أعمال نقدية للمؤلف | الناقوس والمئذنة





الناقوس والمئذنة

الناقوس والمئذنة:

هاجسُ الأمكنةِ وبنيويّةُ الدلالات

(دراسة نقدية لرواية نزار شقرون)

 

-       "أَكُلَّ العيشِ حِلٌّ وارتحالُ؟" قالها الشاعرُ العربي قديماً. ولكأنما بنفس الوعي الذي يسكنه الألمُ والدهشةُ يفتتحُ الراوي، وليد، حكايته في رواية "الناقوس والمئذنة". "حلَّتْ أسرة مسيو فرانسوا حيّنا" سرعان ما تُنَاقِضُها في السطر الثاني "كانت الأسر الأجنبية تختفي". هاجس التناقض هذا، والذي يَسِمُ الوضع الإنسانيّ، يؤكد حضوره في منتصف الصفحة الأولى: "كل فرنسي استقر في المدينة استوطن بيتاً لأجنبي مغادر." بين الاستقرار والمغادرة تلوح كلمة "استوطن" كلفظة مرتبكة، وكأنما الوطن، للقادمين كما للراحلين، هو حالةٌ مؤقتة، مرحلةٌ قَلِقَةٌ في رحلة البحث عن الاستقرار والانتماء. الطليان، اليونانيون، المالطيون، هم "الطيور المهاجرة". الفرنسيون، في الحقبة التي تؤرخ لها الرواية، لا يزالون يحاولون الحفاظ على تواجدهم في المدينة التي ينتمي إليها الراوي. ولكنهم، كما ستوحي لاحقاً فصولُ الرواية، مرشحون لأن يتحولّوا بدورهم إلى طيور مهاجرة. والراوي نفسه يوحي إلينا منذ البداية بأنه هو الآخر مشروع طائر مهاجر: "روحي شرود على ناصية الزمن". حتى صديقته الفرنسيّة فانيّا تعتبره "طيراً على حافة الهجرة". الناس دائماً وأبداً في ذهاب وإياب، في حلّ وارتحال، وتبقى وحدها الأمكنةُ "مطليّةً بذكريات غربتهم".

-       ولعل ذلك ما يفسّر وَلَعَ الراوي بوصف الأمكنة التي يسكنها ويرتادها لتسكن هي بدورها خيالَه ووجدانَه. العلاقة هذه بين الأمكنة والوعي البشري لها هي الظاهرة الأكثر إلحاحاً والأوفر حضوراً في البنيوية الإبداعية لرواية "الناقوس والمئذنة". فالأمكنة في هذا النصّ لا تقنع بحدودها الجغرافية، لا تملأ الصفحات لأنها كيانات قائمة بذاتها، أو لأنّ قيمتها تكمن في مجرّد وجودها. ولكنها، بسببٍ من إنفعال الشخصيات بها وتفاعلها معها وتأملّها في ما تبعثه فيها من أحاسيس وأفكار، تتحول إلى أمكنة رمزية. فَها هي الأمكنةُ تَثْرَى بما تسبغه عليها الشخصياتُ من أحاسيس وأفكارـ وها هي الشخصياتُ بدورها تمتصّ الأمكنةَ، تستدرجها إلى كيانها الداخلي حيث تضرب لنفسها جذوراً في الذاكرة لتنمو وتصبح هي مفردات اللغة. وهنا لابدّ من التأكيد على أنّ تَقَلُّبَ الراوي بين حالاته النفسية وحالاته العاطفية وحالاته الفكرية مرتبطٌ ارتباطاً عضوياً بتقلّبه بين الأمكنة التي تزخر بها الرواية: غرف البيت، غرفة السطح، الزقاق، الجدار، المقهى، المبغى، الجامع، بيت الآباء المسيحيين، بساتين الزيتون، جبل الملح، الميناء، البحر، غرفة الإستجواب... إلخ. ولعله ليس من باب المبالغة أن يستنتج القاريء أنّ تجربة وليد بكل أبعادها إنما هي رحلةٌ  عبر الأمكنة بين نقطتيـْـن متعارضتيـْـن: جبل الملح، أعلى قمة في جغرافيّة الرواية، وغرفة الإستجواب القابعة تحت سطح الأرض. إنها رحلةٌ من دلالاتِ مكانٍ إلى دلالاتِ مكانٍ آخر.

-       الفصولُ الأولى من الرواية توفّر للراوي أنواعاً ثلاثةً من الحوافز التي بدونها لا يكون شروعٌ بالرحيل: ضيقَ الأفق الثقافي/الديني المتمثّل بمفاهيم العائلة والبيئة المحلية للعلاقات الإنسانية؛ الخضرمةَ الثقافية بين المسلمين واليهود والنصارى التي كان يشهدها الحيُّ الذي يقوم فيه مسكنُ الراوي؛ ومَلَكَةَ "التخيّل" التي اخْتَصَّ بها المؤلّفُ عقلَ الراوي. التفاعل الديناميكي بين هذه العوامل الخارجية والداخلية يجعل من الشروع بالرحلة – خياليّاً، ثقافيّاً، وجسديّاً – أمراً لا مفرّ منه.

-       السَكَنُ "في حيٍّ على أطراف المدينة" هو بمثابة القَدَرِ الجغرافي. فبلوغُ المدينة الحديثة يشترط عبورَ ممرّ هو "الزقاق المحاذي للجدار"، ذلك العبور المسكون بمشاعر الخوف  التي يثيرها ضِيقُ المكان وارتفاعُ الجدار. هذا الضغط المكانيّ يظلّ يلاحق الراوي منذ سنوات الطفولة. ولكنه ليس الهاجس الوحيد الذي يلاحقه. رحيل أخته سهى عن الدنيا، موتها المبكّر، ضَيَّقَ عليه مساحةَ الوجود. رؤيتُهُ جسدَها يُوارَى التراب أَنْبَتَ في عروقه الأسئلة الكبرى عن معنى الحياة والموت. وتنامت على مرّ السنين رحلةُ التساؤلات هذه لتشمل أصل العالم ونشأة الكون. الإجابات التي تقدّمها الثقافة الدينيّة لم تكن "تفسيراً عقليّاً مقنعاً للبدايات". وإذن كان لابدّ لهذا العقل المتعطّش للمعرفة أن يتابع رحلته بحثاً عن قناعات تريحه من الشك وتؤمّن له شيئاً من اليقين.

-       ولكنّ رحلة الراوي لا تتخذ هذا المسارَ الفكريّ فحسب، بل تَلِدُ لها الظروفُ مساراً آخر فيتناغم المساران في العلاقة الحميمة التي تنشأ بينه وبين فانيّا، الفتاة الفرنسية ذات الجذور المسيحية. فانيّا، ابنة الطبيب فرانسوا، كانت في العاشرة من عمرها يوم وصولها  إلى الحي الذي يسكن فيه الراوي، وكان هو في الثانية عشرة من العمر. تأثيرها في حياة الراوي يأخذ أكثر من منحى. أوّلاً، يشهد الراوي أنها سرعان ما "عمّرتْ مكاناً خاوياً" في كيانه كان يخال أنّه لن يُعَمَّرَ بعد موت سهى. ولعله اكتشف آنذاك "وقائعَ الرحيل": "كائناتٌ تغيب في الماضي، بينما تتدفق كائناتٌ أخرى من كل صوب بألوان أخرى. موت وميلاد في دورة لا تنتهي". ثانياً، بالرغم من إحساسه بالعطف والحب والحيرة تجاه فانيّا، فمنذ قدومها وهو يشعر "بضيق البيت والشوارع والمدينة والبلد أكثر من السابق". لماذا؟ ربما لأنّ هذه الفتاة، كما يقول، "تدفعني إلى الأعلى، تغرس فيّ رغبة في قطف النجوم، وهي مغرمة بالأعالي" – إشارةً إلى طلبها أن يأخذها إلى أعلى نقطة لتطلّ منها على المدينة – ليأخذها بدوره إلى قمة جبل الملح. فانيّا تلعب دَوْرَ المُحَفِّزِ للتفلّت من حدود المكان وما للمكان من دلالات. ثالثاً، هذه الفتاة التي دخلت الحيّ غريبةً "تتلفّت يمنة ويسرة، متفحّصةً بتوجّسٍ العالمَ الغريب حولها" يلاقي الراوي الفتى في غربتها صدى  لغربته هو. تَمَازُجُ أحاسيسهما بالغربة يزيده "توقاً إلى الهجرة" معها، مع حلمها "في قنص روح ‘أخيلْ‘ على جبل الأولمب، وكأنني أبحث عن ارتياد المجهول وترك الديار." "حُلُمُ السفر استولى" عليه "حين اندلقتْ  فانيّا في جرّة" قلبه.

-       المسارُ العاطفي من حلم الراوي بالهجرة توفّر له الروايةُ سلسلةً من المحطّات التي تنبض بالأحاسيس الرقيقة، والتي، في الوقت عينه، تلقي بظلال الشك حول إمكانية إتحاد الحبيبيْن في آخر المطاف. فانيّا تقطّر كلماتها سحراً في أذنَيْه "كأنّ ماء الورد يسيل من شفتيها". في المشهد ذاته تحذّره من "وسواس السفر" فَمَن ِاشتدّ به هذا الوسواس "قارَبَ الهلاك". في رأيها، كل أبناء الحيّ "يفكرون في الهجرة" ولكنّ سلطة الآباء تقيّد أحلامهم. كلمات التحذير هذه كأنما تستقريء ما يخبّئه المستقبل لوليد. ولكنّ التحذير سرعان ما يتبخّر لحظةَ يحسّ "بخصلات شعرها" تغطي وجهه وبوجنتيها "تمسحان عرقاً طريّاً يبلّلني". الأب دومينيك كذلك يحذّره من نتائج علاقته بفانيّا: "ذات يوم ستتركك فانيّا، ستلتحق بأهلها مثلما يلتحق نجم بمجرّته". هي وأفراد عائلتها إذن من الطيور المهاجرة، وما إلحاح وليد في مشروع السفر إلى فرنسا إلاّ لإدراكه "بأنها راحلة لا محالة"، وإلاّ لأنّه يحلم بتواجده دائماً معها، رافضاً رفضاً قاطعاً احتمال خسارته لها. وليد يستمع إلى كلمات التحذير ولكنّ قلبه يرفض التخلّي عن الحلم. الأب دومينيك يمثّل صوت الرجل المجرَّب وكلماتُهُ، مثل كلمات فانيّا، لكأنما تستقريء ما يخبئه المستقبل لوليد.

-       الصعود إلى جبل الملح ثم الانحدار صوب الميناء يشكّلان مناسبة مهمّة لتطوير هذا المسار الحُلُميّ. بياضُ الملح، كبياض الثلج، يتماهى، في خيال وليد، ببياض بشرة فانيّا. تقول له مداعبةً: "الملح توأم الثلج، من غاص فيهما تاه أو مات." ولكنْ للدعابة دلالةٌ أخرى، ففي سياق هذه الدراما الإنسانية توميء مفرداتُ اللغة إلى احتماليْ التيه أو الموت كخاتمة ٍلعلاقة العاشق بالمعشوق. ويتساءل هو تساؤلَ الحائر: "هل غُصْتُ في بياضها؟ هل تهتُ كلما أوغلتُ فيها؟" يبقى الجواب معلقاً في غيابة الاحتمالات، فحضورُها الأنثوي، ضحكتُها، صوتُها، حركاتُها، تماوُجُ شعيراتها على جبينها، يحيلها "جمرةً تعابثها الريح". وعلى الشاطيء، حيث تبتلّ قدماها بالماء، "تستولي عليّ غيرةٌ من الموج..." أنثويةُ فانيّا تهيمن على خياله، فرقصتُها على دندنة الموج تحرّره من قيود المكان وتلهب فيه الرغبة في "ارتياد المجهول." في لحظة الهيمان هذه هو لا يدرك أنّ مسيرة الأحداث المضطربة في البلاد تضمر له ارتيادَ مجهولٍ من نوع آخر، مجهولٍ مُعَرّىً من رحابة النور ومن نكهة الحرّية وتحقيق الذات.

-       المحطة التالية لهذا المسار العاطفي من رحلة الراوي هو المشهدُ المقتضب للقائهما وهو يشقّ طريقه إلى دار العيادي، العضو البارز في الجماعة الاسلامية. يلاحظ من مشيتها "وكأنّ العرج ما انفكّ يظهر". ولكنه لا يتأكّد من سلامة عينيه حتى ينزل عليه قرارُها بالسفر إلى فرنسا لإجراء بعض الفحوصات الطبية. يصرخ في قلبه أنْ "هو السفر من جديد يلاحقها ولا يلاحقني". يمسك بيدها "كمن يقبض على حقيبة سفره". ينطلق بها إلى غرفة السطح، إلى عشّهما السريّ، لتنهمر هنالك كلماتُ الوداع. هذا المشهد المقتضب يمهّد للمشهد الأكثر دراميةً في هذا المسار العشقيّ/ الحلميّ. صبيحةَ اليوم الأول من السنة الجديدة يلتقي بالعيادي، يتحاوران حول ضرورة الانتفاضة والتمرّد لتغيير النظام في البلد. يستبدّ به الحلمُ القديم بالتحرر من كل القيود وتطاله "رغبةُ الإنطلاق نحو سطح العمارة، كأنما وددتُ رؤية مشهد سفح جبل الملح." يقفز إلى السطح كأنّه يلحق بظلّه أو يمسك "بطيف فانيّا". ساندرا، شقيقة فانيّا، تنتظره هناك لتبلّغه أنّ حبيبته ستضطر إلى البقاء في فرنسا لمدة طويلة، أنها ستخضع لعملية جراحية تتطلب فترة طويلة للنقاهة. ولكي تزداد وحشتُه، تنقل له ساندرا رغبةَ فانيّا أن يلبّي طلبها فيذهب "إلى البحر، بعد أن تضع في عينيكَ جبل الملح، وترقص على حافة الميناء". رجاء اليائس في طلبها هذا يبعث فيه الإحساس باليتم ويتهيّأ له أنه يسمع صوت الأب دومينيك: "نبّهتُكَ دائماً ألاّ تفكّر فيها أو تتمسّك بها... أنتَ مثل الطائر التائه في الجوّ، لم تعثر بعد على وجهتكَ الحقيقية" ولقد "حرّرتْك من قيدها" فسارعْ "إلى معانقة الحريّة." سقوطه الآن في هوّة الفراغ العظيم يستحثّه على الإستجابة لأهازيج الثورة التي تندلع في ساحة مدرسته بعد أيام فينخرط في صفوف المتظاهرين، ربما ليذوق، في منحى آخر من  مناحي الحياة، طعم الحرية التي أُجْهِضَتْ برحيل فانيّا من حياته إلى أجل غير معلوم.

-       مسارُ الرحلة الفكرية من تجربة الراوي يرتبط كذلك إرتباطاً عضوياً بالأمكنة التي يرتادها، وخاصة الجامع بمئذنته، والكنيسة بناقوسها، ودار الآباء المسيحيين بحديقة راهباتها ومكتبتها ومكتب الأب دومينيك، ومقبرة المسيحيين ، وساحة ماربورغ، وأزقّة المدينة القديمة، وحتى المبغى الذي يطارد خيالَه وإنْ هو لم يدلف إليه، وأخيراً، بالطبع، غرفة التحقيق القابعة تحت سطح الأرض. من طفولته يسترجع ذكرى ترددّه على بيت الآباء المسيحيين برفقة أمّه لتلقّي "الحقنة المجانية" على يد الأخت ماريّا. كانت أمه  تقول أنّ يد "المؤمنين فيها الشفاء"، والمؤمن هنا هي ماريّا. هذه الإشارةُ وارتياحُهُ إلى "وداعة الراهبات"تمثّلان خطوة الراوي الأولى خارج بيت الأهل وثقافته الإسلامية. التعايش الإجتماعي بين أتباع الديانتيْن كان أسلوب حياة كما يبدو آنذاك. يتلو ذلك تردّدُ الفتى على مكتبة الآباء لمطالعة الكتب. وهنا تبدأ الرحلة الفكرية للراوي بإطلاعه على الإنجيل وشعوره "بالحميمية" تسري في كيانه وهو يرسم "صورة المسيح فيتصوّره شخصاً هادئاً مسالماً". وقولُ الأب دومينيك "أنّ المسيح مبثوث في جميع الأديان" يسهّل للفتى عملية الإنفتاح على الآخر. حتى لكأنه، فيها بعد، يغامر بتشبيه الإنجيل بكتاب البيان الشيوعي. أليس اللون الأحمر يغلب على تصميم الكتابيْن؟! وكما كان يحلو له آنذاك أن يفكّر، تنبّه إلى "أنّ العقائد أيّاً كان مصدرها لها وشائج قربى". تلك هي الرغبة الفطرية في كسر الحواجز بين كافة الأشياء للوصول إلى تصوّر ِعالم ٍلا تتصارع فيه التناقضاتُ أو حتى الاختلافات. تتجلّى هذه الرغبة أكثر ما تتجلّى في قراءة الراوي لكتاب "إعترافات القدّيس أوغسطين"، في مقصورة الأب دومينيك، وانشدادِه ِ لها لأنه رأى "في ردهاتها مغامرة كل إنسان، أيّاً كانت ديانته، في خوض التجارب وركوب أمواج البحث عن الحقيقة ، من دون أن يفقد الإنسان طينته الأزليّة، التي تجعل منه نَزِقاً وصالحاً، مؤمناً وشاكّاً في مزيج ٍ واحد، باحثاً عن اللذة والطهارة، من غير أي شعور بالذنب". هو توّاقٌ إلى الاعتقاد بأن كيان كل إنسان "مثل كياني مسرح مفارقات". يكرر هذه العبارة التي تلاحقه كهاجس وهو يتهيّأ، في أواخر الرواية، للذهاب إلى مقبرة المسيحيين بدعوة من الطبيب فرانسوا.

-         ولكنّ انجذابه إلى هذا العالم المسيحي لا يخلو من انتكاسات، أوّلـُــها إحساسُه العميق بأن الأب دومينيك مثابر في انتقاده لفانيّا وفي تحذيره له من أن يحلم بالزواج منها. الإنتكاسة الثانية تتمحور حول نظرة كل منهما إلى الجسد. الحبّ، برأي دومينيك، "إذعان وما من إذعان لغير الربّ"، ذلك أنّ "مشكلة الإنسان أنّ جسده ملعون". الراوي يجابه هذا الرأي بالقول: " لو كنتُ مكانك لتحسّرتُ  على تفويت قلب الإنسان المحبّ للمرأة" وبإلحاحِه ِأنّ المحبّة لغة وأنّ "مغامرة الجسد ترجمة لهذه اللغة ... العناق، احتكاك الجسد بالجسد..." يكتشف الراوي من هذا الحوار، ومثيلاتُه كثيرةٌ في تضاعيف الرواية، أنّ المسيحي كالمسلم يخاف من النقد، يخاف من  أحكام العقل، يلتفّ بعباءة التعصّب التي لا تتّسع للرأي المخالف. ولكأنما يستنتج كذلك أنّ كل إنسان مزيج من التعصّب والقدرة على التعايش الإجتماعي مع الآخر المختلف عنه. تجربة الراوي مع الجماعة الإسلامية، وفي الأمكنة المخصصة لها، تنتابها كذلك النكساتُ: تهديد ُ العيادي المبطّن لحياة دومينيك وأتباعه لأنهم، برأيه، يبشرّون بالمسيحية في بلد مسلم؛ إصرارُ الدعاة على انتزاع المبايعة من قبل تلامذتهم ومريديهم. حتى أنّ المدينة العتيقة، بأفعوانية أزقّتها، هي المتاهة التي تعبّر عن "الخوف من الآخر" بالرغم من تواجد متاجر اليهود التي يعمل فيها مسلمون، وبالرغم من إقبال الناس على "متجر اليهودي الذي يبيع الملابس النسائية، بينما، كان أذان صلاة الجمعة ينطلق من صومعة الجامع الكبير"، وبالرغم من إدمان الراوي على إرهاف أذنيه لقرع ناقوس الكنيسة اليونانية واعترافه أنّ له رنيناً "يطبع آذاننا حتى أنه جزء من حياتنا، ولا يمكننا أن نتصوّر الحياة يوماً من دونه".  أجل بالرغم من كل ذلك، يظلّ التواجدُ والخوفُ من التواجد ِالهاجسَ الذي تنطبع به حواريّاتُ شخصيّات هذه الرواية.

-         خلاصة القول في هذا المسار أنّ تَمَاسَّ الراوي مع كلٍّ من الأمكنة التي يتواجد فيها يؤجّج فيه حميّتَه للجدال مع الآخرين ومع نفسه، ويوفّر له شيئاً مما يمكن تسميته "بالتراكم المعرفيّ". تراكمٌ معرفيٌّ هو، ولكنه ليس بأي حال من الأحوال "بالتراكم اليقينيّ".  حداثةُ سنّ الراوي، الطالب في المدرسة الثانوية، تبرّر، في تشخيص المؤلف له، كلَّ التساؤلات التي تعصف بعقله الغضّ وتحوّم به على أطراف القضايا الكبرى. هذا المسار الفكريّ هو أشبه ما يكون بالإنتفاضة العقلية/ النفسية على كل التناقضات التي تبعث الحيرة في نفوس أبناء الجيل الذي ينتمي إليه الراوي. إنها الأشواق التي تراود عقل الإنسان وخياله، في سنّ مبكرة، وتغريه بإعادة صياغة العالم على نسق يرضي أحلامَه وحسَّه النقدي. فإن صَحَّتْ هذه الفرضية، جاز القول إنّ مؤلف الرواية قد إلتزم إلتزاماً موفَّقاً بمنهج الواقعية السيكولوجية.

-         إنّ ملكةَ التخيّل التي اختصّ بها المؤلفُ عقلَ الراوي تشكّل المسارَ الثالث من رحلة الأخير في البحث عن الحقيقة، الرحلة التي يحفّزها هاجسُ الحريّة من القيود بمختلف تجلّياتها. والملكة هذه تولّد الحركةَ الذهنية التي تحرّر الإنسان من آنيّة الزمان والمكان، كما أنها تفكّ عنه قيودَ الموروثات وتسعى به إلى تجاوزها بنيّة ِإعادة ِصياغة ِ الأفكار والعالم صياغةً تلبّي رغبةً ما في نفس المتخيّــِل.  الوظيفتان هاتان تواكبهما وظيفةٌ ثالثة: التخيّلُ، الآن، يبرز كفعل ِمقاومة ٍ سيكولوجية لقوى القهر التي تجهد لإلغاء إرادة الفرد وتعطيل دورها في صياغة قدره.

-         تؤسّس الروايةُ لملكة التخيّل عند الراوي في أول حوار يجري بينه وبين "الكحلة"، حيث يزوّده هذا الأخير بأخبار المبغى: نسائه ومرتاديه. اللقاء يتم في "بهو المقهى". يصف الكحلة السحر الذي تمارسه المومس "عزيزة" على الرجال، ويسرف في تصوير محاسنها حتى يجد وليد نفسه يتفاعل "مع صورة عزيزة، وأتخيّل قامتها وسعة خصرها..." ليغرق في فتنة التفاصيل الأنثوية. من الحديث عن المبغى ينتقل الراوي إلى الحديث عن المسيح. وهو يتصفح الإنجيل، في مكتبة دار الآباء، يأخذ خيالُه برسم صورة المسيح: "تصورتُه شخصاً هادئاً مسالماً". ملكة التخيّل تلحّ في تأكيد فاعليتها في المشهد الذي يجلس فيه الراوي قبالة الأب دومينيك، في مكتب الأخير، يتحاوران. المسافة الفاصلة بينهما تتحوّل في خياله إلى "فجوة" لتتحوّل هذه بدورها فإذا هي "المسافة بين صوتين، ومكانُ مخاطرة ِالكلمات، بإتجاه الضياع أو التواصل". هذه القدرة على تحويل الأشياء إلى أشياء أخرى تمهّد للحديث عن حلم الراوي بكتابة قصة لفيلم سينمائي عن تجربة المسيحيين في مدينته، يكون بطلها الأب دومينيك نفسه. وسرعان ما تسعفه هذه القدرة التخيّلية في تحويل الأب دومينيك إلى صورة القديس أوغسطين: كلاهما يتأرجحان بين معاشرة اللذات والهجرة منها إلى العفّة والطهر.

-         قصة الفيلم، كما تتشكّل في خيال الراوي، تدور حول ثنائيّة ِالروح والجسد في الطبيعة البشريّة وتَرَحُّل ِ الإنسان الفرد بينهما. أوغسطين ودومينيك يفشلان في إقامة حالة من التوازن بين أشواق الجسد وأشواق الروح بحيث تتعايش الأضدادُ هذه في لحظة واحدة متكاملة. حتميّةُ التخلّي عن ضدٍّ ما لإمتلاك الضدّ الآخر هي الإشكاليةُ التي تشغل عقلَ الراوي وتُقْلِقُ فيه هاجسَه/ حلمَه بتوحّد ِالأشياء. ولذا فهو يركّز في قصته للفيلم على إنغماس الشاب اليساري دومينيك في عالم الخمرة والجنس والموسيقى والرقص، الملذات المرتبطة دلاليّاً بخمّارات الحي اللاتيني في باريس. شهوتُه لجسد ِالنادلة فيولتّا تكاد تقبض أنفاسَه. ساقاها اللتان يكشف عنهما الميني جوب، و"إلتواء ردفيها وإنحناءات ظهرها" يقابلها، في خياله، جسدُ إيزابيلا التي  "بياضُها يستلّ نصاعتَه من الثلج". إيزابيلا هي مغنّية كازينو، والشقة الصغيرة التي يعيش فيها تعود إليها. امرأتان تتصارعان في خيال دومينيك الشاب، والراوي منهمكٌ في تصوّراته كيف ستولـّـدان في شخصيته "التعارضات والصراع الفكري الذي يحوّله من طالب ملتزم بأحلام اليسار الفرنسي إلى راهب في دير". مَنْ منهما ستلعب دور المحرّك "لهذا التحوّل" يظلّ السؤالَ الذي يلهث خيالُ الراوي بحثاً عن جواب له.

-         في المشهد الذي على شاطيء الميناء، حيث فانيّا تتوق إلى الرقص على دندنة الأمواج، يتذكّر الراوي "وحدة دومينيك في الخمّارة". فانيّا تناقشه في مضمون وحبكة فيلمه التجريبي. تعليقاتها تثير تخيّلاته. يشرح لها أن ما يشغله في تصوّره لشخصيّة دومينيك الشاب هو البحث عن "لحظة فاصلة بين طريقين" تبرّر رحيلَ الشخصية من نهج حياة إلى نهج آخر. البحث عن المصير، كما يشرح لفانيّا، يتطلّب "نوعاً من التمرّد". ثم يضيف أنّ "التحوّل يعني وجود صراع والإنتقال من وضع إلى آخر. كلّنا يعيش هذا الصراع". الجملة الأخيرة ليست إلاّ صدى لوضعه هو، حيث هو الآخر يقف على حافّة الخيار بين الرحيل إلى فرنسا لدراسة السينما أو البقاء في حضن عائلته. ملكة التخيّل تؤدي وظيفتها العجيبة: تُحَوِّلُ واقعَه الذي لا سلطة له عليه إلى حبكة فنيّة يتحكّم بمسارها وبمصير شخصيتها. هي عمليّة تعويضيّة تمنحه فسحة من حريّة الإرادة التي يكافح حتى لا يخسرها. في مشهد آخر، في غرفة السطح، تنفعل فانيّا بفكرة الفيلم وتجد فيها "مساحةً للسفر في حياة مجهولة". تقدّم للراوي أفكاراً طريفة تحثّه على استخدامها في رسم شخصيّة دومينيك وشخصية النادلة فيولتّا. فيولتّا، في رأيها، "تؤمن بحقّها في التصرّف بجسدها"، على عكس المرأة الشرقيّة المطيعة لمزاج الرجل وأفكاره. تلحّ عليه أن ِ "ازْرَعْ فيهما بذرة الإختلاف" إذ "لا يفترض الحبُّ تطابقاً بين المحبّين". ملكة التخيّل لدى فانيّا تجعل منها شريكةً للراوي في ابتداع فسحة من الحرية يمارس عبرها كلٌّ منهما إرادتَه في صنع المصير، ولو على هيئة فعل ٍ تخيّليّ ٍتعويضيّ.

-         تُواصِلُ ملكة التخيّل لدى الراوي حَبْكَها لقصة الفيلم حتى تبلغ بدومينيك الشاب لحظةً حاسمة لعلها "أكبر اختبار في حياته". تُسَائِلُهُ تخيّلاتُه عن المدى الذي قد يبلغه "غضب إيزابيلا وغيرتها" وهي تراقب مشيةَ فيولتّا وهي تدخل العمارة إلى شقة دومينيك. ثم ينزل على الشاب نزولَ الصاعقة بَوْحُ فيولتّا له بأنها حامل منذ شهرين وأنها "تفكّر بجديّة في الإجهاض." هي حرّة في جسدها، تماماً كما كانت فانيّا اقترحتْ عليه في المشهد السابق. لحظة الإختبار هي بالضبط لحظة الصراع بين "الحريّة الفرديّة" التي تنادي بها فيولتّا و"شعلة المحافظة" في كيان دومينيك – حقّه في أن يكون أباً وحقّ الجنين في الحياة. تَشَابُكُ الأسئلة في ذهنه هو الحمّى التي تداهمه ليظلّ خيارُه الأخير مؤجَّلاً ومعلَّقاً في غيابة الإحتمالات. مرّة أخرى تؤدّي  ملكةُ التخيّل وظيفتها العجيبة: تعكس في تعقيد المشهد المتخيَّل الصعوبةَ التي يكابدها الراوي وهو يستشرف اللحظةَ الحاسمة التي لا بدّ له من مواجهتها حين يئين الأوان لإتخاذ قرار مصيريّ.

-         في الصفحات الأخيرة من الرواية تتسارع الأحداث لتوجّه الصفعة تلو الأخرى إلى رومانسيّة الأحلام. موجات الطلبة المتظاهرين في الشوارع والمنادين بإسقاط النظام  يعميها دخانُ الحرائق ويبعثرها أزيزُ رصاص الجيش. العالم الخارجي  يؤكّد حضوره بشراسة القوة العسكرية وبهمجيّة التعصّب الديني الذي، كما يوحي لنا وصف الراوي، يؤدي إلى تحطيم زجاج النوافذ العلوية لدار الآباء المسيحيين ومن  ثم إلى اندلاع النيران فيها. لا يعرف الراوي لحظتئذٍ إذا ما كان دومينيك قد مات أو قُتِلَ. ولكنّ مخاوفه كانت في محلّها. الشيءُ الذي لم يكنْ ليخطر له على بال هو أن يُتَّهَمَ هو بقتل دومينيك. في القبو الذي يُقاد إليه تحت الأرض، "حيثُ فناءُ الهواء"، يباغته المحقّق آمراً أن "سَجِّلْ حياتكَ هنا" – في الكرّاس الذي يدفع به إليه – "حكايتكَ مع النصارى والمكتبة، سجّلْ التفاصيل، خاصة تفاصيل الجريمة". في هذه اللحظة الضاغطة، تُسْتَنْفَرُ ملكةُ التخيّل للمرة الأخيرة. قَدَرُ الراوي في الواقع يتماهى مع قدر دومينيك في الفيلم: الأوّل يُتَّهَمُ بقتل دومينيك الحقيقي، والثاني المتخيَّلُ يُتَّهَمُ بقتل إحدى المرأتين المتخيَّلتيْن اللتين توزّعتا حياتَه. صرخة دومينيك، في الفيلم، في وجه المحقّق: "لم أقتلها!" إن هي إلاّ صرخة الراوي نافياً عن نفسه قتل الأب دومينيك. الصرختان تؤكدان، وللمرة الأخيرة، أنّ التخيّل يبرز هنا كفعل ِمقاومة ٍسيكولوجية لقوى القهر التي تجهد لإلغاء إرادة الفرد وتعطيل دورها في صياغة قدره.

-         المساراتُ الثلاثة لرحلة الراوي في البحث عن الحقيقة، تشوّقاً إلى التحرّر من القيود بكلّ تجلّياتها، تنتهي إلى لحظةِ أَسْر ٍ أشبه ما تكون بلحظة إجهاض. سفحُ جبل الملح، المجلَّلُ بإرتعاشات النور، وطيفُ جبل الأولمب، يرثهما الآن قبوُ التحقيق. أحلام القلب، كما أحلام العقل، تحاصرها جدرانُ الواقع العقيم. وحدها الأمكنةُ تظلّ تراود خيال القاريء، لاهثةً بأصداء الحوارات ورقرقة ِ الأشواق، وحدها أجل، لأنها وحدها الشاهدُ على وفود الوافدين وهجرة المهاجرين، ويناعة أحلام الحالمين، وإحباط أفكار المتجرّئين، ولأنها وحدها وحدها الذاكرةُ التي تهزأ بإنسياب الزمن الذي لا تطأ مياهَ نهره أقدامُنا مرّتيْن.

صلاح الدين الحريري

26 شباط 2019

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية