النص الكامل //echo $btitle;?>
مسرحية
أليسَّا
ملكة قرطاج
صلاح الدين الحريري
2018 دار العلم للملايين
كتب للمؤلف:
بالعربية:
رباعية روائية: - A
- وعد شباط
- على قارعة الغيب
- صلصلة الرعد
- الرحلة نحو الفجر
- مسرح: B
- ثورة من تحت
- كرة الثلج والنار
- رجل لكل الفصول
- حرائق صيدون
- أليسّا ملكة قرطاج
- هنيبعل : الوجه الآخر للخيانة
- شعر: C
- الله يطارد غودو
- رعشة الكلمات
بالإنكليزية:
1- The City That Lost Its Temper |
|
(poetry) |
2- A Transient Bargain |
|
(drama) |
3- A Nightmare |
|
(drama) |
4- Event Against Eventuality |
|
(poetic drama) |
5- The Night of New Jersy |
|
(drama) |
6- Strategies of Writing |
|
(creative writing) |
7- A Trembling of Syllables |
|
(poetry) |
الإهداء
....................
إلى نيرفانا ومعروف وهادي وجاد أنشودةً للحريةّ في زمن الإنهيارات الكبرى
شخصيات المسرحية
: ملكة قرطاج |
ألَيسّا |
: شقيق أليسّا، ملك صور |
بيجماليونْ |
: طيف أشَِرْبَاسْ، زوج أليسّا |
الطيف |
: شقيقة أليسّا |
آناّ |
: قائد جيش قرطاج |
أدَونْ |
كاهن المعبد الأكبر : كبير كهنة قرطاج
: ملك الداخل الإفريقي |
إيَِرْباَسْ |
: زعيم قبيلة إفريقية |
بِرْباَرْ |
: امرأة إفريقية |
أوُرورا |
: بطل طروادي |
آنْياَسْ |
: ابن آنْيَاسْ |
آسْكانيِسُْ |
: ضابط في جيش آنْيَاسْ |
إلِْيونيَِسْ |
: ضابط في جيش آنْيَاسْ |
سِرْجَسْتسُْ |
: رسول بيجماليون إلى أليسّا |
الرسول |
المشهد الأول
)يرتفع الستارُ عن قاعة فسيحة في قلعةٍ تقوم على هضبةٍ تطلّ نوافذهُا على شاطيء البحر. ليس في القاعة أحد. تمثالﹲ نصفيٌّ لرجلٍ تنمّ تقاطيعُ وجهه عن فتوّ ةة ٍ وشباب يحتلُّ الزاويةَ اليمنى من القاعة. في الزاوية اليسرى ينتصب تمثالﹲ خشبيّ ﹲ للإلهةِ عشتروت ،موسومٌ برسمٍ للشجرة المقدسة، رمزِ الخصوبةِ والنماء، وتمثالٌ آخرُ مثله للإله ب عَْل ،ممتطياً ثوراً وحاملاً بيدٍ عنقودَ عنبٍ وبالأخرى كوزَ رمّان. الحائطُ الممتدُّ بين الزاويتيْن مزي نٌّ بِقَرْنيَْ غزال ٍوبسيفٍ ورمح وخنجرٍ وترُْسٍ معدني منقوش بالزخارف والرموز. تحت هذه الأسلحةِ تقوم منضدةٌ خٍشبيةٌ مزركشةُ القوائمِ الأربعِ، عليها إناءٌ للنبيذ وإناءٌ أصغر منه للعسل، وبينهما كأسٌ بلونِ الذهب.
من ممرٍّ في الجهة اليسرى تطلّ الملكةُ ألَيسّا، مسربلةً بالسواد، وتتجه بأناة صوب التمثال النصفيّ. خطواتهُا الثابتةُ الموزونةُ تنبيء بإمتلاكها لنفسها؛ وَ لِقَ امَتِها المنتصبةِ بجلالٍ سطوةٌ على العين والقلب لا يمارسها إلاّ الجمالُ المهيب. لا تلتفت يمنة أو يسرة وكأنْ لا شيء ممّ ا في القاعة يستأهل أن تمرّ بنظرها عليه... سوى الوجه الذي تنمّ تقاطيعهُُ عن فتوّة ٍ وشباب. وإذ تبلغ بها قدماها ما تتسمّرُ عليه عيناها حتى تتوقف عن المسير. هنيهةٌ ساكنة تمرّ، وهي تتأمل الوجهَ الصموتَ، ثم لا تلبث أن تخاطبه وكأنما هي في حالة ابتهال وصلاة(.
أليسّ ا: ما أسَْعَدنَي أن أحُْيي كلّ سنةٍ ذكراكَ، وما أتَعَْسَني أنَْ أتذكّرَ الهيئةَ التي انتهتْ عليها حياتكَُ، وقد أغمضتْ عينيْكَ عنيّ اليدُ الآثمةُ لبيجماليونْ ، يد ُ الأ خ التي ألهمها فجورَ الخيانةِ طموحُهُ المجنون. من عشر سنوات خَلَتْ، وفي مثلِِ هذا اليوم، كان الذي كان وجرى الذي جرى. أمّا الآن فهاهنا تمثالكَُ لي مَ زَار. فمنذ نَفَتنْي حكمةُ الضرورةِ عن مملكة صور، مدينةِ أبي وأمي، ومربع طفولتي وصباي الأوّل، مُذ ذاك مُذ ذاك وأنا ألجأ إليكَ لتضبَّ عنيّ الوحش ةَ وت غَُرِِّبَ عنّي التيهَ، ذيَْنِكَ الوحشيْنِ اللذّيْنِ لا ينفكّانِ ينسربانِ إليَّ في لحظةِ غفلةٍ أو لحظةِ ضيق.
) وكأنما المُخَاطَبُ الغائبُ في التمثال النصفيّ يستجيب لضراعة الصوت الأنثوي فينسلّ من خلف التمثال لطيفاً رقيقاً على هيئةِ طيف ٍ مسربل ٍ بالبياض . يدور الطيفُ الهوينى الهوينى حول أليسّا المسربلةِ بالسواد، وتستديرُ هي في إثره مُزَ جَّاةً بالحنين(.
الطيف:لا يزال يسكنك ِ الهمُّ والقلقُ، يا أليسّا؟! خبرّيني إذاً ما الذي يشغل با لَك ِ الآن؟ أليسّا: كيف تحصي الهمومَ امرأةٌ منذورةٌ للهموم؟
الطيف: إن كنت ِ حقاً أتعبتكْ ِ الهمومُ فلماذا مُصِرَّةٌ أنت ِ على هَ مِّ بناءِ الحائطِ العريضِ على امتدادِ المدينةِ المطلةِّ على الشاطئ القريب؟
مصرّةٌ على بنائه أجلْ، لأنَّ في ذلك الحمايةَ لقرطاجَ من سفن العابرينوالمتطفلّين... وربما...
الطيف: وربما ماذا؟ عيناك تِلهجان بسر ٍّتتكتمُّ عليه شفتاك ِ .بحقّ عشتروتَ وبَعْلَ وأدونيسْ أفصحي عن هواجسك ِ الآن فلستُ عنك ِأنا بالغريب.
أليسّا: معاذَ الوفاءِ أن يكون زوجي عنيّ غريباً. ولكنّكَ المُغَرَّبُ عنيّ قسراً أيها القريبُ البعيد.
الطيف: هياّ إذاً هياّ أسَِرّي إليَّ بذلك السرِّ الذي تكتمين.
أليسّا: ما هو بالسرِّ لأخفيه عنكَ .
الطيف: إذاً بينّيه ِلي. ترَددُّكُ يِضاعفُ من حيرتي ويغرّبني عنك ِ من جديد.
أليسّا: لا! لا! لن تتغرّبَ عنيّ من جديد. ولكنمّا هو الحلمُ الذي يراودني والذي أجاهد نفسي لأوفرَّ عليكَ هَمَّهُ وأذاه.
الطيف: لا توفرّي عليّ الهمَّ والأذى، فنحن لا نزال شريكيْن ِفي حُلْو ِ الحياة وِمُرِّ ها ...
حتى ولو ما بعد الموت.
أليسّا: أشِرْبَاسْ الزوجُ أنتَ! وأشَِرْبَاسْ الحبيب! إنكَ لأنتَ أنتَ. ولأنكَ زوجي وحبيبي سأصارحكَ بحقيقة الحلم الذي يراودني كلما أطللتُ من نوافذ القلعة على الشاطيء الممتد على طول مدينتنا قرطاج. سفنُ أخي بيجماليون... كأنني أراها تمخرُ البحرَ إلينا، قاهرةً أعتى الأمواج، صاعدةً هابطةً وكأنها صخورُ الجبال ِالتي تتحدىّ العناصرَ وتستهزيء بتوالي الليل والنهار.
الطيف: ولماذا تخافين من سفن ِأخيك ِ ، وقد نَصَّبَ نَفْسَهُ الحاكمَ المطلقَ على مدينة صور وحصل بذلك على كل ما كان يريد.
أليسّا: أبداً أبداً لم يحصل على كل ما يريد.
الطيف: إذاً عجباً! عجباً! لقد سعى إلى اغتيالي ليمحو من خياله احتمالَ منافستي له على المُلْك ِ .ولقد نجح في مسعاه، فماذا بَعْدُ يريد؟
أليسّا: أليسّا هي احتمالُ الخطر ِ الآخر ِ ،لأنّ أليسّا لا تزال على قيد الحياة. وذلك في ظنّي ما يقضُّ مضجعَهُ ليل نهار.
الطيف: ولكنك ِتبنين لنفسك مِدينةً أخرى بعيدةً عن صور. قرطاجُ هي طموحُ ك ِالآن وغداً. ألا يحرّرُ ذلك صورَ وحاكمَها من فتنة ِالاحتمالات؟
أليسّا: في ظنيّ أنّ العكسَ هو الصحيح. فقيامُ مملكة ٍفينيقية ٍ مستقلة ٍفي شمال إفريقيا ،تتوسّطُ طريقَ التجارة المائيّ بين أوروبا وفينيقيا قد يهددُّ مصالحَ صور وصيدا وجبيل.
الطيف: والعكسُ أيضاً قد يكون هو الصحيح. فقيامُ تحالف تٍجاريّ وعسكريّ بين قرطاجَ وممالك فينيقيا لعله أن يوطّدَ العلاقات ِ بين المتنافسين ويوفرَّ للجميع الأم نَ والرخاء .
أليسّا: ليس من رأيكَ رأيي. فالذي يسفكُ دمََ القريب ِ مَرَّةً يجب ألّا يأتم َنَه على دمه أيُّ قريب.
الطيف: ربما الحقيقةُ في ما تقولين. ولكنْ ألا ترََيْنَ معي أنّ في رأيك ِشيئاً من القسوة؟ إنها قسوةُ الضرورة. ثم لا تنَْسَ أنّ رسولاً من بيجماليونْ يصل إلى قرطاجَ اليومحاملاً إليّ رسالةً لا أحسبُ أنها رسالةُ مودةّ ٍوحنين.
الطيف: هو يراسلك ِإذا؟ً!
أليسّا: ويلحّ في مراسلته أيضاً.
الطيف: ومنذ متى بدأ هذا الأمر؟
أليسّا: منذ أن شرع البناةُ بتشييد الحائط العريض لحماية بيوتنا وأسواقنا ومعابدنا وأحواض سفننا.
الطيف: مصادفةٌ هي لعلهّا... أم أنّ في الأمر شيئاً غيرَ المصادفة؟
أليسّا: أرأيتَ كيف أنّ الهمَّ عرف سبيلَهُ إليكَ؟ ذلك ما كنتُ أجاهدُ نفسي لأوفرَّه ُ عليكَ.
الطيف: لا أنكر عليك ِاحتسابَ الاحتمالات، يا أليسّا، رغم أنها قد تخطيء وقد تصيب .ولكني أسُدي إليك ِالنصحَ ألّا تستسلمي إلّا لحلمك ِفي إتمام ما بدأتأت ِ بناءَه ُ هنا في قرطاج.
أليسّا: هو البدُُّ الذي لا بدَّ منه، وفاءً منيّ لذكرى أمُِّنا صور ووفاءً لكل النساء والرجال الذين آثروا الغربةَ معي على الإستسلام لواقع الخيانة ولشريعة الخوف.
الطيف: إرادتكُ ِهي الإحتمالُ الذي يوهِنُ سائرَ الإحتمالات ِ ، فاهدأي الآن بالاً واذهبي خالِطي رعيتّكَ ِ ،واتركي لسواك ِالهموم.
أليسّا: آه منها الهمومُ التي لا تنتهي!
الطيف: والتي آخرُها؟
أليسّا: خوفي ألّا أعيشَ حتى يتمَّ لقرطاجَ بناؤها الذي صُغْتهُُ لها في حلمي القديم.
الطيف: لا بأس عليك ِاليوم من هذا وذاك، فالحلمُ يَلِدُ الخوفَ والخوفُ يَلِد ُ الحلمَ ، تماماً كما يلد الليلُ النهارَ ويلد النهارُ الليلَ.
)ينسرب الطيف انسراباً وئيداً إلى جانب التمثال النصفيّ، وكأنما يهمّ بالتواري خلفه.
تتوسّل إليه أليسّا في مزيج من الجزع والرجاء والحنين.( أليسّا: أحلفّكَ بكل الذي كان بيننا ألّا تغادرَني الآن.
)وقع أقدام تخطو عبر الممرّ الذي إلى الزاوية اليمنى من القاعة. أليسّا الغارقة في المناجاة لا تسمع وقع الخطى وتستمر في توسّلها إلى الطيف(
أليسّا: لا! لا تغادرْني الآن! أليس يكفيني أنّ العمرَ لم يسعفْني لألَِ دَ منكَ طفلا ً يكون ليَ الذكرى، تؤنسني في وحشتي بعدكَ؟ ولكنْ هيهاتَ هيهاتَ، فلعلهّا قَضَ تْ للنساءِ الحياةُ أنْ تكون لهنّ أقدارٌ شتى، فنساءٌ يَلِدْنَ الأميرات ِ، ونساءٌ يلدْنَ الملوكَ، ونساءٌ يحتضنهُُنَّ المنفى لِيَلِدْنَ المدنَ التي قد تربك التاريخ. قرطاجُ، أيها الحبيبُ المغرَّبُ عني، هي الإبنُ الذي أنجبتهُُ لكَ من ذكراك. وللعهد ِالذي كنتُ قطع تهُُ لكَ ليلة زفافنا... أنْ أظلّ لكَ العمرَ كله... أجل أجل لذلك العهدالعهد ِ وفيةًّ لا تزال أليسّا.
)يتوارى الطيف في اللحظة التي تدخل فيها "آناّ"، وئيدةَ الخطى، وعلى وجهها وفي عينيها ما يشي بأنها كانت تتنصّت على أليسّا.(
آناّ: ملكةُ قرطاجَ أنت ِ ، يا أليسّا، وتغُرقين نفسَك ِفي أحلام وٍأوهام ٍ لا طائل تحتها؟ أختاه! أختاه! ما الذي بنفسك ِتِفعلين؟
أفعل ما أشاؤه أنا! أمّا أنت ِ ، يا آناّ، فمن سمح لك ِأن تتجسّسي على سرائرروحي؟ من سمح لك ِأن تتطفلّي على حرّية ِعقلي وخيالي؟ ألم أنَْهَك ِ عن ذلك مرات ومرات؟
آناّ: خوفي عليك ِأن تنسلخي عن أرض ِالواقع ِ، واقع ِاللحظة ِالراهنة ِ، واقع ِأننا نعيش في شمال إفريقيا وليس في مدينة صور .
أليسّا: ليس بالواقع ِوحده يحيا الإنسانُ، ولكنْ بالحلم ِأيضاً، فهو الوجهُ الآخرُ للحقيقة. ألم تكنْ قرطَاجُ حلماً في خيالاتنا حينما كناّ لا نزال في السفن التي أقََ لتَّنْا من شواطيء صور إلى هذه الأرض؟ ثم ألم يتحوّل ِالحلمُ إلى حقيقة؟ أجيبي! ما الذي يسكتك ِالآن؟
آناّ: قرطاجُ شيءٌ... وما كنت ِفيه من لحظات شيءٌ آخر.
أليسّا: أنتِ لم تتغيرّي أبداً. أنت ِلا يزال يخيفك ِ...
آناّ: قرطاجُ الحلمُ لم يكن ليخيفني لأنه كان يمثلّ المستقبلَ لنا. ما يخيفني الآن هو ارتدادُ روحِك ِإلى الماضي الذي لن يتحوّل إلى حقيقة أبداً.
أليسّا: ولكنّ الماضي هو جزء من الحقيقة ِأيضاً، لأنّ الماضي لا يموت فينا أبداً. والتنكّرُ له نفاقٌ على الذات وِخيانةٌ كيانيةٌّ ليس فقط لتاريخنا ولكن لجذورنا الروحية أيضاً.
آناّ: كلُّ هذا صحيح، ولكنْ كيف تحلّ هذه الأفكارُ أزمةَ المرأة ِفي الملكة أليسّا؟ أليسّا: أيةَّ أزمة ٍتعنين؟
آناّ: مستقبلَ المرأة بِلا رجل ٍ ومستقبلَ الملكة بِلا وريث.
أليسّا: لم ننته ِبعدُ من بناء الحائط العريض، ولم يكتملْ بعدُ قيامُ المرافق الأخرى. لكلّ شيء أوان. وعلى المرأة ِ أن تنتظرَ حتى تنتهي الملكةُ من أداء واجباتها.
آناّ: زمنُ المرأة لِا ينتظرُ زمنَ الملكة. وخوفي على المرأة ِأن تظلَّ تتشب ثُّ بحجّة ِالوفاء ِلزوج ٍفَنيَِتْ عظامُهُ في التراب ولم يبقَ لها منه إلّا طيفٌ تستحضره ليملأ عليها فراغَ الجسد والروح...
أليسّا: راقبي كلماتِك يِا آناّ!
آناّ: منذ وصولنا إلى هذه الأرض وأنت ِ تلحّين عليَّ أن أفتح لك ِ قلبي وأصارحَك ِبكلّ الهواجس ِالتي توسوسُ لي بها نفسي. كلماتي هي فِعْلُ الوفاء ِلك ِمنيّ، يا أختاه.
أليسّا: أعرف ذلك منك ِ وأقدرّه لك ِ .ولكنْ أما آن الأوانُ لكي تتقبلّي أليسّ ا على ما أليسّا عليه؟
آناّ: خوفي على الملكة أن تضحّي بالمرأة فيك ِ ، وخوفي على المرأة أن تضحّ ي باستمرارية ِالمُلْك ِ ،فحيث لا رجلَ فلا طفلٌ، وحيث لا طفلَ فلا وريث.
أنتأنت ِ تغامرين بكل شيء.
أليسّا: المغامرةُ سرُّ وجودنا وبقائنا، يا آناّ. رحيلنُا من صور سرّاً كان مغامرة. رُسُوُّ سفننا على هذا الشاطيء الإفريقي كان مغامرة. تحويلُ جِلْد ِالثور إلى خيوط ٍنحيلة ٍ ورَبْطُ بعضها بالبعض الآخر لتوسيع المساحة ِالممنوحة ِلنا من مَلِك ِهذه الأرض... كان كذلك مغامرة. وبناءُ مدينة ِقرطاجَ التي لم تبلغْ بَعْدُ درجةَ
الكمال هو مغامرة. ألا ترََيْنَ معي أنّ حياتنَا كلهَّا سلسلةٌ من المخاطرات؟ ولو أذَِنْتُ لخيالي بالجموح ِ لَأضََفْتُ أنَّ خَلْقَ الآلهة ِ لهذا العالم كِان لا ريب مغامرةَ المغامرات!
آناّ: أتركي الآلهة في سمواتها واطمئنيّ إلى قوانين الأرض.
) وَقْعُ أقدام تقترب، آتياً من ممرّ في الجهة اليمنى من القاعة. تصمت أليسّ ا وآناّ، وتنَْشَد ُّ عيونهُما إلى تلك الجهة حيث يدخل عليهما حارسٌ من حرّاس القلعة. وقبل أن يفتح فمه للكلام تبادره أليسّا بلهجة تخلو فجأة من الحميمية التي اتسّم بها حوارُها مع آ ناّ، وقبل ذلك حوارُها مع طيف أشَِرْبَاسْ.( أليسّا: ما وراءَكَ أيها الحارس؟
الحارس: مولاتي! لقد أرسلني الكاهنُ الأكبر يستأذنُ في الدخول عليك ِ ، بصحبة قائدقائد ِ الجند ِ وكوكبة ٍ من عِلْيَة ِالقوم. يقول إنّ الأمرَ في غاية ِالأهمية.
أليسّا: حسناً حسناً. بَلِغّ ِالكَاهنَ الأكبرَ أنني أتهيأُّ للخروج إليهم عمّا قريب. وليبلغّْ قائدَ الجند وهيئةَ التجّار أن يتهيأّوا كذلك لمرافقتي في جولة ميدانية في أسواق المدينة للإطّلاع على سير العمران فيها.
الحارس: الأمرُ كلهّ لمولاتي.
أليسّا: هياّ عجّلْ إليه برغبتي أن ينتظرني جميعهُم عند بوابة القلعة.
الحارس: السمعُ والطاعةُ لمولاتي.
)توميء أليسّا إليه بيدها أن ينصرف فينحني لها ثم يستدير ويعود من حيث أتى.
ترتسم على وجه آناّ ابتسامة فيها شيء من الخبث الأنثوي اللطيف.( آناّ: ولماذا لم تأذني لهم بالدخول؟
أليسّا: مزاجي اليوم لا يحتمل اللقاءات اِلرسميةَ ولا يطيق المجاملات ِ. ذكرى اختفاء ِ أشَِرْبَاسْ من حياتي تحفزّني للخروج من حجرات القلعة وللإختلاط بأبناء الرعية.
ولا شك عندي أنه كان سيرغب لي هو في ذاك لو أنه كان معي لا يزال.
آناّ: أنت ِفعلاً بحاجة إلى الخروج من هذه الصومعة ِالتي تحتجز جسدكَ ِكما تحتجز خيالَك ِ .الأرضُ تناديك ِ فلبيّ نداءَ الحياة.
أليسّا: باطنُ كلماتِك ِ يعيد حوارَنا إلى نقطة الصفر. حياةُ الملكة ِالآن مكرَّ سةٌ لحياة الرعية. والرعيةُ، مثلي، هَمُّها في إتمام بناء مَرافق المدينة ليعمَّ الخيرُ والأمنُ وتصبحَ قرطاجُ الوطنَ الحقيقيَّ للجميع.
آناّ: الوفاءُ لك ِمنيّ لا يترك لي إلّا خيارَ المصارحة.
أليسّا: وبماذا لم تصارحيني بعد؟
آناّ: أليسّا! أليسّا! عَصِيَّةٌ على فهَْمي تناقضاتكُ ِ ،يا أختاه! تؤمنين بأنَّ الوجودَ كلهَّ قائمٌ على المغامرة، وتهَابين الولوجَ في مغامرة مع أيٍّ من المعجبين بك ِ والمحوِّمين حولكِ من ملوك ِالجوار ِالإفريقي ومن زعماء القبائل، وحتى من قوّاد ِعسكرِك ِ، بل حتى من كهّان ِمعابدِك ِ !
أليسّا: أطََلْت ِاللائحةَ هذه المرّة! وكأنْ لم يَعدُْ في الأرض منْ نساء ٍإلّا أليسّ ا.
آناّ: وَلكنك ِ أنت ِ غيرُ النساء. فلجمالِك ِ سحرٌ يربك حتى الهواءَ الذي تتنفسّين. فكيف لهؤلاء ِ الرجال ِ ألّا تتزلزلَ كياناتهُم كلمّا أخذ عليهم أنفاسَهم هذا السحرُ المبين؟ وكيف لهم ألّا تنهارَ على وقع ِ خطواتِك ِدقاّتُ قلوبهم؟ بل إني لأحسبهم ينتظرو َنَكك ِ الآن عند بوابة القلعة مختنقين بلهفة ِانتظارِهم لوصولك.
أليسّا: أنت ِ تغُالين وتبالغين. ولو لم تكوني أختي، لحسبتكُ ِالشيطانَ بعينه!
آناّ: أتركي الشياطينَ لآلهة ِالسموات! فما أنا إلّا من جِبِلةَّ ِهذه الأرض، وما كلماتي إلّا نبََضاتُ الأرض ِالتي لها تتنكّرين.
أليسّا: في فمك كِلامٌ كثير. هياّ أفرغيه قبل أن يبلغ حدَّ الطوفان!
آناّ: لو كنت ِ لا تزالين عذراءَ لقلنا "حسناً لها مخاوفهُا"، ولكنَّ المرأة التي ذاقتْ طَعْمَ الرجل ِ مرّةً لا ينفكُّ يهزّها إلى الرجال الحنين!
أليسّا: الآن بلغت ِ حدَّ الطوفان! هياّ بنا الآن، ولْترافقيني في جولتي اليوم، فقائدُ الجند ِ...
الذي قلت ِلي مرّةً إنه يلاطفني... مولعٌ بك ِعلى حدٍّ سواء! وأنت ِ ، إِنْ لم تخنيّ عيناي، حريصةٌ على لَ فْت ِ عينيه إلى الشيء ِالذي فيك ِيهواه الرجال!
آناّ: لغةُ الأرض ِللأرض! الآن تأكّدتُ أنّ الدمَ الذي يجري في عروقنا من رجل واحد!
أليسّا: تعلمين أنْ لا مجال للمساومة ِ معي حول الأفكار التي أراها يقينا ً... مهما يكن سحرُ اللغة ِالتي تجيدين. هياّ بنا هي اّ قبل أن تضيعّنا في التواءاتها الكلماتُ .
)تنطلقان إلى الجهة اليسرى بخطى ثابتة وتتلاشيان في الممرّ القائم هناك.(
المشهد الثاني
) يرتفع الستار عن فسحة من شاطيء البحر تبعد قليلاً عن الشاطيء الذي تطلّ عليه قلعةُ قرطاج. خيمةٌ مهيبة تحتلّ وسطَ الفسحة، ويبدو الجنود والضباط الأفارقة وكأنهم انتهوا للتوّ من رفع قبّة الخيمة في الفضاء وتثبيت أوتادها في الرمال. قريب اً من الخيمة ينهمك جنديان بشواء غزال. بعد أن يدور الضباّط والجند حول الخيمة متفقّدين ثبات جوانبها، يتجهون يساراً إلى حيث يقف بانتظارهم قائدهُم إ يَِرْباسْ، فار عَ القامة، ممتليءَ الجسم في غير سمنة، متصلبَّ أمارات الوجه التي إن نَمَّتْ عن شيء فإنما تنمّ عن إرادة حازمة هي الجوهرُ الأوّل في تكوينه.(
الضابط الأول:القبةّ ُ جاهزةٌ لاستراحة مولاي.
إيرباسْ: إيَِرْبَا سْ لا يستريح إلّا واقفاً! وَلكنْ حسناً فعلتم، فانتظارُنا المتمردين قد يطول شيئاً قليلاً.
الضابط الثاني: الشمسُ تملأ الدنيا، يا مولاي.
إيرباسْ: كعادتها تباركنا الشمسُ الاله.
الضابط الثاني: ولكنْ يا مولاي عيوننُا المبثوثةُ في الغابات القريبة لم يرجعْ إلينا منها أحَد. لا خبرَ منهم ولا حِسّ منذ ليلة أمس.
إيرباسْ: ما يعني أنّ المتمردين لم يقتربوا بعد من أرض قرطاج.
الضابط الثاني: أو لعلهم اتخذوا سبيلاً آخر لم نتوقعّه نحن.
إيرباسْ: عيوننُا لها من الدِرّْبةِ ما يسلطّها في آن ٍ معاً على مجرى الرياح الأربع. لا تخيفنّكَ المفاجآتُ، فَإيِرَْبَاسْ لم يكن ليهيمن على الداخل الإفريقي لو كانت تفوتهُ حِسْبَةُ التوقعات.
الضابط الثاني: ليس من أدنى شكٍ عندي في قدرات مولاي، فَتحَْتَ لوائكَ النصرُ معقو دٌ لنا منذ رَكِبَ القبائلَ المتمردةَ وَهْمُ الاستقلال عن مملكتك.
إيرباسْ: هو ذا قولكَُ الحقُّ. وما تخييمُنا على هذا الشاطيء إلّا الفخُّ الذي لن يتوقعَّه، ولا بدّ أن يسقطَ فيه، كلُّ من يتمرّد عليَّ أو تسوّلُ له أحلامُ هُ أن يتحرّشَ بمملكة قرطاج .
) تسُمع جلبةٌ وغمغماتٌ غيرُ مفهومةٍ منسربةً من الجهة اليمنى من فسحة الشاطيء .يلتفت إيَِرْبَاسْ وضباّطُه جهةَ الصوت مستنفرين مستطلعين. ينجلي لهم المشه دُ عن جندييْن يمسك كلٌّ منهما بإحدى يَديَ ِ امرأة ثٍائرة ٍ تقاومهما بكل ما أوتيتْ من قوة، محاولةً الإفلات من قبضتيهما ولكن دون جدوى. المرأة مبللّةُ الشعر والثوب. وإذ ِ الجندياّن يِدفعان بها صوب قائدهم، يتقدم نحوهم إيِرَْبَاسْ بخطى هادئة، يحفّ بجانب يْه ضابطاه وكأنما لحمايته من شرٍّ محتمل كٍامن ٍفي هيجان المرأة. يتوقف إ يَِرْبَ اسْ عن المسير، وعيناه حائرتان في تفسير المشهد الماثل أمامه. يوميء بيده إلى الثلاثة بالتوقف فيتوقفوا. تتفحّصه نظراتُ المرأة الكاسرةُ من رأسه إلى قدميه ومن قدميه إلى رأسه ثم تضرب قدماها الرملَ وتخاطبه بحدةّ.(
المرأة: إن كنتَ قائدهَم، فَأمُْرْهُمْ أن يبُْعِدوا أيديَهم القذرةَ عن يديّ . أم أنكَ مثلهم تستمتع بالاستقواء على ضعف المرأة؟
إيرباسْ: لا أرى فيك مِن الضعف مِا يشفعُ لك بِالحرية.
المرأة: ضعفُ جسدي ليس صِنْواً لإرادة روحي. قد تقهرُ الأوّلَ بتفوّق ِ جسدِكَ ، أمّا روحي فحريتّهُا لا تستجدي لنفسها شفاعةً من أحد.
إيرباسْ :في كلماتكِ تطاولٌ على الواقع، فلو كنت ِ حرةً فعْلاً لما كنت رِضيت بِالتجسّ س على جيشي لحساب القبائل المتمردة.
المرأة: نعم؟! نعم؟! وما هي القرينةُ التي تدفعكَ إلى هذا الاستنتاج؟ أنا أتجسّس!!
بالتأكيد أنتَ فريسةُ الشك والخوف.
إيرباسْ: أمّا الشكُّ فإنه من حكمة ِ القيادة، وأمّا الخوفُ فليس من صفات ِإيَِ رْبَاسْ .
المرأة: أنتَ هو إذا؟ً! أنتَ بنفسكَ ملكُ الداخل ِ الافريقي؟! عجباً عجب اً لقدري وقدركَ أن نلتقي في هذا المكان!
إيرباسْ: قبل أن تغرقي في متاهة الأقدار خبرّيني من أين أتيت ِ؟ وما الذي كنت تِفعلينه حينما احتجزك ِالجندُ جوارَ مخيمّنا؟
المرأة: أورورا أنا. وضَيْعتي على حافة الغابة الشرقية.
إيرباسْ: وما الذي أتى بك ِإلى مخيّمنا؟
المرأة: أنا لم آت ِ إلى مخيمّكم. ولم أكنْ أعلمُ أنه موجودٌ هنا أصلاً.
إيرباسْ: إذاً كيف وجدك ِالجنديان؟ ولماذا احتجزاك ِلو لم تكوني تفعلين شيئاً مثيراً للشبهات؟
المرأة: ما كنتُ أفعله ليس من شأنكَ ولا من شأنهما!
إيرباسْ: عنادكُ ِسيرمي بك ِإلى المهالك. إِيرَْباسْ لا يمُْهِلُ إلّا قليلا. أجيبي، أو اختاري السجنَ والجوعَ حتى الموت. ذلك في شرعتي جزاءُ مَ نْ يتجسس عليَّ لمصلحة أعدائي، وخاصة زعيم القبيلة المتمردة، بِرْبَارْ اللعين.
المرأة: أكرّر لكَ أنّ ما كنتُ أفعله على الشاطيء هناك هو شيءٌ يخصّني وحدي .
إيرباسْ: تصرّين على المراوغة بعناد؟ لكأني بك تِتشهّين الموت.
الجندي الأول: لو يأذنُ لي مولاي بالكلام لبينّتُ له بعضَ ظنوني في أمرها .
إيرباسْ: إن تكن ِالظنونُ وحدها كلَّ ما لديكَ فإنها لن تنفعَنا في جلاء الحقيقة .
الجندي الثاني: وأنا كذلك، يا مولاي، أشاركه ظنونَه. فالمرأةُ، كما حسبنا حينما رأيناها ، كانت تحاول إغراقَ نفسها في البحر.
إيرباسْ: ولكنها لم تغرقْ! فهاهي أمامنا حيّةٌ ترُْزَقُ... وتجادلُ وتتطاولُ.
الجندي الأول: نحن أنقذناها من الغرق، يا مولاي. كانت تغَُطِّسُ نفسَها في المياه وتغيب عن أنظارنا دقائقَ طويلةً ثم يخرجُ رأسُها للحظةٍ يعود بعدها إلى الغياب تحت سطح ِالماء... وكأنما كانت تحاول الغرقَ مرة بعد مرة وتفشل بعد كل محاولة. ولكنّ التعبَ والإجهادَ كانا سينتهيان بها إلى الإستسلام والغرق الأكيد.
إيرباسْ: إذاً هي افتراضاتٌ خَطَرَتْ لكما، لا أكثر ولا أقل .
الجندي الأول: بل هي الفرضيةُّ الأقربُ إلى الحقيقة، ففي صبايَ الأوّل ِ خَبِرْ تُ مثل هذه التجربة حينما أقدم شابٌ من جيرتنا على إغراق نفسه ولم يستطع أحد ٌ إنقاذهَ.
إيرباسْ: قد يكونُ الذي افترضتماهُ الحقيقةَ عينهَا، ولكنّ اتهامي لهذه المرأة بالتجسس علينا يظلّ قائماً ما لم تبيّنْ لنا السرَّ الكامنَ وراء نزولها إلى البحر.
المرأة: ما دمتَ لم تمارس ِالعنفَ معي حتى الآن، وما دامت لكَ شهامةُ الصبر ،فدونكَ حقيقةَ أمري، وإن كنتُ أشكّ في قدرة ِالرجال ِعلى فهم ما يدور في رأس المرأة!
إيرباسْ: كفاك تِسويفاً ومراوغةً! هياّ بوحي بسرّك ِإن يكن هنالك فعلاً لك ِمن سرّ.
المرأة: حكايتي طويلةٌ طويلة، ولكنني لن أضجركم بتفاصيلها. كلُّ ما في الأمر أننّي وقعتُ في غرام رجل كان في جيرتنا. وكان يبادلني الودَّ الذي استحالَ إلى ولع ٍ مع الأيام. تلاق يْنا في السرّ، رغم استنكار أهلي وأهله. وانتهى بنا الأمرُ إلى أن أفَْضَيْتُ إليه وأفضى إليَّ ولم يَعدُْ من شيء ٍللستر ِبين جسديْنا إلّا ارتعاشاتُ الهواء. عِشْنا لسنة ٍ كاملة كزوج وزوجة، في السرّ طبعاً، آمليْن أن يتغيرّ أهلي وأهلهُ ويباركا الوضعَ الذي صِ رْنا إليه. ولكنْ ذات يوم اكتشفتُ أنه كان يحضّر
قارباً. وظننتُ وقتها أنه كان يخطّط لهروبنا معاً إلى أرض نائية فنعيش هناك في حرية وسلام ووئام. ولكنْ حلتّ ِالفاجعةُ حينما فتحتُ عينيّ ذات صباح على خبر رحيله ليلاً بقاربه إلى حيث لا تعلم إلّا الآلهة. مضى على رحيله شهران كاملان. ولقد دأبتُ على النزول إلى هذا الشاطيء، أستطلع الأفقَ فلعلّ وعسى.
والأمواجُ لا تزال تكرّرُ لي وَعْدهَا بعودته إليَّ كل مساء، ولا تزال كعادتها تخُْلِفُ بوعدها لي كل صباح. اليومَ بلغ اليأسُ مني كل مَبْلَغ ٍفأوعزتْ لي روحي أن أنهيَ انتظاري له بإنهاء حياتي في المياه التي فرّقتْ بيننا وحملتهْ إلى أرض ٍ لن أعرف لها موطئاً أبداً.
إيرباسْ: حكاياتُ الحبِّ مشوِّقةٌ بلا ريب، ولكننا الآن في حالة حرب. ولا بد ّ من الاستمرار في احتجازنا لك حِتى نضعَ حداًّ لتمرّد قبيلة ِ برْبارْ وحتى نتأكد من أنكّ ِلم تكوني تتجسسين علينا لحسابه. أيها الجند، اذهبوا بها إلى خيمة الأسرى .
) ما إن يمسكُ بها الجنديان من جديد لينطلقا بها بعيداً حتى تطلق صرخةً عاتي ةً وترفع رأسَها إلى أعلى وكأنها تخاطب السماء(.
المرأة: إشهدي أيتها الآلهة أنْ ليس لهذا الملك من قلب. خدعني برويتّه فَبحُْتُ له بحقيقة سرّي. ولمّا انكشفتْ له سريرتي هزيء من قصّتي واسْتخََفَّ بحزني. إِنْ تكَنْ لا تزال في السماء عدالةٌ فأنصفيني من ظلمه، أيتها الآلهة، وذ وَِّقيه ِ من لوعة ِ الفرُْقَة ِ مثلَ الذي ذوََّقنَي إياّه قَدرَي الجائر!
) تتلاشى المرأة والجنديان خلف الخيمة وتضمحلّ في الهواء أصداءُ كلماتها.(
إيرباسْ: لو كانت ِالآلهةُ تستجيبُ للعنات ِ النساء ِلما عرف السعادةَ رجلٌ واحدٌ على وجه هذه الأرض! هذا ما كان يردده أبي على أيّ حال.
) من الجهة اليمنى للشاطيء تقترب شيئاً فشيئاً أصواتٌ حادةّ تختلط فيها نبرة ُ الأمر بنبرة التهديد بنبرة التحدي. يلتفت إيرباس وضباّطه وجنده إلى مصدر الأصوات ويتبادلون نظرات التساؤل والترقّب والتخمين. يستلّ الضباط والجند سيوفهم ويحفوّن بإيرباس عن يمين وشمال وكأنما ليدرأوا عنه أي خطر داهم قد يهدد حياته. ينجلي التر قبُّ أخيراً عن مشهد ثلةّ من الجنود يدفعون أمامهم رجلاً شرس المظهر وقد أحاطت به أسنةّ ُ رماحهم فهو من كل صوب ٍ أسيرٌ لاحتمال ِ الطعنات.(
إيرباسْ: وكنتَ تظن أن كَ عصيٌّ على مليككَ، يا بِرْبَارْ؟! كأنكَ لم تجرّ بْ سطوتي من قبل!
بربار: ليست مِثلَْ بعضها قبائلُ إفريقيا، يا إيَرْبَاسْ! مَنْ ولدتهْ أمُّه حرّاً فَقَدرَُهُ أ لّا يحنيَ لعدوٍّ رأسَه وألّا يخفضَ أمام ظالم ٍصوتهَ.
إيرباسْ: ومتى كنتُ عدوّاً لرعيتي؟ حرّض تَ قبيلتكََ وزينّْتَ لها الإنسلاخَ عن مملكتي فأشعلتَ نيرانَ الحرب بيننا. أنتَ العدوُّ، عدوُّ نفسكَ، وأنتَ الظالمُ، ظالمُ نفسِكَ.
ولقد أنذرتكَُ فأغوتكَْ لذةُّ العصيان. أنتَ الآن في قبضتي، فماذا تقول؟ بربار: بل في قبضةِ الظروف أنا. والزمانُ لا يستقرّ لأحد ٍ على حال.
إيرباسْ: تنذرني بعشيرتكَ؟ كلُّ عشائر قبيلتكَ رؤوسُها تحت حدّ السيف.
بربار: الزمانُ بيننا! وحده الزمانُ سيعلمّكَ أنكَ حينما أخضعتَ قبائلَ الشمال ِالإفريقي بق وُّة ِالسلاح لتصنعَ مجدكََ، إنما أيقظتَ في ضمير القبائل وَلَعهَا بالحرية وشَغَفَها بتقرير المصير .
إيرباسْ: لَشَدَّ ما يوُلَعُ الصغارُ بالكلمات ِالكبيرة!
بربار: ولَشَدَّ ما يجهلُ الظالمونَ أنّ بعضَ الكلمات ِأقدارُ شعوبها!
إيرباسْ: لغةَ المنهزمين لَشَدَّ ما تتقنها أنتَ، يا برِْبارْ. ومنهزِمٌ أنتَ اليوم أمامي مرّتين:
مَرَّةً كقائد ٍ عسكري لجندِكَ، و مرّةً كطامع ٍ بالتقرب من ملكة قرطاج.
بربار: أسَْرُكَ لي لن يمنعني من الولع ِ بالمرأة ِالتي ألهب كياني جمال هُا وفعالهُا التي أغربُ من سحر الخيال.
إيرباسْ : ألم أرسلْ إليكَ مرات ٍومرات ٍأحذرُّكَ من التحرّش ِبملكة قرطاج؟ نسيتَ أم لعلكَّ تتجاهل حقيقةَ أنني أنا الذي اقتطعتُ لها من مملكتي الأرضَ التي لا تزال تشيدُّ عليها مدينتهَا الجديدة؟ ألستُ أنا الأوَْلى بها منكَ ومن كل أحد؟ بربار: ذلك شيءٌ تقرّره المرأةُ وحدها، يا إيرباس.
إيرباسْ: وحده المنتصرُ يصنع قَدرََ الآخرين.
بربار: قلبُ المرأة لِا سلطانَ عليه إلّا لقلب ِ المرأة. فلنذهبْ إليها جميع اً، إن تكنْ لديكَ شجاعةُ الرجال، ولنتركْ لها فرصةَ الاختيار.
إيرباسْ: لو كنتُ ممّن يميلون إلى هذا الرأي لما كان تسنىّ لي أن أضمَّ قبائلَ الشمال كلهّا إلى مملكتي. أنا أقرّرُ وأنا أختار.
بربار: المرأةُ ليستْ أرضاً ولا قبيلةً لتختار ضَمَّها إليكَ أو لا تختار .
إيرباسْ: لا تهوى المرأةُ إلّا المنتصرَ، ولا يفوزُ بالمرأة ِإلّا الجَسور. أيها الجندُ، إذهبوا به
إلى خيمة الأسرى. شدوّا وثاقَه وأقيموا عليه الحراسةَ المشددة. وإنْ حاول جندهُ أن يفلتوه فاقتلوه دونما حاجة إلى الرجوع إليّ. والآن، يا بِرْبَارْ، أودعّكَ لأمضي
عمّا قليل في سبيلي إلى قلعة قرطاج. سأعلن للملكة عن قمعي لتمرّدكَ وأجَْهَرُ لها برغبتي في الإسراع بالزواج منها .
بربار: أعمى بصيرتكََ انتصارُكَ عليّ. حذار ِ حذار ِ ،يا إيَِرْبَاسْ، فليستْ كلُّ المعاركعارك ِ تخُاضُ بنفس الأسلحة.
) يمضي الجند بأسيرهم ويتلاشون خلف الخيمة. في نفس اللحظة يرُى أحد الجنود مهرولاً من الجهة اليمنى في اتجاه إيرباس وض بّاطه. وإذ يتنبه هؤلاء إلى اقترابه منهم تأخذهم عيونهُم إلى ما وراء الفسحة التي يتواجدون فيها وكأنما يشاهدون شيئاً عجب اً.( إيرباسْ: كأنني أرى دخاناً يرتفع من أقصى الشاطيء هناك.
الضابط الأول: بل كأنني أرى سفناً على الشاطيء تندلع فيها النيران.
) يتوقف أمامهم الجندي المهرول ويتوجه بالكلام إلى إيرباس( الجندي المهرول: مولاي! مولاي!
إيرباسْ: مهلكَ! مهلكَ! خذْ نفساً عميقاً ثم قل لي ما الذي دهاك؟
الجندي المهرول: سفنٌ غريبة عناّ اقتربتْ من الشاطيء... ولمّا حاول بحّارتهُا وَطْءَ رمالنا... واجههم جنودنُا بصيحة الحرب... وبالتهديد بأسنةّ الرماح وشفرات السيوف... فارتدوّا إلى سفنهم خائفين... ولكنهم لم يرحلوا.
إيرباسْ: لم يرحلوا؟! إذاً ما الذي فعلوه؟
الجندي المهرول: نزل اثنان منهم إلى الشاطيء... بدون أسلحتهما... وتحادثا مع أحد ضباطنا... بلغة ٍلم أفهم منها شيئاً.
إيرباسْ: ولماذا ارتفع اللهبُ و الدخان؟
الجندي المهرول: أحد ضباّطنا لم ينتظرْ نهايةَ الحديث فأشار إلى الجند بإمطار السفن بأسهمنا النارية... ثم أننا... ثم أنني...
إيرباسْ: ثم أنّكَ ماذا؟
الجندي المهرول: ثم أطلقتُ ساقييّ للريح لأطلع مولاي على هول ما يجري .
إيرباس)للضابط الأول(: لعلهم من المرتزقة الذين استقدمهم بِرْبَارْ لمباغتتنا .
الضابط الأول: أو لعلهم من قراصنة الجزر البعيدة .
إيرباسْ: عُدْ، أيها الجندي، وبلغّ ِالضابطَ الأكبرَ أن يستدرجَ البحّارةَ الغرباءَ إلى فسحة الشاطيء ويحيطَ بهم ويأتِْيَنيّ بهم أسرى خاضعين.
الجندي المهرول: لمولاي الأمرُ كله.
) ينطلق الجندي المهرول نحو المكان الذي كان قد أتى منه. في اللحظة عينها يدخل من الجهة اليسرى رجلان في ثياب مدنيةّ ويقتربان من إيرباس.( الرجل الأول: أتممنا المهمة يا مولاي .
إيرباس: حدِثّاني إذاً كيف وجدتمُا قرطاج؟
الرجل الأول: كما عهدناها من قبل، يا مولاي، تضجّ أسواقهُا بالحياة وكأنما لا يعرف أهلهُا الراحةَ إلّا بالحركة الدؤوب.
إيرباسْ: أوَ لم تتسقطّا أخبارَ الناس فيما يقولون وفيما يهمسون؟ الرجل الثاني: حبهُّم لمليكتهم كالهواء لهم والماء، يشكرون لها تشجيعها للصناعة
وترويجها للتجارة مع الجزر القريبة والبعيدة، وخاصة سِيسِلي وسردينيا.
إيرباسْ: وماذا يقولون عن الحائط العريض؟ ألا يزالون يجهدون في بنائه؟ الرجل الثاني: هو حلمُ الكبار والصغار وأمََلهُم في السلامة والأمن.
الرجل الأول: ولكن لمولاي عندي خبرٌ لستُ أدري كيف أسوقه إليه.
إيرباسْ: أيَّ خبر تعني؟
الرجل الأول: هو شيءٌ أقربُ إلى الهمسات، شيءٌ كالتلميح ِإلى امتعاض ٍ واستهجان .
إيرباسْ: يمتعضون ممّ؟ ويستهجنون ماذا؟
الرجل الأول: همسةٌ من الهمسات لمََّ حَتْ إلى أن الملكة لم تعَدُْ تبدي الاهتمامَ بالآلهة التي درج الفينيقيون على تقديم الذبيحة لها كل سنة في احتفالات ٍلهم معروفةمعروفة ٍ وطقوس.
إيرباسْ: نما إليّ شيء من هذا القبيل خلال زيارتي الأخيرة لقرطاج. على كل حال، إنتهت مهمتكما الآن، فارتديا الثياب العسكرية والتحقا بالجيش .
الرجلان: بالسمع والطاعة يا مولاي .
) بينما يغيب الرجلان خلف الخيمة، تأتي من الجهة اليمنى أصواتُ هرج ومرج. وما هي إلّا لحظات حتى تتقدم ثلةّ من الجند الأفارقة وقد أحاطوا بثلةّ من الرجال الغرباء.
حالما ينتهون إلى حيث يقف إيرباس وضباطه يبادرهم إيرباس بالكلام(.
إيرباسْ: هَيْئتَكُُمْ، حتى قبل أن أسمع أصواتكم، تدلّ على أنكم من بلاد الإغريق .
إلْيونيَِسْ: من أهل طروادة نحن يا سيّد القوم. أنا إِلْيونِيَسْ وهذا سِ رْجَ سْتسُْ وهؤلاء من أهلنا وأقاربنا الذين نجوا من الحرب. لا نحن نعرفكم ولا أنتم تعرفوننا، ولكنّ الأقدارَ قذفتْ بنا إلى شاطئكِم على غير ما إرادة مناّ.
إيرباسْ: كناّ سمعنا بحصار اليونانيين لطروادة بعدما شاعت حكايةُ بارِسْ وهيلينا. ولكنْ لم تبلغْنا بعد كلُّ تفاصيل الحرب التي أشعلتهْا الحكاية .
إلْيونيَِسْ: آخرُ الحكاية ِأنّ دمارَ مدينتنا شرّدنا في البحار. كناّ في أسطول من اثنتي عشرة سفينة أول الأمر. ولكنْ تقاذفتنْا الأمواجُ العاتياتُ وشرّدتْ سفنَنا الواحدةَ عن الأخرى. ولمّا رحمتنْا الآلهةُ فهدأّتْ غضبَ الموج كانت خمسٌ من السفن قد تاهت إلى حيث لا ترَى العينُ، إن لم تكن قد اصطدمتْ فعلاً بصخور ِ بعض ِالجزر الصغيرة وغرق كلُّ من كان عليها بما في ذلك قائدنُا آنْيَاسْ.
إيرباسْ: أأنتَ على يقين ٍ من غرق تلك السفن أم أنكَ تسرف في الاحتمالات؟
سِرْجَسْتسُْ: ليومين متتاليين ونحن نبحث عنها في كل اتجاه. ولا تجيبنا المسافاتُ إلّا بعزيف الريح وصفقات الأمواج .
إيرباسْ: البحرُ سيدُّ الاحتمالات: يبتلع سفناً ويَلِدُ أخرى. البحرُ ولودٌ، يقول المثلُ الإفريقي، وقد يفاجئكم بقائدكم من حيث لا تحتسبون .
إلْيونيَِسْ: والفاجعةُ الأخرى حَلتَّْ بسفننا على أيدي رجالكَ، يا سيّد القوم. لقد أمطروها بالأسهم النارية، وهي هنالك الآن تتحوّل إلى أشباح سوداء. نحن في طريقنا إلى بلاد إيطاليا لنقيم لنا مدينةً جديدة عِوَضاً عن مدينتنا التي دمّ رها اليونانيون. فكيف لنا بإتمام رحلتنا الآن؟ إن كن تَ ممّن لهم الأمرُ والنهيُ في هذه البلاد، فمعونَتكََ نرجو لإصلاح سفننا لِتقُِلنَّا إلى الأرض التي كُتِ بَتْ لنا قدر اً جديداً.
إيرباسْ: إنزعوا من قلوبكم الخوفَ واليأسَ، أيها الطرواديون الشجعان، فما تح مّلتموه من
ويلات الحصار والحرب وما كابدتموه من تشرّد ٍ وتيه ٍفي البحار هو الشهادة ُ لكم على أنكم من طينة ِالرجال الرجال. وأنا ،إيرباس، ملكُ الداخل الإفريقي، لا تسمح لي شهامتي أن أتخلى عنكم. ولأنكّم الآن داخل الأرض التي إِسْمُ ها قرطاج ،فسأمضي بكم بعد قليل إلى قلعة أليسّا، ملكة قرطاج، لتنظر هي بعين العطف في أمركم. أمّا الآن، فأنتم ضيوفُ إيرباس. هلمّوا هلمّوا إلى الخيمة ذات القبةّ ِالعالية ِهناك لنقوم تجاهكم بما تفرضه علينا الضيافةُ الافريقية من واجبات .
أيها الجند، أسرعوا وقدمّوا لضيوفنا المشويَّ من لحم الغزال.
) يتوجه الجميع صوب الخيمة(.
المشهد الثالث
) قاعة فسيحة يتوسّطها كرسيُّ العرش ِالمهيبُ، مثبتَّاً على قاعدة ترتفع قليلا ً عن مستوى أرض القاعة. عن يمين العرش يقوم تمثال للإله بعل، وعن يساره يقوم تمثال للإلهة عشتروت. من باب عريض إلى جهة اليسار تدخل الملكة أليسّا وتتوجه بخطى موزونة ثابتة صوب كرسيّ العرش، محاطةً عن يمين وشمال ومن خلف بحاشية تضمّ رجالا ً ونساء بينهم كاهن المعبد الأكَبر. تتخذ أليسّا مجلسها الملكي بجلال وتتفحّص الحاضرين بنظرات تمرّرها بثقة وٍأناة ٍعليهم أجمعين. فجأة تخاطب كاهن المعبد الأكبر(.
أليسّا: كنتَ نبَأَّتْنَي أنّ بضيافتكَ كاهناً من صور أرسله لمقابلتي أخي بيجماليون. فهلّا قدمّتَ إليَّ الضيفَ الرسول.
الكاهن: هو ذا بين يديْ مولاتي ينتظر الإذن بالكلام.
)يوميء بيده إلى رجل بالقرب منه فيتقدم الرجل خطوتين وينحني للملكة(.
الرسول: معابدُ آلهتنا تقُْريءُ مولاتي السلام.
أليسّا: قرطاج ترحّب بضيفها من صور، آتياً إليها من تلقاء ذاته أم مبعوثاً ممثلّاً لسواه.
الرسول: يشرّف كلَّ رجل من رجال صور أن يزور أهله في قرطاج من تلقاء نفسه ولو
مرّة في العمر، فبين مدينتيْنا من أواصر القربى ما يجعل من نعمة التزاور ضرورةً يحبذّها التاريخ ومصلحةً تفرضها الجغرافيا. ولكني على كلّ حال جئتُ
أقابل مولاتي كرسول من أخيك ِالمُحِبِّ، الملك ِ بيجماليون.
أليسّا: أهلاً بكَ بين أهلكَ، والسلامُ على المحبّ الذي أرسلكَ. هات الآن خ برّْني عن الرسالة التي حُمِّلْتهَا إليّ.
الرسول: لو تأذن لي مولاتي أن أنقل إليها الرسالة على غير مرأى من الحاشية ومسمع.
تلك كانت رغبة مولاي الملك .
أليسّا: حاشيتي هي جزء منيّ!
الرسول: ولكن ..! مولاتي!..
أليسّا: ليس لديّ ما أخفيه عنهم. فهل لديكَ ما تخفيه أنت؟
الرسول: إنما أنا رسولُ أخ ٍلأخته، وما بين الأخ والأخت من رسائل وإشارات قد يكون له طابعُ الخصوصية والحميمية.
أليسّا: لملكة قرطاج رأيٌ آخر. الأخت تنتهي حيث تبدأ الملكة. وأنتَ الآن في حضرة الملكة. فهياّ بلغّْ رسالتك.
الرسول: لمولاتي إذاً ما تشاء. نعمةُ التزاور التي منذ هنيهة ٍ ذكرتُ، إنما هي من هواجس مولاي وتمنياته. ولِتمَْتين الروابط بين مدينتيْنا، يقترح مولاي على مولاتي أن تشرّف صورَ وأهلهَا بحضورها، أوَّلَ فصل الربيع، للمشاركة في الاحتفالات التي تقام لإلهنا أدونيس العائد ِإلينا بنعمة البعْث المتجد دّ بعد هجعة الموت التي أبداً لا تدوم.
أليسّا: حيٌّ فينا أبداً إلهُ أجدادنا أدونيس. وطقوس ُ الإحتفال بعودته إلينا من العالم السفليّ ثريةًّ بها خيالاتنُا لا تزال. بلغّْ مولاكَ الشكر من لد ناّ لدعوته ولتمنياته الكريمة .
الرسول: إذاً، وبناءً على مُقْترََح ِ مولاي، ستكون سفينتهُ الخاصة جاهزة ً لتقلّ مولاتي من شاطيء قرطاج إلى شاطيء صور في الموعد الذي تحددّه مولاتي.
أليسّا: لا يكلفنَّ مولاكَ نفسه هذا العبءَ، فسفنُ قرطاج ضنينةٌ بأهلها، ويحرجها أن تحُْمَلَ على غير متنها ملكةُ قرطاج.
الرسول: لمولاتي ما تشاء. ولكنه حَتمٌْ عليّ أن أنقل لمولاتي مشيئةَ مولاي .
أليسّا: وبكل لباقة ٍأنتَ فعلتَ. فنعم المولى ونعم الرسول! ولكنْ هناك شيء آخر، شيء يجعل تلبيتي لدعوة مولاكَ رهينةَ الإحتمالات.
الرسول: أيَّ احتمالات تقصد مولاتي؟
أليسّا: موعدُ الإنتهاء من بناء الحائط العريض... الممتد على مدى مسافة الشاطيء المقابل للمدينة وقلعتها... قد يصادف نهايات ِالخريف أو بدايات ِالربيع.
الرسول: وهل يعيق ذلك تشريفَ مولاتي لمولاي ولأهل ِصور بحضورها المرتقب المبارك؟
أليسّا إذا فعلاً تمّ البناءُ بدايةَ الربيع فالاحتمال الأكبر أنني سألزم مكاني في المدينة، إذ تحتمّ علينا الواجباتُ الدينيةُ أن نقيم الإحتفالات في معابد آلهتنا للصلاة ولرفع آيات الشكر للعون الذي اختصَّتنْا به لإنجاز هذا الصرح العظيم، رمز ِالحماية والأمن لكل ما تمثلّه مدينتنُا.
الرسول: بين الإيجاب والاحتمال أراني تؤرجحني ضبابيةُ الكلمات. وإذاً فما هي الرسالة التي تحمّلني إياّها مولاتي إلى مولاي؟
أليسّا: الشكرَ لإرسالِه ِالدعوةَ... وَارْتهانَ تلبيتها للإحتمالات.
الرسول: فلتعذرْني كلّ العذر مولاتي، ولكنْ قد يرى مولاي في ذلك تذبذب اً أو تسويف اً للأمر .
أليسّا: إن يَكنْ للرسول من شيء أخير يودّ قولَهُ، فلا يترددّنّ.
الرسول: لعلَّ آخرَ فقرة ٍ من رسالة مولاي إلى مولاتي تقول: " تعاليْ لزيارتي، أختاً، حتى
لا آتي لزيارتك ِ ،ملكاً!" أليسّا: بلُِغَّت ِالرسالة. آذنُ لكَ بالرحيل.
) ينحني الرسول إنحناءة خفيفة للملكة ثم انحناءة مثلها للكاهن الأكبر وينصرف. من الجهة اليمنى يدخل قائد الجند " أدَونْ ". تتوجه عيناه مباشرة إلى حيث الملكة أليسّ ا. وما إن تطَْرُقُ قدماه أرض القاعة بخطوات ثابتة حتى ينفسح له بين الحاضرين والحاضرات ممرٌّ يصل به إلى مسافة قريبة من كرسيّ العرش. ينحني للملكة.(
أليسّا: ألَِشَرٍّ مباغت ٍ يمسّ أمنَ قرطاج أعزو سبب حضوركَ المفاجيء، يا قائد الجند؟ أدَونْ: مهما عظمتْ شرورُ الطامعين بقرطاج فهي أهونُ عندنا من أن تباغتنا بخطر .
أليسّا: بهكذا إرادة ٍتبُْنى الممالك.
أدَونْ: وبإرادة مولاتي تتحرك الإراداتُ الأخَُر.
أليسّا: أمّا وقد انْتفََ تْ عنّا نذُ رُُ الشرّ فهات ِ ما جئتنَا به من بشائر الخير .
أدَونْ: أوّلُ البشائر أنّ الجيش اكتمل عديدهُ وفاضت عدتّهُ.
أليسّا: حدود قرطاج إذاً بخير. فما هي ثاني البشائر؟ أدَونْ: قدرتنُا الآن على التوسع يا مولاتي.
أليسّا: لا حديث في هذا الأمر حتى يكتمل بناءُ الحائط العريض .
أدَونْ: ولكن لا بدّ من البدء بالتخطيط للأمر حتى لا تقع المملكةُ في الفراغ لحظة يتم بناء الحائط .
أليسّا: وما الذي تعنيه بكلمة الفراغ؟
أدَونْ: الممالك التي تقنع بحدودها وتستكين لأمن هذه الحدود إنما تحكم على شعوبها بموت الأحلام الكبيرة. وليس من فراغ ٍفتاّك بٍالشعوب كموت الأحلام الكبيرة .
أليسّا: جراءةُ كلماتك من جراءة روحك. هات ِفَصِّلْ لنا ما لديك.
أدَونْ: مولاتي تعلم أكثر مني أنّ تفاصيلَ الأمور العسكرية يتطلبّ بحثهُا خلوةً ... بيني وبينكِ ... تختصّ بهذا الغرض.
أليسّا: إذاً أحددّ موعداً لهذا الأمر فيما بعد.
أدَونْ الأمر الأخير يا مولاتي يتعلق بالملك إيَِرْبَاسْ.
أليسّا: وما شأن الملك إيِرَْبَاسْ هذه المرة؟
أدَونْ: هو في طريقه إلى القلعة بصحبة نفر ٍغرباء عن هذه الأرض. لقد أرسل إليّ يبلغّني بمسيره للقاء مولاتي. الأمر ملحّ، على ذمّة رسوله.
أليسّا: ليدخلْ عليّ لحظة وصوله.
أدَونْ: لمولاتي ما تشاء .
)ينحني قائد الجند للملكة ويغادر القاعة على وقع خطواته القوية الثابتة. وما هي إلّا لحظات حتى يدخل إيَِرْبَاسْ من الجهة اليمنى، محاط اً بضباطه وجنوده. خلفهم تسير ثلة من الطرواديين يتقدمهم إِلْيونِيَسْ و سِرْجَسْتسُْ. تنهض أليسّا من مجلسها لاستقبال إيرباس(.
إيرباسْ: تحيتي لملكة قرطاج ممهورةٌ اليومَ بخبر سعيد.
أليسّا: لطالما حمل إلينا ملكُ الداخل الإفريقي أخباره السعيدة.
إيرباسْ: لقد تمّ لنا اليوم قمَْعُ المتمردين بِأسَْر ِقائدهم بِرْبارْ وهو في طريقه صوب قلعة مولاتي.
أليسّا: لقد أخطأ برِْبارْ حينما استهان بقدرة مليكه عليه.
إيَِرْباسْ: حُلْمُهُ بالاستقلال عن مملكتي كان وَهْمَهُ الأوّلَ. أمّا وَ هْمُ هُ الثاني فتجلىّ في
توجّهه صوب قلعة مولاتي طمعاً في التودد إليها وكأنما هي غزال مسجون بين جدران القلعة!
أليسّا: هو يعرف رأيي في مسألة التودد على كل حال. ولكنّ اللجاجةَ طَبْعٌ في الرجال .
إيَِرْباسْ: وأسوأ ما تكون اللجاجةُ إذا هي تلبسّتْ رجلاً يطمح إلى ما يطمح إليه إيرباس!
أليسّا: ولطالما أكّدتْ ملكةُ قرطاج أن طموحها لا يتعدىّ النهوض بقرطاج!
إيَِرْباسْ: التمنعُُّ والتسويفُ لغةٌ في طبع النساء، والصبرُ في طبع الرجال قصيرُ الأمد.
مولاتي تعرف حقيقة حلمي منذ وطِئتْ قدماها هذه الأرض. ويعرف ذلك كلُّ الملأ. ولقد آن لهذا الحلم أن يتحققّ.
أليسّا: الملك الجليل يعرف مكانته عندنا، ولكنْ أنىّ لمن رهنتْ عمرَها لذكرى زوجها أن تخون الذكرى وتتنصّل من وعد كٍانت وعدتهْ إياّه قبل رحيله؟!
إيَِرْباسْ: الموت يلغي كل الوعود، ولا مكان للأشباح في مهرجان الحياة!
أليسّا: بل للأشباح وجودهُا... في سرائرنا... وإن تكنْ لا تبصرها العين. تماماً كما هي آلهتنُا.
الكاهن: قد تكون مولاتي على حق، وإن هي لم تقصد تشبيهَ الآلهة بالأشباح!
أليسّا: وعلى ذكر الأشباح، خبرّْني، أيها الملك الجليل، هل الغرباء الذين خلفكَ رجالٌ حقاً أم أنهم طيوفٌ لرجال؟
إيَِرْباسْ: بل هم جماعة من أهل طروادة شرّدتهْم الحربُ وقذفتْ بهم أمواجُ البحر إلى شواطيء قرطاج. جئتكُ بِهم لتنظري أنت ِفي أمرهم.
أليسّا: ما أبشع ما تفعله الحروب! ولكن لأهل طروادة عند الفينيقيين مكان أثير.
إلِيونيَِسْ: لو تأذن الملكة الجليلة لي بالكلام؟ أليسّا قل ما لديكَ فإني أذُ نٌُ واعية.
إلِيونيَِسْ: حينما تحالفت ِ الريحُ والموجُ على دفع سفننا إلى الشاطيء الذي لا نعرف إلى أيّ مملكة ينتمي، هزّنا الجَزَعُ وأيقناّ بهلاك وشيك. وضاعَفَ من مخاوفنا
الأسهمُ الناريّةُ التي رحّبتْ بسفننا أيمّا ترحيب! اللهبُ والدخانُ بدورهما تحالفا على حواسّنا وعقولنا حتى هَجَسْنا بنهاية ٍأشبه ما تكون بالجحيم الذي تركْنا طروادة تستعر فيه. ولكنّ الآلهة كأنما رأفتْ بنا بغتةً فاقتاد تْنا إلى الملك الرحيم إيرباس فأحال جزعَنا أمناً ويأسَنا أملاً حينما أخبرَنا بهوية الأرض التي نزلناها وهوية ملكتها التي عَمَرَ ذِكْرُ مآثرها كافةَّ المدن اليونانية" . أليسّا ملكة ُ قرطاج " كانت الكلمات الثلاث التي رسمتْ لنا ولمستقبلنا قدراً جديدا ً.
أليسّا: للفينيقيين والأغارقة تاريخ طويل في حسن التبادل التجاري والتبادع الثقافي .وفي مغامرة الإرتقاء إلى المجد لطالما وقفتْ طروادة على نفس القمة التي احت لتّهْا جبيل وصيدا وصور. إذاً لستم بالغرباء بيننا يا حلفاء المجد. أنتم بيننا ضيوفُ التاريخ.
إلِيونيَِسْ: وقرطاج التي تصنع مجدهَا كل يوم أميرةٌ من صور لهي أميرةُ كل المدن الفينيقية.
أليسّا: لطالما افْتتُنِْتُ ببلاغة أدباء اليونان. وإنكَ، أيها الطروادي، لذو لسان بٍليغ .
إلِيونيَِسْ: الفرحة بالرجاء تطلق من عقالها الكلمات. إليونيس يتحدث إلى مولاتي بالنيابة عن كل الرفاق الذين نجوا من لهب الحرب. لسنا هنا كمحاربين يطمعون بأرض ولا بمغامرين هَمُّهُمُ استلابُ المواشي وطيور الأرضِالأرض ِ والمنتوج ِالزراعي
المخبوء ِفي مخازن البيوت والأسواق. أجل، يا مولاتي، لسنا بالغزاة ولا بقراصنة البحر. نحن قوم هزمتهْم أقدارُهم مرّةً فركبوا البحرَ، لا رَهَ باً من الموت، ولكن لتحقيق ِ نبوءة ِ بطلِنا هكطورْ، والذي يطاردنا طيفهُ في أحلام الليل وأحلام النهار، أن ِارحلوا إلى الأرض الخصبة ِالتربة ِهنالك في الشمال والتي تسَُمّى اليوم إيطاليا حيث تشاء الآلهة لكم أن تبنوا مدينة عظيمة تكون لكم بديلاً من المدينة التي خلفّتموها دماراً وخرابا.
أليسّا: ومن هو منكم الذي تلقىّ هذه النبوءةَ في حلمه أوّل مرة؟ إلِيونيَِسْ: قائدنُا العظيم آنياسْ، الذي تاهت في جبال الموج سفينتهُ ولقي تْ حتفهَا ربما على رأس صخرة كانت تنتظرها هنالك أو هنالك أو هنالك... حينما ف رََّقنَا التيه .
أليسّا: آنياسْ هو قائدكم؟!! واقدراه!! فمََنْ على وجه الأرض لم يسمع من قبل بمآثر أنياسْ؟
إلِيونِيَسْ: قائدنا في الحرب كما هو قائدنا في السلم. ولو لم تسُْلِمْه ُ الأقدارُ إلى مدن
الظلال لكانت مولاتي استأنستْ بحضوره الذي يلغي كل حضور الرجال.
أليسّا: وإني لَيؤُْلمني معكم غيابهُ عنكم، أنتم الذين خَبِرْتمُْ صحبتهَ وما زلتم أحوجَ ما تكونون إليه في رحلتكم إلى أرض الشمال .
إلِيونِيَسْ: لكأنيّ بطيفه يقف إزاء مولاتي يسألها العون لرجاله الذين خذلهم غيابهُ.
أليسّا: ولكأنيّ أسمع صوته يهتف بي من مدن الظلال أنْ كوني لهم الأملَ الذي كنتهُ لهم حينما كانت سفننُا تلاطم موج البحار.
إلِيونيَِسْ: لو أنه كان لا يزال بيننا... لو أنه لا يزال .
أليسّا: بلاؤكم في حصار طروادة، ثم ابتلاؤكم بمرارة التيه في البحار، ثم إصرارُكم على
المضيّ في تحقيق نبوءة ِ بطل ٍمن أبطالكم، كلهُّا كلهُّا الشهادةُ لكم على أنكم من خيرة أهل الأرض. إسألوا تستجبْ لكم قرطاج. فَصِّلوا احتياجاتكم ولكم من رجالنا
العونُ كلهّ.
إلِيونيَِسْ: الأخشابَ نصلحُ بها سفننَا ونصنعُ منها مجاذيفَنا، كما خبرةَ بنُاة ِالسفن... ذلك كل ما نحتاجه لنتابع رحلتنا، يا ملكةً في الأرض ويا نجمةَ الرجاء .
)من زاوية من زوايا القاعة يطلّ أدونْ وآناّ، يتوسّطهما آنياسْ وابنهُ آسْكانِيسُْ. يتوقفّون هنالك، بإشارة من يد آنياسْ، وكأنما ليتسمّعوا خفيةً إلى كلام أليسّا.(
أليسّا: لكم ما سألتم. وأكثر! فلسوف أبعث بالخبراء من رجالي إلى أطراف الشواطيء الافريقية لعلهم يعثرون على سفينة قائدكم، سليمةً أو محطّمةً. وسآمرهم أن يَغْ شَوْا كل الغابات القريبة من الشواطيء فلعل قائدكم أن يكون ضلّ طريقَه في كثافة الشجر وظلّ هنالك ينتظر أن تسيروا إليه ذات صبح ٍ أو ذات مساء. فإن عُ ثرَِ عليه تولىّ قيادة رحلتكم من جديد. وإن انتهيتم من إصلاح سفنكم ولم يظهر له من أثر ،فَلكَُمْ آنئذ ٍأن تتخيرّوا زمنَ الرحيل. قرطاج ستودعّكم بنفس الحفاوة التي تستقبلكم بها الآن .
) يدخل أدونْ وآناّ، يتقدمّهما آنياسْ وابنهُ آسْكانْيَسْ.(
آنياس: فلتسترحْ من عبء البحث عني ملكةُ قرطاج، فهأنذا آنياسْ بين يديها، حقيق ةً وُلِدتَْ من سراب!
أليسّا: بل لعلكَ العائدُ إلينا من مملكة الظلال، ربيعَ أدونيسَ المب شِّرَ أبداً بتجددّ الحياة.
آنياس: وما الذي ترُاني أراه؟ رفاقُ البحر سبقوني إلى سيدّة العرش وكنتُ حسبتُ الريحَ والموجَ مزَّقا سفنَهم كلّ ممزّق؟! إلْيونِيسَْ! سِرْجَسْتسُْ! وكلَّ أبطالي الأخر!
دهشةُ عينيّ بلقائكم إمتلاءٌ لقلبي بفرحة نجاتكم. بعُِثنْا من غياهب الشتات لتجمعنا لحظةُ الغربة الجديدة في أرض لم نعرف لها موطئاً من قبل.
أليسّا: ولكنها الأرض التي تحتضنكم الآن كما احتضنتْ منذ سنوات بعيدة أميرةً من أميرات صور تاهت بسفنها عاتياتُ الرياح وقذفتْ بها الأمواجُ إلى شاطيء الغربة الجديدة، هنا، ههنا، لتولد من سرائر الغربة مدينةُ قرطاج. تشابهتْ أقدارُنا فبيننا من أواصر القربى ما لا يعرفه نَسَبُ اللحم والدم.
آنياس: لمولاتي من الشكر ما لا تقدر على صياغته الكلمات. كما أنّ الأمانة تقضي بإسداء الشكر إلى قائد جندكم " أدونْ " لِتلَطَُّفِه ِ في استنقاذنا من أيدي الجند الذينحاصرونا وقد ظنوّا بنا الظنون.
أدون: جَهْلهُُمْ بهوية الطرواديين كانت السبب في قسوتهم على رجالك.
أليسّا: كل ذلك وراءنا الآن. قرطاج ترحّب بآنياس ورجاله. وكما كنتُ أقول لإليونِيسْ منذ قليل، أنتم لستم بالضيوف الغرباء. أنتم بيننا ضيوفُ التاريخ.
آنياس: والتاريخ لن ينسى ضيافة الكرماء. ما نبتغيه من العون هو مساعدتكم لنا في إصلاح سفننا ممّا ألمّ بها من فساد ليتسنىّ لنا إتمام رحلتنا إلى القدر المرصود لنا في أرض الشمال.
أليسّ ا: ما أسرعكَ في ابتغاء الرحيل! وكأنمّا الريحُ هي الصوتُ الوحيد الذي يناديك!
آنياس: من أدب الضيف، يا مولاتي، ألّا يثقل على مضيفه.
أليسّا: قرطاج لم تبدأ مراسم الضيافة بعد. ولكن قل لي أهو ابنٌ لكَ ذلك الصبيُّ الوضيءُ الذي بجانبك؟
آنياس: هو ابني آسْكانْيَسْ. حملتهُُ معي بعد أن كادت تلتهمه نيرانُ الحرب .
أليسّا: وأمّه؟ أهي بين الجمع الذي خلفك؟
آنياس: للحرب شجونهُا التي لا تنتهي يا مولاتي. فلنتركْ للزمن بعضَ ذكرياتها.
أليسّا: ومرّةً أخرى يتشابه قَدرََانا! خسارتي في صور صِنْوُ خسارتكَ في طروادة .
كلتاهما
خسارةُ الحميم للحميم. إقتربْ مني أيها الصبيّ الحبيب.
آنياس: هياّ يا آسْكانْيَسْ. إقتربْ من مولاتك.
)يقترب آسكانيس من أليسّا. تربّت على رأسه وتنحني فتقبلّه.( أليسّا: قل لي، يا أسكانيس، أأنتَ سعيد أن تكون بيننا؟ أسَْكانْيَسْ: لطُْفُ مولاتي يذكّرني بأمي.
أليسّا: وأنا اليوم أمٌّ لكَ في غياب أمك.
أسَْكانْيَسْ: وهل ستلحق أمي بنا بعد قليل؟
أليسّا: لعلها أن تكون في طريقها إلينا... وقد أخّرها عناّ طول الطريق.
أسَْكانْيَسْ: سأنتظرها إذاً.
أليسّا: تنتظرها هنا معي. ستكون الآن في رعايتي، ملءَ عينيّ وقلبي.
آنياس: هذا أكثر مما يطمع فيه الضيفُ، مولاتي، يا سيدةَ اللباقة. أسَْكا نْيَسْ ستهتم بأمره مربيتي .
أليسّا: وهل تسمح للأمير الطروادي لباقتهُ أن يحرم مضيفتهَ من الإستئناس برعايتها لإبنه؟
آنياس: لملكة قرطاج من شؤون المُلْك مِا يشغل وقتها كله. غنيةٌّ هي عن كلّ ه مٍّ جديد.
ذلك ما كان يجول في خاطري، يا مولاتي .
أليسّا: وما يجول في خاطري أنا هو أنّ سنوات ِ تيهكَ في غياهب البحار انتهت. الآن أنتم في ضيافتي. أنتم كلُّ شغلي حتى يطمئن آنياسْ وابنهُ إلى حفاوة الأرض الجديدة بهما، والتي تكاد تطمع أن يجدا فيها مستقرّاً لهما ووطناً.
آنياس: وذلك أكثر مما يطمع فيه التائهُ المنذورُ قَدرَُهُ إلى أرض ِالشمال .
أليسّا: الغدُ مرهونٌ بالغد ِ .أمّا الليلةَ فالوليمةُ على شرف الطرواديين الشجعان .ولكنْ قبل أن تمضي لطلب الراحة في جناحكَ، أحلفّكَ بأغلى ذكرياتكَ أن تقصّ علينا
قصةَ الحصار لمدينتكم من مبتدئها إلى منتهاها، فما بَلَغَنا من الأخبار السياّرة يكاد يكذبّ بعضُهُ بعضاً.
آناَ: وأسَْهِبْ لنا في حكاية هيلينا إن كان فعلاً جمالهُا هو الذي أشعل الحرب بين الرجال .
آنياس: أوَ مكتوبٌ على آنياس أن يعيش التجربة الأليمة مرتين؟
أليسّا: معاذَ المودة ِأن نتمنى لكَ اجترارَ الألم. إن تلَمُْ أحداً فَ لمُْ شغفَنا بحقائق التاريخ.
آنياس: سأصبر نفسي على وجعها وأحكي لكم نتفاً من فاجعة مدينتنا... شرط أن تعَِ د َ مولاتي بأن تقصّ علينا حكاية هجرتها من صور لتنشيء لنفسها ولشعبها مملكة قرطاج.
أليسّا: حكايةً بحكاية. لآنياس أن يتمنى ولأليسّا أن تستجيب!
آنياس: إذاً هاكم حكايتي. حينما اختطف بارِسْ الجميلةَ هيلينا من زوجها الإسبارطيّ وسار بها تحت جنح الظلام إلى مدينة طروادة ...
آناّ: إختطفها رغماً عنها أم أنها استسلمتْ لخاطفها عن سابق افْتتِان ٍ به وإعجاب؟ آنياس: قَلْبُ المرأة سرُّها الذي لم تطُْلِعْ عليه أحداً.
آناّ: جمالهُا اختطفه فاختطفها بجسارته... ذلك مبلغُ ظنيّ.
آنياس: لسيدتي أن تسرف في ظنونها ما تشاء. آنياسْ يلتزم حكايةَ ما رأى وما سمع.
إختطافُ هيلينا من قبَِل ِالضيف جرّح كبرياءَ اليونانيين فأجمعوا أمرهم على استعادة زوجة أميرهم مِنَلوَُّسْ وتدمير طروادة. حاصروا مدينتنا سنوات طويلة.
ولمّا أعياهم الحصارُ وتسرّب إليهم اليأسُ، تحمّس بعضُهم للعودة إلى ديارهم، وأصرّ البعضُ الآخر على التزام الصبر واجتراح المكيدة لاجتياح مدينتنا المحصّنة بأسوار عالية. صنعوا حصاناً خشبياً هائلَ الحجم وملأوهُ بأشجع فرسانهم المدججين بالسلاح. تركوا الحصان قريباً من أسوارنا ورأيناهم يضب وّن خيامهم ويبتعدون حتى غابوا عن أنظارنا .
أدونْ: وظننتمُ أنتم أنهم رحلوا عائدين إلى ديارهم؟ آنياس: لقد أخطأ بعضُنا بهذا الظن.
أدونْ: ولهذا فتحتم بوابات مدينتكم؟
آنياس: بل لأنّ مكيدةَ الحصان كانت تؤازرها مكيدةٌ أخرى. الجاسوسُ سايْنونْ سلمّ نفسه إلى جنودنا خارج السور وادعّى أنه فرّ من الجيش اليوناني حينما اختاره العرّافُ ليكون الذبيحةَ التي وجب تقديمُها للآلهة لتوحي للريح أن تسهّل لسفنهم رحلة العودة إلى ديارهم .
إيرباس: إذاً كان هو الطُعْمَ البشريَّ الذي استمرأتموه؟
آنياس: أجل أيها الملك الجليل. كان سايْنونْ مخادعاً فذاًّ. حتى أنه أوهم الكثيرين منّا أنّ الحصان الخشبي كان اليونانيون قد صنعوه تقدمةً منهم لإلهة الحكمة أثينا. ولقد أكّد لنا أننا إن أحرقْنا الحصان أو دمّرناه فسنحظى بسخطها، وأننا إن أدخلناه إلى ساحة المدينة فلسوف ترضى عناّ وتعيننا على صدّ اليونانيين عن أسوارنا إذا هم عادوا إلى حصارنا من جديد .
إيرباس: سكو تكُم عن خطيئة بَارِسْ غَ يبََّ عن عقولكم نورَ الحكمة. المكيدة لم تكن لتنطلي على رجل لا يزال يملك عقله .
أليسّا: رفقاً بالطرواديين أيها الملك الجليل! إذا كان المخادِعُ الفذ ُّ مم ثلّاً باهراً فكيف
لهم ألّا يقعوا تحت سلطان سحره، وهم أكثر الشعوب ولعاً بالأدب المسرحي؟ إيرباس: كان أحرى بهم أن يميزّوا بين خدعة التمثيل ورواية الحقيقة. ولكنْ لعلّ لمولاتي
أسبابهَا الخاصة لتجهدَ كلَّ جهدها في تلطيف الجوّ... تلطّفاً بأميرها الضيف!
أليسّا: عذراً لمقاطعتنا لكَ، أيها الأمير آنياسْ، ولكنْ خبرّْنا الآن كيف تس نىّ للحصان الخشبي أن يجد طريقه إلى داخل المدينة .
آنياس: طَمِعَ الطرواديون بالوعد الكاذب فَجَرُّوا الحصان حتى إذا ما بلغوا به حفافي أسوارنا تبيّن لهم أنه أكثر علوّاً من بواباتنا. حطّموا من حفافي الأسوار ما حطّموا حتى تسنىّ لهم أن يدخلوا بالحصان إلى ساحة المدينة. جَمَحَ بهم حماسُهم فأولموا وشربوا النبيذ حتى الثمالة. المُخادِعُ سَايْنوُنْ فتح البابَ السرّي في أحد جوانب الحصان فخرج منه المدجّجون بالسلاح وفتحوا البوابة الرئيسية للسور فاندفق على مدينتنا السيلُ اليوناني بالنار والدمار. أخذونا على حين غفلة واسترجعوا هيلينا على جثث شبابنا وشيوخنا ونسائنا وأطفالنا. لا! لا! يا مولاتي!
لا تطلبي مني رواية المزيد، فما حدث من فظائع لا يحتمل قلبي استحضارَه من جديد .
أليسّا: فليهدأْ قلبكَُ الشجاعُ الآن. ما مضى قد مضى. قرطاجُ تحتضنكَ اللحظة َ، وغدا ً ربمّا تجرِّعكَ البلسمَ الذي فيه شفاؤك!
آناّ: ولكنْ... هيلينا؟... ما الذي فعله بها الذين استردوّها؟ إيرْباَسْ: أغلب الظن أنهم قتلوها .
آنياس: الخبر الذي شاع هو أنّ زوجها اتخذها لنفسه زوجةً مرة أخرى.
إيرْباَسْ: غفر لها معاشرتهَا لخاطفها كل تلك السنين؟!! عجباً عجباً لرجل سلبتهْ امرأة ٌ كبرياءَه.
أليسّا: الحكايةُ أرهقتْ ضيفنَا. أيها الجند، سيروا مع الأمير الضيف إلى جناحه لينال بعض الراحة قبل حلول وقت الوليمة. ولتتكفلّْ وصيفاتي بالعناية بأسكانيس في جناحهنّ.
) ينحني آنياس للملكة ويمضي في صحبة أدونْ وآناّ. يمضي خلفهم أتباعُ آنياس وبقيةُ الحاضرين. ينحني إيرباس للملكة وينسحب من القاعة وعلى ثغره ابتسامة تهكّ م. إلى الجهة اليسرى من القاعة تمضي إحدى الوصيفات بأسكانيس وقد أمسكت بيده وانحنت تحدثّه بلطف. تخلو القاعة إلّا من أليسّا والكاهن الأكبر... يقف هناك مسمّرا ً وعيناه تختلسان النظرة تلو النظرة إليها(.
أليسّا: لَفَتنَي لزومُكَ الصمتَ اليوم... على غير عادة كِاهننِا الأكبر.
الكاهن: شَغَلَني عن الكلام تأملاتي في قدر الإنسان.
أليسّا: وهل بقاؤكَ هنا بعد مغادرة الجميع إشارةٌ إلى رغبتكَ في إشراكي بتأملاتك؟
الكاهن: مولاتي على حق .
أليسّا: إذاً هات ِأسمعْني ما لديكَ. كليّ أذنٌ صاغية.
الكاهن: الإنسان، يا مولاتي ...
أليسّا: أيْ نعمْ... ما شأنه الإنسان؟ الكاهن: الإنسان، يا مولاتي، كائنٌ تراجيديّ. وآيةُ ذلك أنه لا يطيق صحبةَ نفسه زمن اً طويلاً. هو بالفطرة توّاقٌ إلى الإنسراب خارج ذاته بحثاً عن صحبة كائن ٍآخرَ يطفّف عنه عبءَ صحبته ِلذاته. الآخَرُ الآخَرُ هو خلاصُه.
أليسّا: بل لعلّ ذلك الآخَرَ أن يكون مصدرَ آلامه وشقائه.
الكاهن:الألمُ محبَّبٌ للإنسان حينما يعتقه من صحبة نفسه. ولعلّ الألمَ، يا مولاتي ،هو المعبرُ الوحيد إلى الحرّية.
أليسّا: إنّ لكَ في ابتهالاتكَ إلى السموات سَبْحاً طويلاً. أم أنكَ لم تجدْ بعد في انسرابكَ إلى دروب الآلهة خلاصاً لكَ من صحبة نفسك؟
الكاهن: الإبتهالُ رحلةُ الأرض إلى السماء. هو الشوقُ الأبديُّ إلى الرحيل. ولكنه الرحيلُ الذي يظلّ رحيلاً. أحوجُ ما يكون الإنسانُ إليه إنما هو الرحي لُ من الأرض إلى الأرض .
أليسّا: ولكنّ الكهنوتَ خيارٌ للارتقاء إلى السموات العلى.
الكاهن: ذلك لا يلغي في الإنسان حنينَهُ إلى الأرض. رحلتان هما شتىّ، ولا بد ّ من السير فيهما معاً معاً.
أليسّا: يدهشني إذاً أنكَ لم تلَْقَ في الناس حولكَ مَنْ تنَْسَرِبُ إلى صحبته أو ينسرب هو إلى صحبتكَ فتجدَ بذلك الخلاصَ أكيدا.
الكاهن: بل لعلّ الذي يمنيّني حضورُه بالخلاص قريبٌ مني قريبٌ، وإن يكنْ عني بعيد اً بعيدا .
أليسّا: كأنكَ كِدْتَ أن تلَُمِّحَ إلى الشيء الذي لا ينبغي للكاهن الأكبر أن يلَُ مِّحَ إليه!
الكاهن: ملكتي مولاتي... ومولاتي مالكتي! ولقد أغنى التلميحُ عن بيّن ِالتصريحح ِ وفتحتْ مولاتي لعينيّ كوّةً لأتسرّب منها إلى نعيم الحرية.
أليسّا: بل أحسبكَ اليوم تتلظّى في حمّى كلماتك. فالهذيانُ الشغوفُ لم يكن يوماً من طباعك. أنت الكاهن الأكبر في قرطاج و أوَْلَى واجباتك أن تترفعَّ عن أي ضعف بٍشريّ يتصّف به سائرُ الناس.
الكاهن: وَ لِمَ هذا التمييز؟ وَ لِمَ هذا الحرج؟ أوََ ليس الكاهنُ من بني البشر؟ أوََ ليس هو مثلهم يجوع ويظمأ، ويصحو وينام، وتعتريه في الشتاء قشعريرةُ البرد ِ، ويلفحه ُ في الصيف حرُّ الصيف؟ أوََ ليس هو مثلهم يصيبه المرضُ ويحلّ عليه قَ درَُ الموت؟ فلماذا إذاً، لماذا، ينُْكَرُ عليه الولَعُ بالجمال البشري، وهو الولَعُ الذي يرُى في سائر الناس كشيءكشيء ٍ من بديهيات طباعهم؟
أليسّا: أنتَ تعرفُ لماذا. ثم إنّكَ تلحّ وتلُحفُ في توددُِّكَ إليّ وكأنكّ نسيتَ عهدي لزوجيأن أظل له وحده عمريَ كلهّ.
الكاهن: كنتِ له وحده ما دام حياًّ. ولقد مرّت على رحيله سنوات. الحياة تناديك ِ يا
مولاتي فلبيّ نداءَ الحياة.
أليسّا: ملكةُ قرطاج لا تملّ من صحبة ذاتها أبداً. فَعدُ ِ الآن إلى معبدك. إحرق ِال بَخورَ.
ثابرْ على صلواتك، فهي ملاذكَُ من حمّى الهواجس والتخيّلات.
الكاهن: وَلَعي بمولاتي هو الجزءُ الحميمُ من صلواتي، والمعبدُ اليومَ حيث مولاتي تكون .
أليسّا: إلحاحُكَ يغريني بالغضب. لقد اخْتلُِطَتْ عليكَ الأشياءُ، فَعدُ ِالآن الآن إلى معبدكَ ودعْني أصرّفْ شؤون مملكتي. وحدها وحدها مملكتي هي ذلك الآخَرُ الذي فيه خلاصي.
) من الجهة اليمنى للقاعة يسُمع وقعُ أقدام تقترب بوتيرة عجلى. يلتفت الكاهن الأكبر إلى مصدر الصوت بشيء من القلق والارتباك. يتنحنح وكأنما ليتمالَكَ نفسه ويسترد َّ حضورَه الكهنوتي الذي كان قد اسْتلََبَ منه وقارَه حوارُهُ الحميمُ مع أليسّا. تدخل آناّ حثيثةَ الخطى وفي نظراتها مزيج من الإصرار على الحضور والإعتذار المصطنع لمقاطعتها ما كان يجري بين المتحاوريْن. وقبل أن تبادرهما هي بالكلام، يتكلفّ الكاهن الأكبر هيئةَ مَنْ لا يزال ماضياً في حديثه مع أليسّا.(
الكاهن: كما كنتُ أقول يا مولاتي منذ لحظات، الأمر لم يعَدُْ يحتمل التسويف .أعني أمرَ البدء بالترتيبات لتقديم الذبيحة لآلهة قرطاج كما هو دأبنُا كل عام .
أليسّا )مجاريةً إياه ولكن بغير حماس(: أوه! ذلك الأمر! يخيلَّ إليّ أن الوقت لم يَف تُنََْا بعد لرفع ِالصلوات وإحراق ِالبخور ...
الكاهن ...ولممارسة طِقوس الذبيحة على نيةّ الشكر للآلهة لتبارك َ لنا الإنتهاء من بناء الجزء الأكبر من الحائط العريض .
أليسّا: طقوس الذبيحة نؤجّلها حتى يكتمل بناءُ الحائط، وحتى أكون أنا قد انتهيتُ من تأملاتي الخاصة بشأن تلك الطقوس .
الكاهن: أتمنى الراحة لمولاتي في تأملاتها، ولكنّ الشرائعَ التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا منذ نشوء جبيل وصيدا وصور تلحّ علينا بالوفاء لها والالتزام بمواقيتها التي لا تحتمل التبديل؟
أليسّا: وما الذي يمنعنا من تعديل الطقوس إذا نحن لم نسُْقِطْ منها الجوهرَ الذي من أجله وُضِعَتْ تلك الطقوس؟
الكاهن: الرعيةُّ، يا مولاتي! الرعيةُ لا يمكن تجاوزُ معتقداتها ولا الإستخفافُ بحنينها إلى تجديد صلتها بالسماء عبر مشاركتها في طقوس الذبيحة.
أليسّا: مشاركة الرعية في ممارسة الطقوس هو الأمر الذي لا خلاف عليه. طبيعةُ هذه الطقوس هي المحورُ الأساس لتأملاتي.
الكاهن: حذار مِن المتغيرّات وِالمستحدثات ِ ، يا مولاتي! الرعيةُ تخلع ظلالَ الشك والريبة
على كل جديد. ولقد سَرَتْ شائعاتٌ في أسواق قرطاج أنَّ الملكة لم تعَدُْ تعُيرُ آلهتنا اهتماماً.
أليسّا: لا تنبني الممالكُ بالشائعات.
الكاهن: ولكنها قد تهُدمُ بها يا مولاتي! الشائعةُ، كما يعرّفها لنا شاعر قديم، هي آخرُ ابنة ٍ ولدتهْا أمُّنا الأرضُ. تحبو هشّةً ثم تمشي خفيفةً ثم تعدو عدواً ثم تنخطف محلقّةً فلكأنهّا الطائرُ المجنّح. قوّتهَا تستمدهّا من قدرتها على اختطاف المسافات .
لها في كل ريشة ٍ أذُنٌُ وعينٌ وفي كل خفقة ِجناح ٍفمٌ ولسان. تزيّنُ الخبرَ الكاذبَ كما تهجّنُ الخبرَ الصادقَ. فلا تستهيننّ مولاتي بالشائعات.
أليسّا: ملكة قرطاج لا تستهين بشيء. ولكنها أيضاً لا تستهين بقانون التجد دّ الذي ع لمّنا إياّه تعاقبُ الفصول. سنتحاور في هذا الأمر في غضون أيام. فَلْيمَْ ض ِالكاهنُ الأكبرُ إلى معبده الآن، ولأمض ِأنا بصحبة آناّ إلى حجراتنا الخاصة.
) ينحني الكاهن الأكبر للملكة ويمضي إلى خارج القاعة عبر الباب الذي إلى اليمين .
للحظات تتبادل المرأتان نظرات صامتة(.
آناّ: لا أنت ِشرحت ِلي ولا أنا سألتُ. ولكنْ لأختي في السرّ أقول: مَنْ تعََ وَّدَ على العبادة ظلَّ بحاجة إلى معبود! وما لم تتزوّجي فسيظل المعجبون يحومون حولك ِ كما الفراشاتُ حول النور.
أليسّا: لن يغيرّ تحويمُهم من أمري شيئاً. أليسّا لا تتغيرّ أبداً.
آناّ: بل تغيرّ اليوم فيك ِشيء. إهتمامُك ِالغريبُ بالطروادي آنياسْ وبإبنه لَ فَتَ أنظارَ الجميع .
أليسّا: ترحيبي بهما كان من باب اللباقة الملكيةّ... ولكنْ خبرّيني الآن: كانت
عيناك ِ تلمعان بالأخبار حينما دخلت ِعليَّ، فما الذي كنت ِ تحملينه إليَّ؟ آناّ: صحيح! تذكّرتُ! لقد سألني اليوم عن أحوالك ِقائدُ الجند أدَونْ أكثر من مرة .
أليسّا: ولكنهّ اليوم بالذات رفع إليّ تقريره عن حالة الجيش! كلُّ ظنيّ أنه يتوددّ إليك بِحجّة السؤال عني.
آناّ: إذاً ما زلت ِ تظنين أنّه حائرٌ بين وَلَعَيْن ِ ؟
أليسّا: دعي لغد ٍ أمرَ أدَونْ، ولنمض ِإلى حجراتي الآن. أليسّا بحاجة إلى شيء مٍن الراحة قبل حلول موعد الوليمة .
آناّ: لا راحةَ لمن كان لها مثلُ هذا الجمال!
أليسّا: هياّ بنا الآن... هيّا بنا...
) تغادران القاعة عبر الباب الذي إلى اليسار(.
المشهد الرابع
)حجرة النوم الملكية. يتوسّط الحجرةَ سريرٌ مرتفعُ القوائم ِالمطعمّة برسوم دقيقة وألوان زاهية. على الحائط الذي خلف السرير تنسدل ستائرُ أرجوانيةّ اللون وكأنما لتضفي على المكان حميميّةَ الإنتماء إلى المدينة الأم صور، والتي كان قد اكتشف أه لهُا أسرارَ هذا اللون وأشاعوه في ملابسهم الفاخرة وفي أثاث قصورهم وداراتهم. إلى يمين السرير يقوم تمثال نصفيّ لأشرباس وإلى جانبه تمثال لأدونيس. مرآةٌ دائريةّ مث بّتة داخل إطار خشبيّ فخم تزينّ الحائطَ إلى الجهة اليسرى من السرير. فوق المرآة مباشرة ً ينتصب قَرْ نا غزال.
تحت المرآة تقوم طاولة مخصّصة لأدوات الزينة النسائية وكرسي مطعّم بالرسوم والألوان. إلى أقصى يسار الحجرة يقوم باب يؤدي إلى حجرة جانبية. وإلى أقصى اليمين يقوم باب ينفتح على ممرّ طويل.
أليسّا تتأمل نفسها في المرآة. هنيهة صمت تمرّ وهي على تلك الحال. بكفّ يدها اليسرى تفرك جبينها فركاً لطيفاً ثم تغطّي وجهها بكلتا يديها ثم تخفضهما ثم تتنهّد تنهّدةً عميقة .
فجأة تبدو وكأنهّا تخاطب نفسها في المرآة.(
أليسّا: أوََلَعٌ هو الذي بي أم أنه الخيالُ ينسج لي من كيده أحابيلَ الولع؟ يحيّرني الأمرُ، أمري، فعلى بعضها مضمومةٌ أضلعي، وإذاً فمن أين ينسرب إلى حنايايَ هذا الطاريءُ الغريبُ، وسوسةً ملحاحةَ الهمس ِشلالّةَ اللهََّف ؟ِ
)ترتد بها قدماها عن المرآة خطوات ٍقليلة، ثم تستديران بها إلى حيث التمثالُ النصفيّ .
تمضي صوبه وتخاطبه بلهجة الأسى والرجاء وكأنمّا هي في حلم.(
أليسّا: أيهّا المغ يبَُّ عني الحاضرُ فيَّ أبداً، رحماكَ ! رحما كَ! جئتكَُ أستجير بذكراكَ من الطاريء الغريب، فَأجَِرْني وبينّْ ليَ الرؤيا حتى لا ينخطف القل بُ مني إلى مراتع الندّم. أشرباسْ! أشرباسْ! ) تنفض رأسها يمنة ويسرة نفضات النفيِالنفي ِ والإستنكار(.
أليسّا التي روّضتْ بإرادتها إرادةَ الغربة فأقامت لشعبها من حلمها وطن اً... أليسّا التي والتي والتي... يروّضها اليوم طاريءٌ غريبٌ على قلبها طَرَأ؟َ معا ذَ الوفاء!
معاذَ الذكرى!
)وكأنما المخاطَبُ في التمثال النصفيّ يستجيب لنغمة الأسى والرجاء في صوت أليسّا فينسرب من خلف التمثال على هيئة طيف مسربل بالبياض. يدور حولها دورتين ويخاطبها بلهجة من يطيّب خاطرَ طفل أربكه إحساسُه بالذنب.( الطيف: لا عليك ِ ،يا أليسّا، فالذي بك ِأشبهُ ما يكون بنزوة العين .
أليسّا: ولكنمّا العين هي المعبرُ... معبرُ الأشياء إلى سرائرنا.
الطيف: إطمئنيّ، فلا ثبات لنزوة العين في القلب لأنها كالسحابة الطارئة على الأفق، تملؤه ثم تعبره ثم تغيب عنه لتصبح نسياً منسياًّ.
أليسّا: السحابةُ تملؤني، يا أشرباسْ، وكلّ خوفي ألّا تعبرني أبداً.
الطيف: لا بدّ لها من العبور لأنّ السحابةَ قَدرَُها الحركةُ، يا أليسّا.
أليسّا: والحركةُ فضاؤها الزمنُ، فإنْ شِيءَ للزمن أن يتوقفّ توقفَّتْ معه السحابة .
الطيف: وسوسةُ المستحيلات! فليس من دأب الزمن أن يتوقف ولا حتى أن يتر يّث .
أليسّا: بل توقفّ الزمنُ مرتين: حينما رحل أبي إلى عالم الظلال وحينما رُ حِّ لْتَ أنتَ .
الطيف: بل نحن اللذيْن توقفّْنا وليس الزمن.
أليسّا: من السهل عليكَ أن تقول ذلك لأنكَ خارج الزمن. أمّا أـنا التي أسكنه ويسكنني، فلي غيرُ هذا القول.
الطيف: مسكونةٌ أنت ِ بالخوف، يا أليسّا، فلماذا؟ لماذا كل هذا الخوف؟ أليسّا: لأنيّ، في أعماقي، أحسّ بالزمن... أحسّ بأنه...
الطيف: إذ اً عجّلي بإصلاح السفن ليرحل الطاريءُ الغريبُ إلى حيث يناديه قَ درَُ ه. إذذاكَ إذذاكْ يترحرح الزمنُ بحركته وتترحرح بطمأنينتها أليسّا.
أليسّا: ولكنّ إصلاح السفن مرهونٌ بهمّة بناة السفن. وهؤلاء الآن منصرفون إلى إتمام عملهم في أحواض أسطولنا التجاري .
الطيف: حذار ِأليسّا! فرحيلُ الطاريء الغريب هو الأولويّة الآن.
أليسّا: مستقبلُ قرطاج رهنٌ بأسطولها التجاري. وانشغالُ بنَُاتِه ِ بتحديثه ِهو أوَْلى الأولوياّت.
الطيف: حددّي أولوياتك ِ ، يا أليسّا! التذبذب بين هذه وتلك ليس من شيم الملكة.
أليسّا: لا التذبذبُ من شِيَمي ولا الضعف! ولكنّ الطاريء الغريب يذكّرني بتشرّ دي حينما
حكمتْ عليَّ الضرورةُ بالهروب من مدينة أمي وأبي.
الطيف: لن تكوني أبداً في موضع اللوم لأنك ِتخفّفين عنه عبءَ غربته. وعونكُ ِله في إصلاح سفنه إنما سَينُْظَرُ إليه على أنه باب من أبواب الرأفة. المشكلة تكمن في غياب النيّة...
أليسّا: أيةََّ نيةّ ٍ تعني؟
الطيف: نيةَّ الإسراع في تجهيزه ِللرحيل.
أليسّا: إِنْ تكَُن ِالغيرةُ قد فعلتْ فعلها بكَ فتذكّرْ أنّ وعدي القديم لكَ قد وفيتُ به أنا، وذلك بصديّ المعجبين واحداً بعد واحد، سنةً بعد سنة.
الطيف: كفاك ِ التفافاً على جوهر الحوار وحددّي أولوياتك ِ .ملكةٌ بغير قرار مملكة ٌ منذورةٌ للدمار.
) يتحرك الطيف مبتعداً عن أليسّا ويلتفّ حول التمثال النصفيّ ليختفي تماماً عن نظرها. وما إن تنفرج شفتاها عن تنهّدة عميقة حتى تكون عيناها قد التقطتْ ملامحَ آناّ واقفةً بالباب المؤديّ إلى الحجرة الجانبيةّ. آناّ تبادرُها بالكلام بلهجة ٍ تنمّ عن رغبتها في تبرير وجودها هناك(.
آناّ: إستلقيتُ أستريحُ هنيهةً ولكنّ السرير جفاني.
أليسّا: فنهضت تِستكشفين سرائرَ روحي؟!!
آناّ: الهمهماتُ سَرَتْ إلى أذنيّ فظننْتُ أنّ أحداً دخل عليك ِ .
أليسّا: أعذارُك ِأوهى من حبال الهواء! ولكني، على كل حال، حسبتكُ ِ أوّل الأمر طيفاً يقف ببابي.
آناّ: بل أنا الحقيقةُ، يا أليسّا.
أليسّ ا: بل ما أشبهك ِاليوم بالطيوف... تظهر لنا وتختفي أنىّ تشاء!
آناّ: طيوفكُ تِستدرجينها أنت ِ من سرائر روحك ِ .فما هي إلّا الظلالُ الحميمة ُ للخفيّ من رغباتك. وما هي إلّا الأصداءُ العميقةُ لمدافعاتك. ملكةُ التناقضات أنت ِ يا أليسّا!
أليسّا: بل الملكةُ التي تجهد لحماية مملكتها بحماية نفسها من الأهواء الطارئة .
آناّ: كلُّ الأهواء طارئة. وَلَعُ بِرْبارْ بك ِ ، و ولعُ إيرباسْ، وحتى ولعُ الكاهن الأكبر... كلُّ ذا كان طارئاً أوّلَ ما كان. بِرْبارْ أسقطتِه ِ من لائحة الخيارات. إيرباسْ تماطلينه باللين وتحالفين عليه مرورَ الزمن. الكاهن الأكبر تحيلينه إلى صلواته. أدونْ تختزلينه بمقولة التذبذب بين وَ لَعَ يْن. عزلةُ روحك ِ لم يخترقها منهم أحد، ولذلك ظلوّا عن قلبك ِغرباء. وحده الأميرُ الطرواديّ اخترق اليوم حجابَ عزلتِك ِ. ولأنكّ ِ على يقين من ذلك، تملكَّك ِ الخوفُ وهُرِعْت ِإلى حجرتك ِ تحاورين الطيو فَ التي ليس لها أن تقرّر مَسَارَ حياتك.
أليسّا: لا أنكر أنّ الأمير الطروادي وقع في نفسي موقعاً حسناً.
آناّ: رأيتكُ ِ مملوءةً به عيناك ِ .وسمعتكُ ِ تخاطبينه بحميم ٍ من العبارات التي فتحتْ عليكعليك ِ بالدهشة عيونَ الحاضرين.
أليسّا: ذلك ما كانت تقتضيه اللباقةُ الملكيةُ تجاه الضيف الوافد علينا من مملكة عظيمة.
آناّ: ما زلت ِتكابرين! قولي إنّ المرأةَ فيك تِشََهَّتْ محاسنَ الرجل فيه .
أليسّا: محاسنهُُ وضيئةٌ في كل عين. ذلك الصوتُ النابضُ بالرجولة! تِ لْكُ م العينان اللامعتان ِ بالذكاء! وخصلاتُ الشعر تلك الحميمةُ التموّجات! وذلك الوج هُ الذي يندلق منه النور!... ألم يفُْتتَنَْ بكلِّ ذلك الحاضرون والحاضرات؟ كلنّا أخُِذْنا بسحره، وكان ذلك كلهُُّ عفوَ اللحظة.
آناّ: ولكنهّا اللحظةُ التي لم تنته ِ بالنسبة لأليسّا! لقد ذبُْتِ فيها، يا أختاه، و رُ حْت ِ تخاطبينه وكأنْ ليس في القاعة سواكما من أحد."لآنياسْ أن يتمنىّ ولألي سّا أن تستجيب!" ذلك بالضبط ما قلُْتِهِ له. وكيف لي أن أنسى التلميحَ في
قولكِ الآخر: " ما أسرعكَ في ابتغاء الرحيل! وكأنمّا الريحُ هي الصوتُ الوحي دُ الذي يناديكَ!". طبعاً صوتكُ كِان أقوى من الريح في ندائِك ِ له ليظلّ بقربك!
أليسّا: لا أنت ِاسترحت ِفي حجرتكحجرتك ِ ولا أنا في سريري! فلنسترخ ِالآن شيئاً قليلاً قبل حلول موعد الوليمة .
) وقبل أن تتمكن آناّ من قول ما يجول في خاطرها، تسُمع أصوات نسائية متقطعة تقترب من الجهة اليمنى للحجرة، يتخللها صوتٌ لصبيّ يرتفع وينخفض مراوحاً بين نغمة اعتراض ونغمة إلحاح. تستجيب أليسّا للدقَةّ الخفيفة على الباب باقتضاب ٍ آمِر:
"أدْخلْ!". ينفتح باب جانبي ويندفع منه إلى الحجرة الصبيُّ أسكانيسْ، والمربيّ ةُ الممسكة بيده، وخلفهما امرأتان يبدو من هيئتهما أنهما مساعدتان للمر بّية(.
أليسّا: أسكانيسْ! حبيبي! ما الذي أتى بكَ إليَّ الآن؟ هل آذاكَ أحد؟ هل أصابكَ أي مكروه؟
المربيّة: إطمئني، يا مولاتي، فلم يؤذه ِأحد ولم يصبهُ أيّ مكروه.
أليسّا: إذاً ما الذي جرى؟ عجّلي خبرّيني. حضورُكم المفاجيء أقلق روحي.
أسكانيس: أخذوا أبي وتركوني لوحدي معها .
المربيّة: قلنا له إنّ أباه ذهب إلى حجرته ليرتاح قليلاً من عبء السفر، ولكنه أصرّ على أن يذهب إليه. ولمّا أخبرناه أننّا لن يسُمح لنا بذلك، راح يضرب الأرض بقدميه ويصرخ أنْ خذوني إذاً إلى الملكة.
أسكانيس: أنت ِقلت ِلي أنك ِستعتنين بي حتى تصل من السفر أمي .
أليسّا: طبعاً يا أسكانيسْ، أنتَ الآن في بيتكَ وبين أهلك. والمربيةُ ونسوتهُا هنّ صديقاتكُ. فلا تخفْ ولا تقلقْ.
أسكانيس: إذاً سأبقى معك ِ كل الوقت؟
أليسّ ا: بل معنا،يا أسكانيسْ. وأختي آناّ ستتولىّ رعايتكَ بطريقتها الخاصة!
آناّ: طبعاً! وبكل تأكيد! القلعة كلهّا مطرحُكَ ومسرحُكَ، يا أسكانيسْ!
أليسّا: وستأتي إليكَ آناّ بمؤدِبّ ٍيتولى تعليمكَ.
أسكانيسْ: تعليمي ماذا؟
أليسّا: الحسابَ واللغات وِالفلكَ وبعضَ النصوص من الأدب الإغريقي وأدب فينيقيا .
أسكانيس: كل ذلك من أجلي أنا؟
أليسّا: هذا ليس كل شيء. ستحرص آناّ على تأمين مدرّب يعلمّكَ فنونَ الفروسية ويسليّكَ بفنون الصيد: صيد البرّ وصيد البحر.
أسكانيس: إذا رضيَ أبي...
أليسّا: لا عليكَ من أبيكَ فأليسّا ستحدثّه الليلة بكل الأمور .
أسكانيس: وماذا أفعل الآن؟
أليسّا: نحن الكبار نستعدّ للوليمة التي تقيمها قرطاج على شرف أبيكَ ورفاقه .
أسكانيس: إذاً أذهبُ معكم لأرى أبي.
أليسّا: بل سيوافيكَ أبوكَ إلى حجرتكَ مباشرةً بعد انتهاء الوليمة. إذهبْ أنتَ مع المربيّة، ولسوف تستحضر لكَ من الجوار صِبْيَةً من عمركَ تلعب معهم وتلهو.
المربيّة: هياّ بنا، يا أسكانيسْ. إعطني يدكََ ولنتركْ مولاتي تحضِّر نفسها للوليمة.
) تمسك بيده ويغادران الحجرة عبر الباب الذي منه دخلا. تلحق بهما مساعدتا المربيّة.
أليسّا وآناّ تتبادلان نظرات صامتة.( أليسّا: لنسترخ ِالآن قليلاً.
آناّ: زمنُ الإسترخاء ِانتهى!
أليسّا: لا تتفوّهي بأية كلمة! لا أريد أن أسمع تعليقاتك ِبعد الآن!
)تتبسّم آناّ وكأنمّا لنفسها ثم تمضي الهوينى نحو باب حجرتها، تاركةً أليسّا وحيدة ً تقلبّ عينيها بين المرآة والتمثال النصفي والباب الذي خرج منه أسكانيسْ.(
المشهد الخامس
) المكان الآن هو القاعة الفسيحة التي تجري فيها أحداث المشهد الأول. التمثال النصفي لأشرباس وتمثالا عشتروت وبعل لا تزال ثلاثتهُا في نفس الأمكنة المخصصة لها. وكذلك هي الأسلحة التي تزيّن الحائط—السيف والرمح والخنجر والترس، بالإضافة إلى قرَْنَيْ الغزال. واستعداداً للوليمة، فلقد أضُيف إلى كل ذلك المشاعلُ المضاءةُ، مثبتّةً في محامل أقيمت لهذا الغرض في زوايا القاعة. إلى الجهة اليسرى ترُى منضدةٌ مستطيلة عليها ثلاث آلات موسيقية من الطراز الفينيقي المعروف:
chalcophone وال idiophone والناي. تتوسط القاعةَ الطاولةُ المعدةَُّ للوليمة ،ويرُى الخدمُ منهمكين في تنضيد صنوف الأطعمة وسلال الفاكهة وكؤوس النبيذ على طول المائدة وعرضها. في وسط الطاولة يوضع صِدْرٌ مُدوََّرٌ عليه غزال مشوَ يّ. إثنان من الخدم يوزّعان المقاعد حول المائدة المستطيلة.
من الجانب الأيمن يدخل إيرباس، عن يمينه الكاهن الأكبر، وعن يساره أدونْ ، وخلفهم سربٌ من المدعوين والمدعوات. ينتشر الرجال والنساء في أرجاء القاعة، وقد انهمك بعضهم وبعضهنّ في أحاديث لطيفة ينعكس أثرُها في ابتساماتهم وضحكاتهم الخافتة.
البعض الآخر من الرجال والنساء يطوفون بالمائدة، يتفحّصون ألوان الأطعمة والفاكهة ويتبادلون التعليقات المسليّة. يتوقف شابان وصبيتّان بالقرب من الآلات الموسيقية، يتفحّصونها ويتبادلون الآراء حول طبيعة الأنغام التي تصدر عنها، وحماس تهُم للموسيقى تنبض بها كلُّ جوارحهم.
في هذه الأثناء، وكأنما عن نيةّ مبيتّة، ينسحب إيرباس والكاهن الأكبر وأدو نْ من بين الجمع ويتخذون لأنفسهم مكاناً منزوياً، وقد بدا على وجوههم التفكير العميق(.
إيرباسْ: كنتُ أقول قبل دخولنا القاعة أنني لا أرى مبرّراً لإقامة هذه الوليمة على شرف أمير مشرّد.
أدونْ: ولكنكَ قبلتَ الدعوة ولم ترحلْ بعد المشاداة التي كانت بينكَ وبين مولاتي الملكة .
إيرباس: للمشاداة أسبابهُا. ولكنْ خبرّاني عن سبب وجيه واحد يستوجب إقامةَ هذه الوليمة .
الكاهن: إن تكنْ لكَ أسبابكَُ في قبول الدعوة فللملكة ِأسبابهُا في إقامة الاحتفال .
إيرباس: التوريةُ في الإجابة ليست جواباً.
الكاهن: وإن لم أكنْ متحمّساً لهذا الاحتفال، إلّا أنني أفهم انسياقَ الملكة وراء إحساسها باللحظة التاريخية التي توائم بين تشرّدِها من صور وتشرّد آنياس من طروادة.
أدونْ: ولقد تشرّدْنا معها أنا وأنتَ، ولكنّ ذلكَ لم يحمّسْنا للاحتفال بمشرّد غريب عن أمّتنا. ألا يكفي أنّ الملكة، ونحن معها، أخذْناهم بعين الرحمة حينما هبطوا على شواطئنا؟ ألا يكفي أنها وأننا سنقدمّ لهم العونَ لإصلاح سفنهم وإتمام رحلتهم إلى أرض الشمال؟
إيرباسْ: تقول ذلك في غياب مولاتكَ! لِمَ لَمْ تصَْدقُْها القولَ وتعترض حينما ذكُِرَ ت ِ الوليمة؟ُ
أدونْ: تتهّمني بالتخاذل؟!
إيرباس: لا أتهّمكَ بشيء. ولكني أشَْتمَُّ رائحةَ مراعاة ِالخواطر... سياسة ِالبيْنَ بَيْن!
الكاهن: ليس الوقت ملائماً لهذه المشاحنات. ولْنَقلُْ أنّ سببَ الوليمة نزوةٌ طرأت على خيال مولاتي .
إيرباس: حسناً أنكَ تخطّيتَ لغةَ التوريات.
الكاهن: هَمُّنا الآن هو أن نرصد الشائعات ِالتي قد تولدّها ملاطفتهُا للأمير الغريب .
أدونْ: وإذاً فما الخطّةُ الآن؟
إيرباس: فات الأوانُ الآن، فها موكبُ الملكة يطلّ علينا من هناك.
)من باب في الجانب الأيسر من القاعة تدخل أليسّا وآنياس، وخلفهما حَشْد ٌ من الناس بينهم آناّ وسِرْجَسْتسُْ وإِلْيونِيَسْ. تتجه أليسّا بضيفها مباشرة إلى مائدة الوليمة وتأخذ كأساً يملؤها لها بالنبيذ خادمٌ يلازمها طوال الوقت. وبإشارة منها، يملأ خادم آخر كأساً ويقدمّها إلى آنياس، منحنياً له انحناءة خفيفة. لهنيهة أو هنيهتين تجول عينا أليسّ ا في أرجاء القاعة تتأملان الضيوف الذين بدورهم انْسَرَقَتْ أنظارُهم نحوها فهم في حالة ترقّب. فجأة تخاطب الحضور بصوت مفعم بالثقة(.
أليسّا: الليلةَ يحتفل التاريخُ بالتاريخ وتقف طروادةُ وقرطاجُ على مشارف عهد جديد لم تتحددّْ معالمه بعد. طروادة، للأمير آنياس وصحبه، هي اليوم ذكرى المجد الذي كان. ولكلِّ الذين رَحَّلتَهُْمُ الضرورةُ عن مدينتهم الأم صور، قرطاجُ اليومَ هي الحاضرُ والمستقبل. قرطاجُ هي الحلمُ الذي تحققّ، وحبذّا لو حُلمُُ الطرواديين
بالمستقبل امتزج بحلمنا هنا، ههنا، على هذه الأرض، وترُِكَ الشمالُ كلهُُّ لرياح الشمال. أيها المحتفون بأميرنا والمحتفيات، هلمّوا إليّ، تناولوا كؤوسكم وارفعوها لنشرب نخب الرؤيا التي قد تولدُّ من تمَازُج ِأمّتيْنا حركةً جديدة في التاريخ.
) غمغمات وتمتمات تسري في أنحاء القاعة بينما الضيوف يتناولون كؤوسهم من على أطراف المائدة. واستجابةً لإيماءة ِأليسّا برفعها يدها بالكأس، ترتفع الأيدي بالكؤوس ويشرب الجميع-- باستثناء إيرباس والكاهن الأكبر وأدونْ. تلاحظ أليسّا انزواءَهم فتبتسم لهم وترفع يدها بالكأس من جديد بإيماءة من رأسها ويدها أنَْ تفضّلوا وشاركوني هذه اللحظة. يتبادل الرجال الثلاثة النظرات ثم يتقدمون رويداً رويداً إلى حيث تقف هي. يسارع الخدم إلى تقديم الكؤوس لهم فيتناولونها ويرشفون. وجوههم الصامتة تستفزّ نظرات التساؤل في عينيْ أليسّا.(
أليسّا: ما للصمت المريب يخيّم عليكم ونحن في عشيةّ احتفال؟ الكاهن:أنظري معي، يا مولاتي .
أليسّا: أنَْظُرُ أين؟
الكاهن:إلى هناك. إلى تمثال أشرباسْ!
)أليسّا وإيرباسْ وأدونْ يلتفتون صوب التمثال.( أليسّا: وما شأنهُ التمثال؟
الكاهن: كأنيّ به يهتزّ من عَجَب ٍأنّ مولاتي تبَُيِّتُ اليوم لشعب ِقرطاجَ ما كانت تأباه لقرطاجَ بالأمس.
أليسّا: أفَْصِحْ! أفصحْ عمّا دهاكَ ولا تحدثّنْي بالألغاز.
الكاهن: تمَازُجُ الشعوب، يا مولاتي، سيلغي الهويةَ القرطاجية التي من أجلها لا نزال نناضل منذ وطئنْا هذه الأرض. وأشرباسْ، الغائبُ الحاضرُ أبداً، لكأني به يتساءل عن مصير العهد الذي كنت ِقطعتِه ِله بالوفاء لذكراه!
أليسّا: هويةُّ قرطاج مصانةٌ بملكة ِقرطاج. وأشرباسْ كان دائماً أرحبَ أفُقُا ً من سواه!
إيرباسْ: هويةُّ قرطاج في خطر إذا انتهكتهْا هويّةُ عابري السبيل.
أليسّا: أليسّا كانت ذات يوم عابرةً للسبيل.
إيرباس: ولكنهّا لم تعبر. قَدرَُها كان أن تبقى لتنشيء لها ولشعبها مملكةً، هنا، على هذه الأرض.
أدونْ: وإذا كان لهذه المملكة أن تتوسّعَ وتحافظَ على هويتّها في آن ٍمعاً فما عليها إلّا أن تتوسّل قدراتهِا العسكرية الذاتية .
أليسّا: ظاهرُ كلامكم طيّبٌ وغيور. باطنُ معناه هو ما سأحتفظ به لنفسي! الليل ةَ، أيها السادة، سنستمتع باحتفالنا بالبطل الطروادي وصحبه. )لآنياسْ( أيها الضي فُ الأمير، لقد كنتَ وَعَدْتنَا أن تقصّ علينا بعض رحلاتك في زمن التيه الذي انتهى بكَ إلينا.
آنياس: لَشَدَّ ما تسعدني مرضاةُ مولاتي. ولكنّ كلامَ السادة يوحي إليّ بأنْ لا أوسّعَ مساحةَ حضوري بينهم باستحضار رحلاتي إلى هذا البلاط.
أليسّا: الليلةُ ليست بليلة الأعذار. أليسّا تلحّ على معاينة ذاكرتكَ. قصصُ الأسفار سوف تكون وليمةً في الوليمة. ولعلهّا أيضاً أن تقرِّب المسافات بِين تجربتيْنا. هياّ! هياّ!
ولا تخذلَنَّ أليسّا التي تحتفي بك.
آنياسْ: تسَُدُّ عليَّ مولاتي كلَّ الطرق. حسناً إذاً، هكذا تبدأ قصّتي. بعدما طال حصارُ اليونانيين لطروادة، قدرّتْ آلهةُ السماء القهرَ لمدينتنا، وإن كان يستحقّ أهلهُا غيرَ ذياّك القدر.
الكاهن: عجباً لكَ، أيها الأمير، تتطاول على مشيئة الآلهة! بل لا ضرورة للعجب، فقبلكَ تطََاوَلَ الطرواديُّ الآخرُ على قدسيّة الضيافة فاختطف زوجةَ مُضيفه!
أدونْ: بل أليس تغاضيكم عن استهانة بارِسْ بقدسية الزواج هو خطيئةَ المدينة ِالتي جَرَّتْ على نفسها غضبَ السماء؟
إيرباسْ: أم أنّ اختطافَ النساء شريعةٌ في ثقافتكم؟
أليسّا: ما هذا التحوّلُ الغريبُ في أدبيّاتكم، أيهّا السادة؟ رفقاً بضيفنا ثم رفق اً. وَلْنَدعَْه ُ يَرْو ِقصّته، فذلك من آداب الضيافة. )لآنياسْ( أكملْ، أيها الأمير الشجاع، وأتحفْنا بعجائب رحلاتك.
آنياسْ: إذاً قدُِرَّ علينا المنفى، نحن الذين نجوْنا من ويلات الحرب. سفننُا جابتْ بنا بحارَ الليل والنهار. طيفُ بطلنا هكطورْ كان الرباّنَ الذي ح رَّكَ بإرادته مجاذيفَنا. وحينما أدركَنا التعبُ نسينا وصيّتهَُ بمواصلة الرحيل إلى أرض الشمال. ورس وْنا، أوّلَ ما رسوْنا، على شاطيء أرض كٍان يربط أجدادنَا بأهلها صداقةٌ قديمة. قرّرنا لتوّنا أن نبني على تلة ٍ مدينةً لأنفسنا. هَمَمْ نا بقطع الأشجار لنقيم من جذوعها سوراً، ففاجأتنْا معجزةٌ أذهلتنْا. من لحاءِ شجرة ٍ ترقرقتْ قطراتُ دم. ومن داخل اللحاء هجم علينا صوتُ إنسان، طالعاً علينا من قلب الموت. أخَْبَرَنا أنه طرواديّ الأصل قتله وصحبَه القائدُ الإسبارطيُّ آجامَمْننُْ وتركهم هناك لتختلط جثثهُم بجذور الشجر وتنمو مع جذوعها وكأنها جزء منها. تملكََّنا الرّعبُ، ولكننا استخرجْنا الجثثَ ودفناّها في طقوس تليق بأهل مدينتنا العظيمة. طيفُ هكطورْ استحثنَّا من جديد فهرعنا إلى سفننا التي انسابتْ بها أشرعتهُا في بحار الليل والنهار.
إيرباسْ: عجباً أنكَ تصدقّ، أيها الأمير، عجائبَ حكايتكَ! دمٌ يترقرق من لحاء الشجر!
الموتى يحدثّونكم أخبارَهم! أيَّ خرافات تقصّ علينا؟
أدونْ: خيالكم الذي أرهقتْه هزيمتكُم في طروادة لا شكّ هَيأََّ لكم هذه التصورات العجيبة!
الكاهن: بل ربما كانت تلك التصوراتُ نوعاً من الرؤيا، إشارةً لكم أنْ لا تتوقفوا بأية أرض حتى تبلغوا أرض الشمال!
آنياسْ: تصوّرات ٍ كان ذلك أم رؤيا، آنياسْ يلتزم حكايةَ ما رأى وما سمع.
أليسّا: شجاعتكُم، أيها الطرواديون، لَشَدَّ ما تجلّتْ في دفنكم موتاكم، مُتحََدِيّنَ الهلعَ الذي أضمره لكم المشهدُ العجيب. فلنشربْ، أيها الجمعُ الحبيبُ، نخبَ شجاعة آنياسْ وصحبه!
) ترتفع الأيدي بالكؤوس. يتبادل الكاهن الأكبر وإيرباسْ وأدونْ همسات الإمتعاض بينما يشرب الجمعُ النخبَ المقترََح. أليسّا تقترب أكثر فأكثر من آنياسْ، تحادثه للحظات بشيء يشبه الهمس ثم تخاطب الحضور(.
أليسّا: أيها المحتفون معي بأبطال طروادة التفتوا إليَّ. هُوَ ذا الأمي رُ الوضيءُ تضيء ملامحُهُ علينا فضاءَ الليل، وهو ذا صوتهُُ الحميمُ يستحضر لنا المحطةَ الثانية من رحلاته. )لآنياس( أفَضِْ علينا من ذكرياتكَ، أيها الوضيءُ الأمير.
) في صمت غاضب، يتبادل إيرباسْ والكاهن الأكبر وأدونْ نظرات الاستنكار.( آنياسْ: محطّتنُا الثانيةُ كانت جزيرةً مقدسة. خَفَّ لإستقبالنا ملكُها الذي كان يعرف أبي.
فرَِحْنا وأسرعنا إلى داخل المعبد فرفعْنا صلوات الشكر لأبولو ورجوناه أن يهبنا الفرصةَ لبناء مدينة مٍُسَوَّرَة ٍ لنا على تلكم الأرض. ولكنْ ما إن ارتفعتْ أصواتنُا بالرجاء حتى اهتزّت ِالجزيرةُ ومادتْ بنا الأرضُ يميناً وشمالاً. وكأنما با بُ المعبد ِ انْشَقَّ فجأةً فَانْدفق علينا منه صوتٌ آت مٍن فجّ عميق، يأمرنا بالرحيل نحو جزيرة كْريتْ. أطعْنا الصوتَ وانسابتْ بنا سفننُا حتى رسونا في الجزيرة المرجوّة. أقمْنا هنالك شهوراً حتى بَغَتنَا شيءٌ كالطاعون، أهَْ لَكَ النبتَ والشجرَ والماشية. أحاطتْ بنا حيرتنُا حتى كانت ليلةٌ اكتمل فيها القمر. في نومي تسللّتْ إليَّ الرؤيا أنْ إنكَّ أخطأتَ بالإقامة على هذه الجزيرة فجلبتَ إليها من حيت لا تدري الطاعونَ المقيت. إنتفضتُ كالمجنون من النوم وناديتُ بصوت مرتجف أنْ هلمّوا إلى السفن قبل أن يقضي الطاعونُ علينا وعلى أهل الجزيرة الطيبّين.
الكاهن: حسناً فعلتم برحيلكم عن الجزيرة المقدسة، فوجودكُم على أرضِها كان لعن ةً عليها!
إيرباسْ: ولعنةً سوف تكونون على كل أرض ٍستنزلون بها حتى تبلغوا أرض الشمال!
أدونْ: و لَخَوْفي عظيمٌ أن يحلّ بقرطاج مِثلُْ الذي حلّ بتلك الجزيرة المقدسة إذا أنتم اطمأننتم إلى هذه الأرض ومكثتم فيها زمناً لم تأذنْ لكم به آله تكُم!
أليسّا: ما أعجب أمركم، أيها السادة! تحيكون بألسنتكم نذُرَُ الشؤم ِ بدل أن تهنئوا الأمير وصحبَهُ بالسلامة من أعباء رحلاتهم وأخطارها.
آنياسْ: لا عليك ِمِن خواطرهم، يا مولاتي، فإنهم مثلنا بشر .
أليسّا: فلنشربْ إذاً نخبَ لباقة ِالأمير وِ حُسْن ِ روايته لعجائب رحلاته .
آنياسْ: لمولاتي خالصُ الشكر مني، ولكني سأكتفي بما رَوَيْتُ خشيةَ أن أضُْجِ رَ ضيوفَك ِ بما لا يحبوّن سماعه.
أليسّا: أبداً أبداً ذلك لن يكون! سنشرب نخبَكَ مرةً بعد مرة وسَتطُْرِف نُا بالمزيد من غريب مصادفاتك. أيها الجمع الحبيب، إرفعوا معي كؤوسكم ولنشربْ نخبَ لباقة ِ الأمير.
) ترتفع الأيدي بالكؤوس. مرةً جديدة يتبادل إيرباسْ والكاهن الأكبر وأدونْ همسات الإمتعاض(.
أليسّا: خبرّْنا الآن، أيها الأمير، كلَّ ما حلّ بكم بعد مغادرتكم الجزيرة المقدسّة.
آنياسْ: أمّا وقد أصرّتْ مولاتي، فاسمحوا لي أن أعود بخيالي إلى تلك السلسلة من الجزر التي كانت مأهولةً بكائنات غريبة على هيئة الطير. كانت أشبه شيء بالخفاّش. مخالبهُا شرسةٌ ووجوهُها مُصْفرََّةٌ من الجوع. لم نكنْ نعلم بوجودها أوّل الأمر. و لكنْ ما إنْ وطئنْا الأرضَ وأحرزتْ لنا سيوفنُا قطيعا ً من الماعز وشَ رَعْنا نستمتعُ بالوليمة حتى انهلتّْ علينا من أعالي التلال الكائناتُ المجنحَّة ُ واختطفتْ ذبائحَنا كلهّا. صرختُ بجنودي أنَ ِاستعدوّا للقتال. صوتٌ عميقٌ هبط علينا من لا مكان يحذرّنا أنّ الكائنات ِ المجنحَّةَ هي رسلُ الإنتقام السماويّ، ترسلها الآلهةُ أنىّ تشاء، تحذرّ بها من البشر الذين أهملوا أو تناسوا القَ درََ الذي رَسَمَتهُْ لهم. آخرُ ما أنذرَنا به ذلك الصوتُ كان أنْ عجّلوا بالرحيل، فليس بمقدوركم قتالُ هذه الرسل.
الكاهن )لآنياس(: أرأيتَ كيف أنَّ أسفارَكم لم تكن إلّا سلسلةً من اللعنات؟!
إيرباسْ: ... ففي كل محطة كانت تلفظكم الأرضُ!
أدونْ: طَهِّروا أرواحَكم بدوام الرحيل!
إيرباسْ: ولسوفَ نقدمّ لكم العونَ كلهّ لإصلاح سفنكم!
أدونْ: طهّروا أرواحكم وجنبّوا قرطاجَ لوُثةَ َ اللعنة ِالتي لا تنفكّ تلفظكم من أرض إلى أرض!
أليسّا )بحدةّ(: بارِسْ انتهكَ حرمات مُِضيفِه ِ ، وأنتم، أيها السادة، تنتهكون آدابَ الضيافة! فإنْ تكنْ جَرَّتْ خطيئتهُُ الدمارَ على طروادة، فَلَخَ وْفي عظيمٌ أن تجرَّ إساءتكُم لمعنويات ضيفنا الويلَ على قرطاج!
إيرباسْ: بل نحن نقدمّ له العونَ لإنقاذ نفسه .
الكاهن: ونبذل له النصيحةَ لينصاعَ إلى مشيئة آلهته فينجو.
أدون: مولاتي تسيء الظنَّ بنا وتنسى المودةَّ التي نكنهُّا لها.
أليسّا: فلا تنسوا إذاً المودةَّ التي أكنهّا أنا إلى أميرنا الضيف.
إيرباسْ: عجباً! عجباً! أتَعَْدِلينَ مودتَّكَ ِللغريب الطاريء عليك ِبمودةّ ِ الذين بذلوا لكلك ِ ما مَكَّنَك ِ من الاستقرار في هذه الأرض؟
أليسّا: أليسّا لم تكنْ لتنكرَ يوماً فضلَ إيرباسْ على أهل قرطاج. أنتَ اقتطعتَ لهم من مُ لْكِ كَ الأرضَ التي شيدّوا عليها مدينتهَم الجديدة. وهم منحو كَ المودةَّ والتقدي رَ والاحترام .
إيرباسْ: من أجل أليسّا وحدها كان الذي كان!
أليسّا: وأنا مَحَضْتكَُ المودةَّ والتقديرَ والاحترام. مثلهم تماماً.
إيرباسْ: إيرباسْ كان يطمح إلى أكثر من ذاك.
أليسّا: الوفاءُ يولدّ المودةَّ ولكنَّ المودةَّ التي تسلب الإرادةَ حرّ يتهَا هي العبوديةُ التي لم تكنْ يوماً من قَدرَ ِأليسّا.
إيرباسْ: إذاً لماذا ظللت تِوحين إليّ بأنّ قدرَنا واحدٌ في نهاية الأمر؟ أليسّا: قَدرَُنا واحدٌ في رعايتنا الصداقةَ التي تجمع بين مملكتيْنا.
إيرباسْ: أنت ِقرطاجُ وأنا الشمالُ الافريقي، ولا بدّ من اتحادنا جسداً وروح اً لنصيرَ المملكةَ التي يحلم بها التاريخ!
أليسّا: شَطَطْتَ بأحلامكَ، يا إيرباسْ! ولا ألومَنكََّ أنا أبداً أبدا ً، بل سأقول بأنَّ أحلامَكَ توهّجتْ بفعل النبيذ!
إيرباسْ: لو لم يكنْ يعُيبني أن أسُْلِمَ نفسي للغضب، لرأتْ أليسّ ا مني ما كان سيملأ كأسَ نبيذها بالندم!
أدونْ: أمَِنْ أجل طاريء ٍ غريب ٍ تختصمان؟
آنياسْ: تأبى على الطاريء ِالغريب ِ أخلاقهُُ أن يشعلَ خصومةً بين الذين استقبلوه وصَحْبَهُ على هذه الأرض. كلكُّم أهلُ الفضلِ، ولكلكّم ندينُ بالشكر والوفاء. إن يكنْ يرضيكم أن نرجعَ إلى سفننا ونظلَّ على ذلك الشاطيء حتى يتم إصلاحُها، فلسوف نغادرُ هذه القاعةَ على التوّ، شرطَ أن يخيّمَ الودُّ من جديد بينكم وتنفرجَ النفوس .
أليسّا: والنبلُ كذلك من فضائل هذا الأمير الوضيء! أيها الطرواديون، أنتم ضيوفُ أليسّا، ولأليسّا في بقائكم بيننا كلمةُ الفصل ِ حتى لا يلعننا التاريخُ ويتهّمَ قرطاجَ بخلوّها من الأرواح النبيلة .
آنياسْ: ولكنْ! مولاتي!
أليسّا: "ولكنْ" لهجةٌ في لغة المترددين. أليسّا التي روّضتْ زمنَ المنفى تروّ ض الليلة َ زمنَ الوليمة والاحتفال! أيها الموسيقيون اعزفوا على آلاتكم أنغام الحياة! ويا أيتها الراقصاتُ ابْتدَِعْنَ الحركات ِالتي توقظ أدونيسَ من سبات الفصول!
) شباّن ثلاثة يتوجهون صوب الآلات الموسيقية. يحمل كلٌّ منهم آلته ويأخذ في العزف .
من الباب الذي في الجهة اليسرى تنساب إلى داخل القاعة شلةّ من الصبايا يَتمَايَلْنَ على نغمات الموسيقى. الحضور في حالة طرب(.
أليسّا )لآنياسْ(: لليونانيين موسيقاهم، وكذلك للفينيقيين. ولعلكَ الليلةَ تنسحرُ بأنغامنا وتصوغ من إيقاعاتها حُلمَُ بقائكَ بيننا!
آنياسْ: بقائي ورحيلي من شأن الآلهة، يا مولاتي. أليستْ في السماء تِرُْ سَمُ لنا أقدارُنا؟ أليسّا: يراودني ظنٌّ هو أقربُ شيء ٍإلى اليقين أننا نحن البشر نحبّ أن نتلطّى بإرادة الآلهة لنتجنبَّ اتخاذَ القرارات التي تنبع من أحاسيسنا الخفيّة.
آنياسْ: تعنين أننا نخدع أنفسَنا لنتهرّبَ من مسؤولية القرار؟
أليسّا: لا أحبُّ كلمةَ الخداع، ولكنّ النفْسَ لها أساليبهُا الغريبةُ في التعامل مع ما يعتمل في سرائرها. ألستَ تلجأُ أنتَ إلى طيف هكطورْ، مثلاً، لتبرّرَ ضرورة َ رحيلكَ إلى أرض الشمال؟
آنياسْ: ولكنّ الطيفَ لا ينفكّ يلاحقني كلمّا أغمضتُ عينيَّ للنوم. إِنْ هو إلّا رسولُ آلهتنا إليَّ.
أليسّا: ولكنْ فكِّرْ معي ملياًّ، يا آنياسْ. أليس غريباً أن تظلَّ الآلهةُ تحلمُ لنا بالنيابة ِعنّا؟ آنياسْ: أليسّا! أليسّا! لا تحرّضيني على السماء!
أليسّا: ليس ذلك من همّي. همّي أن نكون معاً، أن نظلّ معاً، لأنّ ذلك ما يحسّ به كلانا. أم أنّ كلماتي أقربُ شيء ٍإلى الوهم؟ آنياسْ: لا تعذبّيني بالحقيقة ِ ،يا أليسّا.
أليسّا: إذاً أنتَ لا تنكرُ إحساسَكَ بي! إذاً أنتَ شريكي في هذا العذاب الحميم!
آنياسْ: منذ اللحظة التي امتلأتْ بك ِعيناي وانسحرتْ بصوتك ِ أذناي، منذ اللحظة التي فيها دخلتُ عليك ِالقاعةَ لأوّل مرة، وخيالي مرتهنٌ لأليسّا. طيفكُ ِ لاحقني إلى حجرة استراحتي فهو مِلْءُ المكان ِ والزمان. وحينما هُرِعْتُ إلى حيث كان رفاقي، أستنجدُ بصحبتهم من رَ وْعَة ِ الطيف ِ ،ظلَّ الطيفُ يراودني عن نفسي حتى أنه غرّبني عنهم. بل إنه راح يتخاصم مع طيف هكطورْ، ويلحّ كلاهما في الخصومة فأنا المتأرجحُ أبداً بين نيةّ البقاء ونيةّ الرحيل.
أليسّا: كأنكَ تكشف لي عن خبايا نفسي! كأنني اسْتعَرَْتُ شفتيْكَ لِت نَْ ظُما ليَ الكلمات ِالتي تستعر في كياني!
آنياسْ: ولكنْ! أليسّا!
أليسّا: زمنُ "ولكنْ" انتهى. نَحَرَهُ العذابُ الحميمُ الذي نحن فيه!
آنياسْ: ولكنْ! أليسّا! غَضَبُ الرجال الذين حولك ِسياجٌ من الشوك الذي لا يمكن
تخطّيه.
أليسّا: أليسّا تروّض السياجَ والشوكَ! ولكنْ مهلكَ! مهلكَ! فهذه آناّ قادمة نحونا .
)تقترب آناّ وكأنما تريد أن تسرّ إلى أليسّا بشيء خاص.( أليسّا: هياّ قولي ما تشائين، فآنياسْ ليس عني بالغريب.
آناّ: ولكنْ!... حسناً حسناً. إنها رسالة من أدونْ. له رغبةٌ في أنَْ يحدثّك ِعلى انفراد لبضع لحظات .
أليسّا: قولي له إنني الآن منفردةٌ بسواه!
آنياسْ )لأليسّا(: بل اذهبي إليه. أو فَلْيَأتْ ِهو إليك ِ .لا تنُاصبي رجا لَك ِالعداء. أنت ِلا تزالين ملكة قرطاج .
أليسّا )لآناّ(: لبضع لحظات فقط! فليأت ِإليَّ. واصطحبي أنت ِالأميرَ ليتذوّقَ أطايبَ مائدتنا. ولا تنسيْ أن ت تُحِْ فيهِ بالمشويّ من لحم الغزال.
) تنطلق آناّ مسرعةً وتعود بصحبة أدونْ. تتركه في حضرة الملكة وتتمشى مع آنياسْ صوب المائدة(.
أليسّا )لأدونْ(: ألم يكَْفِكَ أنكَ أسأتَ إلى هذا الإحتفال بالتلميحات الهجينة توجّهها للأمير الطروادي في معرض روايته لأحداث رحلاته؟ ألم يكفكَ تبرّوءُ كلماتِكَ من اللباقة وأنتَ تستحثّ الضيفَ المحتفى به على ضرورة الإسراع بالرحيل حتى لا يلوّث بقاؤه مدينتنَا؟ تريد أن تحدثّني بماذا الآن؟ إن كنتَ جئتَ تعتذر إليَّ عمّا بَدرََ منكَ فلقد جئتنَي متأخراً، يا أدونْ.
أدونْ: مولاتي! ليس من شيم الملكة أن تتسرّع في الحكم على قائد جيش قرطاج .
أليسّا: وكيف يقود جيشَهُ مَنْ لم يستطعْ قيادةَ لسانه؟ أدونْ: تغاضيْ عن الكلمات واحكمي على النوايا.
أليسّا: النوايا في صدور أصحابها. ولكنّ هفوات ِاللسان ِتفضح .
أدونْ: لم آت ِإلى مولاتي مجادِلاً، ولكنّ ولائي لك وِلقرطاج يحتمّ عليّ أن أبوح لك ِبما لا بدّ من البوح به قبل فوات الأوان.
أليسّا: هياّ إذاً هات مِا لديكَ وأوجزْ. ضيوفي بانتظاري.
أدونْ: إنَّ اللهجةَ التي خاطبك ِبها الملكُ إيرباسْ لا تليقُ بأنْ تخَُ اطَبَ بها ملكةُ قرطاج.
أليسّا: تماماً كلهجتكَ التي خاطَبْتَ بها الأميرَ آنياسْ؟!
أدونْ: لهجةُ إيرباسْ قد أفَْشَت ِ النيةَّ الحقيقيةَّ من وراء زياراته المتكررة لمولاتي. نيتّهُُ أن ينتزعَ منك ِقبولَك ِبالزواج منه ليضمّ قرطاج لاحقاً إلى مملكة الشمال. ولعلّ مولاتي تذكر جيداً كيف سَوَّغَ له طموحُه اللجوءَ إلى قوة السلاح لقهر الممالك الصغيرة وضمّها إلى مملكته. مع قرطاج لن يلجأ إلى قوة السلاح إذا انصاع تْ لرغبته بالزواج منها ملكةُ قرطاج.
أليسّا: أليسّا لا تنصاع لنيّة أحد ولا لتهديد أحد.
أدونْ: ولكنّ قوّتهَ العسكريةَ ستظل الخطرَ المُصْلَتَ على قرطاج... ولو من باب الاحتمال .
أليسّا: ولنا نحن قوّتنُا العسكرية التي نطوّرها على الدوام...
أدونْ: مولاتي على حقّ. وسيكون جيشُنا في أفضل وضع إذا ا تحََّدتَْ قياد تهُ بالقيادة السياسية...
أليسّا:مهرجانُ النوايا!!! فهمتُ قصدكََ، يا أدونْ. ولكنْ ألا تدركُ أ نّكَ بالغتَ كثيراً في احتمال اتحّادنا أنا و أنتَ؟
أدونْ: وحده زواجُنا سيعزّزُ قوّةَ قرطاج في أعين الطامعين. وحده ذلك سيحافظ على هويّة قرطاج.
أليسّا: الليلةَ مملكتنُا بخير. والمزاجُ مزاجُ احتفال، فاستمتعْ، يا أدونْ، بلهفة الأنغام وبانسياب الراقصات، ولا تنَْسَ حَظَّكَ من معتقّ النبيذ!
أدونْ: النغمةُ والرقصةُ والنبيذُ هي الأرواحُ الخفيّةُ التي حوّلتْ هيلينا إلى اللعنة ِالتي دمّرتْ طروادةَ وشرّدت ِالطرواديين!
أليسّا: إرِْأفَْ بروحكَ، يا أدونْ، ولْنَعدُ ِالآن إلى ضيوفنا.
أدونْ: لمولاتي الليلةَ ما تشاء، وللغد مِا قد يضمره لنا الغدُ!
) ينحني لها انحناءة مقتضبة ويمضي إلى حيث الكاهن الأكبر وإيرباسْ. تتمشى أليسّا إلى حيث يقف آنياسْ وآناّ، تتناول كوز رمّان من سلة الفاكهة، تتأمله وهي تتبادل النظرات مع آنياس. تعيد الكوز إلى السلة وتملسّ على الفواكه الأخرى وكأنما تلُفت نظر ضيفها إليها(.
أليسّا: شهيّةٌ شهيةٌّ كلُّ فواكه فينيقيا! لها سحرُ اللون ولذةُ المذاق وطي بُ الرائحة.
مَن ِاسْتحََبَّ فاكهتنَا لزَِمَ أرضَنا!
آنياسْ: أو حَمَلَ إلى أرضه شتلات ٍ منها فزرعها و حصد اللذةَ كلهَّا!
أليسّا: غيرُ هذا التراب ِ لا ينُْبِتُ مِثلَْ هذه الطيبّات! تعالَ معي إلى ذلك الركن نستمتعْ قليلاً بتأمّل الراقصات. هنَّ كذلك من فاكهة فينيقيا! ولكن حذار ِأن ينشغل بالكَُ بأيٍّ منهنَّ!
آنياسْ: مولاتي الآن في مزاج طروب .
أليسّا: أوََ ليس السببُ يعرف نَفْسَه؟!
) يتمشيان بعيداً عن آناّ التي تلاحقهما بنظراتها الراضية. فجأةً تجد آ ناّ نفسها محاطة ً باهتمام اثنين من الضيوف: سِرْجَسْتسُْ و إِلْيونِيَسْ.( آناّ: آه! هذا أنتما! لم أنتبه إلى اقترابكما منيّ!
سِرْجَسْتسُْ: وكيف لا ينتبه الطيفُ إلى حضور مُعْجَبيَْن؟
إلِْيونيَِسْ: أم أنه حتمٌ على المعجبيْن أن يكونا من جنس الطيوف حتى تراهما عينا سيدتي؟
آناّ: اللسانُ اليونانيُّ مُولَعٌ بلغة التوريات!
سِرْجَسْتسُْ: أوََ ليست ِالمرأةُ التي ابتدعتهْا الطبيعةُ آيةً في لغة التوريات؟ آناّ: المرأةُ هي المرأةَُ. والتوريةُ بدعةٌ من بِدعَ ِالرجال!
إلِْيونيَِسْ: بِدعَُ الرجال ِ من إيحاءات ِالنساء!
سِرْجَسْتسُْ: يبحث خيالُ الرجل عن مركزيّة الأرض فلا يجد تلقاءَهُ إلّا المرأة!
آناّ: رفقاً بي أيها السيدّان! بل كأنكما على جميلِ القول ِ تتنافسان!
إلِْيونِيَسْ: بل على سيدتي نتنافس... إلى حدّ المبارزة!
آناّ: لغةُ القتال! لَشَدَّ ما تكرهها المرأةُ!
سِرْجَسْتسُْ: حتى ولو كان من أجلها القتالُ؟ آناّ: لا تجيبُ امرأةٌ عن هكذا سؤال!
إِلْيونيَِسْ: سيدتي! بيني وبين رفيقي ابتدأت ِالمبارزةُ لحظةَ التقينا بك ِأوّ ل مرة.
سِرْجَسْتسُْ: وازدادتْ شراسةً حينما اقترحَتْ مولاتي الملكةُ على قائدنا آنياسْ أن يمتزجَ شعبانا .
آناّ: يا لكما من فارسيْن شقييّْن! تتبارزان ليفوزَ أحدكُما بامرأة لٍا عِ لْمَ لها بذاك ولا خبر؟ إِلْيونيَِسْ: بل إنكِ تعلمين الآن. ولك ِ أن تختاري أحدنَا لتضعي حداًّ للمبارزة .
آناّ: وكيف لي أن أختار رجلاً من اثنين، وكلاهما راحلٌ قريباً عن هذه الأرض؟ سِرْجَسْتسُْ: سنبقى ...
إِلْيونيَِسْ: ... إذا اتخذ قرارَه بالبقاء قائدنُا آنياسْ.
آناّ: وإذا اتخذ قرارَه بالرحيل؟ سِرْجَسْتسُْ: ترتحلين معنا إلى أرض الشمال لنواصل مبارزتنَا هناك! وَعْ دنُا لك ِأن نتبارز حتى الموت!
آناّ: لا! لا! أتوسّل إليكما!
إلِْيونيَِسْ: تتوسّل إليَّ سيدتي لخوفها عليَّ أن أقُْتلَ؟ آناّ: لا! لا!
سِرْجَسْتسُْ: إذاً تتوسّلينَ إليَّ أنا لخوفك ِعليَّ أن يقتلني هو؟
آناّ: أبداً! أبداً! بل لخوفي أن يَقْتلَُ أحدكُما الآخرَ فتنتهي بذلك المبارزة!
إلِْيونيَِسْ: سيدتي تتلهّى بنا!
آناّ: بل هي تودعّكما الآن لتنصرف إلى واجباتها تجاه الضيوف الأخَُر.
سِرْجَسْتسُْ: ولكننا لم نكملْ حديثنَا بعد...
آناّ: أجملُ الأحاديث ِ حديثٌ كاد أن يكتملَ ولمّا يكتملْ!
) تمضي آناّ لتختلط ببعض الضيوف فيشير إليها الكاهنُ الأكبر أن تقترب منه فتقترب.
بصوت خفيض يقول لها شيئاً فتهزّ رأسها بالإيجاب وتمضي إلى الركن الذي فيه أليسّا وآنياس. تحدثّها قليلاً فيبدو على أليسّا الإنزعاج وتكاد تصرفها لولا أن يبادر آنياس إلى تهدئتها. أخيراً تهزّ أليسّا رأسها بالإيجاب. تمضي آناّ إلى حيث ينتظرها الكاهنُ الأكبر وتعود به حيث تتركه يواجه أليسّا. تنصرف وآنياس إلى ركن آخر من القاعة(.
أليسّا: الكاهنُ الأكبرُ الليلةَ معتصمٌ بكأس النبيذ!
الكاهن: ليشربَ نخب مولاتي!
أليسّا: تسرّني لباقةُ كاهننا، ولكننا نحتفل الليلةَ بسواي!
الكاهن: لغير ِ مولاتي لا ترتفع كأسي إلى شفتيَّ!
أليسّا: توََرُّدُ خديّْكَ يحدثّني أنكَ بالغتَ شيئاً في صحبة النبيذ.
الكاهن: للنبيذ والبخور حصّةٌ في كل طقوسنا.
أليسّا: على ذِكْر ِالطقوس، ألا يرى كاهننُا معي أن نرَُ هِّفَ شيئاً قليلاً من طبيعة طقوسنا فنطهّرَها من رائحة الدم ونضفيَ عليها السابغَ من عبق البخور وحرارة النبيذ؟
الكاهن: تلميحاتُ مولاتي لن تغيرّ من إيمان الرعيّة شيئاً. أشواقُ الناس لرؤية الدم ثِمّ النيران ِ تلتهم الذبيحةَ تؤكّد لهم ضرورةَ تجديد تواصلهم مع الآلهة .
أليسّا: وأنتَ؟ ماذا عنكَ أنتَ؟ هل لا يزال يرضيكَ أن ترى صبيةًّ عذراءَ ت ذُْبَحُ أو طفلا ً يلُْقى في أتون النار على نيةّ التواصل مع آلهتنا... لنكسبَ رضاها ونضمنَ عوَنَها لنا في أوقاتنا الصعبة؟
الكاهن: واجبُ الكاهن أن يلتزم بقوانين التراث.
أليسّا: حتى ولو عارضتْ قوانينُ التراث ِقوانينَ الطبيعة؟ الكاهن: مولاتي الليلةَ تتأرجح بين صوت الملكة وصوت المرأة!
أليسّا: المرأةُ هي الملكة، والملكةُ هي المرأة. لا تلغي إحداهما الأخرى.
الكاهن: واجبُ الملكة تجاه رعيتّها يجب أن يتغلّبَ دائماً على صوت العاطفة الشخصية التي قد تخالجها بين آن وآن .
أليسّا: أمَِنْ أجل ذلك أردتَ محادثتي على انفراد؟ الكاهن: لهذا السبب طبعاً... ولأسباب أخرى...
أليسّا: إذاً لا تتركْني للتكهّنات!
الكاهن: أمّا إيَِرْباسْ، يا مولاتي، فَمُخْتلََطٌ عليه أمرُ عاطفته. يفسّر طموحَه إلى حكم قرطاج بلغة ِ ولعه ِ بمولاتي. وإلحاحُه على الزواج منك ِ بلهجة الوعيد بات خطر اً داهماً على المملكة برمّتها. فحذار ِ ، ثم حذار ِ ،من نزوة الإنزلاق.
أليسّا: تعرف رأيي في هذا الأمر تماماً كما يعرفه هو. فهل من أسباب أخرى لقلقك؟ الكاهن: إسمحي لي أن أشرب نخبك ِأوّلاً!) يرفع كأسه إلى شفتيه( نخبَ الجمال الذي يصنع أقدارَ الرجال!
أليسّا: النبيذُ لعله أخذ على خيال كاهننا الليلة!
الكاهن: ميزانُ المرءِ النبيذُ: يلَُطِّفُ النفْسَ الهفيفةَ أكثر فأكثر، ويطلق من النفْ س ِالجافية ِ الكامنَ كلهَُّ من شرورها، فكفةٌّ تعلو بهذه وكفةٌّ تهبط بتلك.
أليسّا: وسوى طموح ِإيَِرْباسْ، هل هنالك في ظنِّكَ من خطر ٍآخر على مستقبل قرطاج؟ الكاهن: مولاتي تقطع عليّ الحميمَ من كلماتي! ولكن لا بأس! لا بأس! الخطرُ الآخرُ يتمثلّ في طموح أدونْ. هو الآخَرُ يلُْبِسُ طموحَه السياسيّ والعسكريّ لباسَ الولع بمولاتي. فلا تزَُيِّنَنَّ لك كِلماتهُ الأحلامَ الواهية.
أليسّا: لعلكَّ في حالة كشف روحيّ! فأنتَ ترى النوايا معرّاةً من زيف ألوانها.
الكاهن: ولعلّ مولاتي تعلم أكثر مني أنّ خطر العابرين أنكى وأشدُّ من خطر المقيمين!
أليسّا: وكنتُ أحسب العكسَ هو الصحيح!
الكاهن: صدقتْ مولاتي. العكس هو الصحيح... إلّا إذا أغَْرَت ِ العابرينَ دعوتكُ ِ لهم للبقاء وللإقامة بيننا .
أليسّا: الثلاثةُ الأخطارُ بَيَّنهَا لي الكاهنُ الأكبر، فله عميمُ الشكر منّ ي. هياّ بنا الآن
نختلط بالضيوف لنؤدي الواجبات التي تقتضيها اللباقةُ.
الكاهن: لو تقَْرِضُني مولاتي هنيهةً من شبابها لحدثّتْهُا الحديثَ الأ جََلَّ .
أليسّا: لو كنتَ توجز... رحمةً بالضيوف.
الكاهن: هو سؤالٌ بسيط يا مولاتي: ألم يكنْ زوجُك ِالكاهنَ الأكبرَ في معبد مِ لْقارْتْ في مدينة صور؟
أليسّا: وما الغايةُ الغايةُ من هذا السؤال؟
الكاهن: من عادة التاريخ أن يكرّر نفسه! أعني إذا اتحّدت ِالسلطةُ السياسيةُ بالسلطة الدينية أمِنَتْ مملكتنُا شرَّ الطامحين وأمَِنَتْ مولاتي غضبَ الرعية... إذا هي أصرّتْ على الاستغناء عن تقديم الذبيحة لهذا العام. صوتي سيلجم تمرّد هَم إذا هم ثارتْ ثائرتهُم ذات يوم. فمن سواي القادرُ على أن يسوس أرواحَ هم، يا مولاتي؟
أليسّا: للمرة الثانية هذه الليلةَ يطالعني مهرجانُ النوايا! ترفقّْ بحكاية الزواج الآن ولْنعَدُْ إلى ضيوفنا .
الكاهن: أنظري عميقاً في عينيّ، يا مولاتي، وخبرّيني ماذا تريْن.
أليسّا: ألمح فيهما ذلك الشيءَ الذي تتحاشى ذِكْرَهُ شفتاكَ.
الكاهن: ذلك هو الخوفُ من النزوات الطارئات أن يستدرجْنَ طيفَ هيلينا إلى قرطاج...
إذا لم تحصّنْ نفسَها مولاتي بالقرار السديد. خوفي على أليسّا من لهفة ولعي بأليسّا!
أليسّا: عُذْرُكَ، الليلةَ، النبيذُ، يا كاهن المعبد! لا أحصي عليكَ الكلمات ولا أحسبها من رصيد ذنوبكَ. ولعل أدونيسْ، إلهَ الخمرة والمرح، يغفر لكَ نواياكَ التي يح بذّها...!
الكاهن... : ويغفرُ لكِ عفّةَ الوفاء لزوجكِ الذي مرّةً كان!
أليسّا:حتى لا نفسد على ضيوفنا احتفالهَم، فَلْنتركْ إلى غَدِنا بقي ةََّ الحوار.
الكاهن: قد لا يكون لِليَْلتَِنا غدٌ، يا مولاتي. وإنْ أصرّت ِالليلةُ على ولادة غد ٍلنا فقد لا تكون في أيدينا كؤوسٌ ولا في كؤوسنا نبيذ!
أليسّا: بل سيطلّ على قرطاج غدٌ و غدٌ و غدٌ حتى آخر الزمان. وستظل أيدينا مترعة ً بالكؤوس وكؤوسُنا مترعةً بالنبيذ. أدونيسْ لن يتخلىّ عناّ، وستظ لّ توصيه بنا عشتروتْ! ) بصوت مرتفع تتوجه به إلى كل الحاضرين والحاضرات( أيها المحتفلون بمجد ِالحياة وِالمحتفلاتُ، التفتوا إليّ. عشتروت تناديكم، وأدونيس يل بيّ نداءَها فيكنّ! أكَْمِلوا دورةَ النبيذ عليكم وعليكنّ لتكتمل حولكم دورةُ الليل والنهار، كما دورةُ الفصول. ليلتنُا، الليلةَ، لن تفيَ أشواقَ الحياة فينا حقَّ ها، ولذا فقرطاج تلحّ في دعوتكم إلى إتمام احتفالنا هذا غداً بنزهةِ صيد ٍ في مرابع تلالنا وغاباتنا .
فَلْترَُفِهّْ شفاهَكم شفاهُ كؤوسكم ولْتتمايلْ أجسادكُم على أنغامنا الفينيقية ِالحنين!
) بينما الذهولُ يملأ عينيْ الكاهن الأكبر وعيونَ إيرباسْ وأدونْ، تهزج أصوا تُ النساء والرجال طرباً، وترتفع في الهواء الكؤوسُ، وتظلّ الراقصاتُ يتمايلْنَ على أنغام الموسيقى التي ترتفع الآن لتطغى على كل الأصوات. على هذا المشهد الاحتفاليّ ينسدل الستار بطيئاً بطيئاً.(
المشهد السادس
) تلةٌّ تكسو أرضَها أشجارٌ كثيفةُ الأغصان. في وسط التلة فسحةٌ فتيةُّ الإخضرار، يلوح في أعمق نقطة فيها شيءٌ كأنه ممرّ ضيّق يؤدي إلى كهف يستتر مدخلهُ بالأغصان المنسدلة عليه من يمين وشمال. من أقصى يمين التلة ينحدر شيئاً فشيئاً نحو الوادي طريقٌ ض يقٌّ طوّعتْ حشائشَه وسائرَ نَبْتِه ِأقدامُ العابرين عليه من ص ياّدين ومتنزّ هين وحوافرُ حيوانات تبحث عن قوتها أو تفرّ هاربةً من خطر ٍمحدقٍ بها أو يكاد. ومن أقصى يسار التلة يَصَّعدَُّ شيئاً فشيئاً نحو قمة الغابة ممرٌّ آخرُ حتى يختفي في كثافة الشجر. ومن نقطة ما وَسَطَ يسار التلة ينفتح من بين الشجر طريقٌ ضيقّ يؤدي إلى وسط الفسحة التي يختبيء في آخرها مدخلُ الكهف ِالمُظَللَُّ بالأغصان .
من الممرّ الذي إلى يمين التلة يدخل إيرباس بلباس الصيد وخلفه إثنان من ض باّطه ،أحدهما يحمل القوس والنشّاب وتتدلى من كتفه الكنانةُ الممتلئةُ بالسهام، والآخرُ يحمل رمحاً بكل يد. يتوقف الثلاثة في الفسحة المخضوضرة ويجيلون أنظارهم في أرجائها(.
إيرباس: أين هي أورورا؟ وأين هم الجند؟ كنتُ أمرتهُم أن يأتوا بها من خيمة الأسرى وينتظروني هنا على هذه التلة .
الضابط الأول: لم يتأخروا عن الموعد، يا مولاي، ولكننا وصلنا باكراً على ما أظن .
إيربا سْ: باكرا؟ً! على ما تظن؟! وهل تبدأ إلّا باكراً رحلةُ الصيد؟ الضابط الثاني: لعلنّا أوّلُ الواصلين، يا مولاي، فليس لغيرنا ههنا من أثر .
إيرباسْ : ذلك لا يبرّر تأخّرَهم!
الضابط الأول: أنظرْ معي، يا مولاي! هنالك هنالك حيث تتحرك الأغصان.
إيرباسْ : إن كان الصاعدُ نحونا سِ وا هُمْ فلسوف أ صُْ ليهم غضبي حينما يصلون!
)من المم رّ الذي إلى يمين التلة يدخل جنديان يدفعان أورورا أمامهما ويتوجهان بها إلى حيث إيرباس وضابطاه(.
أورورا )لإيرباس(: كنتُ أتمنى أن أظلّ في خيمة الأسرى حتى لا أراك!
الضابط الثاني: إخفضي صوتكصوتك ِ يا امرأة!
الضابط الأول: وهذبّي لسانَك ِفي حضرة مولاي!
أورورا )لإيرباس(: إن كنتَ جئتَ بي إلى هذه الغابة لتقتلني في السرّ، فعجّلْ وأرحْني من هذا الأسر، فبعد خسارتي للرجل الذي أحببتُ لم يَعدُْ لوجودي أيُّ معنى.
إيرباسْ : بل أنت ِلم تخسريه بعد .
أورورا: بل خسرتهُ ليلةَ أخذه قاربهُ بعيداً بعيداً عن هذا الشاطيء.
إيربا سْ: إيرباس يؤكّد لك ِأنكّ ِ لم تخسريه بعد.
أورورا: هزئتَ مرةً بعاطفتي! وتسخر اليوم من يأسي؟! أليس لكَ من قلب أيها الرجل؟ إيرباسْ : بل لأنّ ليَ قلباً لم تطّلعي على سرائره بعد، أؤكد لك ِأنّ اليأس انتهى... وقد جئتكُ ِ الآن بالأمل الكبير.
أورورا: أتستدرجني إلى حلم هو أقرب شيء إلى الوهم؟ أم أنكَ سمعتَ من الأمواج شيئا ً لم أسمعْ ه أنا؟
إيرباس: إهدأي لحظةً يا أورورا، ولسوف أطلعك ِعلى سرّ لم أطُْلِعْ عليه أحداً من قبل .
أورورا: سرّ؟! أيّ سرّ؟!
)يلتفت إيرباس إلى الضابطيْن والجندييْن ويخاطبهم بلهجة الأمر(.
إيرباسْ : إنتظروني هنالك عند أوّل الممرّ . وإذا أحسستم باقتراب أحد فأسرعوا إليّ.
) يبتعد الضابطان والجنديان إلى الجهة اليمنى من التلة(.
إيربا سْ: إستمعي إليَّ جيّداً، يا أورورا. أنا لم أنْسَ حكايتَكَ مِع ذلك الذي كنت ِأحببتِه يوماً ثم رحل عنك ِفي السرّ مع الأمواج. قلت ِلي إنه صنع قارباً واستقلّ به الموجَ إلى حيث لا أنت ِ تعرفين ولا يعرف أحدٌ سواك ِ.
أورورا: وحدها الأمواجُ تعرف إلى أين حملتهُْ. ولكنْ ما شأنكَُ أنتَ بقصتي مع ذلك الرجل؟ وإن لم تكن تنوي قتلي بعيداً عن أعين الناس، فلماذا لا تتركني أرحل؟ إيرباسْ : أنت حِرّةٌ أن ترحلي، يا أورورا...
أورورا: حرّةٌ أن أرحل؟! تهزأ بي من جديد؟! إن كانت حريتي فعلاً بيدي فلماذا أتى بي جندكَُ إلى هذه الغابة؟
إيربا سْ: لكي تنفذّي لي طلباً لا تقدر عليه إلّا امرأةٌ مثلكُ ِأنت ِ .
أورورا: وماذا تعني بإمرأة مثلي أنا؟
إيرباسْ : أعني امرأةً تتحلىّ بالشجاعة والوفاء.
أورورا: أنا المتهََّمَةُ بالتجسس عليكَ لصالح أعدائكَ أصبحتُ في نظركَ شُجاعة ً ووف يّة؟ خدعتنْي الكلماتُ مرّةً ولن أسمح لها أن تخدعني الآن. إمّا أنكَ تتلاعب بي وإمّ ا أنكَ تستدرجني إلى أمر مريب.
إيربا سْ: أورورا وفيةًّ لحبيبها لا تزال. أليستْ هذه هي الحقيقة؟ أورورا: وما شأنكَُ أنتَ بوفائي له؟
إيرباسْ : نزولكُ ِإلى الشاطيء يوماً بعد يوم تسألين عنه الأمواجَ وتستجْ دينها أن تعيده إليك ِهو الوفاءُ بعينه. وهذا ما يجعل أورورا جديرةً بالثقة إذا ما أطَْلعَْ تهُا على سرٍّ لي قريب مٍن سرّها.
أورورا: ما الذي تسمعه أذناي؟ مَلِكُ الداخل الإفريقي رحلتْ عنه حبيبتهُ مع الأمواج؟ إيرباسْ : هي لم ترحل مع الأمواج. ولكنها قد ترحل عنّي إلى رجل آخر. ولأنني مولعٌ بها أريدك ِأن تتحايلي عليها وتظليّ قريبةً منها بحيث تعرفين كل ما يدور بينها وبين الرجل الآخر .
أورورا: أعرف أنّ الملوكَ يقتلون أعداءهم! وغريمُكَ هو فيها، فلماذا لم تقت لْه بعد؟ طبع اً أنا لا أشجّع أحداً على القتل،ولكني أستمع إلى قصّتكَ وأستغرب.
إيرباسْ : ليس همّي أن يحبهّا هو. كلُّ خوفي أن تكون هي تحبّه. فإنْ تكنْ تحبهّ وقتلت هُ، فَلخََوْفي عظيمٌ أن تموت هي بعده حزناً عليه. وإذاً فما الذي أحصده بموتها أنا؟ أورورا: وما الذي ستحصده أورورا من خواتيم هذه الحكاية؟
إيربا سْ: لك ِالوعدُ مني أن أرسل سفينةً عليها خيرةُ رجالي ليغْشَوْا الشواطيءَ القريبة والبعيدة، وينزلوا كل جزيرة بحثاً عن الرجل الذي تحبيّن... فقط إذا أنت ِأعََ نْتِني على الاستئثار لنفسي بأليسّا!
أورورا: أليسّا!!! أليسّا تقول؟! ما كان ينقصني إلّا وَلَعُ الملوك ِ بالملكات!
إيربا سْ: كلانا مهد دٌَّ بالخسارة وكلانا مُصِرٌّ على الربح. تشََابَكَ قَ درَانا وليس لنا مفرٌّ من أن يعين أحدنُا الآخر على اجتناء سعادته.
) فجأةً يهرع الضابطان والجنديان إلى حيث إيرباس وأورورا.( الضابط الأول: جمعٌ من الرجال يصعدون الممرّ الذي هناك، يا مولاي.
إيرباسْ : فَلْنسرعْ إلى خلف تلك الشجرات، فأنا لم أنُْه حِديثي مع أورورا بعد.
) يحثوّن الخطى ويغيبون خلف بعض الشجرات. من الممرّ الذي إلى أقصى اليمين يدخل آنياس، وخلفه إليونيسْ وسرجستسْ وآخرون. كلهّم في ثياب الصيد وكلٌّ يحملقوسه ونشّابه. يتوقف الجميع في وسط الفسحة.(
آنيا سْ: حسناً أننا وصلنا قبل مُ ضيفتنا، فاللباقةُ تقضي ألّا نَدعََها تنتظرنا ولو للحظة
واحدة .
إليونيسْ: ملكة قرطاج تتحلىّ كمولاي بأسمى لباقة. ليلةُ أمس شاهدٌ على ذلك .
آنيا سْ: صدقتَ يا إليونيسْ. ولكنْ تذكّرْ دائماً أنّ اللباقةَ التي تصدر عن القوة غيرُ تلك التي تصدر عن الضعف.الثانيةُ لا نبُْلَ فيها لأنها غشاءٌ رقيق من النفاق.
وملكة قرطاج ليست إلّا لبوءةً في جلد غزال.
إليونيسْ : لغةُ مولاي اليوم تستعير مفرداتها من نزهة الصيد! خَبرَّونا الليلة َ الماضيةَ أنّ هذه التلالَ غنيّةٌ بالغزلان.
سرجستسْ: وغنيّةٌ هي أيضاً بأنواع الفاكهة والنباتات التي اسْتجُْلِبَ بعضُها من التربة الفينيقية .
آنياسْ: أجل أجل. هذه الأرض تنبض بالحياة .
إليوني سْ: وربما من أجل ذلك اقترحت ِالملكةُ على مولاي ليلةَ أمس أن ينظر في أمر استقراره في هذه الأرض .
سرجستسْ: واللهجة ُ التي بها دعََتْ مولاي إلى ت مََازُج ِالشعب يْن كانت أصدقَ من لهجة اللباقة المصطنعة .
آنياسْ : أحسب أنكما وقعتما في غرام هذه الأرض!
إليونيسْ: أليستْ هذه الأرضُ جديرةً بالإعجاب؟ آنياسْ: حماسُكما تجاوز الإعجابَ إلى شيء سواه!
سرجستسْ: الأمرُ كلهّ منوطٌ بإرادة مولاي. فإن شاء البقاءَ بقينا وإن شاء الرحيلَ رحلنا .
آنياسْ: ولكنكما توسوسان لي بالشيء الذي أقََ ضّ مضجعي ليلة أمس وحرمني من هنيءِ النوم.
إليونيسْ: ولماذا يقضّ مضجعَكَ أيُّ شيء ٍ والأمرُ كلهّ رهنٌ بإرادة مولاي؟ آنياسْ: تنازعتْ خيالي عاطفتان. وحينما غلبني النومُ انْسربَ إليَّ في الحلم طيفُ هكطور. كان مضطربَ الملامح،قَلِقَ الإشارات، شجيَّ الصوت ِ حزينَه. أوّلَ الأمر تجنبّ محادثتي. إبتهلتُ إليه، فأغمض عينيه حتى لا تبوحا لي بسرائر روحه. حلّفتهُ بذكرى طروادة أن يفتح لي قلبه. تهدجّ الصوتُ في حلقه فأنصتُّ لأتلق فََّ الكلم ةَ والهجسةَ والحرفَ اليتيم. ك لُّ ما استطعتُ أن أتهجّاه كان أنْ هنالك على الأرض الإيطالية وحدها ينتظر ابنَكَ أسكانيسْ قَدرَُه ُ العظيم. وفي لمحة هي أقصرُ من لمح البصر اضمحلَّ الطيفُ وفتحتُ عينيَّ على ظلام مخيف .
سرجستسْ: دمارُ مدينتنا حَمَّلنَا هواجسَ الليل وهواجسَ النهار. وطالما الترحالُ يقذفنا من بحر إلى بحر ويرمي بنا من شاطيء إلى شاطيء، فأغلب الظن أنّ الهواجس ستظلّ حليفتنَا في اليقظة كما في المنام.
آنياسْ:...حتى نبلغ وجهتنَا في أرض الشمال...
إليونيسْ: ولكنْ، مولاي، ماذا لو كانت أرضُ الشمال أقلَّ خصوبةً من هذه الأرض؟ سرجستسْ: وماذا لو كانت أشدَّ صقيعا؟ً
آنياسْ: توسوسان لي بمخالفة هكطور؟ توسوسان لي بالخيانة؟
إليونيسْ: معاذَ وفائنا لذكرى هكطور وكلِّ الأبطال الذين سقطوا معه في ساحات طروادة. ولكنّ طيفَ هكطور ليس هكطور، يا مولاي. ولو كان بطلنُا معنا ههنا حياًّ يرُزقُ لربما كان فَضَّ لَ البقاءَ على أرض خصبة تحكمها ملكةٌ كريمة ُ النفس ِ واسعةُ الرؤية ِعلى الترحال ِالذي هَدرََ من عمرنا سنوات إلى أرض لا نعرف عنها شيئا ً إلّا أنها هناك هناك.
آنياسْ: وإذا كان طيفُ هكطور حقاً رسولاً إلينا من آلهة السماء، أفَل يَْسَ من المخاطرة أن نتجاهل رسالتهَ؟
إليونيسْ: الرأي الأخير لمولاي. فَلْيَحْتكَِمْ مولاي إلى همسات روحه.
آنياسْ: آه من همسات روحِكَ يا آنياسْ! روحِكَ التي تهمس لكَ بالشيء وضد هّ فأنتَ تتقلبّ أبداً في عذاب مقيم!
) من وسط يسار التلة تدخل أليسّا وآناّ والكاهن الأكبر وأدونْ، يتبعهم ضبّاط وجند .كلهّم في ثياب الصيد، وأسلحتهُم القوسُ والنشّابُ والرمحُ وبعضُ شِباك ِالصيد.( آنياسْ: صباحُ قرطاج من وضاءة مولاتي!
أليسّا: ومن الأمير الوضيء تطلّ علينا تباشيرُ النور!
آنياسْ: مولاتي تشاركنا في الطِراد وِالصيد؟
أليسّا: ملكةُ قرطاج لم تتحلَّ يوماً بوداعة المتفرِّجين! هل نام جيداً ضيفنُا ليلةَ أمس؟ آنياسْ: نمِْتُ ولم أنََمْ!
أليسّا: إذاً آنياسْ في أفضل أحواله!
آنياسْ: أجل أجل آنياسْ جاهزٌ للصيد... ومولاتي؟ أليسّا: جاهزةٌ للطِراد!
أدونْ: فلنتفرّقْ في الغابة جماعات جماعات. أنا و جُنْدي سنبقى في مَعِ يةَّة ِ مولاتي.
أليسّا: أتركْ ليَ توزيعَ فِرَق ِالصيد، يا أدونْ، فأنا أدرى بذلك منكَ.
الكاهن: سأبقى أنا على قمة التلة... أراقب تحركاتكم، وأدعو الآلهة ألَّا تبخل عليكم بوفرة الغزلان .
أليسّا: ولا يَنْسَ الكاهنُ الأكبرُ أن يبارك نوايانا قبل الشروع في الصيد.
الكاهن: وحدها النوايا التي تجلب الحظَّ لقرطاج وأهل ِقرطاج مباركةٌ في كل حين!
أليسّا: حظُّ قرطاج هو كلُّ ما أفكّر اليومَ فيه.
) من الجهة اليمنى يدخل إيرباس وأورورا، وخلفهما ضابطان وجنديان(.
أليسّا: أهلاً بملك الشمال الإفريقي. لم أكنْ متأكدة أنكَ ستجد الوقت لمشاركتنا اليوم في نزهة الصيد .
إيرباسْ: الوقتُ أملكه أنا، ولم يكنْ ليملكني أبداً مهما ساوَرَ مولاتي من ظنون!
أليسّا: ظنوني كلهُّا حسنة، ولكنْ قلْ لي، من هي هذه المرأةُ التي تصطحبها إلينا اليوم في نزهة الصيد؟
إيرباسْ : فلتكبحْ مولاتي جماحَ ظنونها. هذه المرأة كانت تبحث عنك ِأنت ِ. لَقِ يهَا الجندُ على الشاطيء وهي في طريقها إلى قلعة قرطاج.
أليسّا: وما الذي تريده منيّ؟
أورورا: أيتها الملكة النبيلة، اغفري لي حضوري إليك ِفي هذا اليوم المخصّ ص لنزهة الصيد .مآثرُ مولاتي شجّعتنْي على الْتماس ِ العون ِمنك ِفي أمر لٍا تقدر عليه إلّا ملكةُ قرطاج.
أليسّا: وهل لِمُلْتمَِسَة ِالعون مِن إسم؟ أورورا: أورورا أنا ...
أليسّا: أورورا!! الفجرُ الذي هو أوّلُ النور!! هو ذا شفيعكُ ِاليوم لديّ ، فَ اطْلبي تستجبْ لك ِ ملكةُ قرطاج.
أورورا: حبيبي الذي كنتُ أفَْضَيْتُ إليه وأفضى إليّ فكنتُ له الزوجةَ وكان ليَ الزوجَ قبل
أن يكون هنالك إعلانٌ للزواج... حبيبي ذاك... رَكِبَ الموجَ والريحَ وخلفّني لوحدتي أتقلبّ بين اليأس والرجاء.
أليسّا: غريبةٌ قصّتكُ ِ ،يا أورورا. ولكنْ ما كان سببُ رحيله عنك ِ وعن هذه الأرض؟ أورورا: لو كنتُ أعلم، يا مولاتي، لَكانَ هانَ عليَّ حزني ولما كنتُ اكْ تويتُ بنار الظنون .
أليسّا: وما الذي بيدي لأهوّن عليك ِهذا المصاب العجيب؟ أورورا: لملكة قرطاج أسطولٌ تجاريّ يجوب البحار ...
أليسّا: تطلبين مني أن أكلفّ تجَّارَنا وملّاحينا بالسؤال عنه في المرافيء التي يقصدونها؟ أورورا: ليس من حقيّ أن أطلب، ولكنني أجرؤ على التمني، يا مولاتي.
أليسّا: العاطفةُ التي تحملينها في ضلوعك ِهي شفيعكُ ِالثاني لديّ. غد اً سأصدر لسفننا أمراً بهذا الخصوص.
أورورا: وعرفاناً مني بجميل مولاتي، ائْذنَي لي أن أكون خادمةً لك ِمنذ هذه اللحظة .
أليسّا: سأضمّك ِ إلى حلقة وصيفاتي حينما نرجع إلى القلعة بعد نهاية الصيد.
أورورا: لمولاتي الأمرُ كلهّ.
)تنتحي ناحيةً خلف شجرة قريبة من مدخل الكهف المُظَللَّ ِ بالأغصان.(
أليسّا: أمّا وقد الْ تأَمََ الجمعُ، فَلْنتوزَّع ِالمهمّ ات ولْتمض ِ كلُّ مجموعة إلى ناحية. الكاهن الأكبر اختار أعلى التلة ليبارك صَيْدنَا من عَ ل ِ. وأنتم يا أدونْ وآناّ وبقيّة
ضباطنا وجندنا، اخْترَِقوا الغابةَ التي إلى يمين هذه الفسحة. و لْيَغْشَ الملكُ إيرباسْ وحاشيتهُ الطرفَ الأدنى من الغابة لعلمه أكثر مناّ بمُِلْتوََيات ِهذه الأرض.
إيرباسْ: إذا اسْتوََت ِ النوايا... فَلَنْ تعُْجِزَنا مُلْتوََياتُ الأرض!
أدونْ: ومولاتي؟ في أيّ اتجاه ستمضي؟
أليسّا: في الإتجاه الذي سيجمعني بكم! فمع كلّ فريق ٍ سيكون جزء مٌن أليسّ ا!
أدونْ: والأميرُ الطروادي؟ في أيّ طريق سيمضي؟
أليسّا: الضيفُ مُوَكَّلَةٌ به مُضيفتهُ! هياّ ولْنغتنمْ أوّلَ النهار حتى لا يغتنمنا آخرُه!
أدونْ: صدقتْ مولاتي. فأوّلُ النهار نملكه نحن، أمّا آخرُه فرََهْنٌ بحصيلة الصيد!
آناّ: هياّ يا أدونْ. هياّ أيها الضباط والجند. الغابة بانتظارنا.
) ينسحب كلّ فريق إلى وجهته ويتلاشون خلف الأشجار. لا يبقى في الفسحة إلّا أليسّا وآنياس. من حيث لا يشعران تطلّ أورورا برأسها من خلف شجرة قريبة من مدخل الكهف، تتأملهما لحظة ثم يختفي رأسُها من جديد.( أليسّا: إذاً نام آنياس ولم ينََمْ ليلة أمس!
آنياسْ: وكيف يطمئنّ إلى النوم خيالٌ يطارده وجهُ أليسّا وطيْفُ هكطور؟ أليسّا: وجهُ أليسّا الحقيقةُ! طيفُ هكطور خيال!
آنياسْ: أوََ كلُّ الطيوف خيالٌ، يا مولاتي؟
أليسّا: أنتَ أقربُ إليَّ اليوم من أن أكون مولاتكَ. أنتَ منيّ وأنا منكَ . والطيوفُ الطيوفُ خيالاتٌ تعبر وجودنَا وتمضي. الطيوفُ لها أقدارُها، ولنا نحن الأقدارُ التي نجترحها لأنفسنا .
آنياسْ: مولاتي! ...
أليسّا: إِنْسَ كلمة مولاتي إلى الأبد! نادِني بامرأتي، فأليسّا منذ هذه اللحظة امرأتكَُ!
آنياسْ: أليسّا! أليسّا! ما الذي تفعلينه بآنياس؟ بقلبه؟ بحواسّه؟ بخياله؟ أليسّا: أليس هذا ما يحلم به كلانا من قبل ِأن تتَلَاهَفَ بيننا الكلمات؟
آنياسْ: والعيونُ التي تسيجّ حركاتنِا وإيماءاتنَا وحتى أنفاسَنا... كيف نواجهها إذا نحن...؟
أليسّا: إذا نحن...؟! إذا نحن تقول...؟! تعالَ تعالَ إليَّ، يا آنياسْ، فاحتفالنُا ليلةَ أمس نتُوَِّجُهُ اليومَ هنا، ههنا، لتشهدعلى اتحّادنا الغابةُ بكل أشجارها ونَ بْتِها، بكلّ
طيورها وغزلانها، بكل غصونها التي تظللّ مدخل ذلك الكهف القابع في الخفاء هناك! أتَرَاه، يا آنياسْ؟ تعالَ تعالَ معي نكتشفْ ما يخب ئّهُ لنا من مفاجآت!
) تأخذ بيده وتسير به إلى مدخل الكهف، وهو يتلفّ تُ في كل اتجاه وكأنما خشية َ أن يراهما أحد. تنَُحّي الأغصانَ المظلِلّة لمدخل الكهف وتنسرب مع آنياس إلى حيث يغيبان عن النظر. تطلّ أورورا برأسها من خلف الشجرة التي تقف خلف جذعها ثم تتقدم بخطى حذرة جهةَ الكهف. تقف هناك ترهف السمع للحظات ثم تحشر رأسها بين الأغصان المتدلية لعلها تكتشف ما يدور بين أليسّا وآنياس.(
صوت آنياسْ: وما الذي يضمن لنا أنهم لم يتركوا عيناً من عيونهم ترصد كل تحركاتنا؟ صوت أليسّا: إِنْسَ استراتيجياتكَ العسكرية الآن واسْ تجبْ لنداء الكهف!
) تسحب أورورا رأسها من بين الأغصان وتظلّ ترهف السمع.( صوت آنياسْ: وكيف اهتدتْ أليسّا إلى هذا الكهف؟ صوت أليسّا: صدفةً... إِبَّانَ نزهة ٍ من نزهات الصيد.
صوت آنيا سْ: إذاً تعرفه مِثلْكُ ِ الحاشية!
صوت أليسّا: إهدأْ، يا آنياس، فغيري لا علم له بهذا المكان. فيومَ اكتشفتهُ هَ تفََ بي شيءٌ من داخلي أنْ حَوِّلي العيونَ كلهَّا إلى ناحية أخرى ليبقى الكهفُ سرّا ً بينك ِوبين الغابة والتلة! وهكذا كان .
صوت آنياسْ: وهل دخلت ِإليه من قبل؟
صوت أليسّا: دخلتُ إليه مرات ومرات... في خيالي! وفي كلّ مرة، كانت تغريني وحدتي بتخيلّ ِ شاب وٍصبيّة ٍ...يلاعبها وتلاعبه! في هذا المخبأ المُ طَهَّر مِن رِجْس ِالعيون!
صوت آنياسْ: يا للخيال الجموح!
صوت أليسّا: والآن أنا وأنتَ الصبيةُّ والشابُّ، تلُاعِبنُا ونلاعبها المُغْرِ ياتُ!
صوت آنياسْ: وإذاً كهفنُا نزهةُ الصيد! فما ترُاهُ يكون صيدنُا اليوم؟ ومن ترُاه الصياّد؟ُ صوت أليسّا: كلانا الصَّيْدُ والصياّدُ! كلانا!
صوت آنياسْ: وإذاً فلن تفوتنَا مَعِيَّةُ الغزلان!
) يسود صمت عميق وتمرّ الهنيهةُ والهنيهةُ. فجأةً تتجرّأ قَدمَا أورورا وتنسربان بها إلى داخل الكهف بخطى حذرة .
من الجهة اليمنى يبرز غزال قَلِقُ النظرات، يتلف تّ يمنة ويسرة ثم يعدو عبر الفسحة حيث يختفي بين الأشجار. في صمت ٍ حَذِر ٍ يعبر الفسحةَ في إثره صياّدٌ، وقد توترَّ قوسُهُ في نشّابه. يختفي هو الآخر بين الأشجار. من جهة اليسار، وبالتحديد من الممرّ الصاعد إلى أعلى التلة، ينحدر صوب الفسحة غزالٌ تائه النظرات. وما إن تبلغّه أقدامُه وسطَ الفسحة حتى يدخل في إثره صياّدان ويصوّبان سهميْهما تجاهه.
يصيبه أحدُ السهميْن فيضطرب في مشيته ولا يلبث أن يهوي إلى الأرض.( الصياّد الأول: لن نقدر على حمله أنا وأنت .
الصياّد الثاني: فلْنتركْه الآن هنا ريثما نتمّ الطِراد فلعلنا أن نحظى بسواه.
الصياّد الأول: خوفي أن يأخذه خلسةً جندٌ سوانا وينسبوه إلى أنفسهم.
الصياّد الثاني: لن يجرؤ على ذلك أحدٌ، فالكلُّ يعرف أننا من جند أدونْ!
الصياّد الأول: وإذا نَسَبَهُ إلى أنفسهم جندُ إيرباسْ، سنكون نحن السبب في خلق المشكلة .
الصياّد الثاني: لا تعقدّ الأمور يا رجل. أدونْ وإيرباسْ أنَْبَلُ من أن يختصما من أجل غزال!
الصياّد الأول: فَلْنتابعْ طِرادنَا إذاً. تعالَ معي نجرّبْ حظَّنا فوق تلك التلة .
) ما إن يغيبا عن الأنظار حتى تمدّ أورورا برأسها من بين الأغصان التي تظلِلُّ مدخل الكهف. وحينما تتأكد من خلوّ المكان تخرج من مخبئها وتتوجه صوب الشجرة التي كانت تختبيء خلف جذعها من قبل. فجأةً تتسمّر في مكانها وقد لفت نظرَها الغزالُ الممددُّ على الأرض. تقترب منه في حذر، تنحني فوقه، وتملسّ على رأسه في ترددّ وخشية(.
أورورا )لنفسها(: المسكينُ باكراً ودعَّتهُْ الحياة! لا حسّ ولا حركة.
) تتلفتّْ في كل اتجاه وكأنما تبحث عن أثر ٍلأحد، أيِّ أحد.(
أورورا )لنفسها(: لعلّ سهماً أصابه ففرّ ليموت في صمت ههنا بعيداً عن أعين الصياّدين.
) تنهض من انحناءتها ببطء وعيناها تتنقلّان بين مدخل الكهف والغزال الممد دّ على الأرض.(
صوت آنياسْ: مهلك ِ مهلك ِ ،يا أليسّا، لأتأكّد من خلوّ المكان قبل أن تخرجي من الكهف .
صوت أليسّا: لا أحسب أحداً تنبّه إلى غيابنا بعد. وإلّا لكناّ سمعنا أصواتهم وهم يبحثون عناّ.
صوت آنياسْ: قد تكون حركاتهُم صامتةً كنواياهم! إنتظري. سأطلّ برأسي الآن .
) تتوارى أورورا خلف جذع الشجرة التي كانت مخبأها من قبل. يطلّ آنياس برأسه من بين الأغصان المتدلية فوق مدخل الكهف. تستكشف عيناه المكان للحظات ثم يخرج بكامل جسمه(.
آنياسْ: هياّ اخرجي يا أليسّا. المكان كلهّ لنا.
) تخرج أليسّا من بين الأغصان وتسير خطوات إلى جانب آنياسْ. يتوقفان فجأة وقد لَفَتَ انتباهَهما الغزالُ الممددُّ على الأرض.(
آنياسْ: لعلهم اصطادوه وتركوه هنا حتى ينتهي الطِراد.
أليسّا: أو لعلّ الهربَ انتهى به إلى هذه التلة ليموت وحيداً.
آنياسْ: فَلْنَبْتعَِدْ عن هذا المكان حتى لا يكتشفَ الكهفَ صدفةً أحدُ الصيادين وتدورَ حول تواجدنا هنا الشبهاتُ.
أليسّا: بل نزعم لهم أننا نحن اللذيْن اصطدنا هذا الغزال!
آنياسْ: الخيرُ لنا أن نسرع بمغادرة هذا المكان. أليسّا! أليسّا! أصواتُ الصيادين تقترب من تلك الناحية!
أليسّا: لأنكَ الآن زوجي وحبيبي، سأراعي خاطرَكَ وأمضي معكَ إلى حيث تشاء!
) يأخذ آنياس بيدها ويسرعان معاً إلى الجهة اليسرى من الفسحة حيث يتلاشيان بين الأشجار الكثيفة الأغصان.
من الجهة اليمنى يدخل إيرباس بصحبة ضابطيْه وجنده. يتفحص أرجاء الفسحة ويتوقف بالقرب من الغزال الممددّ على الأرض.(
إيرباسْ: إصطدنا ثلاثةَ غزلان في أسفل الوادي. فَ لِمَ نْ يكون هذا الممد دُّ على الأرض؟ الضابط الأول: لعله أحد الغزلان التي أصابتهْا سهامُنا... ولم ندركْه ُ لسرعة جَِرْ يِه ِ بين الأشجار .
إيرباسْ : الغزالُ الجريحُ لا يقوى على الصعود من أسفل الوادي إلى هذه التلة .
الضابط الثاني: ظنيّ أنّ الذين طاردوه قتلوه في هذه الفسحة.
) تبرز أورورا من خلف الشجرة وتتقدم نحو إيرباس(.
أورورا: الرأيُ الأخيرُ أقربُ إلى الاحتمال.
إيرباسْ: أورورا!
أورورا: مولاي... مثلكم أنا وجدتهُ ههنا على الأرض لحظةَ خرجتُ من ذلك الكهف.
إيرباسْ: من ذلك الكهف! أيَّ كهف تعنين؟
أورورا: هنالك حيث الأغصانُ الكثيفةُ تخفيه عن العين.
إيرباسْ: وما الذي كنتكنت ِ تفعلينه هناك؟ أورورا: أنفذُّ المهمّةَ التي أوكلها إليَّ مولاي.
إيرباسْ: إذاً لم تكوني وحدك ِ هناك؟
أورورا: مولاي أدَْرى بمضمون الكلمات التي لم أقَلُْها بعد!
) يلتفت إيرباس إلى ضابطيْه وجنده ويشير إليهم أن يتركوه مع أورورا. ينسحب الجميع إلى أقصى اليمين ويظلّ إيرباس وأورورا مسمّر يْن في مكانهما، ينظر أحدهُما إلى الآخر وكأنما خذلتهْما الكلمات.(
إيرباسْ: خبرّيني بما أحبّ أن أسمع، ولكِ الوعدُ منيّ أن آتي إليك ِ بحبيبكبك ِ ولو من أقاصي الأرض!
أورورا: خذلتنْي الأمواجُ من قبل ِأن تجمعنا أقدارُنا يا مولاي. وما رأي تهُ اليومَ في ذلك الكهف وما سمع تهُ رماني في حيرة ٍأدَْهى من الخذلان!
إيرباسْ: كلماتكُِ تنفذ إلى صميمي كالسهام! إياّك ِ والمراوغة. صِفي لي كلَّ الذي جرى في ذلك الكهف .
أورورا: لا نيّةَ لي في المراوغة يا مولاي، ولكنّ الذي جرى بينهما لا يمكن لأحد ٍأن يلغيه وكأنه ما كان .
إيرباسْ: إيرباس يلغي ما يشاء!
أورورا: إلّا الذي كان بينهما يا مولاي.
إيرباسْ: صَرِّحي بكل ما تعرفين قبل أن ينهال عليك ِغضبي!
أورورا: مولاي! مولاي! لقد أفَْضى إليها وأفَْضَتْ إليه!
إيرباسْ: كَذبََتْ أورورا! أورورا لم ترََ ذلك بعينيها! أورورا تخيلّتْ كلَّ ذاك!
أورورا: بل رأتْ ورأتْ يا مولاي! وسمعتْ وسمعتْ!
إيرباسْ: سمعتْ ماذا؟ هل كانت أليسّا تقول له وهو يقول لها؟ أورورا: قالتْ له إنكَ زوجي وحبيبي الآن!
إيرباسْ: تتزوج الملكة في الكهف؟! أورورا اعترفي بأنك ِتكذبين!
أورورا: الحقيقةُ لا تكذب يا مولاي.
إيرباسْ: وتحسبينَ أنك ِأنت ِالحقيقة؟ أورورا: بل قَلْبهُا هي الحقيقةُ يا مولاي.
إيرباسْ: قَلْبهُا؟!! قَلْبهُا الحقيقةُ، تقولين؟ لا ريب أنك ِانقلبت ِ عليَّ!
أورورا: بل انْقَلبََت ِالدنيا علينا يا مولاي!
إيرباسْ: سأقلب الدنيا عليها وعليه وعليك ِ ،يا ملفقّةَ الأخبار!
أورورا: مولاي ات رُْ كْها لِقَ د رَِ ها وَانْجُ بروحكَ.
إيرباسْ: قَ درَُها أنا، يا منافقة، فكيف أتركها لمشرّد طٍريد؟
أورورا: قَلْبهُا قَدرَُها يا مولاي، كما أنّ قلبي هو قدري. وقدري الآن يتخلىّ عني لأنني لن
أرجوَ من مولاي أن يفيَ لي بوعده. عَلمََّني ما رأيتهُ أن أرضى بخسارتي، فَلْيرَْضَ بخسارته مولاي.
إيرباسْ: لن تزرعي في قلبي اليأس أيتها الخائنة! حسابي معهما لم ينته بعد. أمّ ا حسابي معك ِفيبدأ الآن. أيهاالضباط! أيها الجند! أبعدوا عني هذه الخائنة!
خذوها! أعيدوها إلى خيمة الأسرى!
) يهرع الضابطان والجند ويطبقون جميعاً على أورورا، وهي تحاول بكل جهدها أن تنفلت من بين أيديهم. يسوقونها بعيداً عن الأنظار. لا يبقى في الفسحة إلّا إيرباس، يتقلبّ بين الحزن والغضب، منقلّاً عينيه الزائغتيْن بين الكهف ِالذي تظللّ مدخلَه الأغصانُ الكثيفة ُ والغزال ِالممددّ ِعلى الأرض.(
المشهد السابع
)المكان هو القاعة الفسيحة التي يفُْتتَحَُ بها المشهد الأول – بنوافذها المط لةّ على شاطيء البحر. التمثال النصفيّ لأشرباسْ وتمثالا عشتروت وبعل لا يزال كلٌّ منها في المكان المخصص له. وكذلك هما قرَْنا الغزال والأسلحةُ التي تزيّن الحائط، ومن تحتها كلهّا المنضدةُ الخشبيةُ وعليها إناء النبيذ وإناء العسل. الزاوية اليمنى من القاعة تنفتح على ممرّ يؤدي إلى غرف شتى من القلعة.
إزاءَ واحدةٍ من النوافذ تقف أليسّا، وعيناها كأنما تلاحقان شيئاً ما يحدث خارج القلعة ،وعلى مستوى جغرافيّ أدنى من مستوى الأسوار. بحركة عصبية تنمّ عن قلق مٍُ رْ بِكٍ، تنأى عن النافذة وتنقل خطاها نحو نافذة أخرى .تقف هناك لتنظر من جديد إلى ما يجري في الخارج. كفاّها تتمسّكان بحافة النافذة لحظة أو لحظتين، ثم تنزلقان إلى جانبيها، ثم تتشابك أصابعُ هذه بأصابع تلك في حالة تشنّج لا إرادية.
فجأة تتسرّب إلى داخل القاعة، عبر النوافذ المشرعة، أصواتُ هرج ٍومرج ٍيختلط بعضها ببعض في غير اتساق وكأنها الأمواجُ يلاطم بعضُها بعضاً بفعل الرياح الهاجمة عليها في آن معاً من الجهات الأربع. تدقّ أليسّا بقبضتيْها على حافة النافذة دقاًّ خفيفاً يتناسقُ مع هزّات رأسها، ثم تندفع إلى النافذة الأولى وكأنما لتلاحق تفاصيل المشهد الذي يجري خارج الأسوار من زوايا مختلفة.
وَقْعُ أقدام يقترب شيئاً فشيئاً من ناحية الممرّ الذي إلى اليمين. تدخل آ ناّ مضطربة القسمات(.
أليسّا: هيجانُ الربيع ِفي الأصوات المجنونة خارج السور يمسخ الربيعَ خريف اً.
آناّ: أليسّا! أليسّا! الأصواتُ تنذر بالشيء أحسّه ولستُ أراه.
أليسّا: للمرة الثالثة يحتشدون ويحتشد الفضاءُ بالغضبِ المُبيََّت ِفي الصدورِ الض يقّةِ على أفكار أليسّا وقراراتها.
آناّ: إستجيبي لرغباتهم يا أختاه. لَيِنّي مواقفَكِ شيئاً قليلاً.
أليسّا: وأتَرُْكُ قرطاجَ تجترّ عبوديةَّ الطقوس التي لم تعدُْ تليقُ بمملكةٍ بنُِ يَتْ على هواجس الحريةّ؟ أبداً! أبداً! اللينُ في مواقف الحقّ يجزّيءُ الرؤيةَ، يف ت تّهُا، وينحرُ الحلمَ الذي هو حاضرُ قرطاجَ ومستقبلهُا.
)يشتدّ هدير الأصوات الهاجم عبر النوافذ من خارج أسوار القلعة. تهرع آ ناّ وأليسّا إلى إحدى النوافذ وتتأملان المشهد بقلق بالغ(.
آناّ: يموج بعضُهم في بعض وكأنما تتمايل بهم الأرض. ما العمل الآن يا أختاه؟
أليسّا: أنظري إليهم ملياًّ. أنظري. إنْ عيونهُم وأفواهُهم إلاّ بوّاباتُ نواياهم ،فنظراتهُم لسعاتُ الأسواط في جسد ِالريحِ، وصرخاتهُم دقاّتُ الفؤوسِ في أسوار القلعة!
وتسألينني ما العمل الآن؟
آناّ: كأنهم نذُرُُ النهايةِ الكئيبةِ، ونحن لمّا نَزَلْ في أوّل الربيع! أجل أجل ما العمل الآن يا أختاه؟ ما العمل؟
)من الممرّ الذي إلى اليمين، يدخل أحد الحراس على عجل.( الحارس: مولاتي!
أليسّا: ما الذي أتى بكَ إليَّ الآن؟ ما الخبر؟
الحارس: الكاهن الأكبر يستأذن بالدخول على مولاتي.
أليسّا: وحده أم بصحبته أحد؟
الحارس: وحده يا مولاتي، وإنْ خلفه الأصواتُ تلحّ عليه بالدخول معه.
أليسّا: تأكّدْ أنه يدخل وحده. هياّ! هياّ! أنا بانتظاره.
) ينحني الحارس وينسحب إلى خارج القاعة( .
آناّ: لا بدَّ من استدعاء أدونْ على الفور، فالمشهد خارج القلعة لا يبشّ ر بالخير. ولعلهّ أن يتفاقم في أية لحظة.
أليسّا: إذهبي بنفسكِ إليه وأتْيني به على جناح السرعة.
آناّ: وحده القادرُ على ضبط الوضع إذا الهيجانُ تخطّى حدودَ المعقول.
أليسّا: أسرعي إليه! أسرعي! فالوقت الآن هو عدوُّنا الأوّل.
)تغيب آناّ في الممرّ الذي إلى اليمين. وما هي إلا لحظات حتى يدخل الكاهن الأكبر(.
الكاهن: إلى متى أردُّ عنكِ غضبَ الناس؟!
أليسّا: إلى أن يهدأ غضبكَُ أنتَ!
الكاهن: ما بيني وبينكِ هو شيءٌ أقربُ إلى العتاب. أمّا غضبُ الرعيّة فللأمر الذي تعرفين.
أليسّا: حكايةُ الطقوس وراءَها أنتَ. الرعيةُّ كان ولاؤها دائماً وأبد اً لأليسّا.
الكاهن: كان ذلك حينما كنتِ تحترمين الطقوس الدينية التي ترََبتَّْ عليها الرعيةّ.
أليسّا: ظنيّ أنّ سببَ الهيجانِ أمَْرٌ لا علاقة له بالطقوس ولا بمصلحة الرع يةّ.
الكاهن: وما هو في ظنّك ِذلكَ الأمرُ الذي لا يذُْكَرُ إلاّ بلغة التلميح؟ أليسّا: تعرفه أنتَ تماماً كما أعرفه أنا. وجودُ آنياسْ في حياتي هو السبب.
الكاهن: بل وجودهُ في حياة قرطاج... ذلك بالطبع أحََدُ أسباب الغضب. الطاري ءُ الغريبُ شَغلََ ملكةَ قرطاج عن الاهتمام بشؤون الناس.
أليسّا: كيف أكون أهملتُ شؤونَ الناس، وآنياسْ وجندهُُ يعينوننا على إتمام بناء الحائط العريض الذي فيه أمْنُ قرطاج؟
الكاهن: الناس يَرَوْنَ أنّ الغرباءَ باتوا يتصرّفون وكأنهم أبناء قرطاج.
أليسّا: وجودهُم على أرض قرطاج يعزّز من قوة قرطاج. مملكتنُا محفوفةٌ بالمخاطر.
الكاهن: أقنِعي شعبَكِ بذلك إذا استطعتِ. سأبقى أنا خارج هذا الحوار.
أليسّا: لماذا أتيتَ تقابلني إذا؟ً
الكاهن: لأنقلَ إليكِ إلحاحَ الناس عليَّ... وعليكِ... لاستعادة حقهّم بالاحتفال مجددّاً بطقوس الذبيحة السنوية وطقوس البغاء المقدسَّ.
أليسّا: طقوسُ العبودية للموروثات القديمة لا يعزّز إلاّ حريّةَ المستبد يّن!
الكاهن: تتهّمينني بالاستبداد؟
أليسّا: إثبتْ خطأ مقولتي إذا استطعتَ.
الكاهن: غضبُ الرعيةّ هو الحدُّ الفاصل بين الخطأ والصواب. وصيحاتُ الغضبِ
الهادرةُ حول القلعة إنْ هي إلاّ الإدانةُ المبرمةُ لخطيئة ِإلغائكِ طقوسَنا المقدسة .
تفََرُّدكُِ باتخاذ هكذا قرار يجعل منكِ مثالاً للحاكم المستبدّ.
أليسّا: قدرتكَُ على تشويه الحقيقة لا حدّ لها! أليسّا لم تلُْغِ الطقوسَ بل عَدلََّ تهْا. بَدلََ إحراقِ طفلٍ بالنار، وبَدلََ ذبَْح صبيةٍّ عذراءَ، قرُْباناً للآلهة وزُلْفى، يظلُّ إحرا قُ البخور في المعابد، والجهرُ بالصلِوات، كما تنا وُلُ النبيذ ممزوجاً بالعسلِ، يظلُّ كلُّ ذلك جوهرَ الطقوس التي تجددّ ممارستهُا علاقةَ الرعية بآلهتها.
الكاهن: ويفُْرَضُ ذلك على الكهنة والناس فرضا؟ً!
أليسّا: كان على أحدٍ مناّ أن يقوم بالمبادرة لتطوير ممارساتنا الروحيةّ على نحوٍ يتلاءم مع حكم العقل الذي بنى، ولا يزال يبني، مدينةَ قرطاج. وكان ذلك كل هُّ من قَدرَي.
الكاهن: أوََ عقلكُِ وحده الذي أنشأ قرطاج؟
أليسّا: عقلي كان يحمل مبادرةَ الحلم بمدينةٍ للحريّة. والأرواحُ الحرّة ُ من حولي حوّلتِ الحلمَ إلى حقيقة.
الكاهن: ولكنكِّ تتفرّدين الآن بإلغاء الطقوس التي اختار الناسُ أن تظلَّ الجوهرَ الروحيَّلعلاقتهم بالآلهة.
أليسّا: هذه المرّةَ لم يختاروا بحرّية. كان هنالك من يسمّم أفكارَهم ويلفح بنيران ِالفتنةِ أرواحَهم!
الكاهن: رَدُّ اعتراضِ الناس ِإلى تكهّنات ِالمؤامرة ِ والتحريض ِإنما هو لغة ُ العاجزين.
أليسّا: والناسُ أعجزُ من أن يكتشفوا نوايا المستبديّن بأرواحهم بِإسْمِ آلهتهم!
الكاهن: الناسُ إذاً برأيكِ جَهَلَة؟
أليسّا: بل طيبّةٌ قلوبهُم... إلى حدّ السذاجة... إلى حدّ الإنجرار وراءَ التهّم الباطلة والشائعات.
الكاهن: وهل مِنَ الشائعاتِ إلغاؤكِ لطقوسِ البغاءِ المقدسَّ؟
أليسّا: إلى متى؟ إلى متى على المرأةِ أن تعتكفَ، مرّةً كلّ سنةٍ، في معبد عشتروت ،فلا تغادره حتى يفضي إليها رجلٌ غريبٌ من الرجال؟ إلى متى؟ الكاهن: إلى أن تأمرَنا عشتروت بغير ذاك!
أليسّا: ومَنْ هو ذلك الذي سمع صوتَ عشتروت يمُْلي على الناس الطقوسَ المهينةَ لكيان المرأة؟ إنْ صوتهُا المزعومُ إلاّ صدى لتمنيّات الكهنة ولأحلام العرّافين!
الكاهن: أليس غريباً أن تعَِظَنا بضرورة ِاحترام كيان المرأةِ امرأةٌ د نسَّتْ كلّ المقدسّات بعلاقتها الفاجرة مع غريبٍ طاريء؟
أليسّا: أوَ كنتَ تقول الكلامَ نفسَه لو كنتُ رضيتُ بالزواج منكَ؟ الكاهن: كنت ِستكونين زوجتي آنذاك، لا خليلتي أو صاحبتي العابرة.
أليسّا: بل كنتُ سأكون عاهرةَ الضرورةِ لو رضيتُ بكَ زوجاً! علاقتي بآنياس كرّستهْا قوانينُ الطبيعة التي جمعتْ بيننا.
الكاهن: لا تكرّس قوانينُ الطبيعةِ إلاّ النزوات. العلاقاتُ التي لا يكرّ سها رضى الناس وثقافةُ الناس لا قيمة لها في مجتمعات المدن. أمْ ترُاكِ نسيتِ هيلينا وبارِسْ والدمارَ الذي ألحقتَهْ بمدينة طروادة علاقتهُما المشينة؟
أليسّا: هيلينا! هيلينا! تلك امرأةٌ تجاذبََ قَدرََها كرامةُ زوج ٍ وولعُ حبيب. أمّا أنا فامرأةٌ مات عنها زوجُها منذ سنوات. وَلعَي بآنياس لم يكن أبداً خطيئةً ارتكبتهُا بحق قرطاج والقرطاجيين.
الكاهن: قولي لآنياس أن يعينكِ على إقناع رعيتّكِ بهذا الكلام!
أليسّا: قد أفعل ذلك إن لم تكفَّ عن تحريض الناس. وقد أفعل ما هو أكثر!
الكاهن: لشدّ ما تخطئين إن كنتِ تظنين أنّ قَدرََكِ مرهونٌ بإرادتكِ.
أليسّا: إرادةُ كل إنسانٍ قَدرَُهُ. ألستَ بإرادتكَ تحرّض الناسَ ضديّ؟ الكاهن: إرادتي تحرّكها إرادةُ الآلهةِ التي وَهَبَتنْي إرادتي في الأساس.
أليسّا: ولأنّ إرادتكََ تتوخّى الشرَّ والإيذاءَ، فإرادةُ الآلهةِ ليست أكثر من قناع تتسترّ خلفه لتبرير نواياكَ!
الكاهن: الخيرُّ والشرُّ مصدرُهما واحد. وقَدرَُ الإنسانِ يتجلىّ في قبولهما معاً من حيث أتيَا.
أليسّا: أمّا أن تكون الآلهةُ مصدرَ الشرّ فمسألةٌ تستفزُّ العقلَ البشريَّ، كما هو الحال في أسطورة أوديبْ اليونانية.
الكاهن: أوديبْ يتقبلّ قَدرََهُ.
أليسّا: بل هو يتفوّق عليه. وذلك بفعل إرادته.
الكاهن: لا ريب أنكِ أخطأتِ فهَْمَ الأسطورة.
أليسّا: بل قرأتُ ما بين سطورها وأدركتُ من استراتيجيَّة مؤلِفّها الرسالةَ الكامنة َ في مضمون التعارض الصامت بين إرادة أبولو وإرادة أوديبْ الإنسان. من قبل أن يوُلَدَ أوديبْ، يقرّر أبولو أنهّ سيقتل أباه ويتزوج أمَّه. يقرّر ذلك دون أن يبرِّرَ الشقاءَ الذي سيحلّ بالأب والأم والإبن. أوديبْ، حينما يسمع بالنبوءة، يحاول الفرار من قَدرَِهِ. عبثاً يحاول. أبولو يهيّ ء له ظروفَ قتَلِْه لأبيه وزواجه من أمّه وارتقائه عرشَ "طيبة". تمر السنين وينُْزِلُ أبولو عقابَ الطاعون بالمدينة، آمراً أهلها باكتشاف مرتكب الخطيئتين ومعاقبته لتتطهّرَ بذلك المدينةُ وتنجو من هَوْلِ الطاعون. يكتشف أوديبْ حقيقةَ أنه هو الذي قتل أباه وتزوّج أمَّه ليتحوّ ل بذلك إلى لعنةٍ على المدينة التي كان لسنوات طوال راعياً لها وأباً. لا يثور على أبولو لأنه أنزل به الشقاءَ الذي لا مبرّر له. على العكس تماماً، يتقبلّ مشيئةَ أبولو ويرتقي فوقها درجات. بَدلََ أن يعاتبَ أو يعترضَ أو يفرَّ من العقاب، يختار أن يفتدي المدينةَ بنفسه ويخلصّها من الطاعون. يَسْمَلُ عينيه بإرادته هو، ليتمّ بالدم فِعْلُ التطهير. ثم ينفي نفسه بنفسه لِتنَْعَمَ المدينةُ من جديد بالأمن والسلام. إرادةُ أوديبْ هي إرادةُ الخير، إرادةُ الإنسانِ المتمتعّ ِبحسِّ المسؤولية. وهذه الإرادةُ وهذا الحسُّ هما المغزى الذي تحتفل به الأسطورة. أجل، أجل، إرادةُ الإنسان هي قَ درَُ هُ الذي به يصنع شقاءَ الآخرين أو سعادتهَم... بِقَدْرِ ما يصنع به شقاءَه هو أو سعادت هَ.
الكاهن: هذا اجتهادٌ يلغي البعُْدَ الدينيّ للأسطورة. بل إنهّ يتجرّأ على الآلهة فيجرّدهَم من أيّ إحساس خُلقُيّ. لا ريب أنّ مشرّداً مغامراً مثل آنياس لا يتوانى عن مشاركتكِ في هذه الأفكار الفوضويّة!
أليسّا: لا تفتأ تحشر آنياسْ في كل شيء فكأنه الوسواسُ الذي احتلَّ عقلَ كَ!
الكاهن: ولا ريب أنّ تسََرُّبَ هذه الأفكار إلى رعيتّكِ سيزيد من قناعتها أ نّ ملك تهَا لم تعَ دُْ تعير آلهتهَا اهتماماً!
)أصوات الهرج والمرج القادمة عبر النوافذ تشتدّ من جديد وتطغى للحظات على صوت الكاهن الأكبر وصوت أليسّا. وحينما تفتر شيئاً قليلاً يبادر الكاهن الأكبر بالكلام.(
الكاهن: الغليانُ يشتدّ حول أسوار القلعة. وإنْ لم أتدخّل أنا لتهدئة الأرواح الثائرة، فنيرانُ الغضبِ ستلتهم القلعةَ بمن فيها!
أليسّا: أطَْفِيءْ ما أشعلتهَ وَانْجُ بروحكَ!
الكاهن: حتى لا يكونَ جسدكُِ وقوداً للنار... تعرفين ثمنَ خلاصه!
أليسّا: ثمنُ خلاصه في إرادة روحه!
الكاهن: سنلتقي إذاً عمّا قريب!
)بخطى صارمة يتوجه الكاهن الأكبر نحو الباب الذي منه دخل. هناك يصادف خروجُه دخولَ أدونْ وآناّ. يتبادل الرجلان نظرات تشي بتحدٍّ صامت. يتوارى الكاهن الأكبر عنالأنظار. تتقدمّ آناّ وأدونْ صوب أليسّا.(
أدونْ )لأليسّا(: ألم أحدثّْكِ من قبل عن حقيقة نواياه؟
أليسّا: لم أكنْ بالجاهلةِ لأحلامه منذ وصول آنياسْ إلى شواطئنا.
أدونْ : النوايا أخطرُ من الأحلام بكثير. قد تحتفظ الأحلامُ ببراءة عفو يتّها، أمّا النوايا فمن فعِْلِ الإرادة ِالتي تخطّط في صمت مريب.
أليسّا: يحاصرني بالناس خارج أسوار القلعة، ثم يدخل عليّ ليلوي إرادتي بحصار الكلمات!
أدونْ : جاء يهددّكِ إذا؟ً!
أليسّا: وأرسلتهُ إلى غير ما يشتهي. أليسّا لا تخيفها الكلماتُ ولا تروّ عُها الصيحاتُ التي تمزّق الهواءَ غضباً ووعيداً.
أدونْ : ولكنه لن يتخلىّ عن مخطّطاته كما يبدو. تصميمُه لهََبٌ في عينيه.
أليسّا: ولن تتخلىّ أليسّا عن قراراتها.
آناّ: ولكنْ ما هو الحلُّ الآن؟ كيف توُاجَهُ الجموعُ الغاضبةُ خارج القلعة؟ أليسّا: بقوّةِ أدونْ العسكريةّ وحكمةِ أليسّا السياسيةّ.
أدو نْ: مولاتي! ليس من رأيي قمَْعُ الجموعِ بقوّة السلاح، فهذا قد يؤدي إلى حرب أهل يةّ قرطاجُ بغنى عنها.
أليسّا: إظهارُ القوّةِ في اللحظة المناسبة قد يغني عن استخدامها.
أدونْ : قوّةُ جيشنا ظاهرةٌ للعيان، يا مولاتي. وحضورُها المُراقـبُِ منذ بدء الإحتجاجات هو الذي حال دون اقتحام الناس للقلعة.
أليسّا: ولكنّ ذلك لم يردع الكاهنَ الأكبر عن الاستمرار في تحريض الناس.
أدونْ : هل المطلوبُ احتجِازُ الكاهن الأكبر؟
أليسّا: إحتجازُه سيؤكّد للناس تهمتهَ لي بأنني تحوّلتُ إلى ملكة طاغية.
أدونْ : وتفريقُ الناس بالقوّة سيكون له التأثيرُ عينهُ.
آناّ: إذاً ما العمل؟ حوارُكما يدور في حلقة مفرغة.
أليسّا: برأيي أنّ أفضلَ الحلول ِمخاطبةُ الرعية وجهاً لوجه.
أدونْ : لن نَدعََكِ تخرجين إليهم، يا مولاتي. لن نسُْلِمَكِ إلى هذا الهيجان.
آناّ: ولن يكون من الحكمة أن نفتح لهم أبواب القلعة.
أليسّا: لا هذه ولا تلك. أنتَ يا أدونْ وأنتِ يا آناّ تخرجان إلى الناس معاً، تتحدثان إليهم ،تطلبان منهم أن ينتخبوا من أنفسهم وفداً من خمسة أشخاص ليحاورني في شأن طلباتهم.
أدونْ : قد يهديّءُ ذلك من هيجانهم للحظات، ولكن هَبي التحريضَ لم يتوقّفْ ، فكيف أسْ لكُُ معهم دونما إراقة للدماء؟
أليسّا: ليس لقطرةِ دمٍ واحدةٍ أن ترُاقَ في مملكة ٍ شُيِدّتَْ على هواجس الحريةّ. رعيتّي ستستجيب لطلبي، ولقائي بالوفد الذي تختاره سَيسُْقِطُ كلّ مقولات الكاهن الأكبر.
ولسوف أخاطب في الناس عقولهَم وقلوبَهم لأقنعهم بصوابيةّ تعديلي لطقوسنا الدينيةّ. سأرُيهم أنّ حَرْقَ الأطفال وذبَْحَ العذارى هما انتقاصٌ من كرامة الإنسانوسَلْبٌ بربريٌّ لحريتّه. وبالإشارة إلى طقوس البَغاءِ المقدسِّ، سأصرخ حتى أرُْبـكَِ فوق رؤوسهم قبةَّ السماءِ أنْ وحدهَا الأجسادُ الحرّةُ تلَِدُ الأحرارَ من الرجال! قرطاج ُ بناها الأحرارُ من النساء والرجال، ووحده وَلَعهُُمْ بالحريّة سيحمي مستقبلَ قرطاج.
آناّ: سنمضي إليهم يا أختاه ولن نعود إليكِ إلاّ بما يسُِرُّ عينيْكِ وقلبَكِ .
أدونْ )لآناّ(: بل سأمضي بنفسي خشيةَ أنْ تتعقدَّ الأمورُ بحضوركِ يا س يّدتي.
أليسّا: بل سيكون حضورُها معكَ إشارةً لطيفةً منيّ إليهم أنْ إنّ الملكة َ لم ترسلْ قائد الجيش وحده، بل بعثتْ إليهم كذلك بفردٍ حميمٍ من أفراد عائلتها، كرسولٍ يمثلّها في دعوتهم إلى الحوار.
أدو نْ: لعلّ رأيكِ هو الصوابُ، يا مولاتي. ولكنْ إذا توجّه أحدهُُم إليها بأيةّ كلمة نابية ،فسيكون موقفي كقائدٍ عسكريٍّ في غاية الحرج. لا عَنِ الإهانةِ سأسكتُ ولا قطرة َ دمٍ عليَّ أنْ أريق!
أليسّا: أعرفُ أنّ الجميع يقدرّونكَ كقائد عسكريّ لجيش قرطاج. ووحده ذلك سيلجم
الألسنةَ الخبيثة. معاً معاً أريدكما أن تنطلقا إليهم. ومعاً معاً أودُّ أن تظلا ّ طالما الخطرُ يهددّ أمنَ قرطاج.
أدونْ : لمولاتي ما تشاء. سنمضي توّاً فالوقت عدوٌّ لا يرحم.
)يخطو بصحبة آناّ خطوات ثابتة صوب الباب الذي إلى اليمين ثم يتوقّف فجأة ويلتفت إلى حيث أليسّا لا تزال تشيعّهما بنظراتها.( أدونْ : مولاتي!
أليسّا: تذكّرتَ شيئا؟ً
أدونْ : ليلة أمس انتهينا من إصلاح سفن آنياس.
أليسّا: ما الذي أسمعه منكَ يا أدونْ؟ أمتورّطٌ أنتَ في إصلاح سفن آنياس؟
أدونْ : أدونْ لا يتورّطُ إلاّ في الأمور التي تخدم مصلحة قرطاج. ولقد وعدتْ مولاتي ضيفهَا بتقديم العون له ولصحبه منذ اليوم الذي نزلوا فيه على شواطئنا. أنا لم أقَمُْ إلاّ بتنفيذ الوعد!
أليسّا: ولكنّكَ لم تأتِ على ذكرِ هذا الأمر كلَّ هذه الشهور!
أدو نْ: ومولاتي لم تفاتحْني مرةً في هذا الأمر!
أليسّا: وأنا لم أصدرِ الأمرَ بالإستعجالِ في إصلاح السفن! أنتَ كسواكَ تعمل خفيةً ع نيّ لترحيل الأمير الطرواديّ؟ عجباً! عجباً! يا أدونْ. ألم تدركْ حتى الآن معنى أنْ يختارَ القلبُ الذي يختارُه؟
أدونْ : أنا الذي أعرف خياراتِ قلبي، فهل راعيتِ شيئاً من هذه الخيارات؟ أليسّ ا: أليسّا امرأةُ الخياراتِ الصعبة! قلبهُا وإرادتهُا توأمان. الوقتُ يداهمُنا الآن ،فَانْطَلِقْ، هياّ انْطلقْ وآناّ وأتْياني بالوفد الذي سأحاوره في مستقبل قرطاج.
أدونْ : سنمضي لتنفيذ المهمّة، يا مولاتي، ولكنْ إنْ شئتِ أن تعرفي أكثر، فآنياس قضى يوم أمس متفقدّ اً لسفن رحيله!
أليسّا: هياّ ارحلْ وآناّ إلى حيث الرعيةُّ تنتظركما، فذلك هو الرحيلُ الذي سيقرّر مصيرَقرطاج.
)يتابع أدو نْوآناّ مسيرهما ويتلاشيان في الممرّ الذي إلى اليمين. القلق يظهر جلي اًّ في حركات أليسّا، فتارة تحرّك رأسها بعصبيةّ يميناً وشمالاًّ وكأنما لتكذبّ خبر اً، وطوراً تتشابك أصابعُ يديها ثم ينفلت بعضُها من البعض الآخر، تقَبَضُّاً وانبساطاً ثم تقََ بضُّاً وانبساطاً، وكأنما لتشيَ بتشنجّ الأفكار التي تتصارع ليس في رأسها فحسب بل في كيانها كلهّ.(
أليسّا )لنفسها(: كلمّا ضاقتْ عليَّ دائرةُ وجودي كلما اتسعتْ فيَّ فضاءاتُ روحي .
وحولي تتهاوى الأشياءُ، تتناثرُ وُرَيْقاتِ جفاف ٍ ،فكأنما يهزأ بالربيعِ الخريفُ، أو كأنما الزمانُ يعود القهقرى. وحدكَِ الآن يا أليسّا! وحدكَِ وما من صديقٍ لكِ إلاّ قدرتكُِ على اتخاذِ القرارِ، القرارِ الذي سيوحّد في كيانكِ البدايةَ والنهاية.
)يدخل آنياس من الجهة اليمنى هادي ءَ الخطى وكأنما في شيءٍ من الترددّ.( أليسّا: أخيراً وجدتْ خطواتكَُ الطريقَ إلى القلعة!
آنياس: مُسْتحَْدثَاتُ الأمور تحاصر آنياس وتقلصُّ مساحةَ تحرّكاته.
أليسّا: وتقلصُّ مساحةَ الحقيقة في كلماته!
آنياس: أعاتبةٌ عليّ أليسّا إلى حد الإتهام؟
أليسّا: لم أعَُدْ أميزُّ العتابَ من الغضبِ في زمن ٍ صار الوفاءُ فيه بلون الرماد!
آنياس: الوفاءُ بلون الرماد! نكهةُ الحزن في كلمات أليسّا!
أليسّا: أوََ غَريبٌ أنتَ عن أسباب حزني؟
آنياس: أفهمُ القلقَ الذي تثيره في خيالكِ الحناجرُ الهائجة حول أسوار القلعة، ولكنني لا أفهم انكسارَ إرادتِكِ أمام هذا الهيجان.
أليسّا: وجهُكَ الذي كان يندلق منه النورُ يوم دخلتَ عليَّ أوّلَ مرّة يتش بّث الآن بلون الرماد!
آنياس: أليسّا! أليسّا! أنتِ أغلى عندي من أن أحجبَ عنكِ نورَ الحياة.
أليسّا: ومن أجل ذلك كنتَ تتفقدّ بالأمس سفنَ رحيلِكَ ؟
آنياس: أدونْ وإيرباسْ اسْتدعياني لِتسََلمُّ سفني وقد تمّ إصلاحُها واحدة واحدة.
أليسّا: أدونْ وإيرباسْ يستدعيانكَ ولا تخبرُني؟ آنياس: ها أنذا أخبركِ الآن. من أجل ذلك أتيتُ.
أليسّا: وأتيتَ مترددّ َ الخطوات لأنكَ أخفيتَ عنيّ السرَّ الذي تكره أن تتلف ظَّ به شفتاي؟ آنياس: أيَّ سرّ، أليسّا! أيَّ سرّ تعنين؟
أليسّا: ني تّكََ أن ترحل عنيّ في الخفاء. أم أنكَّ ظننتَ أنني لن أكشفَ سرَّكَ ؟
آنياس: ألا ينفي التهمةَ عنيّ مجيئي الآن إليكِ لأصارحكِ بكل ما كان يجري حولنا في الأسابيع الأخيرة؟
أليسّا: تصارحني! كيف للرجولةِ الوضّاءَةِ أن تصارحني بالحقيقة وهي المتلفعّة ُ الآن بجلباب الرماد؟!
آنياس: كلُّ الرجال حولكِ يهددّون رجالي بالاختطاف وبالموت إن لم نرحلْ لحظةَ يتمّ إصلاحُ سفننا.
أليسّا: والأميرُ الشجاعُ الذي خاضَ المعاركَ الضاريةَ يتسرّب اليوم إلى قلبه الخوفُ ؟ آنياس: أليسّا! أفيقي من الحلم الجميل الذي عشناه. رعيتّكُِ تثور ضدكِّ بسببي. جيشُ إيرباسْ ليس بعيداً عن شواطيء قرطاج. والسفنُ التجاريةُّ تحملُ أخبارَ الأسطول الذي يحرّكه بيجماليون في اتجاه مملكتكِ .
أليسّا: كلُّ المخاطر التي عَ ددَْتَ تهونُ أمام خطر رحيلكَ!
آنياس: أفيقي أليسّا! إفتحي عينيكِ على هول ما قد يحدث لقرطاج إذا نحن أسرفنا في انغماسنا في الحلم الذي جمالهُُ حَرَّضَ الدنيا عليه.
أليسا: ولكنهّ الحلم الذي هو حقيقتنُا أنا وأنتَ.
آنياس: قَد رَُنا أن نتخلىّ عن بعض أحلامنا لتسلم لنا أحلامُنا الأخرى.
أليسّا: الحلمُ الذي هو شغفُ القلبِ والجسدِ هو القَدرَُ الحقيقُ أن نؤثرَهُ على كلّ ما سواه.
آنياس: نؤثرُهُ على كلّ ما سواه إذا كان الخيارُ لنا قَدرَاً أكيداً.
أليسّا: والأكيد ُ الأكيد ُ أنّ خيارَ القلبِ والجسدِ هو قَدرَُ المعنى لوجودنا على هذه الأرض.
آنياس: وكيف لهذا المعنى أن يدرأ عناّ سطوةَ المستهزئين بخيار القلب وِالجسد؟ أليسّا: للمستهزئين سطوتهُم ولخيارنا سطو تهُ النابعةُ من إرادة الروح فينا .والروحُ التي تستكين لهباّتِ العواصف ليست الروحَ الجديرةَ بالحياة. لكلّ خيارٍ ثمنٌ ، وأليسّا، منذ ليلة الوليمة، لا تزال تكابد أثمانَ خيارها أنْ تكون لكَ وحدكَ، حبيبةً وزوج ةً في آنٍ معاً.
آنياس: حبيبةً كنتِ دائماً لي يا أليسّا. ولا تزالين. وستبقين حيةّ ً في ذاكرتي إلى آخر يوم من أياّم حياتي. بل لعلكِّ أن تجديني يوماً أنتظركِ في مدنِ الظلال.
أليسّا: والزوجةُ ماذا تفعل بنفسها إذا نأتْ بكَ عنها أشرعةُ سفنكَ؟
آنياس: أليسّا! أليسّا! االحبيبةَ أنتِ دائماً كنتِ لي، ولكنّ الزواجَ ظَ لَّ الحلمَ الذي لم يتحققّ.
أليسّا: بل تحققّ في سرائر الكهف الذي كان الشاهدَ الأمينَ على اتحّادنا جسداً وروحاً.
آنياس: كناّ في غمرةِ الولع وفي قبضةِ الشغفِ ساع ةَ أ نْ...
أليسّا: ... ساع ةَ أفضيْتَ إليَِّ وأفضيْتُ إليكَ. أوََتنكر ندائي لكَ بزوجي وحبيبي؟ آنياس:ولكنّ البلاطَ والرعيةَّ َ والكهّانَ لم يرضوا بأية علاقة بيننا.
أليسّا: جسدانا شاهدان على زواجنا .قلبانا لا يزالان يخفقان بولع أحدنا بالآخر منذ لقائنا ذياّكَ في قرارة الكهف. أم أنّ شيئاً حَدثََ لقلبكَ فانْتكََسَ فيه الخفقانُ ؟ وشيئاً حَدثََ لجسدكَ فأحال فيه الربيعَ خريفا؟ً
آنياس:أليسّا اخْرُجي من متاهة الكلمات. الصرخاتُ الضارياتُ تشتدُّ من وراء أسوار القلعة.
)عبر نوافذ القاعةِ تهدر زمجرات الأصوات أعلى فأعلى.(
أليسّا: إن لم يبقَ لأليسّا في قلبكَ شيءٌ من الحبّ، أفتسمحُ لكَ رجول ةُ طروادة أن تتخلىّ عن المرأة التي تخلتّْ عن كل شيء من أجلكَ؟ وخاصةً في اللحظة التي حاج تهُا لِأنَْ تقفَ بجانبها أشدُّ ما تكون وأعتى؟
آنياس: منذ استولى على كل جوارحي ولعي الجحيميُّ بكِ وأنا أعاني انشطار اً في كل كياني. قلبي وجسدي يزرعاني في أرض قرطاج، وقَدرَي يجتثُّ جذوري ليزرعَها في تربة أرض أخرى.
أليسّا: الأرض ِالتي لم تخترْها أنتَ؟! والتي لم تعرفْ قدماكَ لها موطئ اً من قبل؟! آنياسْ!
يا آنياسْ! أنتَ قَدرَُ أليسّا، فلا تسمحْ للأرض المجهولة أن تكون قَ درََ كَ. وجهُكَ الذي يندلقُ منه النورُ ، شَعْرُكَ المتموّجُ الخصلاتِ، طلتّكَُ التي تغطّ ي على طلاتّ الرجال ...كيف؟ ثم كيف لأليسّا أن تعيش محرومة ً من هذا النعيم؟ أنتَ كلُّ الربيع لعينيَّ ، فلا تتركْهما تذبلان في جفاف الخريف.
آنياس: لا تضُعفيني بكلماتِكِ يا أليسّا، أنا الممزَّ قَ ةُ إرادتي بين قَد رََ يْن!
أليسّا: كيف أتنفسّ الهواءَ بعدكََ وقد خَلاَ من رائحة جسدكَ؟
آنياس: وكيف يرضى بنفسه بعدكِ جسدي وقد هجرتْه انْسياباتُ أنامِلِكِ؟ أليسّا: إذ اً إ بْقَ معي في قرطاج!
آنياس: إذاً تعاليْ معي إلى أرض الشمال!
أليسّا: ندائي لكَ هو نداءُ المعقولِ للممكنِ، ونداؤكَ لي هو نداءُ الممكنِ للمستحيل!
آنياس: المستحيلُ أنْ تصَُمُّ أذناي عن صوت هكطور المتهّمني بتجاهل قدري... قدري المنذورِ لي في المدينةِ التي تنتظر إنشائي لها، والتي يرثها بعدي ابني آسكانيسْ وتكون لأحفادِ الطرواديين جميعاً مدينةَ المجدِ المستجدِّ وقلعةَ العزِّ والعزاء.
أليسّا: إرحلْ إلى مجدكَ إذاً ما دمتَ رحلتَ فعلاً في خيالكَ إلى أرض الشمال! في يدي أن آمُرَ بتدميرِ سفنكَ وسَدِّ طرقِ الرحيلِ عليكَ! في يدي أن أختطفَ اب َنَكَ وأجعلَ مستقبَلَه لَكَ ذكرى لحلمٍ مات في مخاض ولادته! في يدي شتى الخيارات، ولكنَّ كبرياءَ أليسّا تمنعها من استجداءِ الوفاءِ بسياسةِ الابتزاز. إرحلْ على جناح ِ كلماتكَ فوجودكَُ ههنا والعَدمَُ سواء!
)تلتفّ على نفسها موليّةً إياّه ظهرها. عيناها راحلتان في الفضاء المنشق ةّ ِعنه نوافذُ القاعة. من الجهة اليمنى يطلّ سرجتسْ وإليونيسْ والطفل آسكانيسْ. يتقدمّون بصمت صوب آنياسْ. يحاول آسكانيسْ أن يندفع إلى حيث تقف أليسّا فيلجم اندفاعَه آنياسْ.
عيونهم جميعاً تلتهب بالصمت الذي فرضه على المكان وعلى اللحظة الراهنة غيابُ وجهِ أليسّا عن مجال رؤيتهم وجمودُ جسدها في مكانه لا يريم. ينسحب الجميع بإشارة من آنياسْ ويتلاشون في عمق الممرّ الذي إلى اليمين. تتنفسّ أليسّا عميقاً وتلتفّ حول نفسها مرّة أو مرّتين وكأنما تبحث عن شيء لا تجده.(
أليسّا )لنفسها(: لعلّ الصمتَ والعَدمََ هما مَعْبَرُنا من وجودٍ كابدْناه إلى وجودٍ نتشوّق إليه!
فإنْ هَبطََ الصمتُ والعَدمَُ علينا، كان عبورُنا نحو الموت. وإن اخترنا بإرادتنا الصمتَ والعدمَ، لم يكن عبورُنا إلاّ رحلةَ الشوق ِ إلى تلكم الحياة... الحياةِ التي تستمرّ بعدنا لأننّا وفرّنا لها أسباب الديمومة.
)تخطو خطوات صوب التمثال النصفيّ لأشرباسْ. تتأمّله بابتسامة حزينة.(
أليسّا )للتمثال(: حتى أنتَ تلزمُ الصمتَ الآن! وطيفكَُ... الطيفُ الذي آنسني في وحدتي لسنوات طوال... وحَدثَّنَي وأنصتَ إليَّ... هو كذلك انقلبَ عليَّ غياب اً وأثابَ اشْتياقي إليه فراغاً هو أدهى من كل عتاب!
)تتمشّى كئيبةً نحو وسط القاعة.(
أوّاهِ ثمّ أوّاهِ من صحبةِ الرجال! عُلِقّنَي منهمُ الذين ظلوّا عن قلبي غرباءَ، وعُلِقّْتُ الرجلَ الذي أسلم نفسَه للغربة في أرض الشمال، فدفعْتُ عنيّ المُ تهَافتين عليَّ ، وتهافتُّ على الرجل الذي آثر عليَّ الرحيلَ! ألا ما أعجبه قَدرَ اً قَد رَُكِ يا أليسّا!
)تلتفّ حول نفسها مرّة ومرّة ومرّة ثم بغتةً تنفجر ضاحكةً بعجبٍ ومرارة.( حتى اسْمي بعينه تنقلب عليَّ دلالتهُ! أليسّا الإسمُ المُشْتقُّ في أغلب الظ نّ من
"ألَيسّومْ"، تلكم النبتة التي في معتقدات اليونان تشفي من الجنون! فمن أيّ جنونِ الرجالِ تشفي الرجالَ أليسّا؟
)تنفض يديها في الفراغ الذي يلفهّا، مرة ومرة ومرة، في أدا ءٍ يتنازعه الرفضُ والإستغراب(,
أبداً!أبداً! إنْ هو إلاّ الشيءُ وضدهُّ في كلّ شيء!
دائماً دائماً وأبداً أبداً!
فإن يكنْ أغربَ عجائبِ الدنيا الإنسانُ فأغربُ ما في قدراته الوَلَعُ، يسمو به إلى مَصافِّ الملائكةِ، وينزلقُ به إلى درََكِ الضواري، فما أعجبه الإنسانُ كائناً مُترَْفَ الأضدادِ!
)من الجهة اليمنى تدخل آناّ مسرعة الخطى وهي في حالة اضطراب وهلع(.
آناّ: أليسّا! أليسّا! الجنونُ كلهُّ حَلَّ علينا!
أليسّا: وحدكِ ترجعين إليَّ؟ أين أدونْ؟ أين تركتِهِ؟ عجّلي خبرّيني!
آناّ: أرسلني إليكِ وبقي مع الناس يهديّء من روعهم.
أليسّا: ولماذا أرْسلكِ وبقي وحده معهم؟ وما الذي حدث لهم ليهديّء من روعهم؟ آناّ: لن تصدقّي الذي جرى. الكارث ةُ أعظمُ ممّا تتصوّرين.
أليسّا: لم أعدْ بحاجة لتصوّر أيّ ِ شيء .حقيقةُ ما يجري حولنا منذ أسابيع أغربُ من كل التصوّرات. هياّ صارحيني بالذي حدث ولا تخافي عليَّ من ردةّ فعلي.
آناّ: رحّب الناسُ بإقتراحنا أن يختاروا من بينهم وفداً من خمسة رجال لمحادثتِ كِ بشأن مطالبهم. وبالفعل تشكّل الوفدُ وهدأتْ الأصواتُ الثائرة. وما إنْ أخذ الوفد ُ طريقَه نحونا حتى وقعتِ الكارثة. وقعتْ في طرفة عين وقبل أن ندركَ نحن أو سوانا ما الذي كان يجري بالضبط. إلتفّ حول الوفد حفنةٌ من الرجال ولمعتْ في ضوء الشمسِ الخناج رُ الغادرة.
أليسّا: طعنوهم؟
آناّ: مرّةً ومرّة ً ومرّةً حتى امْتقََعَ المشهدُ كلهّ بلون الدماء.
أليسّا: ماتوا خمستهُم؟
آناّ: خمستهُم يا أليسّا.
أليسّا: والقتَلََة؟ُ هل قبُِضَ عليهم؟
آناّ: بل انْسربوا بين جموع الناس وتلاشوا كأنْ لم يكونوا إلاّ شيئاً كالسراب.
أليسّا: ولم تعُْرَفْ هويتّهُُم؟ ولم يعُْرَف مُحَرِّضُهُمْ؟
آناّ: أصواتُ الناس انقسمتْ بين مُتهَِّمٍ لإيرباسْ ومُتهَِّمٍ للكاهن الأكبر.
أليسّا: وإذاً فقد اكتملتْ دائرةُ الحصار حولكِ يا أليسّا! وحولكِ يا قرطاج! إكتملتْ ولمَّا تكتملْ! هياّ أسرعي يا آنّا وارْجعي إليَّ بأدونْ. طيري إليه واحْمليه إليَّ، فلقد بَلَغْنا زمنَ الأجنحة!
)تخرج آناّ بخطى حثيثة وتغيب في عمق الممرّ الطويل. أليسّ ا الآن في حالة هدوء عميق.
تبتسم لنفسها ابتسامة حزينة ثم تدير عينيها في أرجاء القاعة، لا بحثاً عن شيء بعينه، ولكن كأنمّا لتختزن فيهما ملام حَ ك لّ الأشياء التي كانت تآلفتْ معها زمناً طويلاً، والتي غالباً ما تحرّك في خيالها شري طَ الذكريات.إنها لحظة مناجاة. فجأة تنفرج شفتاها وتبدو وكأنها ستخاطب شيئاً لا مرئياًّ وإن كان يغصّ به فضاءُ القاعة(.
أليسّا: آخِرُ رحلةِ أليسّا أوّلُ حمايةِ قرطاجْ...
بذا تحدثُّ أخبارَها إليَّ الفصولُ،
توسوسُ لي أنَّ آخ رَ الرحلةِ أوّل ُ مراتبِ المصيرْ، فالهُوِيُّ ارتقاءٌ
وخساراتُ الدنيا سُلمَُّ الزمنِ العابرِ بنا إلى ذواتنا، ذواتنِا التي كِدْنا أن نضيعَّها في التفافاتِ الدروبْ.
كَذبَوا! أليسّا ليستْ هيلينا!
ليستِ الغزالةَ التي يختطفها العابرونْ، ولا الحمامةَ التي يهُيضُ جناحيْها المُسْتنَْسِرونْ.
أليسّا هي القَدرَُ الآخَرُ لأنثويةِّ الأرضْ، هي المغتصِبَةُ لأزمنةِ الممكن وِالمستحيلْ، أليسّا هي قرطاجُ العشقِ والحلمِ والذكرى، هي الآن، والذي كانَ، والذي سيكونْ.
إنهّا مخاضُ الحياةْ،
تماماً كما هي مخاضُ الموتِ الذي منه تتوالدُ أقدارُ المدنْ.
آخِرُ الرحلةِ إذاً أوّلُ مراتبِ المصيرْ.
وغداً... مِنَ الخريفِ المبكّرِ لأليسّا سيتوالدُ لقرطاجَ ربيعٌ وربيعٌ وربيعْ.
)وَقْعُ خطوات متسارعة. تنخطف أليسّا نحو المنضدة الخشبيةّ، ومن خلف إناء النبيذ وإناء العسل تستلّ خنجراً وتطعن به صدرَها. يطلّ أدونْ وآناّ من الجهة اليمنى للقاعة، وإذ يدركان حقيقةَ ما يجري، يهرعان إلى أليسّا ويمسكان بها، كلٌّ من ناحية ،ويجُْلِسانهِا على الكرسيّ الوطيء وهي تنزف.(
آناّ: هو الجنونُ بعينه! أليسّا! أليسّا! كيف تجرؤين على طلب الموت لنفسكِ وتتركين آنّا وحيدةً على وجه الأرض؟
أليسّا: لن تكوني وحيدةً يا أختاه! معكِ أدونْ... دائماً وأبداً.
أدونْ : سأحضر الطبيبَ في لحظات!
أليسّا: بل إ بِْقَ معنا... ففي لحظاتٍ أكون أنا قد انتهيتُ. إسمعيني يا آناّ. إسمعني يا أدونْ.
أعرفُ أنكَّ لطالما كنتَ مولعاً بكليْنا! والآنَ راحلةٌ أنا. فَ أحَِ بنَّي في آ ناّ، وأحَِبَّ آناّ في آناّ! ولْيكنْ حبُّ أحدكما للآخر سياجاً لقرطاج من بعدي يدرأ عنها طواريءَ العاديات إذا ما عَبَثَ دولابُ الزمن بميزان الفصول.
آناّ: لن نسمح لكِ أن تتركينا! لن نسمح لكِ أبداً!
أليسّا: لفُيّ يدهَ بيدكِ يا آنّا! لفَُّ يدهَا بيدكَ يا أدونْ!
)تلتفّ يداهما على بعض.(
أليسّا: أليسّا تعلنكما زوجاً وزوجة ً... ملكاً وملكة ً على عرش قرطاج!
آناّ: بل أنتِ العرشُ وأنتِ قرطاج!
أدو نْ: مولاتي! مولاتي! ستكونين بخير.
أليسّا: أنتما غدُ المدينةِ الذي عش تهُ قبلكما في مرابع حلمي. فلا تتنكّ را لذلك الغد. والآن...
آناّ: الآن أنتِ معنا.
أليسّ ا: الآن حان أوانُ الرحيل. حان أوانُ الخلاص... لأليسّا... ولقرطاج.
آناّ: أبداً! أبداً! أختاه! أختاه!
أليسّا: إنّ أجملَ أحلامنا أوجعهُا لقلوبنا، وإذاً لا شفاءَ للقلبِ إلا ّ بنزيفه!
)يتغضّن وجهها من الألم.( آناّ: لا! لا! لن ترحلي عنّا أبداً!
أليسّا: لكي أظلَّ معكم... لا بدّ أنْ أرحلَ عنكم! وداعاً آناّ! وداعاً أدونْ ! ووداعاً وداعاً قرطاج!
)يأخذها النَزْعُ للحظات ثم تسلم الروح على صرخات آناّ وعويلها المجنون. ي نُْزِلُ أدونْ جثةّ أليسّا عن الكرسي الوطيء ويمددّها، بمساعدة آناّ، على أرض القاعة. يجثو أدونْ وآناّ قرب الجثةّ وكأنمّا هما في صلاة. أصواتُ نواح ٍ بعيد تتسرّب عبر النوافذ لتنداح أصداؤها في أرجاء القاعة(.
ستار
10 تشرين الثاني 2018 – 31 آذار 2018الدوحة – قطر
مصادر تاريخية وأدبية
1- The Aeneid Virgil
2- Dido, Queen of Carthage Christopher Marlowe
3- Phoenicia: History of a Civilization George Rawlinson
4- Carthage: Uncovering the Mysteries and Splendors of Ancient Tunisia
(David Soren, Aicha Ben Abed Ben Khader, and Hedi Slim)
5- Carthage Must Be Destroyed Richard Miles