د. صلاح الدين الحريري

"تعريف برواية صلصلة الرعد"

"تعريف برواية صلصلة الرعد"

 

"صلصلة الرعد" هي الجزء الثالث من الرباعية الروائية "سفر اللعنة والتوبة". الحدث الرئيس في هذا الجزء يدور حول الاجتياح الاسرائيلي للبنان صيف 1982 . ومع أن الحدث تاريخيّ بامتياز فإن الرواية تتابع تطوره من خلال وجدانات الانتماء الديني/السياسي لثلاث مجموعات من الشخصيات: المجموعة الاسلامية، المجموعة المسيحية – وكلتاهما لبنانيّتا الهوية – ومجموعة من ضباط الجيش الإسرائيلي الذين اشتركوا في عملية الاجتياح. تعمد الرواية، بالرغم من هذا التقسيم، إلى إبراز نوع من التنوّع في الرؤية السياسية ضمن كل مجموعة. آيين شارون وديفيد مردخاي، على سبيل المثال، يختلفان اختلافاً شديداً حول تقييمهما لموضوع قصف بيروت الغربية، الاختلاف المنبثق أساساً من ثنائية العهد القديم: حكمة القوّة وقوّة الحكمة. أبو طاهر يناضل ضد اللبنانيين المتعاملين مع الجيش الغازي، من مثل الصيداوي الذي يطلق على نفسه لقب الكابتن مارْدكوشْ. زوجة عازر الديّار تحاول جهدها حماية ولديْها من الانجرار وراء الأحزاب المسيحية التي تحالفت مع الجيش الاسرائيلي. حتى في مجموعة المقاومين الفلسطينيين تبرز رندة الحيفاوي كشخصية قادرة على تقييم ونقد الأخطاء التي ارتكبها مسلحو المقاومة الفلسطينية في قرى الجنوب اللبناني قبل الاجتياح. وكأنّ الرواية، من خلال هذا التنوّع المقصود ، تصرّ على اعطاء كل فئة، بصوت أحد أفرادها، فرصةً لممارسة النقد الذاتي، مما يثري العمل الأدبي بزخم درامي فريد، سواء على مستوى الفكر أم على مستوى الفعل والممارسة.

"تَنَاوُشُ البرق والرعد" ، الفصل الأول من فصول الرواية الثلاثة، ينتقل بنا من مقاهي صيدا القديمة إلى تلال عبرا شرقاً ثم ينحدر بنا إلى مخيم عين الحلوة، ومن ثم يأخذنا شمالاً إلى مطعم الجمري، ثم يطوف بنا بين القلعة البحرية والقلعة البرية حيث شباب المنظمات المسلحة ينتشرون ويأخذون مواقعهم تحسباً لعملية إنزال بحريّ للجيش الاسرائيلي قد تقع في أية لحظة، ثم لا نلبث أن نجد أنفسنا على الحدود اللبنانية الاسرائيلية مع الضابط ديفيد مردخاي تتقدم به دبابةُ الميركافا داخل الأراضي اللبنانية، ثم ينتهي بنا الفصل الأول في مطعم الجمري حيث اللقاء بين رمزيْن من رموز زمن التعايش الذي كان ثم انتهى: جهّار الجمري وزوجة صديقه المسيحي عازر الديّار. هذا التطواف من مكان إلى مكان هو بمثابة الرحلة من وعي إلى وعي ومن وجدان إلى وجدان في محاولة لتأريخ الحدث وما أثاره في النفوس من ردّات فعل متناقضة – تخوّف واستنكار، غضب واستعداد للمجابهة، مباركة وتهيؤ للتعاون. وهذه كلها ، بالطبع، إنما تشي بالتفسخ الداخلي للكيان اللبناني. ولكن التفسخ الأكبر إنما يأتي في السياق التاريخيّ لصراعات أتباع الديانات الساميّة الثلاث، والتي كان القرآن الكريم الميدانَ الأول لجدليتها الأولى. من هنا تأتي أهمية إدخال عنصر الشخصية الاسرائيلية/اليهودية في هذه الرواية التي تتخطّى دلالاتُها حدثَ الاجيتاح الذي جرى 1982 لتضيء على التاريخ الساميّ برمّته.

"مَطَرُ السَّوْءِ" هو الفصل الثاني من الرواية. الجيش الاسرائيلي الآن يحاصر مدينة صيدا بحراً وبرّاً وجواً. وكما في الفصل الأول، تنتقل بنا الرواية من وعي إلى ثانٍ إلى ثالثٍ، فنرى مشهد الحصار والقصف مجزَّءاً على شكل ومضات، أو على شكل لقطات للمشهد مأخوذة مرة من الشاطئ، ومرة من زواريب المدينة، ومرة من تلال عبرا شرقيّ     صيدا، ومرة من مطعم الجمري، ومرة من سرداب من سراديب المدينة القديمة. صحيح أن هذه اللقطات تجزّيء المشهد إلى مقطّعات وأنّ على القارئ أن يعيد ترتيبها في خياله ليرى كلّ ما يجري بوضوح، إلا أن استراتيجية التقطيع البنيويّ هذه إنما تهدف إلى عملية تكثيف لما يدور في باطن كل من الشخصيات وخاصة على المستوى السيكولوجي. كلّ مقطوعة، إذن، تضيء على جانب من جوانب الحدث العام في عين الوقت الذي تكشف لنا فيه عن سرائر النفس البشرية. إن تعدّد الأصوات الراوية يتيح للرواية الإحاطة بتعدّد السرائر، بتنوّعها ، بتعقيداتها التي لا يمكن لراوٍ واحد أن يحصيها وينقلها لنا نقلاً وافياً أميناً. هذه التقنية الروائية ، إذن، تضعنا في قلب السرائر ، سرائر الشخصيات كافةً، دونما حاجة إلى وسيط.

الوضع الانساني الذي يرصده "مطر السوء" يختصره صوتُ سميحة الجمري المسربل بالخوف على أولادها الذين كبروا وكبرت معهم هموم الدنيا "فكأنهم منذورون لأيام العذاب التي أتت إلينا بتقاتل أهل الجيرة فيما بينهم ثم بتقاتل بعضهم مع الفلسطينيين المشردين من بلادهم ثم الآن بدخول اليهود حرباً على كل الناس" (88). صوت عادل الديماسي، من جهة أخرى، يعلّق على ظاهرة العملاء المحلييّن "الذين قلوبهم ضعيفة من رجال المدينة وشبابها وينخرطون في الشبكات السريّة لجمع المعلومات عن نشاطاتنا وتسريبها لأعدائنا في الداخل والخارج وقبض ثمنها بالدولارات، عملة الخيانة..." (104) . وهو كذلك الصوت الذي يؤكّد أن تفشّي رائحة الخيانة ما كان إلا ليزيد من تفشّي روح المقاومة لإسرائيل وعملائها. وحينما نعيش مع الكابتن ماردكوش تجربة الخيانة لحظة بلحظة تأسرنا الواقعية السيكولوجية التي تتميز بها الرواية. هو الملثّم الذي يدلّ الاسرائيليين على الشباب المقاوِم. هو المطارِدُ لأبو طاهر لتسليمه للعدو. هو نموذج للإنسان الذي يبرّر لنفسه كل شيء لينال بغيته ويحقق طموحه الشخصي المريض. الواقعية السيكولوجية تنسحب كذلك على بناء الشخصيات الشبابية المقاوِمة التي تتأرجح بين اليأس والرجاء، الضعف والقوة، الخوف والشجاعة، في لحظات المواجهة مع احتمال الموت أو الأسر أو النصر. نزيه القبرصلي يمثل خير تمثيل هذا النمط من الشخصيات.

بالإضافة إلى ظاهرة العملاء المحليين يرصد هذا الفصل نوعاً آخر من ممارسة الخيانة ألا وهو قبول بعض اللبنانيين المتاجرة بالبضائع الإسرائيلية التي تفشّت في الأسواق، مع وعيهم أن رُخْصَ أسعار المواد الاستهلاكية تلك إنما الغرض منه القضاء على الاقتصاد الوطني وتحويل لبنان إلى سوق استهلاكية للعدو. كسّاب الجمري واحد من الذين تغريهم روحُهم التجارية بضرورة القبول بالأمر الواقع حتى ولو كان على حساب الوطن.

صوت جوزيف الديّار ، في هذا الفصل، يلفتنا إلى حقيقتيْن ستعدّلان قريباً من مجريات الحرب: أولاً الإنسحاب الفلسطيني إلى بيروت الغربية والتحصن فيها لاستدراج الجيش الاسرائيلي بعيداً عن حدوده وخطوط تموينه وللإستعانة بالقوى اللبنانية في مواجهة الحصار الإسرائيلي لبيروت، وقد أصبح الحصار حتماً لا مجرد احتمال ؛ ثانياً ، حقيقة أنّ " تشظّي العقل اليهودي على الصخرة المحكّ زعزع بآنيّةِ الرؤيةِ حُلُمِيَّةَ الرؤيا التوراتية فأنبتَ الشقاقَ حتى في صفوف الضباط... " (131). إن ما يمر في خاطر جوزيف الديّار لهنيهة من الهنيهات سوف يحيله الفصلُ الثالثُ من الرواية إلى دراما حيّة ، في أفعال الرجال، كما في وجداناتهم، كما في تقلّبهم بين ولاءيْن: ولاءٍ لثقافة العهد القديم التي لا تزال تطاردهم بمقولة أن الله خلقهم لتأديب الشعوب، وولاءٍ لمقتضيات اللحظة الحاضرة التي استولَدَ صعابَها لهم مغامرةُ اجتياحهم للبنان.

هذا الفصل، كما هي الرواية بمجملها، يحاول استكناه خاصّةٍ من خصائص الصراع العربي الاسرائيليّ، ألا وهي نوعية السلاح التي تواجه بها فئةٌ الفئةَ الأخرى. أبو طاهر، في لحظة من لحظاته التأمليّة، يوازن بين عبقرية السلاحيْن إذ يحدّث نفسه أن اجتياح اليهود لجنوب لبنان "لا يستهدف الوجود العسكري الفلسطيني فيه لدرء خطره عن مستوطناتهم الشمالية فحسب ... بل كذلك السلاحَ الروحيَّ الكامنَ في هذا الشرق الإسلاميّ، والذي يجهض كمونَ القدرة التدميرية في آلتهم العسكرية" (119) . إنه ، بالطبع، سلاح الجهاد والاستشهاد الذي ما فتيء يبشر به أبو طاهر في حلقاته المسجديّة مع شباب المدينة. إنه كذلك "السلاح اللامرئيّ في وجه مرئيات الحضارة الغربية التي تجتاحنا من قبل أن يبدأ الاجتياح وستبقى تمارس نفسها على كياناتنا حتى تلغيَ الشرقَ فينا... " (214).

"شقائق الحكمة والقوة" هو الفصل الثالث والأخير من رواية "صلصلة الرعد". تقنية التنقل بين الأصوات الراوية تتابع مسيرتها في هذا الفصل فتأخذنا من وعي إلى آخر ومن مكان إلى آخر لتكتمل في خيالنا صورةُ الحرب من جوانبها كافة – محاصرة الجيش الاسرائيلي لبيروت الغربية من محاور ثلاثة، عمليات القصف لها، رحيل ياسر عرفات ومسلحيه عبر مرفأ بيروت، اقتحام الجنود الاسرائيليين وبعض حلفائهم على الأرض مخيمي صبرا وشاتيلا. ثم إنّ ردات الفعل المقاوِمة من جهة، وبعض مظاهر التعامل مع العدو في سياق سياسة التطبيع من جهة أخرى، تتراكم في خيالنا مع تقلّبنا بين صوتِ راوٍ وصوتِ آخر. ولكنّ أهم مظاهر الحرب التي يستكنه أسرارَها هذا الفصلُ هو جوهر الصراع بين ديفيد مردخاي وآيين شارون.

  إن اجتياح لبنان بشكل عام، وحصار بيروت بشكل خاص، يشكّلان في هذه الرواية مناسبةً للإضاءة على فاعلية الميراث اليهودي في الرؤية المعاصرة للإسرائيليين فيما يختص بنظرتهم إلى أنفسهم وإلى الآخرين. آيين شارون وديفيد مردخاي هما القطبان اللذان تتنازعهما مقولتان أساسيتان من مقولات العهد القديم، يختصرهما شيمون أزرا بعبارة "حكمة القوة وقوة الحكمة" (222). آيين شارون يؤمن أن القوة العسكرية وحدها تضمن لإسرائيل السلامة والبقاء والتفوّق والتوسّع تحقيقاً لنبوءة الرب المغنّاة في مزامير داوود: "تنويهات الله في أفواههم وسيف ذو حدّين في يدهم، ليصنعوا نقمةً في الأمم وتأديباتٍ في الشعوب" (192). وعنده أنّ "السلم وحسن الجوار لا تحتازهما إسرائيل إلا بالحرب وانفاذ إرادة الله ..." (262). ثم إن رؤية شارون للأمور بحت ميدانية، بحت عسكرية: "الخرائط لا تكذب. نحن نرسمها ونحن نعدّلها... " (160). لغة الدبلوماسية ولغة التعايش تتعارض ، في رأيه، مع لغة الميدان، ولذا "فالسياسيون أنا لا أتعامل معهم لأنهم على الأرض لا يقدمون ولا يؤخرون" (160). أهدافُ الحرب عنده إحراقُ الأخضر واليابس وتدميرُ كل معالم الحياة: "من ميدان سباق الخيل إلى مستديرة شاتيلا يجب أن يحرق الطيران كلّ شجرة صنوبر من شجرات حرج بيروت... " (191) قبل اقتحام بيروت الغربية ومخيّمي صبرا وشاتيلا. محو الآثار الحضارية لبيروت هو كذلك هاجس من هواجسه. هذه الرؤية التدميرية تجابهها رؤية أخرى غنيّة بالمعطيات التي ترفض تصنيف الأمور بلغة الأبيض والأسود. ولذا فشخصية ديفيد مردخاي تبدو أكثر اتساعاً وعمقاً واتزاناً في تقييمها لأغراض الحرب ، الآنيّة منها والاستراتيجية المستقبلية. بالنسبة إليه، إخراج منظمة التحرير من لبنان هو الهدف الأمني المباشر لاجتياح لبنان. الهدف غير المباشر استراتيجي بامتياز: الإيحاء إلى اللبنانيين أن الإسرائيليين جاؤوا لتخليصهم من عدو مشترك هو المنظمات الفلسطينية المسلحة وأن التعايش مع جارتهم إسرائيل أمر ممكن. من أجل ذلك هو ضد إحراق الغابات والأحراج والبساتين اللبنانية وضد قصف بيروت الغربية عشوائياً وضد ارتكاب المجازر في مخيمي صبرا وشاتيلا لأن هكذا أفعال ستترك صوراً مؤلمة في خيال اللبنانيين عن وحشية اليهود، مما يعيق تحقيق أي سلام مستقبلي بين الفريقين (221).

ديفيد مردخاي يمثل خير تمثيل مقولة "قوة الحكمة" . فلماذا هو دون سواه ؟ الرواية تضيء على خلفيته الثقافية المتمثلة بصوت جدّه الذي يلاحقه عند كلّ منعطف صعب. أول ما يذكره عن جده أنه قال له مرة أن تجاربه "علّمتْه باكراً أن يعيد النظر في تصوراته للعالم الذي وجد نفسه فيه ولم يكن اختاره ولا ارتضاه" (144). لعل جدّه كان قادراً على الانسحاب من اللحظة المعيوشة لينظر إليها بتجرد من خارجها، يتأملها وكأنه يتأمل شيئاً لا علاقة له به مباشرة. المسافة التي لعله كان يضعها بينه وبين اللحظة المعيوشة كانت تتيح له أن يرى الأشياء بوضوح أكبر وأن يقلّب الفكر نواحيَ شتى قبل أن يحدد نظرته الأخيرة من مجريات الأحداث. الإنغماس في الذاتية خطر على الذات الواعية: "فإن لم يكن بدٌّ من أن تنظر إلى ظلّكَ في الماء فانظر إليه، تأمّلْه ما اشتهيتَ، ولكن حذارِ أنْ، حذارِ أن تقع في هواه وتلبي نداءَه الخفيّ فترمي بنفسك في اللجة طمعاً في لقائه هناك هناك" (144). وَعَى ديفيد مردخاي وصايا جده، ولكنها لم تكن المعين الوحيد الذي نهل منه. تجاربه الشخصية صقلت قدرة التمييز لديه: "وقد أكلتُ من الشجرة المحرّمة التي جعلتْ قبلي من آدم شريكاً لله في تمييز الخير والشر..." (167). كل هذه المعطيات حرّرتْه من التبعية الوجدانية العمياء لإيحاءات العهد القديم بضرورة الإستناد إلى مبدأ القوة للحفاظ على كيان إسرائيل. هو في آن معاً مسوقٌ بذكرى أمجاد العصور الأُوَلِ ومتيقّظٌ ، بارع التيقظ، إلى الفرق الكبير بين الحلم والحقيقة. إنسيابه في الحلم ، وإن يكن لهنيهات، يظهر جلياً في اللحظة التي سينطلق فيها الجيش تحت إمرته من جسر الأولي في اتجاه بيروت: "الآن الآن تقترب اللحظة الصفر. الآن تنفتح لجندنا وضباطنا صفحاتُ العهد القديم وتقفز منها إلى شاحناتنا ودباباتنا الخيولُ العريقةُ، تصهل في العيون والقلوب والأرواح، وبلحاهم المشعّثة المنهدلة على صدورهم وبعصيّهم المجدولة بعقدها الثخينة يطل الملوك والأنبياء يسحرون زمننا..." (145). ولكنها هنيهة وتولّي، فسرعان ما تسلخه من صفحات العهد القديم لتعيده إلى أرض الواقع "غابةٌ من الأشواك كنتُ نسيتُها في هنيهة الحلم" (146).

إن الخلافات بين ديفيد مردخاي وآيين شارون هي "سجال بين استراتيجيات النوايا" (195). وحينما يصرّ شارون على قصف بيروت الغربية واقتحام المخيمات، يتّخذ الآخر القرار التاريخي بالإنسحاب من الحرب والعودة إلى إسرائيل لرفع شكوى ضد زميله المتهور وذلك "بالشهادة على مدبّر المجازر ومنفّذها شهادةً تحفظ للضمير اليهودي فطرةَ التعادل فيه بين قوة الحكمة وحكمة القوة" (264). ديفيد مردخاي يحرمه الكمينُ الذي ينصبه له شباب المقاومة الصيداوية من إتمام رحلته إلى تل أبيب. وتتركه الرواية معلقاً في اللحظة التي يكاد فيها شيمون أزرا أن يطلق عليه النار بدعوى أن أسره سيكون "فضيحة لجيشنا وسكوتي عنه خيانة" (269)، اللحظة نفسها التي يهجس هو فيها أن أزرا، إن هو أجهز عليه، فإنما سيفعل ذلك تنفيذاً لأمر شارون بعدم تمكينه من الوصول حيّاً إلى حدود إسرائيل. المشهد الختامي يؤكد على انهزام قوة الحكمة في هذا الصراع التاريخي بين قطبيْ الصراع.

ولكن الرواية تصرّ على تذكيرنا بأن صهيل خيول الحرب ليست الأصوات الوحيدة التي تنبض بها صفحات العهد القديم. هناك أصوات أخرى تمثل ثقافة الحياة متمثلةً، على سبيل المثال، بغزليات الملك سليمان في "نشيد الأناشيد". ديفيد مردخاي يأسف بينه وبين نفسه أن الكثيرين من أبناء شعبه نسوا وينسون "أناشيد الهوى والأمثال السليمانية فليس لهم من التوراة إلا نداء الطبول وإلا حشرجة الدم في عروق نشّفتْها شموسُ التشرد في أربع رياح الأرض قروناً قروناً" (168). وسامح الجمري ، رغم كونه شخصية مسلمة، هو الشاعر الذي يعتبر نفسه وريثاً لكل التراث السامي، وإنطلاقاً من هذه الرؤية لنفسه، ينظم مقطّعات غزلية يسميها "أناشيد سليمان المنسية" وكأنما ليذكّرنا أن هواجس الحياة ، ومنها الاحتفال بالجمال، هو الإرث الإنسانيّ المشترك لكل الساميين المتصارعين على أرض المعارك الدامية. الفصل الثالث من الرواية يُفتتح ويُختتم بهذه المقطّعات الغزلية، كما تتوزع على صفحاته بين البداية والنهاية اثنتان وعشرون مقطوعة ، وظيفتُها البنيويةُ أن تظلّ تلحّ على الذاكرة بغياب هذه الظاهرة الإنسانية من ثقافة الكيان الصهيوني المعاصر. وحدها حكمة القوة العسكرية هي جوهر وجود هذا الكيان وعماد استمراره.

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية