د. صلاح الدين الحريري

رعْـشَـةُ الكَـلِـمَـاتْ





النص الكامل

 

 

بلقيس وسليمان والهدهد

 

 

لِلـْهُدْهُدِ مجذافان ِ وبحرُ الهدهدِ زرقة ُ ماءِ البحر ِ وليس الماءْ

والموجة ُ تِلْوَ الموجةِ لَهْفُ نسيم ِ الصبح ِ ورفُّ ضياءْ

وغيابٌ طال فَأَغْضَبَ سلطانَ الأشياءْ

سلطانَ الأرض ِ وما يَرْعى في الأرض ِ وما يَرْقى بسماءْ.

وَاحْـتَـدَّ سليمانُ المحمومُ ولَـبَّـتْـهُ شفتاهْ :

»عن عيني غاب طوالَ الليل ِ ولم أعلمْ مَسْراهْ

الهدهدُ إنْ لـَمْ يأتِ بعذر ٍ مذبوحٌ بـِهَوَاهْ«.

***********

 

لَمْ يُدرِكْ أَحْكَمُ أهل ِ الأرض ِ الحكمة َ مِنْ مَسْراهْ

فالهدهدُ بَذ َّ بعلم ِ الغيب ِ سواهْ

وَأتَاهُ بقصّة ِ بلقيسَ المعتزَّة ِ في سَبَأٍ وأتاهْ

بالوعد ِ جراحاً تنزف شيئاً غيرَ دماهْ.

 

***********

» يا هدهدُ عُدْ بَلِّغْ بلقيسَ بأمر ِ الله ْ

أنْ تأتيَ طائعة ً ترضى مثلي بقضاهْ

وسأرصدُ عينَ الجنِّ لها إنْ لم تعبدْ إيّـاهْ

وسَأبْلوها بالقهر ِ إذا اتَّخَذ َتْ من دون ِ الله ِ إِلَهْ «.

 

***********

عَـبَقَتْ بالهدهد ِ أجنحة ُ الليل ِ المحجوب ِ رؤاهْ

فأفاقَ الجرحُ الأقدسُ في بلقيسَ وجَرَّحَ فيها الآهْ :

» يا جُـنْدُ بماذا أدْرَأ ُ عنـّي الجرحَ وكيف أردُّ أذاهْ

ورماحُ الغيب ِ مـعـتَّـقـة ٌ بالغيب ِ مرطَّبة ٌ بـِنَداهْ ؟ «.

 

***********

الفكرُ يدُورُ وفي رَدَهات ِ القصر ِ تدورُ به قدَماهْ

والجنُّ تشيد لعينيْه ِ سحراً تَهْواهْ

والطيرُ تَبوحُ وهاكَ الوردُ يبثّ شَذاهْ

والنورُ مُدَلّىً كالعنقود ِ فمَا أشهاهْ

ومَرَايا القصر ِ تَعومُ على أسْراب ِ مياهْ

حتى دخلتْ بلقيسُ عليه فكان العُرْيُ رداءْ

زنبقة ٌ حَفَّتْ زنبقة ً من تحت ِ الماءْ

فالتَــفَّ سليمانٌ بالجرح ِ وكان قضاءْ

خَلَعَتْ عيناه رداءَ المُلْك ِ إِذ ِ ابْتَهَلَتْ عيناهْ

عيناهُ القلبُ وَرَفُّ القلب ِ على المرآة ِ جداولُ آهْ

بلقيسُ الجرحُ الجرحُ ولَثْمُ الجرح ِ شِفاهْ.

***********

 

» بلقيسُ، امْتَثِلي للإيمان ِ وكوني . . . «.

» . . . الآنَ الآنَ أكونْ

ولآخر ِ يوم ٍ في الدنيا سَكَناً لسليمانَ المفتونْ

آمنتُ وجئتُ أكفّرُ عن آثام ِ سنينْ

خُذ ْني بالقهر ِ وخُذ ْ مني السلوانْ

فلعلّ عذابي بين يديْكَ هو الغفرانْ

والهدهدَ فَاجْز ِ، رسولَ النور ِ ، بما أوحاهْ

أرسلْه إلى أطراف ِ الأرض ِ يعلّمْها نجواهْ

فالهدهدُ بَـذ َّ بعلم ِ الغيب ِ سواهْ «.

***********

 

يَتَهَدَّجُ صوتُ سليمانَ المسحورُ وصوتُ العشق ِ صلاهْ

يبتلُّ نسيمُ الصبح ِ بمجذاف ٍ ينسابْ

ينسلُّ الهدهدُ في الزرقة ِ نوراً بضبابْ.

 

(من رواية وعد شباط)

 

دامو والأمير الصيدونيّ  *

 

       أميرٌ بصيدونَ غَنَّى الحَلاَ          وكـلُّ أميرٍ بـه يُـبْـتَـلـى

       فجاءتْ من البحرِ يوماً ترومُ الثـقافةَ حيـث العُـلى يُـجْـتَــنى

       فتاةٌ أبوها هو الفيلسوفُ           بأرضِ اليُنانِ، بـلادِ العُلـى

       فجُنَّ بدامو الأميرُ الفتيُّ           وجُنَّتْ فَعَمَّ بـلاءُ الـهـوى

       أدامو تعاليْ ففي مقلتيَّ            أخبّـئْـكِ مـن نظـراتِ المَلا

       تعاليْ، ذراعايَ طَوْقٌ لخصرِكِ إمّـا اسْـتَـبَدَّ وإمّـا الْـتَـــوَى

       وثغري لثغرِكِ بَوْحُ الشقيقِ          وفَـوْحُ النداءِ فَــلَـبِّي الـنِّـــدا

       وإنْ شئتِ حُبّي فـلستُ المُلَبّي      وإنْ شئتِ قتْـلي فيا حَـبَّـذا

       فشهوةُ عمري على وجنتيْكِ         ومن شفتيكِ تـفـوحُ الـدِّمَـا

       وما الربُّ أشمونُ إلاّ الحياةُ        وما دَيُـنَـيْسَـسُ إلاّ الصّـدى

       وحولي الرجالُ على الشطِّ يرغونَ بالشوقِ حتى اضطرامِ اللّـظى

       وهـذي بجنبكِ رُعْبـولةٌ               وهـِرْكَوْلَـةٌ جنبَها تُفْـتَـدى

       تعاليْ وهاتي الصّـبايا الحسانَ      فلم يُخْـلقِ الحسْنُ يوماً سُدى

       وها أنتِ جئتِ وها هُنَّ جِئْنَ        فأنـتِ وأنتنَّ خـيرُ النِّـسَا

       نسـاءٌ يُهَيِّجْنَ فينا الحيـاةَ           ويبعثْـنَ فينـا حميمَ الرِّضا

       فَهُـنَّ مراكبُنا المُشْـرَعَاتُ            ونحـن المجاذيـفُ، هَيَّا بنا

       نجذِّفْ، وفي الموج نَلْقَ الخلاصَ   ولا من خلاصٍ ولا مُنْتَهى

       إلى أنْ يُغـالِبَهُنَّ اللُّهَـاثُ            وتُجْـفِلَ صَرْخَاتُهُنَّ المَدى

____________________

 

* دامو هي إبنة فيثاغورس ، وكان أرسلها لتلقـّي العلم في صيدون الفينيقية.

(من رواية الرحلة نحو الفجر)

 

 

حريق صيدون

 

(في زمن غابر، أحرق الفينيقيون مدينتهم صيدون تحدّياً للملك الفارسي الذي كان يحاصرهم بجيشه آنذاك. وفي سمفونية النار هذه، يشكّل اللحنُ الأول احتفالاً بالصبا والجمال.)

حديقةُ المَلِكْ

زنابقٌ ووردْ

وعنبرٌ أصفرْ

وزَهَرٌ أحمرْ

وحَبَقٌ ورَنْدْ

وغيبةُ المَلِكْ

 

يا أيُّها المليكُ، يا تِـنَسّ ْ

أين اختفيتَ، يا تِـنَسّ ْ ؟

تبخّرتْ خطاكَ أم هل ذ ُبْتَ في الغَلَسْ ؟

أم هل حفرتَ حفرة ً في الماءْ

وخُضْتَ فيها خوضة َ الفَلَكْ

ونِمْتَ في فقاعة ٍ بيضاءْ

فأنتَ في منأىً عن ِ الدَّرَكْ

فقاعةٍ تحميكَ من هوْل ٍ ومُعْتَرَكْ ؟

أين اختبأتَ، يا تِـنَسّ ْ ؟

تبخَّرتْ خطاكَ أم هل ذ ُبْتَ في الغَلَسْ ؟

             

 

الـوردُ والحَبَـقْ

والزنبقُ الـلَّـبـِـقْ

والرنْدُ والعنبـرْ

والفـلُّ قد زهّـرْ

كلُّ النباتاتِ التي تلوّنُ الحديقه ْ

هُنَّ الصبايا الناهداتْ

بالسّعْدِ حـالمـاتْ

بصبوةِ الشباب ِ مُتْرَعاتْ

 

وجوهُهُنَّ كالصباحْ

شفـاهـُهُنَّ راحْ

على صدورِهِنَّ باحْ

بسرِّهِ التـفّاحْ

 

زنودُهُنَّ لمسة ُ الحريرْ

ريّانةٌ في الظلِّ والحرورْ

مُنـْهَدَلُ الأثيـرْ

أرجوحةٌ تعبقُ بالبخورْ

في روحة ٍ وفي إيابْ

مروحةُ النجاة ِ والعذابْ

والبرْدِ والسعيرْ

زنودُهُنَّ لمسة ُ الحريرْ

 

مِشْيَـتُهُنَّ خلجة ُ الأفكارْ

وخَطْوُهُنَّ شَرَرٌ طيّارْ

من جذوة ٍ تفرقعتْ بالنارْ

مِشْيَـتُهُنّ جلوة ُ العروسْ

تـَرَجْرُجُ الكؤوس ِ بالرؤوسْ

فتارةً موزونة ُ الخِمار ِ والإزارْ

وتارةً كأنما أصابها الدّوارْ

مِشْيَـتُهُنّ الخمْرُ والخمّارْ

 

أنفاسُهُنَّ الياسمينْ

العَبَـقُ الكَمينْ

فالروحُ والحواسّْ

تُخْتَــلَسُ اخْتلاسْ

ويُستباحُ الشكُّ باليقينْ

بأمرِ الياسمينْ

 

(الموسيقى الآن تشي بالخوف والقلق.)

 

لعلهُ قد هربَ المليكُ في الظلامْ

مدّثّــراً بسرّه ِ الرهيبْ

وبالدّجى كي لا ترى خروجَه ُ المريبْ

النجمةُ التي تظلُّ في سَما صيدونْ

تحرسها من لحظة ِ الغروبْ

حتى صياح ِ ديكِها أن ِ انْتهى السكونْ

صيدونُ يا صيدونُ يا صيدونْ

 

لعلهُ قد عقد َ العزمَ على الفرارْ

من أوّلِ الليل ِ الذي ابْتدا به الحصارْ

مع أنّ جند َ الفُرْسِ قد هالتْهُمُ حَصَانَة ُ المدينه ْ

وهالهُمْ

بلِ اسْتَـفَــزَّ كبرياءَهُمْ

تَمَنُّعُ الرّجال ِ والفتيانْ

وصيحةُ النساء ِ أنْ فلْيَرْحَل ِ الطغيانْ

عن سورِنا المَحْمِيِّ بالأحرارْ

عن سورِنا العُمْدَانُه ُ إرادة ُ الرّجالْ

وشغفُ الفتيان ِ والأطفالْ

بقصصِ الأبطالْ

مِمَّا رَوَتْ لهمْ

وما رَوَتْ لأهلهمْ

من قبلِهمْ

معاهدُ المدينه ْ

من قصص ِ البطولة ِ الجريئة ِ الحزينهْ

 

لعلهُ من أوّل ِ الحصارْ

قد عقدَ العزمَ على الفرارْ

وطارَ لمْ يُعْرَفْ له ُ قرارْ

في ليلة ٍ غيومُها مُسْوَدّة ُ الإزارْ

ونجمُها مُغَيَّبٌ عن مِنْعَة ِ الأسوارْ

لعلهُ قد عقدَ العزمَ على الفرارْ

لَـيْـلَــتَـها وطارْ

 

(تتدرّج الموسيقى إلى لحن حماسيّ.)

 

نحنُ الشبابُ السُّمْرُ لا نرضى

أنْ تغْرَقَنْ صيدون ُ في الفوضى

إنْ غابَ عنها أو قَضى المَلِكُ

أو دارَ فيها الدورة َ الفَلَك ُ

نحنُ الملوكُ الحقُّ في الهَيْجا

نحنُ سيوفُ النار ِ لا يُرْجى

إلاّ بنا التسعيرُ في الحرْب ِ

إمّا ابْتَلانا الفُرْسُ بالضَّوْضا

نحنُ القضاءُ وأمرُنا يُقْضى

والسِّلْمُ نحنُ وذروة ُ الرُّعْب ِ

هذا قرارُ الناس ِ والرَّبِّ

 

(الموسيقى الآن ذات إيقاع سريع.)

 

أرْتَحْشَشْتا   أرْتَحْشَشْتا

حاصِرْنا حاصِرْ ما شِئْـتا

لن تلقى منّا اسْتسلاما

أوهمتَ جنودَكَ إيهاما

بالنصرِ وصُغْتَ الأحلاما

حاصِرْنا حاصِرْ ما شِئـْـتا

لنْ تلقى منـّا لنْ تلقى إلا ّ الموتا

إرحلْ عنّا

أرْتَحْشَشْتا   أرْتَحْشَشْتا

 

(تتدرّج الموسيقى إلى لحن ٍ يئنّ بالعتاب وبالغضب المكظوم الحزين.)

 

تِـنَسُّ، يا تِـنَسُّ، في أزمنة ِ الخطرْ

رَحَلْتَ لم تتركْ لنا خَبَرْ

وغِبْتَ عنّا وامّحى الأثرْ !

رُبِّيتَ في صيدونَ، يا تِـنَسُّ، في ربوعِنا

أمْ كنتَ طِفْلَ الرُّحَّـل ِ الغَجَرْ

حتى انْـزلقتَ في مجاهل ِ الدروب ِ والرياحْ

والليلُ لم يسفرْ عن الصباحْ

كعادةِ الغَجَرْ

في الحِلِّ والسَّفَـرْ ؟

تِـنَسُّ، يا تِـنَسُّ، ما فعلتَ بالبَشَرْ ؟

بالأمهاتِ الصابراتِ، مِثْــلُهُنَّ ما صَبَرْ ؟

والفتياتِ الطاهِراتِ، مِثْــلُهُنّ ما طَهُرْ ؟

ماذا فعلتَ بالطفولة ِ الرضيعه ْ ؟

بضعفِها، بنظرة ِ الرجاء ِ في عيونِها، بالبسمة ِ الوديعهْ ؟

ماذا فعلتَ بالحُلُمْ

مُشَرَّعاً في زَهَر ِ الحديقهْ

وَرْداً وفُلاًّ، زنبقاً، حَبَقْ ؟

غافلتَهُ بالليل ِ فاسْتباحَه ُ القلقْ

نزعتَـهُ مِنَ الجذور ِ، مِنْ طلاوَة ِ الرَّحِـمْ

قَــتَــلْتَ فيه ِ الحبَّ والمشاعرَ الرقيقهْ

فماتتِ الحديقهْ

 

(اللحنُ، الآنَ، سيمفونيٌّ فيه اتساع ُ الزمان والمكان، وفيه دراما الفصول، مثقلة ً برتابة التكرار الأزليّ.)

الصيفُ والخريفُ والربيع ُ والشتاءْ

والصبحُ والظهيرة ُ الحمراءُ والمساءْ

والظلمة ُ الظلماءُ والضبابُ والضياءْ

والنارُ والترابُ والمياهُ والهواءْ

والموت ُ والحياهْ

والفرحُ الممزوجُ بالبكاءْ

كلُّ الوجود ِ حالة ٌ تجدّدتْ مرّاتْ

فصْلٌ يجرُّ الفصْلَ في ثوابت ٍ من الصفاتْ

الورقاتُ الخُضْرُ أمس ِ، اليومَ صُفْرٌ ذابلاتْ

والنَّسَمُ العليلُ في تمّوزَ، ريحٌ في شباط َ عاتيَ الهبّاتْ

والموجة ُ الرخيّة ُ الملمَس ِ تستفزّها الرياحُ عاتياتْ

كلُّ الفصول ِ كلُّها مرّتْ على صيدونْ

مواسمَ الحياة ِ والمنونْ

لكنها ما غيَّرَتْ من شعبها المسجونْ

إرادة َ الفتيان ِ والنساء ِ والرجالْ

فكلُّهم تسلَّحوا وكلُّهم تدرّبوا على النِّزالْ

من أوّل ِ الحصارْ

وقبلَ أنْ تروِّعَ الأجواءَ صرخة ُ القتالْ

 

 

(لهجة ُ العتاب في اللحن تشتدّ الآن إلى حد ّ الإتهام.)

 

هروبُكَ الخيانة ُ العظمى فلا تَـقُـلْ لـي

بأنَّ في ضميرِكَ المُنْحَلِّ

نجاة َ جلدِكَ الذي يخافُ النارْ

نجاتَه ُ من لسعة ِ الشّرار ِ والأوارْ !

المُلْك ُ يوماً لم يكنْ لراحة ِ الأبدان ِ والتَّسَلّي

أجْرَمْتَ أنتَ، يا تِـنَسُّ، حينما ارْتكبتَها خيانة َ التخلّي

عنْ حُلُم ِ الحديقهْ

عن ِ المشاعر ِ الرقيقهْ

أجْرَمْتَ حينَ شعبُـنا اسْتفاقْ

من سكرة ِ العبيرْ

والخوف ُ حُلْمُه ُ الأخيرْ

ويأسُه ُ مرارة ُ الحقيقه ْ

 

(اللحن ُ ، الآنَ ، احتفال ٌ بالنار ، موتيفْ(motif)  التطهير ِ المُهَيِّيء ِ للولادة الجديدة.)

 

النارُ تمحو الذ ِّكْرَ والذكرى

تطهّرُ المُسْتَــنْـفَـرَ الدقّات ِ في الضلوعْ

تدرأ ُ عنه ُ الخوف َ والخنوعْ

تجدّد ُ النبضَ العتيقَ بالحريقْ

النارُ مِنْ حمرتها تولِّد ُ الأخضرَ والوريقْ

وبالحشائش ِ المُسَنَّنات ِ، حولهنَّ يلمع ُ الشقيقْ

النارُ تشعلُ الطريقْ

لموكب ِ الأرواح ِ وَهْيَ تنقلُ النّصْرا

مِنْ قلبها لكفّها وكفّها الأخرى

النارُ تمحو الذِّكْرَ، يا تِـنَسّ ْ

تحرقُه ُ، فـليسَ أمس ِ أمسْ

تمحقُه ُ محْـقاً من الزمانْ

تسحقُه ُ فإذ ْ به ِ رمادُهُ النسيانْ

وترجمُ الأناة َ والصّبْرا

وتقهَرُ القهْرا

النارُ تمحو الذِّكْرَ والذكرى

إمّا تَشَأْ

وتغتدي على الملأ ْ

بنشأة ٍ أخرى

للذِّكْر ِ، ذكْر ِ البطل ِ المُسْتَلّ ِ

للسيف ِ، سيف ِ النور ِ، سيف ِ النار ِ، لا فؤادُهُ

مرتهن ٌ للخوف ِ والتّخَلّي

ولا له ُ مِنْ قَدَم ٍ تُوَلّي

على دروب ِ الهارب ِ المُنْسَلّ ِ !

 

 

النار ُ، يا تِـنَسُّ ، كالإله ْ

تأخـذ ُ ثـم تمنحُ الحياه ْ !

 

(موسيقى الحرب تقرعها الطبول الآن.)

 

الطَّـبْـلُ ! صراخ ُ الطَّبْـل ِ ! عواء ُ الطَّبْـل ِ ! ورَعْد ُ الطَّبْـل ْ !

قَـرْعٌ تترضرض ُ منه الأرضُ

ومنه النبْـت ُ يحسّ بطعم ِ الثُّـكْـلْ

قَـرْعٌ كالنَّـبْـض ِ بصدر ِ الدَّيناصورْ

قَـرْعٌ كصخورِالرّجـْم ِ، وقرع ُ الرَّجـْم ِ صخورْ

والرّاجمُ شيطان ٌ موتورْ

الرّاجمُ شيطان ٌ والشعبُ هوَ المرجومْ

الطَّـبْـلُ وقرع ُ الطَّـبْـل ِ حصار ُ الصوت ِ

لسور ٍ لم يعبأ ْ بوشيك ِ هجومْ

ويولّي الليل ُ ومثل َ الليل ِ

نهارٌ يمضي مُسْوَدّاً مقهورْ

والرّجْـمُ الرّجْـمُ يـدومْ

مدراراً مثل َ الهَطْـلْ

نَـبَّـاضاً مثل َ القلب ِ، ونَبْض ُ الحرب ِ صراخ ُ الطَّـبْـلْ

الطَّبْـلُ ! صراخ ُ الطَّبْـل ِ ! عواء ُ الطَّبْـل ِ ! ورَعْد ُ الطَّبْـلْ !

ودخانٌ يصعد ُ في الأجواء ِ وَحولَ السّور ِ يحومْ

طبقاتِ غيومْ

وصبايا الورد ِ، الفلّ ِ، الرّنْـد ِ، الزنبق ِ حِمْـل ُ همومْ

القـلبُ تَوَلَّـتْه ُ الحُمَّى والفكر ُ سقيمْ

وشبابُ مدينتـنا غَضَب ٌ ووجومْ

والقصّـةُ تكبر ُ في أذهان ِ الناس ِ بأنّ الفُرْسْ

جاءوا بسلالم َ تُرْفَع ُ فوق َ حدود ِ السّور ِ

بلا شكّ ٍ أو لَـبْـسْ

وإذنْ فالسّور ُ كَوَهْم ِ السّور ِ

وكلُّ تخوم ٍ تحمي ما عادت ْ بتخومْ

وإذنْ فَيَقين ُ النصر ِ تبلبله ُ خلجات ُ اليأسْ

وإذنْ زمن ُ الحرّية ِ للأحرار ِ

يـُؤذّنُ أنَّ العصر َ غشومْ

ويظلُّ دخان ٌ أسود ُ فوق َ حدود ِ السّور ِ يحومْ

ويظلّ يحومْ

 

 

(حماسة ُ المقاومين، ممزوجة ً بالأسى، تندلع في لحن ٍ فتيّ.)

 

نحنُ الشباب ُ السُّـمْر ُ حُمْـرُ الغَضَب ِ

جَمْـرُ انتظارِنا انتصارُنا

المكتوبُ في السَّما لجيلنا المعذَّب ِ

وصمتُـنا الكظيم ُ سِتْـرٌ لضجيج ِ اللَّهَب ِ

يشعّ بل يضجُّ في صدورِنا محجـَّباً

فيا لهولِ الحُجُبِ

الصمتُ نارُنا السَّـكوتْ

خِصَامُنا المكبـوتْ

مَعْ جَبَلٍ هوَ احْتمالُ أنْ يموتْ

أحبابُنا، صغارُنا، شيوخُنا، أزواجُنا، عشّاقُـنا

ويَصْغُـرَ التابـوتْ

عن ضَمِّ مَنْ كانوا لنا

طراوةَ النسيمِ، عجوةَ الحياةِ، فسحةَ الحُلُمْ

وهُم ْ، كما بالأمسِ، من لحمٍ ودمْ

بالأمسِ قبل أن يخيّمَ السكوتْ

ويفلتَ التابـوتْ

من قبضةِ العَدَمْ

جمرُ انتظارِنا انتصارُنا على العَدَمْ

فالويلُ ثم الويلُ للمحاصِرِ الذي تجرَّآ

لا تبصِرُ العينان ِ منه الغضب َ المحمومَ في صدورنا

ولا فؤادُهُ رأى

الويلُ للمحاصِر ِ الذي تجرَّآ

فلن يكونَ نصرُهُ إلاّ على الفراغ ْ

فَلْيمضغِ الفراغ َ من جذورهِ عساه ُ أنْ يَسْتَـمْرِآ

       عساهُ أنْ يستمرِآ

 

(يهمس اللحن ُ بسرّيّة ِ الحركات ِ المتتابعة ثم لا يلبث أن يبوح بانكسار الفـُرْس.)

 

في غبشة ِ الفجر ِ التي كحيرَة ِ الطّلاسِم ْ

تنهض ُ من سُبَاتها السَّلالـِم ْ

يعربشُ السواد ُ من أخشابها

يعلو ويطفو كالخطوط ْ

يعلو ويطفو كالخيوط ْ

مُنْسَـلَّـةً من هُدُب ِ الليل ِ المُفَحَّـمَهْ

والهمسُ يطفو نَفَساً فنَفَسا

ولمعةُ العيون ِ تطفو قَبَسـا ً فقَبَسـا

والأذرعُ الفتيّة ُ الحراك ِ تطفو طفوة ً منتظمَهْ

وتعبقُ الغبشة ُ باحتمال ِ صرخة ٍ  أو ضجّة ٍ محتدِمَهْ

 

ولحظةَ الفجر ُ يخفُّ بالرَّوَاحْ

يصفّقُ الجناح ُ بالجناحْ

وتصرخُ الرياح ُ بالرياحْ

أنِ الْتَـفـِفْنَ بالهبوط ِ نشعل ِ المدينَهْ

ننفِّذِ الوصيّة َ الجريئة َ الحزينَهْ

ومن ضراوة ِ الحصار ِ نُنْقِذ ِ الرهينَهْ

 

واشتعلَ الزمان ُ والمكانْ

واحمرّتِ العيون ُ وازْمَهَرَّتْ

وبالشقيقِ الدمعَة ُ اسْتَحَرَّتْ

ورقصتْ رقصتَها النيرانْ

ورافقتْها سُحُبُ الدّخانْ

وصرخ الفُرْسُ انكسرنا، يا لَها نهايـَهْ

قد خبّأتْها عن قلوبنا العنايَهْ

وزمجرَ القائد ُ بالجنود ِ أنْ

قد قُطِع َ الطريقْ

عليَّ دون َ المجْد ِ بالحريقْ

فَهُمْ بمكرهم تعجّلوا النهايَه ْ

وانتصروا في آخر ِ الحكايَه ْ

اليومَ يوم ُ المجد ِ للحريق ْ !

 

(اللحن الآن هو لحن التماهي مع النار.)

 

       رقصَتُـنا فرقعة ُ الجمْر ِ، وأصواتُ الأغانْ

       شرائح ُ النور ِ التي تطهّرُ الزمان َ والمكانْ

       من كلّ ما أوشك أن يكونْ

       من كلّ ذِكْر ٍ للذي مضى وكانْ

      

       تِـنَسُّ، يا مقتنصَ الحياة ِ في مَذَلَّـة ِ الهروبِ

       يا مقتنصَ الغنيمَة ِ الذميمَهْ،

       تِـنَسُّ، يا مُحالِفَ الفُرْس ِ على تَصَيُّد ِ الهزيمَهْ،

       عقيمة ُ الخطى الدروب ُ كلُّها

       ما دمتَ قَبْضَ الخوف ِ والإرادة ِ الحطيمَهْ

       صيدون ُ فينا، يا تِـنَسُّ، سُعِّـرَتْ

       فاخْتنقَ الهوان ُ بالدخانْ

       من قبل ِ أنْ يغلِّـفَ المدينة َ الهوانْ

       صيدونُ ضاءَتْ حينما توهَّجَتْ

       أرواحُنا وأجَّجَتْ

       ألسنة َ النيرانْ ...

       أرواحُنا ألسنة ُ النيرانْ

       أرواحُنا ألسنة ُ النيرانْ !

 

 

 

(من مسرحية رجللكل الفصول)

 

 أناشيدُ سليمانَ المَنْسِيَّهْ

 

 (1)

-      هَرْوَلَ الوجودُ إلى العَدَمِ فَعَتَبَتْ عليه امرأهْ

-      سابغُ عُرْيِ المرأةِ سابغُ سِتْرِ الرَّجُلْ

-      سهادُ العاشقِ امرأةٌ راودتْ عن نفسه الفجرَ فَضَلَّ طريقَهْ

-      أوّلُ الحيضِ شقيقٌ وآخرُه شَفَقْ

-      ما تَعَادَلَ شيئانِ كما يتعادل في رجرجة كَفِلَيْها الذنبُ والغفرانْ

 

(2)

-      لا شيء يعرّي اللّغةَ كالمرأةِ ولا شيء تتدثّرُ به المرأةُ كاللّغهْ

-      النساءُ عُجْمَةٌ في لغةٍ بيانُها المرأةُ الفاتنةْ

-      النساءُ أضغاثُ أحلامٍ ووحدَها المرأةُ الفاتنةُ رؤيا صادقهْ

-      ما طالعتْـني امرأةٌ لفّاءُ إلاّ وجَدَلَ لساني لَفَفْ

 

(3)

-      أسدلتْ لغيرِ رَجُلِها شعرَها امرأةٌ فَوُلِدَ علمُ الكنايَهْ

-      الإيحاءُ امرأةٌ يتكسّر عليها ثوبُها تكسُّرَ الموجِ على ذاتهِ

فلا هو شاطئاً بَلَغَ

ولا هو اندفاعَهُ لَجَمْ

-      الزوبعةُ امرأةٌ شرّعتْ جسدَها للرياحِ الأربعْ

-      الفناءُ امرأةٌ يُلغي حضورُها حضورَ الشوقِ إليها

 

(4)

-      الشِّعْرُ هو المرأةُ التي تأخذُكَ قبل أن تأخذَها

-      أجملُ الفساتينِ، كأجملِ القصائدِ، هو ما يأتيكَ بالمرأة كلِّها فيغنيكَ

عن التفاصيلْ

-      ما تَلَفَّعَتِ المرأةُ بثوبٍ إلاّ لتملأ عينَ الرجلِ باحتمالِ عُرْيها منه

وما دَثَّرَ الرجلُ امرأةً بثوبٍ إلاّ ليظلّ عريُها في عينيه احتمالاً وهجساً

 

(5)

-       إذا شكَّ الرجلُ بالمرأةِ أقامتْ على رأسِهِ الأرضَ وأقعدَتْها

وإذا برّأتْها من الشّكِّ عيناه أقامتْ وأقعدتِ الأرضَ والسماءْ

-      يقينُكَ بِعُهْرِها صُلْحُكَ الوحيدُ مع الشّك

-      عادلَتِ المرأةُ بين الشّكِّ واليقين ... لتتأرجحْ

ورضيَ الرجُلُ بالشّكِّ يقيناً ... ليرتاحْ

 

(6)

-      الحرّيةُ امرأةٌ عاهرهْ

تراودكَ عن ثوبِكْ

لتخلعَ عليكَ من سابِغِ عُرْيِها عُرْيا

-      المرأةُ فاجرةٌ أبداً :

إذا أحبّتْكَ فَجَرَتْ بالبكاءِ عليكْ

وإذا أحبّتْ عليكَ فَجَرَتْ بالبكاءِ منكْ

 

 (7)

-      لا سلاحَ أقوى للمرأةِ عليكْ

من عينيْكْ

-      شاطئاها شفتاها

ولكلٍّ منهما في جسدها قرينْ

-      نَهّامَةُ الحَدَقْ

هَدّافَةُ الشَّبَقْ

-      لا تهملجُ المرأةُ إلاّ تحت شيطانْ

 

 

 

(8)

-      سَحْبَةُ قَدَمِ المرأةِ عَتَبَةُ بيتِ الرَّجُلْ

-      أنفاسُ المرأةِ رُقْيَةٌ لعاشقها من أنفاسِ امرأةٍ أخرى

-      فمُ المرأةِ هو الجرحُ الوحيدُ الذي لا يندملْ

 

(9)

-      أَحَبُّ إلى المرأة أن تشْقى العمرَ كلّه في ترويض رَجُلِها

من أن تسكن إلى رَجُلٍ رَوَّضَتْهُ امرأةٌ أخرى

-      صِدْقُ المرأةِ بالنيّةِ لا يعدل كذبَها بالسليقةِ ،

فبالسليقةِ كذبُها أصدقُ من أعذبِ الشِّعرِ ­ ­

وإنْ يكنْ أعذبَ الشعرِ أكذبُهْ

-      المرأةُ أخّاذةٌ أبداً، وهي حين تعطي

فإنما تعطيكَ بعضَها لتأخذَ كُلَّكْ

(10)

-      ماذا يصنعُ الآثمُ بِوَرِكَيْنِ تحرُسانِ عذابَهْ ؟

-      لأمرٍ ما أوحتِ النديمةُ لنديمها أنّ الرشيفَ أنقعُ للظمآنْ

-      في حُكْمِ الخمرةِ المرأةُ : شرٌّ في الدنيا وثوابٌ في الآخرهْ

-      تَنَادُمُ شفتيْنِ حديثُ العاشقهْ

(11)

 

-      كلُّ عاشقٍ جميلٌ وكلُّ معشوقٍ أجملْ

-      معشوقةً ، يقينُ الشجرِ بالترابْ

عاشقةً ، هفوةٌ من هفواتِ الغيبْ

تلك هي المرأةُ المرأةُ

-      شفتاها سرمديّـتا الحوارْ

فإحداهما دعوةٌ أبداً

والأخرى اعتذارْ

 

(12)

-      بين امرأتيْنِ وُجِدْتُ لأبقى :

امرأةٍ طردتْـني من أوّلِ الأزلِ من الفردوسِ المفقودْ

وامرأةٍ تنتظرني على حافّةِ الأبدِ في الفردوسِ الموعودْ

بين امرأتيْنِ وُجِدْتُ لأشقى

-      طوبى ثم طوبى وسُحْقاً ثم سُحْقاً

لمن أتى ثم مضى

ولمْ تُخامِرْ أنفاسَهُ حتى ولو لهفةُ الظنِّ من أنفاسِ امرأةٍ ،

فإنّه اختارَ العَدَمَ يقيناً له ثم مَرْقَدا

 

 

(13)

-      ما أطولَ بالَ المرأةِ : تُغْضي عن كلِّ عيوبِ الرجالِ لتظلَّ في عيونهم

امرأهْ

-      ما أضعفَ ذاكرةَ المرأةِ : تنسى كلَّ شيءٍ إلاّ نفسَها

-      المرايا أحاديثُ للمرأةِ عن عيونِ الرجالْ

(14)

-      الحواسُّ أفواهُ الهواجسِ والحدْسُ امرأهْ

-      الملحُ امرأةٌ قليلُها مُصْلِحٌ للذوقِ ، كثيرُها موجِعٌ للرُّكَبْ

-      البطاطا الحلوةُ ثَدْيُ مُرْضِعَهْ

-      ليلُ الشتاءِ امرأةٌ تلحسُ من بُرْنِيَّتِها دبسَ الخرّوبْ

-      تَهَدُّلُ ورقِ الموزِ على أقراطِ الموزِ نسوةٌ ينحنينَ فوق همومهنّ

-      يا لَحَمّامِ الشَّبِقَةِ من حمّامٍ : ليفةٌ من الزعتر الفَتِّ وصابونةٌ من الشّمّامْ

(15)

-      العِفَّةُ دَيْنٌ للجميلةِ على الحياةِ تستوفيه من كسادِ القبيحهْ

-      الحياءُ في الجميلةِ وَرَعٌ وفي القبيحةِ عتابْ

-      الحبُّ وضوءُ الرّوحْ

-      الوباءُ امرأةٌ تَبَعْثَرَتْ في نساءْ

(16)

-      العذريَّةُ فارسُ الأنوثةِ ، لا يجندله إلا الفارسُ الأوّلْ

-      جَزَعُ العذراءِ من توابلِ الوليمَهْ

-      العذريَّةُ رأسُ مالٍ لا يُوَرَّثْ

 

(17)

-      لِتَكُنْ غايةُ انبساطِكَ بها بَسْطَكَ لها تلحقْ بكَ إلى آخرِ الدنيا المرأةُ

-      شقوةُ الرجلِ بالمرأةِ أعظمُ ما تكون إذا شَكَتْ شهوةُ نفسه مؤونةَ جسدِهْ

-      الشقاءُ امرأةٌ مملوءةٌ حياتُها بفراغِ الرجالْ

(18)

-      خَبِّرْ عنّي العشّاقَ بأنَّ يقينَ العشقِ الأوحدَ

خَلجةُ رَيْبْ

هل تهتكُ سِتْرَ نواياها امرأةٌ

والنيةُ بعضُ الغيبْ ؟

-      خابَ الوهجُ والوهّاجْ

فالشمسُ التي تضيئُكَ قمراً يا قمرْ

يهاجِرُ عنها إليكَ العشقُ والعاشقونْ

 

(19)

-      الوردةُ على أمِّها مغناجٌ تَرَهّبَتْ

فما ينهنهها العشقُ إلاّ شَميما

-      قاطفُ الوردةِ قطفتْهُ الوردهْ

-      رموشُ حبيبتي مِصْلاةُ روحي              إذا انطبقتْ فليس سوى عَلَيَّا

ألينُ، كما الصلاةُ تُلينُ قلبـي،             إذا مـا أُسْبِلَتْ شيّـاً فشـيّا

 

(20)

-      مِشْيَتُها بَيَانْ :

فَقَدَماها الإيجازْ

وَهَلَّةُ ساعديْها إغْضَاءَةُ الإيحاءْ

وتَلاعُجُ وركيْها الحُجَّةُ البالغهْ

-      للهِ أشكو سِـحْـرَ مشيتها            إمّا مَشَتْ تَـنْهَلُّ أعطافا

إمَّا اسْتَبَاح النورُ خَطْرَتَهَا          فـتـقصّفـتْ تـهتـزُّ أردافـا

-      جدليّةُ مِشْيَتِها :

جُشوبةُ ظُلْمٍ

في رفاغةِ عَدْلْ

 

 

(21)

-      العذابُ الأصغرُ امرأةٌ لا تحبُّ فيكَ إلاّ حُـبَّـكَ لها

-      العذابُ الأكبرُ امرأةٌ تُسْكِنُكَ الشكَّ على أنه اليقينُ وحدَهْ

-      كيف تتمّ توبتي إذا كانت خطيئتي امرأتي ؟

 

(22)

-      عَلَّمَتْـني المرأةُ أنّ الجحيمَ أوّلُ أبوابِ الجَنّهْ

-      كلُّ امرأةٍ مِحْنَةٌ لعاشقها، ومحنةُ كلِّ جَنَّةٍ امرأهْ

-      لا تكتملُ سعادةُ المرأةِ حتى يغبطها على عاشقها عاشقاتُ سواهْ

وحتى يغبطَ عاشقَها عليها عشّاقُ سواها

 

(23)

-      وحدَها المرأةُ تختصرُ الفجرْ

ففي هُدْبَةٍ من طَرَفِ ردائها يهجعُ آخرُ الليلْ

وفي هُدْبَةٍ أخرى يصحو أوّلُ النهارْ

(من رواية صلصلة الرعد)

 

 

 

سفينةُ الزمان

 

(1)

في البدءِ كان اللهُ

مشيئةً جنودُها قواهُ

وكانَ عرشُهُ المُنَزَّهُ الأركانْ

يسبحُ في بحيرةِ الزمانْ

وكانَ فيما كانْ

سفينةُ الزمانْ

يشدّها القلوعُ في رحيلها الطويلْ

« فيا جبالُ يا بحارُ يا تلالُ كوني »

فكانتِ الجبالُ والبحارُ والتلالْ

« ويا مياهُ انسكبي ويا رياحُ حرِّكي المياهْ »

« وامْتثلي لرغبة الإلهْ »

فامْتثلتْ بأمرهِ الرياحْ

وانطلقتْ – صار لها جناحْ –

تُعَلِّمُ المياهَ كيف تسكنُ الرمالْ

لكنّما الإلهُ

تباركَ الذي أتتْ يداهُ

من أوّلِ الزمانْ

أوّلُ حلمٍ مرّ في خاطرهِ الإنسانْ

فكانْ.

 

 

 

 (2)

تماوجتْ غيبوبةُ التكوينِ والضبابُ لا يزالْ

يغبّشُ الميلادَ في خضَّتِهِ ويُقلقُ الوهجَ على الأفقْ

فكلُّ ما خُلِقْ

واللحظةَ انْبثقْ

كأنه ارْتعاشةُ الظلالْ

محضَ ظلالْ

تلَوَّتِ الأشياءُ في سرابها البعيدْ

ومن جديدْ

« واقدرتاهْ ! »

تمَوَّجَ الكونُ بها مُرَنِّماً صداهْ

وَثَمَّ قَدَّرَ الإلهْ

« سوف أُتِمُّ قدرتي في ألفِ كونٍ مثلِ هذا الكونْ »

« ورائعاً كومضةِ الأحلامِ سوف ترتدي وشاحَها الأشياءْ »

« سأنثرُ الأفلاكَ في مدارِها موقوتةً لأنني أشاءْ »

« ومثلما أشاءْ »

« سوف تتمُّ قدرتي في الكونْ »

« وألفِ كونٍ مثلِ هذا الكونْ »

« فليس عندَ اللهِ بَيْنَ بَيْنْ »

« واقدرتاهْ ! »

وألفُ شيءٍ لم يكنْ فكانْ

في لحظةٍ رهيفةِ البياضِ والسوادْ

بُعَيْدَها تأمّلَ الكونَ بناظريْهِ

وأفلتَ العالمَ من يديْهِ

إلى مسارِهِ الذي له أرادْ.

 

(3)

الريحُ إثْرَ الريحِ والضبابُ في رحيلهِ يزاحمُ الضبابْ

ودمعةُ الغروبِ في شحوبها تُلوِّنُ الآفاقَ بالأشباحْ

تلوِّنُ العبابْ

واندفعتْ سفينةُ الزمانْ

تلاطمُ الأمواجَ في جنونها تشُقُّ أروعَ القبابْ

« فيا رمالْ »

« يا أرضَ سيناءَ التي أغرقها السرابْ »

« اليومَ في صحرائِكِ المحروقةِ الرمالْ »

« يضطربُ الميناءُ في استقبالهِ السفينةْ »

« فلتدْفُني أيامَكِ المجدبةَ الحزينةْ »

« وَلْتُغرِقي في بحرِكِ السرابْ »

ونفَضَ الغبارُ جانحَيْهِ في الفضاءْ

مفجّراً حنينَهْ

وضمَّ من نشوتِهِ جوارحَ السفينهْ

وقادها حتى أتى الميناءْ

فأنشبتْ أظفارَها في أضلعِ الصحراءْ

مرساتُها المجنونهْ

« فها وصلتَ يا نبيَّ شعبيَ المختارْ »

« فأرْجِعِ الكونَ الذي ضلَّتْ به الأسفارْ »

« أعِدْهُ بالترغيبِ والترهيبِ أو بالسحرِ يا مفتعلَ الأسحارْ »

وتاه موسى في لظى الصحراءْ

يعلِّمُ الصبرَ على البلاءْ

لكنه من بعدِ ما دارتْ بهِ السنينْ

تأمّلتْ عيناهُ في الخلاءْ

وصاحَ في هَوْلٍ من الإعياءْ

أنْ رَبُّ موسى ضاعَ في الصحراءْ

وألفَ ألفٍ ضيّعوا سواهْ ...

وعندَ ضوءِ الفجرِ عادتْ تلطمُ العبابْ

سفينةٌ أضلّها السرابْ

والريحُ إثرَ الريحِ والضبابُ في رحيلهِ يزاحمُ الضبابْ

 

(4)

في ليلِ أورشليمَ والعذابْ

والدمُ جمرةٌ ويصطلي بوهجها الذئابْ

في وحشةِ الدخانِ واخْتناقةِ الضبابْ

تلكَّأتْ سفينةُ المسيحْ

وانخذلَ الشراعُ فالقلوعُ في انتحابْ

في ليلِ أورشليمَ والعذابْ

« ضحيَّةً أم يا ترى مخلّصاً للناسْ »

« بعثـتَـني في الأرضِ يا ربَّاهْ ؟ »

« حمَّـلتَـني موتي فما أقساهْ »

« وقلتَ لي : حتمٌ عليكَ الكاسْ »

« فآهِ لكنْ آهِ ما أضيعَ هذي الآهْ »

« فلن يكونَ غيرَ ما تريدُ يا إلهْ »

« وأنتَ لي أبٌ فهل يعصي الفتى أباهْ ؟ »

وحين ضاءَتْ في الدجى أُرجوحةُ العذابْ

تخوَّفَ الحرابْ

ونسيَ الحبَّ الذي كان بلا حسابْ

أحَـبُّـهُـمْ إليهِ

آثرُهُمْ لديهِ

فصاحَ لمَّا ناحَ فوق رأسهِ الغرابْ

ثلاثةً بالنفي ثم غابْ

وأعلنَ الفجرَ صياحُ الديكْ

فامتشقتْ شراعَها سفينةُ الزمانْ

وانشَبَحَتْ مخطوفةَ العينينِ في مزالقِ السحابْ

حَمْلاً تراهنتْ عليه في سباقها الذئابْ

والريحُ إثرَ الريحِ والضبابُ في رحيلهِ يزاحم الضبابْ

 

(5)

تهامستْ كعاشقيْنِ ضلَّ عنهما القمَرْ

والصيفُ يغفو نخلتانِ تلهوانِ في السَّحَرْ

تحدّثانِ عن شراسةِ الرحيلِ ربما

أو ربما تُحدّثانِ عن تلهّفِ البَشَرْ

لغائبٍ كان ولا يزالُ يُنْتَظَرْ

فهل سمعتَ يا قمَرْ

ما النخلتانِ قالتاهُ في السَّحَرْ

حين ارْتمتْ في أفقِ الرمالْ

منهوكةَ الأنفاسِ من رحلتها قافلةُ الجِمالْ

منهوكةَ الجراحْ ؟

واغرورقَ الصباحُ بالرياحْ

فمدّتِ الشمسُ حبالَ النورِ للسفينةْ

تهزّها تخلعُ عن أهدابها عباءَةَ الأسفارْ

وتمسحُ العتمةَ من دروبها

لتنقذَ النهارْ

من رحلةِ الليلِ الذي تغرُفُهُ السكينةْ

فما الذي أهابَ بالأصنامِ أن تنهارْ

في أوّلِ النهارْ

مثلَ بيتِ العنكبوتْ

الريحُ أخمدتْ جنونَها عليه فوق صفحةِ الجدارْ ؟

وما الذي أهابَ بالأصنامِ أن تعودْ

من ضجعةٍ كأنها الخلودْ

تعودْ

لتزحمَ الوجودْ

تحلَّ آخرَ الخيوطِ من عباءةِ النهارْ ؟

وانطفأتْ معزوفةُ الظلالِ في القفارْ

فقلَّبَتْ عيونَها الرمالْ

في وحشةِ الدجى

وفي الدجى هناكْ

تململتْ كخطرةٍ ببالْ

تواصلُ المسيرَ في صحرائها قافلةُ الجِمالْ ...

فجدّدتْ قلوعَها سفينةُ الزمانْ

ولطمتْ برأسها العبابْ

الليلَ والعبابْ

فغالبَ الموجةَ بعد الموجةِ المجذافْ

وغابَ ثم لاحَ ثم غابْ

في رحلةٍ ضاعتْ بها تذكرةُ الإيابْ

والريحُ إثرَ الريحِ والضبابُ في رحيله يزاحمُ الضبابْ.

 

سمفونية الكبرياء

(1)

شهَق اللونُ على باب الأفُقْ

وشكا من بحَّةٍ صوتُ الكنارْ

وَهَوَتْ من غصنها بالقربِ مني ورقهْ

وَارْتمتْ أخرى عليها نائحهْ

رُبَّ بعد الموتِ لا يُرجى مزارْ

فغمستُ الليلَ في عيني وودّعتُ النهارْ

 

ضمَّتِ الريحُ جناحيْها على ذاكَ الغُصُنْ

وتراختْ متعبهْ

هدهدتْها عتمةُ الليلِ وغنَّتْها الوسَنْ

هي كانت لمْ تنمْ منذ زَمَنْ

كجفوني

هدهدتْها عتمةُ الليلِ وغنَّتْها الوَسَنْ

ثمّ ضعنا في الزَمَنْ

وامَّحينا

أنا والأصداءُ والريحُ على ذاك الغُصُنْ.

 

شُقَّ بابُ الأفُقِ المخنوقِ بالليلِ القديمِ

وَمَضَتْ في جُنْحِهِ المكتومِ ومضهْ

شُقَّ في غمضةِ عيْنِ

شُقَّ غمضهْ

وأطلَّتْ من دياجيهِ التي شاختْ كُهولَهْ

فتنةٌ ردّتْ على الليلِ ذهولَهْ

عن عيوني تمسحُ الليلَ فهاتوا حدّثوني :

كيف لي، إنْ شئتُ أنْ ألفظَ حرفاً، أنْ أقولهْ

عُطِّرَ الليلُ تُرى أم عبَقَ الليلُ طفولهْ ؟

 

واشتعلتْ بحيرةُ العذابْ

وصُلِبتْ عينايَ فوق النارْ

فآهِ يا قوافلَ المساءِ والنهارْ

صلِّي معي

وغنِّ يا كنارْ

غنِّ معي وشاحَها الورديّْ

ذوِّبهُ عبرَ لحنِكَ الشجيّْ

ورتِّلِ العذابْ

أغنيةَ الصيفِ إلى السحابْ.

 

واقتربتْ

كأنما في فمها الأنيقْ

موانئُ البحارْ

فلْيهنئِ الشراعُ بالرحيلْ

ولْيقلعِ البحَّارْ

منها

فمهما طالتِ الأسفارْ

لا بدّ للبحَّار من ميناءْ

لا بدَّ بعد الموج والأنواءْ

أن تنتهي الأسفارْ

فلْيهنىءِ الشراعُ بالرحيلْ

ولْيقلعِ البحَّارْ.

 

الليلُ في ذهولِهِ القديمْ

يموجُ بالغناءْ

فلْترقصِ الأغصانُ في جوانبِ الفضاءْ

ولْتعبُقِ السماءْ

بفمها الأنيقْ

« لكنْ لمنْ يرتفعُ الغناءْ ؟ »

حدّثتُ نفسي :

« ولمنْ في صمتِها ترتعشُ الأشياءْ ؟ »

« لي كلهُ وحدي أنا ذاك الغناءْ ؟ »

أنصتُّ لا أريدْ

أن ينتهي غناؤها

ومن جديدْ

حدّثتُ نفسي في حياءْ :

« لي يا تُرى أم للسماءْ »

« ذاك الغناءْ ؟ »

 

تململَ الكنارُ فوق غصنِهِ العتيقْ

تململَ الكنارْ

وانسَرَبَ الغناءُ من حديقتي

وانطفأ انطفاءةَ النهارْ

تململَ الكنارْ

وكان في عينيه حين انطفأ الغناءْ

تساؤلُ الصغارْ

تُراهُ كيفَ انسَرَبَ الغناءُ من حديقتي ؟

تُراهُ كيف طارْ

وعَبرَ الأسوارْ

إلى حديقة الذين قُرْبَنا ؟

تُرى أميرةُ المساءْ

تريدني أن أشحذَ الغناءْ ؟

عفواً – ومن حديقةِ الذين قربنا ؟

لن أعبرَ الأسوارَ يا أميرةَ المساءْ

غنِّي لمن شئتِ سوايَ واملأي السماءْ

فإنني لن أشحذَ الغناءْ

تأكَّدي

لن أشحذَ الغناءْ.

 

(2)

رنَّةُ العصفورِ من صوتِكِ، أنَّاتُ السواقي في العشيَّهْ

من عذاباتِ جراحاتي فيا أحلى صبيَّهْ

عمِّقي ما شئتِ جرحي اسْتنزِفي شريان قلبي

فجراحاتي سخيَّهْ

عمِّقيها يا صبيَّهْ

مزِّقيها بحرابِ الغيْرةِ المفجوعةِ اللونِ ولا تُبقي بقيَّهْ

لا تخافي صرخةَ الجرحِ إذا اشتدّ ولا شكوى الضحيَّهْ

فجراحاتي كتوماتٌ كما عوَّدْتُها من فجرِ أيامي الشقيَّهْ

مزّقيها يا صبيَّهْ

وغَداً إن رقرَقَ الصمتُ بأغصانِ الخميلهْ

نائحاً يبكي قتيلَهْ

لا تقولي : « مات مصلوباً على صمتِ جراحِهْ »

لا تضجّي بالنواحْ

كبرياءُ الجرح أقوى من ترانيمِ نواحِهْ

فاستبدّي يا جراحْ

واستريحي يا جميلهْ

فأنا منذ الطفولهْ

قلتُ شيئاً وبقلبي

ألفُ شيءٍ لن أقولهْ !

 

آهِ لو تدري غصونُ الشجرهْ

في عشيَّاتِ الليالي المقفرهْ

حينما العصفورُ في الأوراقِ يأوي لفراشِهْ

مع لِداتهْ

مطمئناً مسبلَ الجفنينِ يأوي لفراشِهْ

آهِ لو إذ ذاكَ تدري

أيَّ إحساسٍ بكربَهْ

أيَّ غربَهْ

تجلدُ الساهرَ وَحْدَهْ

تخنقُ الحلمَ ووعدَهْ

في خيالِهْ

وتعرّي الليلَ من سحرِ ظلالِهْ

فإذا ضجَّرَهُ ما ضجَّرَهْ

فلمن يشكو غريبٌ قدَرَهْ ؟

آهِ لو تدري غصونُ الشجرَهْ !

 

يا أبا الهولِ تحرّكْ

إنني أصبحتُ مثلكْ

تعبرُ الأعْصُرُ صيفي وشتائي

وأنا مستغرقُ الصمتِ يسلِّيني فنائي.

 

النَّبْذُ في الأعالي

 

ما كانتِ النجومُ وَحْدها كئيبةً في قُبَّةِ السماءْ

فالقمرُ الذي أحبُّهُ ارْتمى على الرِمالْ

وانْسَكبَ الشحوبُ فوق موجةٍ تثاءَبتْ وَانكسرَتْ موهونةَ الظِلالْ

يا أيُّها المشرّدُ المنبوذُ في الأعالْ

مدينةُ النجومِ قد آوَتْـكَ منذ حَدّثوا عنِ الأزَلْ

وَلمْ تَزلْ

أما تعبتَ في مدينةِ النجومِ يا مشرَّداً مِنَ الأزَلْ ؟

نحنُ الذينَ زارَنا شعاعُكَ الكئيبُ من عصورِكَ الأُوَلْ

أيَّامُنا قليلةٌ فَبَلِّغَنْ إنْ زُرْتَ ذاتَ ليلةٍ مقصورةً على ذُرى الجِبالْ

أوِ انْتَحَيْتَ في الجنوبِ ربوةً يُقالْ

بأنها تُنْبِتُ مثلَ القمحِ نكهةً وتُنبتُ الدلالْ

بَلِّغَنْ عنّي الرياحَ كِلْمَتينْ

بأنَّني صلَّيتُ مَرّتينْ

وانْخَذَلَ الصوتُ الذي في شَفَتي وَحدّثَتْني دمعةٌ في العينْ

وَلمْ تَزَلْ

يا أيُّها المشرّدُ المنبوذُ في مدينةِ النجومِ منذ حَدّثوا عَنِ الأزَلْ.

 

عرباتُ الرحيل

 

سأرحلُ في عرباتِ الدجى

عشيَّةَ ليلٍ طويلْ

أُسائِلُ عنكِ التلالَ التي

نهايتُها المستحيلْ

 

أَأُمسِكُ بالريحِ من شعرِها

لأصنعَ منه جَناحْ

يرفرفُ فوق تلالِ الدجى

كطيفِ وِشاحْ ؟

 

أمَ انَّي أهيمُ على دربِ مَوْجَهْ

أحدّثُ عنكِ البحارْ

فَأُفْني وَأَفْنى برحلةِ عمرٍ

قواربُها الإنتظارْ ؟

 

تُراني ألملمُ هَمْسَ السواقي

وأدفنُهُ في دمي

ومنهُ يطلُّ صداكِ غداً

كإطلالةِ البرعمِ ؟

 

لماذا أخافُ عبورَ الليالْ

وطيفُكِ شَمْعَهْ

بليلِ الظِلالْ

تفجّرُ في القلبِ نوراً ودمعَهْ

لماذا أخافُ عبورَ الليالْ ؟

 

سأرحلُ في عرباتِ الدجى

عشيَّةَ ليْلٍ طويلْ

أسائلُ عنكِ التلالَ التي

نهايتُها المستحيلْ

 

سأرحلُ ليلاً يطولُ شهورا

وأسألُ عنكِ كثيراً كثيرا

سأرحلُ لا رغبةً في الوصولْ

ولكنْ هوىً بالرحيلْ.

 

 

 

اللقاء الأول

 

ضمَّنا ركنٌ هنا لم يكنْ قد ضمَّنا

فجلسْنا الوجهُ للوجهِ نداري شوقَنا

وعلى الثغرِ ابتسامٌ فاضحٌ أسرارَنا

وفراغٌ صبّ فيه الشوقُ ناراً بيننا

وحِسانٌ في الزوايا وشبابٌ مثلَنا

يرشفونَ الحبَّ من كأسٍ تُحاكي كأسَنا

 

وطوانا الصمتُ حيناً ثم ولَّى وانثَنى

فأخذْنا في الأحاديثِ أحاديثِ المنى

تصِلينَ القولَ بالقولِ وأحياناً أنا

فإذا زَلَّ لسانٌ نتناسى قوْلَنَا

ونُداري ما نراهُ مِثلَ أخطاءٍ لنا

ورَمَتْ عينيَّ عيناكِ تُساقيها الهَنا

فابتسَمْنا وخفَضْنا الطرْفَ نُخفي ما بنا

وسرحْنا في هيامٍ في شرودٍ مسَّنا ،

نذكرُ الماضي وكيف الناسُ هاموا قبلَنَا

 

وأخيراً لفَّنا الصمتُ أخيراً لفَّنا،

فأطلَّتْ أعينُ اللوحةِ تشكو صمتَـنا،

وسرى اللحنُ خفِيّاً مُشْعِلاً أشواقنا

فابتسَمْـنا لا نبالي أيُّ شيءٍ حولنا

وخريرُ الماءِ يروي للزوايا حُبَّـنا.

الدفء

 

الدفءُ الدفءُ يعـمُّ الأرضَ ليحكي لهفـةَ طلّتهــا

والصبحُ يهفُّ لها نزِقاً       والشمسُ ترقُّ لخطوتهـا

وحنينٌ فـي دربِ العشاقِ يطـرّزُ لَيْـلَـكَ مشيتهـا

وأغاريدٌ تحكي لهباً          لهباً كالـوردِ بوجنتهـا

هي تدري أنَّ لها ألفاً        يشتاقُ لعطـرِ أنوثتهـا

فتميلُ وتمضي لاهيةً        سكرى بحلاوةِ بسمتهـا

الكلُّ لهـا فَتَبَسُّمُها           للكلِّ وخَيْـطُ مكيدتهـا

يمتصُّ الشوقَ ويزرعهم     ذكـرى بجرارِ حديقتها

ماذا لو زرعوا جنّاتٍ         لتظلَّ تلـوحُ بشرفتهـا ؟

لو تحت الزيتونِ ازدحمتْ    أنفـاسُ العصرِ لرقّتهـا

وتراخـى النـورُ فأطيافُ العشـاقِ تمـوجُ بمقلتها؟

ماذا لـو أنَّ زميلتها          همستْ بالسـرِّ لجارتها

وانْهارَ الضوءُ علـى الأنجامِ فبـاحَ النجـمُ بهمستها؟

ماذا لـو بثّتْ منديلاً         للريحِ ؟ لقاربِ فـرحتها؟

والليلُ التاعَ بحسرته        لحديثٍ فـوق وسادتـها؟

أُنظرْ ... خصلاتُ الشعرِ تموجُ مع الأحلامِ بحجرتها

وبريـقٌ فـي نهـرِ المرآةِ كَلَسْعِ الشـوقِ، كلهفتها

وغـلالتُها تبكي فـي الظلِّ تَـئِـنُّ بشكوى وحدتها

وعيونُ الليلِ مشرّعةٌ        للهيـبٍ شـفَّ كوجنتها

نـارانِ ...  وكم يحلـو للنارِ حريـرُ الشرقِ بِفُلَّتها

اللهَ اللهَ علـى شفتـي        تترقرقُ فـوق  غلالتها

 

صليبان

صليبانِ ؟ كيف ؟ تُرى ما الخبرْ

حملتِ تُراكِ ذنوبَ البشرْ ؟

فَمِنْ عنقِ الفجرِ أحلى وأحلى

صليبٌ تدلىّ

وقال تألَّمْ

غداً سوف تندمْ

فقبلكَ أنَّ المسيحُ وقال إلهي تخلّيتَ عنّي لماذا ؟

 

وحَدَّقَ خدّاكِ في حلبةِ النارْ

فماج الشقيقُ ولمّا تألّقْ

تنادتْ بسرّهما جمرتانِ

ودمدمَ لونُ النبيذِ المعتّـقْ

 

هصرتِ الخوابي

وجمرَ الروابي

فباللهِ قولي

وقلبي عليكِ

لماذا صلبتِ المسيحَ على وجنتيكِ ؟

 

ومن عنقِ الفجرِ أحلى وأحلى

صليبٌ تدلىّ

وقال تألَّمْ

غداً سوف تندمْ

ومثلكِ للعشقِ سهدٌ وعلقمْ

ولكنّ مثليَ لا يتعلّمْ

ولن يتعلّمْ

 

(من رواية على قارعة الغيب) 

 

الميلاد العشرون

 

بنتَ الربيعِ أنا بالوردِ أحتفلُ

أنتِ الربيعُ لهذا القلبِ والأملُ

في عيدِ ميلادِكِ العشرينَ أُرْسِلها

تحيةً عطرُها الأحلامُ والغَزَلُ

يا وردةً من رياضِ الشامِ عاطرةً

مِنْ سِحْرِ عطرِكِ إنّي مفعمٌ ثَمِلُ

نحن افتَرَقنا وما هَمَّ الفراقُ أنا

ما زلتُ لو مَرّ طيفٌ منكِ أبتهلُ

مِنَ الظنونِ فؤادي وَسْطَ معترَكٍ

إذا وهى أملٌ يومي لهُ أملُ

هل جفّ نهرُ حبيبي ؟ يا معذّبتي

قد كان نهرُكِ فيهِ الطيبُ والعسَلُ

أنا رعيتُ عهودَ الحبِّ  في كبدي

ولَمْ أزَلْ للّتي راحتْ فَما تَصِلُ

أُنَقِّلُ العيْنَ بعد الهَجْرِ في صُوَرٍ

مِنَ الجمالِ وحبيّ ليس ينتقلُ

لَوْ أنّ قلبيَ عندي كنتُ أمنحُهُ

لكنّ قلبي بأرضِ الشامِ مُعْتَقلُ.

إنْ داهَمتْكِ الليالي يا فتاةُ غداً

وَفَرَّ منكِ ربيعُ العمْرِ ينخذلُ

فأنتِ في عامِكِ العشرينَ باقيةٌ

ما دامَ في القلبِ نارٌ منكِ تشتعلُ.

كسرتِ قلوعي

                                        

كسرتِ قلوعي ولي قبلَ عينيكِ في كلِّ وجهٍ شراعْ

فغطّى الضبابُ مرافيءَ عمري

سوى مرفأٍ للضياعْ

فكيف محوتِ الشواطيءَ والموجْ

ولمْ يَبْقَ للبحرِ قاعْ

سوى دهشتي من ظلالِ المدينَهْ

تلوّنها مقلتاكِ الحنونَهْ

وأينَ الرحيلُ إذا ما نويتْ

وأنتِ اللِّقا والوداعْ ؟

 

علَّموني

(تجري هذه الأبيات على لسان شاب يستذكر مراهقته، من مسرحية غير منشورة)

 

عَلَّموني يـومَ كنتُ فتىً             أنَّ دنـيا الحبِّ مسْحـورَهْ

حذّروني مِـنْ مسالِكِها              وحكوْا لي ألفَ أسطـورَهْ

غيرَ أنّـي بالهوى نَزِقٌ             منذ عيني اسْتلهمتْ نـورَهْ

مُـقَـلٌ تحنـو وتشلحني               بمـروجٍ غيـرِ منظـورَهْ

فاسْأليها واسْألـي شفتي            عن جحيمِ الشوقِ والغيـرَهْ

كلّما قالـوا الوداعَ أنـا                جُـنَّ شوقي كَذَّبَ السيـرَهْ

مثلما طفلٌ يُـجَـنُّ إذا                 طَيَّروا في الريحِ عصفورَهْ

بَلِّغي عنّي حديثَ هوىً             واتْـركي للغيـرِ تبريـرَهْ

حَسْبُ أيـامي أوزّعها                بيـن فستـانٍ وتـنّـورَهْ

 

ألقاكِ

 

ألقاكِ والإعصارُ يجرفُني

فأرِقُّ حتى أنَّني اللُّطْفُ

وَأغيبُ في عينيْكِ مُرْتَحِلاً

وعلى لطيفِ بريقها أغْفو

كَمْ فيكِ مِنْ أشياءَ تُعْجِبُني

شَفَةٌ لِسانٌ وَجْنَةٌ أنْفُ

تتحدّثينَ عَنِ الصِّغارِ وفي

نَغَماتِ صوتِكِ رقّةٌ عَطْفُ

فيطيرُ بي حُلُمي يصوّرُ لي

أنّي وأنتِ يُظِلُّنا سَقْفُ.

 

 

الجارية

لَجَارِيَةٌ تقولُ الشعرَ غـرّاً

وتعبثُ عبثةَ المستظرفاتِ

وتُرسِلُ ليلَها قبساً ووهجاً

فَلَيْلُكَ  سابحٌ في السابحاتِ

وتُشرِكُ في مفاتنها نُهاها

جليّاً سابغَ المستطرفاتِ

يكون لفتنةِ الأنثى زكاةً

تطهّرها من الفِتَنِ اللواتي

لأَعجبُ في ضميري من جمالٍ

مُلِذٍّ في الليالي العابراتِ

لِفارغةٍ تميلُ إلى امتلاءٍ

تُعَبِّيءُ عمرَها بالتُرَّهاتِ

 

 

(من رواية صلصلة الرعد) 

رَشْحُ الوعد

 

 

المرأةُ رَشْحُ القَطْرْ

يَنْسَلُّ في بشرةِ التربةِ المشقَّقَةِ من حرائقِ الإنتظارْ

يَنْحَلُّ لدونةً في مَسَامِّها الفاغرةْ

يُلْغي عروقَ التشنّج ِ فيها

ويلغي أصالتَهُ واغْترابَهْ

لا الماءُ يرجعُ ماءً

ولا الترابُ تراباً :

صولةُ العنصرِ في العنصرِ

هَيَمَانُ الضدِّ بالضدِّ

انْسِيابٌ فانسلابٌ فاضطرابٌ

يضرم الروحَ بقاماتٍ

تكاد تبوح بالوردِ

ولمّا الوردُ يهتزّ بعيدِهْ .

المرأةُ رَشْحُ الوعدْ .

 

(من رواية وعد شباط)

 

صَيّادو الأسماك

 

صاحتِ الأصواتُ هيلا هُبَّ واحتدَّ الرجالْ

شمَّروا عن أذرعٍ مفتولةٍ تهوى النضالْ

ومَضَوْا صفَّيْنِ طولاً عن يمينٍ وشِمالْ

يجذبونَ الحبلَ في صبرٍ غريبٍ لا يُنالْ

وعلى سيماهُمُ عزمٌ أكيدٌ وجلالْ

قد ترامتْ بين صفَّيْهم شِباكٌ وحبالْ

فهُمُ والبحرُ من جذبٍ وشدٍّ في اقتتالْ

 

ومضى الوقتُ بطيئاً وأبى القومُ الكَلالْ

واستَمرّوا لا يبالونَ عِطاشاً للنوالْ

وعلى كلِّ جبينٍ ثمنُ الرزقِ الحلالْ

قطراتٌ ساخناتٌ لامعاتٌ في جمالْ

وسؤالٌ ضارعٌ في العينِ ما أحلى السؤالْ

ودنتْ منهمْ بطاءً تتثنى في دلالْ

شبَكاتٌ سابحاتٌ طيَّها كنزٌ ومالْ

حمَلوها في حنانٍ أفرغوها في احتِفالْ

فإذا ما كان طوْعَ الحلمِ وهْمٌ وخيالْ

 

نازَعوا البحرَ بنيهِ فتأبَّى الإمتثالْ

فمَضَوْا عنهُ غضاباً وأماني القلبِ آلْ

ونسيمٌ هبَّ في أعقابهمْ للإرتحالْ

واستمرَّ الموجُ يحكي ما تمنَّى للرمالْ.

الخوف

 

لَكَمْ تخيفني هيَ الحياةْ

نَخْشى ظلامَ الليلِ في الصِّغَرْ

تُخيفنا الأشباحْ

ونرهبُ النهارَ في الصِّبا

يُخيفنا الإنسانْ

نخشى على أحلامنا من عينهِ من جهلهِ من فكرهِ المسمومْ

فنرتدي أثواب غيرنا ونستترْ

نمثّل الحياةَ مثلما يريدنا البشرْ

لنتّقي عداءَهُمْ !

الخوفُ يا اللهُ في هدوئنا وفي ضجيجنا

ووقتَ كُرْهِنا وحينما نُحِبّْ

ورعشةُ الظنونِ في حديثنا وفي سكوتنا

نخافُ أن يموت ذلك الذي نحبُّهُ

أو أن يضيعَ في دروبِ غيرنا

فنرتمي في الحزنِ والشجنْ

يُخيفنا كذلك الزمنْ

بما مضى بحاضرٍ بآتْ

سلسلةٌ من المخاوفِ الحياةْ !

 

 

(من مسرحية  ثورة من تحت )

 

تنبذني المدينة

 

تنبذني المدينةْ

لكنني أريد أن أسيرَ في شوارع ِ المدينةْ

ألفُّ عبرَ ليلها الطويلْ

أجتازُ ألفَ ميلْ

أمزّقُ السكينةْ

وأعبرُ الأسوارَ للحديقةْ

فأنبشَ الترابْ

أُروي بدمعي الليلَ والترابْ

لِتورقَ الحديقةْ

لعلّ في الضحى

تعبر سوراً قد تلاشى وَامّحى

أغصانُها الوريقةْ

لعلها المسكينةْ

مدينتي الحزينةْ

تهتزّ من غفوتها

وتَـنْظُـرُ الأوراقَ في شوارعِ المدينةْ ...

 

(من مسرحية  ثورة من تحت)

 

مناجاة

 

صباحُ الخيرِ يا اللهْ          وأنتَ الخيرُ يا اللهْ

برأتَ الغيبَ، كلَّ الغيبِ، ما ترضى له يرضاهْ

فمنكَ الليلُ والأرياحُ والأشباحْ

ومنكَ الدمعُ، آهُ الجرحِ، ما ناحَ به النُوَّاحْ

ومنكَ الصبحُ والإصباحُ والمصباحُ، يا اللهْ

ومنكَ رحابةُ النورِ المنزَّلِ من سَمَاكَ إلى سَمَاهْ

عليَّ الأرضُ ضاقتْ والفضاءُ مَدَاهُ غاضَ، فكيف غاضَ تُرى مَداهْ ؟

على قـلبي بنوركَ وسِّعِ الرؤيا فليس له سوى الرؤيا حياهْ

وعَلِّـلْهُ بماريّا فماريّا كوعدِ الغيبِ بالبعثِ

بحورِ العينِ تنشئهنَّ إنشاءً بروحٍ منكَ مُنْبَثِّ

ويا ربَّاهُ، يا ربّاهُ، ما ضَرَّ جنانَ الخلدِ لو إنسيّةٌ حَلَّتْ بحوريَّهْ

بإِسمٍ كان مَاريّهْ

وكانت حظّيَ المقسومَ لي في الغيب مِنْهُنَّهْ

وكان بياضُها الجنَّهْ

بياضُ العشرِ والسنتينِ لا قَلَّتْ ولا زدْنَهْ

وكان اللهفَ مشيتُها، تنفُّسَ ياسمين الفجرِ في فجرٍ من الفتنَهْ

وكانت كلّها لي شجْرةَ الجمّيْزِ بالجمّيْزِ، كم كنّا قطفناهُ وذقناهُ

ونمنا في حنايا الجذع ِ مَحْمِيَّيْنِ من رصدٍ رُصِدْنَاهُ

وكانت كلّها لي موجةَ البحرِ التي كنّا سكنّاها

لِواذاً من فضولِ الناس من آهٍ وأوّاها

وكانت كلّها لي رحمةً من عرشكَ الرحمن، يا اللهْ ؟

وماذا كان ضَرَّ الغيبَ لو كان كما نهواهْ ؟

فيا اللهُ، يا اللهْ

على قلبي بنوركَ وسّع ِ الرؤيا فليس له سوى الرؤيا حياهْ

وهذا الجسمُ، هذا الجسمُ أفناهُ الدعاءُ فكلُّهُ شفتاهْ

تطيبانِ إذا صعدتْ صباحُ الخير، يا اللهْ

إليكَ، فأنتَ كلُّ الخيرِ، كلُّ الخيرِ، يا اللهْ .

                                        

 

(من رواية  على قارعة الغيب)

 

بيروت ... لمن ؟

 

بيروتُ ليستْ للذين سكنوا بيروتْ

لأنهم قد وُلدوا هناكْ

وأهلَهم قد دُفنوا هناكْ

بعادةِ التوارثِ المنوطِ بالبيوتْ

وبالمقابرِ التي هي الأملاكْ

للموت ِ وحده، وربما للذكرياتْ ،                       

فالبيتُ والقبرُ العتيقانِ اسْتِدامة ٌ لدورة ِ الحياة ِ في المماتْ     

وَهْمٌ ورثناه عن الرواة ِ والثقاتْ .                       

****

 

بيروت ُ ليستْ للذين وُلدوا

فيها وفيها أكلوا وشربوا

وحسبوا أنفسهم أصولَها

ثم مَضَوْا لا ملأوا قـنديلَها 

بالزيت ِ أو أهْدَوْا لها الضياءَ ممّا كتبوا   

بالحبر ِ أو بالدم ِ أو بأيِّ شيء ٍ أبدعـتْه ُ النُّخَبُ .

****

 

بيروت ُ ليستْ لفراغ ِ الساكنينَ في بيوتها 

والهاجعين َ في قبورها من ألف ِ عامْ

للآخذينَ من حياتِها حياتـَهُمْ

معتصرينَ كرْمَها على الدوامْ

بيروت ُ للذين طَوَّعوا الأيامْ

وهرَّبوا الأحلام ْ

إلى شوارع ِ  المدينة ِ القديمَهْ

وحرّكوا فطهّروا الآسنَ من مياهِها الراكدة ِالسخيمَهْ

ولقّحوا الولود َ والعقيمَهْ

فانتفضت ْ تزعق ُ بالنّيامْ   

صحافة ً ودورَ نشر ٍ، جامعات ٍ راقياتْ

مسارحاً، مستشفياتْ

مسابحاً، مطاعماً، وسِنَمَاتْ

فنادقاً في فسحة ِ الفضاء ِ عالياتْ

ودورَ لهو ٍ للصغار ِ والكبار ِ والشباب ِ والبناتْ  

بيروت ُ للذين أشعلوا ويشعلون َ جذوة َ الحياة ْ.

****

 

بيروت ُ للأحرار ِ من لبنان َ من مختلف ِ الطوائفْ

فراقص ٌ ومطرب ٌ وعازفْ   

ومسرف ٌ في لغة ِ العواطفْ

وذو بدانة ٍ وذو نحولة ٍ وراعِفْ

وذات ُ فتنة ٍ مزاجُها يفجّرُ المواقفْ

إذا تبسـَّمتْ بملء ِ ثـغـرها    فالكلُّ في حضرتِها ملاطِفْ  

وإنْ رَمَتْ بصاعِق ٍ من وركها      تراجفتْ من تحتها الرواجفْ 

وكاتبات ٌ حائرات ٌ بين حبر ِ الجدِّ والسّـفاسـِفْ

وناشرات ٌ هَمُّهُنَّ العريُ لا مآز ِرٌ ولا مناشِفْ

وغارق ٌ في كأسه ِ وفي دخانه ِ وفي عجائب ِ الطرائفْ  

وكلُّ ذي تخلّق ٍ وذي تعلـّم ٍ وكل ُّ عاكفْ

في مسجد ٍ، كنيسة ٍ، صومعة ٍ للجنِّ والهواتفْ

كلُّ الرجال ِ والنساء ِ ملّة ٌ

بيروت ُ دينُها القويمْ

وحُلْمُها القديم ْ

بعالم ٍ تحرسه الأنسام ُ والعواصفْ.

****

 

بيروت ُ للمهاجرينَ والمهجَّرينْ

العُرْس ُ والوليمَهْ 

بيروت ُ حضن ٌ لرجال ٍ عشقوا المدينة َ الحميمَهْ 

فهم حِرارُ أهلها

من أيّ ضيعة ٍ وبلدة ٍ وملّة ٍ أتوْا                       

وهُمْ ملوك ُ عرشِها

أحياؤهمْ ومَنْ مَضَوْا

وأنتَ، يا شهيد ُ، من عشّاقِها

وأنتَ أنتَ من ملوك ِ عرشِها

وأنتَ كنتَ العرسَ والوليمَهْ

في موكب ِ الحياة ِ والجنازة ِ العظيمَهْ .

 

(من مسرحية رجل لكل الفصول)

 

بيروتنا

 

       بيروتُنا مفتوحة ٌ للشمس ِ والرياح ِ والنسائم ِ اللطيفهْ                  لعابر ِ السبيل ِ، للمستأنس ِ الغريب ِ، للباحث ِ عن وظيفهْ         للهارب ِ المذعور ِ من بطش ِ المخابرات ِ في بلاده ِ               التي تمرّ في أزمنة ٍ عصيبهْ

       حيث الحياة ُ تهمة ٌ وقولة ُ الحقّ ِ جريمة ٌ رهيبهْ

 

       بيروتُنا مَضَافَة ٌ عريقهْ                                               بيت ُ الذين ضاقت ِ الجدران ُ في بيوتهم بهمْ                         واختنقتْ أحلامُهُمْ                                                    تيبـَّسَتْ أغصانـُها الوريقهْ

 

       بيروتُنا جنّـيّة ٌ، والجنُّ فتنة ُ البشرْ                             مصيدة ُ الخيال ِ منذ ُ أوّل ِ العُصُرْ                                   مأدبة ُ الأمّة ِ من بدو ٍ ومن حضرْ                                    فمرحباً ومرحباً بالكلّ ِ: مَنْ شكا ومَنْ شَكَرْ                     

بيروتُنا عاصمة ُ القدَرْ

 

 

(من مسرحية رجل لكل الفصول)

 

بيروت المنسيّة

 

 (1)

بيروتُ يا منسيّةً في الريحْ

بيننا يُسْتَـنْفَذُ الزيتُ فلا القنديلُ يحكي لي ولا أحكي لقنديلي أماسيَّ القديمَهْ

حينما رَصَّعْتُ فيكِ الليلَ غاباتٍ

فهاجَ اللونُ ممشوقَ الرؤى

وانسابَ فيكِ الشارعُ المرسومُ في الضوءِ لكي يحصي كرومَهْ

حينما دمدمتُ للريحِ شراييني السقيمَهْ

فتلوّى الليلُ يحكي عبقَ الأنثى تلوَّتْ

في مخاضِ الشوقِ آهاتٍ من الحبِّ ومن سُحْقِ الهزيمَهْ

كيف خبّأتِ أماسيَّ القديمَهْ

ليجنّ الطفلُ في عمري وتحبو

قصةُ الطيشِ على أجفانه الثكلى بأعباءِ الذنوبِ ؟

 

(2)

 

 أيها المجنونُ ! دوّى صوتُكِ المحمومُ في الأفْقِ دويّا

 أيها المجنونُ ! خبّئْ وجهَكَ المسعورَ بالشوقِ ولا تـنظرْ إليّا

حولنا الناسُ سياجٌ

من عيونٍ تحصدُ الشكَّ وتحصي رعشاتِ الليلْ

وتَمَهَّلْ شعرُكَ المشلوحُ في الريحِ وهذي الريحُ تُصليكَ لهيباً أبديّا

قلتُ  لا تجني عليّا

سوف أبقى مثلما الريحُ أرادتْـني شَروداً جاهليّا

لا ذليلاً يزرعُ الأرضَ بخوفٍ من عيونِ الناسِ ما شكّوا وما قالوا

شَرِهاً كالذئبِ يستعدي على الذئبِ رداءً حضريّا

سوف أبقى عربيّا

لأغنّي جسدي ... من لفحةِ الأرضِ عروقي ... ودمي ما زال عربيداً فتيّا

 

 

وباءٌ أحمر

 

الصيفُ وباءٌ أحمرْ

يتشظّى فينا، يتفشّى

يتلوّى

ألسنةً كالزفراتِ إذا شبّتْ صُعُداً من حِمَمِ الأرضْ

ألسنةً كالشهقاتِ إذا ابْتُلِعَتْ

أو غِيضَ بها، شُرِقَتْ شُرِقَتْ

حتى لا أدنى ، لا أدنى

جمراتٍ بقيتْ إثرَ حريقِ الأمسْ

تُخالُ لمن لم يعرف منها طعمَ الوخْزْ

بلّوراتٍ حمراءَ تشعّ كما كُلَلُ الأطفالْ

كما كُلَلُ الأولادِ على مصطبةِ البيتْ

تلمعُ في وهج ِ الشمسْ

وتطقطقُ كالضحكاتِ المسروقةِ من عطلةِ صَيْفْ

والظمآنُ المحروقُ بعزِّ الشمسْ

يتحلّبُ فَمُهُ من ظَنٍّ أنّ الكُلَلَ الحمراءْ

حبّاتُ العنبِ الحلواني

مُشِحَتْ بدمٍ قانِ

واشتعلتْ بالشوقِ المنسوبِ لِقَيْسْ

تبحثُ عن معشوقٍ في لحظةِ يأسْ

ترضى منه حتى بالطيْفْ

تسألُ حتى عن آخرِ آخرِ طَيْفْ

أوّاهِ وآهْ

وخفّفْ عنّا يا اللهْ

فوباءٌ أحمرُ أنتَ علينا، آبُ، أيا لَهَّابَ الصيْفْ !

 

(من رواية صلصلة الرعد)

 

الحيادُ ووَعْدُ النار

 

وظننتُ بأنّ حيادي سَلَّمَني من وَعْدِ النارْ

فرضيتُ بعيشةِ تحتِ الأرضِ ، حصاراً طيَّ حصارْ

ورفاقي في تبنينَ وصورَ وبنتَ جبيلْ

وحاراتِ النبطيّةِ والشرقيّةِ والضِّيَعِ المرشوشةِ نجماتٍ في ليْلْ

أكفانٌ تلهجُ بالبعثِ الآتي ما بعد الموتْ

أكفانٌ تلهو بالخطرِ المحتَلّ ْ

تومي بالخوفِ وتلقي الرعبَ وتكسرُ حَدَّ الهوْلْ

وأنا المتقوقعُ في ظلماتِ الملجأِ تحت الأرضْ

في عاصمةِ الدنيا المزدانةِ تحت النارِ بنارِ النّبْضْ

أسدلتُ على روحي كفناً من عَتْمِ الليلْ

أخمدتُ الرّعدةَ في جسدي لأصدّ العارْ

وظننتُ بأنّ حيادي سَلَّمَني من وعدِ النارْ

****

 

سَعَدُ الحدّادُ يجولُ بجيبِّ الحربِ على الأنصارْ

في صورَ وفي تبنينَ وبنتَ جبيلْ

وحاراتِ النبطيّةِ والشرقيّةِ والضِّيَعِ المرشوشةِ نجماتٍ في ليلْ

يجولُ ، على صَـنْديحَتِهِ إكليلُ الغارْ

وضعتْهُ الأيدي من صُحُفِ التوراةْ

لِتُـنَسِّيَهُ المصلوبَ ودعْواتِ المصلوبِ على مَنْ دَقَّ بكفّيْهِ المسمارْ

ولتوهمه أنّ الإسلامَ مضى للكَعبةِ، أنّ القدسَ له ولهم، فالقدسُ خيارْ

****

 

ما بعد العاشرِ من آبِ اللهّابْ

وعلى أنّاتِ المعتَقَلين بلا أسبابْ

إلاّ إرهابَ المحتلِّ المتمرّسِ بالإرهابْ

يختطفُ رفاقي الدربَ بغمزةِ عيْنْ

وبغمزِ زنادٍ يرجمُ بالجمراتِ الحُمْرِ ، يشقُّ القلبَ اثنيْنْ

وبأكفانٍ بيضاءَ تشعُّ شقيقاً من رئتيْنْ

حسينُ ، حسينُ ، حسينْ

****

 

من حاراتِ التّحْتا والفَوْقا والتَلاّتِ على قممٍ وجبالْ

من أعلى مشرقِ شمسْ

حتى موجاتِ البحرِ وبَقْبَقَةِ الينبوعِ على مرمى حجرٍ حجريْنْ

من صورَ لرأسِ العيْنْ

حسينُ ، حسينُ ، حسينْ

****

 

وظننتُ بأنّ حيادي سَلَّمَني من وعدِ النارْ

فضربتُ على نفسي سوراً طيَّ الأسوارْ

وصنعتُ حصاري بقراري

تبّاً ولبئسَ قرارْ !

****

 

(من رواية صلصلة الرعد)

 

سيّدة بورجوازية

 

وأدورُ على الأحياءِ فأقتحمُ الآذانَ بصوتٍ حرٍّ عالْ

معصومٍ من نظراتِ الكوفيّاتِ وإنذاراتِ الطَّخِّ وشُغْلِ البالْ

بصوتي الحرِّ العالْ

أزمّرُ زمّورَ البَاصاتِ وأعلنُ عن رحلاتْ

لزيارةِ أرضِ المقدسِ والتطوافِ بتلِّ أبيبْ

وشراءِ التذكاراتِ وأخْذِ الصُّوَرِ بأحدثِ كاميراتْ

وشفاءِ المرضى بالأعصابْ

بنقعِ الجسمِ ليومٍ أو حتى ساعاتْ

في البحرِ الميّتِ حيث الموتُ طبيبْ

ولنعقدَ مؤتمراً إعلامياً وسياحيّاً في تلِّ أبيبْ

نشجّعُ فيه على جَذْبِ السيّاح ِ لصورَ وصيدا ثم جبيلْ

ثالوثِ الفينيقيين الشَحَنوا خشبَاتِ الأرزْ

لبناءِ الهيكلِ في أيامّ سليمانٍ أيّام ِ العِزّ ....

وأدورُ أدورُ على الأحياء بصوتٍ حرٍّ عالْ

معصومٍ من نظراتِ الكوفياتِ وإنذاراتِ الطَّخِّ وشُغْلِ البالْ

فأُلاقَى حيث نزلتُ بآياتِ الترحيبْ

يستعجلني بالرحلةِ في الباصاتِ لتلِّ أبيبْ

أصواتُ النسوةِ والشبّانِ وألفِ مجيبْ

من فوقِ الأسطحِ أسطُحِ هذا البيتِ وذاكْ

من خلفِ البابِ ومن خلفِ الشبّاكْ

لا خوفَ ولا إرباكْ

وهناكَ هناكْ

من عطفةِ ذاكَ الشارع ِ طَلَّ الباصُ الأوّلُ يعلنُ عن رحلاتْ

بمكبّرِ صوتٍ يهدرُ منه الصوتُ الحرُّ العالْ

أنْ هيّا يا ابْنَ الفينيقيينَ الأبطالْ

تعالَ تعالْ

جدِّدْ تاريخَكَ ، تاجرْ بالخشبِ الأرزيّ

مَهِّدْ لبناءِ الهيكلِ فالتوراةُ تحنُّ إلى العهدِ الذهبيّ

أسطولُكَ باصاتٌ فَارْكَبْ باصاً يوصلْكَ لتلِّ أبيبْ

وَارْجِعْ بصكوكِ البيع ِ وإغراءاتِ الربح ِ ورتِّبْها ترتيبْ

فالتاجرُ فيكَ أريبْ

 

هيّا هيّا أسطولُكَ باصاتٌ تملا الساحاتْ

والباصُ الأوّلُ يدنو والزمّورُ يزمّرُ تُوتَ وتيتَ وتاتْ

هيّا هيّا

بل مهلكَ، مهلاً، خلفَ الباصِ قناعٌ أسودُ، وجهٌ محجوبُ القسماتْ

يتلفّتُ كالمَوْتورِ ويعدو في الطرقاتْ

ويذوبُ كحبّةِ ملحٍ في لحظاتْ

ويدوّي ، يا الله ُ، يدوّي صوتٌ من نارٍ ودخانْ

كتفي ترتدُّ ويأخذني شيءٌ كدوارْ

كتفي كالنارْ

شيءٌ كالجمرةِ في صدري

شيءٌ يَحْمَى ، شيءٌ يَعْمَى ، شيءٌ ينهارْ .

 

(من رواية صلصلة الرعد)

 

النظام العسكري

      

صار النظام ُ العسكريُّ حرفة َ الشّطّارْ

في الشرق ِ أو في الغرب ِ بل في كافة ِ الأقطارْ

طوراً مُحَجّباً بحكم ِ الساسة ِ الصغارْ

وتارة ً يقتحم ُ النظام َ الجنرالْ

معزّزاً بثـلّة ٍ من حَرَس ٍ أبطالْ

منْ حَرَس ِ القصر ِ الذي اسْتمرارُه ُ أعجوبَهْ

مرتدياً عباءَة َ المصير ِ والمسارْ

أو جُبَّة َ الإسلام ِ والعروبَهْ

أو أيَّ خرقة ٍ تخيطها الخيّاطة ُ الأريبَهْ

وتعجبونَ كيف أرضُنا كغيرها في الشرق ِ مستباحة ٌ سليبَهْ ؟

 

الويل ُ للشعوب ِ من عسكرها إنْ عقدَ الحلفَ مع الطغاةْ

الويل ُ ثم الويل ُ للشعوب ْ

منْ عسكر ِ النظام ِ والنظام ِ داخل َ النظام ِ عسكر ِالمقـرّبينَ والثقاتْ

وعسكر ِ الأحزاب ِ والطوائف ِ البئيسة ِ الشتاتْ

وعسكر ِ المخابراتْ

على جهاز ِ الأمن ِ والمخابراتْ

على المقرَّبينَ والثقات ْ

على الرؤوس ِ، بل على الأذناب ِ والذينَ بينهم من الفُتاتْ

على القريب ِ أوّلا ً لأنه ُ متّهم ٌ بالظنِّ أنه ُ مدافِع ٌ عن الحياةْ

أمّا الغريب ُ بيننا، فـللغريب ِ عسكر ٌ أحرارْ

مخابراتُه ُ له ُ، كما مخابراتُنا له ُ بحجّة ٍ يصوغها الشطّارْ

ونحن ُ موجة ُ الهوى تنساق ُ مع تدفّق ِ التيّارْ

ونحن ُ أغرب ُ الفحولْ

نحب ُّ ضجّة َ الطبولْ

نحب ُّ هزّة َ الجـِمال ِ والخيولْ

نكتسح ُ الجبال َ والسهولْ

نلوّث ُ الأنهارْ

نسمّم ُ الأسماك َ في البحارْ

والليل ُ للنهار ِ في غَضْـبَتِه ِ يقولْ

أنْ كل ُّ عسكر ٍ تتارْ

وكلُّ عسكر ٍ مغولْ

إلا ّ العُدولْ

والأمن ُ، أمن ُ الناس ِ، ليس َ حِفْـظُـه ُ بجزمة ِ التتار ِ والمغولْ

العقل ُ هكذا يقولْ

وحكمة ُ الزمان ِ هكذا تقولْ

كلُّ عسكر ٍ تتارْ

بالاحتمالْ

كلُّ عسكر ٍ مغولْ

بالاحتمالْ

فالغول ُ منّا، الغول ُ فينا، الغول ُ ليسَ الغيب َ والمجهولْ

نحن ُ التتار ُ والمغولْ

 

 

(من مسرحية رجل لكل الفصول)

  

هناك*

 

(ترجمها من الإنكليزية د. وجيه فانوس)

 

       كانتْ وُجْهَتُهُ نُقْطَةً

       غائِمَةً في المدى:

       نَصْلاً مَفْتوناً

       فاتِناً

بِهَوْلِ

       النُّورِ المُتناثِرِ

       وقدْ أرْهفَتْهُ

       إلى

       حَدِّ العَمى

       تِلْكَ الشُّموسُ السَّاطِعةُ

       المُتشَظِّيَةُ

       بِتصادُمِها

       تِلْقاءَهْ .

       لقدْ كانتْ نُقْطةً لمْ تَكُنْ إلاَّ «هناك».

 

       جَدَلَ الهدفَ

       صَباحٌ صافٍ وعَينٌ صافيةٌ

       فقَادا لهُ الشَّاحِنةَ،

       بَيْنا أصَابِعُهُ

       خَضْراءَ فوْقَ دولابِ المِقْوَدِ

       تَعْزفانِ أُغْنِيَتهُ السريَّةَ

       كَيْما تُرافِقَهُ في قيادَتِهِ

       وكانَ يَقودُ وَيَقودُ كما لَوْ كانَ يَنْدَفِعُ

       بِاتِّجَاهِ النُّقْطَةِ التي لمْ تكُنْ إلاَّ «هناك».

 

المَسَافَةُ

سَجَّادَةٌ مُهَرَّبَةٌ

لَفَّتْ نَفْسَها

حولَ دواليبَ طائِرَةٍ

تَدورُ

لِتنشُرَ

مَشَاهِدَ طَريفةً منَ الخُضْرَةِ

رُؤى اعْشوشَابٍ

كانتْ مِلءَ العَيْنِ الصَافِيَةِ لِقرونٍ وقُرون :

 

( العُنُقُ الغَضُّ

يَنْحَني في رِضىً مَهولٍ

في رُعْبٍ طَرِبٍ

على الشَّفْرَةِ

التي تَلْتمِعُ وَتَنفَجِر

ثُمَّ تَهْوي

وَرَقَةَ نَبَاتٍ حُبْلى

مَنقوعَةً في ندىً برَّاقٍ

مُرْتَجِفَةً بِالإخضِرارِ ­ ­

الأظَافِرُ التي تَسْعى إلى الدَّمِ

تَشُقُّ إلى قَلْبَيْنِ مَفتوحَيْنِ

ذَيْنِكَ الكَفَّيْنِ

اللّتيْنِ أزْهَرَتا على شجَرَةِ زَيْتونٍ

كَغُصْنَيْنِ مُقَدَّسَيْنِ مِنَ الأبَدِيَّةِ ­ ­

جَوادانِ توأمانِ مكظومانِ

مُدَرَّبانِ بأيدٍ مَكْظومَةٍ

يَنْدَفِعانِ عبْرَ لَهيبِ الرِّجالِ ذوي السُّيوفِ

صَوْتانِ تَوْأمانِ يَجْأرانِ

بِاسْمِهِ

صَدْعاً بِوَحْي إرادَتِهِ

سَيْفانِ تَوْأمانِ

جُرِّدا

يُجَرِّدان حَياةً مِنْ حَياةٍ

يوغِرانِ بالعَدَالَةِ قُلوبَ الرِّجالِ

الذين دواؤهُمُ الدُّنْيَوي

في عِزّهِم الدُّنْيَوي

ثُمَّ يَهْوِيانِ اثْنيْنِ على الرِّمَالِ المَجْلودَةِ

حيْثُ شجرَتا نَخْلٍ

تَسْتحيلانِ

زُمُرُّدا.)

 

وَمْضَةٌ واحِدَةٌ

وانْصَهَرَت قوافِلُ الأجْدادِ

جَارِفةً معها كُلّ الزمَنِ والمسافَةِ

إلى النُقطَةِ

حَيْثُ لَمْ يكُنْ لِلزمَنِ والمَسافةِ إلاَّ

أنْ يَكونا «هناك»

طَرْفَةُ عَيْنٍ

وَتَصادَمَتِ الشُّموسُ المُشِعَّةُ

وانْتثَرَت بِضَوْئِها السَّاطِعِ

شظايا حَمْراءَ خَضْراءَ

وَ

مَرَّةً ثانيةً

خَطّانِ مُتعادِيانِ

الأُفُقِيُّ وَالعَمُودِيُّ

يَتقَاطَعانِ في جُرأةٍ مَحْتومَةٍ

ليُشَكِّلا معاً النُّقْطَةَ التي لمْ تكُنْ أبَداً إلاَّ «هناك».

 

 

       (من مسرحية  ليلة نيو جيرسي)

 

_____________________

* كُتبت بمناسبة العملية الاستشهادية ضدّ المجمّع العسكري للبحرية الأميركية قرب مطار بيروت عام 1983.

 

 نزيه قبرصلي *   

 

(ترجمها من الإنكليزية د. وجيه فانوس)

 

على بُعْدِ ميلٍ مِنَ الشَّاطئ أوْ أقلَّ

كانتِ الجَزيرَةُ تسْتَــلْقي بِلا مُبَالاةٍ

فيما أمْواجُ الصَّبَاحِ

تُثَرْثِرُ وتَصْفُرُ

تَرْمي بِأذرُعِها في الهَواءِ

مُتشَبِّثةً بِالصُّخُورِ المُنْحَدِرَةِ

أكْثَرَ فأكْثَرَ

وقدْ أعجَزها البَقَاءُ عَلَيْها

أطْوَلَ مِمَّا تَسْتطيعُ.

مُرْتَدَّةً تَنحَسِرُ

بِصَمْتٍ لَعوبٍ

جَلَّ عنِ القنوطِ

مُحاوِلَةً إلى الصُّخورِ النُّهُوضَ

مِنْ جَديدٍ

في غَيْرِ ما مَلَلٍ

مِنْ جَديد.

 

ظَلَّ المَشْهَدُ يُرَدِّدُ

تَرْنيمَتهُ مِنَ الذَّاكِرَةِ

اسْتِرْجاعاً مَسْكوناً لِرِحْلَةٍ رُحِلَتْ

لِزِيارَةِ صَيْفٍ

كانَ قامَ بِها إلى الجَزيرَةِ في قارِبٍ ...

وما كانَ الآنَ لِيَعْنيهِ كثيراً

أنَّهُ لا يَقْدِرُ على رُؤْيَةِ تِلْكَ الصُّخورِ

على رُؤْيَةِ ذلِكَ الارْتِفاعِ المَجيدِ

لِلأمْواجِ الباهِرَةِ

لِذَلِكَ الصَّمتِ الإيقاعيِّ لانْحِدارِها

إذِ الآنَ

لا رُؤيَةَ إلاَّ رؤيَةُ القَلْبْ.

 

مِيلٌ واحِدٌ

أو أقلُّ بقليلٍ

مِن الزرْقَةِ المُتمَوّجَةِ

يَمْتدُّ الآنَ بَيْنَهُ

وبَيْنَ صُخورِ الجَزيرَةِ

هُوَ الذي انْحَنتْ عَيناهُ المُثبَتتانِ

على شَريطٍ مِنَ الرَّمْلِ المُنسَحِقِ

عِنْدَ شاطئ صَيْدا.

القَدَمُ ذاتُ السَّنواتِ الاثْنَتي عَشَرةَ

حَفَّتِ الرَّمْلَ

رَسَمَتِ الحَرفَين نونْ وقافْ

رَكَلَتْ بِقُوَّةٍ

فأفْسَحَ الرَّملُ المَبْلولُ طَريقاً

وَرُوَيداً رُوَيْداً

تَرَقْرَقَ عَن بُنْدُقِيَّةٍ

كانت أُغْمِدَتْ في قماش.

حَوْلَهُ نَظَرَ بِصَمْتٍ

لمْ يَكُ ثَمَّةَ حَرَكَةٌ

سِوى أجْنِحَةِ الحَمامِ

تُرَفْرِفُ

فوْقَ مِئذَنَةٍ هاجِعَة :

 

( حَدائِقُ المَلِكِ الصَّيْدونيّ تِنِسّ

عَذارى ناهِداتٌ

لأرضٍ خذَلَها الهُجْرانُ والتّخلِّي

وها قَدْ اسْتحالَ النَّسيمُ إلى ريحٍ عاتِيَةٍ

وها القَمَرُ السَّاطِعُ

غريباً مُجْتاحاً

غازِيَاً

يَهْتكُ العالَمَ

يَهْتكُ العرْيَ المُدِلَّ لِلأذرُعِ

لِلأكْتافِ

لِلأعْناقِ

وَلِلْنهودِ المُبَرعمةِ.

لَمْ تَعُدْ جُدْرانُ الحَدائِقِ تَحتجِز المَلِكَ

صارَ يَطيرُ عَبْرَ الياسَمينَ إلى البَوَّابَةِ

التي تَرْمي بِهِ خلْفَ نَفْسِها

في الْتِيَاعٍ مُخجِلٍ

وَسْطَ العُواءِ القارِسِ لِلْمُحاربين

المُتقدي الفُتوةِ، والغَضَبِ، والاعتِدادِ

إنَّهُم يَدورون ويَدورون يُزعْزِعون التُّربَةَ

يَقتلِعونَ جُذورَ شُجَيْراتِ الياسَمين

يَسْحَقونَ إلى حَدِّ الصَّمتِ

كُلَّ عيدانِ القَصَب الشَّادي

ويُؤدونَ هُناكَ رقصَهم الجَنائزِيّ

لِلْعَذارى المَخذولاتِ

قبلَ أن يَغزو الدَّمُ الفارسي

أطْهَرَ عروقِهِنَّ

ويَغْتصِبَ

قلبَ مدينتهنّ.

الأيْدي المَشْبوبَةُ

مَوْجاتٌ مُتمَرِّدَةٌ في الظُلمَةِ

تتكَسَّرُ فوْقَ التُّرابِ المُتشَقِّقِ

حَرِيقٌ كاسِحٌ

يَفْتُكُ

بِكُلٍّ منَ الحَياةِ والعارِ

عِنْدَما فَجْأةً

مِنْ خَلْفِ الأسْوارِ المُختنِقَةِ لِلْمَدينةِ

تَنهَضُ الصَّرخاتُ المَكْظومَةُ لِلْحَرْبِ

دفعَةً واحِدَةً

وَينهَضُ صَوْتُ المَلِكِ أرْتَحْشَشْتا

يُعْلِنُ انْهِزامَةَ مَجْدِهِ

نَصْرَهُ المَسْروقَ

وقَدْ اِبْتَلَعَتْهُ السُّحُبُ الدوَّارةُ إلى الأبَد.)

 

مرَّةً ثانِيَةً نَظَرَ حَوْلَهُ في صَمْتٍ

وما مِن حَرَكةٍ

سِوى التي مِنْ أجْنِحَةِ الحَمامِ

تُرَفرِفُ

فوْقَ المِئذَنَةِ.

عَنِ الشَّاطئ ابْتعَدَ خُطْوَتينِ ثابِتتيْنِ

المَسْجِدُ صارَ أطْوَلَ مِنْ ذي قَبْلُ

رَفرَفتِ الحَمائِمُ بَعيداً عنْ مَرْمى العَيْنِ

ذِراعاهُ انْشَدَّتا انْشِداداً

لا

لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ أن يُخبِرَ عمَّا حَصَلَ إثْرَ هذا

فَحينَ هَوى

كانتْ نَجْمَةُ داوُد

على الدَّبابَةِ

تَنزِفُ نَزفاً أبَدِيَّا.

 

على بُعْدِ ميلٍ منَ الشَّاطئ أو أقلَّ

كانَتِ الجَزيرَةُ تَسْتلْقي بِلا مُبالاةٍ

فيما أمواجُ الصَّباحِ

تُثَرْثِرُ وتَصفُرُ

تَرْمي بِأذرُعِها في الهَواءِ

مُتشَبِّثةً بِالصُّخورِ المُنحَدِرَةِ

أكْثَر فأكْثَرَ

وقدْ أعْجَزها البقاءُ عليْها

أطْوَل مِمَّا تَسْتطيعُ.

مُرْتَدَّةً تَنحَسِرُ

بِصَمْتٍ لَعوبٍ

جَلَّ عنِ القنوطِ

مُحاوِلَةً إلى الصُّخورِ النُّهوضَ

مِنْ جَديدٍ

في غَيْرِ ما مَلَلٍ

مِنْ جَديد.

 

       (من مسرحية  ليلة نيو جيرسي)

 

 

_________________

* كُتبت بمناسبة إستشهاد نزيه قبرصلي في هجوم على شاحنة إسرائيلية عام 1982.

 

رؤيا الإياب

 

(إلى خليل حصني في اليوم الأربعين لرحيله)

 

مثلما في محنةِ العذراءِ يُسْتَجْدى الندى من غيبِهِ

ثَمَّ فاحتْ من شقوقِ الأرضِ

تستجدي السحابَ الهَطَلا

لهفاتٌ

فاستجابَ الشوقُ بالشوقِ لِمَحْلٍ مَحَلا،

وارتدتْ أثقالَها الأيامُ من أَبْخِرَةِ الصبرِ

فمالَ القطرُ بالإيماءِ ثمّ انْهَمَلا.

أُنظروا، ذا عَبَقُ الأرضِ، عُقَيْبَ الهطْلَةِ الأولى

اجْتوى واشتعلا

موقداً من فوحةِ التُرْبِ يلبّي مِرْجَلا.

****

فَتَنَتْهُ الأرضُ في محنتها عاماً فعامْ

فَتَنَتْهُ الهَطْلةُ الأولى

وفوحُ التربةِ المسكونُ بالوحيِ المُلَقَّى من غمامْ

فخُطاهُ في الدروبِ النائياتْ

صوبَ غابٍ

عبرَ سهْلٍ

فوقَ عُشْبٍ ونباتْ

فشميمٌ وشهيقٌ

وزفيرٌ فشميمٌ

كلُّ همِّ الخطواتْ

سُكْرُهُ أنفاسُهُ

حتى إذا ما غابَ عنّا ثَمِلا

فُتِحَتْ عينانِ لي من غفلةِ الهَطْلِ

على همسٍ همى منذَهِلا

فتلفّتُ وأنصتُّ

ليومٍ ثمَّ يومٍ

ثم في السابعِ قالوا رَحَلا

قلتُ  لا ! لم تشهدوا الرؤيا، فخضتم جَدَلا

أنظروا مثلي، بعينيّ، إلى الجسرِ الذي تعبرُهُ عيناهُ

والخطْواتُ من نَعْليْهِ في وجهِ اليقينِ ...

قلتُ  لا لم يعبرِ الجسرَ رحيلاً !

حينما آبَ ظننتُمْ رَحَلا !

أنظروا مثلي، بعينيّ، تَرَوْهُ عَجِلا

ذلك المفتونُ بالأرضِ إليها قَفَلا.

 

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية