الزمنُ فلا هي تنكسر على منخفض من الماء أمامها "ولا نحن نخرج من فلك إلتفافها، ولا تعرف سرَّ مخبأنا البساتينُ التي تعرّتْ من ورع الخلوة كلُّ سياجاتها" (91). إنه جنون الخيال. إنه الجموح إلى المستحيل. وكلاهما لغةٌ في الإنفلات من قبضة الطوائف والأعراف.

         إن المناجاة الشعرية التي يتوجه بها المختارُ صوب السماء، والتي بها تُختتم الرواية عن قصد، ترتفع إلى السماء بصوت ينوب عن أصوات الذين يمثلهم المختار في الأرض. إنه الصوت الجَمْعِيُّ الذي رجاؤه رجاؤهم وشكاتُهُ شكاتُهُم. المناجاة، وهي الكلمات التي بها يكاشف الإنسان خالقه بسره، هي التكثيف الشعري الناضح بشيء من العتب على السماء أنْ قدّرَتْ للوضع الإنساني أن يكون على ما هو عليه، أنْ حرَّمَتْ على الأرض أن يكون لها، دائماً وأبداً فردوسُها الأرضيُّ، من صنعها هي، فدفعتْ بالإنسان إلى حتمية التعلّق بفردوس سماوي من صنع القوى اللامرئية. إنها القفزةُ من الممكنِ المُجَرَّبِ، ولو لأوان قصير، إلى المؤَمَّلِ المجهولِ، والذي سيظل مجهولاًَ حتى يجلّيه للعين والقلب يقينُ الغيب العجيب. هي ذي بنصّها الكامل مناجاة المختار، تختزل المعاناة البشرية في تأرجحها بين الممكن والمؤمَّل، بين الماضي الأرضي والمستقبل الغيبيّ، بين الأسى والرجاء:

صباحُ الخيرِ يا اللهْ       وأنتَ الخيرُ يا اللهْ

برأتَ الغيبَ، كلَّ الغيب، ما ترضى له يرضاهْ

فمنكَ الليلُ والأرياحُ والأشباحْ

ومنكَ الدمعُ، آهُ الجرحِ، ما ناح به النُوَّاحْ

ومنكَ الصبحُ والإصباحُ والمصباحُ، يا اللهْ

ومنكَ رحابةُ النورِ المنـزَّلِ من سَمَاكَ إلى سَمَاهْ

عليَّ الأرضُ ضاقتْ والفضاءُ مَدَاهُ غاضَ، فكيف غاضَ تُرى مَداهْ؟

على قلبي بنوركَ وسِّعِ الرؤيا فليس له سوى الرؤيا حياهْ

وعَلِّلْهُ بماريّا فماريّا كوعدِ الغيبِ بالبعثِ

بحورِ العين تنشئهنَّ إنشاءً بروحٍ منكَ مُنْبَثِّ

ويا ربَّاهُ، يا ربّاهُ، ما ضَرَّ جنانَ الخلدِ لو إنسيّةٌ حَلَّتْ بحوريَّهْ

بإِسمٍ كان مَاريّهْ

وكانت حظّيَ المقسومَ لي في الغيب مِنْهُنَّهْ

وكان بياضُها الجنَّهْ

بياضُ العشرِ والسنتينِ لا قَلَّتْ ولا زِدْنَهْ

وكان اللهفَ مشيتُها، تنفُّسَ ياسمين الفجر في فجرٍ من الفتنَهْ

وكانت كلّها لي شجْرةَ الجمّيزِ بالجمّيزِ، كم كنّا قطفناهُ وذقناهُ

ونمنا في حنايا الجذع مَحْمِيَّيْن من رصدٍ رُصِدْناهُ

وكانت كلّها لي رحمةً من عرشكَ الرحمن، يا اللهْ ؟

وماذا كان ضَرَّ الغيبَ لو كان كما نهواهْ ؟

فيا اللهُ، يا اللهْ

على قلبي بنوركَ وسّعِ الرؤيا فليس له سوى الرؤيا حياهْ

وهذا الجسمُ، هذا الجسمُ أفناهُ الدعاءُ فكلُّهُ شفتاهْ

تطيبانِ إذا صعدتْ صباحُ الخير، يا اللهْ

إليكَ، فأنتَ كلّ الخير، كلّ الخير ، يا اللهْ

         رابع الأمثلة، حكاية ساربْ الهيّوب. هو الشاب الذي لم تخشّنه الحياة ولم يتكسّب بعد رجولة الرجال، وقد نشأ في المدينة المحاصرَة خلال الثورة الشعبية ضد كميل شمعون، وفرَّ منها إلى البساتين المحاذية لنهر الأولي. هناك يلتقي، صدفةً ،بماريّا، إبنة الإثنتي عشر ربيعاً – مسيحية البياض التي شُغِفَ بها كذلك مختارُ الحيّ الأربعينيّ السنوات. لحظةُ لقائهما الأول تتوهج كالحمّى في ذاكرته، إذ "هي تناولني، في طقة الظهر، من على باب بيتها، إبريقَ الفخّار العتيق" (96). اللحظة ذاتها تتذكرها أم ماريّا وتصف ما حدث له وقد وقع عليه سِحْرُ إبنتها : "... والذي حينما خرجت ماريا تناوله الإبريق، إرتفع في يده الإبريقُ وتجمّد في الهواء، فلا هو يشربُ منه ولا هو يعيده إليها، تجمّد في الهواء تجمُّدَ يده وتجمدتْ عيناه في وجهها وكأنه يرى سراً انكشف له فجأة..." (101). وفي روحاته ومجيئاته عبر البساتين، يظل يهجس بها هجساً عجيباً حتى لكأن "روحاً من أرواح الجن لبستْه" (98) فهو يقف مسمّراً في مكانه فجأة ناسياً نفسه وكلَّ مَنْ حوله، ليصرخ فجأة باسمها صرخةً تنفجرُ في الجو مثل "نواح العاصفة في كانون وآذار " (98). ثم هو يتسلل إلى بيتها عبر الأشجار ليقف تحت شبّاكها فتفتح له ويتناجيان. ثم يتم بينهما، ذات فجر، لقاء غريب له من دلالات العشق المتبادَل ما له. يتذكر عبد البربوشْ كيف أنّه والهيّوب كانا ذات ليلة ينقلان السلاح للمقاومة سراً من الضفة الشمالية للنهر إلى ضفته الجنوبية، بعيداً عن أعين الجيش. ليلتها جنَّ جنون الهيّوب فانطلق معه البربوشْ، من باب الإشفاق عليه، حتى عبرا إلى الضفة الجنوبية ثم عبرا الطريق ثم تسلقا سور البستان الذي هي فيه، ثم سارا نحو الفرن الطيني البعيد قليلاً عن بيتها. كان الوقت فجراً آنذاك وكانت رائحة النار والخبز تعبق في الهواء. فجأة، "في لحظة كأنها رمشة العين أراها تقف في وجههِ وكأنها طلعتْ عليه من الأرض، وفي يدها رغيف منفوخ، وكأنما خرج لتوّه من الفرن، تضعه في يده وتختفي..." (112). وحينما يبتعد الشابان عن بيتنا قليلاً يتوقفان ويتأملان الرغيف المثقوب، وإذ يفلقه الهيّوبُ، "تطلع في وجهنا هَبْلَةٌ سخنة ويطلع معها إلى أعيننا الصليبُ الصغيرُ الذي كان على صدرها يوم ناولته إبريق الفخار..." (113). تلك كانت هدية المعشوق للعاشق، رمزاً تسمو دلالاتُهُ بهما فوق الحساسيات الطائفية وفوق طائفية الأعراف. ثم تأتي ليلة الخطيفة. يتسلل هو والبربوشْ عبر الأشجار ويقفان تحت شبّاكها حيث ترمي إليه "ببقجة ثيابها ثم تجلس على حافة الشبّاك وتدلدل قدميها في الهواء..." (131) ثمّ "تزحط شيئاً فشيئاً على حافة الشبّاك ويداها مشدودتان كل واحدة على درفة، لتوازن نفسها، حتى لا تقع طبّاً على الأرض، ومع كل زحطة ترتفع يداه إليها أكثر ويزحط فستانُها عنها شيئاً إلى فوق، وشيئاً فشيئاً حتى تصبح كلها في الهواء وتنـزل علينا نزول السكينة والطمأنينة..." (132). تضطرب عيون الجيرة في وجوه أهل الجيرة، "فالمخطوفة قاصر والخاطف غريب عن أهل الجيرة والقصة تكبر وتظل تكبر حتى تصبح مسلماً يتطاول على عائلة مسيحية" (132). ولدرء الشر عن الجميع يتوسّط عازر الديّار لدى جهّار الجمري لتعود الفتاة إلى أهلها "فَتُطَيّبُ الخواطرُ الهائجةُ ويبرد الدم في العروق". العاشقان المختبئان في بيت المختار يستسلمان آخر الأمر إلى إرادة الملتين ليظل التعايش بينهما ممكناً ومستمراً. ولعله جديرٌ بالذكر هنا أن القصة هذه تتكرر ولكن بفتاة مسلمة، هذه المرة، تهرب مع شاب مسيحي، فيتوسّط جهّار الجمري لدى عازر الديّار لإعادتها إلى أهلها فيتم للملتين ما تشاءانه ويسود الجيرةَ السلامُ الإجتماعيُّ المتوارَثُ (82-83). النصرُ للجماعة والعذابُ للفرد، تلك هي المعادلة العجيبة التي تسود الفردوس الأرضي، فردوس الممكن الذي خميرته التناقضات، فردوس اللاكمال حتى تتبدل الأرضُ غيرَ الأرض.

         ظاهرة العشق المتبادل بين رجال ونساء الملتين لا يقتصر على الأمثلة الأربعة التي سلفَ ذكرُها، فهي تتجلى كذلك في حكايات أبو الوليد وسامح الجمري، ورضيَّهْ المهادي. ولأهمية الدلالات التي تحملها هذه الظاهرةُ في تكوين الرؤية الإنسانية / السياسية/ الدينية التي تنتظم الرواية كلها فلا بد من الإلماح السريع إلى هذه الحكايات الثلاث. أبو الوليد، صديق حميم لجهّار الجمري ترمي به المقادير في درب جانيت، أخت جان، وتلهب أيامه ولياليه بشيء مثل "خميرة الشوق التي أوّلُها العبقُ وآخرُها تفتّحُ الفلّة" (106). كيف لا، وخطوات جانيت "وهي تبتعد عني في آخر سهرة عرق دعانا إليها أخوها جان، كانت خطوات حزم، كما تخطو الفَرَسُ، لا خطوات امرأة ينهدل على جسمها الفستانُ انهدالَ الرذاذ" (64). الحساسية الجديدة التي نشأت بين الملتين بسبب العدوان الثلاثي على مصر يؤرّق أبو الوليد "لخوفٍ بي شديد أن تهجرني أختُ جان إذا انكسرتْ في الحرب مصرُ وانكسرتْ بانكسارها شوكةُ ملّتنا" (50). أبو الوليد يعي وعياً كاملاً الخطرَ الذي يهدّد مبدأ التعايش بين الملّتين ويهجس بالشوق إلى تلك الحقبة التي كانت له ولسواه بمثابة الفردوس الأرضيّ. خير تمثيل لحقيقة الفردوس الذي كان، إنّما يَرِدُ في المقطع التالي من تأملات أبو الوليد:

"منذ صباي الأول، وأنا أنزل الطريق عينها وأصعدها من ضيعتي إلى المدرسة في صيدا، أعواماً ملأت عينيّ وقلبي بفتياتِ الضِّيَعِ، وخاصة اللواتي من غير ملّتنا، فكنّ يتحشّرْنَ بي وبرفاقي متفكهاتٍ على حيائنا حتى سقط مع العمر منّا الحياءُ فذقنا عبقَ الملّة الأخرى خلف سياجات البيوت وفي معالف البقر والماعز وفي جلول الزيتون وعلى حرارة الأفران الطينية التي خلف البيوت، وفي أربعة فصول السنة نذوق عبقَ الملّة الأخرى وتذوقنا حتى استأنستْ آخرَ المطافِ عيونُنا بالكنائس، التي أصبحت في أعيادهنّ لنا عيداً قلَبَ في أعمارنا الأجراس إلى مآذن تنادينا للحبّ الذي كان صلاتنا آنذاك، نتعلّمها خارج البيوت والمدارس ونرتّلها آهاتٍ وأغانيَّ وصفيراً مُلَحَّناً تجيب عليه من فتحات الشبابيك وجوهٌ تنثر الفرحَ نداءاتٍ خفيّةً إلاّ على العاشقين" (50).

         سامح الجمري، الطالب الجامعي المهووس بالجمال الأنثوي، يقع في غرام زميلته في الدراسة،الراهبة غريس. تبادله الراهبة المودة وتظل علاقتهما في إطار الإنجذاب المتبادل. هي تهديه نسخة من الإنجيل وهو يتقبّل الهدية. صحيح أن اسمها يوحي إليه بأنها "النعمةُ المرأةُ، والبركةُ الراهبةُ" (146) إلاّ أن خيال الشاعر فيه يلحّ عليه بآلاء الأنثى فيها . " وجهها الأبيضُ الرقيقةُ تكاوينُهُ" و"ملاسةُ شفتيها" وتورُّدُ "أطراف خدّيها بشيء من تاج النار في البابور" (146) تلاحقه كلّها في خلواته الطويلة بنفسه. وحينما ينتظرها ذات صباح تتحول في خياله إلى تلك الجميلة التي يخاطبها الملك سليمان في النشيد السابع من نشيد الأناشيد بقوله: " ما أجمل خطواتك بالحذاء يا بنت الأمير" (149). ثم يتذكّر سامح كل التشابيه الشعرية، المستوحاة من الطبيعةِ ذاتِها، والتي إستخدمها سليمان في تصويره الإحتفالي لتفاصيل جسد الحبيبة. إذن هي المرأةُ في الراهبة ما يشغل بال الشاعر. وسرعان ما ينظم بها القصيدة التي مطلعُها " صليبانِ؟ كيف؟ تُرى ما الخبرْ/ حملتِ تُراكِ ذنوبَ البشرْ ؟" (156). في هذه القصيدة تتزاحم المفردات المسيحية كالنبيذ والصليب والمسيح، ولكنّ آلاء الأنثى تظل الهاجس الأول، فالخدانِ هما الشقيقُ والجمرتانِ ولونُ النبيذ المعتّق. وحينما تحس رنده الحيفاوي، صديقة سامح، بالإنجذاب الذي بينه وبين الراهبة، لا تعرف للتخلص منها سبيلاً، إذ "كيف أحارب مَنْ لثوبها دالّةٌ على روحه وتسفح من أجل خلاصه العطاءَ نقيّاً، حبَّها له في الله الذي هو له إلهٌ ولها إلهٌ وفي المسيح الذي يتقاسمان بالمحبةِ ذكرَه...؟" (188). وأخيراً تندلع المظاهرات الطلابية بين اليمين المسيحي واليسار الإسلامي في منطقة اليونيسكو وتبرز السكاكين والبونيات والجنازير كلغة جديدة سرعان ما ستكتسح المجتمع اللبناني لتلغي لغة الجيرة وسياج الورد ومازة العرق، لغة التعايش الذي كان. في إحدى الصدامات الطلابية، تندفع غريس لتدفع الأذى عن سامح فيتلقى صدرُها الطعنة بالبونيا فتتهاوى إلى الأرض. المودة التي تكنّها له تسمو بها فوق سياسة الطوائف وصراعاتها، تلك الصراعات التي تمهّد الطريق، رغماً عن كل العشّاق والعاشقات من الملّتين، للحرب الأهلية التي ستندلع عام 1975.

         آخر محطات العشق حكاية ابنة الجنوب، رضيّهْ المهادي، التي أتمت دراستها في إحدى ثانويات صيدا وتعلّقت بحبال شاب مسيحي لتتزوجه فيما بعد وتنتقل إلى الأشرفية. رضيتْ به وتزوجتْهُ لأنها، في صيدا، سرعان ما " تعلّمتُ أن القلب متى دقّ رأى بلمحة العين ما لا تحب له الطوائفُ أن يرى"(178). ولكن بمرور الزمن تحولتْ حياتها في الأشرفية إلى غربة، بل إلى اغتراب حقيقي. إن الثورة ضد شمعون والعدوان الثلاثي على مصر شحذا الحساسيات الطائفية إلى أبعد حد. وانعكس ذلك سلباً على الأجواء الإجتماعية والطلابية في آنٍ معاً. الأحياء الإسلامية في بيروت الغربية أصبحت تشكل خطراً على أولادها كلما انفجر الوضع هنا أو هناك. وكلما ألمّ بالأولاد مرض أو اقترب إمتحان كانت تضيء لهم الشمعة في الكنيسة وتقرأ في سرها آيات من القرآن على نية سلامتهم ونجاحهم. هذه المخاوف هي المحنة الحقيقية التي كُتِبَ على رضيّهْ المهادي ومثيلاتِها أن يعشنها بعيداً عن ملّتهنّ وأهلهنّ. الفردوس القديم ضيّعهُ أهله، وبضياعه فتحوا على أنفسهم والأجيال من بعدهم بوابات الجحيم.

وختاماً، لا بد من الإلماح إلى أن الفردوس الأرضي، في هذه الرواية، تحتفل به لغةُ الأرض فتتحول في وعي الشخصيات إلى مفردات شعرية تنسبك بها الأساليبُ المتعددة، فهي في آن معاً وَصْفٌ للأمكنة بكل تفاصيلها المادية وإيحاءٌ رمزيٌّ للدلالات السيكولوجية والاجتماعية المرتبطة بتلك التفاصيل. سياج الورد – لغة أمّ جهّار الجمري – نهر الأولي، جلول بساتين البرتقال ، التراب والوحل ، التبن والروث والحشائش ، شجر الكينا ، الياسمين ، الفرن الطينيّ ، فطائر الفرفحينة ، الموقد، عاصفة الدجاج والصيصان ، وغيرها كثير كثير – هي المفردات التي تنبثق من الأرض ، فتتغذى بها المخيلّةُ ، فتتحوّل إلى لغة حيّة تنفعل بها الشخصياتُ ويتفاعل، بواسطتها، الأفرادُ والجماعات. تلك هي اللغة الشعرية التي تترقرق بها صفحات "على قارعة الغيب"، وخاصةً في الفصل الأول الذي يرصد تماهي الإنسان بالطبيعة، في أفراحه كما في أحزانه، تماهياً هو ماهية الفردوس الأرضي الذي كان. في الفصل الثاني تتكرّس لغة المنادمة ومازة العرق وقرقعة الثلج في الكؤوس بدلالات الانسجام بين أفراد الطائفتين. إنها لغةُ الطقوس الاجتماعية، لغةُ التعايش الحميم، صفةٌ من صفات الفردوس الذي عمّا قريب ستعتوره حميّا الكدر وتعصف به رياحُ الزلزلة. يحدث أول التغيير الكبير في الفصل الثالث حيث تتحوّل الأرض الطيبة، أرض البساتين والورد والخضرة والثمر والماء ، إلى أرض المعارك بين المقاومة الشعبية المناوئة لمحاولة كميل شمعون فرض التجديد لنفسه ست سنوات أخرى في الرئاسة، وقوى الجيش التي كانت غالبيتها تأتمر بأوامر مناصريه. الفصل الرابع يرصد حتمية التغيرات التاريخية، فاللغة الآن هي لغة المدينة، لغة طلاب الجامعات والشعارات السياسية، لغة الصدامات بكل رموزها اللفظية والمادية- السكاكين، البونيات، الجنازير. إن لغة الجيرة التي هي "ملّة الخلاص" ولغة "سياج الورد" تغيبان الآن عن النص، ويكتمل غيابُهما بوفاة عازر الديّار واغتيال معروف سعد، رمزيْن من رموز التعايش الذي كان صبغة الفردوس المفقود. إن اللغة الشعرية التي تمتاز بها هذه الرواية تؤسس ما يمكن تسميته بالبنيوية الأسلوبية الأعمق التي تواكب بنيوية الأحداث فتشعل فيها حرارة الوجدانات وتوزّع على الشخصيات صوراً شعرية وتشابيه هي من صميم تكوينها وكيانها بحيث لا يُذْكَرُ رمزٌ أو تشبيهٌ إلا ويطلّ منه علينا وجهٌ ولا يُذكرُ شخصٌ إلاّ وتنبثق معه في خيالنا تشبيهاتٌ ورموزٌ تتماهى مع كل مكوناته.

 

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية