النص الكامل //echo $btitle;?>
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى- أيلول 1994
إصدار:
ساب للطباعة والنشر والإعلان
بيروت- لبنان
سفر اللعنة والتوبة
(رباعية روائية)
وعد شباط : الجزء الأوّل (1994)
على قارعة الغيب : الجزء الثاني (2002)
صلصلة الرّعد : الجزء الثالث (2003)
الرحلة نحو الفجر : الجزء الرابع (2005)
الإهداء
إلى روح الروائي الأميركي وليم فوكْنَرْ،
لعلّها ترتاح قليلاً من أصداء أصواتها...
شخصيّات الرواية
1-عائلة الجُمَرِي:
سميحة: الأم.
جهّار: الأب.
كسّاب: الإبن البكر لسميحة وجهّار.
طارق: الإبن الثاني.
وسيم: الإبن الثالث.
سامح: الإبن الرابع.
نينا: إبنة سامح.
لؤي: حفيد سميحة وجهّار من إبنهما المتوفّى، عديّ.
سميّة: الإبنة الوحيدة لسميحة وجهّار.
أبو محمود: زوج أخت سميحة.
إسماعيل: إبن أخت جهّار.
2-الشخصيّات الأخرى:
أبو سليم: صاحب سيّارة دفن الموتى وسائقها.
أبو طاهر: معاونه.
أبو يحيى: سائق سيّارة تاكسي.
شخصيّات هذه الرواية وأحداثها كلّها من نسج الخيال، وأيّ تشابه بينها وبين الناس وما يعرض للناس من أمور الحياة إنّما هو محض مصادفة.
وهل غِذاؤنا إلاَّ الوعْدُ، نحن ساكِني الاحْتمال؟
الفصل الأول
- سامح
- كسّاب
- أبو سليم
- سميّة
- طارق
- إسماعيل
الموتُ يلغي كلَّ شيء إلاّ الحقيقة.
مجهول
سامح
رأسُها الآنَ على راحة يدي مثلُ رأسِ ذلكَ الطائر الذي كنتُ في أولّ نشأتي مولعاً بحلوله كلّ عام وكأنّه فصلٌ من الزمان انْبَثَقَ من ترابٍ غير ترابِ الفصول الأربعة. ماذا يكون ذلك الطائرُ يا ربّاه؟ حروفُ اسْمه غُيِّبَتْ عن شفتيَّ فما الذي أَسْرَعَ إلى مخيِّلتي بدقّةِ تكوينه ولُطْفِ تَلَفُّتِهِ لحظةَ كانت أصابعُ قدميْه تغادر الهواء لتحطَّ على الشريط الأسود المعلّق بين عمودٍ للكهرباء هنا وآخر على مسافةٍ من منزلنا هناك؟ ماذا يكون ذلك الطائر يا ربّاه؟ إنّه هي وإن لم تكن هي إيّاه. وهي التي حملتْني وأحملها الآن، رأسُها على راحة يدي مثلُ رأسِ ذلك الطائر الذي. حملتْني وأحملها. غلَّفَتْ لُدونةَ جسدي حميميّةُ جسدها فكانتْ لأطرافي الضمّة التي كَتَمَتْ عنها تقلّباتِ الحرّ والبرد وَنَفَتْ عنها، ما استطاعتْ، خشونةَ ملمسِ هذه الأرض. أحملها، ولشباط أصابعُ من الثلج تتسلّل من خلال اللون الأخضر الذي يلفّها لِتَخِزَ أصابعَ قدميْها وأصابعَ يديْها ثم ترتقي إلى قمّة رأسها. حملتْني وأحملها، رأسُها على راحة يدي مثلُ رأسِ ذلكَ الطائر الذي.
كسَّاب
سَبْعةُ منعطفاتٍ من سلّمِ هذا المبنى الغريب ولمّا نصلْ إلى الطابق الأرضي بعد. لَمْبَةٌ عند كلِّ منعطفٍ ولا نور. هل كان لزاماً على الموت أن يـأخذها في الطابق السابع لنتناوب في حملها نزولاً نزولاً على هذا الدرج المعتمِ المتلوّي إلى حيث ينتظرها صندوقُها الخشبيّ؟ هاتِ عنكَ يا ابْنَ عمّتي أسْنِدْ قدميْها على كتفي، فحلالٌ يقولون حَمْلُ الميِّت ولو خطوةً أو خطوتيْن. إنَّ ما لا أُحْسِـنُ فهمَهُ هو الأخْذُ برأسها أوَّلاً كما فعل شاردُ الذهنِ هذا فقلبَ عاليـَها سافلـَها وَانْجرفَ على الدرجات أمامنا نزولاً نزولاً كأنّما هو في سباقٍ مع الحاملين. مَهْلَكَ يا شاردَ الذهنِ ويا طويلَ الرجليْن مهلك. في الوقت مُتَّسَعٌ للوصول بها إلى الجامع الأخضر للصلاة عليها. لعلّ شرودَكَأنساكَ أنَّ اليومَ يومُ جمعة وأنّ للخطيب كلمةً ستُكَلِّفنا على انتظارنا انتظاراً وعلى بردنا برداً. خُذْ يا ابن عمّتي الحِمْلَ عنّي فحلالٌ أن تحمل خطوة أو خطوتين. ولقد كان لسانُها عذباً بالثناء عليكَ، فإن تحملْ تحملْ مُحبّاً لكَ، ولكَ من الأجرِ أضعافُ ما تشتهي. وَلْتُسْرِعْ، فذلكَ الشاردُ نزولاً نزولاً لا يزال يشدُّ بكتفها إلى كتفه كأنّما يخشى هروبَها منه، ويدُه لا تزال منبسطةً تحت رأسها كأنّها صينيّةٌ يترجرجُ فوقها إبريقٌ من الأباريق.
أبو سليم
كأنهم لم يُتَوَفَّ من أهلهم قبل اليوم أحد. أو كأنهم لم يحضروا مأتماً، أو يخوضوا في سيرة الموت مرّة. حينما دُقَّ بابُ بيتي صباحاً، وكنتُ أقرأ سورةَ الكهف، غشيني شعورٌ بالاستنكار غريب، ولم يكن ذلك من دَأَبي. فَمِثْلي رِزْقُهُ يـأتيه إلى باب بيته، لا يخرج إليه ولا يسعى في طلبه. شعورٌ بالاستنكار غريبٌ لَمْ أتبيّنْ سِرَّهُ إلاّ حين وقعتْ عيناي على الإخوة الثلاثة يُعَرِّفُني بِهِمُ ابْنُ عَمَّتِهِمْ، ذلك الصديقُ القديمُ. فالحيرةُ كانت تأكل عيونَهم أكلاً. الحيرةُ والغربةُ والغرابةُ. حدقاتُهم حَدَّثَتْني بأنّهم من كوكبٍ غير كوكب الناس ومن زمنٍ غير هذا الزمان. وكانت قصةُ أهل الكهف لا تزال تتخمّر في رأسي. استقبلْتُهم وأسفتُ لفقدانهم مَنْ فَقَدوا. كان يحدّثني، وكأنّما بالنيابة عنهم، قريبُهُمُ الهادىءُ السَّمْحُ. نقَّلْتُ عينيَّ فيهم مرّاتٍ ومرّاتٍ أُشجِّعهم على أن يتفوّهوا بشيء، أن يتحدّثوا عن ترتيبات الجنازة، فما افْتَرَّتْ شفاههم عن كلمةٍ أو حرف. فكبيرُهم التزمتْ عيناه حدودَ قدميْه، وقصيرُهم رَسَتْ حدقتاه في نقطةٍ من فراغ، أمّا الثالثُ فقد سَمَّرَهُ في انْحِناءَتِهِ منظرُ سيجارتِهِ التي نسيَ إشعالها.لَمْ أرَ مثلَ صمتهم صمتاً فكأنّما طبَّقوا المثل القائل: كَأَنَّ على رؤوسهم الطير. جلسوا هناك وأطالوا جلستهم حتى حسبتُهم لن يذهبوا إلاّ ساعةَ الدفن. ولم يتحرَّكوا إلاّ حين تحرَّكَ رابعُهم. صافحوني واحداً واحداً وانصرفوا. ولم أدْرِ والله لماذا تكلّفوا مشقّةَ المجيء مع ابنِ عمّتهم، وحُضورُهُ كان يُغْني عن حضورهم ويكفي للقيام بتلك المهمّة. ظننْتُ أنَّ الأمر بيني وبينهم انتهى لحظةَ اختفتْ بهم السيّارة عند منعطف الشارع. ولكن لا، فها أنا متورِّطٌ بِحَمْلِ فقيدتهم معهم،وهي طريّة الأطراف لا تزال، ومعهم أهبطُ الدرجاتِ الضيّقةَ، ركضاً آناً، وهرولةً حيناً، وقفزاً في أكثر الأحيان. فما الذي أغراني بالصعود إلى هذا البيت يا ربّاه؟ أما كان يجدر بي أن ألتزمَ مقعدي في سيّارة الموتى حتى يضعوا فيها نعشهم؟
سميّة
لم أكنْ نائمةً ولم أكنْ مستيقظة. والأغلب أنني كنتُ شـِبْهَ مستيقظةٍ في نومي أو شـِـبْهَ نائمةٍ في يقظتي. المهمُ أنَّ شيئاً ما جعلني أدركُ أنَّ الليلَ انْتَصَفَ من ساعةٍ أو ساعتين. وما هي إلاّ لحظةٌ من لحظات الغفلةِ حتى انْسَرَقَتْ شحنةُ النور من أمامي انْسراقاً كأنّها خطفةُ البرقِ، فحسبْتُ أنَّ مَلَكَ الموتِ جاء ليستردَّ وديعتَه الرهينة. ولا أدري الآن إذا كانت عيناي مغمضتين في تلك اللحظةِ أو كانتا مفتَّحتيْن. شحنةٌ من نورٍ لا هو بالشديدِ فَيُبْهِرَ ولا هو بالضعيفِ فَيَمُرّ دون أنْ يُلْحَظَ. ولكنّه كان يكفي ليشحنني بالوعي التامّ، مع أنّ قلبي لم يُخَبِّطْ كما هي عادتُهُ حين تفاجئني هكذا يَقَظَة. بطرفَةِ عين حَصَّلْتُ نفسي في السرير، وما كدتُ أستوي في جلستي حتى اخْتَلَّ توازنُ رأسي فَاخْتَـلَّ معه توازنُ بَدَني كلّه. شبكةٌ مِنَ النملِ كانت قد هبطتْ عليَّ وراحتْ تُفَلّي جلدي طولاً وعرضاً. حسبتُها أوّل الأمر نوبةَ ضغطٍ ولكنّها كانت شيئاً آخر، ففي نوبةِ الضغطِ يفلّي النملُ رأسي وحده دون سائر بدني.
لا أدري بالضبط إلى متى لازَمَني هذا الشعورُ الغريب، ولكنه حين زايلني – وكان لا بدّ أن يزايلني— وإلاّ لما كنتُ الآن أقف على باب بيتي أودّعها كالفراشة فوق الأيدي – تَحَسَّسْتُ جِلْدي بجلدي وتأكدْتُ من أنّ أنا لا أزال أنا وأنّ النورَ الذي مرَّ لم يَمْسَسْني أبداً. لاحتْ منّي التفاتةٌ منكَّسةٌ نحو السرير الآخر فلم آنسْ من أطرافها حركةً تثبتُ لي عكسَ ما كانت تتهافتُ به هواجسي. وكان وجهُها في اتجاه الحائط، وكانت مولّيةً ظهرَها نحوي، وكان الليلُ ظلاماً، فلم يكنْ بالهيِّنِ أن ألْحَظَ ارْتفاعَ صدرِها وهبوطَه. كان لا بدّ أن أفعل شيئاً لأعرف الذي يجري في الصمت حولي. هّمَّتْ شَفَتايَ بندائها كما كان من عادتي أن أُناديها لِتُعَـدِّلَ من نومتها كلّما ملأ الغرفةَ شخيرُها الصّاعدُ من أعماق رئتيها، ولكنَّ الكلمةَ التي ذهبتْ معها الآن ولم يعُدْ لفمي الحقُّ أن يردّدها تحجّرَتْ بين شفتيَّ ثم ارْتَدَّتْ إلى حيث لا أدري. شيءٌ ما في صدري كان يخاف أن تنزلقَ من بين شفتيَّ الكلمةُ التي لم يعد لفمي الحقّ أن يرددها فلا تَلْقى جواباً لها غيرَ الصمتِ والصدى، الصمتِ الذي يقول سامح أنّه ولادةُ الموتِ، والصدى الذي هو تأكيدٌ للولادة. ذلك ما قاله سامح لي في الصباح وَإنْ يكن ذلك بعضَ الذي قال.
ولكنْ كيف لي أن أعْبُرَ الليلَ إلى سريرها وقد اتَّسَعَتْ بيننا حدودُ المسافة؟ أزاحتْ طَرَفَ اللحافِ عنّي أصابعُ يدي اليمنى بينما تحسَّسَتْ أصابعُ اليسرى طرفَ السرير. وبالرغم من أنَّ جَوْرَبَي الصوفِ كانا لا يزالان يلبسان قدميَّ، سَرَتْ في جلدي رعشةٌ تطاولتْ حتى رؤوسِ كتفيَّ. شباط كان يودِّعُ أسبوعَه الأوَّلَ. شَدَّتْ أسنانُ فمي على بعضها وأنا أُدْلي نحو الأرض بقدميَّ. صعد إليهما الصقيعُ من قلب البلاطِ العاري قبل أن تلمساه. كان عليَّ ألاّ أتراجعَ حتى يملأَ قلبي اليقينُ، يقينُ الحقيقةِ، يقينُ النور الذي انْسَرَقَ من أمامي انْسراقاً. وكادتْ قَدَمي اليسرى تَطَأُ البلاطَ قبل اليمنى لولا أن تداركني صوتٌ من داخلي يهزّني لِأقِفَ على اليمنى أوَّلاً لعلَّ مسيري يكون خيراً وبشرى. وما إن خطوتُ الخطوةَ الأولى حتى أحسستُ بشيءٍ ليس بالشيءِ يسحبُ معه الهواءَ، فعرفتُ أنَّ الذي كان يمكن أن يكونَ لا بُدَّ كانَ وأنَّ الذي كنتُ أخشاهُ كنتُ أخشاه.
طارق
بعد ساعة أو ساعتيْن يكون كلُّ شيءٍ قد انتهى. التي ستنام في لحدها تنام إلى الأبد والتي قدماها على الأرض تَمُدُّهُما وترتاح. أهْمِسُ بذلك في أُذُن سميّة وأنغرس في درجات السلــّم الطويل، سلّم بنايتها العالقةِ بين مشارف عَبْرا وتلال الهلاليّة المشرفةِ غلى صيدا. التي ستنام في لحدها تنام إلى الأبد والتي قدماها على الأرض تمدّهما وترتاح. ألتفتُ وأُسِرُّ إليها بعينيّ بشيءٍ معناه ألاّ تخشى الغدَ وهمومَه فإرادتي قادرة على حلِّ العُقَدِ التي رَمَتْ كلاًّ في طريق.
شباط ترتعدُ له قلوبُ الذين اسْـتَبْقَتْهُمُ الحياةُ فوق التراب أطولَ ممّا تحتمل أجسادُهم.
الواقفُ على بابِ بيته وكفّاه ملتصقتان ببطنه، واحدةً فوق الأخرى، وعيناهُ في الأرض ثابتتان، إجلالاً لموكب الموت، هو عَيْنُهُ الذي منذ الصباح أنبشُ ذاكرتي لاسْتحضارِ صورته واسمه. هو عَيْنُهُ الذي ستنفرج يداه وتتحرّك عيناه حينما يُغْلَقُ غداً خلفنا البابُ وتنطرحُ على لَمَعانِ مكتبه أوراقُ القضيّة.
بين جسدي وبين وعد شباط جدارٌ مِنْ سنين.
أقولُ لَها بعد ساعةٍ أو ساعتيْن يكون كلُّ شيءٍ قد انتهى. أقولُ وأمضي. فها هي رحلةُ الانتظار انتهتْ برحيلها وهي ترحل الآن. والعامانِ اللذانِ تراكمتْ أيامُهما جليداً منذ عودتي من حرّ الكويت يذوبان الآن في عِزِّ الجليدِ. وها هي الهمساتُ التي كانت تُجَرِّحُ أذنيَّ من هنا والهمساتُ التي كانت تحرِّق أذنيَّ من هناك تتفجَّر الآن وعداً بحرارة الانطلاق كما تَعِدُ بتحرّكِ الخيلِ لسعاتُ الأسواطِ الناصعةُ الأصداء. ذاكرتي بالهمسات حبلى كما هي الأرض بتيّارات الأنهار التي إذا انشقَّ لها وجهُ التراب انجرفتْ صعداً صعداً لتعلن الطوفان.
بين جسدي وبين وعد شباط جدارٌ من سنين.
إسماعيل
كانت عيناي لا تزالانِ تَرُفّانِ رفّاً مزدوجاً آناً ومنفرداً آناً آخر حين دَقَّتْ ساعةُ الحائط تعلن الثانيةَ بعد منتصف الليل. والثانيةُ بعد منتصف الليل هي الثانية صباحاً، أي أنَّ اليوم الجديد قد أقحم نفسه في الوجود ولَمّا تأخذْني سِنَةٌ أو يغلبْني نومٌ بعد. وكانت زوجتي، قبل خلودها إلى غرفة الأولاد، قد أسعفتْـني بطاسةِ ماءٍ فاترٍ وبمنشفةٍ بيضاء أرطّب بهما جفوني بين الحين والحين. وكانت تركتْهما على المنضدةِ الخشبيّةِ إلى يمين سريري. ذلك كان دأبُها كلّما انتابتني هذه الحالةُ التي لم أفهم حتى الآن لها سبباً. أو بالأحرى سَبَبَها الحقيقي. فطبيبُ الأسنان كان قد ألمحَ إلى أنَّ رَفَّ العين مَرَدُّهُ إلى ضعفٍ في اللِّثَةِ أوإلى تآكل في بعض جيوبها. وقد يكون ذلك طُعْماً يريد أن يستدرجني به إلى عيادته ليجري لي العمليّة التي أعرف أنّه سينفّذها على مراحل تمتدّ أسابيع ثم لا تلبث أن تَنْسَرِحَ إلى مدى شهور.
أو ربما يكون السببُ في رفّة العين هذه جُمْلَةَ الاختلاجات النفسيّة التي اجتاحتْ كياني منذ ذلك العهد الذي انكببتُ فيه على مطالعة الكتب الكونيّة.
ربما وربما وربما إلى آخر ما هنالك من رُبَّمات. إذْ كلُّ الاحتمالات واردةٌ بما في ذلك الاحتمالُ الذي يجهد الكلُّ في تناسيه. فأعضاء الجسم لها من الوظائف أكثرُ بكثير ممّا هو متعارَفٌ عليه. العينُ، مثلاً، هي العضو الذي يُري ما يُرَى. ولكنّها كذلك العينُ التي تصيب. أما بدأتْ هذه الفكرةُ تأخذ حظَّها من اهتمام العلماء وكانت من قبل هدفاً لتهكّم المتهكّمين؟ واللغز الكامن في رفّة العين، أما ظَلَّ لعهودٍ يُحْسَبُ لغواً تهرف به العجائزُ المخرِّفات أو يُقْرَنُ بغيبيّات الشعوب البدائيّة وتعلّقها بالسحر والسحرة؟ وإذا كان كلّ ذلك كذلك فلعلّ من الحقّ القول بأنَّ العين التي تُقيمُ الجسرَ بين الرائي والمرئيّات قد خُصَّتْ بامتيازٍ آخر هو الإيحاءُ بالرمزِ لما هو آت. وهل الرفّة إلاّ واحدٌ من هذه الرموز؟
عقربُ الثواني في ساعة الحائط كان لا يزال ينبضُ نَبْضَ الوريدِ في جانبِ صَدْغيّ. سكونُ الليل أوحى إليَّ بفكرةٍ لم تخطر لي من قبل على بال. نَبْضُ العقربِ ونَبْضُ الصدْغِ ونَبْضُ الرفّةِ حركاتٌ ينتظمها مبدأٌ واحد. أطبقتُ جفوني بحركةٍ عفويّة لعلّني أكتَـنه في ظلامها سِرَّهُ. أخذتْني السرحةُ ولم ينتشلني منها إلاّ رنينُ الهاتفِ يأتيني مباغتاً كالصرخةِ تلو الصرخة من جوف الليل. الرفّةُ رقصتْ بأجفاني من جديد. بأجفاني كلّها. إذْذاكَ أدركتُ بشيءٍ يشبه الحدسَ معنى الرمز الذي هو جسرُ الإيماء.
أخيراً أتى ذلك الشيءُ الذي هو آت.
أتى مثل غلالةٍ من الثلج شفافة العري، باديء ذي بدء، ثم ما فتئتِ الغلالةُ تكسو عُرْيَها نُصوعاً حتى تصلّبتْ والْتَمَعَتْ في وجهي كشفرة سكين.
صوتُ ابن خالي كسّاب كان صريحاً بارد النبرة، كما هي عادةً نبرةُ الحقيقة. سـألتُه ألاّ يعتذر عن إقحامي في ترتيب مراسم الدفن، واتفقنا على اللقاء صباحاً في منزلي لننطلق، أبكر ما يكون، إلى متعهّدِ الدفن فنبلّغه بمهمّته وميقاتها قبل أن يرتبط بمواعيد أخرى. إذْ شباطُ لا رباط عليه في الأحوال العاديّة، فكيف في هذا الطقس الذي ينذر بسقوط الثلج على سواحلنا؟
مع طلوع الصباح كانت الرفّةُ قد نَسِيَتْ جفوني وارْتَحَلَتْ.
سامح
الشرفةُ مطليّةٌ بسوادِ الغربانِ فَيَا لَيْتَهُنَّ يُمْسِكْنَ بيديْها اللتين تلطمُ بهما صدرَها ويَجْرُرْنَها إلى داخل البيت. أوْ لا، فَلْيَدَعْنَها تملأُ عينيها من الجسد المسجّى، فَبَعْدَ لحظاتٍ نسير وراء الموت، يَجُرُّنا ونحمله، فراغاً يَجُرُّ امتلاءً، وانْكتاماً يقود أنفاساً تجرّحُ بحرارتها عروقَ الصقيع. بعد لحظاتٍ يستنزفُ الفراغُ المسافةَ، وبعد ساعات تمتصُّ ذاتها أتربةُ الأرض، تلك النرجسيّةُ الغبراء.
السيّارةُ المتمدّدةُ على الأرض متباهيةً بطولها غرابٌ آخر. غرابٌ يولّي ظهرَه نحونا، كأنّما يتنكّر للوجوه اللاهثة خلفه، ثم يَفْتَحُ للصمتِ فماً جعله في آخر جسده. فَماً ليس كغيره من الأفواه، شَفَتُهُ يتيمةٌ لا تلتهم إلاّ امتداداً من فراغٍ ولا تنطبق إلاّ على فراغٍ في امتداد.
قلتُ لها الصمتُ ولادةُ الموتِ فلماذا تمزّقُ الريحَ بأشلاءِ رئتيـْها والصدى ليس بسكنٍ للروح الصدى تأكيدٌ لولادةِ ما لا يولَدُ وارتجاجٌ بلا ذبذباتٍ واحتواءُ الكنهِ للكنه كدولابٍ أمسك بطرفيْ محوره وَلَدانِ فَارْتَقى عن الأرض طرفةَ عينٍ يدورُ يدورُ لا تنطوي من تحته المسافاتُ ولا يمضي في إثره الوَلَدانِ.
مربّعاتُ الضوءِ ومستديراتُه في آخر جسد الغراب تطلقُ صيحاتِها الحمراءَ والزهراءَ ثم تسكتُ لابسةً لونَ الغيوم. الريحُ تُلَوِّحُ بأشرعةٍ من رماد. الرمادُ والريحُ يتوالجانِ ويبقى هذا الغرابُ مهيضاً ساكنَ الوعد.
الشرفةُ مطليّةٌ بسوادٍ ورمادٍ، وذراعاها صرختانِ تلاشى عنهما الصوتُ والصدى، تَنْقَضُّ عليهما كلّما حامتا في الفضاء صرخاتٌ من سواد. الريحُ والرمادُ يتوالجانِ كما تَتَوالَجُ حول ذراعيْها الصرخاتُ العاريةُ إلاّ من عَصَبِ الليل. الليلُ والريحُ والرمادُ ذراعاها ووعدٌ من غراب.
كسّاب
أمسكتِ السماءُ عن المطرِ وإن تكنِ الريحُ لا تزال تلعب في أرجاء الفضاء. أنحَني نصف انحناءةٍ وأنْدَسُّ في المقعد الخلفيّ بجانب ابن عمّتي. عيناه الذابلتان من حزنٍ قديم ٍ، أو ربما من قديمِ الوَرَعِ، تَعْبُرانِ زجاجَ النافذة التي على يميني وتَرْسُوانِ على زجاج السيّارة التي اختفى طيَّ صندوقها النَّعشُ. أقرأُ في ذبولِ عينيه الخشيةَ من أن تستيقظَ النائمةُ في نعشها بغتةً فَيَطْفو في الهواء الغطاءُ وتطفو من تحته الجثّةُ الهامدة. ولكنَّ ذلك لا يَحْدُثُ الآن كما لَمْ يحدث منذ هنيهةٍ حين رَفَعْنا عن الأرض ما رَفَعْنا وأودعْناه السيّارة الأخرى، وعاءً في وعاء.
السيّارةُ الأخرى تَنْفُثُ أشباحاً من دخانٍ يدفعُ بعضُها بعضاً فتنشرها الريحُ ستائرَ شفّافةً لا تلبثُ أن ترتجفَ وتلتويَ حول نفسها وَتَمَّحي في لا مكان. أُوصِدُ عينيَّ وأرهفُ أذنيَّ لألتقط زفيرَ سيّارتنا وهي تتهيّأُ لأخْذِ مكانها في الموكب الذي لم يتكوّن بعد. السيّارةُ الأخرى تكفُّ عن نَفْثِ دخانها ويخرج من بابيْها رجلان: أبو سليم، ملتفّاً بكنزةِ صوفٍ سوداء تزيده على اكتنازه اكتنازاً، وأبو طاهر، يعتمر قبّعةً تحتال عليها الريحُ من كل صوب لتدفعها عن رأسه لولا أن تشتدَّ على أطرافها أصابعُ يده السمراء. يرفع الأوَّلُ الغطاءَ المعدنيَّ في أوّلِ السيّارةِ ويدَسُّ رأسَه عميقاً هناك. يَزّمُّ الثاني عينيه ويبدو كأنّه يحاول فَهْمَ ما يقوم به الآخر. سيّارتُنا ترتجف رجفةً أو رجفتيْن ثم تستسلم إلى سكونٍ لا يعكّره إلاّ صفعاتُ الريحِ تتوالى فوق الزجاج.
بيننا وبين الجامع الأخضر موكبٌ من سنين.
تمّوز الماضي كان متوغّلاً في حمّى الصيف حينما سالتْ من أعلى هذه الطريق طلائعُ الموكبِ الطويل الطويل. الشمسُ كانت تنعكس أشعّتُها على زجاج السيّارات فتحيلها مرايا متحرّكةً تنساب مع انسياب الطريق. فجأة أخذ الموكبُ يتلكّأُ خلف السيّارة اللامعةِ السوادِ ولم يلبث أن توقّفَ نهائيّاً تحت لظى النور. عشراتُ الأبواب قَذَفَتْ بالأرجل والأيدي والوجوه التي تَدَافَعَ بعضُها خلف بعض تستفسر عن سبب التوقّف المريب. وحين تبيّن لهم أنّ السيّارةَ اللامعةَ السّوادِ انطفأَ محرّكُها وَلاذَ بسكوتٍ مستبدّ عنيد، أَلَحَّ الجميعُ على سائقها أن يرفعَ قدمه عن كابحها ويدعها، وهي منطفئةٌ، تنساب مع انْسياب الطريق. لَعَنوا حظَّ فقيدِهم وَانْتَحَبوا أنْ لَمْ يكن يفصلهم عن الصلاة عليه ظهراً غَيْرُ دقائق معدودات. صلاةُ الظهر كانت منهم على مرمى سنين. حَزَموا أمرَهم، وفي غمرةِ الضحك والبكاء سال بهم لمعانُ الإسفلتِ الملتهب.
كنتُ في زيارةٍ لأمّي في منزلِ سميّة ذلك النهار، وكنتُ أهرب بعينيّ، عبر زجاج النافذة، من عينيْ سميّة العاتبتيْن المتّهِمتيْن، أهرب عن عَمْدٍ إلى ذلك الإسفلت الملتهب.
السيّارةُ الأخرى تَنْفُثُ شبحاً من دخانٍ فتهتزُّ الأرضُ من تحتنا ثم تسيل.
أبو سليم
الليلةُ الفائتةُ لَمْ تكن ليلةَ القدْرِ، فاليوم هو السابعُ من شباط وشَهْرُ الصّيام لن يَحُلَّ قبل الرابع أو الخامس من آذار. لم تكن ليلةَ القدْرِ ولكنها كانت أشبهَ شيءٍ بها. فالجوُّ الملبَّدُ العاصفُ الممطرُ المنذِرُ بالثلوج ليس لتبدُّلِهِ المفاجىء من تفسيرٍ غيرُ قوّةِ المعجزات. ولا ريب عندي أنَّ حَظَّهُمْ يَفْلـِــقُ الصخرَ، فلا المطرُ بلّلَهُمْ وأفسدَ ثيابَهم حين خرجوا بها وَأوْدَعوها النَّعشَ المنتظِرَ في باحة المبنى، ولا السيولُ اقْتَلَعَتْهم من مواطىء أقدامهم حين رَفَعوا النّعشَ وَأَوْدَعوه صندوقَ سيّارتي. ولو كانت الليلةُ الفائتةُ ليلةَ القَدْرِ لَقلتُ إنَّ أمّهم التي لا تزال طريّة الأطراف كانت قد دَعَتْ لهم قبل أن تتركها الروحُ وأنَّ أبوابَ السماء انْفتحتْ لها وَاسْتَجابتْ.
غير أنَّ حظّي أنا كذلك يفلق الصخر، إذ ليس من شيءٍ يُرْبِكُ اليدَ والعينَ مثلُ قيادةِ سيّارةٍ تحت وابلٍ من المطر، وليس من شيءٍ يدعو إلى القلق مثلُ ازدحام ِالسير في جوٍّ قارسٍ لا يسمح بشقِّ النافذة لاستنشاق هواءٍ منعشٍ ونظيف. وخَيْرٌ لي ألاّ أحسدَ نفسي الآن فما زِلْنا في أوّل هذه النَّزْلَةِ، كما لا تزال تفصلنا عن المقبرةِ الجديدةِ خارجَ المدينةِ رحلةٌ من المسافات. ولعلّه من الرّفْقِ بنفسي وبهم أن أحاول نسيانَ ذلك العُطْلِ اللئيمِ الذي طَرَأَ على المحرِّكِ قبل انطلاقِ الموكب. فلو حَدَثَ، لا سمح اللهُ، أن أخفقتُ في مهمّتي وَامْتَنَعَتِ السيّارةُ عن التحرّك بنا، لَكانَ أُسْـقِطَ في أيديهم جميعاً ولكان مَدَّ اللهُ في بَقاءِ فقيدتهم بينهم حتى صلاة العصر. وَلَكانَ رزقي ابْتَلَّتْ به يمينٌ غَيْرُ يميني.
طارق
في محاذاةِ حائط المقبرةِ البليدِ أوقِفُ سيّارتي وأترجّل. وحيداً أترجّل وأشدّ رباطَ معطفي الواقي من المطر. أشدّه وعينايَ تستطلعانِ بوابةَ المقبرةِ الحديديّةَ ومن خلال قضبانها بابَ القاعةِ المخصّصةِ لتقبّلِ التعازي والقائمةِ على الجهة اليمنى من الممرّ الفسيح. كلُّ شيءٍ معتصمٌ بالصمتِ، كلُّ شيءٍ يَرْكُنُ إلى السكينة، فعاصفةُ الليلِ تبدّدتْ وَسَكَنَ عزيفُها المجنونُ مع انبلاجِ خيوطِ الصباحِ الأولى.
لأسبوعيْن خَلَيا أو أكثر، كانت موجةُ الصقيع ِ القادمةُ من تركيا تصلُ الليلَ بالنهارِ وتصلُ النهارَ بالليل مُتْخَمَةً بثلوج ما قبل عهود التاريخ. وإذاعاتُنا وصحفُنا وتلفزيوناتُنا كلُّها دخلتْ حلبةَ المباراة طوال الأيّام الماضية... تذيع وتنشر وتَبُثُّ الأخبارَ مسعورةً عن الذين اسْتَفْرَدَتْهم العواصفُ الثلجيّةُ في قرى الجبال النائية فَامْتَصَّتْ من حولهم الألوانَ وأسَرَتْهُمْ في بياضٍ ناصعٍ صافٍ كالموت. كلُّ ذلك والدولةُ عَيْنٌ ترى ولسانٌ يعتذر.
والغريبُ الغريبُ كيف تأجّجتْ فجأة وسائلُ الإعلام وضَجَّتْ في عروقها حرارةُ الحياة. أوْ قُلْ إنَّ ذلك ليس بغريب، فالإعلام امرأةٌ يلهب شبابَها وهجُ الفضائح ِالصارخات.
امرأةٌ من قبل وامرأةٌ من بعد. امرأةٌ امرأةٌ امرأةٌ.
كلُّها كُلُّها الحياةُ امرأةٌ... وامرأةٌ فاجرةُ القلبِ لا يَروضُ كيدَها إلاّ فاجرٌ مثلُها، وعاصفةٌ لا يستميلُ رياحَها إلاّ مَنْ نَصَبَ الحيلةَ لها شراعاً. وفي كلتا الحالتيْن إنّي لَها. غير أنَّ أمّي لَمْ تكنِ امرأةً ولا عاصفةً، ويا لَيْتَها كانت. ولم تَعُدْ كَوْنَها أنثى خَصِبَةَ الرحم ِ، ويا ليتها أجهضتْ أو عقمتْ. لقد آمنتْ بالسماء واطمأنّتْ للأرض، فَدَانَتْ لِمَنْ جَهَرَ بالصوت وزَمْزَمَ بالقدم. ولو أنَّها صَدَّعَتِ القالبَ الذي صبّوا فيه كيانَها وَنَسَغوا من صدئه اسْتِكانَةَ لسانها، لَما كان نَجَحَ أبي في مراوغتها عن الأرض التي ورثتْها عن جدّي وَلَما كنّا الآن في ما نحن فيه. ولكنّها لم تكن امرأةً ولا هي كانت عاصفة.
العاصفةُ انْحَسَرَتْ مع رحيلِ الليلِ وَانْبَلَجَتْ مع الصبح القُبَّةُ التي ظلَّتْ خلفَها السماواتُ الأُخَر تحتجبُ خَلْفَ سُتُرٍ من السحب الكثيفة.
والآن...؟ الآنَ كلُّ شيءٍ معتصمٌ بالصمتِ، كلُّ شيءٍ يَرْكُنُ إلى السكينةِ، فالوقتُ يبدو مبكراً حتى بالنسبة إلى حفّار القبور. تَروقُ لي الفكرة. حفّارُ القبورِ لم يصحُ من نومه بعد، مع أنَّ مَلَكَ الموتِ لم يغْمَضْ له الليلةَ جفن. المفارقةُ تُغْريني بالضحك فلا أقوى عليه، وَيُعْجِزُني إدراكُ السببِ تماماً كما أعْجَزَني الليلةَ أنْ أفهمَ سرَّ نأي ِالحزن ِعنّي ساعةَ تلقّيْتُ النبأ. حتى افتعالُ الحزن ِكان عسيراً، مستحيلاً، حتى استجداءُ العين.
إذنْ قَدَري الإنتظار.
أحُثُّ الخطى عائداً إلى حيث سيّارتي. أجلسُ في مقعدي وأشعلُ سيجارة ألتمسُ من دخانها ظلاًّ من التخدير ومن جمرتها وَهْماً من الدفء. البردُ يمعن في جَلْدي. أُديرُ المحرّكَ وأضغطُ على زِرِّ جهاز التدفئة وأنتظر. قَدَري إذنْ مزيدٌ من الإنتظار. شيءٌ غَيْرُ وَجَعِ الصقيع في جسدي يرغمني على اقتحام الشارع من جديد. أصفع الإسفلتَ المبتلَّ بنعل حذائي كما تصفع وجهي سياطُ الهواء، وتقفز عيناي خلف الغيوم تبحث في قتامها عن لون الشمس. ترتدُّ عيناي إلى أرض الشارع. تتشرّدان هنا وهناك. قريباً من سور المقبرة ينبسط أمامي سوقُ الخضار الذي أُنْشيءَ خلال سنوات الحرب وقبل رجوعي من الكويت. أتفحّص العرباتِ والبسطاتِ المصطفّةَ بعضُها إلى جانب بعضٍ مثلَ هياكل المعابد العارية في وجه الصباح. بائعو الخضار لم يغادروا منازلهم بعد. الأمر ليس بحاجة إلى تفسير. إنه الصقيع الصقيع. حظُّهُمْ إذَنْ مثلُ حَظِّ حفّار القبور. ووحدي أنا أجُوسُ خلال المكان. تسنح لي سانحةٌ غريبة. سوقُ الخضار لم يكن في الأصل سوقَ خضار. فهنا كان بناءٌ قديمٌ يمتدُّ سَقْفُهُ فوق مساحة السوق كلّها. كان مَعْمَلاً للثلج، وكنْتُ في صباي الأول أحمل على درّاجتي كل يوم من أيّام الصيف لوحاً أو لوحيْن أتوجّه بهما إلى مطعمنا حيث يتفحّصهما أبي ليرى إذا كان جوفُهما فارغاً فينصبّ عليَّ باللعنات والصفعات. ولكنْ مهلاً مهلاً، إنّه ليس الصقيع الذي أوعز إلى بائعي الخضار وإلى حفّار القبور بالمكوث في منازلهم هذا الصباح. إنه يوم الجمعة، اليوم الذي تموت فيه المدينة إلاّ من حَدَثِ الموت. أمي اختارت يومها المفضّل ويوم المدينة الأمثل. فتبّاً ثم تبّاً ثم تبّاً.
أندفع نحو بوّابة المقبرة أصبُّ على حديدها غَضَبَ يديّ. وَكَمُولَعٍ باحتراف الشيء وضدّه، أعالج القفلَ وأنا واثقٌ من أنه لن يستجيب. وتغيب عيناي زماناً بين القبور المنتفخةِ كلاًّ كَدُمَّلٍ جاهَرَ به جسدُ الأرض. أصرخ بقضبان الحديد أن تلتوي ويتباعد أحَدُها عن الآخر لأنْفُذَ من خلالها وأتوارى خلف قبر مرتفع هنا أو خلف شجرة هناك. أدرك فجأة حقيقةَ غضبي. أتلوّى شادّاً فَخِذَيَّ إحداهما بالأخرى. لا بدّ أن أقضي حاجتي وإلاّ. وإلاّ سَبَحَ بنطالي بدفء السيل من جسدي. تكاد تغريني الفكرةُ العابثةُ لولا أن يهتف بي صوتٌ بلديُّ اللهجة. ألتفت إلى مصدر الصوت. يحيِّيني رجلٌ غارقٌ رأسُهُ في قبّعةٍ من الصوف. أردّ التحيّة وأنتظر. يعالج القفلَ بمفتاحٍ غليظٍ فَتَصْطَكُّ البوابةُ لحظةً ثم ينفرج مصراعاها عن ممرّ ٍ فسيح. قدماي تسعيان في إثْرِ قدميْه. أنبئه بإسْم ِالمتوفّاة وأطلب منه حَفْرَ قبر أبي. يَرْسو في مكانه ويرمقني بنظرةِ مَنِ اكْتَشَفَ أنَّ مُحَدِّثَهُ به مسٌّ من جنون. يسألني أن أعيدَ على مسمعه اسم المتوفّاة فأكرِّر له اسمها. يسـألني إن كنتُ متأكّداً من ذلك فأقول إن الفقيدةَ أمي. يقول وهل يعني ذلك أنني على يقين من معرفتي باسمها. أقول وهل يُلْتَبَسُ على المرء في أمر ٍكهذا. يقول في هذه المدينة كلُّ شيءٍ ممكن. أضربُ الأرضَ بقدميَّ وأستهجنُ وقاحةَ أسئلته. يقول أمك دُفِنَتْ مساء أمس فأقول أمي توفيتْ بعد منتصف الليل. يقول أمك توفيتْ أمس ظهراً ودُفِنَتْ مساء امس. أقول أمي توفيتْ بعد منتصف ليلة أمس. يقول وهل يُعْقَلُ أن تكون دُفِنَتْ مساء أمس ثم توفيتْ بعد منتضف الليل. أقول وما الذي أدراك أنَّ التي دُفِنَتْ مساء أمس هي أمي. يقول إن لم تكن هي فواحدةٌ من قريباتها. أقول وهل يعقل أن تدفن إحدى قريباتها ولا علم لنا بذلك. يقول جاءني بعد ظهر أمس رجالٌ وطلبوا مني أن أحفر لها القبرَ الذي تقول إنّه قَبْرُ أبيك فتمنّعتُ لأنَّ القبر كان قد دُفِـنَ فيه فتى ولم يَمْضِ على دفنه سنة. أقول وَلِمَ لَمْ تفتح لها قبراً آخر من قبور أقربائها فيقول لأنّه يجوز لها أن تنزل في أحَدِ قبريْن وكلاهما لا يجوز فَتْحُهُ لِعَيْنِ السبب الذي قد ذكرتُ. أفصح له ثانيةً عن اسم أبي فيقول قَبْرُهُ هو القبر الذي رجاه الرجالُ بالأمس أن يفتحه فتمنّع. أغريه بحفنة من الدولارات راجياً أن يتناسى الأعراف ويفتح القبر. يقول لا هذا القبر ولا القبران الآخران. أقول وأين نَدْفُنُ أمي إنْ أُغْلِقَتْ في وجه جثّتها كلُّ القبور. يقول حيث دفنتموها مساء أمس. أقول ولكن أمي لم تُدْفَنْ. يقول حيث دفنتموها هي أو إحدى قريباتها مساء أمس. أقول وأين تَمَّ الدفن. يقول أصبح للمدينة مقبرةٌ جديدة في منطقة سَيْنيقَ على بعد بضعة كيلومترات جنوباً. أقول لماذا في سينيقَ وسينيقُ ليست امتداداً لصيدا. يقول إن الفلسطينيين، بعد أن عاينوا ازدحامَ المقبرة القديمة، تَبَرَّعُوا بالمقبرة الجديدة عربون وفاء منهم لإلتزامها بالخطّ الوطني. أقول وما شأنُ أمي بالخطّ الوطني وهي لم تفهم من السياسة إلاّ كيف تُساس. يقول وما شأني بأمك وبالخط الوطني إذا كان الخطُّ الوحيد الذي أنتمي إليه هو الحفرُ ثم الحفرُ ثم الحفر.
تتقلّص قامتُه بين القبور وتتقلّص القبورُ خلفه شيئاً فشيئاً. أتَفَرَّسُ في الغيوم لحظة وأردُّ طرفي إلى رؤوس الأشجار. جذوعُها تحدّثني بأنها ستمكث هناك زماناً طويلاً. قدماي تحملاني من ممرٍّ ضيِّقٍ إلى آخر أضيقَ منه. الأرض مكتظّةٌ بالماضي. تنعطف بي قدماي يميناً ثم تنحرفان إلى ناحية الغرب. عيناي تجدان مستقرَّهما على الشاهدة التي فوق قبر أبي. أطوف بالشجرة القريبة من القبر مرَّةً بعد مرَّةٍ بعد مرّة. عيناي تغشيان كلَّ مكان. عيناي يغشّيهما الزمانُ الأوّلُ، فتنفتح على المكان عيناي الغائبتان، فأرى بهما يحدث الذي ليس يحدث، وإذا بإبهام يدي اليمنى وسبّابتها تكادان تلتقيان، ثم ينوح السحّابُ في مخبئه من البنطال وتنفرج فخذاي المرتجفتان، ثم ينتفض ذلك الشيء، مختنقاً بالنار في جوفه، مرتعشاً من لسعات الصقيع، خيارُهُ الإمتثالُ لعنف التناقضات. ثم تنحدر في أعماق الزمان الأوّل عيناي الغائبتان فتريان يحدث الذي لا يحدث، تريان البول يتفجّر حريقاً في الهواء. وأظلُّ أظلُّ أظلُّ أبول وعيناي تنظران وتنظران وتنظران. إنّه السيل من دموع جسدي يجري في الأرض، ولا يجري، حارّاً أصفر كالنواح ويشقّ له في التربة ممرّاً يُفضي به إلى جوف القبر فَيَبْغَتَ العظام التي خَلَّفْتَها فيه يا أبي. كان وعداً عليَّ حقّاً أن أبلّل عظامك بدمع جسدي. ولقد كنتَ جديراً بالوعد وها أنذا خليقٌ بالإيفاء.
الفصل الثاني
- وسيم
- كسّاب
- طارق
- إسماعيل
- أبوسليم
- سامح
- سميّة
آهِ من قلّةِ الزادِ، وطُولِ الطريقِ، وبُعْدِ السفرِ، وعظيمِ المورد.
علي بن أبي طالب (ع)
وسيم
على بُعْدِ نَيِّفٍ ومائتيْ مترٍ في عُمْقِ المرآة الجانبيّة لسيّارتي ينطلق الموكبُ بطيئاً بطيئاً تتقدّمهُ سيّارةُ دَفْنِ الموتى مثلَ سلحفاةٍ هرمة. السيّاراتُ المنسابةُ خلفها تبدو كالصناديق الصغيرة التي تقطرها عربةُ السائق في مقدّمةِ القطار الذي ابتعْتُه لابنتي علياء في عيد ميلادها. وصناديقُ القطار ثابتةٌ على حالها، بينما تتّضِحُ معالمُ سيّاراتِ هذا الموكبِ أكثر فأكثر كلّما تقلّصَتِ المسافةُ بينها وبين سيّارتي.
المسافةُ تَضْمُرُ شيئاً فشيئاً، والسيّاراتُ تَضْخُمُ أكثر فأكثر حتى لَتَغُصّ بأحجامها المرآةُ. أديرُ مفتاحَ المحرّكِ وأتأهّبُ للانخراط في الموكب في اللحظة المناسبة دون أن يلحظني منهم أحد. وبالطبع لن يلحظني منهم أحدٌ ما دمتُ سأتجاهل كلَّ النظرات وأتظاهر بأنني كنتُ بينهم منذ اللحظة التي انطلقوا فيها.
أُثَبِّتُ نظارتيَّ السوداويْن على عينيَّ وأختفي خلف دائرتيْهما اللامعتيْن. أحُلُّ كابحَ اليدِ بيدي وأرفعُ عن كابحِ الرِّجْلِ قَدَمي قليلاً لأتثبّتَ من أن السيّارةَ جاهزةٌ للإنطلاق. كلُّ شيءٍ كما أحبّ وأشتهي. وها هي تدنو اللحظةُ الحاسمة. فَهَا السلحفاةُ تَخْرُجُ من المرآة وتتجاوزني، تلحق بها المرسيدسُ الكحليّةُ وفيها كسّاب وإسماعيلُ ورجلان آخران. وخلفهما تمضي الهوندا الحمراء وفيها سامحُ الشاردُ ولا ريب في رواياته وشِعْرِه ورجلٌ هَرِمٌ وشابّان يتحادثان. وبمحاذاتي الآن ها هي البيجو الرماديّةُ وفيها طارق بمفرده، تتمتم شفتاه كالعادة. قَدَمي تضغط على دوّاسةِ الوقود وكفّاي تَدوران بالمقودِ يساراً يساراً ثم تدوران به إلى اليمين قليلاً لتنتظم سيّارتي آخر الأمر في الموكب وكأنّها هناك منذ البداية.
وإذْ تسيلُ الأرضُ تحت العجلاتِ وتلوح تظرةٌ مني في المرآة يَمَّحي في عُمْقِـها ذلك المبنى الذي تسكن في إحدى طبقاته مُتَلَوِّنـَـةُ الوجهِ واللسانِ، تلك التي ليس فيها من اسمها غَيْرُ السُّمّ.
كسّاب
أراكَ خلف نظّارتيْكَ السوداويْن وكأنني لا أراك، فالتطْنيشُ فَنٌّ لا يجيدُه إلاّ مَنْ كان مثلنا. بذا كان غالباً ما يُسـِـرُّ إلينا أبو الوليد، صديقُ أبي الضاحكُ أبداً المُنَعِّمُ كَرْشَهُ المُسَوِّيهِ بيده أبداً. كان يُسِرُّ إلينا بذلك كلّما عزم أبي، لمزاجٍ كان فيه، على اسْتفزازه أو إغضابه وذلك لحمله على الانسحابِ من حَلَقَةِ نداماه والعزوفِ عن التردّد إلى مطعمنا كلّ مساء. وكان ردُّ أبي الوليد ابتسامةَ المستظرِف وتَسْريحَهُ النظرَ في لا شيء. فإذا احْتقانُ أبي يَهِــسُّ هسيسَ الهواء يخرج من البالون وإذا محاولتُه تذهب أدراج الرياح. كان يعرف مزاجَ أبي في الإستفزاز، كما يعرف أمزجته الأخرى.ٍ وكان يَصِفُ، ويدُه ماضيةٌ في تَـنْـعيم كرشه وتسويته، لكلّ واحدٍ منها دواءَه النافعَ الناجعَ.
كَمْ لَهُ من العمر تحت التراب الآن؟ سبعُ سنوات؟ تسعُ سنوات؟ ما هَمَّ العددُ، فكلماتُهُ، مشفوعةً بِتَمْسيدِهِ كرشَه، تسكن ذاكرتي منذ ذلك العهد، وتصحو، وتصحو معها الضحكاتُ الموقَّعَةُ توقيعاً، كلّما قفز في وجهي من جديد وجهٌ من وجوه هذه العائلة.
وما الذي يبعث إليَّ بطيفه الآن إلاَّكَ يا وسيم؟
وأنتَ ههنا في الطريق!
تنتظرنا عند كوع ِالخرّوبةِ منذ الصباح!
وبالطبع تحسب نفسَكَ الرجلَ المُسْتَظِلَّ بقبّعة الإخفاء، ولا من قبعة، اللهم إلاّ إذا استبدلْتَ بسحرها سحرَ نظّارتيْكَ السوداوين، تقبع خلفهما كنعامةٍ دسَّتْ رأسَها في عتمة الرمال!
إِقْبَعْ في اسْتِتارِكَ المرئي، يا ابن أبي، حيث أنتَ، فَوَحَقِّ النعامةِ التي هي بعضٌ من ميراثنا ومن إرثنا لأظلَّنَّ على العهد الذي قطعتُه بغير كلامٍ للرجل الذي علّمني فَنَّ الغَضِّ. غَضَّ غيري الطَّرْفَ عنكَ أم لم يغضّ، لا أنتَ عندَ كوع الخرّوبةِ كنتَولا أنا رأيتُ.
ولا ريب أنّ حظَّكَ اليوم من فعل السماء، إذْ لن تراكَ في مسلسلِ التخفّي هذا عَيْنا سميّة الغاضبتان. أقول حظّك من فعل السماء، لأنّ الوجه المتخفّي وراء الغيوم لم يأذن لسميّة ولا لغيرها من النساء بمشاركة الرجال في مواكب التشييع. أو بشيءٍ كهذا أوحتْ إلى الرجال السماءُ. إلاّ أنّ سميّة امرأةٌ من نوع آخر. فهي، وإنْ قبعتْ في البيت ولم يتهيّأ لها أن تراكَ حيث أنتَ لا تُرى، فلا شكّ أنّ لغيابكَ عن مراسم ِتحضير الجثّةِ لغسلها ثمّ لفّها وتوسيدها النعشَ أثراً غيرَ محمودٍ في نفسها. ولا في نفوسِ المشيّعين، يا ابن أبي.
فالموتُ يَفْضَحُ.
يُغْمِضُ عَيْنَيْ الميّتِ ويفتح على أهل بيته عيونَ الناس. يفضح، مهما جهد أهل البيت وتباروا في إلباس الحَدَثِ لِباسَ القَدَرِ الذي يقرّب المتباعدين ويؤلّف بين المتنافرين. فنحن، من بين عائلات الأرض كلّها، خصّتْنا الحياةُ بنعمةِ التخفّي وخصَّنا الموتُ بِامْتِياز الفضيحة. إذْ كيف نفسّر للناس، يا ابن أبي، تخاذلَكَ عن المجيء إلى منزل شقيقتكَ في هذا اليوم بالذّات؟ فلو كنتُما، أنتَ وهي، لا سمح الله، زوجاً وزوجةً، لقلنا لهم تبارَءا بحجّة أنْ ليس بينهما انْسجامٌ أو وئام. ولكنكما أنتما أنتما. هي لا تدعوكَ إلى بيتها وأنتَ لا تبادرها بالزيارة. ولِمَ هذه القطيعةُ التي يباركها قلبي وعقلي، والتي امْتدّتْ بينكما سنوات؟ تظنّنا نجهل حقيقةَ ما جرى؟ أبداً، ولكنّنا نبادلكَ السلعةَ بسلعةٍ من جنسها: أنتَ تتخفّى ونحن نُخْفي ونطنّش.
ولكنَّ الناسَ حولنا لا يطنّشون.
أَلْمَحْتُ إليكَ بهذا في الصباح فحككْتَ رأسَكَ. ألححْتُ في إلماحي فَانْتَفَخَتْ أوداجُك. وهذه المرّة، كما في كل مرّة، غلى في عروقِكَ شيءٌ لَنْ أُسمّيه وطَفَحَ إلى رأسِكَ فَبَقْبَقَتْ فيه الأفكارُ كأنّها أصداءٌ لشيءٍ لا أحبّ ذِكْرَهُ.
طارق
أُقَلِّبُ يديَّ في جيوب معطفي بحثاً عن الشيء الذي تفتقده عيونُهم، وفي عيونهم لا ينفكُّ يستعجلني تجريحُ الصقيع. يداي تسرفان في بَوْحِهما بالنفي فتنكفيءُ أيديهم إلى معاطفهم تلتمس شيئاً من الدفء وتمارس شيئاً من الإنتظار. يداي تعتصمان بصيحةِ النكران. تثب أيديهم إلى أفواههم مضمومةً تحبس في طيّاتها لهاثَ صدورهم ثم لا تلبث أن يصطك بعضُها ببعضٍ كحجارةِ صوّانٍ كَمَنَ الوعدُ فيها كاذباً فهي لا تستجيب. تتململ بهم أقدامُهم وينتظرون. يرسمون تساؤلاتهم نظراتٍ صفراءَ ولا يستفسرون. وأخيراً يصرفهم عنّي تَشَبُّثُهُمْ بواجب الصلاة عليها في الوقت الذي تقوم فيه الصلاة. يَنْسَـلّونَ واحداً واحداً إلى المقاعد الشاغرة في السيّارات التي تتّخذ مكانها في الموكب الطويل. فالزمنُ الملهوفُ يَنْأَى في كلّ لحظةٍ لحظةً، وسيّارةُ النعش تلتفُّ على ذاتها مؤذنةً بأوان الرحيل.
الآن وقد نامت عن يديّ تلك العيون، أدسُّ أصابعَ يمناي في جَيْبِ البنطال وتقهقه في صمتها شفتاي. أداعب مفتاحَ سيّارتي في مخبئه هناك كَمَنْ يداعب سرّاً ثم لا ألبث أن أفشيه للنور. أُلْقِمُهُ فَتْحَةَ البابِ وأُميلُهُ يمنةً بينما تميل عيناي يسرةً في حذر اللّصّ يُمَنِّيهِ ما غَنِمَهُ بفرارٍ عتيد. أرمي بنفسي خلف المِقْوَدِ ويرتجّ حولي الهواءُ بالضحكة تفلت من بين شفتيَّ رذاذاً.
هكذا هكذا أنا.
وَإِنْ تكن الحياةُ تكيد لي فتلبّد أيّامي بالناس فَهَا أنذا أكيد لها وأنفضهم عنّي كما الريحُ الغبارَ. وإن تكن عليَّ حرباً فإنّي لها. وما وحدتي الآن، وما كانتْه بالأمس، وما ستظلّه غداً، إلاّ الراحةُ الكبرى، أصونُها وتصونني كأنّ بيننا حلفاً تراضيْنا به على الستر والكتمان. أنا أريحها من غَبَشِ الناس وهي تُحَصِّنُ خواطري والشواردَ من أحلامي من فجور عيونهم. شيءٌ هو كالدم ورثتُه عن أبي. شيءٌ أشبه بشوقٍ شَرِسٍ إلى خلوةٍ أبديّةٍ بالنفس، خلوةٍ لا يعكّر صفاءَها لَوْثَةُ أنفاسِ الآخرين وأبَدٍ لا يجزّيء امْتِدادَهُ افْتِراسُ التطفّل في خلجاتهم. وما هو ذلك الذي كان يقوله أبو الوليد حين كان ينظر فإذا أبي يتمشّى وحيداً على الشاطىء الممتدّ جنوباً وشمالاً من فندق صيدون؟ أجل أجل كان يصفهُ بثعلب الصباح الذي لا ترضيه إلاّ صحبةُ نفسه ولا يؤنسه من الأصوات إلاّ صدى أفكاره. كان على حقٍّ أبو الوليد، فأبي كان، مُذْ عرفتُ أبي، يتمشّى هناك على الرمال وحيداً متوحّداً مستوحداً أوحدَ أحداً.
تماماً كما أنا الآن.
وحيداً إلاّ من صحبة الموت وقد نَصَّبوه لموكبنا دليلاً.
وحيداً تؤكد لي سيّاراتُهم من أمامي ومن خلفي براءةَ أنفاسي من أنفاسهم.
وحيداً.
ولكنّها ساعةٌ وتنزلق دقائقُها في غَيَابَةِ اللانهاية. ساعةٌ كُتِبَتْ عليَّ كما كُتِبْتُ عليها، فهي لا تزال بي وأنا لا أزال بها، أفرغها من نفسها وتفرغني، حتى تنهب منّي الذي أنهبُ منها، مقداراً بمقدار. ولن يتمّ ذلك قبل أن أكون قد رَصَدْتُ للغد خطّةً تَرُدُّ إلينا جميعاً نعمةَ الحقّ الذي سُلِبْناه أو نكاد، وتُسْبِغُ عليَّ من دونهم أجمعين سِمَةً تسلّطني عليهم مجتمعين منفردين. ولكي يَتَهَيَّأَ لي ذلك فلا بدّ أن يكون لي مثلُ الذي كان لأبي: محاميان اثنان أصطفيهما لنفسي فأمتحن بأوّلهما تصوّري للقضيّة من جوانبها كافةً ثم أمتحن آراءَه هو بنصائحِ ثانيهما وحججه، دون أن يعلم أيٌّ منهما باستشارتي للآخر.
وإنّه لَمِنْ سالفات الجنون أن أؤجّل للغد ما أنا قادر على فعله اليوم. إذن أذْهَبُ إلى أحدهما مباشرة بعد الدفن. أجل بعد الدفن أتسلّل خفيةً من منزل سميّة وأهبط إلى الطابق الذي يقطن هو فيه. أدقّ بابه دقّةً واحدةً. واحدةً فقط. أو أضغط على زِرِّ الجرس ضغطةً أقصرَ من لمح البصر. يفتح لي. تمتليءُ بي عيناه. وقبل أن يسألني فَمُهُ ما يدورُ به رأسُهُ تجيبه قدماي بالدخول وتوميء إليه عيناي ويداي بالرغبة في الإختلاء به للتحدّث إليه. أقول له إنّ لعائلتنا من الأسرار ما ليس لغيرها. يقول السّتْرُ مهنتُنا وكلُّ عائلة تقول الذي تقوله أنتَ. أقول ولكنّ الذي بنا ليس بغيرنا. يقول لا عليك إنْ بُحْتَ بخيرٍ أو بشرٍّ. أقول إنْ خيراً فَلِكِلَيْنا وإنْ شرّاً فَعَلَيَّ. يقول فهمتُ المراد. أقول قضيّتُنا قضيّةُ إرثٍ تشوبه الهمسات. يقولُ الأرضُ التي خَلَّفَتْها لكم الراحلةُ اليوم؟ أقول وما أدراكَ بالأرض. يقول من زمنٍ غيرِ بعيدٍ نَمَتْ إليَّ بعضُ تلك الهمسات. أقول هو ذا جوهر القضيَّة. يقول جوهرُ القضيّةِ ما كان قبل الهمسات. أقول تقصد ملكيّةَ الأرض؟ يقول الأرضُ مُلْكٌ للراحلة منذ أن كانت الأرض، تعرف ذلك المدينةُ كلّها. أقول وما الذي تعرفه المدينة؟ يقول إنَّ المرحوم والدَكَ استأجر من المرحومة عقارَها كلّه منذ أن وَرِثَتْهُ عن المرحوم جدِّكَ، ثم أقام عليه البناءَ الذي صار مطعماً. أقول قَطَعْنا نصفَ الطريق. يقول إذنْ هان علينا النصفُ الآخر. أقول لا نعرف بالضبط إذا كان أبي قد أجَّرَ العقار بدوره إلى طرف ثالث. يقول ذلك جائزٌ إذا كان المرحوم قد حصل قبل وفاته على وكالةٍ عامّة من المرحومة قبل وفاتها تُجيزُ له التصرّفَ بالعقار. أقول إن يكنْ ذلك قد حَدَثَ فقد حَدَثَ تحت عوامل الضغط.
يقول أيُّ لونٍ من ألوانِ الضغط؟ أقول إنَّ للغد لساناً غيرَ لسانِ اليوم. يقول وَلِمَنْ تَظُنُّهُ أجَّرَ العقار؟ أقول إلى الذي تهمس باسْمه الهمسات. يقول أتعني...؟ أقول هو الذي أعنيه. يقول ولكنْ... أقول ولكنّ الذي نريد إثباته هو أنَّ الذي نعنيه قد زَوَّرَ عقدَ إيجارٍ بينه وبين أبي بعد وفاة الأخير. يقول وما الذي يؤكد لك فعل التزوير الذي تقول؟
أقول...
لا لا لا. يجب أن أكتم عنه اسم الذي أسَرَّ إليَّ بذلك. فإنَّ للغد لساناً غيرَ لسان اليوم، وإنَّ لإرادتي صوتاً سَيولَدُ هذه المرّةَ من رحم الموت.
إسماعيل
وما أَنْ مَدَدْنا الجثّةَ في النعش ورَدَدْنا الغطاءَ إلى موضعه حتى انْسَـلَّ جسمُها الأثيريُّ عبر الألواح الخشبيّة وَانْبَسَطَ في الهواء على هيئة انْبساط الجثّة. شيءٌ هو كالضبابِ انْحَلَّتْ كثافتُهُ فَاحتواه الخفاءُ وضلَّتْ، وما تَضِلُّ، عن تمثّله العينُ. شيءٌ هو كأنّه ليس بالشيءِ فلا يشغل في الجوّ إلاّ فسحةَ ذاته. ولعلّ تَمَثُّــلَهُ من وحْي إرادته، فليس للطبيعةِ من سلطانٍ عليه ولا للعناصرِ من رأي في تشكّله أو تحلّله أو مسارِه. وإلاّ فكيف تُزَجّي الرياحُ السحابَ فتحمله من طرفٍ في الجوّ إلى آخر، وتمرّ عليه هو فكأنّها ليستِ الرياحَ وكأنّه في تَماسُكِهِ ليس ضباباً، بل هاجسٌ من ضباب؟
والجسمُ الأثيريُّ هذا إنّما يعْلو عن غطاءِ النعشِ مَدَى زفرةٍ، بل مدى نَفَسٍ هادىء. فحينما ارْتَفَعَ النعشُ بين الأيدي ليودَعَ سيّارة الموتى ارْتفعَ هو من تلقاء نفسه محتفظاً بالمسافةِ عينها التي بينه وبين الغطاء. وحينما حارَ بعضُهم هل يُدخلون رأسَ النعش أوّلاً أو الجانبَ الذي ترتاح فيه قدما الجثّة فَاسْتداروا على أنفسهم بالنعش مرّةً اسْتدَارَ الجسمُ الأثيريُّ فوقه وأَتَمَّ انْسيابَهُ إلى داخل صندوق السيّارةِ حيث احْتَلَّ فوق النعش فسحةَ ذاتِهِ قبل أن يُغْلَقَ عليهما البابُ.
الجسمُ الأثيريُّ هو المِثال وما الجثّةُ إلاّ المادّةُ التي كانت قد صيغَتْ من قبل جسداً على نَسَقِهِ. وحينما يأخذها الموتُ يظلُّ المِثالُ هو هو يرقبها في حالة اهْترائها وحالةِ تفسّخها وحالةِ فنائها. ثم أنّه يظلّ هو هو في انْتظارِهِ الأبديّ حتى إذا ما نُفِخَ في الصورِ وتحرّكتْ ذرّاتُ الترابِ اسْتعداداً للبعث عادتْ تلك الذرّاتُ فتشكّلتْ على صورة الجسم الأثيريّ الذي بِانْتِظارها.
وما أفدَحها خسارةً على أبناء خالي أنهم لم تُنادِهِمْ أسرارُ الكونِ ولا هم سَعَوْا إليها. ولو أنّهم فعلوا لتدارسوها فسلّمهم سحرُها من دَرَنِ الحياة الذي لا يزالون يُمَرِّغون جلودَهم فيه منذ رحيل والدهم. ولو أنّهم فعلوا لما كانت تَعِدُ اليوم بالتبخّرِ إراداتُهم كما تتبخّر الهواجسُ شِلَعاً سوداءَ من عَبَقِ الجحيم.
أبو سليم
أُرَحِّلُّهُمْ في قَيْظِ الصيف وفي جليد الشتاء، في عَصْفِ الخريف وفي نَداوة الربيع. أرحّلهم كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً. وسواء رَضَوْا واطْمَأنّوا أو غضبوا وتمرّدوا، إنْ كان إلى ذلك أصْلاً من سبيل، فالرحلةُ قائمةٌ، لهم وبهم، مسافتُها أقربُ المسافاتِ وأبْعَدُها.
وفي كلّ رِحْلَةٍ أجلس في مقعدي هذا، خلف مقودي هذا، أحدّث نفسي، كما أفعل الآن، لأقتلَ الوقتَ الذي يتكرّر بتكرار هذه الرحلة التي كُتِبَتْ على الراحلِ مرّةً وكُتِبَتْ عليَّ عَدَدَ رحلاتِ الراحلين.
ولو لم تقضِ إرادةُ اللهِ بذلك، أو لو كانت لي نعمةُ الخيار، لكنتُ اخْترتُ أن أكون طبيباً نسائيّاً أستقبل الأطفال لحظةَ هبوطهم إلى الأرض، لحظةَ بدايةِ رحلتهم، فأكون مبشِّراً لا نذيراً كما هي حالتي الآن.
لن ينفع كلُّ هذا الكلام، بالطبع لن ينفع، فَمَا هو إلاّ حديثٌ أُسَلّي به نفسي حتى لا أفكّر بما لا أحبّ أنْ أفكّر فيه.
فأنا لا أدري بالفعل لماذا اسْتحوذتْ عليَّ هذه الفكرةُ، هذا اليومَ بالذات، يقشعرُّ لها بَدَني، وكأنَّ برودةَ الطقس وحدها لا تكفي لتفعل بي ذلك. بدأ ذلك وأنا أنْزل معهم درجاتِ السلّم الطويل، ويدي مضمومةٌ إلى أيديهم في حَمْلِ الجثّة التي كانت لا تزال طريّةَ الأطراف. أجل، ذلك هو الذي زَعْزَعَني. ولا سبيل إلى المداورة الآن، فطراوةُ الجثّة كان ما أرْسَلَ الرعشةَ في يدي فكأنّما كانت تلمس جسداً حيّاً. هذا النهارُ غريبٌ غريب، قلتُ لنفسي، وأنا أرفضُ الفكرة رفضاً شرساً، وأسلِّط عينيَّ على نَقْلَةِ قدميّ من درجةٍ إلى درجةٍأدنى منها، كما أُلِحُّ في إشْغالِ فكري بما يفعلون حولي ويقولون. ولكنّ الفكرةَ ظلّتْ تتشبّث بي حتى إذا ما أخذَ الحِمْلَ عنّي أحدُهم، تَلَكَّأْتُ عنهم ونجوتُ من رهبةِ إحساسي ورهبةِ الفكرةِ أنَّ الميّتةَ قد لا تزال بها بقيّةٌ من حياة. ولم أمسسها بعد ذلك أبداً. وحين طَرأَ ذلك العطلُ البسيطُ على محرّك سيّارتي، راودني شيءٌ كالظنّ أنّه ربما كان للغيب يدٌ في هذا التأخير، فلعلّ شيئاً يطرأ على الجثّة فيلغي الرحلةَ من أساسها. ولكنّي عُدْتُ وقاومتُ الفكرةَ بشراسةٍ وسلّيْتُ نفسي بحديثٍ من هنا وحديثٍ من هناك. ثَبَّتُّ فكري على الطقس وتحوّله المفاجىء وتلهّيْتُ بالتفكير في احْتمال خسارةِ ربحِ يوم ِعملٍ فيما لو حرنتْ سيّارتي فاضطروا إلى نقل الجثّة في سيّارة أخرى.
كم كنتُ بارعاً بِإلْهاءِ نفسي، حتى ولو إلى حين.
ويا ليتني، ثم يا ليتني الآن، أُمْنَحُ القدرةَ على المضيّ في هذا الإلْهاء ريثما تنتهي الرحلة، بل إلى ما بعد هذه الرحلة، وإلاّ فسوف يطاردني إلى آخر العمر شبحُ ميّتٍ ربّما كان حيّاً، ثم ينزل معي إلى قبري يعاتبني على ما قصّرتْ به يداي.
طارق
لكلّ ساعةٍ رَبٌّ ولكل حالٍ لَبُوسُها.
والساعةُ اليومَ هي الساعةُ التي تطمئن فيها المُلْحَدَةُ في لحدها. إذ ذاك يَنْبُتُ في عينيَّ مِنْ رحم الموت اخْضرارُ غصنِ الزيتون. ثم يَقْطُرُ الإخضرارُ على شفتيّ فإذا هما نديّتان بطلاوةِ الزيت. ثم تُنَدّي شفتاي لساني وترطّبان الذبذباتِ من كلماتٍ أبثّها في أذنٍ صاغيةٍ هنا أو أُسيلُها في أذن شاردةٍ هناك. حتى إذا دارت الدورةُ بالرؤوسِ ومَدَّتِ العيونُ إليَّ بنظراتٍ تستلهم معنىً للتحوّل الذي تحوّلتُه هَجَمْتُ بهم إلى مقصدي ومنّيتُهم بالخلاص على يديّ هاتين من الحيْفِ الذي أصابنا أو يكاد. كلُّ ذا بعينيْنِ مُطَأْطَأةٍ إلى الأرض جفونُهما.
إنَّ للسؤددِ درباً مُحصَّـصةً بالدَعَةِ والهَوان.
كَذا علّمني الكاردينالُ في فيلمه المشهور.
درباً مطرّزةً حَفَافيهِ بِكَسْرَةِ عَيْنٍ ولَوْيَةِ عنقٍ واتِّضاعِ كتفيْن.
وهو ذا الدربُ يمضي بنا نزولاً نزولاً حتى نسلّمها إلى حفرتها هديّةَ الموت للتراب. ثم ترتدُّ أعينُنا تلقاء الحياة فتنهض هذه بنا صُعُداً صعداً. بلى تنتهي ساعةُ الموتِ بالموت وبِاحْتضان الترابِ الترابَ.
وهل الموتُ من قبل هذا والموتُ هذا وما بعد هذا إلاّ انْعطافٌ يُلِمُّ بالجسد كَانْعطافِ سيّارةِ النعش أمامي عند كوع الخرّوبة؟ إلاّ أنَّ انْعطافَها مدى هنيهةٍ وانْعطافَ الجسدِ هُوِيٌّ مَدَاهُ السمواتُ سَبْعٌ وما بينهما وما. وما الذي تُراه تَراه عيناي في صفحة المرآة؟
إنّهما إيّاهما النظّارتان اللّتان يعلنُ بهما وسيم عن انْسِحابه إلى داخل رأسه. وخيراً فعل، ففي رأسه من فسحةِ الفراغِ ما يكفي لإِحْتواء جسده.
أمّا احْتواءُ الحَرَجِ الذي أَجَّجَهُ تَغَيُّبُهُعن غسْلِ الجثّةِ فكان نصيبي. لاِبْنِ عمَّتي ابْتدعْتُ المعاذيرَ ففضحتْ وهْيَها هَزَّةُ رأسه. ولغيره أَلْبَسْتُ الكذبَ لباسَ الصّدقِ فَتَعَرَّتِ الحقيقةُ على أطرافِ الشفاه تتمتم بشيءٍ وتقصد ضِدَّه. وحدَها المسجّاةُ بقيتْ مسجّاةَ الذاكرةِ والوعي، سيّانِ عندَها الحاضرُ والغائبُ، وسيّانِ عندها العينُ التي دَغَشَ عليها كاذبُ الدمعِ والعينُ التي لاذتْ بصدقِ جفافها.
أمّا سميّةُ فمسألةٌ أخرى. كانت عيناها تغتصبان من عيون الناس ما لم تتجرّأْ على البَوْح لها بِهِ ألْسِنَتُهم. المرأةُ فيها كانت تَشْرَئِبُّ بلهفةِ المستطلعِ المستجلي، حتى إذا حصدتْ ما لا تحبُّ انْتكستْ وانْغرزتْ حدقتاها في الأرض. وكانت يداها حليفتيْ عينيها في الوَشْيِ بالحرج الذي لم يكن إلى مدافعته من سبيل. كانتا تنبسطان لحظةً وتنقبضان لحظةً ثم لا تلبث أن تلتفّ إحداهما بالأخرى. وكنتُ على يقينٍ من أنّها سَتَنْقَضُّ على أيّةِ امرأةٍ يسوّل لها فضولُها أن تطرح عليها، جهرةً أو خفيةً، السؤالَ الذي صار في ضميرها رديفاً للقطيعةِ والنّبْذ.
خيراً إذن فَعَلَ وسيم اليوم بِإِطالَةِ عمر الجفاء بينهما. وخيراً كان تقاعسُ كسّاب عن زيارتها منذ انْتقلتْ أمّي إلى منزلها عقب وفاة أبي. خمسُ سنواتٍ هي لا أحسبه زارهما خلالها أكثرَ من مرّات عشر.
حسنٌ حسنٌ كلُّ هذا الجفاء فكلّما طال حصارُها بالنبْذِ وأُثْخِنَتْ أيّامها بالقطيعة هانَ أمرُ سقوطِها أسيرةَ التفاتةٍ منّي أنسجها لها غداً من وهمِ الرعايةِ يغدقها على أخته أخٌ حنون.
وصبراً ثم صبراً ثم صبراً، فما هي إلاّ ساعةٌ حتى تَرُدَّني إلى منزلها الخاوي قدماي. وما هي إلاّ ساعة حتى يَذْلُقَ لساني بدفء الأخوّةِ مبدّداً من غرفاتها صقيعَ شباط. حضوري سيكون لها الغمرةَ بعد طول غياب. ولسوف أطيلُ حضوري إن حضرتُ، ولسوف ألحّ فيه حتى يكون تكرارُهُ تأكيداً لمعناه. فَإِنْ جَنَحَتْ للاسْتِظلال بظلّي أَوْرَقَ السّلمُ بيننا، وإن جنحتْ إلى التميّعِ في إراداتهم فإنّي لَمُوقِدٌ من أفئدتهم جمراتٍ تتقلّبُ عليها حتى يَنْضُبَ من عودِها الزيتُ كلّه.
أمّا ذلك التائهُ الهائمُ الشاردُ في عالم الروايات والشعر فَبُعْداً له ثم بعداً. وَانْشِغالُهُ بهمومِ الأدبِ والنساءِ في بيروت إنّما خَتَمَ على عينيْه وقلبه فهو لا يرى حقيقة ما يجري في حياتها ولا يفقه من سُنَّةِ هذه الأرض شيئاً.
غداً إذن يَعْلَمُ ذلك الذي ضَيَّعَ سني عمره في متاهة الحرف أنّ للحرف جذوراً لا تنبتُ إلاّ في السحاب وغداً يعلم قدّيسُ الكلماتِ أنَّ لهذهِ المدينةِ ربّاً واحداً هو الربُّ الذي نَهى عن عبادته السيّدُ المسيحُ فلم يقدّسْ أهلُها إلاّه.
سامح
العربةُ التي يجرّها البغْلانِ تمزّق صفحاتِ الرواية وتترجرجُ عجلاتُها بين أجفاني المطبَقة. النعشُ المُسجّى فوقها ما يبرحُ ينزلقُ من زاويةٍ إلى أخرى كلّما مالَتِ الدربُ بالبغليْن يميناً أو يساراً. جثّةُ الأمِّ المُغَيَّبَةُ طيَّ النعش تلطمُ جنباتِه بجنباتِها وتدقّ رأسَها بألواحِهِ، مستسلمةً للدرب في صعودها وهبوطها وللبغليْن في ارْتقائهما شَدّاً أو نزولهما انْسياباً لا تَمالُكَ فيه. العربةُ تلتفُّ يساراً مع الْتفافِ المنعطف فتمتصّها سيّارةُ النعش رويداً رويداً. العربةُ والبغلان يغشّيهم سوادُ الغراب فيتلاشيان.
أَفْتَحُ عينيَّ لأغلقَ صفحاتِ الرواية فيطالعني الموكبُ من جديدٍ وأنا في وسطه، أسيراً لصفحات روايةٍ لم تكتبْها يدٌ بعد.
أطبقُ أهدابي من جديد.
عيونُ الصبايا تزدحم في عينيَّ تسألني لماذا أقرأُ لهنَّ بنهمِ العشّاق من أدبِ ذلك المجنون الأميركي الذي لا يعرف أبطالُه الوقتَ إلاّ بقراءة الظلال؟ ولماذا تأخذني النشوةُ ولساني يرتّل أنشودةً من عالمٍ ضميرُه صيحةٌ ونَبْضُ أعصابه غَضَبٌ؟ ولماذا ألتهب بالحمّى كلّما تَلَوْتُ عليهم قصّةَ تلك الأمّ التي اسْتَنْزَفَتْ شبابَها الزوجيّةُ والامومةُ فَانْتَقَمَتْ سرّاً من زوجها وأبنائها بِأَنِ اسْتَلَبَتْ منهم وَعْداً بأنْ يرحلوا يوم تموت، وجثّتُها في عربتهم، لدفنها في مقبرةِ آبائها في تلك البلدة البعيدة البعيدة.
وتسألني وتسألني العيون.
إلاّ عينيْها المُسْرَجَتَيْن بأهدابٍ من عَزْمِ الصقور.
تلك الأهدابُ التي تنتفض فإذا هي أجنحةٌ تَنْفُضُ الفراغَ الذي بيننا وتَغْصِبُ عينيَّ على ملاقاةِ عينيْها وهي تنهضُ بالجواب إليّ كأنّني أنا المعنيّ بالجواب لا زميلاتها اللاّتي انْصرفْنَ إلى بيوتهنّ من لحظات. وحدهما عيناها تبوحان بعبثيّة انْتقامِ الأمّ منهم في رحلتها بهم بعد الموت. وحدهما تبوحان بجدوى ما تعتزمه هي قبل الموت وتؤكدّان على اسْتنزافِ شبابها في رحلةِ اسْتنزافٍ لإرادتي أنا. لن أنتظر إلى ما بعد الموت، تهمسان لي، فبعده لن يكون لشيء معنى. فَلْيَنْتَظِرْني في البيت حرّاسُ عمري، فعمري لي أنا، وها أنا ذا أعرّيه لعينيْكَ فَخُذْهُ ولَفِّعْ به عُرْيَكَ يا عاشق الروايات.
ثمّ ترجمني بدقّاتِ قدميْها على بلاط القاعة تَعْبُرانِ المسافةَ بيني وبين المغيبِ، والمغيبُ انْتصابٌ من الفراغِ ببابٍ حدُّهُ عَتَبَةُ الأفق.
ثمّ تَبْغَتُني في الصباح على الرملة البيضاء فتدسُّ فتنتَها في مقعد سيّارتي وتَحْسو من قهوتي بشفتيْن يلوحُ عليهما جسدُ امرأةٍ أخرى. وعلى رفيفِ الأجنحةِ من أهدابها تحملني فجأةً إلى الشاطىءِ القريبِ تشرح لي قصّةً حميمةً من قصص الموج.
الموجةُ أنثى تَفُحُّ لملمسها الموجةُ الأخرى وما تكاد تنكسر على الرمل إحداها حتى ترتدَّ خلسةً إلى مَيْعَةِ أتْرابِها.
ألا ترى معي؟ ألا ترى؟
والموجةُ لِصْقُ الموجةِ مِلْءَ البحرِ وملْءَ جفوني.
ثم تأخذ من صفحاتِ الرواية الأمريكيّة حفنةً تمزّقها بعد حفنةٍ حتى تأتي أصابعُها على الرواية كلّها. تُهيلُ على الأمّ المسجّاة في لحدها تراباً فوق تراب وتستلُّ من حقيبتها هي كتاباً آخر تَدُسُّهُ كالجمرة في يدي. عيناها تنوحان أنِ اقْرَأْ لي من قصائد سافو بصوتكَ الذي فيه من فحيحِ الموج ما يموجُ به الشعرُ في قصائد سافو.
وما أنْ تهمَّ شفتاي حتى تنفرجَ عيناي تسألان الدربَ عن سبب انْقباضِ المسافة.
الموكبُ في سَيْرِهِ لا يسيرُ وهو سائرٌ مثلَ ذيّاكَ الحلمِ الذي كان يغشى صبايَ ليلةً بعد ليلةٍ بعد ليلةٍ أركضُ فيه الليلَ من أوّله إلى منتهاه وقدماي تنهضان بي وتحطّان على الموطىء عينه وعيناي تقيسان مسافةً قياسُها اللاّمدى.
تنحني مقدّمةُ السيّارةِ التي أمامنا لَمْحَةً ثمّ تنهض لتنحني مؤخرتُها لمحةً ثم تنهض من جديد. وما أن تمضي مستويةً حتى تَهوي الأرضُ بعجلات سيّارتنا مرّةً ثمّ مرّة أخرى ثمّ تستوي بنا فنندفع فوق الطريق نزولاً نزولاً.
إذَنْ هَوَتِ الأرضُ من قَبْلُ بسيّارةِ النعش، واسْتَدارَتْ بها قَبْلَ ذا لَفَّةُ الدربِ، فَهَوى النّعشُ واسْتَدارَ، وَهَوَى وَاسْتَدارَ طيّهُ الرأسُ. وإذنْ ذلك الفمُ. الفمُ الذي بغتتْه الروحُ في الليل، ونسيه الموتُ فاغراً، ونسي الصرخةَ فيه تنتظر بين الشفتيْن والحلقومِ، لعلّه اتَّسَعَتْ فَغْرَتُهُ الآن تسألُ الصمتَ عن نهايةِ الدربِ وعن ميقاتِ الصلاة. تَنْحَلُّ العقدةُ الخضراءُ عن أوّلِ الكَفَنِ، ويطفو في الهواء الرأسُ والفمُ والصرخةُ التي ذبذباتُها الإنتظار.
أسدلُ أجفاني حتى لا أرى.
العربةُ التي يجرّها البغلانِ تمزّق صفحاتِ الروايةِ من جديد.
إسماعيل
خمسُ سنواتٍ مَضَتْ إذَنْ على رحيلكَ يا خال. خمسُ سنواتٍ وروحُكَ لاجَّةٌ في انتظارٍ مُمِضٍّ لروحها. وها هي اليوم تأتيك للإتّحاد بروحك التي طهّرتْها من ربّكَ رحمةٌ وأَلاَنَتْها من لَدُنّا، بإذنه، دَعَوات. وكاد لقاؤكما أن يكون أمْثَلَ ما يكونه اللقاءُ بين زَوْجَيْنِ جَمَعَتْهُما في الحياة عِشْرَةُ بِضْعٍ وخمسين من السنوات وفرَّقَهُما الموتُ خمساً ليعود فيجمعهما اليومَ أمَداً منتهاه حافّةُ الغيب. كاد أن يكون اللقاءَ الأمثلَ لولا أنَّ جثَّتها نادَتْها من الأرض بقعةٌ غَيْرُ البقعةِ التي نادتْكَ. ولكنَّ نعمةَ ربّكَ لا تُحْصى، فإن قُيِّضَ للجسد أنْ يُنْفى عن الجسد، فإنّ الروحَ مُنْحَتِمٌ عليها لقاءُ الروح.
ونحن الذين عَهِدَتْ إلينا الحياةُ بالجثّةِ ريثما يستردّها إلى مملكته الترابُ، لا نَمْلِكُ إلاّ العنايةَ بالمادّة التي وُجْهَتُها الفناءُ، نحضّرها ونغسّلها ونكفّنها، كما قد فعلنا، ثم ننطلق بها إلى الجامع للصلاة عليها، كما نحن ننطلق بها الآن، لنوسّدها في نهاية الأمر مرقدَها الأخيرَ حيث تتعهّدها أيْدٍ غيرُ أيدينا. هنالك عند حافّة القبر تنتهي علاقتنا بها، بينما تبدأ من هنالك الروحُ تنشدُ لنفسها من الغايات والمسارات واللقاءات عوالمَ لا تنفذ إليها عيونُ الأحياء. وبين عالمِ المادّة الفانية هذا وعالمِ الروح الخالدةِ ذاك يلوحُ الجسدُ الأثيريُّ كذكرى لحالٍ انتهى وكوعدٍ لحالٍ سيكون. وهو ذا جسدُها الأثيريُّ يواكب جثّتها كالظلِّ، إلاّ أنّه، على غير عادةِ الظلّ، يأتي انْعكاسُهُ إلى فوق، ويسْري في الهواء كأنّما هو نَسَغُ الهواء. وها هو، مع لفّة الدرب يلفّ فوق غطاء النعش، مستبدّاً بالمسافة عينها التي تفصله عن مستوى الغطاء.
غير أنَّ الغريبَ الغريبَ، إذْ تحضرني الذكرى الآن، أنَّ الجسدَ الأثيريَّ لم ينتشر فوق نعش خالي يوم شيّعناه منذ سنواتٍ خمسٍ، كما أنّني لم أرَهُ يتّخذ فوق القبر الوضعَ الذي اتّخَذَتْه الجثّةُ في بطن التراب. بل لعلّه كان حاضراً هناك حين وحيث سرنا وهنالك حين وحيث وقفنا، وكان جُلُّ ما في الأمر أنّه لم يتيسّر لعينيّ أنْ تَنْفُذا إليه بالحدس الذي تنفذان به الآن إلى ظِلِّ جثّةِ امرأته. ليس للأمر من تفسيرٍ آخر سوى أنني لم أكن يومذاك قد اهتديتُ إلى أمَّهات الكتب الكونيّة بعد.
وكائناً ما يكن الأمر، فلذكراه اليوم، كما في كلّ حادثِ موتٍ، نكهةٌ خاصّةٌ بَلَوْتُها أوَّلَ مرّةٍ فَجْرَ بَغَتَني نَبَأُ موته في المستشفى. كان ذلك يوم جمعة، مثله اليوم، من عين الشهر الذي نحن فيه. ضجّتْ في عروقي الحياةُ يومها وهَجَمَتْ بي نفسي إلى موقعٍ لم أكنْ لأختاره لنفسي لو كان المتوفّي شخصاً آخر. وجدتُني فجأةً أقف بين أبناء خالي الذين أذهلهم الحدثُ فَشَلَّ عقولهم، كما شلّها صبيحة هذا اليوم، أُمْلي عليهم تفاصيلَ ما يجب فعله، ثم أوزّع عليهم مهمّاتهم، وهم ينظرون إليَّ طائعين مستسلمين. وكان استغرابُ النّاس ودهشتهم عظيميْن وهم يراقبونني، طوالَ النهار، أقوم بعبءِ النهار وكأنّ الراحل أبي وأنا ابنه البكر. ولكنَّ استغرابي أنا لِمَا كنتُ أقوم به كان أشدَّ وأعظم. حتى أدركني آخرُ النهار. تقبّلْتُ تعزيةَ آخِرِ المعزّين وانصرفتُ. في منزلي صلّيتُ العشاءَ وسرعان ما خلا بي الليلُ في السرير. إذ ذاك أَخَذَ شيءٌ كالخَدَرِ يدبُّ في كل عَضَلَةٍ من عضلاتي وفي كل عِرْقٍ من عروقي. ومع ذلك الدبيبِ المنهِكِ اللذيذِ أَفْرَدَ خيالي أشرعتَه وَسَرى بي قاربُ الليلِ إلى البعيد البعيد، إلى ذلك العهد الذي لم أكن قطعتُ فيه شوطاً حاسماً فَأُسَمَّى شاباً، ولم أكن لا أزال أحتفظ فيه بكلّ ملامح طفولتي فأسمّى طفلاً.
ذلك هو العهدُ الذي خلاله انْغَرَزَتْ وَنَمَتْ وترعرعتْ في قلبي ذكراه. وذلك هو العهدُ الذي قَسَتْ فيه عليَّ وعلى إخوتي وعلى أبي وأمّي الحياةُ فكان وَجْهُهُ وحده هو الوجهَ الآخرَ للكون.
أجلْ، أجلْ، قمتُ بما قمتُ به يوم موته إيفاءً لِدَيْنٍ لَهُ علينا قديم ٍ، فكأنّما انْبَثَقَ ذلك العهدُ من ذاكرتي ومن شرايين دمي كالصرخة تستنهضني أنْ قُمْ وَأَدِّ واجبَ الوفاء، يا إسماعيل، عهداً بعهد.
أجلْ، فلقد كان في أيّام الشدّة والعسر يَذْكُرُنا بالخير ويَرْفُدُنا بأكثر من الخير. وكنتُ أحسُّ أنّ لأمّي في قلبه قسطاً من المحبّة اختصّها به دون سائر أخواتها. ولذا كنّا، والناسُ من حولنا تهبط بهم الشدّةُ إلى وِهْدَةِ من وهاد الحياةِ، يطفو بنا فيْضُهُ تارَةً، وينتشلنا حُنُوُّهُ تارةً، فإذا نحن وكأنّنا في يفاعٍ من الأرض اجترحتْه لنا وحدنا الأرضُ.
كان ذلك شأنه في أمرنا، كما كان ذلك شأنه في كل الأمور: إذا أحَبَّ أحّبَّ الحبَّ كلَّه، وإنْ أبْغَضَ أبْغَضَ البغْضَ كلّه. ولعلّه كان إذا فَجَرَ فَلَهُ الفجورُ كلُّه، وإن خشي اللهَ فجأةً تفجّرَتْ عيناه بالدمع وَاسْتَرْسَلَتا في تفجّرهما حتى اسْتَحالَتا بركتيْن تغصّان بدم ِالشفقِ الداكن. وكيف لي، وإنْ قَدُمَ العهدُ بذكراه الآن، أنْ أنسى ذلك اللقاءَ الحميمَ الحميمَ بيننا، حينما ارتفعتْ فجأةً كفُّهُ إلى فمي، ضارعةً إليَّ ألاّ أسترسلَ في وصف يوم القيامة؟
وسيم
ليس فيها من اسْمها غيرُ السُّمّ. وبموت أمّي اليوم ستطفح كأسُها من جديد بسمّ آخر، سمٍّ مِزاجُهُ الوحدةُ والعزلةُ والغربةُ، تتجرّعه صباحاً كلّما فتحتْ عينيها على لا أحَدٍ وليلاً كلّما أغمضتْهما على لا شيء.
لم تكن تحسب لدورات الزمان حساباً حتى بعد أن غَيَّبَ زوجها الزمانُ في ظلام ترابه. رَتَعَتْ في ظنّها، رَدَحاً من العمر، أنَّ أباها صِنْوُ الدهرِ لا يزول إلاّ بزواله، واستسلمتْ لظنّها كأنّ الظنَّ مُبْقِيهِ فوق رأسها يرعاها أبداً.
ولعلّ ضخامةَ جثّته هو الذي خدعها. ولو كانت ممّن يَتَّعِظُ لاتَّـعَظَتْ لمرأى شجراتِ الكينا تهوي في جذوعها العظيمةِ لمعاتُ الفؤوس وتنهشُ منها اللبَّ واللبابَ حتى الصميم، وتتدافع حولَها الأذرعُ المختنقةُ بالدم أخْذاً وردّاً، وهزّاً ثم هزّاً ثم هزّاً حتى تتفجّر من شقوقها طقطقاتٌ وفرقعاتٌ لا تلبث أن تتسارع أصداؤها فما تنتهي إلاّ بِدَوِيٍّ على الأرض عظيم.
تلك هي الشجراتُ التي كان قد زرعها على حافّة أرض المطعم أبي ورعاها، عُمْرَهُ، ثم أمَرَ بها، وعيناه غاصّتانِ بالدمع، أنْ تُقْطَعَ وتُقْتَلَعَ من الأرض جذورُها بعد أن هدّدتْ تلك الجذورُ الصلبةُ البلاطَ والأسمنت. كان حميماً إليه ارتباطُهُ بها، فلعلّه كان يحسب عمرَها من عمرِ عِزِّهِ الذي بَزَغَ مع لحظة إنشائه المطعم.
ومع ذلك انتهتْ تلك الشجراتُ، على ضخامتها، واسْتَقَرَّ البلاطُ والإسمنتُ من جديدٍ باسْتِقرار التراب الذي تحته. ولم تتّعظْ هي بالحَدَثِ الذي أبكى أبي وحوّله في لحظةٍ من (النيرون) الذي كان إلى طفل صغير لا حول له ولا قوّة. ولو إلى ساعات.
أَلَمْ نَقِفْ جنباً إلى جنبٍ، أنا وأنتِ، يا سُميَّة، نتأمّل ذلك المشهدَ منذ أكثر من خمسةَ عشرَ عاماً؟ ألمْ تَتَلَقَّفْ آذانُنا معاً ضربةَ الفأس الأولى؟ ألم تَهْوِ عيونُنا معاً مع هُوِيّ الشجرات واحدةً تِلْوَ الأخرى؟ ألم نشهدْ معاً نهايةَ امتشاقِ غصونها مسارحَ الجوّ الرحبةَ؟
بل كنتِ هناك وكنتُ.
وألفُ بلى، فلقد ذَهَبَتِ الشجراتُ، يا سميّة، وذهب بعدها أبوكِ، وها هي أمّكِ مسجّاةٌ في نعشها تتقدّم سيّارتُها التي كالسلحفاة موكبـَــنا كما تتقدّم سيّارةُ العروس موكبَ فرحتها. ذاهبةٌ هي الأخرى لترتاح من العذاب الذي جَرَّعْتِها منه ألواناً منذُ انتقالها إلى منزلكِ، تُلِحّينَ عليها وتلحّين أن تكتبَ لكِ حِصَّةَ صبيٍّ لتنالي من الإرث مثلما ينالُ كلُّ واحدٍ منّا.
تَتَمَسْكَنينَ أمامها حيناً أنْ لا زوجَ لكِ ولا وَلَدَ ليرعاكِ في آخر عمركِ، وتحرّضينها علينا في أكثر الأحيان. تقولين لها إنَّ عبءَ رعايتها وقع على كتفيْكِ وحدكِ وأنّكِ، رفقاً بها، تتغاضين عن تقصيرِ الرجالِ من أبنائها في القيام بواجبهم الذي يفرضه عليهم القانونُ تجاهها. وكدتِ تنجحين في تحقيق رغبتِكِ، كما روى لي كسّاب يوماً، لولا أنْ تصدّى لكِ ولها وَمَيَّعَ الأمرَ بالصمت مرّةً وبالتطنيش مرّةً ومرّةً بِ (لسوف نرى). سمومُك، يا سميّة، نَفَثْتِها في كلّ مكان، ولا ريب أنّ أمّكِ أحسَّتْ، وهي اللطيفةُ الحسّ، أنكِ كنتِ تخدمينها، لا بالمحبّة كما تؤدي الإبنة لأمّها واجبَ الوفاء متى أدركها الكِبَرُ، بل بالحيلة والمكر والطمع لعلّكِ تُرْغمينها، وهي أسيرةُ الشيخوخةِ والعزلةِ والضجرِ، على تثبيتِ قدميْكِ في الأرض وتحريرِكِ من احتياجِكِ إلينا بحصّةِ صبيٍّ تكتبها لَكِ من أصل الإرث.
ولكنّ ذلك لم يكنْ وليس يكون. فلا صبيَّ لكِ اليومَ ولا حصّةَ صبيّ، وها هي سميحةُ، يا سميّةُ، تَرْحّل الآن عاريةً من المُلْـكِ الذي وَرَّثَها إيّاه جدّي لتورثّنا إيّاه مجبولاً بظلالٍ كثيفةٍ من الرّيْبِ، مُسَوَّراً بِشِرْكٍ مُسَنَّنٍ من الهمسات.
ولسوف ترتدُّ عيناكِ إلينا بعد دفنها ويسقط من بين يديك الرهان.
بل بقي لكِ شيءٌ واحدٌ تراهنين عليه: منزلُكِ الذي خلَّفَه لكِ زوجُكِ والذي تحارين مَنْ مِنَّا تستعبدين بوعدٍ لتورّثيه إيّاه. منذ رحيل زوجِكِ وأنتِ تورّثيننا إيّاه بالإيحاء، ملمّحةً إلى كلٍّ منّا على حِدَةٍ أنّكِ ستخصّصينه بالسهم الأوفر من أصل العقار. والذي كنتِ تظنّين أنّه صَدَّقَكِ مِنّا لَكَمْ كنتِ تمعنين في تسخيره لتنفيذ مآربك وأغراضكِ. وكيف أنسى ما حَييتُ كيف كانت تَرْتَجُّ عاليةً جائرةً في وجهي نبرةُ الصوتِ في فمك الذيلا تَلِدُ شفتاه إلاّ استكباراً وعُتُوّاً، تماماً مثل شفتيْ أبيكِ من قبل ومن قبل ومن قبل؟
وهل تُراكِ نسيتِ، على كرِّ السنين، كيف رَدَدْتِني خائباً مساءَ أتيتُ أستجيرُكِ أن تسمحي لي ولزوجتي أن نسكن معكِ، وأنتِ الوحيدةُ في منزلكِ، ريثما نتدبّر لنا مسكناً ونفرشه؟
وإن تكنِ السنواتُ الطويلةُ قد أَنْسَتْـكِ فلسوف يُذَكِّرُكِ بإذلالكِ لي مَرْآيَ وأنا أمْلأُ بابَ بيتِكِ هذا المساء، بعد نَبذي إيّاكِ وإيّاه السنين تِلْوَ السنين. الليلةَ، يا سميّةُ، موعدُنا في ظلالِ الموتِ، تتّكئين فيه على نظرةٍ حانيةٍ من عينيّ، وأتّكيء أنا فيه على سرحاتٍ طويلةٍ في حجرات بيتكِ مَدَاها الحلمُ والرهان.
سميّة
ها هو الموكبُ ينسابُ بها إلى غير ما رجعةٍ، وأنا على شرفتي ها هنا، معلّقةً بين السماء والأرض، تلاحقها عيناي حتى حدودِ المنعطف الذي سيغيّبها عن عينيّ بعد لحظاتٍ، حينما تستدير سيّارةُ النعشِ بالنعش يساراً فيستدير باسْتدارتهما وجهُ النهارِ وتستدير خلفهما وخلفه وجوهُ أبنائها المُشيّعينَ لها بحضورهم الذي هو أنْكى لها من غياب.
كلُّهم كانوا هَمَّها، وإنْ لم تكنْ هي هَمَّ أحدٍ منهم.
كان يحزنها أنَّ كسّابَ شَدَّ بينه وبين إخوته حجابَ البعد فليس يزورُ منهم أحداً ولا يشجّع على زيارته منهم أحداً. كأنّما شعارُهُ كان إنْ تَزُرْني فمرحباً وإن لا تزرْني فمرحباً مرّتيْن. هَمُّهُ، وهو البِكْرُ، كان نفسَه، كما هي حدَّثتْني. وكان ذلك أوَّلَ ما كان في صدْرِ شبابه حينما افْتَعَلَ أبي الفتنةَ بينه وبين إخوتي ليدفعه إلى ترْكِ المطعم ِلهم يديرونه بأنفسهم بعده. كان يُغْرِيهِ به تَحْصينُهُ المالَ، فلم يكن أبي، لسرٍّ فيه، يحبّ أن يَرى ابْـناً له رَيَّشَ وتلوَّنَ عليه الريش. كان لا يرضيه ممّن حوله إلاّ ضعفهم ولا يقرّبهم منه إلاّ احْتياجهم إليه.
وطارق، ذلك العائدُ من غربةِ الكويت، هَمٌّ عليها، ومن بعدها، هَمٌّ عليَّ كبير. دنانيرُهُ جمّةٌ ولكنَّ وحشتَه في المدينة غربةٌ أخرى أشدُّ عليه من الأولى. فلا هو ينشيء أسرةً له تَقيه تشرُّدَ النفسِ وسقطاتِ الهوى، لا هو يَدَعُنا نتدبّر له في أمر زواجه أمراً. دنانيرُهُ جمّةٌ والمصغياتُ إلى رنينها وجوهُهُنَّ برّاقةٌ بالصدى.
أمّا الحَرونُ وسيم، فكان شبكةً مُشَبَّكَةً من غرائب الهموم. لم تكن تدري هي بالأمس، ولم نكن ندري معها، ما الذي بالضبط يريده لنفسه هدفاً في الحياة. نَفَرَ من المدرسة باكراً وَشَرَدَ بين المطعم ودور السينما سنين، سنين. وكان كأنّما يَثوب إلى رشده فجأةً فيهوي على الكتب هويّاً يغرف منها ما تطيب به نفسه. وما كانت لتطيبَ إلاّ بالموضوع والمترجم من الروايات. أعرف ذلك لأنّني قرأتُ جلَّها في السرِّ عنه.
وكان ذلك إلى أن تزوّج في العام الذي انْتعشتْ فيه بينه وبين أخيه عديّ خصومةٌ قديمةٌ حول المطعم رَعَاها أبي بصمته. مذ ذاك صار تشرّدُهُ شوكاً في خاصرتها، فلا تتقلّب إلاّ على وَخَزاتٍ منه ولا تضطجع إلاّ على شَكَّات. أمّا زوجتُهُ التي حَرَنَتْ هي الأخرى ولم تأتِ لوداع الراحلة اليوم، فالصمتُ أجمل.
كلُّهم كانوا همَّها وإن لم تكن هي هَمَّ أَحَدٍ منهم.
أمّا ذلك الذي سَكَنَتْ همومُهُ قلبها فكان وحدَه الذي سكنتْ قدماه الرحيل. شرّدتْه الأحلامُ وحبُّهُ الروايات والشعرَ إلى عالم الغرب فتلقّى من فنّهِ ما اسْتطاب. ثم عاد من غيرِ ما عودةٍ وألْزَمَ نفسَه النفيَ في مدينة بيروت. يقول هربتُ من أوّلِ الزمانِ من الموتِ ولن أعود، إذا عدْتُ، إلاّ لأكتب رحلةَ الموتِ، وها هو عاد في الصباح على نبأ الموت، غريباً كما عهدناه في أوّل العمر، مشرّدَ العينين أبداً كأنّه أبداً راحلٌ لا يعود.
والراحلةُ بَكَتْ، ولكم بَكَتْ بين يديّ، توصيني بِابْنته خيراً، تلك التي أحبّتْ وأحبّتْ وأحبّتْ.
ها هي انْعطفتْ آخرَ الأمر سيارةُ النعش وغابتْ، وها هي خلفها تنعطف سيّاراتُ أبنائها، موكباً للنوايا التي انْطبقتْ عليها صدورهُم ولا تزال، فَانْفَضِضْنَ عنّي يا لابسات السوادِ، وعَجّلْنَ لي بِنِينا. أين نينا؟ فَتِّشْنَ عنها بربكنَّ وألْبِسْنَها المعطفَ السميكَ، وَلْتُؤَمِّنْ لنا إحداكنّ سيّارةً فسنمضي معاً في آخر موكب التشييع لنلقي على الراحلة النظرةَ الأخيرة. لا لا لا تجادلْنَني فيطلعَ ضغطي. سنذهب حتماً. أقول سنذهب حتماً، فأنا العُرْفُ حين أشاء، يا لابساتِ السواد، وأنا اليومَ، رغم الرجالِ، المدينة.
الفصل الثالث
- أبو سليم
- إسماعيل
- كسّاب
- سامح
- سميّة
- نينا
- لؤيّ
الأرض قفير نحل، ندخله جميعاً من الباب عينه، ليعيش
كلٌّ منّا في خليّة منفردة من خلاياه.
مثل إفريقي
نحن أصواتٌ صغيرةٌ تُحْدِثُ أصواتاً صغيرة
نحن أجنحةٌ صغيرةٌ تضرب الريح
جورج ثيميلس
شاعر يوناني
أبو سليم
منذ نيّفٍ وعشرين عاماً كانت لا تكاد تتّسعُ الطريقُ إلاّ لسيّارةٍ صاعدةٍ أو لسيّارةٍ نازلةٍ، سيّارةٍ واحدةٍ فقط، كما لا أزال أذكر الآن. وكانت الواحدةُ إذا الْتقتْ بأخرى تتّجه عكسَ وجهتها، تمهّلتْ وحاذتِ الترابَ حتى لا يكون بينهما فاصلٌ إلاّ كمثل النَفَسِ أو أشَفّ. وكم من مرّة أحسسْتُ بسيّارة أبي تحفّ بالسيّارة المعاكسة لوجهتنا بينما تعبر إحداهما الأخرى، فيجفّ لذلك حلقي وأختنق.
يومها كانت الطريقُ غيرَ هذي الطريق. والقاصدُ ضيعةَ الهلاليّة أو ضيعة عبْرا، أو حتى جزّين، كان يومها يسير على خطّ متعرّجٍ ويسرّح النظرَ في بساتين البرتقال والأكيدنيا والموز، تَنْسَرِحُ إلى الغرب من مَساره امْتداداً حتى لَتَبْلُغ أحياناً مَقْصِفَ الموج. وكان إذا صَعَّدَ عينيه إلى الشرق، صعّدهما في جلولِ الزيتون التي اكْتنفتْ في ناحيةٍ منها بناءً لكنيسةٍ قديمةٍ وفي ناحيةٍ أخرى مقبرةً بسورٍ وطيءٍ عتيق. وإنْ أنْسَ لا أنْسَ قريباً من المقبرةِ والكنيسةِ بناءَ المدرسةِ الصغيرةِ يأتيها الأولادُ والبناتُ من القرى المحاذية ومن قرى تبعد شيئاً.
كان يدلّني أبي على كل شيءٍ آنذاك، وكان كلُّ ذلك من زمان.
والذي حَلَّ بِثالوث بُستانِ الزيتونِ خلال الحرب حَلَّ شيءٌ مثله، من قبل، ببستان الزيتون، شيءٌ بدايتُه زمنُ قبلِ الحرب، زمنَ أوجعتِ الزحمةُ صيدا القديمةَ فَجَالتْ عيونُ سكّانها في المرتفعات وَاغْرورقتْ بحنينٍ للتراب وللشجرِ وللتّمرّغِ في نعمةِ الإنزواءِ والخلوةِ والسكينة. هكذا كان يردّد لنا أبي، نقلاً عن ركّابه حين كان يعمل سائق سرفيس على خطّ صيدا - عبرا في ذلك الزمن الرخيّ.
ثمّ شيئاً فشيئاً ضاع ذلك الزمن الرخيّ.
والأرضُ، كأنّما زَمَّتْ وَانْكمشتْ تحت وطأةِ الحديدِ والإسمنتِ، تَراجَعَ تُرابُها عن الطريق مساحةَ بيتٍ ثمّ بيتٍ ثمّ بيتٍ، وانْكفأتْ شجراتُها منبوذةً خلف ما عَلاَ وشَهُقَ من البنايات.
مسيحيّو القرى آنذاك كان حَدْسُهُم على حقّ. لقد انْفَلَشَتِ المدينةُ شرقاً وزحمتْهم في خلواتهم. وفاق حدسُهم الصدقَ فتحوّلتْ ممتلكاتُهم، إلاّ ما عصمتْه من البيع رغبةُ البعضِ منهم في الموتِ حيث الولادة، إلى أيدي الميسورين من مسلمي المدينة. هَجَّرَتِ البناياتُ شجراتِ الزيتون، والآن، بعد نيّف وعشرين سنة، لم يَعُدْ لأحدٍ متنفَّسٌ ههنا، حتى الأرض. وحتى الذين اكْتنفتْهم الأرض. فالمقبرةُ التي هدمتها الحربُ، حين هدمت معها المدرسةَ والكنيسةَ، لعلّها نُقِلَتْ توابيتُها وأُودِعَتْ غربةً أخرى من الأرض.
هذا النهارُ من أوّلِهِ غريبٌ غريب. صباحُهُ حَيْرَتي بأبناءِ الراحلةِ وكأنّهم من غير هذا الزمان، وقَرَابَةُ الظهرِ منه خَشّةُ البدنِ التي اجْتاحتْني وأنا أهبط معهم بالجثّة الطريّة الأطراف درجاتِ السلّم الطويل الطويل، والآن كـَمْدَةُ الصدرِ هذه تطبّق أضلاعي بعضاً ببعضٍ، فكأنَّ ذكرى المقبرة نبّهتْ فيَّ ذكرى أبي فأرجعتْني هذه إلى أيّام كان يدسّني إلى جانبه في السرفيس طلوعاً نزولاً على هذه الطريق، أو كأنّما الجثّةُ التي في النعش خلفي...
إسماعيل
وَحْدَهُ الترابُ يَنْسَلِكُ في ذَرّاتِهِ القانونُ الخفيُّ الذي يَسْلُكُ الموجوداتِ في وحدةٍ غير مرئيّة. وحده التراب. ولعلّ الإنسانيّةَ حَدَسَتْ، من أوّلِ القِدَم ِ، كُنْهَ ذلك السرِّ الذي هو البدايةُ والنهاية. صحيح أنّ آدمَ لم يَشْهَدْ خَلْقَ الله له من التراب، ولكنَّ بارئه لا ريب أوْحى إليه بذلك السرّ مثلما أوحى إليه بأسماء مخلوقاته. ثم كان بعد ذلك ذلك الطائرُ الذي قَتَلَ إلْفَهُ وحَفَرَ له في الأرض وعلّم قابيلَ أمثولةَ الدفْنِ في التراب.
وأنا الذي لمْ أشْهدْ خـَــلْقَ الإنسانِ الأوّل ولا شهدتُ خـَـلْقَ نفسي، عَبَرَتْ بي الرؤيا ذاتَ ليلةٍ إلى ما يشبه عالمَ الغيبِ، ومَثَّلَتْ لي في حلم ٍرائق ٍتدرّجَ الإنسانِ، بعد طورِ الترابِ، من حالةِ النطفةِ إلى حالةِ العلقةِ إلى حالةِ المضغةِ. ملامحُ ذلك الحلم تنبض لا تزال في عينيّ، مفتحتيْن كانتا أم مغمّضتيْن، وكأنّما الأمرُ كلّه عفوُ البداهةِ والفطرة.
فتحتُ عينيَّ في الحلم على رجل ٍربعةٍ، ممتليءٍ قليلاً، مَشيبُه ليس ذلك المشيبَ الناصعَ الذي يجلّل عادةً رؤوسَ المسنّين، بل هو ذلك البياضُ الهاديء المطمئِنُّ الذي تأخذه العينُ فلا تتجرّح به حدقتُها.
أخَذَتْهُ عينايَ وهو ينقل خطاه بين لوح ٍأسود قائم ٍفي صدرِ الغرفةِ وبين شلاّل ٍمن البخار ينساب عموديّاً إلى أقصى اليمين من اللوح. لم يكنْ كلُّ ظهرِهِ إليَّ، ولم يكن كذلك كلُّ وجهه. فكنتُ كأنني تبيّنتُ ملامحَ وجهه وما تبيّنتُ. كأنني كنتُ أعرفه ويعرفني، وإن هو لم يأخذْني بعينيْه كما أخذْتُه بعينيَّ. ومالَ يميناً فَانْسابَ به معطفُه الذي كهمسةِ الرماد، ومال يساراً وليس لخطاه وقعُ الخطى على الأرض. وحين اقتربَ ثانيةً من الشلاّل، لم يكن يبدو عليه أنه يَحْذَرُ من أن يَبُثَّ الرذاذُ معطفَه رطوبةً أو بللاً، وكأنْ ليس هناك أصلاً شيءٌ من رذاذ. ومَدَّتْ أصابعُ يمناه بشيءٍ وغرستْه في الشلاّل الذي اسْتحالَ بخارُه شيئاً فشيئاً إلى رَهْوٍ من الغبار، أو لعلّها كذلك صَوَّرَتْ لي عيناي. وما هي إلاّ أنِ انْسحبتْ يمناه إلى الوراء قليلاً فَانْسَحَبَ من الشلاّل ما كان قد انْغرسَ فيه من لحظات. حدّقْتُ مليّاً مليّاً فإذا ذلك الشيء يستوي في ناظري كملعقةٍ للشاي، إلاّ أنَّ ذراعَها أطولُ ضعفيْن. ثم فجأةً تحرّكتِ الملعقةُبيمناه ومالتْ صوبَ اللوح. جَسَّتْ فوق سواده نقطةً من سواد. ثم انْساب المعطفُ يساراً فانْسابتِ الملعقةُ وجَسَّتْ طراوةً ناتئةً وسطَ اللوح. ولمّا انْسابَ المعطفُ إلى أقصى اليسار، تَرَفَّقَتِ الملعقةُ وجسّتْ، مرةً بعد مرّةٍ بعد مرّةٍ، طراوةً قانيةً ما لبثتْ أن نبضَتْ ثم نبضَتْ ثم نبضتْ، مثل ذلك النبضِ الذي لا يزال يضرب في صَدْغَيَّ.
اليومَ، يا امرأةَ خالي، تُلَبِّين نداءَ التراب فتتّحد بفنائِكِ فيه البدايةُ والنهايةُ. ولَكَمْ ستضطربُ فرحاً بِاسْتقبالِ جثّتكِ بعد ساعةٍ من الآن جثّةُ شقيقتِكِ التي وَسَّدوها، عشيّةَ البارحةِ، رحمَ الأرض. وحده الترابُ سيجمعكما جنباً إلى جنب، حفرةً لصقَ حفرة، بعد فراقِ ثلاثين عاماً أو يزيد. وحدَه وحدَه التراب.
كسّاب
كأنّما جَمَّدَتْ لسعةُ البردِ الدمَ في أصابع يديَّ، فعيناي تراها ولا تحسّ بها كَفَّاي. وكأنّما سَرَتِ العدوى إلى أصابع قدميَّ فنامتْ فيهنَّ نبضةُ الحياة. وموكبُنا، موكبُ الموتِ، ها قد ثقلتْ عجلاتُه فَاتَّأَدَتْ فكأنَما تتقلّص سرعةُ دورانِها كلّما ألْحَحْنا في اسْتنفادِ المسافةِ التي تفصلنا عن موعدِ الصلاة. كلُّنا على عجلٍ، وإنْ يكنْ من دوننا اثْنان لا يستعجلان الموكبَ ولا يعْنيهما بردٌ أو صقيع: الجامعُ الذي سيظلّ قائماً في مكانه سواء وصلنا إليه حين ينبغي الوصولُ إليه أم تأخّرْنا عنه إلى ما بعد الصلاة، وجثّةُ أمّي الهاجعةُ في نعشها هجوعَ ميتٍ أبداً لن يستفيق. كلّنا على عجلٍ والموكبُ يتهادى مسترسلاً في تَهاديه.
يومَ دَفَنَتْ عائلةُ جنبلاط فقيدَها في هذه النزلة حيث تتفرّع من الطريق العامّ دربٌ تسير إلى ضيعة البراميّة، لم يكن هناك بردٌ ولا صقيع. ولم يكن هناك موكبُ سيّاراتٍ كموكبنا. يومها سار الجمعُ وراء النعشِ محمولاً على الأيدي وهي تتبارى في تأكيد الولاء، وكأنّ الجثةَ في النعش جثّةٌ لا تزال رَهْنَ الحياة. كنتُ في مستهلّ الشبابِ آنذاك، ولم أدْرِ يومها لأيّ سببٍ أَلَحَّ عليَّ أبي في مرافقته وفي السير بمحاذاته في موكب التشييع. كلُّ ما أحسسْتُ به هو أنّه كان يجهد في إبقائي بين عينيه وكأنّما يفرّ بهما من النعش إليَّ.
وهو ذا القبرُ لا يزال حيث شيّده الذي دفنوه فيه قبل أن يوافيه أَجَلُهُ. شيّده لا كما تُشَيَّدُ القبورُ الضيّقةُ المنقبضةُ على نفسها، بل أراده رحْباً كأرض الميعاد، يسعى إليه فرْدٌ من عائلته تِلْوَ فردٍ فلا يمضي زمنٌ إلاّ والذين حَضَنَتْهُمُ الحياةُ فوق التراب يحضنهم طيَّ الرخام ترابٌ آخر.
الخُشْخَيْشَة سمّوها، أو شيئاً من هذا القبيل، ولا أدري إذا كانوا اشْتَقُّوا الكلمةَ من خشَّةِ البدنِ التي تنتاب الدافن وهو يودِّع المدفونَ بين حشدٍ من لداتِهِ وأقربائه فيرى في حاضِرِ الراحل مستقبل ذاته. لستُ على يقينٍ من ذلك. ما أنا على يقينٍ منه هو أنَّ الخشخيشة قُجَّةُ العائلة.
سامح
الدَّقَّةُ تَتْرَى على الباب وعينايَ شِبْهُ مُغْمَضَتَيْنِ عن النهار شبهُ مُفَتَّحَتَيْنِ على الليل. الدَقَّةُ تَتْرى، رقيقةٌ كأصابعِ التي تسكنني، هنيّةٌ مسترسلة. أرهفُ السمعَ لحظةً وسمعي مُتْرَفٌ بالحدْسِ، فإذا ظنّي للحظةٍ كيقيني ويقيني للحظةٍ من خلجةِ الشكّ أدنى. أضيءُ رهافةً وأنصتُ أكثر. لا الدقّةُ من نعومتها دقّةٌ ولا عقدةُ الإصبع التي تُطْرَقُ به عارضةُ البابِ من سلالةِ تلكم النتوءات الفاجرة. ما يُحَوِّمُ حول أذنيَّ إذنْ إنّما هو هاجسٌ من هواجس النفس ونازعٌ من نوازعها التوّاقةِ إلى ظلٍّ من حضورِها هي، تلك التي ترجمني بدقّاتِ قدميْها ساعةَ الرحيل، وتلك التي تحدّثني لحظةَ حضورها بشفتيْن يلوحُ عليهما جسدُ امرأةٍ أخرى.
قدماي تسعيان بي من غرفةِ الليل إلى الغرفة التي تستقبل نافذتُها الفجرَ. الفجرُ يسعى بقدميَّ ناحيةَ الباب فأشقّه فإذا بجارتي توميء إليّ أن أعبُرَ ما بين منزلي ومنزلها، وتوميء مرةً أخرى إليَّ لأرفع سمّاعةَ الهاتف عن الكرسيّ المخمليّ القريب، فَتَسْري في عينيّ الرعشةُ التي يُسْريها عادةً في جسدي هاتفٌ من هواتفِ الغيب كلّما انْفتح بين عينيّ وبين سورةِ التوبةِ الفَجْرُ رَهْواً، مسلسَلاً بهمسات الصيف. ترتفع سمّاعةُ الهاتف بأصابعي فيطلّ عليّ من سوادِها في غَبَشِ الفجرِ جناحا طائرِ القاقِ يزعقُ، كما كان يزعق الليلَ من أوَّله إلى منتهاه، ليلاً يزعقُ في ليلٍ، بصوتٍ جفَّ من قبل أن تولدَ الحنجرةُ، فَجاءَ كَثَلْمَةٍ في جسد الريحِ، وأنا أقلّبُ أعوامي الغضّةَ تحت لحافٍ عابقٍ بالسهاد.
أسدل سمّاعةَ الهاتفِ على الصوتِ القادم ِإليَّ من صيدون بأنباء الغيب. ترتدُّ عينايَ إلى التي اشْتعلتْ عيناها بفضولٍ محموم ٍوأجيبُها بالصمتِ على ما استفسرتْني إيّاه بالإيماء.
على طَرَفِ الرملة البيضاء يجثمُ الشاطيء مَهدوداً بلكماتِ الموج، مُجَرَّحاً بِلَوْثَةٍ نَبَّاحةٍ من الخشب والعيدانِ وأغصانِ الأشجارِ وشِلَعٍ من جذوع ٍنَخِرَةٍ لفظتْها أفواهُ الموجِ ونثرتْها على الرملِ كما ينثر الداءُ البثورَ في جلد المريض.
بساطُ الصيفِ الأملسُ كان قدِ انْـزاحَ حتى حدودِ الغياب. وكأنّما الريحُ وانْقصافُ الموج تَحالَفا وطَيَّرا النومَ من عيونِ الكلاب، شَرَدَتْ هذه تَغْرُزُ حُنْقَها في الرمال وترسم في هرولتِها التواءاتٍ جديدةً لحدودِ الشاطىء.
نافذةُ سيّارتي لوحةٌ مربعّةٌ نافرةٌ رسومُها خارج الزجاج، وأوَّلُ أبعادِها الإحتمال، يُميلُها فتميل مع الريح، وينفخُ فيها فتنهضُ مع نَهْضَةِ الموج، ويعمّقُ فيها الألوانَ فتنحسرُ عنِ الأفق وتضيقُ حتى لَتَحْسَبُ العينُ أنْ ليس وراء الشاطىء إلاّ موجةٌ أو موجتان. الشمسُ هذا الصباح انْسَرَقَتْ من لوحتي وَحُجِّبَتْ حتى وجهها بالسحاب. أديرُ عينيَّ في دائرة ساعتي وأعدّ اثنتيْ عشرةَ ساعةً، ثم أعدّها ثانيةً معكوسةَ الأرقام، فأفرغها من نفسها، وتبقى الطريقُ فارغةً إلاّ من سيّارتي ومنْ دمى الريح تعبث بها الريحُ علوّاً وخَفْضاً وسَحْباً ودَوَراناً ونَتْراً.
تَتَأَجَّجُ في شفتيَّ شهوتي لرغوةِ القهوةِ ويمتليءُ بعبقِ بخارها أنفي ورأسي، وأنا ألْحَظُ الزمانَ يدورُ من جديدٍ بعجلاتِ أوّلِ فانٍ تكرُّ من أعلى الطريق لتتوقّف خلف سيّارتي، وقَدِ امْتَلأَتْ بها، داخل سيارتي، المرآةُ التي امتلأتْ بهاوبغيرها من قبل وأُفْرِغَتْ منها ومن غيرها مرّاتٍ ومرّات. أفْرُكُ يداً بيدٍ وأشدُّ بالشمسِ فتنهارُ على الأرض من بين الغيوم شعاعاتٌ نديّةٌ بالأنس. أرشفها وأرشفُ من قهوتي. يكتنز فمي بالرغوةِ تَطْفو كَشَفَةٍ لَيَّنَتْها لتوِّها شَفَتَان.
أديرُ محرّكَ سيّارتي وأنطلق إلى آخرِ الطريق فَألفُّ بالزمن يساراً وأستقيمُ، فتعود إليَّ لوحةُ البحر هذه المرّة عَبْرَ زجاجِ النافذةِ اليسرى، ويرتفعُ في زجاجِ النافذةِ عن يميني جدارٌ أصمُّ حدودُه حافّةُ الطريقِ التي تَعْلو طريقي. قَدَمي تَلْجُمُ سرعتي وعينايَ تمتشقان حجارةَ الحائطِ حجراً حجراً وترجمان بها الزمنَ ثانيةً إثْرَ ثانية. ينتهي آخرُ حجرٍ في الجدار وترقى سيّارتي الطريقَ في اتّجاه فندق بيروت انترناسيونال ثم تهوي مع الدرب هويّاً يسلّمها إلى مرتقىً آخر لا يعتم أن يبسطَ أمامها المسافةَ المطلّةَ على صخرتيْ الروشة الراسختين في قلب الموج، وأنا عينايَ تقتلعان الحجرَ إثر الحجرِ من جُدُرٍ لمتنتصبْ بعد لترجم بها عقربَ الثواني الذي سقط من ساعتي وَالْتَفَّ حول إحدى العجلاتِ فَدارَتْ به ودارَ بها وظلّتْ وظلَّ تدورُ ويَدورُ ويَدورُ.
أَتْرُكُ لأذانِ الظهرِ ساعةً يَعُدُّ ثوانيها المؤذّنُ وحده إذا شاء وأرْقَى السلّم إلى مكتبي فأفتح البابَ وأغلقه على كتبٍ وأوراقٍ تنتظرني في اكْتئاب. أسلمها إلى الفراغِ وأمضي. قدماي تعبرانِ الممرَّ وتقفان بذلك البابِ حيث تمتدّ عيناي إليها هي في آخر القاعة تقرأ في دفترٍ أو كتاب. تنهض عيناها إليَّ وتأتيني هي فتقف أمامي بصمتٍ كصمتِ طائريْ الحُبّ اللذيْن على غلاف دفترها. أهمس ببابِ القاعةِ أنّني لن أحاضِرَ اليوم فصوتي لن يملأَ القاعةَ اليوم، وهو الفراغُ الكبير. تهبط بنا قدماها وقدماي إلى حيث تنتظر سيّارتي في التراب.
على الرملة البيضاء تأخذ ترشف من قهوتي من جديد. تسرق الشطَّ بعينيها فتهجسُ عيناها بهاجسِ الموج وتقولان بنغمةِ شفتيْن يلوح عليهما جسدُ امرأةٍ أخرى: ذات مساءٍ ربّما، أو ربّما ذات هَدْأَةٍ من ذات ليل، سَأُسْكِنُكَ الجرحَ من جسدي وألتَفُّ عليكَ بأربعَ من أفاعي الشوق، تفحّ عليكَ بالشوق، تشدّكَ إلى نبض الجرح منّي، تفحّ وتلفح، وتلحّ في فحيحها وتلحّ حتى تُشَقِّقَ الفجرَ في عينيكَ فتشهق بالدم ِشهقةَ الجرحِ منّي.
أقول لها الآنَ، في المدينةِ الأخرى، يُصَلّى على جثمانِ أبي، وأشهق.
كسّاب
في شتاءٍ مثلِ هذا الشتاءِ، بلْ في الربيعِ الذي تَلا ذلك الشتاءَ، لستِّ سنواتٍ خَلَتْ، كانت الطريقُ التي نعبر الآن خطَّ تَمَاسٍّ بين المدينةِ وبين القوّاتِ التي أرسلتْها بيروتُ الشرقيّةُ لتتمترس في تلال القرى المطلّة على صيدا وتؤجّج في قلوب المسيحيّين الخوفَ من مذبحةٍ يهيّء لها في الخَفَاء مسلّحو المدينة. لم أفهمْ يومها كيف ارْتاعَ سكّانُ تلك القرى عن قُراهم وَلاذوا ذاتَ ليلةٍ بالليل فَتَسَرْبَلوا به وغَذّوا في رحيلهم صوبَ جزّين. هجّرتْهم إشاعةٌ حَبَكوها لهم بِراعِش ِالهمسات، ومَنْ بقي منهم معتصماً بمنزله أو بأرضه، فقد عصمه منزلُهُ وأرضُهُ من أشباح ٍسرعان ما بدّدها الصباح. راحتْ على الذي راح. مرّاتٍ قالها لي ابنُ الزهّار، وكان واحداً من زبائني، يأتي إليَّ مرةً كلّ أسبوع ليشتري حاجاتِ منزله وحاجاتِ أهله. وكان كثيراً كثيراً ما يشتريه.
راحتْ على الذي راح، فَخَطُّ التَّماسّ الذي دامَ أربعين يوماً، عَدَدَ أيّامِ الحِدادِ، عاد إلى سابق عهدِه طريقاً للصاعدِ والهابطِ، وعادت الحياةُ تدبّ حيث كان للموت دبيبٌ آخر. تبدّلتْ أشياءُ كثيرةٌ منذ ذلك الحين. حتى مظاهر الموت تبدّلتْ. ففي ذلك الزمان كان الميّت يُهْرَعُ بجثّته إلى الحفرة بين سقوطِ قذيفةٍ واحتمالِ سقوطِ أخرى، واليومَ هو ذا موكبنا، موكبُ الموتِ، يتهادى، مسترسلاً في تَهاديه، كأننا في نزهةٍ ذاهبون، أو كأننا موكبُ النملِ، وإنَّ النملَ لأسرَعُ منّا حتى في أوانِ زهده.
وهو ذا المستشفى النسائيُّ، حيث أجهضتْ مرّةً زوجتي، لا يزال إلى يمين الشارع، ولا يزال صاحبُه المسيحيّ مُهَجَّراً منذ ذلك الزمان. طوْعاً أو كرهاً تهجّر مثلما تَهَجَّرَ من رحم امرأتي الجنينُ الذي كان حتى لا يكون.
سامح
هذا زمنُ الفَصْلِ، فالليلُ أجهضَ وانْتهى مع الوجودِ حوارٌ للنجومِ وهي تَنْحَـلُّ نُجُوميَّةً ومصابيحَ رَصْد. وسَجَا الفجرُ نافياً ما عَداه، فلا اللحظةُ التي قبلَه لحظةٌ ولا التي من بعده كائنةٌ إلاّ كما يسكنُ الوعْدُ غبشةَ الاحتمال.
أجهضَ الليلُ وسَجَا الفجرُ على الطبيبِ يعالج خضّةَ الحياةِ طيَّ الحياةِ بخضّةٍ أمواجُها الوعدُ، وصدرُها هي، تحت عينيه، كصدر الموجِ معتركاً بغضبةِ ريحٍ من رياح شباط.
كان ذلك بالأمس ِمن سنين، وعَيْنُ الشهرِ تنفتحُ اليومَ، مثلَها بالأمس، على ولادةِ الموتِ، ففي تلك الحجرةِ من حجراتِ الولادة، من هذا المبنى عينه الذي إلى اليمين، تحت عينيه هو، وملء كفّيْهِ اللتين أُعِدَّتا لاسْتِقبالِ الحياةِ، انْوَلَدَ الموتُ في الفجرِ، لغةً للفصلِ،، كالفجرِ، سيّداً في اللغات.
سميّة
أعبرُ فَناءَ المبنى على عجلٍ، وخلفي تعدو الصغيرةُ نينا، لاهثةً مستفسرة. عيناها تسبقانها إلى التاكسي الذي ينتظرنا في الباحةِ الفارغةِ إلاّ من شَفَراتِ الصقيع. تخترق خلفي الصقيعَ ونمضي معاً نطوي المسافةَ العاريةَ بيننا وبين اللهاثِ الأبيض تزفرهُ السيّارةُ ما بين عجلتيْها الخلفيتين. نينا تقحم نفسها في الباب الشماليّ للسيّارة، بيْنا أدورُ أنا وأفتحُ بإبهام اليمنى وسبّابتها البابَ الذي إلى اليمين وأنحني قليلاً فأدسّ قدمي اليمنى أوّلاً ثم أتبعُها باليسرى وأستوي على المقعد الجلدي مسندةً ظهري إلى الوراء الوراء. أبدو لنفسي كأنني جاعصةٌ في جلستي، وما أنا فعلاً بالجاعصة،، لولا أنّه البردُ يشدُّ عظامَ سلسلتي الفقريّة شدّاً.
أقول للسائقأن يلحق بموكب الجنازة فيلتفّ عنقُه المنتفخُ طيَّ قميص الصوف وتلتقي عيناه عينيّ. ليس غريباً وجهُه عنّي، وأحسب أنّه تَذَكَّرني للتوّ. تفْتَرُّ شفتاه عن تمتماتٍ معزّيةٍ بـأمي فيذكّرني بغتةً صوتُه بتمتماتٍ مماثلةٍ كانت افْتَرَّتْ عنها شفتاه، لخمسِ سنواتٍ مَضَتْ، صبيحةَ جاء ليقلّني إلى منزل أهلي، حيث كان ينتظرني في جثّة أبي وجهٌ هَدَّهُ الرعبُ وتركَ فيه ملاحمَ من عذاب.
أقول له من جديدٍ أن يلحق بموكبِ الجنازةِ، بنبرةٍ أَزِنُها في حلقي وتَنْعَدِلُ بها شفتاي كما تنعدل كفّتا الميزانِ تحت عينيْ صائغِ الذهب العتيق. يفهم من نبرتي لونَها وتأتي إيماءةُ الحرباء من رأسه انْعدالاً لكفّةِ الوعد الذي سيتقاضاه بعد حين. السائقُ العتيقُ له أذُنٌ تَعْدِلُ عينَ الصائغِ العتيق. كلاهما أداتُه تسبر الجوهرَ كما تسبر إرادتي أنا الجوهرَ الذي يكمن في سُحْقِ الهوّةِ التي بين أفعال إخوتي ونواياهم. أنا، ثم أنا، ثم أنا الصائغةُ العتيقةُ في هذه المدينة التي يحيّر باطنُها ظاهرَها ويحيّر كلاهما الله، فغفرانكَ لما قلتُه يا الله.
أقول له مرّةً أخرى بالنبرة الموزونةِ عينها أن يتمهّل خلفَ آخرِ سيّارةٍ في الموكب. تجيبني إيماءةُ الحرباءِ من رأسه أنّه قد فهم مُرادي الذي لم أبُحْ به فيتمهّل حتى لا يحسبنا أحدٌ من أمام ٍولا من خلف ذيلاً لموكب الموت. ثم يرتعش في بدني ونفسي شيءٌ طالما ارْتعشَ به بدني ونفسي كلّما لاح لي كَيْدُ المدينةِ لي ولسواي من طائفة جنسي. تشدّ يدي اليمنى على اليسرى تخنق فيها الغيظَ الذي شرع يوسوس في أنحائها مِثْلَ شبكةٍ من النمل توسوس على مدى همسةٍ في العمق من ظاهر التراب. خمسَ سنين أخدمها أنا بيديّ هاتين، يمناهما واليسرى، وتلعنني شوارعُ المدينة إذا مَلَكَ عليَّ قلبي وعقلي هاجسُ الموت والدفن والقبر فلحقتُ بجثّتها أودّعها إلى حيث تُودِعها الأيدي الغريبةُ عنها حفرةَ الغربة الأخرى التي تختم بها غربة الحياة؟! وإخوتي الذين هم الرجال يستريحون من هَمِّ الطبخِ والغسْلِ والكيّ لها ومن هَمِّ تَحْميمها صيفَ شتاء، وهي المتهالِكةُ لا ترتفع يدُها بالليفة إلاّ ويرتفع ضغطُها معها ولا تنخفض بها إلاّ انخفض حتى أورثتْني هذا التذبذبَ الغريب في ضغطي أنا؟! إخوتي هؤلاء، الرجالُ الرجالُ، يحملون ظاهرَ هَمِّها اليومَ في عين المدينةِ، وأنا، باطنَ الهمِّ، تنبذني المدينةُ خلفَ الجدرانِ والستائرِ، وإنْ تحرّكتْ ألسنةُ الشوارعِ بذكري فلتقول إنّني أدّيتُ تجاه الراحلةِ واجبَ الابنةِ المقدّسِ تجاه أمّها. ثم كيف تُجيز المدينةُ للمسيحيّات أن يشاركْنَ في مواكب تشييع موتاهنّ فتقف الأختُ منهنّ إلى جانب الأخ ينظران بعينٍ واحدةٍ إلى الحفرةِ التي يُدَلـَّـى إليها نعشُ فقيدِهما وأُمْنَعُ أنا هذا الحقّ؟ ولماذا هُنَّ، وليستْ واحدةٌ منهنَّ بأفضل منّي، يَرَيْنَ التربةَ والقبرَ الذي ستنضمُّ أطرافُهُ على جثثهنّ حين يئينُ الأوانُ، وأنا مكتوبٌ عليَّ أن أنتقل من غربةٍ أعرفها إلى غربة لا أعرف أين يكون مستقرّها؟ إنْ كان لا يجوز في شِرْعَةِ المدينة أن أُساوى، وأنا المرأةُ، بإخوتي الرجال، فَلْأًسَاوَ بالمسيحيّاتِ من بناتِ جنسي على الأقلّ.
نينا
تَفْرُكُ كفَّها بكفّها وتحدّث نفسها من جديد عمّتي، والتَفَّةُ تلحق بالتَفَّةِ من فمها كأنّما ريقُها كلمات. محظوظةٌ أنا اليومَ لأنّها لا تجلس معي وجهاً لوجه كما فعلتْ أوّلَ مرةٍ أتيتُ من بيروت مع أبي لزيارتها وزيارة جدّتي فجلستْ على الكرسيّ بوجهي وراحتْ تحدّثني وتقول لي إنّها عمّتي الوحيدة وإنّني محظوظةٌ بها ثم تقصف الضحكةَ رشَّةً من ريقها بعد رشَّةٍ على خدَّيَّ وعينيَّ وفمي وأنفي، وأبي يغمزني من وراء كتفيْها غمزةً تَعْني أنَّ عليَّ أن أستمع وأستمع لها وأبتسم وأبتسم لما تقول. كلَّ مرةٍ نأتي لزيارتها وزيارة جدّتي كانت تفعل نفسَ الشيءِ فَيَفْلِتُ عليها الكلامُ وتفلتُ من بين شفتيْها التَفَّةُ بعد التفَّةِ ويكرّر أبي الغمزة بعد الغمزة. لماذا لا تفعل ذلك معه فهي أخته هو وليست أختي أنا؟ طبعاً لأنّني أنا الصغيرة، ولأنني الصغيرة حيثما نذهب، فعليَّ أنا أن أحتمل التَفَّةَ والرَشَّة من الكبار وأحتمل كذلك غمزات أبي.
مسكينٌ أبي اليومَ، فلم يَعُدْ له أمٌ ولا أب. سأحنُّ عليه في المساء وأضمّهُ وأقبّله حتى لا يحزن. والحمد لله على كلّ حال، فوضعي أنا أحسنُ من وضعه بكثير. صحيحٌ أنني فقدتُ أمي ولكنّها لم تمتْ بعد، أمّا أبي فأمّه ماتتْ عن جَدّ. وأمُّه تكون جدّتي. إذنْ ماتتْ أيضاً جدّتي، وعلى أبي أن يضمّني ويقبّلني في المساء حتى لا أحزن.
كسّاب
مرّاتٍ ستّاً أو مرّاتٍ سبعاً سلكتُ وأسلكُ الطريقَ هذه عينها في يومنا هذا عينه كأنما النملةُ أنا وكأنّما الدربُ هذه دربُها ما أن تلتقط القشّةَ أو الحبّةَ أو الكسرة من طرفِ السهلِ أو قمةِ الصخرِ حتى ترتدّ إليها وتدرج عليها عائدةً إلى ثقبها المثقوب في الأرض فتودِعَها هنالك في زاوية من زوايا قجّةِ النمل.
مرّاتٍ ستّاً او مرّاتٍ سبعاً، فأنا، باكراً بعد منتصف الليل، حينما النومُ لا يزال يغبّش ذاكرتي والهاتفُ آخذٌ في الرنين، صبرتُ حتى بلغتْ رنّاتُه سبعاً، فتشهّدْتُ وتعوّذتُ ورفعتُ السمّاعةَ لأستقبل يومي على صوتِ سميّة المتمارض، مثلما يتمارض كلّما حَلَّتْ عليها وساوسُ الولعِ بِلَفْتِ انتباهنا إلى صحّتها المتهالكة، والتي لم تزل تتهالك منذ سنواتٍ خمسٍ، وبالضبط منذ ذلك الصباح الذي انتقلتْ فيه إلى منزلها أمُّها المسكينةُ المحتاجةُ إلى رعايتها هي، وهي في أرذل العمر الذي بلغتْه. وهَتَفَ الهاتفُ بالموت، وكيف لا يهتف بالموت وصوتُ سميّة فيه يتهالك عبر الأسلاك، سلكاً سلكاً، نازلاً من تلّة منزلها إلى مركز الهاتف قرب ساحة النجمة، منعطِفاً يمنةً في توجّهه السافرِ نحو منزلي؟
باكراً بعد منتصف الليل، أدرتُ محرّكَ سيّارتي وانتظرتُ في ذمّةِ البرد دقائقَ سبعاً، أقلعتُ بعدها صعوداً صعوداً نحو تلّة منزلها، وكان الفجرُ بعيداً لمّا يتشقّقْ بعد، فكنتُ كأنني راحلٌ إلى الفجر، أبحثُ عنه حيث ينتظرني الموتُ وقد احْتَلَّ جسمَ أمّي واختبأ فيه كأنّما قجّةُ الموتِ جسمُ أمّي وكأنّما فمُها الفاغرُ فتحةُ القجّة فيه.
ثم أقلعتُ بسيّارتي نزولاً بعد أن ألقيتُ على الجثّة نظرةً أكّدتْ لي زمانَ الرحيل، وبعد أن رَبَّتُّ على كتف سميّة مرّاتٍ سبعاً حتى لا تتهالك في حضرة الموتِ فتتساقط قرب سرير الجثّةِ عضواً عضواً من شدّة حزنها على الحريّة التي ستنعم بها بعد دفن الراحلة.
تَـوّاً رجعتُ إلى منزلي وحدّثتُ بالهاتف ابْنَ عمّتي، ثم انْطلقتُ إلى منزل طارق فطرقتُ بابه بالخبر وانطلقنا إلى منزلِ وسيم مُتَوَسِّمين فيه الخيرَ، فركبه العنادُ القديمُ وأبى مصالحةَ سميّة والصعودَ إلى منزلها لوداع الراحلة، فَاسْتَلَبْنا منه وَعْداً بأنْ ينضمَّ إلى موكب الجنازة عند الظهر أو أن يوافينا قبل ذلك إلى منزلي لتقبّلِ تعازي قبل الدفن، ثم وافَيْنا ثلاثتُنا ابنَ عمّتي إلى حيث أراد أن نوافيه وانْطلقتْ بنا سيّارتي إلى منزل صاحب سيّارة الدفن، فاتّفقنا معه على إعداد الترتيبات للجنازة، وافْترقْنا على أن يهتمَّ ابنُ عمّتي بإشاعةِ خبرِ الموتِ بين أفراد عائلته وشِقِّها من الأقربين، وعلى أن أشيع أنا النبأَ في بيوت شِقّنا من العائلة والأقربين والمقرّبين.واخْتلجتْ شفتا طارق حينما طلبنا منه الإسهامَ في هذه المهمّة وتَبَلْبَلَتْ شفتاه اللتان ما عتمتا أن باحتا برغبته في الذهاب إلى المقبرة للتأكد من فتح قبر أبيه. ثم تذكّرتُ ذلك الغريبَ المنكتمةَ أخبارُهُ عنّا في بيروت، فنبشْتُ رقمَ هاتف جيرانه وأودعتُهُ النبأَ تماماً كما أودعتُهُ نبأَ وفاة أبيه منذ سنوات خمس، وأنا واثقٌ أنّه حينما دقّتِ الجارةُ بابَ بيته انتزعتْه الدقّاتُ من سريره الذي يكتمه البعدُ عن أنظارنا، والذي يمارس فيه الممارسةَ التي تجعل منه قجّةَ اللذة.
دَرْبُ النملةِ أخذني صعوداً هذه المَرَّة، فتجاوزتُ بسيّارتي تَلَّةَ سميّة ومنزلَ سميّة العالقَ فوق التلّةِ مسافة سبعِ طبقاتٍ تبعده عن الأرض وسبعٍ تُقرّبه من السماء.
مَلَكُ الموتِ لا ريب وَجَدَ الرحلةَ إلى أمّي هيّنةً فلم يكنْ له أن يلفّ ويدور ليتحرّى مكانَها، فهي كانت معلّقةً بين السماء والأرض منذ سنوات خمس بانتظاره، تكرّر أيّامَها المسبحةُ المنزلقةُ حبَّاتُها أبداً بين أصابعها اللاهجةِ لا ريب بالصلاةِ أبداً، وأبداً أبداً لا ريب لاهجةٍ بالدعاء. تجاوزتُ بسيّارتي التلّةَ والمنزلَ والجثّةَ العالقةَ بين السماء والأرض مُفْرَغَةً من الروح التي امْتَثَلَتْ لأمر بارئها فَغَذَّتْ إليه الرحيلَ صعداً صعداً، بينما يهتف فمُ الجثّةِ الفاغرُ بالأرض أن تستنزلَ الجثّةَ وتنضمَّ عليها ضمّةَ الوعدِ بالسلامِ. تجاوزتُ التلّةَ والمنزلَ والجثّةَ وانْحَرَفْتُ يسرةً، فما أن انتصبَ أمام عينيَّ بابُ أقارب أمّي حتى أسرعْتُ أطرقه، فَانْفَرَجَ عن عينيْ امرأةٍ يتقاتل فيهما البردُ والنعاسُ، فأقحمتُ في فرجةِ البابِ نفسي وهبطتُ على أوّل كنبةٍ صادفْتُها في الصالون العتيق. ولساني ينفرج بالنبأ، حرفاً من هنا وحرفاً من هناك، إذِ انْهالتْ عليَّ العيونُ، يتقاتل فيها البردُ والنعاسُ، من كل أركان البيت، فلم أفْهَمْ سرَّ العيونِ المنهالةِ عليَّ إلاّ حينما أيقظني من حيرتي صوتُ إحداهنّ بنبأ الموتِ الذي أخذ لأمّي بالأمس أختاً دفنوها مع هبطةِ الليلِ على عجلٍ في المقبرةِ خارج المدينةِ، مع هبطةِ الليل على عجلٍ، تحت انْهمارِ المطرِ، ولم يُتِحْ لهم المطرُ ولا العاصفةُ أن يشيعوا بين الأهل والأقاربِ النبأَ فناموا عليه حتى أيقظتُهُ أنا في عيونهم التي يتقاتل فيها البردُ والنعاسُ بنبأ الموتِ الآخر.
صعدتُ من الغرب إليهم بالموت فَرَشَقوني بالموت من الشرق، ولو أنني كنتُ مسيحيّاً، كزبائني من آل الزهّار وآل رْحَيّم، لقلتُ إن اليوم يوم الجمعة الحزينة.
ثم كان النزولُ إلى المقبرة لزاماً عليَّ لألتقي طارقاً فأتيقّن من فتح القبر قبل صلاة الظهر حتى لا تنتظرَ الجثّةُ حتى العصر وننتظرَ الوقتَ كله معها نصافحُ الأيدي المعزّيةَ ونكنزُ الصقيعَ في أكفّنا، والصقيعُ يشدّ على الجثّة مغمِّقاً لونَ البَشَرَةِ فيها ليحيلها إلى تلك الزرقة المختنِقَةِ التي لا يحبّ أن يستبقيها في ذاكرته أحدٌ أبداً. الميّتُ في البردِ قد يَزْرَقُّ إذا طال احْتباسُهُ عن القبر، فكيف بجثّة أمّي في هذا الطقس وقد اسْتَدَقَّ عودُها على الهرم والتَحَمَ الجلدُ بالعظام فهي أشبه شيءٍ بالوهم؟ كان لزاماً عليَّ أن أتيقَّن من فَتْحِ القبر قبل صلاةِ الظهر لأنَّ إكْرامَ الميّت في سرعةِ دَفْنِه.
ثم الْتقيْتُ طارقاً المُخَضَّبَ بالغضبِ وشيءٍ لا أحبّ ذكرَه، وعرفتُ منه ما عرفتُ فَالْتَقَيْنا ابْنَ عمّتي على عجلٍ وَاسْتَسْلَمْنا إلى نيّةِ الدفن في المقبرة التي خارج المدينة.
ولمّا حان موعدُ الرحيلِ من منزلي إلى حيث الجثّةُ تنتظر أن نهيّئها للغسل والالتفاف بالكفن، أخذتُ الطريق صعوداً، كما تفعل النملةُ، محمَّلاً بكل الذين زحموا أنفسَهم في سيّارتي. وعلى باب منزلِ سميّة اسْتقبلتْنا سميّةُ بذراعيها تلطمان خدّيْها المتوهّجيْن، فَتَسْحَبُ مع كلِّ لطمةٍ في الهواء مِبْرَداً من صقيع. وأخذني العجبُ أن تكون لسميّة هذه الطاقةُ العجيبةُ الغريبةُ على اللطم والندب في ساعة الحزن، وهي التي لم تزل تتهالك، صوتاً وجسماً، منذ تكفّلتْ بخدمةِ أمّها لسنوات مَضَتْ خَمْس. قلتُ لنفسي سينتهي تهالُكُها بعد دفن الراحلة، أو لعلّه لا ينتهي، فسميّةُ قِمَّةُ الإبداعِ في تَمَثُّلِ حالاتِ التهالُكِ والتَّهَلُّكِ والإنْهِلاكِ. وما كان أبْدَعَها لقطةً حينما تَكَسَّرَ جسمُها تكسّراً فوق الجثّة ونحن ننقلها من السرير إلى المغسل الخشبيّ في الغرفة الأخرى، وحين تثنّى كتفاها إلى الأمام وهي تنخفض فوق الجثّة حتى كادتا تنهاران، لولا أن تلفّتتْ عيناها تستنجدان بأعيننا لننتشلها قبل أن تنهارَ جثّةً فوق جثّة أمّها.
بعدما غَسَّلَتْها التي غَسَّلَتْها ولفَّها الكفنُ الأخضرُ، اسْتُدْعِينا لوقفةِ الوداع فودّعناها وحملناها طَرِيَّةَ الأطراف لا تزال كطفلٍ صغير، ثم نزلنا بها السلّم الطويل فأودعناها النعشَ لينطلقَ بنا من ثمَّ موكبُ النمل نزولاً نزولاً.
وها نحن ندرج الآن كالنملِ، تماماً مثل موكب النمل، وننعطف يميناً بمستديرةِ كنيسة القناية التي نعبرها الآن نزولاً نحو مستديرة مستشفى إيليّا، حيث سننعطف يميناً ونأخذ الأوتوستراد الشرقيلنتمّم ما تبقّى لنا من رحلتنا نحو الجامع الأخضر حيث الصلاةُ تُقام على أمّي بعد الأذان.
مع تَهَالُكِ الليلِ سأصعد الطريقَ عينها إلى تلّة بيتها عينه وأطرق البابَ طرقاً ناعماً ناعماً، ثم أدخل بالفمِ المُطْبَقِ الذي سيظلّ مطبَقاً حتى تحينَ اللحظةُ لِبَذْلِ الكلمةِ التي هي دعوةٌ لها لتترك منزلها وتنضمَّ إلينا بقيّةَ عمرها في منزلي ومنزل زوجتي، على أن نتدارس بعد ذلك أمرَ منزلها. ثم يأتي بعد ذلك دَوْرُ لُؤَيّ.
سامح
السماءُ تَعْبُقُ بِنُذُرِ المطرِ تزجّيها الريحُ، والأمُّ المسجّاةُ في سريرها تنتظر الموتَ ينهضُ بها انْتظارُها فجأةً، فتحصّل نفسَها في السرير، وبعينيها اللتين غار فيهما سرُّها تطلُّ من النافذة على خشبات النعش يَنْجُرُها في الساحة ابْنُها البِكْرُ، فتطمئن لمرآه منصبّاً على إنجاز نعشها ولصوتِ المسحاج في غدوّه ورواحه، يرتّل في أذنيْها وَعْدَهُ لها بالخلاص من ملل انتظارها للموتِ ووعداً وعدتْه نفسَها أن يكون في جهلهم سِرَّ الرحلةِ التي ابْتَدَعَتْها لهم بدعةُ انتقامها منهم جميعاً: زوجِها وأولادِها الذين هدروا عمرَها وزيّنوا لها فناءَه بكلماتٍ فارغةٍ فاغرةٍ ملأوها من نضارةِ أيّامها قطرةً قطرةً حتى جفَّ عودُ ذلك العمر واستحال إلى حفنة من عظام.
السماءُ العابقةُ بنذرِ الوعدِ تزجّيها الريحُ تَفي بالوعد وتَنْهَلُّ على الأرض كما لم تنهلّ من قبل فيفيض النهرُ وتجمحُ أمواجُه بالجسر الذي ستعبره العربةُ التي يجرّها البغلان. يحمل نبأَ الجسر إليهم جارُهم فيجمح بالزوج إصرارُه على الإيفاء بالوعد الذي قطعه لزوجته أنْ يرحل بجثّتها لِتُدْفَنَ في تربة أهلها هنالك في تلك البلدة البعيدة البعيدة، يجمح به إصرارُه والسرُّ الذي لم تَبُحْ به عيناه فتنطلق بالراحلةِ العربةُ التي يجرّها البغلان وينطلق معها المنطلِقون في اتجاه النهر الذي جمحتْ أمواجُه بالجسر فلم يَعُدْ معبَراً للعابرين.
جفوني تنفض النهرَ نفضةً فتغور أمواجُه في صفحات الروايةِ وينسرح أمام عينيَّ الموكبُ الذي لن يغيب حتى تغيب في رحم ِالقبر المسجّاةُ في نعشها، فإذا نحن وإيّاها ننعطف يميناً ويسيل بنا الأوتستراد الشرقي جامحاً بنا وبها بعيداً عن مَرْمى النوافذ والشرفات المعلّقة على جانبيْه بين الأرض والسماء. شجراتُ البستانِ الذي عن يميننا تلتمع حول جذوعها دوائرُ المطرِ الصامت.
المرأةُ رَشْحُ القَطْرْ
يَنْسَـلُّ في بشرةِ التربةِ المشقَّقَةِ من حرائق الإنتظارْ
يَنْحَـلُّ لدونةً في مَسَامِّها الفاغرةْ
يُلْغي عروقَ التشنّج فيها
ويلغي أصالتَهُ واغْترابَه
لا الماءُ يرجعُ ماءً
ولا الترابُ تراباً:
صولةُ العنصرِ في العنصرِ
هَيَمانُ الضدِّ بالضدّ
انْسيابٌ فانْسلابٌ فاضطرابٌ
يضرم الروحَ بقاماتٍ
تكاد تبوح بالوردِ
ولمّا الوردُ يهتزّ بعيدِهْ.
المرأةُ رَشْحُ الوعْدْ.
لؤيّ
تحت الشجراتِ التي ترتفع إلى غربيّ قبر جنبلاط، أقبعُ في سيّارتي وأمدُّ عينيَّ على طول الشارع الممتدّ أمامي نزولاً، أراقبُ الموكبَ يمرّ ويختفي، سيّارةً سيّارةً، ويدي تتحسّسُ المسدّسَ الخفيَّ تحت مقعدي حيث هو دائماً أينما كنتُ وأينما ذهبتُ. تتحسّسُ قبضتَه والإستدارةَ التي حول الزناد أصابعي المضطربةُ اضطراباً غريباً لم يكن لها به عهدٌ إلاّ يومَ دَفَعَ إليَّ صديقي من الميليشيا بمسدّسه أول مرة من سنين ليدرّبني على استعماله على طريق كفر فالوس التي كانت مثل خطِّ التَّماسِّ بيننا وبين جماعة إسرائيل. كان ذلك ذلك اليوم ولم ترتجفْ منذ ذلك الحين أصابعي حتى أيقظني النبأُ مع الصباح أنْ ماتتْ جدّتي فضربتُ جبهتي بيدي وشعرتُ بأصابعي تتلعثم وبلساني يضطرب، كما الآن، فَخُضْتُ بجسمي غبشةَ الغرفةِ وعيناي لا تزالان في تَوَهانِ النوم وتلمّسْتُ كرسيّاً فقرّبْتُها من الخزانة وارتقيْتُ عليها حتى انبطحتُ بنصفي الأعلى على سطح الخزانة وانْزلقتْ أصابعي إلى المغلّف المعلّق بمسمارٍ ناتىءٍ من الحائط في الفراغ اليسير الذي كنتُ قد جعلْتُه من سنين مَخْبَأَ السرّ. ثم ما لبثتْ أن اضطربتْ أصابعي داخلَ المغلّف السميك واسْتَلَّتْ منه الورقةَ التي هي السرُّ فشددْتُ عينيَّ في الغبشةِ إلى حروفها وكلماتها أقرأها وأعيد قراءتها لأتبيّن فيها اسْمي واسْمَ جدّي وأسماء الشهود وأتبيّن الختمَ وتوقيعَ صاحب الختم وتاريخَ الختمِ، نعم تاريخَ الختمِ الذي ثَبَّتْناهُ يوم ثبّتْناه حتى يكونَ التاريخُ شاهداً لي وليس عليَّ وحتى يكون السرُّ المختبيءُ بين الحائط والخزانة سلاحاً لي في ظلّ القانون إذا ما اضطرب الورثةُ إلى المحكمة وجرّوني إليها لاسْتعادةِ ما تقول الورقةُ أنَّ لي حقَّ استعماله.
ولمّا اطمأنَّ قلبي إلى أنّ الورقة لا تزال كما كانت يوم وضعناها، لم يُنْقِصْ منها الإختفاءُ حرفاً ولم يَمْحُ منها الإنتظارُ الوعدَ الذي نام في عُهْدَةِ السرّ بين الحائِطِ والخزانةِ، تسلّلتْ أصابعي بالمغلّف المكتومةِ فيه الورقةُ إلى الفراغِ اليسيرِ بين الحائطِ والخزانةِ، واضطربتْ هنالك خلسةً من الزمن ارتفعتْ بعدها إلى سطح الخزانةِ، فتوكّأتُ على جمع كفّي وأصابعي، وأنا تتحسّس قدماي موطيءَ الدعسةِ في منتصف الكرسي، وقد انْزَحَلَ نصفي الأعلى عن سطح الخزانةِ شيئاً فشيئاً حتى انْتصبْتُ آخر الأمر واقفاً بين سقف الغرفةِ وأرضِها.
أصابعي لا تزال ترتجّ وعيناي ضاع فيهما الشارعُ الذي ضاع فيه الموكبُ، فَلأَلْحَقْ بهم على البعد نزولاً إلى الجامع الأخضر حيث يُصَلَّى عليها بعد الأذان. متمهّلاً سأقود سيّارتي الآن لأظلَّ بعيداً عن آخر سيّارةٍ في الموكب مسافةَ موكبٍ آخر حتى لا تتفرّسَ بي العيونُ ولا تشكَّ بوجودي الظنون. ولعلّهم الآن بلغوا مستديرة كنيسة القناية، فَلْيَسْتَديروا معها وَلْيُفْعِموا الطريقَ نزولاً، فأنا بسيّارتي سأنْسَـلُّ اللحظةَ من تحت الشجراتِ وآخذُ الطريق الرئيسيّة خلفهم خلفهم حتى يصيروا إلى الجامع الأخضر حيث الصلاة عليها تُقام بعد الأذان.
عينايَ تضطربان على رأسٍ في السيّارة التي أمامي يذكّرني برأسِ عمّتي سميّة فتضطرب أصابعي تحت مقعدي تتحسّس المقبضَ والإستدارةَ التي حول الزناد.
الفصل الرابع
- نينا
- سامح
- وسيم
- إسماعيل
- سميّة
- طارق
- كسّاب
الأرض تعجّ بالخوف، ولطالما اتَّخَذَ عجيجُها أشكالاً
وصوراً شتّى.
إيسخيلوس
نينا
تَفْرُكُ كفَّها بكفّها وتشدّ بظهرها إلى المقعد كأنّها تريد الرجوعَ بالمقعد إلى الوراء. وجهُها مُعَصَّبٌ من الحزن على أمها التي هي جدّتي، وفَمُها يتحرّك في داخله شيءٌ فيتحرّك خدُّها الذي إلى جهتي فيشتدُّ جلدُه ويرخى ثم يشتدّ ويرخى.
وجهُ جدّتي لم يكن معصّباً حينما كنّا نأتي لزيارتها وزيارة جدّي من بيروت أنا وأبي، يومَ الأحد في الشتاء وأيّاماً كثيرة في الصيف. وجهُها دائماً كان مثل الشطّ في الصيف، تكرج عليه الضحكةُ الصغيرةُ كَرْجَ الطابة على بلاط الغرفة. وضحكتُها الصغيرة كانت كركرةً مثل كركرة النارجيلة التي يدخّنها الناسُ في مقهى الزجاج الذي أخذني إليه مرّةً أبي في صيدا القديمة. وأسنانُها كانت صفّاً كاملاً أراها حينما تنظر إليَّ وأنا أكلّمها فتبتسم لي ابتسامة كبيرة مثل الدائرةِ بلا صوت.
وأسنانُها اليومَ كانت صفّاً واحداً وكان فمُها لا يطلع منه الصوتُ، وكان مثل الدائرة بلا ابتسامة، مع أنّه ظلَّ مفتوحاً منذ وصلنا من بيروت في الصباح إلى أن غَسَّلوها ولفّوها بالثوب وحملوها ونزلوا بها على السلّم، وليس بالأسنسير، لأنّها لم تكن واقفةً مثلهم، والأسنسير ينزل فيه الواقفون لأنّه ضيّقٌ على مَنْ ينام.
وجهُها معصّباً لا يزال وطرفُ شفتيْها من جهتي يُفْتَحُ ويُغْلَقُ، فلعلّها طلع ضغطُها اليوم من الحزن على أمّها التي هي جدّتي. ولعلّه من البرد يطلع ضغطُها كما كانت تقول لأبي مرّة، فاليومَ البرد شديد. البرد شديد شديد. ولا أعرف ماذا نحن نفعل في هذا البرد، في هذه السيّارة، مع هذا الرجل الغريب، ينزل بنا هذه النزلةَ على مهله ويلتفت إلى جهتنا كالخائف بين الحين والحين، وهي تفرك كفّها بكفّها وتشدّ بظهرها إلى المقعد كأنّها تريد الرجوعَ بالمقعد إلى الوراء.
سامح
منفرِداً على ضفّة الطريقِ، تجاه الكنيسة، كان بيتُها، يغرِّدُ على شرفته حسّونُها من داخل القفصِ الهابطِ من زرقةِ السقفِ كما يهبط الوحيُ من تلّة الزرقةِ النائية. وشعرُها المصبوغُ بالشمس كان تغريدةَ الصباح لعينيّ كلّما حاذتْ حائطَ شرفتها قدماي، وأنا أنقل الخطى رعشاتٍ صوبَ المدرسةِ التي تجمعنا جدرانُها كل صباح لأعلّمها فيها غوايةَ الحرفِ وتعلّمني فيها غوايةَ الجسدِ، الجسدِ الذي بين مَلْمَـحَـيْ نهديْه انْصَلَبَ الصليبُ على الفرحِ، ناسياً نكهةَ الدم ِوامتدادَ الجرحِ الذي اسْتَفاقَ بجسدي.
وسيم
على الطريقِ الذاهب من كنيسةِ القناية إلى حارة صيدا وجدتُ يومها البيتَ الذي استأجرتُه لأنتقل إليه مع زوجتي ليلة زفافنا. ولم أكن أنا الذي وجدتُه ولم تكن كذلك زوجتي، بل كانت المسيحيّةُ، صديقتُها في مصنع الألبسة، التي قد هَدَتْها إليه وأخذتْها لتراه وتتفحّص حجراتِه ومنجورَه وأدواته الصحيّة قبل أن تخبراني به وتذهبا بي إليه. المسيحيّةُ صديقةُ زوجتي، وليس أنتِ يا سميّة، التي أسعفتْـنا وقت ضيقنا، المسيحيّةُ التي ليست من ديننا ولا من ملّتنا التي وقفتْ بجانبنا حينما أعوزتْنا الحاجةُ إلى أن نتلفّتَ حوالينا طلباً للمساعدة والنجدة، وهي التي كَرَّسَتْ وقتَها وشَغَّلَتْ كلَّ مَنْ تعرفه على ذلك الطريقِ المرشوشِ بالبيوت المسيحيّة شرقي الكنيسة والمؤدّي إلى حارة صيدا حتى أمَّنَتْ لنا ذلك البيت. هي هي هي، وليس أنتِ يا سميّة، يا مَنْ لَطَمْتِ البابَ في وجهي ووجه زوجتي وأسلمتِنا إلى الليل والطريق نتخبّط في الحلكة والوحل قبل زفافنا بشهر واحد، ذلك الشهر الذي قضيناه في شراء أثاثنا وحاجياتنا، كالبرّاد والغسّالة وفرن الغاز والطبليّة الخشبيّة التي أجلس عليها حينما أتحمّم والتي جُنَّ جنونُ زوجتي لمّا رأتْها فأصرّتْ على إخفائها عن عيون المسيحيّة ومعارفها من المسيحيّاتِ الساكناتِ على طول ذلك الشارع حتى لا يَقُلْنَ إنّني وُلدتُ وتربّيتُ في البساتين حيث طبليّة الحمّام من ركائز الأثاث. ولأنني لا أعرف أن أتحمّم إلاّ على الطبليّة ولا يطيب لجسمي طعمُ الماء إلاّ وهو يكرج منّي على الطبليّة، مُحْدِثاً عليها الصوتَ الذي ألفتُه من طفولتي، فلم أهتمّ لِنَهْرِها ولا لرجائها إيّاي ووضعتُ الطبليّةَ فوق التلفزيون ليلةَ زفافنا حتى تفهم أنني رَجُلُ البيتِ وليس رِجْلَ الكرسيّ في البيت. ولم أكتفِ بذلك بل اتَّبَعْتُ المثلَ الذي ينصح الرجلَ أن يذبح الهرّةَ أمام زوجته ليلة زفافهما حتى تفهم الدرسَ من أوّل الطريق فعمدْتُ إلى الإصرار على بقاء الطبليّة فوق التلفزيون حتى ينتهي بيننا تلك الليلة ذلك الذي يجب أن ينتهي لتكون بعده امرأةً حقيقيّةً وأكون أنا زوجاً لها عن حقّ.
ذلك البيتُ لم يَدُمْ لنا طويلاً، يا سميّة، مع أنّ البيوتَ المسيحيّةَ رحّبتْ بنا وفتحتْ أبوابَها في وجهنا، فزوجتي لعب بعبّها الفأرُ وأخذتْ تحصي عليَّ نظراتي من الشبابيك وتغلقها دوني، تارةً بحجّةِ الهواءِ السّامَّ من البرد والقادم من ناحيةِ جارتنا التي على اليمين، وتارّةً بحجّة البرغشِ المحمّل بالغبار والهاربِ نحونا من ناحيةِ جارتنا التي إلى اليسار. ويظهر أنّ درسَ الطبليّة لم ينفع طويلاً فانْفجر الوضعُ بيننا وبدأنا نفتّش في السرّ عن منزلٍ في ذلك الجزءِ من منطقة قيّاعة حيث تكثر البيوتُ الإسلاميّةُ وتقلّ بيوتُ المسيحيّات، فالمسلمون دائماً معرّضون للوقوع في حبّ المسيحيّات، كانت تقول زوجتي، وذلك لأمرٍ تعرفه زوجتي وحدها.
ولماذا كلُّ ذلك التشرّد كان؟
لأنّكِ، يا سميّة، رفضتِ اسْتقبالَنا أنا وزوجتي لفترةِ سنةٍ واحدةٍ نقضيها معكِ ريثما نتدبّر لنا منزلاً ونؤسسه على مهلٍ، بعدما اضطرني أخوكِ عُدَيّ، أبو لؤيّ، إلى الهروب من المطعم بأحاييله وأساليبه التي تغافلَ عنها بخبثه المعهودِ أبوه الذي هو أيضاً أبوكِ ثم أبوكِ ثم أبوكِ.
بعدما ينتهي موكبُ السلاحف من رحلته، سأعود لأبْغَتَكِ بحضوري، يا سميّة، فأجلس في صالونكِ الجلسةَ التي يجلسها كاتبُ الرواياتِ والشعرِ، ونتفاً نتفاً، أسترجع خلف ابتساماتي لكِ الزمنَ الذي أظنّكِ نسيتِه فأتذكّره وحدي وأطمئنّ إلى تذكّري منه الشيءَ الذي كان.
سامح
العربةُ التي يجرّها البغلانِ هي الموكبُ الذي هي له أوّلٌ وله آخرٌ، والنذرُ الرمادية السابحُ بعضُها فوق بعضٍ والآخذُ بعضُها بأطرافِ بعضٍ موكبٌ آخرُ لا أوّلَ له ولا آخر، حافّتاه الغيبُ الذي من صمته ها هو ينبثق الموكبُ الثالثُ مجنّحاً، فثلاثةٌ مرفرفاتٌ من الطير، فأربعةٌ، فسبعةٌ، يهتدين برائحةِ الوعدِ، حَدْسُهُنَّ الفناءُ والشوقُ والمسافاتُ الأفقيّةُ العالقةُ بين موكبِ النذرِ التي فوقهنَّ والعربةِ التي تحتهنَّ على الأرضِ تحمل الجثّةَ المؤجَّلَ دفنُها والمشيّعين لها من الزوجِ والولدِ في موكبٍ مفجّع واحد.
مجنّحاً، لا كموكبنا، يضرب الريحَ موكبُ الطيرِ الذي ليس فيه الطائرُ الذي كنتُ في أوّل نشأتي مولعاً بحلوله كل عامٍ وكأنّه فصلٌ من الزمان انْبثق من ترابٍ غيرِ ترابِ الفصولِ الأربعة، وليس فيه حسّونُ تلك التي اصْطَبَغَ بالشمس شعرُها، لا وليس فيه طائرا الحبّ اللذان على غلاف دفترها، تلك التي ترجمني بدقّاتِ قدميْها ساعةَ الرحيلِ وتلك التي تحدّثني لحظةَ الحضور بشفتيْن يلوح عليهما جسدُ امرأةٍ أخرى.
إسماعيل
وحده الإسلامُ تتوحّدُ فيه الأديانُ الساميّةُ، منسلكةً جميعُها في موكبِ النورِ، كما الموجةُ في دَعَةِ الصيف تنهض من الماءِ وتسبح نحو الشاطىء ليّنةً، فلا هي تتكسّر لارْتطامها بأخرى، ولا هي تنحني ثم تنهار على الرمل، مبعثرَةً حسيساً وهسيساً ورذاذاً، بل هي تمضي، ليونتُها الخميرةُ التي تنفخ فيها الكمونَ والاحتواء. فالمسيحيّةُ مضمرَةٌ في اليهودية، والإسلامُ المُضْمَرُ في كليْهما انْضَمَرَ فيه كلاهما، فهو الموجةُ التي تنهضُ من اللجّةِ، واللجّةُ التي تنهض بالموجة.
ما الكنيسةُ إلاّ الجامعُ مُضْمَراً في موكبِ النور.
سميّة
تنظر إليَّ نينا بطرفِ عينها اليمنى وتتأملني بصمتِ التي تظنُّ أنّها تتأمّل شخصاً به مسٌّ من جنون. وكيف لا تُجَنُّ مَنْ قضتْ في سجن منزلها خمسَ سنواتٍ تمرّض وتطبّب امرأةً لسانُها ساكتٌ إلاّ عن ذِكْرِ اللهِ، تدعوه وتدعوه وتظلُّ تدعوه، وأنا موجودةٌ معها غَيْرُ موجودةٍ، لا تحدّثني ولا أحدّثها إلا لنتذكّر زوجَها وحسرتَها على فقدانه رغم كل الطمْسِ الذي طَمَسَهاإيّاه حتى هَدَّها وورّثني إيّاها حفنةً من هلاك. ولكنني لستُ مجنونةً أو على شفيرِ الجنون، فاطمئنّي، يا ابنةَ أخي، ولا تفركي مثلي يداً بيدٍ، فلا التعصيبَ تعرفينه بعد وليس لكِ مثلي إخوةٌ لتندبي حظّكِ بأُخُوَّتِهِمْ.
دمعتي تكاد تترقرق في عينيّ لولا أنّ أجفاني اليَـقِـظَةَ تدفعها دفعاً وتردّها إلى القلب خشيةَ أن يراها أحدٌ تنساب على خدي، فلقد نسيتُ محارم الكلينكس على طاولةِ التواليت في غرفتي، الغرفةِ التي أصبحتْ منذ اليوم غرفتي بعد أن كانت لخمس سنوات طويلة غرفتَنا أنا وهي، قبل أن ينسلَّ بيننا النورُ في الليل ويسحب معه الهواءَ ماضياً بالروح إلى حيث بارئها. دمعتي تكاد تترقرق لولا أنَّ عينيَّ تتلهّيان بمنظر البيوت المبثوثة على طرفيْ الشارع الذي كادتْ لطولِ حَبْسي في منزلي أن تنساه عيناي، فتلك الشرفةُ الزرقاءُ التي على اليمين أعرفها، وذلك البابُ الواقفُ على مدخلِ البيتِ الذي على اليسار كأنّما النجّارُ طرّزه بالنتوءات الملوّنة. ألوانُه اليوم تحكي فكأنّما جدّدوه من زمن قريب. وذلك الدرابزينُ الصاعدُ في الهواء إلى الطابق الثاني من ذلك المبنى لا يزال منذ رأيتُه أوّل مرّة صاعداً في الهواء، حرّاً من الأرض، فَسْحَتُهُ الريحُ والشمسُ والبردُ والحَرُّ وشيءٌ من عابراتِ الفصول.
ها هي كنيسة القناية على الطرفِ اليساري للمستديرة، كأنّها مجدّدةُ الحجر واللونِ، تقف الآن بعد الحرب في نفس المكان الذي كانت تقف فيه قبل الحرب، محزونةً ربما على الكنيسةِ التي هدمتْها الحربُ في بستان الزيتون حيث هدمتْ معها المدرسةَ العتيقةَ والمقبرةَ، ورائي هنالك في طلعةِ الهلالية القديمة.
وما الذي تُراه تَراه عيناي في المبنى المنتصب تجاه الكنيسة على الطرف الآخر للشارع؟ بالله ما الذي تَراه عيناي؟ زجاجُ النوافذِ المطلّة على الشارعِ لونُه أسود، من ذلك السوادِ المُحَيَّرِ الدارجِ لزجاجِ السيّاراتِ التي تقتل الضجرَ في الشتاء وفي الصيف صاعدةً نازلةً على طريق منزلي، ذلك السواد الذي يسمّونه ال fumé.
فأواه ثم أواه ثم أواه على حظّ أمّي وحظّي، فلا السيّارةُ التي فيها أنا الآن مصفّحةٌ نوافذُها بزجاج الfumé ولا تابوتُ أمّي كذلك. ولو أنّ تابوتها من ذلك النوع الدارج من الزجاج لكانت رأتْ كلَّ شيءٍ من حيث هي لا تُرى، ولكانت ودّعتِ الكلَّ وظلّتْ تودّعهم حتى آخر الطريق، ثم نزلتْ في حفرتها راضيةً مرضيّة.
وذلك ليس من حظّها اليوم، مع أنّ المستقبلَ بالتأكيد لزجاج ال fumé . إذْ لا ريب أنّ غنى الناس في المدينة سيبدع لهم هذه الفكرةَ فيدرج في المستقبل القريب نَقْلُ الأموات إلى المقابر في توابيت من هذا الطراز، فيجد بذلك الناسُ في المدينة شيئاً جديداً يتلهّون به عن الضجر.
ولو أنني كنتُ رجلاً، أو امرأةً مسيحيّةً على الأقل، لكنتُ فتحتُ قربَ كنيسة القناية مركزاً للخدمات، على بابه يافطةٌ تقول: توابيت fumé. جاهزة وتحت الطلب. ولكلّ الأحجام، ولكنتُ ارْتزقتُ من هذه التوابيت وَاغْتنيتُ، ولكنتُ اسْتغنيتُ عن التقتير الذي يقتّره عليَّ إخوتي وعن كلِّ حساباتِ ما بعد الدفن.
أبو يحيى
حينما كان أبوها يُتَلْفِنُ لي من المطعم لأذهبَ إليه وأُقِلَّهُ إلى المحلّ الفسيح الذي لا يشتري من سواه الخضارَ والفاكهةَ لمطعمه، كنتُ أفتحُ له باب السيّارة، وأنا في مقعدي لا أزال، فينحني قليلاً ويحشر نصفَ جسمه الممتلىءِ حشراً، ثم ما أن يَنْهَدَّ بباقي ثقله على المقعد حتى تنهار السيّارةُ من تحتنا وتئنّ ضلوعُها أنيناً عميقاً. لم يكن الذنبُ ذنبه وحده، فَوَزْني أنا قريبٌ من وزنه، على وجه الترجيح، وبطيختان معاً لا تحملهما اليدُ الواحدة، فكيف بحوتَيْن في قلب شختورة واحدة!
صحيح أنه كان مثلي بديناً، ولكن كان في الْتفافِ جسمه شيءٌ من عَنْطَزَةِ أهل البَرِّ وأهل البساتين، شيءٌ ليس بالرخْو أو المتهدّل، بل هو الشيءُ الذي هو أشبه شيءٍ بعنجهيّةِ الديكِ انْحَلَّتْ في كلِّ ملمحٍ من ملامحِ جسمه وسَرَتْ منه في كلِّ الْتفافةِ عينٍ أو شدّةِ كفٍّ أو نقلةِ قدم. ولم يكن ذلك كثيراً عليه، ولم يكن كذلك غيرَ لائقٍ به، على عكسِ مَنْ كانت فيه الصفاتُ هذه من أهل المدينة. فعنطزَتُه فيها رائحةُ البساتين التي نشأ فيها وعاش أوّل شبابه بين شجراتِ برتقالها وحامضها وأكيدنياها وموزها وخضارها التي تشتهيها النفس. والسنواتُ الطويلةُ التي عرفتُه فيها قبل وفاته علّمتْـني أنّ هذه الصفةَ فيه كانت أشبه شيءٍ بذلك الشيءِ الذي يولدُ مع الطفل أو ينمو معه فيرعى ما يرعاه ويتغذّى بما يتغذّى بهِ. أَوَّلَ معرفتي بهِ، كانت تخيفني عنطزيّتُه وتمجّها نفسي لأنني كنتُ أتذكّر بها عناطيزَ المدينةِ المتأنّقين الذين ملامحُهم ومسلكُهم وأصواتُهم كلّها مجبولةٌ بالعجرفة. ولم يكن هو كذلك أبداً. بل لعلّه كان العكس تماماً. وكيف لا يكون العكس تماماً وقد صَرَخَ بي صرخةً رهيبةً، ذات مرّة، لأحيد عن هرّةٍ كدتُ أدوسها، وقد طلعتْ فجأةً أمامي من خلف برميل النفايات؟ صرخ صرختَه تلك وعبق وجهُه بالدم كأنّني كنتُ على وشك ارتكاب جريمة. عَنْطوزُ المدينة لا يفعل ذلك ولا يعبق وجهه لمثل هذه الأمور، كما هو لا تدمع عيناه بغتةً، كما كانت تدمع عيناه هو، عند مرأى جنازةٍ تمرّ أمامنا في طريقها إلى الجبّانة.
تحت عنطزيّةِ أهلِ البساتين، كان يختبىء فيه رجلٌ آخر، رجلٌ فيه روحُ العصافير، رقيقةٌ، حسّاسةٌ، مبريّةٌ كرأس قلم. وما كان أَرّقَّ وجهَه حينما كانت تطالع عينيه امرأةٌ تقطع الطريق علينا فينبّهني إلى ضرورةِ تخفيفِ السرعةِ حتى لا نصدمها، والابتسامةُ الزائغةُ على فمه تقول كلَّ الكلام.
المرّةَ الوحيدةَ التي رأيتُه فيها يتحوّل إلى حوتٍ هائج كان ذات صباح ونحن في طريقنا إلى شارع المطران حيث محلّ الخضار الذي يبتاع منه حاجيات مطعمه. فقد كانت زحمةُ السير خانقةً ذلك الصباح، وكذلك كانت زحمةُ الناس. ولم أجد مكاناً أصفّ فيه سيّارتي فطلب منّي أن أظلّ في السيّارة حيث هي ريثما يتبضّع ويعود. وصادف أنه حينما عاد، ومعه صاحبُ دكّان الخضارِ وصبيُّه يحملان له أكياسَ الخضار،كنتُ أنا أحاول بشتّى الحيل أن أقنع شرطي السير أن لا يسجّل عليَّ ضَبْطَ مخالفة، والشرطي يصرّ على إتمام ما بدأه. وكان الذي كان، فتقدّم هو منه وحاول أن يُفْهِمَهُ بلباقةٍ أنّ المسؤولَ عن المخالفة هو هو وليس أنا، فَانْتَفَخَتْ أوداجُ الشرطي وقال إنّ ضبطَ المخالفة ستتم كتابتُه، فما كان منه هو إلاّ أن انْتزع من يديه أوراق سيّارتي ورخصةَ قيادتي، وإلى جانب ذلك دفترَ ضَبْطِ المخالفاتِ، ودفعه بكفّه على صدره دفعةً أبْعدتْه عنّا قليلاً، فَفَكَّ ذاك حزامَ مسدّسه، وتجمهر حولنا الناسُ. وكانت اللحظةُ الحاسمةُ حينما مزَّقَ هو ضبطَ المخالفةِ ورمى إلى الأرض بباقي أوراق الدفترِ وضربَ بكفّه على غطاء محرّك سيّارتي ضربةً ارْتَجَّ لها المكانُ، صائحاً بالشرطي صيحةَ التحدّي الأكبر أنْ أطْلِقِ النارَ إن كان في عروقكَ دمُ الرجال. يومها عرفتُ قيمةَ ذلك الرجل، وقد تَبَدَّتْ لي حقيقةُ جوهره، وهو يزعق بالشرطي زعقتَه الأخيرة: تَتَمَرْجَلُ على هذا المسكين لتـقطع رزقَه! تعالَ وَتَمَرْجَلْ عليَّ، فأنتَ تعرف أين تجدني!.
رحمة الله عليه الآن، فمن خمس سنوات خلص زيتُه وترك الدنيا. واليوم، بعد خمس سنوات، خلص زيتُ امرأته هي الأخرى، وها هي ابنتُها في المقعد الخلفي من سيّارتي، تُصِرُّ على اللحاقِ بموكبِ الجنازةِ، وإلى جانبها الطفلةُ الجديدةُ على عينيَّ، تنظرُ الواحدةُ منهما إلى الأخرى بطرف عينها وتفرك كلٌّ منهما كفّاً بكفّ من شدّة البرد، وأنا عيناي عليهما في المرآة، أركّزها مرّةً هكذا ومرّةً هكذا حتى لا يفوتني شيء، لأنني أكاد لا أجرؤ على التلفّتِ كثيراً إلى الخلف حتى لا تفهماني خَطَأً.
طارق
إذنْ رَمَّموا الكنيسةَ آخر الأمر ولم يتركوها بانتظار أن ينفرجَ الوضعُ السياسي في لبنان أو تتّضح ملامحُ الخطّة التي رسمتْها أميركا للمنطقة. المسيحيّون لا ينتظرون طويلاً، فهم يقرأون الشيفرةَ كما يقرأ الطفلُ المحبّةَ أو الغضبَ أو العتابَ في وجه أمّه بلمحةٍ عابرة. هم يعرفون ماذا يريدون، ويعرفون كيف يحصلون على ما يريدون، فلو أوْغَلَ الواحدُ في البحث عن مصدرِ الأموالِ التي رمّموا بها الكنيسةَ، مثلاً، لاكْتَشَفَ أنَّ جُلَّها تبرعاتٌ إسلاميّة. وأنا المسلمُ العائدُ من الكويت لا أعرف حتى الآن أيّ مهنةٍ أمتهن في هذه المدينة بعد غيابٍ دام ثماني سنوات صرفتُها في البناءِ ثم البناءِ ثم البناءِ الذي تركتُه هناك لغيري تحرقه الصحراء.
ولو أنَّ الحربَ دَمَّرَتِ الكنيسةَ هذه كما دمّرتْ كنيسةَ بستانِ الزيتونِ وعَزَفَ المسيحيّون عن إعادة بنائها وعرضوا الأرضَ للبيع، لكنتُ أتيتُهم في منتصفِ الليل، وبعد منتصف الليلِ إذا لزم الأمرُ، فَأَغْرَيْتُهم بأكثر من السعر الذي يحدّدونه ودفعتُ لهم رعْبوناً لائقاً، ريثما يطلع الصباح، لنتمّم المعاملةَ القانونيّة للبيع، أو لعلّني كنتُ أستعجل الأمور، حتى لا يطلع عليَّ مع الصباح مُضَارِبٌ يعسّر ما قد يسّره الرعبون، فَأنْطَلِقُ عند منتصف الليل، أو بعد منتصف الليل إذا لزم الأمر، إلى منزل الكاتبِ بالعدلِ فأوقظه بلباقةٍ وأحدّثه في نفسِ اللحظةِ التي تحدّث فيها يدَه يدي وتشدُّ عليها وفيها بما يحيل الليلَ في عينيْه إلى ضحى، فيستمهلني لحظةً ريثما يرتدي ثيابَه، فأمهله وأنتظر في الصالون أفكّر من جديد بتروٍّ في ما يمكن لي أن أصنع بالأرض بعد إتمام الصفقة. ثم ما أن يطلّ عليّ متلفّعاً بالمعطف الشتوي، ورقبتُه ملتفّةٌ بلفحةِ الصوفِ، وفي إحدى يديه حفنةُ أوراقٍ وقلمٌ وأشياءُ ممّا قد يلزم ولا أذكرها، حتى أنطلق به عائداً إلى حيث ينتظروننا، وتكون حجّتي، لديهم ولدى الكاتبِ بالعدلِ، أنَّ خيرَ البرّ عاجله وأنّ ظروف العمل تضطرّني إلى السفر خارج البلاد ظهيرةَ اليوم التالي. وبعد أن يوقّعوا على الورق وأوقّع معهم ويوقّع بعدنا الكاتبُ بالعدلِ، يجب ألاّ تفوتني اللباقةُ فألوي بعنقي وأحطّ بكتفي وأرسل بعينيّ إلى الأرض وأتوجّه إلى الذين كانت الأرضُ لهم منذ لحظاتٍ بكلمةٍ ملؤها الأسفُ لأنّ الحربَ الكريهةَقد أوصلتْنا إلى ما وصلنا إليه، ثم ينفتح أمامي البابُ وينغلق من خلفي فأملأ رئتيّ من هواء الليل البارد متنفسّاً الصعداء.
باتيسري بطابقيْن، أعلاهما يطلُّ على مستديرةِ الكنيسةِ التي كانت، فيسرّح الناظرُ والناظرةُ عيونَهما في الحشائش الخضراء والأشجار المنبثّة ضمن المُنْبَسَطِ الحشيشيّ للمستديرة، تلك هي أمنيتي للمستقبل بعد حَرِّ الكويت، لولا أنَّ الكنيسةَ رُمِّمَتْ وطُلِيَتْ وطُلِيَ كذلك السورُ الواقفُ بينها وبين رصيف الشارع.
سأبحث إذنْ عن أرض أخرى، على حافّةِ مستديرةٍ أخرى، وبعد أن نتدبّر أمْرَ الإرثِ الذي ورّثتْنا إيّاه أمّي مُـزَنـَّــراً بأحاييل زوجها وبالعقد المزوّر الذي ابْتَدَعَهُ الذي تهمسُ باسْمه الهمساتُ، سوف تزداد ثروتي، ولعلها تتضاعف، فأتزوّج ابنةَ السادسةَ عشرَ ربيعاً التي عرضوها عليّ وتمنّعتُ أوّل الأمر. يطمعون لها بشقّةٍ وأنا سأغرقها بالشقق، فقد آن الأوانُ لأتنعّم بالربيع بعد حَرِّ الكويت وبعد صقيع شباط الذي يجرّح قلبَ الهواء. وحينما أتزوّجها ويراها قدّيسُ الكلماتِ، سَيُبَحْلِقُ فَمُهُ بالدهشة ويوقن أنَّ لهذه المدينة ربّاً ضَلَّ هو عن طريقه في غماماتِ كتبه وعبدتُه مع المدينة أنا فَأَلْمَحَ إليَّ بالسؤددِ الذي سوف يكون.
كسّاب
بعد أن نصلّي عليها ثم نذهب بها فنواريها الترابَ ونتقبّل التعازي في المقبرة ثم نعود إلى منزلي لتقبّل تعازي المعزّين الذين لم يُتَحْ لهم اللحاقُ بنا إلى المقبرة، سأخلد إلى نوم عميق أستيقظ بعده صباح غدٍ وأتّصل بابْن عمّتي لأتّفق معه ومع إخوتي على تكليفِ بَنَّاءٍ ببناء القبر وتبليطه، أو بالاكتفاء ببنائه دون التبليط، فالرخامُ اليوم ظالمُ السعرِ، ثم إنّ أحداً من إخوتي لم يفتح فمه بعد بالحديث عن تكاليف سيّارةِ الدفن وثمن عباءةِ الدفنِ وأجرةِ حفرِ القبرِ. فلأخلدْ إذن إلى الصمت الآن ولأعتمدْ سياسة التطنيش حتى لا أُدْفَنَ في الكلفةِ وحدي. ثم فَلأتروَّ قليلاً ولأتناسَ حتى تكليف البَـنّاءِ بناءَ القبر، إذا ما هم دَفَنوا أنفسَهم في سكوتهم وَاسْتناموا، كما يستنيم الناسُ في هذه المدينة على غير حقّ، للعرفِ الذي يُلْزِمُ كبيرَ الأبناءِ بتحمّل كافّةِ الأعباء في مواسم الموت التي تفتح المقابرَ للراحلين وتفتح على كبير الأحياء مقبرةً غيرَ منظورة. ولعلّ الناسَ يحسبون، كما يحسب الناسُ عادةً على غير حق، أنّ بِكْرَ الأبناء هو قجّةُ المصاريفِ في مواسم الموت التي يتّـصل بعضها ببعض. ثم مَنْ قال بأنني بِكـْــرُ هذه العائلة، وأمّي كانت تروي لنا أنّ ولدَها الأوّل ماتَ غَرَقاً في عَبّارةِ الماء في البستان الذي عشنا فيه أوّل عمرنا خلف النهر. هو البِكْرُ، وإنْ كان الجميعُ يتغافلون عن هذه الحقيقة، وهو الذي اسْتراحَ اليومَ من هَمِّ مصاريف الدفنِ والقبرِ وهَمِّ التفكيرِ بهذا الهَمِّ، واسْتراحَ كذلك من مواكبةِ موكبِ النملِ الذي لن يصل بنا إلى الجامع الأخضرِ حتى تكون أطرافُنا قد تجمّدتْ من هجمات الصقيع.
غداً، صباحَ السبت، أتركهم في منزلي يتقبّلون التعازي، وأذهب إلى المدينة بحجّةِ التبضّعِ وأمرّ على مهلٍ ببابِ المحلِّ الذي يصرّ صاحبُه على سعرِ البرّادِ الذي أنوي شراءه، فلا هو ينقص منه شيئاً ولا أنا أنقص من عنادي شيئاً، أمرُّ ببابه على مهلٍ، كما لا أزال أفعل كل صباح سبتٍ منذ سبعة أشهر، أيْ منذ ذهبتُ إليه أوّل مرّة بنيّةِ الشراء، أمرُّ ببابه وأنظر خلسةً بطرف عيني لأرى إذا كان يراني، فلعلّه يستوقفني، يائساً من عنادي، ويدفع إليَّ بالبرّاد بالسعرِ الذي اقترحتُه أنا. ثم أتركه بعد ذلك وهو راتعٌ في أمواله، يعدّها، كما هو دأبه، من طرف النهار إلى طرف الليل، ثم يعيد عَدَّها، ويشطُّ ريقُه على العدِّ، ففمه مشغولٌ ببلعِ الريق ما دامت أصابعه تقلّب الورقَ الأزرقَ من يدٍ إلى يد.
بعد ذلك أرتّب مع لؤي خلوةً حديثُها همسات.
أبو سليم
إنقلبَ مزاجي اليومَ من حدّةِ الصقيعِ ومن ذلك الشيء الذي في داخلي، فهو كلما أغفلتُه وصرفتُ عنه قلبي وعقلي انْبرى لعينيّ من حيث لا أعلم، كما تنبري الجنُّ للإنس، فيظلّ يلاطشني ويستفزّني لملاطشته حتى تطرده عطفةُ منعطفٍ أو استدارةُ مستديرة. ثم هو لا يلبث أن يعود ويراوغني من جديد فينخر عيني بصورٍ لا أحسبها إلاّ من تلك الصور التي كانت تهيّجها في خيالي كتبُ الجنِّ والسحرِ التي دأبتُ على مطالعتها أوّل طلعتي.
ولكنَّ ذلك كان كلّه من زمان، زمنَ كان خيالي يضطرب بجثثٍ مهترئةٍ ما إن تتفرّج عنها الأكفانُ حتى تمتلىء باللحم الفجواتُ التي بين العظام، وحتى تضطرب الأطرافُ، يتلمّس بعضُها بعضاً، فتندسّ أصابعُ الأيدي في لحمِ الأفخاذ وتغور في طراوته، ثم تنتفخ الأفخاذُ كالعجين المخمَّر، وتنسحب من الطراوة الأصابعُ الزائغةُ وتمضي الهوينا فتجسّ العيونَ جسّاتٍ طريّةً فينبلج منها النورُ ثم لا يلبث أن ينوص وينطفىء، ولحمُ الأفخاذِ لا يزال يغور وينتفخ، وتدويراتُ البطونِ تغور وتنتفخ مثل العجين المخمَّر...
نينا
مع أنّ فَمَها ظلَّ مفتوحاً حتى أخذوها، فقد كانت تحبّني كثيراً جدّتي. لم تقل لي شيئاً، ولم أقل لها شيئاً، ولكنني وقفتُ بجانب سريرها أنظر إليها وأحبّها، وهي تحبني ولا تنظر إليّ، لأنهم مدّدوها على ظهرها وأغمضوا عينيْها فلا تستطيع هي أن تلتفت إلى جهتي. أغمضوا عينيْها ولم يغمضوا فمَها، ونسيتُ أن أسألهم لماذا فتحوا واحداً وأغمضوا اثنتيْن، مع أنَّ الواحدَ والاثنتيْن كلّها لجدّتي؟
السنةَ الماضيةَ كانت كذلك تحبّني جدّتي. تحبّني كذلك عمّتي، ولكنّ جدّتي كانت تحبّني أكثر. السنة الماضية ، حينما كَرَّبْتُ في بيروت وانقطعتُ عن المدرسة، حملني أبي في سيّارته إلى بيت عمّتي، حيث كانت معها جدّتي، ومدّدني على السرير في الغرفة التي أنام فيها معه كلما أتينا لزيارة جدّتي وعمّتي. مدّدني على السرير ولفّني بحرام ٍمن تحتي وبحرام ٍمن فوقي، بعد أن أخذ حرارتي، ثم أعطاني الدواء وقالتْ لي عيناه إنّه يحبّني. عمّتي وقفتْ ببابِ الغرفةِ كأنّها تخاف أن تدخل، ووقفتْ خلفها جدّتي تسبّح بمسبحتها وتدعو لي بالشفاء وتقول لأبي أنْ لا يخاف عليّ فالأولاد كلّهم يكَرِّبون وما هو إلاّ يوم أو يومان حتى تذهب الحرارة عنّي وأقوم من السرير فأنطّ وألعب. صوتُها كان يأتي من وراء عمّتي، وعمّتي واقفةٌ بالباب كأنّها تخاف أن تدخل. ثم ذهب أبي إلى المطبخ ولحقتْ به عمّتي لتحضير الشوربا التي ستذهب بالحرارة عني، وصوتُها يأتي من المطبخِ إلى غرفتي منبّهاً جدّتي ألاّ تدخل الغرفةَ التي فيها أنا حتى لا تَنْعَدي منّي وتكَرِّب هي الأخرى فتبتلي هي بتمريضها وتطبيبها ثم تنعدي هي منها وتكَرِّب وترتمي في السرير، وليس هناك مَنْ يخدمها ولا مَنْ يمرّضها ولا مَنْ يطبّبها. جدّتي رفعتْ صوتَها الضعيفَ وطمأنتْ عمّتي بأنّها لن تدخل غرفتي، ثم حَسْحَسَتْ بقدميْها الضعيفتيْن على السجّادة وانسلّتْ إلى داخل غرفتي وجلستْ على طرف السرير بقربي وملّستْ على وجهي وجبيني وشعري وقالت لي همساً أنْ أغفر لعمّتي ما تقول فهي خوّيفة لأنّها لا تتّكل على الله مثلما تتّكل هي عليه، ثم أفهمتْني أنّها ستخرج من الغرفة قبل أن تعودَ عمّتي وتكشفَ سرَّها فيشتدَّ تعصيبُها ويطلعَ ضغطُها فتقومَ القيامةُ وينتصبَ الميزانُ. وكلَّ يوم ٍبعد ذلك كانت تأتي إليَّ جدّتي، سِرْقَةً، فتجلس بجانبي على السرير، تُكَنْكِنُ عليَّ وتمسح بيدها على وجهي وجبيني وشعري، وتقرأ كلماتٍ تذكر فيها اللهَ، وعيناها معلّقتان بالسقف.
اليومَ كانت عيناها مغمضتيْن تنظران إلى السقف، وكانت كذلك تحبّني جدّتي.
الفصل الخامس
- كسّاب
- سميحة
- إسماعيل
- سامح
- طارق
- نينا
- سميّة
- لؤيّ
- أبو محمود
- أبو سليم
- أبو طاهر
الغيب هو الصفقة التي يعقدها الإنسان مع حنينه.
سليم بركات
معسكرات الأبد
كسّاب
حذاءَ الرصيفِ الشرقي للجامع الأخضر يَحُطُّ الرحالَ آخر الأمر موكبُ النملِ، نملةً خلف نملةٍ، وتنطلق الأرجلُ كلّها إلى حيث تنصبُّ كلُّ العيون. أبو طاهر ترفع يداه البابَ الخلفيّ لسيّارة النعش وتسحبان، وتسحب معهما يَدا ابْنِ عمّتي، النعشَ رويداً رويدا. أبو سليم يقف كأنّه ليس هناك. يداه مثل لوحيْن من الثلج وعيناه فاغرتان مملوءتان بالنعشِ، والنعشُ تتسابق إليه الأيدي الغريبةُ والقريبةُ فترفعه وتمضي به في خضمِّ الريحِ، فتعبر به بوّابةَ الجامع الأخضر، ثم ترتفع به وبهم الدرجاتُ الموصلةُ إلى حيث يغصّ بالمصلّين المكانُ. صلاةُ الجمعة كلّها بركةٌ على المصلّين، وعلينا كذلك أهل الراحلة، فأيديهم لأيدينا العونُ من الله في الحمْلِ وفي النقْلِ. فَلْيَحملوا معنا إذن وليأخذوا بعضَ الثوابِ، فحلالٌ حَمْلُ الميّتِ ولو خطوةً أو خطوتيْن.
وكما صلّيتُ على أبي منذ خمس سنوات في الجامع هذا عينه، فسأصلّي اليوم على أمي الصلاةَ عينها، وأفعل الفعلةَ التي فعلتُها آنذاك، فأخلع حذائي الأسودَ وأجمّع حوله أحذيةَ المصلّين البنيّةَ اللونِ، فتكون تلك الدائرةُ حوله العلامةَ الفارقةَ له، حتى لا أضيّع عنه أو ينتعله غيري ساعةَ الخروج من الصلاة في زحمة الجمعة.
حنجرةُ المؤذِّنِ عالقٌ بها البلغمُ، فالمؤذّن يتنحنح قبل البدء بالأذان، وتأتي نحنحتُه عبر مكبّر الصوت مثل نحنحاتِ سميّة.
سميحة
كأنّما المؤذّن يأتي صوتُه إليَّ في المنام فيتشُّ لذكْر الله بدني تلك التشّةَ التي يتشّها كلما ذُكِرَ اللهُ من على مئذنة. يأتي إليَّ كأنّما في المنام، فلعلّه الفجرُ ولعلّ المؤذّنَ يلهج بالدعوة لصلاة الفجر، فكيف أضُبُّ عنّي النعاسَ وأفتح عينيَّ لأنهض وأتوضّأ وأعجّل بالصلاة قبل أن يفوتني موعدُ الصلاة، فأنال على ذلك الأجر كلّه؟ بدني يتشُّ من البرد ومن صوت المؤذّن يذكر اللهَ، واللهُ العالمُ بحال بدني سَيَرْأَفُ بي إذا ما هربتُ من الماء السّامِّ وتيمّمتُ بضرب المخدّةِ الطاهرةِ التي على الصوفا بكفّيَّ ثم بالمسح بهما على وجهي ثم على ساعديَّ حتى مرفقيّ.
ولكن كيف لي بالتيمّـم والنعاسُ باركٌ على عينيّ لا يتزحزح، ثقيلاً ثِقْلَ جُرْنِ الكبّةِ الذي تركتُه على سطيحة بيتنا حيث وقع قبل وفاته المرحومُ وفَدَغَ رأسه وكان بعد ذلك ما كان؟ سألتفتُ إلى جهةِ سريرِ سميّة، وأمدّ بيدي إلى طرف لحافها، فأشدّه بالرفق شيئاً فشيئاً حتى تستيقظ سميّةُ وتكلّمني بصوتها الذي غيّره التدخينُ، فأسمع صوتَها الذي وحده يوقظني من هذا النوم الثقيل ويضبُّ عنّي هذا النعاس. أسمع صوتَها فأقوم وألبس الغُطْفَةَ وأتيمّم وأبدأ بالصلاة.
ولكنّ المؤذّنَ صوتُه يقترب ويقترب حتى لكأنّ المئذنةَ فوق رأسي وحتى لكأنّ أصوات المصلّين تحفّ بسريري وتلهج مثل المؤذّن بذكرِ اللهِ وتتمتم بأشياء كأنّني سمعتُها من قبل ولكنّني لا أتبيّنها لثقلِ النعاس. أشمّ في هواء الفجر رائحةَ يومِ الجمعةِ فيتشُّ بدني من جديد وأغالب النعاسَ لعلّني أستيقظ قبل فواتِ موعدِ الصلاةِ فأصلّي وأجلس على الصوفا أسبّح بالمسبحة التي تركها المرحومُ لي أتدفأ عليها بذكرِ الله وأدعو لسميّة بطول البال حتى تحتملني سميّةُ بالصبر والأناة وتوفّر على روحها العذابَ وعلى بدنها الخضّاتِ والرعباتِ ونوباتِ الضغط، وهي الرائحةُ الغاديةُ تعطيني دواءَ القلب ودواء سيلان الدم ودواءَ تصلّب الشرايين والأدويةَ الأخرى التي لا أعرف لماذا لا أزال آخذها، ولكنّني آخذها حتى لا تنشقَّ حنجرتُها من الصراخ ويطلعَ ضغطُها وتقومَ القيامةُ وينتصبَ الميزانُ. أدعو لها بطول البال، فسبعةُ أدويةٍ تعطيني إيّاها كلّ يوم شيءٌ يُضْجِرُ الروح. وكيف لا تضجر روحُها وهي إلى كل ذلك تهيّء لي الطعامَ بِلا ملح ثم تطبخ لنفسها طعامها بنصفِ ملحٍ، كل يوم كل يوم كل يوم؟ أدعو لها وأدعو لإخوتها أن يهديهم اللهُ فيزوروها في حياتي وبعد مماتي ولا يتركوها مقلوعةً من شجرةٍ، لا زوجَ ولا ولدَ ولا أمَّ ولا أبَ. أدعو لهم وأقول.
المؤذِّنُ صوتُه انْتهى من الأذان ولم يختمْ بِ الصلاة خير من النوم، كما هي العادة في أذان الفجر، فما الذي دهاه وما الذي تُرى أنساه؟ هَوَّنَ اللهُ على عظامه البردَ إن كان هو البردُ، ومَنَحَهُ العافيةَ والرحمةَ إن كان هو النعاس.
وهذه الأصواتُ، أصواتُ المصلّين، تزداد ويختلط بعضُها ببعض، وتختلط كذلك في جوّ الفجرِ حركاتُ الركوع والسجود، فهنيئاً لهم صلاةُ تحيّةِ المسجدِ في الفجر يستفتحون بها يومَ الجمعة في الجامع الذي أسمع صوتَ المؤذّن كل يوم من على مئذنته ولا أدخله لا هو ولا غيره من الجوامع التي أقيمتْ بيوتاً لله يصلّي فيها الرجال. ولكنْ كيف يجري كل ذلك من حولي، فأسمع الهمهماتِ وأحسّ بالحركاتِ، وأنا في سريري أغالب ثِقْلَ النعاس وأحتالُ عليه بذكرِ اللهِ لأنهض إلى الله، والنعاسُ لا هو يَنْضَبُّ عنّي فأفتحَ عينيّ ولا هو يغلبني فأنامَ وأرتاحَ؟
إسماعيل
حُبّاً جَمّاً تحبّ الجمعةَ امرأةُ خالي. وذلك كان دأبُها من أوّل الزمان، زمانَ كنتُ أزورها مع أمّي وأخَواتي في ذلك البستانِ الذي سكنوه الشطرَ الأوّلَ من حياتهم، والهاجع شمالي نهر الأوّلي، بين الجسرِ المطلِّ على مصبِّ النهرِ وبستانِ البلحِ الذي كَبَحَ امتدادَه شمالاً نَزَقُ الصخورِ التي أَغْرَتِ الجبلَ بالنزولِ إلى مقصف الموج، هنالك حيث يلتوي خطُّ القطارِ الحديدي القادمِ من الشمال لينغرز، شرقاً فجنوباً، في قلبِ الإمتداد البساتينيّ الذي كان، في ذلك الزمان، لا يحدّه، إذا حدّه شيءٌ، إلاّ أُفُقٌ لا يبين.
وهَشّاً كانت تهشُّ إلى ذكرِ الجمعة، كأنَّ مفاصلَ الزمانِ، ماضِيَه وحاضرَه وغيبَه الذي هو آتٍ، تغصُّ بها كلّها زحمةُ الجمعةِ، وكأنَّ أيّامَ الزمانِ السبعةَ تنكرُ أحاديّةَ ذواتِها المبثوثةِ في الليل والنهار فتتوالج كلّها في صوت المؤذّن نديّاً يتموّج في جنبات الفضاء أنْ ذَروا البيعَ قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا شراء، نديّاً يتموّج بالطيب، محرّضاً مجيبيه على المثول بين يديْ مُبْدِعِهِمْ مُطَّهِّرِينَ إلاّ من نفحةِ الطيبِ، تعبق بها أرديتُهم وأردانُهم وأنفاسُهم الحرّى من لهفةِ الوعد.
وهي التي ليستْ في البيع ولا في الشراء كانت ترصد الجمعةَ كما الطفلُ صبيحةَ العيد، فتعجّل بالكنسِ والمسحِ والغسلِ والطبخِ والإستحمام قبل حلولِ أذان الظهرِ ليكون الأذانُ عليها شهيداً وهي على سجّادةِ الصلاةِ تلتفّ بلونِ الياسمين، كما كنتُ أراها تلتفّ في أوّل الزمان، وأمّي بقربها تلهج مثلها بالياسمين، وبقربهما أخواتي مثلهما يَلْهَجْنَ بالطيب، ويصلّين الجمعةَ كلّهنَ في غياب الجامعِوالإمام ِ، هنالك في البيتِ الهاجعِ في البستانِ المرصودِ بين صدى خريرِ مياهِ النهرِ، جنوباً، وصدى صوتِ الريحِ، شمالاً، تمرّ في سعفِ النخيل.
ويوم تطفّل المذياعُ فَهَتَكَ حُرْمَةَ البيتِ في بيتهم ِالجديدِ الذي ارْتحلوا إليه جنوبي النهر، على مرمى حجرٍ من مطعم خالي، هَتَفَ المذياعُ بصلاةِ الجمعة وبالخطبة فانتقل المسجدُ الغائبُ إلى حجراتِ البيتِ وهَلَّلَ بالفرحةِ الفمُ والعينانِ في وجه إمرأةِ خالي.
وظلّ الحنينُ إلى الصلاة في الجامع يوم الجمعة دفّاقاً على اللسان فباحتْ به يوماً إليّ، وخالي جالسٌ لمؤانستي، يستمع إليها ويهتزّ من الضحك حاجباه. حتى إذا غالى صوتُها بلهفةِ البوْح ِاسْتبدّ بشفتيَّ الكلامُ فقلتُ أنْ ليس هناك ما يمنع إمرأةَ خالي من شهودِ صلاةِ الجمعةِ في الجامع إلاّ العادةُ التي اسْتحالتْ عُرْفاً ما لبث أن أحاله الناسُ على القرونِ إلى شيءٍ أشبه بالتحريم وَاسْتَمْسَكتْ به النساءُ على أنّه الأمر المحتوم.
تنحنح خالي الذي اعْتدل في جلسته على الكرسيّ وهو يتنحنحُ وغَمَزَ بعينه إليَّ وَنَفَضَ بجانب كَفِّهِ جانباً أنْ غُضَّ الطرفَ يا إسماعيل، يا غرّ، وكنتُ غرّاً لا أزال آنذاك، عن هذا الحديث ولا تَعُدْ إليه ولا إلى مثله أبداً.
ولم أعُدْ إليه ولا إلى مثله أبداً.
ولكنّني يَحْضُرُني الأمسُ الآن لأنّه لأوّل مرّةٍ تشهد إمرأةُ خالي الجمعةَ، ويشهدها معها لأوّل مرّة طيفُها الأثيري، كما هو الآن مسجّى فوق النعش على هيئةِ الجثّةِ التي فيه، فتستمع هي لأوّل مرّة داخلَ المسجد، ويستمع هو مثلها لأوّل مرّة، خطبةَ الجمعةِ التي سيلقيها الإمام على المصلّين بعد حين يسير.
أَنْفُضُ عن عينيَّ الزمانَ الأوّلَ لتتهيّأ نفسي للصلاة وللإستماع إلى خطبة الجمعة فيرتدّ عليَّ الزمانُ، يردّه عليَّ جثمانُكِ المسجّى اليوم، يا إمرأةَ خالي، في النعش المسجّى أمامنا الآن، تحفّ به عيونُ المصلّين عن يمينٍ وعن شمالٍ ومن خلفٍ، وهو الصدى لِما كان وكنتِه والتوأمُ المكنونُ في الإحتمال لصدى صوتِ النهرِ الذي كانفي أوّل الزمانِ ولصدى صوتِ الريحِ تمرّ في سعفِ النخيل. تتعانق في الأثير الآن أجسادُ الأصداء الثلاثةُ، وجسدُكِ العصيُّ الآن على النهر وعلى بستان البلح، ستأخذه عمّا قريبٍ تربةُ الأرض في رحلةِ الفناء التي هي نهرُ الزمانِ فيتّحد بذلك الحيّزانِ.
سامح
1- جسدي المحارِبُ القديمُ، عِتادُهُ الموجُ من بحارِ شباط، وشيءٌ من مؤونته اللهفةُ السادرة.
2- أسهلُ الولاداتِ ولادةُ الموجةِ في ميعةِ الصيفِ، تولدُ كأنها لا تولَدُ، فهي الكونُ في غفلةٍ عن لحظةِ الإنبثاق، غيابُها الوعدُ وكينونتُها الملاسةُ المنزلقةُ عن خصرِ إمرأةٍ سلاماً على استدارةِ الكفلِ حنوّاً على المُنْزَلَقِ الزنبقيّ الإمتداد.
3- كلمعةِ البرقِ التي تُطْمِعُ وتُخيفُ هي المرأةُ التي جسدُها لبؤةٌ وضحكةُ وجهها طفلٌ صغير.
4- المرأةُ التي تعبر الطريقَ هي الجرحُ تمادى حتى حدودِ المسافة. قدماها النزْفُ وجسُّهما الدربَ اسْتراحةُ ذكرى. التي تعبر الطريقَ هي الجرحُ تمادى. التي تعبر الطريق.
5- حينما تَرى عينُ الرجلِ في المرأةِ جسدَ الفجرِ وتنغرس في حدقتيْها رؤياه، إذ ذاك إذ ذاك يتبادع الجسدان.
6- ما لمستْ فيكِ يداي أو شفتاي من شيءٍ، يا مَنْ يلوح على شفتيْها جسدُ امرأةٍ أخرى، إلاّ اسْتحالَ ظلاًّ لما ليستْ تبصره عيناي، وإنْ أسألْ يجبْـني الشوقُ إنّه الرحمُ تسري عروقُه في كلّ ما فيكِ، فأسكنيني وعدَه وظلّي قرينةَ الإحتمال.
7- يا جاحِدَ اللونِ والظلِّ يا ليلُ يا نابذَ أشكالِ الحياةِ وأحجامٍ تَخِذَتْها الأشياءُ عَرِّني مثلها من اللونِ والظلِّ ومن حيّزِ المسافاتِ والحركاتِ واصْلِني نعمةَ النّبْذِ فيكَ يا رحمَ النسيانِ يا ليلُ يا ليلُ.
طارق
إذن اخْترتِ اليومَ الأمثلَ للموت فَمُتِّ الجمعةَ عن قصدٍ لتحضري خطبةَ الجمعةِ وليصلّي عليكِ شاهدو الجمعةِ كلّهم بعد أن قضّيتِ عمرَكِ المديدَ في بُعْدِكِ المأثورِ عن الناس، وقد دَرَّبَكِ عليه زوجُكِ تدريباً طويلاً، وفي عزلةٍ شمطاء فرضها عليكِ كأنّها عزلةُ القبر، بل أشدّ من عزلة القبر. قبرٌ كان قبل القبر، وَلِذا فلن يتغيّر عليكِ اليومَ شيءٌ، اللهم إلاّ مرقدُ التراب.
وما اختيارُكِ يومَ الجمعةِ للموت إلاّ ضربةَ ثأرٍ تثأرين بها من الماضي الذي كان ومن قلّةِ الناسِ من حولكِ ومن أساليب الخبْثِ التي ابْتَدَعَها زوجُكِ لترويع أقاربكِ وزوّاركِ عنكِ كلّما تذكّروكِ فَاخْتَلسوا المجيءَ إليكِ اخْتلاساً. كلّ ذلك حتى لا تجدي أمامكِ أو خلفكِ أو عن يمينكِ أو عن يساركِ أحداً إلاّه، فتقومي على خدمته شاكرةً للسماء أنْ بذلتْ من أجلكِ، وسَخَتْ في بذلها، ذلكَ الحضورَ الكريمَ الذي كانت تغمركِ به قدماه وأنتِ تغسلينهما له بالماء الفاتر كل ليلة، حانيةً خاشعةَ الإنحناء.
طال انْحناؤكِ بالأمس كما سيطول رقادكِ في الغد. أمّا اللحظةَ هذه فَاسْتمتعي بها، هَيَّا اسْتمتعي، فهي موعدكِ الأوّل والأخير مع الجماهير التي لن ترينها ولن تراكِ بعد صلاة الجمعة التي تلي الخطبة. هذا إذا كان في نيّة الخطيب اليوم أن يجعل لها من نهاية.
طال انْحناؤكِ ويطول رقادكِ، ونحن الوارثون من بعدك ومن بعده الوساوسَ والهواجسَ والهمساتِ، فنعمّا الميراثُ ونعمّا المورَّثون.
وسميّة بالطبع جزءٌ من الميراثِ والإرثِ الذي تركتِه لنا أنتِ وزوجكِ، يا سميحة، فنعمّا الإرثُ، ثانية، ونعمّا الوارثون. سميّة هذه التي لم يَحْنِ ظهرَها الزمانُ بعد، سأحنيه لها أنا بالترويض، فأليّن لها عمودَها الفقري وأقـوّسه، كما روّضتْني حرائقُ الرمالِ في جحيم الكويت. وحينما أبْتَدِعُ لها مثلَ الذي ابْتَدَعَه لأمّها أبوها من أساليب ترويع الأهل والأقارب عنها وتشريبِ إخوتها السمَّ القديمَ، فلسوف تُفْتَنُ هي عنهم ويُفتنون هم عنها، فتأتي مقطَّعةَ الأوصالِ سميّةُ، طامعةً منّي بوهمِ الرعايةِ يغدقها على أخته أخٌ حنون. ولسوف يرتدّ إلى قلب صانعِ المَثَلِ المَثَلُ الذي يقول إنّ طابخَ السمِّ شاربُه.
إذ ذاك ينحسر الوارثون عن ملككِ الذي ورثتِه عن زوجكِ يا سميّة وعن الحصّةِ التي لم ترثيها رسميّاً بعد، فتطأطيء برأسها الأرضُ تحت قدميّ.
وإذ ذاك أُنشيءُ الكافتيريا بطابقيْن ويطلّ الجالسون والجالساتُ في الطابق الثاني منها على حشائش المستديرة وأشجارها.
وإذ ذاك أتزوّج ابنةَ السادسةَ عشرةَ التي عرضوها عليَّ وتمنّعتُ باديءَ الأمر، فيشهق لمرآها ذلك الذي عَبَدَ الربَّ الآخرَ في بيروت فَظَلَّلَ عمرَهُ بِظُلَلٍ من الكَلِمِ شاحبات.
سميحة
أشمُّ رائحةَ يومِ الجمعةِ في جوِّ الفجرِ الذي يزدحم في جامعه لصلاةِ الفجرِ الكثيرُ من الناس، على غير عادة الناس، فكأنَّ المدينةَ كلّها اسْتيقظتْ برجالها وشبّانها، فقهروا البردَ والنعاسَ وجاسوا خلال الغبشة، عابرين من بيوتهم إلى بيتِ الله، يرفعون إليه الصلاةَ بالركوع والسجود والتمتمةِ بالآياتِ الكريمةِ النديّةِ بها قلوبُهم وأفواهُهم، وأنا تهمُّ يدي بالحركة لشدّ اللحاف عن بدن سميّة حتى تستيقظ سميّة وتوقظني بصوتها، ويدي سارحةٌ في النعاس لا تلبّيني ولا تستجيب.
تعبق حولي رائحةُ يومِ الجمعةِ مثلما رائحةُ الياسمين كانت ترتفع إلى نافذتي من الأرض وتنسلّ مع نسمةِ الفجرِ فيعبق بها أنفي وفمي ووجهي، ويعبق بالسحرِ الغطاءُ، وتعبق الغرفةُ الساكنةُ في غبشة الفجر، هناك في بيتي القديمِ الذي شرّدوني منه وشرّدوا عبقَ الياسمين، يومَ رَحَلَ المرحوم وورّثني الليلَ والنهارَ، أشْرُدُ فيهما إلى السرير الذي كان يضبّني فيه الليلُ وأستريح على طَرَفِهِ أطرافَ النهار.
تهمّ يدي بالحركة لشدِّ اللحافِ عن بدنِ سميّة، ويدي سارحةٌ في النعاس لا تلبّيني ولا تستجيب.
وهذه التشّة التي يتشّها بدني ترتدّ عليّ كأنّنا في شباط الذي وصل بردُه إليَّ قبل وصوله هو، مع أنّ عظامي توسوس لي بِسِرِّ شباط. أقول لسميّة بَكَّرَ البردُ عليَّ هذه السنة، فمتى يا سميّة يأتي شباط؟ تقول ارْحمي نفسَكِ من ذِكْرِ شباط وكفكفي عن لسانِكِ الخوفَ، فصحّتُكِ اليوم أفضل من صحّتي، وضغطُكِ لا يطلع ولا ينزل مثل ضغطي، وتأكلين من الخضارِ والفواكه ما تأباه معدتي التي حُرِّمَتْ عليها من سنين نِعَمُ اللهِ كلّها، فارْحمي نفسَكِ وارحميني حتى أظلّ على قدميّ أروح وأجيء وأخدمكِ إلى ما شاء الله.
أدعو لها في سرّي بطول البال وأحسّ بخوفها عليّ في نبرات صوتها التي تَجْبُرُ بها خاطري، فتليّنها مرّةً وتهدهدها مرّةً، فهي مرّةً كمسحةِ الزيت ومرّةً كضحكةِ الطفل في النوم. أدعو لها وأقول أنتِ أمّي اليومَ يا سميّة بعد أن أذلّني الكبرُ وأنا ابنتكِ، فتعاليْ إليَّ واجلسي على طرفِ الصوفا بجانبي لأشمَّ رائحةَ بدنكِ يا أمّي. تقول الآن عُدْنا إلى نغمةِ العذابِ، ويَنْبُرُ صوتُها من جديدٍ نبرةَ النهي والأمر ويعود إلى سالف عهده، فتختفي منه مسحةُ الزيت وضحكةُ الطفل في النوم. أدعو لها بطول البال وأقول.
النعاسُ باركٌ على عينيّ، ممدّداً فوق بدني لا يزال، ولا تزال يدي تهمّ بالحركة لشدّ اللحافِ عن بدن سميّة لعلّها تستيقظ سميّة فيوقظني صوتُها فأفتح عينيَّ وأنهض فألبس الغطفةَ وأتيمّم وأصلّي قبل أن يفوتني موعدُ الصلاة، حتى لا يذهب المؤذّن والمصلّون معه في الجامع بالأجر كلّه.
أدعو لها بطول البال وأقول.
نينا
تقول له عمّتي أن يوقف السيّارةَ إلى جانب الرصيف وتمدّ برأسها إلى الأمام. عيناها تخرجان من الزجاج إلى الشارع تبحثان أمامنا عن سيّارة جدّتي، وسيّارةُ جدّتي ضاعتْ بين السيّارات. تُعيد عمّتي عليه القول بأنّها لا تَرى سيّارةَ جدّتي فيقول لها، وعيناه ترتفعان إلى المرآة، إن جدّتي حملوها من السيّارة ودخلوا بها الجامع، وإنّهم عمّا قريب سيصلّون عليها ثم يعيدونها إلى سيّارتها ، فننطلق من جديد. تفرك كفّاً بكفٍّ عمّـتي، وتبلع ريقها، ثم تسأله إذا كان ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً، فيقول لها إننا سننتظر على أيّ حال. تنظر من الزجاج الذي بجانبها ومن الزجاج الذي بجانبي إلى كل البيوت، وتتوقّف عيناها عليَّ برهة، وتفتح فمها كأنّها ستقول لي شيئاً ولكنّها لا تقول، ويظلّ مفتوحاً فمُها وأنا أنظر إلى أسنانها في داخله، يظلّ مفتوحاً مثل فم جدّتي قبل أن يلفّوها بالثوب الأخضر ويختفي كلُّ رأسها فيه.
فم جدّتي كان مفتوحاً بالإبتسامة لي كلّما جئتُ مع أبي لزيارتها وزيارة جدّي، حينما كنتُ أصغر، وحينما كان جدّي لم يمت بعد. كان دائماً مفتوحاً بالبسمة، تخرج منه الضحكةُ والأهلاً بنينا وأنا وجدّي نحبّكِ يا جدّتي. تقول لي يا جدّتي كأنني أنا جدّتها، فأضحك وأقول بسرّي حرامٌ جدّتي لا تعرف كيف تتكلّم إلاّ هكذا.
وجدّي كذلك كان فمه مفتوحاً لي بالضحكة أحياناً حين يكلّمني، ولكنّ فمه كان أكبر من فم جدّتي وأوسع، وكانت أسنانه ليست بيضاء كأسنان جدّتي. ضحكةُ جدّتي كانت كركرةً مثل الصوت الذي يطلع من النارجيلة التي يدخّنها الناسُ في مقهى الزجاج الذي أخذني إليه أبي مرّةً في صيدا القديمة. ضحكتُه هو كانت تطقّ طقّاً مثل صوت الكلّةِ تطقطق على البلاط العاري.
ولكنّه لم يكن يضحك لي كثيراً كما كانت جدّتي. كان بسرعة يغيّر رأيَه فيبلع الضحكةَ ويغلق فمه عليها مثلما فعل يوم تخاصمْنا على تحضير القهوة.
يومها كان الحرُّ شديداً، ليس مثل هذا اليوم البارد. وكان أبي يسبّ ويلعن الصيفَ وطقسَ الصيفِ وزَوَغانَ الرأسِ الذي يصيبه في الصيف، فخلع قميصَه لحظةَ وصولنا إلى منزل جدّي، ورمى به على كرسي، وجلس ينفخ أنفاسَه في الهواء، وعلى وجهه التعبُ والقرف. وكان جدّي جالساً على الصوفا المواجهةِ للشبّاك العريضِ، وبجانبه سْكَمْلَةْ عليها الراديو العتيقُ الذي يحبّه جدّي، وهو يفتل بمفتاحه بحثاً عن محطّة الأخبار.
كان مهووساً بالأخبار، كما كان يقول لي أبي. لم يجدْ جدّي محطّة الأخبار فَفَتَلَ المفتاحَ فتلةً عصبيّة، فذهبت الخشّةُ التي كانت تطلع من الراديو العتيق. جدّي التفت إلى أبي وقال هل تشرب معي القهوة، يا سامح، فهزَّ أبي برأسه ولم يقل شيئاً، لأنّ رأسَه كان يتكلّم بدلاً من فمه حينما لا يكون له نَفْسٌ على الكلام، من شدّة الحرّ.
إلتفتَ جدّي إليَّ وقال حَضِّري القهوةَ يا نينا لأنَّ جدّتكِ مريضةٌ اليوم. حضّريها كما حَضَّرْتِها لنا آخر مرّة. فَرِحْتُ بالطلب وإن لم أفرحْ بصوت جدّي اليابسِ الذي ليس كصوتِ جدّتي، وأسرعتُ إلى المطبخ فأخذتُ الركوة من الحائط وأخذتُ ملعقةَ القهوةِ وفتحتُ مرتبان البنّ ووضعتُ في الركوة ملعقتيْن، ثم فتحتُ مرتبانَ السكّر ووضعتُ في الركوةِ ملعقةً واحدةً، ثم رفعتُ إبريقَ الزجاج لأملأ الركوةَ بالماء، وإذْ بجدّي يدخل المطبخ وينظر إليَّ متأمّلاً في ما أفعله. لم يقل لي شيئاً ولم أقل له شيئاً، ولكنّه ظلّ واقفاً هناك ينظر إليَّ حتى وضعتُ الركوةَ على الغاز وبدأتُ أحرّكُ بالملعقةِ الصغيرةِ البنَّ والسكّرَ في الركوة، تماماً كما كان قد علّمني أبي أن أفعل. تنحنح جدّي واقْترب خطوةً منّي وقال إن القهوة لا تُحَضَّرُ بهذه الطريقة. قلتُ له هكذا علّمني أبي، فقال لا أنتِ ولا أبوكِ تعرفان كيف تُحَضَّرُ القهوةُ، فأوّلاً يجب أن يغلي الماءُ في الركوة ثم يُضافُ البنُّ والسكّرُ بعد ذلك، وليس العكسُ كما فعلتُ أنا. قلتُ له إنّني كلّ مرّة أحضّر القهوةَ هكذا، فقال إنّني لا أعرف أن أحضّر القهوة وأخذ من يدي طَرَفَ يَدِ الركوةِ، فابْتعدتُ قليلاً عن الغاز، وعيناي في وجهه تبحثان عن سبب جمود عينيه. قال لي أن أذهب وأجلس مع جدّتي وأبي، قالها بلهجة الأمر والجدّ، فهرعتُ باكيةً إلى حضن أبي أستفهم منه ما لم أفهمه من سبب غضب جدّي. قَبَّلَ أبي رأسي وقال لا بأس فأنتِ ستحضّرين لي القهوة حينما نعود إلى بيتنا في بيروت، وقالتْ جدّتي هَوِّني عليكِ يا جدّتي فجدُّكِ لم يغضبْ منكِ أنتِ، ولكنّه هو هكذا يغضبُ من لا شيء. وحينما عاد جدّي من المطبخ بالصينيّة التي تلمع، وعليها ركوةُ القهوةِ وفنجانا قهوةٍ بلا يديْن، كان فمه لا يزال مغلقاً فظلَّ فَمُ أبي مغلقاً، وكذلك ظلَّ فَمُ جدّتي.
سميّة
مكتوبٌ عليَّ انتظارُكِ في الموت كما كان مكتوباً عليّ انتظارُكِ في الحياة. سنواتٍ خمساً قضّيناها معاً يا أمّي في منزلي، ننتظر معاً حلولَ الموتِ، أنتِ تنتظرينه وتسألينَ اللهَ أن يحلّه عليكِ هيّناً لا مشقّةَ فيه، وأنا أنتظركِ في انتظارِكِ الضارعِ إيّاه، أُفلّي مثلكِ في الصمتِ ثنيّاتِ الليلِ والنهار. واليومَ، وقد أَذَّنَ الموتُ على انتظارِكِ بالموتِ، فها أنذا ملمومةٌ في مقعدي على الطريق أنتظر من بعدكِ نهايةً لانْتظاري. ساعةٌ من أجلِكِ ثم تنقضي، ساعةٌ أعود بعدها إلى البيت الذي خلا منكِ لأواجه ما كنتِ دائماً تخشينه عليّ بعد رحيلكِ. وما كنتِ تخشينه عليّ كثيرٌ كثيرٌ، وإن كنتِ تَحْجُرِينَ على أكثره في صدركِ العميق، فلا ينبئني بتموّجاته فيكِ إلاّ كآبةُ عينيْكِ وهما تغشياني في ساعاتِ سكوتنا الطويل، وإلاّ آهاتٌ منكِ وتضرعّاتٌ إلى اللهِ أن يحنِّن قلوبَ إخوتي عليّ بعد موتكِ، فلا يتركوني مقلوعةً من شجرةٍ، لا زوجَ ولا ولدَ ولا أمَّ ولا أب.
فَاطْمئنّي الآن في موتِكِ يا أمّاه ولا تخْشيْ عليّ منهم بعد اليوم شيئاً، فقد آن الأوان ليخشوا هم منّي على أنفسهم. فأنا بعد رحيلكِ اليوم لم يَعُدْ لديّ شيءٌ أخشى على نفسي خسارتَه، ولهم هُمْ كلُّ الذي لديّ ليخشوا على أنفسهم خسارتَه من بعدي.
كوني على ثقةٍ أنهم لن يرثوني غداً كما يرثونكِ اليوم يا أمّي، فأنا ما نسيتُ ولن أنسى السنواتِ العشرَ التي فلاّني فيها الصمتُ وفلّيتُه بعد رحيل زوجي والتي أهملوني خلالها وأمعنوا وتَمَادَوْا في تحسيسي أنني حشرةٌ منسيّةٌ من حشراتِ الأرض بدون عطفهم وحمايتهم. كما أنني ما نسيتُ ولن أنسى العمليّتيْن الجراحيّتيْن اللتيْن أُجْرِيَتا لي في تلك السنوات، وأنا مرذولةٌ في المستشفى، أنيسي وحدتي، تمازحني زوجاتُهم، إذا زُرْنَني على عجل رفعاً للعتب، بالقول أنّه كان ينبغي لي أن أخصّص هذا أو ذاك منهم بحصّةٍ أوفر عند الكاتب بالعدلِ من أصل مُلْكي، وذلك قبل إجراء العمليّة، فالواحدُ منّا، كما كُنَّ يؤكّدنَ لي، له أن يتأكّد أنّه سيدخل المستشفى، ولكنّه لن يتأكّد أبداً من أنّه سيغادرها حيّاً على قدميْه. ولقد غادرْتُ المستشفى في كلتا المرّتيْن حيّةً على قدميّ، فَبِئسَ المفاجأةُ لهم ولهنّ.
وموتُكِ اليومَ هو القشّةُ التي قصمتْ ظهري، لا ظهرَ البعير، قصمتْه وأوقدتْ عزمي ونيّتي على معاقبتهم بالحرمان من وراثة منزلي الذي ورثتُه عن زوجي ووراثةِ حصّتي من الإرث الذي تركتِه لنا اليومَ يا أمّي.
سأحرمهم، وحقِّكِ، غداً من هذا الإرثِ فأتنازل عن كلّ ما أملك لهيئةٍ ما في المدينة، هيئةٍ أعلم أنهم يكرهونها كرهاً جمّاً، فتكون خسارتُهم خسراناً مادّياً ولطمةً معنويّةً تحيلهم إلى أضحوكةٍ في أفواه المدينة. كما أنّ الحَجَرَ الذي سأرميهم به سيصيبُ كذلك المدينةَ ويحيلها إلى أضحوكةٍ في فمِ الزمان، صباحَ تستيقظ على النبأ الذي سيقلب كلَّ موازينها وأعرافها قلباً لن ينساه أحد. فَلْتتمرّغْ غداً في ما أضمره لها المدينةُ التي تنكر عليَّ مساواةَ حقّي بحقوقِ إخوتي في الميراث، والتي تنكر عليَّ حتى المساواة ببناتِ جنسي من المسيحيّات، فتستكثر عليَّ رغبتي في الخروج للمشاركة في تشييع أمّي وبرؤيةِ القبرِ الذي ستنزل فيه، والذي قد يكون عينَ القبرِ الذي سَأُشْرِكُها ذات يوم في ظلامِ ترابه.
ظلامُ ترابِهِ ولا ظلامُ ترابِ القبرِ الذي أودعوه جثّةَ أبي! فالْمَيْتَةُ التي ماتها المرحومُ عقب انْتقالِهِ إلى المستشفى بسبعةِ أيّام لا شك قد أفعمتِ الترابَ الذي انْحَلَّ فيه لحمُه وجلدُه وعروقُه بتشنّجاتِ الرعبِ التي رأيتُها تتزاحم على وجهه، قبل يومين اثنين من وفاته، وهو ينظر إلى باب الغرفة التي كان يشغلها فتتّسع عيناه وتجحظان مثل كرتيْن من نارٍ وتأخذه رعدةٌ جامحةٌ فيصرخ بي وبالممرضة أن نغلق الباب فلا نفتحه لأحدٍ أبداً. مَلَكُ الموت لعلّه جاءه في شكلٍ من الأشكال التي لا تألفها العينُ، يَعِدُهُ بِاقْتِرابِ أَجَلِهِ ويوعده بما كان في آخرِ سنواتِ عمرِهِ يخشاه، فأراه الموتَ قبل حلولِ الموتِ فيه، فَغَشِيَهُ الرعبُ الذي حفر في ملامحِ وجهه ملاحمَ من عذاب.
وجهُه ذلكَ اليومَ لا يزال ينبض في رأسي، ولو أنّه تعالى غَمَرَهُ برحمته بعد أن أذاقه ذلَّ الفناء، فأنا لن أجرؤَ يوم موتي على النزول عليه، وسأوصي بإنزال جثّتي على جثّة أمّي حيث الترابُ لا تعبق ذرّاتُه برائحةِ الرعب ولا تتردّد في ثنيّاته أصداءُ العذاب.
لؤي
حينما اقْتربَ الموكبُ من مستديرة مستشفى إيليّا ظننْتُ أنّه سينزلق صوب ساحة النجمة لينعطف يمنةً نحو الجامع الأخضر حيث الصلاة على جدّتي تُقام بعد الأذان، فحمدتُ ربّي ورأيتُ أنّ أفضلَ شيءٍ أفعله هو أن أنحرفَ بسيّارتي يمنةً وآخذ الأوتوستراد الشرقي لوحدي وألتفَّ، بعد دقائق، حول المستديرة التي تُدْخِلُني في الشارع الفرعيّ الذي يصبُّ في شارع رياض الصلح، تماماً عند زاوية جامع الشمعون، فأعبر هناك عَرْضَ الطريق وأتمهّل بمحاذاة الرصيف الأيمن للشارع ثم أتوقّف.
ولكنّهم خَذَلوني فَانْعطفوا بالموكب يمنةً وأخذوا الأوتوستراد الشرقي قبلي، فلم أرَ بدّاً من تتبّعهم حتى بلغتُ وجهتي، وها أنا ذا في مقعدي الآن أنتظر فراغَهم من الصلاة التي تسبقها خطبةُ الجمعةِ، بيني وبين موكبهم مسافةُ موكبٍ آخر، أتسلّى عن الوقت والصقيع بسيجارةٍ أدخّنُها بعد سيجارةٍ، ويدي الفارغة تتحسّس جلدَ المقعدِ تحتي وتضطربُ أصابعُها تحت المقعد، بِمَنْأىً عن عينيّ، فترتعش أناملُها من لسعةِ البرد الذي تبخّه اسْتدارةُ الزناد، ويسري فيَّ، صعوداً، شيءٌ كاختلاجةِ الروحِ، فَنَفَسي شهقةٌ وصدري ضغطةٌ من داخلِ صدري الكظيم.
أدخّن سيجارةً بعد سيجارة، وأشعل من آخرِ طرفِ الأولى أَوَّلَ طرفِ الأخرى، وأشقّ زجاجَ النافذةِ عَرْضَ إصبع لتنسرب إلى جوّ الشارعِ العبقةُ البيضاءُ، كأنّها مياهُ ساقيةٍ تجري في صمتٍ، أو كأنّه الروحُ تنسرب في صمتٍ من البدن، فتتلاشى في الجوّ، ويظلّ على حاله البدنُ فارغاً من الروح حتى يملأه الفناءُ. لو كانت تسمع جدّتي وتجيب لسألتُها ولأجابتْني، ولكن هيهات هيهات.
كانت تحبّني جدّتي، وكانت تدعو لي بالخير وتدعو لأبي بالتوبة عن معاصيه، ولكن لم يكن بيدها أن تعطينا ما كنّا نريده منها ونطلبه في السرّ، ونلحّ في طلبه في السرّ، نلحّ إلى حدّ الإلحافِ وهي تقول، وصوتُها محشرجٌ بالدمع، لن يرضى عنّي ولن يسامحني اللهُ إذا فعلتُ. فَلْتَقُـلْ لي الآن، وقد مات أبي من سنوات ثلاث وورّثني أخويْن اثْنيْن وثلاثَ أخواتٍ وأُمّاً ونفسي لأعيل وأشقى في إعالتهم، فَلْتَقلْ لي إذا كان يرضى الله عن شقائي، والستةُ أفواهٍ مفتوحةٌ في وجهي ليل نهار، وفمي، الفمُ السابعُ، فاغرٌ في الهواء من الخوف ومن حساباتِ المستقبلِ الذي وُلِدَ لي قبل ولادتي وجلس هناك ينتظرني على قارعة الغيب. ولقد التقيْنا وتعارفنا، أنا ومستقبلي الذي وُلِدَ في ماضي الغيب، أفضلَ ما يكون اللقاء وأبلغَ ما يكون التعارفُ، حميمٌ يلقى حميماً، وينبثُّ في أحدهما الآخرُ، ويبثُّ أحدُهما الآخرَ همساتٍ تظلّلها همساتٌ، ينسحب بعضُها فوق بعضٍ كما تنسحب السكّين على حدِّ مشحذ.
والورقةُ التي صارتِ الوعدَ بالغيب مطمورةً لا تزال في الظلام المحشور بين الخزانة والحائطِ، وأنا عابقٌ بالدخان في مقعدي، بعيداً عن موكب الموت مسافةَ موكبٍ آخر، أفكّر، ويعييني التفكيرُ، في وسيلةٍ للقائهم في المقبرة، على أعين الناس، دون أن يلحظوا لحظةَ وصولي، فأعزّيهم، على أعين الناس، مع المعزّين حين يصطفّون هم بعد الدفن في الممرّ الرحبِ المحاذي للقبرِ، ثم أنسلّ، في غفلةٍ عن أعينهم وأعين الناس، إلى سيّارتي التي سأوقفها وراء آخر سيّارةٍ في الموكب، وفي الإتجاه المعاكسِ لإتجاهِ الموكبِ، لأنطلق عنهم بعيداً قبل أن يمسكني على الحديث منهم أحد.
ينفتح فمي فجأة وترتجّ عينايَ على الرأس الذي يشبه رأس عمّتي، يتحرّك أمامي هنالك في السيّارة التي رأيتُها من قبل، لحظة انطلاقي وراءَ الموكب، فتضطرب أصابعُ يسراي وترتعش أناملُها من لسعةِ البرد الذي تبخّه تحت مقعدي الجلديّ اسْتدارةُ الزناد.
أبو محمود
لا أنا اليومَ أعرفهم ولا هم يعرفونني. كلُّ ما أعرفه أنهم الآن في الجامع يقفون وراءَ نعش أمّهم يصلّون عليها صلاةَ الوداع، تماماً مثلما وقفتُ أنا أمس وراءَ نعشِ أختها أصلّي عليها، مودِّعاً إيّاها ومعتذراً إليها عن تقصيرنا في تبليغ أختها أمّ كسّاب بنبأ موتِها لعلّها تأتي فتودِّعها الوداعَ الأخير، بعد ذلك الوداعِ الذي كان بينهما منذ نيّف وثلاثين عاماً، معتذراً إليها بجنون العاصفةِ التي عصفتْ والسيلِ الذي أرسلتْه السماءُ مدراراً فَدَهَمَنا ودَهَمَها قبل الموت، ثم حالَفَنا ونحن في الطريق للصلاة عليها في جامع البلدة العتيق، ثم لازَمَنا حتى فتحْنا في المقبرة الجديدة قبراً جديداً ووضعناها فيه على عجلٍ، على حصى وترابٍ مبلّلٍ بالمطر الذي أبى أن يرحمنا أو يرحم الجثّة.
إنَّ لله حكمةً في حالةِ اليسر كما في حالة العسر، ولم نطّلعْ على حكمته إلاّ مع طلوع الصباح على نبأ الموت يأتينا من البيت الذي كان علينا أن نبلّغ أهله صباح اليوم بنبأ الموت، وقد كان زارنا قبل أن يعرّج عليهم بعد منتصف الليل.
اليوم يجتمع شملُكِ يا زوجتي بشملِ أختكِ فتتمدّدان جنباً إلى جنب، كلٌّ في غرفةٍ من الأرض لصيقةٍ بغرفة الأخرى، تتسامر روحاكما وتأنس إحداهما بالأخرى فتسترجعان العمرَ السحيقَ الذي أمضيتماهُ معاً في منزل والديْكما قبل الزواج، ثم تستذكران العمر اللاحق بعد الزواج والمشاكلَ التي كان يفتعلها المرحومُ ليدفعنا إلى العزوف عن المجيء للزيارة، حتى نجح آخرَ الأمر في مسعاه، رحمه الله، فلزمنا بيتَنا رحمةً وإشفاقاً.
ولقد عرفتُهم، حين عرفتُهم، صغاراً، والآن كبروا، وكبرتُ أنا، ولعلّني نظرتُ إلى موكب الجنازةِ فرأيتُهم جميعاً ولم أميّز من بينهم وجهاً أعرفه. ولعلهم جميعاً نظروا في وجوه المواكبين للجنازة ووجوهِ المنتظرين ببابِ الجامع ورأوني ولم يميّزوني، فمررْتُ في عيونهم مَرَّ الغريب أو عابرِ السبيل، وأنا غريبٌ بلا ريب، وعابرُ سبيل، أتمشّى على رصيف الجامع منتظراً خروجهم بالنعش لأواكبهم إلى المقبرة حيث ينزلونها في حفرتها التي ستكون لِصْقَ حفرةِ زوجتي، فأودّع الراحلتيْن وداعاً واحداً، ثم آخُذُ بخاطرِ الذين سيصطفّون لتقبّل التعازي وأبتسم بحزنٍ في سرّي لأنهم، وقد عرفتُهم أخيراً، لن يعرفوني، ثم أمضي عنهم بعيداً بعيداً حتى يجمعنا في يوم آخر موتٌ آخر.
أبو سليم
طبيبُ الصحّة الذي أكَّدَ الخبرَ آنذاك، كان آنذاك لا يزال في مستهلّ شبابه. وممّا لا ريب فيه أنّه لا يزال، على تقادم العهد، يذكرُ صبيحةَ ذلك اليوم الأسود الذي أكَّد فيه الخبرَ لأهل الراحلة، فتماوجتْ بأصداء الخبر الجدرانُ والأزقّةُ والمنعطفاتُ في المدينة القديمة، ثم ما عتمتْ أن اسْتحالت تلك الأصداءُ إلى همساتٍ ووسوساتٍ ظلّتْ تكْثُفُ وتشتدّ حتى انْفجرتْ بدورها شهقاتٍ اسْتفاقتْ عليها المدينة.
أو هكذا ارتسمتْ لي صورةُ ذلك اليوم.
ذلك اليومَ، كنتُ لا أزال صبيّاً في الثالثة عشرة من العمر أو دون ذلك بقليل. وكان ذلك يومَ عطلةٍ يسترخي فيه بدني وأتلذّذ بإغفاءةِ الصباحِ التي كان يحرمني منها النهوضُ باكراً في صباحاتِ المدرسةِ الأخر. وكان من دأبي أن أتنصّتَ إلى الحديث الذي يخوض فيه أبي وأمي ساعةَ ارْتشافهما القهوةَ، فيبلغني بعضُه وأتمّم أنا البعضَ الآخر الذي غالباً ما كان يتلاشى، من خفوتِ صوتيْهما، في الفراغِ العميقِ، أو يتغافى في حضنِ زاويةٍ من زوايا الغرف.
صوتُ أبي كانت تكتنفه نغمةٌ لم أكن أعهدها فيه من قبل، نغمةٌ يسكنها الغموضُ، تتماوج ذبذباتٍ عميقةً تارة وتنخطف تارة انْخطاف شفرةِ سكّينٍ على مشحذ. أذناي انْفتحتا أكثر، تتسقّطان خيوطَ النبأ المريع الذي كان أبي يقصّه على أمي، بينما فَمُها يقاطعه بالآهةِ والشهقةِ والنفَسِ العميق. ولم أعرف كيف طردتُ النعاسَ وفتحتُ عينيَّ وانْسللْتُ من الفراش واتّجهتُ إلى حيث الراوي يروي والمستمعةُ تشهق وتتأوّه. كلّ ما أذكره أنني وقفتُ قريباً أنقّل عينيّ بينهما، وهما ينظران إليّ لحظة ثم تتداول عيونُهما فيأمر مثولي بين أيديهما باكراً على غير عادة. ولمّا فَطِنا إلى أنني اسْتمعتُ إلى القصّة كلّها وتأكّدا أنّ الخوف وحده هو الذي بعثني من الفراش، أخذا يخفّفان من خطورةِ الأمر ويلطّفان النبأ بالقول أنّ ما نقله الجارُ لأبي لا يزال في حيّز القصّة التي لم تتأكّدْ بعد، والتي قد لا تعدو كونَها مجرّدَ إشاعة.
وبالرغم من كلّ الكلام الملطّف المهدّيء الذي تفضّل به أبي، فقد ملكني شعورٌ خفيٌّ أنه في أعماق أعماقه كان مشغولَ البالِ تساوره التساؤلاتُ والهواجسُ. ولذلك رأيتُني أصرُّ على الخروج معه ذلك الصباح بحجّة أنني أريد أن أشمّ الهواء قليلاً قبل مذاكرة دروسي. وهكذا كان. وكان بعد ذلك ما كان خيالي يلحّ عليَّ بمعاينته واسْتقصاء سرّه. إلتقيْنا في الطريق بمعارف لأبي وجيران ماضين إلى أعمالهم، ومع كلّ لقاءٍ كان الحديثُ المسكونُ بالغموضِ يتردّد على الشفاه، وتتلوّى في الجوّ أمام عينيّ خيالاتٌ وأشباح. وكان عددُ الناس يتزايد مع كل منعطفِ زقاقٍ حتى خُـيِّـلَ إليّ أنّ الناس كلّهم كانوا على اتّفاقٍ سريٍّ مُسْبَقٍ على اللقاء والمضيّ معاً في نفس الإتجاه. والإتجاهُ ذاك كان يؤدّي ، كما تهيّأ لي، إلى المقبرة حيث كان طبيبُ الصحّة قد أكّد، باكراً، لتلك العائلة، النبأَ الذي اسْتفاقتْ عليه المدينة. تخلّفْتُ عن أبي بضع خطوات لعلّه ينساني فلا يأمرني بالعودة إلى البيت، فتحقّقتْ أمنيتي، وظلَّ أبي منجرفاً مع الآخرين قُدُماً قدماً حتى دخلوا جميعاً، ودخلْتُ وراءهم، بوابةَ المقبرةِ العتيقة. وكأنّما سِحْرٌ حَلَّ عليهم فجأةً، غمرتْهم فجأةً سكتةٌ ملأتِ المكانَ بفراغٍ ووحشةٍ مهيبتيْن.
أمام القبرِ المفتوح، تحت واحدةٍ من الشجرات الظليلةِ، تحلّق الجميعُ وغرزوا عيونَهم في الحفرةِ التي قال نبأُ الصباحِ إنَّ المرأةَ التي دُفِنَتْ فيها عصرَ اليومِ الفائت، كانت قد أفاقتْ من موتها في الليل ومزّقتْ كفنَها في غمرة الرعب والهلع، وأنّ ابْنتها التي رأتْها في منامها تمزّق الكفنَ وتصيح بأنّهم دفنوها حيّةً هي التي هرعتْ مع الفجر إلى منزل الطبيب وأرغمتْه على الأمر بفتحِ القبرِ لتتأكّد من مَدَى صحّةِ الحلم الذي حلمتْه في ساعات الفجر الأولى. كلُّ ذلك كان يضجُّ في رأسي، وأنا أختلس الخطى خلف جمع الرجال. وأخيراً، من خلال فرجةٍ ضيّقةٍ بين رجليْن، أرسلْتُ نظرةً متردّدةً إلى قاع الحفرة فرأيتُ الجثّةَ تتلوّى وتتعصّر، وتلفّ وتدور، وتنقلب في الحفرة على ذاتها، ثم تخرج من جوانب الكفنِ أصابعُ ترتعش فتمزّق جوانبَ الكفن وتوسّع شقوقَه، حتى طَلَعَ الرأسُ من الشقّ الأعلى بفمٍ فاغرٍ وصوتٍ مغلولٍ بالرعبِ، مكتومِ النبرةِ، كما صدى الصرخةِ في الحلم.
سميحة
للفجرِ ركعتانِ اثْنتان يَؤمُّ المصلّين في صلاتها الإمامُ ويختم بالتسليمِ على الملائكة يميناً ثم يساراً، ثم ينهض المصلّون فُرادى يؤدّون كلٌّ ركعتيْن سنّةً سنَّها الرسولُ لتكون على المصلّين بركةً ولتضاعف من كسبهم الحسنات. والإمام لعلّه من غبشةِ النعاس قد غَفِلَ أو لعلّه شَرَّدَ ذهنَه البردُ فخاض بدل الصلاةِ في خطبةٍ أشبه ما تكون بخطبةِ الجمعة التي لا تُقال إلاّ عند صلاة الظهر فاخْتلط عليه الظهرُ والفجرُ، فسبحان الذي لا تغفل له عينٌ ولا يشرّد ذهنَه بردٌ أو صقيع. والأدهى من ذلك أنّ المصلّين، مثل الإمام، لم ينتبهوا إلى أنّ الإمام اختلط عليه فينبّهوه، بل لعلّهم انْتبهوا وناموا عن الأمر حتى لا يحرجوه، فكأنّما في الدين حرجٌ، أو كأنّما الصوابُ أن يتركوه في الغفلة يفعل الخطأ لأنّه الإمام ولا يتحرّجوا من الله الذي خلقهم وخلق الإمام.
يخوضُ في الخطبةِ غافلاً عن أنّه الفجرُ ويقول الموتُ حقٌّ والبعثُ الوعدُ الحقُّ والحياةُ الدنيا لعبٌ ولهوٌ كالرحلةِ يرحلها الإنسانُ من طرفٍ من الترابِ إلى طرف من التراب آخر والرحلةُ طالتْ أو قصرتْ فهي مشرفةٌ على النهاية اسْتعجل ذلك الإنسان أم اسْتبطأه والموتُ الذي منه الولادةُ الأولى منه الولادةُ الثانيةُ التي هي البعثُ فهو المعبرُ الدائم المعبرُ من خشوعِ الترابِ إلى نبضةِ الجسد والمعبرُ الذي يعبره الجسدُ إلى خشوع الترابِ حيث تختنق النبضةُ في هجعةِ العدمِ لترتجّ يوم البعث بالتراب وتنشيء الجسدَ بإذن الله النشأةَ الأخرى يوم تتشقّق القبورُ عن ساكني القبورِ ويَنْسُلُ الناهضون لملاقاة ربّهم فمنهم يومئذ شقيٌّ وسعيد.
إذا ظلّتْ سميّة غارقةً في النوم على غير عادة سميّة في مثل هذا الوقت، فستحرمني سميّةُ من صلاة الفجر وتهجّرني عن السعادة التي هي كلّ ما أبقاه لي ذلُّ الكِبَر. يدي مخدّرةٌ بالنعاس فكأنّما أصابها النعاسُ كما كان يصيب رِجْلي فأجرّها على الأرض جرّاً، لا أكاد أطأ بها الأرض حتى تتضعضع تحت ثقل بدني، على رقّةِ بدني، فأتّكيء بيدي على الحائط أو الكرسي أو أي شيءٍ قريبٍ في متناول يدي حتى لا أقع فأكسر عظماً في بدني الذي لم يُبْقِ لي منه الليلُ والنهارُ إلاّ الواهنَ من عظم الكبرِ يتلطّى بتجعّدات جِلْدٍ صَيَّرَه الليلُ والنهارُ مثلَ ترابِ البستانِ بعدما ينكشه البستانيُّ ويهيّئه للريّ.
يقول سواءٌ انتظرْنا الموتَ أم لم ننتظرْه فإنّه الحقُّ الواقعُ حقّاً وانْتظارُه في العبادةِ والعملِ كفاحٌ ورأسُ العملِ والعبادةِ الشهادةُ التي هي سُلْفَةُ العبد لله خالصةً يرفعها إلى الله فيحظى بمنحةِ الغفرانِ الذي هو الفوزُ خالصاً قرضاً يُقْرَضُ لله خالصاً فيوفّيه خالصاً إليه اللهُ الذي وحده يوفّي ويستوفي ووحده الذي يأمر عبده بالجهاد ويقول.
ولأننا في عزّ الشتاءِ وفي عزِّ البرد، فقد صار للّحافِ رائحةٌ كرائحةِ العَطْنَةِ، مع أنَّ عَبَقَ الياسمين يعبق في نسمةِ الفجر فيُنْسي الهواءَ رائحةَ العَطْنَةِ ويُنْسي كذلك أنفي، فالرائحةُ في ذوبانٍ واضمحلالٍ ما عَبَقَتْ بعبقةِ الياسمين النسمةُ التي ما تفتأ تأتي بدورها وتروح، وتضمحلّ وتذوب، ثم تَفْجُرُ ثم ترعوي فأنفي مرّةً يُبَلِّلُ بالإنشراحةِ صدري ومرةً يقبضه بعطنةِ النفَسِ الملبَّد في خيوطِ اللحافِ الذي يزيده على وزنه الثقيل زِنَةً يرزح تحتها على الوهنِ بدني.
يقول ما خَلَقَ تباركَ وتعالى الإنسَ والجنَّ إلاّ ليعبدوه والصلاةُ والصيامُ والزكاةُ والحجُّ أركانُ العباداتِ بعد شهادةِ التوحيد لا مِرْيَةَ في ذلك فمن تشهّد ثم أقام الصلاةَ وصام رمضانَ وأدّى الزكاةَ وحجَّ إلى بيت الله الحرام كان كلّ ذلك عند ربّه مشكوراً يُثابُ عليه على قدر ما يشاء صاحبُ المشيئةِ غير أنّ العباداتِ هذه ليست بالشيء إذا قيستْ بميزانِ الشهادة التي تُبْذَلُ فيها الروحُ خالصةً لإعلاء كلمةِ اللهِ في الأرض ولصوْنِ كرامةِ الإنسان الذي اسْتعمره الله في الأرض ليقدِّسَ لإسمه فيها ويسبّح فيها بحمده وكيف يُقَدَّسُ لاِسْمِ اللهِ ويُسَبَّحُ له على أرضٍ اسْتباح شطرَها الجنوبيَّ يهودُ الزمان.
وما الذي ذَكَّرَهُ الآن برمضانَ، ورمضانُ يحلُّ في أوائل آذار، ونحن لم يحلَّ علينا بعد شباط؟ لعلّه يتذكّر رمضانَ ليذكّرني بضعفِ بدني وعجزي عن الصيامِ، وأنا الآخذةُ الأدويةَ السبعةَ كل يوم كل يوم كلّ يوم، تناولني إيّاها سميّةُ الواحدَ بعد الآخر، من بعد الفطور وقبل الغداء وأثناءه وبعده وعند العشاء وقبل النوم، وصدرُها يحشرج من أثر التدخين، وأنفاسُها تطلع من صدرها ولها مدّاتٌ ونهنهاتٌ تخبّر بضيقِ الصدرِ وثقلِ الضجر، فأرخي إلى الأرض عينيّ وأدعو لها بطول البال وأقول.
يقول الجنوبَ الجنوبَ ترابُه دنّستْه الرياحُ يهوديّةً تهُبّ من خلفِ الشريطِ شريطاً من الذلّ يلتفّ على الرقاب التي ترتفع بالتقديس لله والتسبيح بمجده فلْيكنْ سلاحَ المسلمين الأذانُ والصلاةَ أنفاسُهم تهبّ محمديّةً على ذلّةِ الشريطِ والزكاةَ دماؤهم المعتّقةُ بالفجر والحجَّ طوافُهم بمسجدِ القدسِ ولتجدنّ أشدَّ الناسِ عداوةً للذين آمنوا اليهودَ ثم اليهودَ ثم اليهود.
التشّةُ لا تزال تتشّ ببدني، وعيناي باركاً عليهما لا يزال النعاسُ وغبشةُ الفجر، وقربي سميّة لا تزال تغطّ في النومِ كأنّما نزل ضغطُها، وهو الذي يطلع أكثر مما ينزل، فَأذْبَلَ همّتَها ورَخْرَخَ بدنَها فهي لا تزال تغطّ في نوم عميق.
يقول وأعدّوا لهم ما اسْتطعتم من قوّةٍ ومن رباطِ الخيلِ ترهبون به عدوَّ الله وعدوّكم.
أقول لسميّة الوعدُ لي منكِ أن تخبريني متى جاء شباطُ أنه جاء فتقول الآن عُدْنا إلى نغمةِ العذابِ العذابِ العذاب.
صوتُ المؤذّن الآن يبدأ من جديدٍ ويقترب أكثر فأكثر، فكأنّما المؤذّنُ نزل من على المئذنة وكأنّه من سريري على بعد خطوات. والهمهماتُ انْخمدتْ وحتى الأنفاسُ انْقطعتْ، فهل عجّلوا بالذهاب وتركوا المؤذّنَ وحده من سريري على بعد خطوات؟
يقول قد قامتِ الصلاةُ قد قامتِ الصلاةُ، إذنْ فالصوتُ الذي من سريري على بعد خطوات يقيم الصلاةَ الآن فقد ردّد الإقامةَ مرّتين اثنتين، وإذنْ فالمصلّون لم يعجّلوا بالرحيل وهم الآن يصطفّون صفّاً صفّاً لِتُؤَمَّ فيهم صلاةُ الجماعةِ فيكسبوا الأجرَ مضاعفاً سبعاً وعشرين مرّة، فهنيئاً لهم الأجر يكسبونه مع الفجر ويستفتحون به يومَ الجمعة الذي تعبق في أنفي وفمي ووجهي منه رائحةُ الياسمين.
يقول ولا تحسبنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون.
أقول لها أوَّلَ الليلِ ماذا غدٌ، فتقول غدٌ الجمعةُ، فأقول بسرّي، حتى لا ينْبُرَ صوتُها وتستفسرني سببَ القولِ، أقول، وأنا عيناي تنهضان إلى السقف الذي خلفه اللهُ، هَوِّنْ عليَّ نهارَ غدٍ يا ربِّ، ثم أعيد القولَ هَوِّنْهُ عليَّ يا ربِّ، ثم أدعولها بطول البالِ وأقول.
أبو طاهر
كأنّه ليس في جنازةِ أمّه. أو كأنّه يجلس في سيّارةِ سرفيس ينتظر أن تمتليء بالركّاب لتمضي به وبهم إلى وجهتهم في مكانٍ ما من هذه المدينة أو ضاحيةٍ ما من ضواحيها. يجلس في السيّارة وحده بعدما اضطرب الآخرون إلى داخل الجامع للصلاة على الراحلة ولكسب حسناتِ صلاةِ الجمعة التي يحتال الناسُ على أعمالهم صبيحةَ الجمعة فيصرموها أو يختصروها أو يؤجّلوها أو يلغوها إلغاءً تامّاً لا رجوع عنه، طمعاً بالثواب المضاعف في الغيب مرّاتٍ لا يعلمها إلاّ الله. يُضاعَفُ الثوابُ للمصلّين، وهو من داخلِ الزجاجِ تسيح عيناه في الطريق إلى آخر ما تبديه لعينيه الطريقُ، وإلى أبعد ما تبديه الطريقُ، كأنه راحلٌ عبر الزجاجِ رحيلاً لا رجوع بعده.
أمٌّ مسلمةٌ تموت في مدينةٍ مسلمةٍ، تموت، ويجلس ابْنُها في مقعده من السيّارة، لا عيناه ترتدّان إلى باب الجامع حيث المصلّون يصلّون على أمّه ولا أذناه تُؤْخَذَانِ بخطبةِ الجمعة!!
خطبةُ الجمعةِ يجرِّح وَعْدَها الصقيعُ، مضمِّخاً صولةَ الريحِ العاصفةِ من الشمال بوهجِ الوعيدِ، تحمله في رحيلها الريحُ جنوباً إلى ما وراء حدودِ الصامدِ الجنوبِ، جنوباً جنوباً إلى قلبِ السليبةِ الأرضِ.
أمٌّ مسلمةٌ تموت ويصلّي عليها المصلّون ظهر الجمعة، وابْنُها جالسٌ في مقعده من السيّارة، لا تحرّكه جثّةُ أمّه في النعش فينتفضَ ويقرعَ بقدميه الرصيفَ من أوّل حدود الجامع إلى آخره ومن آخره إلى أوّله حتى يخرج المصلّون بالنعش فيهرع إليه بيدين خاشعتيْن ويحمل مرّةً تلك التي حملتْه تسعاً. لا، ولا هو يزجره ذِكْرُ الموتِ الوافدِ إلينا من وعدِ السماوات أبداً والراحلِ بنا إلى حفرِ الترابِ أبداً فترتعشَ عيناه وترتدّا إليه وإلينا من آخر الطريق ومن أبعد من آخر الطريق.
كأنّه ليس في جنازة أمّه.
سامح
في العقدِ الثالثِ من عمرها كانت يومَها، وهي لا تزال، ولم أكن يومذاك أعرف سرَّ هذا العقدِ في حياةِ المرأةِ، وقد هذَّبَ جسدَها حسنُ الرعايةِ وألَّفَ بينه وبين أثوابها سرٌّ كسرِّ ائْتمان الصدفةِ على لؤلؤتها. كنتُ إلى حضورها منجذباً، تماماً كانجذابي إلى تخيّلها أيّامَ تغيّبها الستّة. فقد دَرَجَتْ على السهر في مطعمنا مع أفراد عائلتها مساءَ كلّ أحدٍ، فصلاً من الزمان تلوَ فصلٍ تلوَ فصل. وكان حليفَ جسدِها في سهراتها تلك اللونُ الأسودُ، فكأنّما ابْتُدِعَتْ خصّيصاً للّيل.
ومع أنّها اخْتارت مجلسَها تلكَ الليلة إلى طرفٍ من الطاولة يأذن لها بالحركة إذا شاءتْ، وبالنهوض إذا هَمَّتْ، فقد لزمتْ مكانَها ساعةً كأنّها الدهر. ولساعةٍ كأنّها الدهر ظَلَّ انْتصابُ قامتِها وعداً في ذبذبات الهواء.
ولم يكن السكون قد التزمتْ به مقلتاها. فبين عبارةٍ وعبارة، أو طرفةٍ من الحديث وأخرى، كان بياضُ عنقها يلتمع بالتفاتةٍ ماكرةِ العفويّةِ وتمرّ عيناها مروراً أشبه بالصدفةِ ناحيةَ الطاولةِ التي التَفَّ حولها أبي وأربعةٌ من نداماه. ولم يكن أبي شحيحاً في شيء. كانت يداه حديثاً وشفتاه حديثاً وعيناه نهراً من أحاديث. وكانت هي تلتقط من كلّ ذلك ما تهواه. وكان أكثرَ ما تهواه ما كانت هي موضوعه ومنتهاه.
ولمّا انْقَضَتِ الساعةُ التي كأنّها الدهر، وارتفعتْ كأسٌ واتّـكأتْ أخرى على شفتين، نهضتِ المرأةُ تلك من مجلسها، فَسَرى قوامُها نَغَماً في عيون الليلِ والرجال. نَقَلَتْ قدميْها، أو لعلّها انتقلتْ بها قدماها، حتى بَلَغَتِ الزاوية التي اسْتقرّتْ فيها منضدةٌ عليها هاتفٌ فاحمُ اللون. أدارتِ القرصَ وأدارتْ معه الزمنَ. تحدّثتْ واستمعتْ. تجهّمتْ وابتسمتْ. وفي كلّ حالاتها كانت نداءً خفيَّ الأصداء سمعتُه كالهذيان في عينيْ أبي.
وكان في أبي من ضجّة الجسدِ ومن غَمَراتِ العينِ ما يكفي لإثارة التساؤلِ حول نيّةِ الخالقِ في خلقه. فحتى ذلك العهد، لم أكن قد رأيتُ عينيْ رجلٍ تدمعان من الشهوة مثل عينيه. ذلك المساءَ كانتا بركتين من الجمر تنتحبان على أطراف تنّورتِها – ذلك الأفق الذي رقَّ كَشَفَةٍ واسْتَدارَ كحيْرةِ عَيْن.
الفصل السادس
- جهّار
- سميّة
- أبو طاهر
- إسماعيل
- كسّاب
- سميحة
- سامح
- نينا
ومن ماليءٍ عينيه من شيءِ غيرِهِ
إذا راح نحو الجمرةِ البيضُ كالدمى
عمر بن أبي ربيعة المخزومي
فقط في خيال الناس يُتاح للحقيقة أن تعبّر عن وجودها
الفعّال.
جوزيف كونْردْ
جهّار
جاهرتُ برغبتي ثم جاهرتُ حتى أذِنَ لي خَزَنَةُ الموت بالهجرة اليوم باكراً عن حافّة قبري سَرْحَةً من الزمن أسَوّحُ فيها في المقبرة وخارج حّدِّ السّور إذا ما شئتُ، سَرْحَةً أنقلب بعدها فأحوّمُ، كما كان دأبي، على مسافةِ روحٍ من ذرّات جثّتي التي عبثتْ أنفاسُ الفناءِ بها طويلاً.
لم أقلْ لهم وجهتي ولم يسألوني، فتحيّنتُ لحظةً لانْفلاتي وَسَرَيْتُ، على أعينهم، مَسْرَى الريح، فَبَلَّغَتْني الريحُ الطرفَ الجنوبيّ للسور، فانحسرتُ، وقد انحسرتْ عيونُهم عنّي، فانْسربتُ إلى داخل نفسي وتتبـّـعتُ حائطَ السور في انخفاضه الوئيد، شمالاً شمالاً، حتى بلوغه الزاوية التي تنعطف به نحو الغرب، فتمهّلتُ وطالعتُ المكانَ فانفتح أمام عينيّ المفرقُ الذي ينشقّ من شارع رياض الصلح ويمضي غرباً فيعبر سوقَ الخضار الجديد وينحدر صوب الغابر من أبنية المدينة لينتهي دونها ببوّابة المقبرة القديمة.
على ارتفاع روحٍ من حافّة السور أوازن نفسي في الريح مع قوّة الريح وأتَرَصَّدُ موكبَ الجنازة الذي أهجس بِانْطلاقته الآن وئيداً من الجامع الأخضر حيث صلّوا عليّ من سنين قبل صلاتهم فيه عليها اليوم، أترصّدهم لأنبّئهم بإرادتي التي تغافلوا عنها وأغفلوها، فكلُّهم كلُّهم خرج عن طاعتي، وكلّهم كلّهم نَكّل بإرادتي، وها أنتِ اليوم، يا سميحةُ، تشقّين عصا الطاعة فترحلين إلى مقبرة أخرى بعيدة عن مقبرتي أنا لِتُوارَيْ في حفرة غيرِ حفرتي، وأنا الهاجعُ في زمنِ الموتِ الذي لا زمان له، أنتظر لحاقَكِ بي وأناديكِ بأصداء الصمتِ أن تحثّي النيّةَ على اللحاق بي، سنينَ سنينَ من زمن الموت، لتفكّي وحدتي التي لم يفكّها لي، صبيحةَ وَجَبَ الفكُّ، لا زيارةٌ منكِ لي، يا سميحةُ، ولا زيارةٌ من أولادكِ الذين جشّموا طاعتي الثكلَ، في الحياة كما في الموت، فلعنتي اليوم عليهم جميعاً، إلاّكِ أنتِ، لأنّكِ عمّا قريبٍ سَتُلْمِحين إليهم خلسةً من خلال كفنكِ أن يَعْدِلوا عن طريق الجنوب وييمّموا شطرَ الغربِ، غرب صيدون، حيث المقبرةُ التي تكتظّ بصيدون من أوّلِ ذيّاكَ الزمان.
سميّة
يقول تَحَرَّكَ الموكبُ الذي يراه هو ولا أراه أنا، ويُعيدُ عليَّ القولَ، ثمّ يحكُّ يُمْنى أذُنَيْه ويلتفتُ برقبته الغليظةِ نِصْفَ الْتفاتةٍ إلى الخلف، تستطلع عينيَّ عيناه، فأحدّقُ مرّةً أخرى في صفّ السيّاراتِ المرصوفةِ أمامنا واحدةً خلفَ الأخرى بمحاذاةِ الرصيف، لعلّني أبصر من خلال زجاجها طرفَ الموكب يتحرّك ويغيب عن بوّابة الجامع التي أتخيّلها ولا أراها، وَإِذْ يملأني اليقينُ أنني لن أبصرَ الطرفَ الأخيرَ لموكبِ الجنازة، أشدّ على حنجرتي وأبلع ريقي وأهُمُّ بفتح فمي لأقول له أن يلحق بالجنازة على مهل ويظلَّ بعيداً عنها قَدْرَ المسافةِ التي كانت تفصلنا عنها منذ انطلاقنا خلفها، إلاّ أنَّ شفتيَّ تشدّ على إحداهما الأخرى فيوحي إليه رأسي أن ينطلق، يوحي إليه بِإيماءةِ الحرباء التي اسْتعارها من رأسِهِ رأسي.
رؤيةُ الموكبِ الذي أمامنا تَتَّضِحُ الآن لعينيَّ وقد انْحرفتْ بنا السيّارةُ عن حافّةِ الرصيف وانْسابتْ إلى منتصف الشارع تاركةً إلى يميننا صفَّ السيّارات التي لا تزال مرصوفةً على امْتدادٍ من خلفنا طويلٍ وامتدادٍ من أمامنا مِثْلِهِ يُنْبيءُ بغزارةِ المصلّين الذين توافدوا إلى الجامع الأخضر وجامع الشمعون لأداءِ صلاةِ الجمعةِ فَصَلَّى بعضُهم على جثّةِ أمّي ولم يعرف بموتها مُصَلّو الجامع الآخر.
تتضح الرؤيةُ لعينيَّ وهُما تَعُبَّانِ المسافةَ التي بيننا وبين بوّابة الجامع، فأرى الناسَ، ها هُمُ الناسُ، لا يزالون يحتشد بهم ضَيِّقُ الفناء وينسربون واحداً واحداً، أو اثْنين اثْنين، أو ثلّةً ثلّةً، أو كيفما اتَّفق، ينسربون من البوّابة إلى رصيفِ الشارعِ الذي يُسْلِمُهُمْ ونواياهم إلى نيّةِ الريح التي تعبث بمعاطفهم وسراويلهم وتوسوس لهم بالعجلة التي منها خُلِقوا فتتسابق بهم خطاهم إلى سيّاراتهم أو إلى الطرف المقابلِ للشارع حيث تبتلعهم مَداخِلُ البناياتِ أو تكتمهم عَطَفاتُ الأزقّة.
والريحُ تشتدُّ وتَرْخى، وتَدُورُ على نفسها، فتصفع الرصيفَ والشارعَ وأعمدةَ الكهرباء، فيعتكرُ مزاجُها بما يتطاير في ثَنِيَّاتِها من الورق وأكياسِ النايلون الفارغةِ، ثم لا تلبث أن تنساب محلِّقة في الفضاء، ناسيةً كَدَرَها مطروحاً في الزاوية التي يؤلّفها الْتِقاءُ الشارع بالرصيفِ. الريحُ لا تَعْبَأُ بالبردِ، حرّةٌ كالطير، فلعلّ جناحيْها نيّتان من نوايا الله. وإن يكنْ ذلك كذلك، فما الذي تنويه لي بعد رحيلِ الراحلة، يا اللهُ، وأنا التي رضيتْ بالأسْرِ من أجلها سنواتٍ خمساً، سنواتٍ جرّرتْها قدماي بين الغرفةِ التي تجلس فيها هي على الصوفا خلال النهارِ والمطبخِ الذي أطبخ لها فيه الطعامَ بنصفِ ملحِ ثم بلا ملح حسب مشورةِ الطبيبِ، أطبخ لها كلَّ يومٍ كلَّ يومٍ كلَّ يومٍ، وكلانا يُفَلّي الليلَ والنهارَ بانْتظارِ دقّةٍ على الباب أو خفقةِ نعلٍ يخفق لها قلبانا، والريحُ من خلف النوافذ والأبواب تنوح في زمن الشتاء الذي لا زمان إلاّ هو، نُفَلّي الليلَ والنهارَ، وأبناؤها الرجالُ، الذين هم إخوتي، يا الله، خلف أبوابهم يصطلون ألفةَ العشيرِ والولدِ اللذيْن حرمتَها وحرمتَني منهما فَأطَلْتَ بذلك علينا زمنَ الشتاء؟
غفرانَكَ اللّهم لا تأخذْني بما قلتُ وبما سأقول فلقد ركعتُ من قبل وسجدتُ سنينَ طويلةً بعد رحيل زوجي وتعلّمتُ الصبرَ في ترداد الصلاةِ من غبشةِ الفجرِ إلى غَطْشَةِ العشاء، ولم أكن أحسب أنَّ القدر يخبّيء لي بعد وفاة أبي ذلَّ الأسرِ في خدمة التي ترحل اليوم سنواتٍ خمساً، يا اللهُ، تعرفها أنتَ بكل ما فيها من الوحشةِ والقسوةِ، تعرفها وحدكَ أنتَ لأنّكَ أنتَ الشاهدُ الوحيدُ عليها وعلى ما أقول، أفليس ذلُّ الأسْرِ وخدمتي للراحلة بديلاً، في جلال عينيْكَ، عن الصلاةِ التي تركتُها منذ أن انْتقلتْ إلى منزلي الراحلةُ هالكةً مُسْتَهْلَكَةً، تستنفدُ بضعفها قوّتي وباستسلامها للفناء رونقَ الحياةِ في وجهي وأطرافي وبدني كلّه؟
غفرانكَ اللّهم لا تأخذْني بما قلتُ وبما سأقول وبما فعلتُ وبما قد أفعل فأنا مخلوقةٌ بإذنكَ من عَجَلٍ ومخلوقةٌ من جَدَلٍ، وعقلي، الذي تقول الراحلةُ بأنّه من شُغْلِ يدي، يحدّثني اليومَ بأنّها فُكَّ أسرُها هي بالموت وفُكَّ بموتها أسري وأنا في انتظارِ الموت لها، وضُرِبَ لي في زمن الأسْر الجديد، زمنِ حصارِهم الآتي لاسْتثمار وحدتي وعوزي، ضُرِبَ لي موعدٌ مع أجنحةِ الطير والريح، الطيرِ التي تخوض الزرقةَ في الجوّ وتضرب من علوّها الذين على الأرض بحجارةٍ من سجّيل.
ولكنْ قبل ذلك الموعدِ الآتي، ضَرَبَ لنا موتُ الراحلةِ اليومَ موعداً آخر، نلتقي، إلاّها، جميعاً فيه، فنأكل عن روحها طعامَ الغداء الذي كانت ستطبخه يداي لَوْ أنَّ أبناءَها كانوا غيرَ أبنائها وإخوتي غيرَ إخوتي. التاسعُ من شباط هو ثالثُ موتها، وهو الموعدُ الذي تُطْلِقُ الصرخةَ فيه يداي أنْ قَدْ فُكَّ أسرُ يديـْـــكِ يا سميّة، وأنْ تكلّفوا ثَمَنَ الغداء الذي لا يُؤَجَّلُ، يا أبناءَها، واشْتروا على عيون الناس ما لم تتعبْ بطبخه يدا سميّة، وإنْ تكن سميّة تَعْلَمُ أنَّ وليمتَكم لن تتعدّى كاساتٍ من اللبنِ وفطائرَ لحمٍ بعجين.
ولكنَّ موعدَنا السحريَّ سيكون لحظةَ موتي، فهم أقوى منّي في الحياةِ مجتمعين وأنا أقوى منهم منفردةً بعد الموت. فَلْيَنتظروا إذنْ معي الموتَ، ذلك الظلَّ الذي سيهبط بيننا ذات صباح أو ذات مساءٍ، يهبط بيننا من لا مكان، فيفصل الزمانَ الذي كان عن الزمان الذي سيكون، ويغربلُ الليلَ من النهار ويغربلُ النهارَ من الليل، حتى يجلوَ لعيونهم التي خدّرها الغَبَشُ وجهَ الحقيقةِ التي جهلوها، حقيقةِ القوّةِ التي زرعوها في إرادتي بنواياهم.
أبو طاهر
كان يومَ جمعةٍ كان، مثله مثل هذا اليوم بالذات، يومَ خَرَّتِ الإسرائيليّةُ الطائراتُ من حيث لا نراها من السماء وفتحتْ علينا، في ساحة النجمة ههنا، أبواقَ الصوت الذي ضغط علينا الهواءَ ضغطةً كضغطةِ القبر، فتشلّعتْ في الهواء أشلاءُ المقاتلين الذين كانوا في قلب الساحة، أيديهم تَنْبُضُ فوق المضّاد، وأعينُهم تمتصّ بنهمٍ فراغاتِ السماء التي كانت بنهمٍ هي الأخرى تمتصّ عيونَهم وعيونَنا وتتركها حلقاتٍ فاغرةً إثرَ حلقات.
كان ذلك يومَ جمعةٍ كان، مثله مثل هذا اليوم بالذات، إلاّ أنّه كان في الصيف الذي اجْتاحَنا فيه الإجتياحُ الذي نَزَّ هواؤهُ مع الحرِّ غاشياتِ عذاب.
والأزيزُ يَئِزُّ لا يزالُ في هواء شباط في هذه الساحة التي تُعابثها الريحُ وتتلوّى في فراغاتِها اليوم، يوم الجمعة، لتشهدَ اليوم بصمتِها على الصمت الذي خلّفتْه الغاراتُ في ذلك الصيف، وتتلوّى بذكرى الموتِ الذي كان، وتلتفّ على نفسها، وتدور حول سكون الموت الذي نحمله خلفنا، والذي خلفنا يُمْعِنُ في اللّحاق بنا كلّما أمعنّا أمامه في المسير.
الموتُ في الحرِّ والموتُ في البردِ وساحةُ النجمة تمتليء به وتُفْرِغُ نفسَها منه، تفرغ نفسها منه عَفْوَ خاطرها وعفو الريح، كأنّها المقبرةُ تكشَّفَتْ عنها حُجُبُ الغيبِ فَلُحودها قبّةُ السماءِ التي فوقها من زمان.
والقبّةُ التي تغطّي الساحةَ لن تلبث أن تمتدّ جنوباً في ثوانٍ، كما امتدّتْ من قبل، من أوّلِ ما كان الطريقُ، فتغطّي فوقنا، على بُعْدِها، الطريقَ الذي يسير على دربِ الجنوبِ كأنّه رَجْعُ الصدى يعود إلى مصدر الصوت، ذلك الصوت الذي يُوَلِّدُ الريحَ وحشرجةَ الريحِ في البساتين.
وهو في مجلسه من السيّارة قابعٌ، يملأُ عينيْه بالريح من خلف الزجاج، كأنّه ليس في جنازة أمّه، وكأنّ حشرجةَ القلبِ والحلقومِ مكتوبةٌ على حلقومِ وقلبِ سواه، ذلك القابعُ في السيّارة والناسُ تحمل النعشَ إلى الجامع ثم تخوض به الريحَ بعد الصلاة على الجثّة التي كأنّها ليست بجثّة أمّه.
كلُّ أمٍّ مسلمةٍ تموت هي أمي، أقول لنفسي وأعيد القولَ، مالِـئـاً بصوتي أذنيَّ، فالقديمُ الأزيزُ يَئِـزُّ لا يزال في ساحة النجمة وضغطةُ الجوِّ التي كضغطةِ القبر تطبّـقُ على بعضه صدري، وأبو سليم يخوض بنا من خلف مِقْــودِهِ يخوضُ بنا ساحةَ النجمة ويلتفُّ بمقوده نصفَ التفافةٍ إلى اليسار ثم يرتدّ على نفسه المقودُ ويلتفّ يميناً ثم تعتدل السيارةُ بنا وتمضي مع الطريق جنوبـــــــاً فكأنها على موعدٍ والجنوب. والذي بجانبي ليس بجانبي فكأنما اسْتَــعارَهُ الصمتُ فهو ذا يأخذه على غير عادتِـه البعيدُ الشرودُ، وتُـــغضي عن وجودي بجانبه على المقعدِ الضائعتانِ عيناهُ في فراغِ دائرتـيـْــهما، فكأنني، وأنا المُـــتَـــلـفِّــتُ إليه المُــحَــدِّقُ فيه، لستُ إلى جانبه، وكأنما انحسرتْ رؤيةُ عينيْه فلا يملأهما إلاّ الطريقُ الذي يمتدّ أمامنا وإلاّ النعش الذي خلفنا في صندوق السيارة، خلفنا يمعن في اللحاق بنا كلّما أمعنّا أمامه في المسير.
جهّار
كلّما جَاشَ بالصقيع شباطُ انْكسر ذلك الشيءُ الذي كان يلفّني، فتخبّطتُ في ما يشبه اليقظةَ لحظةً أو لحظتيْن ثم انْسللتُ من ذلك الشيء الذي كنتُ فيه كما ينسلُّ من القشرة، تشقّقتْ، صغارُ الطير، وأطللتُ، كما تطلّ، على العالم الذي كان مؤوداً في الغيب وَوُلِدَ فجأةً لعينيّ، فهو الدهشةُ التي فيهما، دهشةُ اللحظةِ التي تنتهي، وَهُما له باحةُ الموعدِ والانتظار.
كلّما جاشَ بالصقيع شباطُ رأيتُـني أُذِنَ لي بالطواف في هذه المقبرة، وخارج حدّ السور إذا ما شئتُ، فحدودُ المقبرةِ اليوم هيّنةٌ على العين، أعرفها كما أعرف لتوّي الهاجعين الجدد من آذار إلى كانون الثاني، دورةَ الفلكِ التي يدورها الفلكُ في غيابي، وأنا الهاجعُ في زمن الموت الذي لا زمان له، أنتظر بعينه هذا الشباطَ الذي كُتِبَ عليّ انتظارُهُ، فهو الغيبُ موعوداً به لي وأنا الموعودُ به له في الغيب وكلانا لصاحبه الوعدُ والموعدُ والانتظار.
على ارتفاعِ روحٍ من حافّةِ السور أوازن نفسي في الريح مع قوّة الريح، وتَنْبو من تحت عينيّ عن طريق المقبرة سيّارةُ النعشِ فتوغل في سَيْرها، جنوبيّةَ المقصد، تزجّيها ريحُ الشمال إلى ما أبعد ممّا في ريح الشمال من الوعد، وخلفها هَدْرَةُ الصوت من حنجرتي تُلْفِتُ الريحَ عن مسارها قَدْرَ لفتةٍ عابرةٍ تنعدل بعدها عنقُ الريح وتمضي تزجّي موكبَ المسجّاة في نعشها إلى أبعد ممّا في ريح الشمال من الوعد، وكأنّما المسجّاةُ في نعشها تعالجُ صوتي بالصمت كما كانت تعالجه به في تلكم الأيّام الأُخَرِ، فتتركني، على ارتفاع روحٍ من حافّة السور أوازن نفسي في الريح مع قوّة الريح، وتمضي.
سميحةُ، يا سميحةُ، لن تفكّي إذنْ وحدتي وقد طال زمانُ انتظاري من فجر اليوم الأوّلِ لمماتي إلى فجر مماتكِ اليوم، طال زمانُ انتظاري كما سيطول انتظاركِ في القبر الآخر، لا تُفَكُّ لكِ وحدةٌ ولا تطلُّ على مُنْحَلِّ ترابكِ عينٌ من عيونهم الكثيرةِ، فهم قبل أن يكونوا لكِ أولاداً أولادي الذين أعرفهم معرفتي بماء السلالة التي حَمَلَها ظهري. لن يفكُّوا لكِ غداً، يا سميحةُ، وحدتَكِ التي لن يفكّها إلاّ انْحلالُ ترابِكِ في الترابِ وسيلانُهُ في باطن الأرض حتى يَتَطامَنَ تحت المنحَلِّ من ترابي ولو قبل البعث بثوان.
وَابْنُكِ القابعُ في سيّارته ساهمَ العينِ والفكر كأنّه ليس في جنازة أمّه هو ابني الذي عقّني من قبل بغيابه عن جنازتي ويعقّكِ اليوم بحضوره الذي هو أنكى من غياب. وهو، وإنْ لم أقُلْها لكِ يوماً ولم تقوليها في الحياة، أقربُ أولادنا إليكِ وإليّ، لسِرٍّ فيه وفينا. فهل تذكرُ الدمَ، يا سامحُ، الدمَ، يا سامحُ، الدمَ، يا سامحُ، الذي عبق به أنفي وروحي، بعدما ارتدّتْ عن وجهي راحةُ يَدِكَ، وسالَ كنهر الذلِّ على جانبيْ أنفي فَغَسَلَ شفَةً وَانْزَلَقَ منها فبلّلتْ ملوحتُهُ ولُزوجتُهُ لساني الذي غلّه الهَوْلُ من جراءة يدكَ التي ارتفعتْ وهوتْ وأذاقتْني الطعمَ طعمَ دمي الذي في ذكرى فمي لا يزال أحدَّ من الذكرى، سخيّاً لا يزال؟
الدمَ يا سامحُ الدمَ يا سامحُ الدمَ يا سامحُ!
ولكنّني رغم الدم أعرفكَ، ولأنني أعرفكَ وأعرف أنني كامنٌ فيكَ شوقي إليهنَّ، ولأنني رأيتُ الحنينَ إليهنَّ في عينيكَ يفوق الحزنَ الذي يَهيجُهُ الحنينُ، فتفور عيناكَ مثل بركتيْ دمٍ من اللهفةِ وَهُما تنسجان على أطراف فساتينهنّ الأفقَ مضرّجاً، غفرتُ ليدكَ فِعْلَتَها ولم أغفرْ، ثم سامحتُكَ بعد ذلك ولم أسامح. وأنا ما دمتُ فيكَ فلستَ بالحرّ أنتَ، ياسامح، فها أنا ذا وَرَّثْتُكَ اللعنةَ التي في دمي وأودعتُ في عينيْكَ أسْرَ الحنينِ الذي في عينيَّ فكأنّما كتبتُ عليكَ مثل الذي كُتِبَ على أبيكَ من قبل، أنْ تَظَلَّ عيناكَ مملوءتَيْن من شيءِ غيركَ.
إسماعيل
ما الكنيسةُ إلاّ الجامعُ مُضْمَراً في رحم الغيبِ، وها هي كاحْتمال الثلجِ تملأُ عينيَّ الكنيسةُ البيضاءُ في صقيع الجمعة، تتشبّث جدرانُها بالأرض ويمتشق الريحَ برجُها الذي يوسوس بخفقان الجرَسِ وقد اعْترَاهُ من هزّةِ البيانِ ما زلزل عنه الحُبْسَةَ التي سكنتْ أوتارَه ستّةً من نهاراتِ وسبعاً من ليال.
يمتشق الريحَ برجُها اليومَ عارياً من الصوت لأنها الجمعةُ التي يسكن الجوَّ والصقيعَ نداءُ المآذِن فيها، النداءُ الذي كان في رحمِ الغيبِ مُضْمَراً في النداءِ الآخر للكنيسةِ أنْ هلمّوا إلى الصلاة هلمّوا. والجمعةُ والأحدُ اللذانِ لا يلتقيانِ قد يلتقيانِ غداً في الجمعةِ الحزينةِ، فيصلّي المسلمون صلاتَهم ويصلّي النصارى حزناً على ما فعله بالمسيحِ يهوذا.
ولقد يَحْدُثُ الذي لا يزال في الحلم فَأَقِفُ صبيحةَ الجمعة الحزينة واعظاً في كنيسة القناية المصلّينَ من النساء والشيوخ والأطفال، أعلّمهم معنى الشهادة، ثم يشدّني نداءُ المصلّين في الكنيسة البيضاء فأهرع إليهم عند العاشرة، فأعلّمهم مثلَ الذي علّمتُه الذين من قبلهم – مع أنّ النصارى قد لا يَؤمّونَ الكنائسَ في الجمعةِ العظيمة – ثم يشتدّ عليَّ نداءُ المصلّين من الجامع الأخضر فأهرع مع صوتِ المؤذِّن لأعتلي منبرَ الكلامِ، فأكلّمهم عن المسيح في القرآنِ والحديثِ، ويأخذني بعضُ الحديث إلى بعض فما أنتبه إلاّ ورؤوسُ المصلّين تستدير إلى الخلف فأرخي عينيَّ إلى حيث اسْتدارتْ عيونُهم فإذا رفيفٌ من الناس ببابِ الجامع ينظر إلى مكاني من منبرِ الكلامِ، فأحدّق النظرَ فإذا هم شيوخٌ ونساءٌ وأطفالٌ، أو لعلّهم أطيافٌ لشيوخٍ ونساءٍ وأطفالٍ كنتُ قد وقفتُ فيهم واعظاً في الكنيستيْن، فتنطبق على بعضها أجفاني التي تكون قد اضطربتْ بعاطفةِ الرؤيا وخافتْ إنْ هي لم تَأسِرِ الرؤيا في حدقتي أن تضمحلَّ وتنسابَ في سرائر الزمنِ الذي وَحَّدَتْهُ، على غير موعدٍ منّا ومنهم، جُمْعَتُهم وجُمْعَتُنا، حزينةً كانت هي أم عظيمة.
عارياً من الصوت يمتشق الريحَ برجُها اليومَ، يُغَشّي عُرْيَهُ الصقيعُ وينأى به، أو كأنّه، عن حافّةِ الأرض فيتسامى ويطلُّ عبرَ الصقيعِ، ومن فوق حافّةِ السور، على المقبرةِ القديمةِ، شاهداً لسكّانها على إقامتهم في حجراتِ الليلِ التي سُلِخَ منها النهار.
فسلامٌ عليكَ أيّها الهاجعُ في حجرةٍ من حجراتِ الليلِ، يا خالُ، وعفوكَ اليومَ إذْ نَمُرُّ ونمضي بالمسجّاةِ في نعشها، فنسلمكَ وإيّاها إلى الوعْدِ باللقاءِ الأمثلِ، صبيحةَ البعثِ الذي هو أقرب إليها وإليكَ من حبل الوريد.
أبو طاهر
تحت جُنْحِ الفجر الذي لم يولدْ بعد مشينا بنيّةِ الفجر، مثقلةً كواهلـُــنا بوزر الأسلحة التي لم تَعُدْ وزراً وقد استهدفتْ منذ اليوم الأوّل للاجتياح اليهودَ وتبرّأتْ عفوَ خاطرِها من حربٍ للتشنّجات هنا وحربٍ للضلالات هناك، مشينا بنيّة الفجر، تهتدي بقلوبنا العيونُ التي اسْتَغْشَتْ غلالاتٍ لم يكن قد خلعها الليلُ بعد، مشينا يحدّ مسيرتَـنا يميناً سورُ المدرسةِ الذي لم يَبْدُ أنّه سئمنا، مع طول عهده بنا نحن الذين نُماشيه في الليل ونماشيه في النهار، لا نسأله أين ذهبتِ الراهباتُ في زمن الويل ولا هو ينبئنا، مشينا حتى انتهى بنا السيرُ إلى حيث يتقاطع الطريقُ الذي عبرناه من شاطىء البحر بالدرب الذي كُتِبَ عليه السيرُ جنوباً فسار وخَلَّفَنَا نكتبُ بأشلائنا ودمائنا النصرَ الذي سوف يأتي، ولو بعد حين، ونرسمُ في الأرض، بِاسْم الذين باعوا الراحلَ بالآتي واللحظةَ بالأبد، ساحةَ الشهداء المخضرَّةَ أبداً بالوعد المرصودِ على حافّة الدرب الذي كُتِبَ عليه السيرُ جنوباً جنوباً حتى السليبةِ الأرضِ.
جنوباً نستسلم للريح ونمضي بموكب الموت فَنَجوز مدرسةَ الراهبات أوَّلَ ما نجوز ونمضي، محكوماً توجُّهُنا بإرادةِ العدمِ الذي لا يموت إلاّ بموتِ الموت عشيّةَ القيامةِ والحسابِ ولحظةَ انْعتاقِ الخُلْدِ من قبضةِ الوعدِ ليصير الإيفاءَ بالوعد يقيناً، جنوباً نستسلم للريح ونمضي، وخلفنا يئزّ لا يزال الأزيزُ وتسْري في أشعةِ الفجر الإسرائيليّةُ الطائراتُ كالرعدة ما أن تَجْهَرَ بها السماءُ حتى تسرّها من جديد.
وهو في مقعده من السيّارة قابعٌ يملأ عينيه بالريح من خلف الزجاج، كأنّه ليس في جنازة أمّه، وكأنّ التي حَمَلَتْ به امرأةٌ أخرى لم تَمُتْ بعد ولم تَتَبَارَ في حمل نعشها إلى الجامع للصلاة عليها الأيدي الغريبةُ التي نسيتْ غربتَها لحظةً وألَّفَ بينها وبين المسجّاة في نعشها الإيمانُ بالذي خلق الموتَ فوحّد به خَلْقَهُ، تراباً منه أنشأهم وتراباً إليه يعيدهم، ثم ينشئهم منه النشأةَ الأخرى، وهو قابعٌ في السيّارة وحده يملأ عينيْه بالريح من خلف الزجاج، كأنّه ليس في جنازة أمّه.
كلّ أمّ ٍمسلمةٍ تموت هي أمّي.
جهّار
منكِ رأيتُ ما لا رأتْ عينٌ ومنكِ سمعتُ ما لم تسمعْ أذنٌ، ولقد خَبِرْتُ من عَرْجاتِكِ التي تبتدعينها والتواءاتِكِ التي ليس بمقدور امرأةٍ سواكِ أن ترتجلها ما لم يَمُرَّ على خاطر بشر. وأعجب الآن، لا منكِ، فذلك زمنٌ مضى، ولكنْ من قدرتي على العجب منكِ وأنتِ تنتصبين في جلستِكِ على المقعد الخلفيّ للسيّارة انتصابَ المتحفّزِ للجَدَلِ المتوثّبِ للحوارِ الصامتِ مع هواجس الأرض والسماء، وفي زَمَّةِ شفتيْكِ وعُقْدَةِ حاجبيْكِ قرارُ الحسمِ المُسْبَقُ للحوار.
فما الذي تبتغينه الآن من تَتَبُّعِكِ المريب هذا لموكب الجنازةِ، وإلى جانبكِ على المقعد الجلديّ تجلس، مبهورةَ العينين والشفتين، ابنةُ سامح، يَلوكُها الصقيعُ كما تَلوك شفتاكِ أوزارَ السرِّ الذي انْطبقَ عليه صَدْرُكِ وما يكادُ؟ إنْ كنتُ لم أركِ في أخرياتِ أيّامي إلاّ لِمَاماً، فذلك اللمامُ كان يكفيني لأسْبُرَ غَوْرَ القلب الذي تحملينه في ضلوعِكِ، ذلك الشيء الخافقُ بالنكران، النابضُ بالتناسي، والمشتقُّ في الأصلِ من عَدَمِ الأشياء. ومن ذلك اللمام يا سميّةُ، ولعلّك تذكرينه أكثر منّي، تهالُكُكِ المفاجىء على نفسكِ وانطواءُ صَدرِكِ فوق ركبتيكِ كأنّما خذلتْكِ قواكِ وانْهار ضَغْطُكِ الذي طَلَوعُهُ أكثرُ من انهياره، وذلك كلُّه يَحْدُثُ بغتةً كلّما تنبَّهتْ عيناكِ إلى كيسٍ من الخضار منبوذٍ في زاويةٍ من زوايا المطبخ، أو شرائحَ نيئةٍ من اللحم ممدودةٍ في صحن، أو دجاجةٍ عاريةٍ مستلقاةٍ على بلاط المجلى تنتظر يداً تهيّئها للطبخ، في ذلك الزمن الذي ضَرَبَ الهزالُ فيه يَدَ أمّكِ بالعجز وأوقعنا في ذلِّ الأسْرِ الذي لم أكنْ لأحْسَبَ له حساباً من قبل.
لو كان الموتُ يُنْسي لنسيتُ، ولكنّ الذاكرةَ مكتوبٌ عليها البقاءُ حيّةً في كينونة العدم، تنفتح وتنغلق لتبيح لنا، بين الزمن والزمن الآخر، إطلالةً شاحبةً كالغيبِ على الدرب التي سلكناها من قبل، ولم نَدْرِ، إلى عَبَقِ الجحيم.
على ارتفاعِ روحٍ من حافّة السور أوازن نفسي في الريح مع قوّة الريح، وذاكرتي المُتْرَعَةُ بأحاييلِكِ والتواءاتِكِ وخُذْلانِكِ لِلَّذَيْنِ أتَيَا بِكِ إلى هذه الدنيا تشدّني شدّاً ثقيلاً إلى التراب الذي أُذِنَ اليومَ لي أن أهاجِرَ عنه سرحةً من الزمن أستقبل خلالها أمَّكِ، لتفكّ وحدتي، وما استقبلتُ بعبورها الصامت من تحت عينيّ إلاّ لحظةَ الوداع الثاني الذي وُلِدَ لي قبل ولادتي وظلّ ينتظرني بعد الموت على قارعة الغيب. تشدّني ذاكرتي المُتْرَعَةُ بكِ إلى التراب ويلحُّ عليّ الهاجسُ الذي ليس كالهواجس، لأنّه الحقيقةُ محمومةً والذي، وهو يشدّني، يَنْبُضُ به قلبُكِ المشتقُّ من عَدَمِ الأشياء. ذلك هو الهاجسُ بسريانكِ المريبِ خلف موكب الجنازة، والذي مَرَدُّهُ إلى الهَلــَـع من تصوّرِكِ احْتمالَ عودةِ المسجّاةِ في نعشها عن موتها واحتمالَ عودتِكِ إلى الأسْرِ القديمِ بعودتِها فتطبخين لها من جديد ثم تطبخين لها ثم تطبخين حتى ينبحّ صوتُكِ من لَوْكِ ما انْطوى عليه صَدْرُكِ. إنّه الهلعُ من الإحتمال، يا سميّة، ولن تطمئنّي حتى يُحْكِموا إغلاقَ قبرها ويُهيلوا عليه الترابَ ويخرجوا من المقبرة بخطى نَشَّطَها اليقينُ أنَّ التي ذهبتْ لن تعود إليهم، ولا إليكِ أبداً. إذ ذاكَ ترتدّين إلى منزلكِ وقد اعْتدلَ ضغطُكِ وزالتْ أسبابُ تهالُكِكِ المفاجىء لتورّثي، ربّما، ابنةَ سامح، تلك الجالسة إلى جانبكِ، مبهورةَ العينيْن والشفتيْن، سرَّ الطينةِ التي منها جُبِلْتِ، فتأتي هي الأخرى امتداداً للّعنةِ التي هي أنتِ. وإنْ هم صَدَقوا في قولهم أنْ خُذوا البناتِ من صدور العمّاتِ، فلا بأس عليها أنْ تَؤْخَذ من ظاهِرِ صدرِكِ لا مِمّا انْطوى عليه ذلك الصدرُ الذي لا ينطوي إلاّ على عرجات من الهواجس وإلاّ على الْتواءات من النوايا، ناهيك عن تلك الحشرجات التي كضباب الدخان.
الطريقُ اليومَ وَلودٌ، فها هو المستتِرُ الآخرُ في السيّارة الأخرى، ينفث دخانَ سيجارته من طرف فمه في اتّجاه النافذة المشقوقةِ عن يمينه، وعيناه مشدودتان إلى سيّارةِ سميّة، يخفّف سرعته إذا تباطأتْ أمامه ويندفع إذا انْدفعتْ. وفي كلتا الحالتيْن هو المَقُودُ بقوّة السرّ الذي طالما جاهَدَ هو وأبوه عُدَيٌّ لانْتِزاعِهِ منّي وجاهدتُهما أنا معاً بالمماطلة والمراوغة فظللْتُ ممسكاً أمام عيونهما بِطَرَفَيْ الليل والنهار، لا يدريان متى يهبط أحدُهما ومتى يطلع الآخرُ، سنينَ سنينَ من ذلك العمر الذي كان، حتى بدأ زمنُ حصارِهما لي وللمسجّاة في نعشِها، فلا يجرؤ على رُقِيّ السلّم إلى بيتنا زائرٌ أو قريبٌ، ولا يصلنا من الطعام إلاّ النزرُ الذي لا يكاد يمسك النفس في الجسد، وجسدي وجسدُها آنذاك سجينٌ يداري خلف الأبواب المغلّقة سجيناً، والصوتُ الذي يتسلّل إلى آذاننا هو الصوتُ عينه الذي تشظّتْ ذبذباتُه إلحاحاً وإلحافاَ أنِ اصْدَعْ بما تُؤمَرُ يا جهّارُ فَسِرُّنا سوف يدفنه الكاتبُ بالعدلِ ساعةَ يكتبه فكأنّه ما كان حتى تأذن الحياةُ بإفشائه فيكون. ولقد مرَّ علينا الذي مرَّ، وها أنتذا تدفن اليوم نفسَكَ يا لؤيّ في السرّ الذي ابْتدعتَهُ لنفسكَ، وأنا، على ارتفاع روحٍ من حافّة السور، أوازن نفسي في الريح مع قوّة الريح، ممسكاً، لا أزال، أمام عينيكَ وأمام عيونهم، بطرفيْ الليل والنهار، لا يدري واحدُكم متى يهبط أحدُهما ومتى يطلع الآخر.
أبو طاهر
يا حاديَ العيسِ، جُزْ بنا حاجزَ الجيشِ وبقايا لحاجزِ المسلّحين قديماً ثم مُرَّ بالقوّات الدولية متوَهِّماً أنكَ الحلمُ فيحلموا بكَ وتمضي بين عيونهم كالطيفِ يودّعونه لحظةَ اسْتقباله ونمضي خلفكَ كالأطياف نحو السليبةِ الأرضِ التي بجثّةِ أمّي سنحرّرها فَتَابوتُها الطوربيدُ نهرّبه اليومَ في غوّاصةِ الموتِ التي في أوّل موكبنا فَيَا حاديَ العيسِ تقدّمْ ولا تَلْتَفَّ بغوّاصةِ الموتِ يساراً إلى حيث تهجع مقبرةُ سَيْنِيقَ تهجع تحت عينيْ السيّدةِ العذراءِ تقدّمْ واخْرُقِ الحدودَ ولا تَخَفْ أشعّةَ الليزَرْ وفجّرْ بتابوت أمّي بقايا تابوت اليهود الذي ورثوه عن موسى النبيّ وخبّأوه في كلّ بيتٍ نثرةً نثرةً فتنتهي بذلك جذورُ الساميّةِ الأولى وتبدأ في التاريخِ رحلةُ ال...
كسّاب
وَإذْ تنعطف سيّارةُ النعشِ بموكبنا يساراً، تَثِبُ عينايَ إلى الأغصان المثقلةِ بحملها من البرتقال. بستانٌ عن يميننا وبستانٌ عن شمالنا يَلوحان لعينيّ وكأنهما كانا في الأصل بستاناً واحداً ثم باعدتْ بين أشجاره المصطفّةِ صفوفاً متماثلةً هذه الطريقُ الضيّقةُ التي كلّما أوغلتْ بنا تصعيداً نحو الشرق أوغلتْ في النَأْي بنا عن ضجّة الشارع الذي كنتُ أخاله لن ينتهي أبداً. إنتهى، وها نحن ننتهي عمّا قريب من رحلةِ الدفنِ لنعود الرحلةَ عينَها معكوسةً وقد خَفَّ حِمْلُنا وثقُلَتْ رؤوسُنا بنوايا الصمتِ كما ثقلت عن يميننا وعن يسارنا أغصانُ الأشجار بحملِ البرتقال.
البستانُ الصغيرُ الذي كنتُ ابْتعتُه لنفسي على مرمى من نظرةِ العين من مطعمنا كانت برتقالاتُه لا تزال شهيّةً للعين بكثافتها على الأغصان، تتدلّى منها وتلتمع في الشمس ويتداخل لمعانُ بعضِها في لمعان البعض الآخر كلّما عَطَفَتِ الريحُ على الغصن غصناً. ولكم وشوشتِ الريحُ بالبركةِ في أذنيَّ ولكم أطربتْني وشوشتُها الخجولةُ الواعدة. ولكنّه كان هو البستانَ عينه الذي فتح عيون إخوتي عليَّ فأدركوا الربحَ الخفيَّ الذي كانت تنوء به جيبي من المطعم، وقد رضي أبي أن أديره بنفسي وأستثمره لقاءَ خمسةٍ وعشرين ليرة يتقاضاها منّي كل مساء، حينما اسْتَبَدَّ به الحنينُ إلى حياةِ البساتينِ والعمل فيها مجدّداً فَانْصَرَفَ إلى ضَمَانِ البرتقال والحامضِ والإكيدنيا، يشاركه في حلوِ الربح ومُرِّ الخسارةِ صديقُه أبو الوليد.
وغيرةُ إخوتي من الأرباح التي كنتُ أكتالها في ذلك الزمن الرخيّ كأنّما لم تكن وحدها تكفي لتنغّصَ عليّ أمري. صحيح أنّ مهاتراتِ عديّ كنتُ أحتملها كما كنتُ أحتمل تمنّعه عن أداء واجباتِه كلّما بَدَا له أنْ يُحْدِثَ اضطراباً في سير العمل في المطعم، أحتمل ذك بالصبر وأعالجه بالحيلة والأناة حتى لا يخرج الأمرُ بيننا إلى حيّزِ المواجهة المحمومة. صحيح كلّ هذا، ولكنَّ عُدَيّاً كان قد شَبَّ وتفتَّحتْ عيناه على الدنيا، ولم تكن أحلامُه بالعزّ لِتَدَعَهُ يسأم من افْتعالِ مشكلةٍ من هنا ومشكلةٍ من هناك، مع الطاهي في المطبخ تارةً ومع النادلِ تارةً أخرى، لوضع العصيّ في الدواليب ولإحداثِ البلبلةِ في سير العمل. ولمّا أدركَ أنّني أخبّيءُ أيّوباً في صدري أخذ بِنَفْثِ سمومه في قلوبِ إخوته فزرع فيهم من الغيرةِ والحسدِ ما زرع، ولعلّه عَبَّأهُمْ بأحلام العزِّ الآتي إذا ما نجح ونجحوا في اسْتمالةِ أبيهم إليهم وفي دفعه إلى إنهاء اسْتثماري للمطعم وإعادته إلى عهدته هو.
ولو كان اقْتصر الأمرُ على شدّ الحبال بيني وبين عُديّ وإخوته لكنتُ ظَلَلَتُ أمُدُّ لهم في الحبل وأرخي حتى آخر الزمان. ولكنَّ أبي وحده هو الذي مكّن لهم فأرخى لأحاديثهم أذنيْه وأغضى عن ارْتفاع أصواتهم في وجهي يوماً بعد يوم بعد يوم، حتى كان اليومُ الذي اسْتدعاني فيه إليه وجاهَرَ بزيادةِ خمسةٍ وعشرين ليرةً أخرى على المبلغ الذي كان يتقاضاه منّي كل مساء، فعرفتُ أنّ الحبلَ الذي كان بيني وبينهم آخذةٌ خيوطُه بالانحلال وأنّه ليس إلى تَدَارُكِ انْقطاعه من سبيل. شيءٌ في صدري وسوس لي أنَّ أبي تفتّحتْ عيناه على البستان الصغير الذي ابْتَعْتُه لنفسي وأنّه غَبَطَني على حِيَازَةِ أرضٍ تكون لي ملكاً وحدي، وهو الذي لم يَرِثْ عن أبويْه مالاً ولا أرضاً ولا ادّخَرَ ليبتاع لنفسه مثلَ أرضي أو مثلَ الأرض التي ورثتْها عن أبيها أمّي فأقام هو عليها المطعمَ الذي وفَّرَ له بحبوحةَ العيشِ وأيقظ له موسمَ العزِّ الذي كان. شيءٌ في صدري وسوس لي أنَّ زمانَ رحيلي عن المطعم قد لاح في الأفق، فتهيّأتُ في سرّي للرحيل وواعدتُ نفسي على الخلاص من الشرّ الذي يحيكونه لي كما تخلص الشعرةُ من العجين، بلا صوتٍ ولا قرقعةٍ ولا حشرجةِ تمزّق.
الأرض تناديني من ورائي فَأكْتُمُ أصواتَها في أذنيَّ وأغذُّ في مسيري لاِسْتنفادِ المسافةِ التي بين الأرض وبين مطعمنا، ومطعمُنا على مرمى نظرةِ العينِ مغمورةٌ طاولاتُه وكراسيُّه بشمسِ نيسان. عينايَ تنهبانِ المسافةَ التي بيننا مرّة أخرى فتمتلئان بهم واحداً إثْر واحدٍ إثر واحدٍ، وجوهُهم ترصدُ خطايَ وشيءٌ في حركاتهم يوسوس لي بالرجوع. ونيسانُ هو الفصلُ الذي يستدرج الناسَ من بيوتهم ويغريهم بالتفلّتِ في التمتّع والإنفاق. الوعدُ الذي يوسوس لي به نيسانُ يعلو على أصواتِ الأرض التي خلّفتُها ورائي تنعم بالشمس ويشدّ قدميّ إلى الطريق فيشتدّ وقعُ خطاي حتى أنّني أسمعه لأوّل مرّة. تمحو خطواتي الأخيرةُ الزمنَ الذي بيني وبينهم. قدمايَ تَرْقَيانِ بي الدرجتيْن اللتين تنهضان بعينيَّ إلى مستوى عيونهم. سدٌّ من النظراتِ المشحونةِ بذلك الصمتِ الواعدِ ينتصب بيني وبين باب المطعم العريض. الأرضُ تناديني من ورائي فأرخي لها هذه المرّة أذنيَّ. قدمايَ تشرعان بِعَدِّ خطاهما في زمانِ الرحيل.
وكان العمرُ الذي مَرَّ كلّه زمانَ الرحيلِ، وبقي المطعمُ في انتظارِ الغيبِ على مرمى العين منّي، فودّع معي وودّعتُ معه جهّاراً ثم عُديّاً، وها نحن اليوم نمضي بالراحلة إلى أبعد ممّا تختلج به الظنونُ، نودّعها لنستقبل من ظهر الغيبِ زماناً جديداً لمعنى الرحيل. فبعد ساعاتٍ يستدرجنا الليلُ إلى اللقاء في منزل سميّة، حيث تطمئنها الكلماتُ أنَّ حياتَها بعد الراحلة ستظلُّ بخيرٍ وأنّ لها في حنوّ إخوتها ورعايتهم لها حضناً تطمئنُّ إليه في أيّام وحدتها. ثم أوحي إليها خفيةً أنْ تهجر عزلتها فتمضي حين تشاء فتشاركني وتشارك زوجتي ما تبقّى لنا من رحلة الليل والنهار. ثم يتململ في جلسته طارقٌ ووسيمٌ، ويثوبُ من سَرْحَتِهِ سامحٌ، ويحرّكُ جميعُهم، بأناةِ مَنْ يحرّك جمرةً تحت الرماد، موضوعَ السرّ الذي تتهامس به الهمساتُ، وينظرون إليّ يستدرجونني إلى الخوْض في ما لا بدّ من الخوض فيه، فأرفع إليهم عينيّ وأنقِّلهما بين عيونهم لحظةً تسبق زمانَ الرحيل الجديد، ثم تحدّثهم شفتايَ بضرورة ِالصبر والتروّي. وحين تهدأ خواطرُهم وتستسلم رعشاتُ الشكِّ في صدورهم إلى رنّة اليقينِ في كلماتي، يُسْلِمونَ إليَّ الأمرَ كلّه أتدبّرهُ بالنيابة عنهم، فأصرفهم عنّي فصلاً من الزمان لا يلبث أن يُسْلِمَهم إلى ثانٍ ثم إلى ثالثٍ ثم إلى رابعٍ حتى تتداولهم في دوراتها الفصولُ، في رحلةِ الزمانِ الذي لن يرثوا فيه عن أمّهم ما ورثوه حتى يكون قد أدركهم الهرمُ وأعياهم العجزُ والمرضُ. ولؤيّ وحده سيكون الأداةَ في مَدِّ عيونهم تلقاء الغيبِ، ذلك الغيب الذي ما هو إلاّ الزمانُ الجديدُ لمعنى الرحيل.
سميحة
كأنَّ رائحةَ الهواء اسْتَباحَها البرتقالُ وليس من بستانٍ للبرتقالِ في ناحيةٍ من نواحي الغربةِ التي تسكنها سميّةُ في عبرا، فهل ذكرى البستان الذي خلف النهر تعود إليّ مع الفجر فيعبق بأريج البرتقال الفجرُ وتكثِّفُ عبقتَهُ زَخْمَةُ الرائحةِ تنبعث من التراب حَوَّلَهُ المطرُ إلى طين؟ رائحةُ الهواءِ اسْتباحها البرتقالُ وزخمُ الأرض، وأنا في السرير لا أزال باركاً على بدني النعاسُ ويدي تكاد تلمس طرفاً من لحاف سميّة لتشدّه عن بَدَنِ سميّة لعلّها تستفيق فيأتي إليّ صوتُها يَضُبُّ عنّي هذا النعاسَ الذي لا يضُبُّه عنّي إلاّ الحشرجةُ التي يعبق بها حلقومُها ويرسلها إلى أُذُنَيَّ فتتكسّرُ على طَبْلَتَيْهِما كما تتكسّرُ على صفحةِ الصخر الأمواجُ في زمانِ شباط الذي وَعَدَتْني سميّةُ أن تخبرني متى جاء بأنّه جاء.
تكاد يدي أن تلمس طرفاً من لحافها ويكاد الشيءُ الذي في صدري أن يحدّثني أنّه فاتني الفجرُ وفاتتْني صلاةُ الفجر، فما بالُ سميّة لا تزال مأخوذةً بالنعاس على غير عادة سميّة، وأمامها وأمامي يومٌ آخر من أيّامنا التي تكرُّ كرورَ حبّاتِ المَسْبَحَة، فليس فيها لنا إلاّ عَدُّنَا الساعاتِ وإلاّ تَـفْلِيَتُنَا أطرافَ النهار لعلّه يتذكّرنا ابْنٌ لي وأخٌ لها فتخفق ببابنا نَعْلاه ويموت الصمتُ في أذنيْها وفي أذنيّ ويرتاح هنيهةً في انتظاره الإنتظارُ؟
ولكنّها الجمعةُ اليومَ، ورائحةُ الجمعةِ يزيد في طيبها عَبَقُ البرتقالِ ورائحةُ الغائبيْن عنّا في بيروت، تسبقهما إلينا كما في صبيحةِ كلِّ جمعةٍ، فما هي إذن إلاّ أن تنهض سميّةُ وتتذكّر أخاها وابنة أخيها نينا وتقول لي وأقول لها وتسألني وأسألها حتى يقرَّ قرارُنا على الصنفِ الذي يشتهيانه من الطعام أكثر من غيره لتحضّره لهما قبل وصولهما إلينا بين أذان العصر وأذان المغرب ملهوفيْن على لقمةٍ طيّبة. ونينا تفرح بالكبّة، إن ذكرنا لها الكبّةَ، وَيَتَدَوَّرُ خدّاها وتضحك الإبتسامةُ الخجلةُ على شفتيْها، ولكنْ منْ لي بعمّتها ينشّطها اليومَ ويضرب فيها النخوةَ حينما تستيقظ وأُلَمِّحُ إليها، وكأنّني أذكر ذلك ذكراً عابراً، إلى أنَّ نينا لعلّها اشْتاقتْ إلى أكلةِ كبّة من يد عمّتها؟ الأرجح أنّها سَتَجْمُدُ عيناها في عينيّ لحظةً وتقول إنّ الكبّة شُغْلُها يطول وبأنّها تحسّ بأن ضغطها قد يطلع اليوم ثم تمضي إلى المطبخ في خطواتٍ جامدةٍ جمودَ عينيْها، فلا تلبث أن تغيب مدةَ تحضيرها قهوتها ثم تعود إليَّ فتجلس وترشف من فنجانها رشفةً بعد رشفةٍ، وعيناها عليَّ، والصمتُ بيننا ينتظر الفَرَجَ، حتى يأتي فجأة من فمها الفرجُ وقد قرّرتْ أن تتحامل على نفسها وتحضّر الكبّةَ لنينا وسامح، مع أنّ الأمر يستدعي خروجها لشراء اللحمة الطازجة وشراء الصنوبر الذي تحبّه نينا في حَشْوَةِ الكبّة، فأهزّ لها برأسي وأرفع عينيّ إلى السقف وأدعو بطول البال لها جهرةً وأقول.
ولعّلني كنتُأَعَنْتُها على أمرها اليومَ وعلى مُرّ الزمان فشددْتُ بيديَّ يديْها، ولعلّه كان أمرُ الصغيرةُ نينا غيرَ أمرها اليوم لو أنّني بقيتْ لي ذؤابةٌ من شباب. ولو أنّ سامحاً جاءني بها قبل أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العمر لتعهّدتُها له بالحبّ الذي تعهّدتُه به من قبل ولكنتُ أسكنتُها جوارحي ووسّدتُها الحضنَ الذي تَوَسَّدَهُ قَبْلَها هو، ولكنتُ حمّمتُها وسَرَّحْتُ لها شعرَها وجعلتُها مهفهفةً كما كنتُ أهفهفُ أولادي في ذلك الزمن الذي لم يعد من زماني والذي لم يترك لي ذؤابةً من شباب.
شيءٌ كخريرِ مياه النهر، أو كأنّه صداه، يَشيعُ في الهواء المطيّب برائحةِ الجمعة وبعبق البرتقال، وشيءٌ في الهواء يكاد يحدّثني أنّ الهواءَ وُلِدَ لتوّه من أرضٍ غيرِ الأرض التي فيها نشأتُ وفيها ربّيْتُ أولادي، فما هذه المَسْحَةُ التي تكتنفني من الغربةِ التي أحسّها كالوعد تنتظرني في مكانٍ لا أكاد أعيه إلاّ احْتمالاً وهَجْساً؟ لا عليكِ يا سميحةُ فلعلّ الفجرَ الذي فاتَتْني صلاتُهُ والنعاسَ الذي أطال على بدني الليلَ أكثر ممّا يحتمله من الليل بدني هُما شَرَّداني فَمَسَحاني بمسحةٍ من تلك الغربةِ التي أحسّها تنتظرني كالوعد في غَيَابَةِ وعيي.
ولكنْ مالي أعْجَبُ من غربةِ الهواء ولي من ذلِّ الكِبَرِ غربةٌ هدهدتُها في جوانحي سنواتٍ ورعيتُها حتى اطمأنتْ إليَّ وصارتْ لي كمسحةِ الأنس، خاصةً في ذلك الزمن الذي هاجَرَ عنّي وعن جهّار فيه الزمنُ وطال علينا الحصارُ الذي غَرَّبَ عنّا أولادَنا وغَرَّبَنا عنهم، نسومُ فيه عُدَيّاً وابنَه لؤيّاً رحمةَ الصبر منّا والعجزَ ويسوماننا فيه العزلةَ والقلّةَ، يجرّعاننا منها غصصاً كالحميم، ويأتينا صوتُ أحدِهما من خلف الأبواب المغلّقة علينا بالوعيد إذا لم نكتبْ لهما السرَّ الذي سيدفنه الكاتبُ بالعدلِ ساعةَ يكتبه. ما لي وللغربةِ ولعجبي من الغربة، فالدمُ المضطربُ في عروقِ بَنيَّ جميعهم من الدم الذي اضطربتْ به عروقُهُ هو، فلقد ورثوا عنه خميرةَ الشرّ التي ما هي إلاّ اللعنةُ التي لبسوها ولبستْهم والْتُبِسوا بها والْتُبِسَتْ بهم، فلا هي تكون إلاّ بهم ولا هم يكونون إلاّ بها.
أشُمُّ في نسمةِ الفجرِ رائحةَ يومِ الجمعة عابقةً بعبق البرتقال، وشيءٌ كخرير مياه النهر، أو كأنّه صداه، يداعب أذنيّ، فأنفضُ عن يديّ غاشيةَ النعاس فتكاد يدي أن تلمس طرفاً من لحاف سميّة لولا أنّني أتذكّر الغربةَ التي كُتِبَتْ على سميّة كلّما فُتِحَتْ عيناها، فأفتح في سرّي فمي وأدعو لها ولهم بطول البال وأقول.
سامح
ها هي السيّدةُ العذراءُ تطلّ كالفجر من على قمّةِ الجبلِ، تَمْلأُ عينيْها الحانيتيْن من فسحة الغرب، ماحيةً في انْتظارها وحيدَها الليلَ والنهارَ فليس إلاّ الفجرُ زماناً للزمان، تملاُ عينيْها، وبروعةِ صمتها تبارِكُ صمتَ القبورِ الهاجعةِ هنالك ربّما حيث يلتقي منحدرُ الجبلِ السهلَ وبساتينَ الحامض والبرتقال.
إليها، وهي على قمّةِ الجبل، يرتفع البرتقالُ عبقاً وزهرُ البرتقال عقوداً من الهمس، إليها يرتفع الآن كما كانَ قبل بدء انْتظارها، في ذلك الزمن الآخر، يرتفع إلى عين القمّة التي كانت آنذاك تحتفل في معبد عشتروت بعيدِ الأشواق ِ تتبادع في أجسادِ حامِلِيها وتلحّ حتى يرْتَمِينَ ويَرْتَموا مغشــيـّــاً عليهم من عبق البرتقال.
ومن عَبَقِ البرتقال كان لونُ فستانِها الصيفيّ وهي تَسْري أمامي في ممرّاتِ المقبرةِ التي نَضَّدَتْ باريسُ فيها جماجمَ موتاها وعظامَ أيديهم وأرجلهم وصدورهم في ما يشبه متحفاً للعظام يؤمّه السيّاح على عمق بئرٍ سحيقةٍ في رحم الأرض، من عبق البرتقال كان لونُ فستانها، وكانت أنفاسي كأمواج الصيف الناعسة تهجس بخواطر اللون وتنكسر كالهمس على شفتيّ وفي عينيّ ورئتيّ، وما زالتْ هي وما زلتُ أنا حتى تَلَفَّتُّ فجأةً وقد انْحَسَرَ الصمتُ والفناءُ عن العظام فإذا هي تُكْتَسَى لتوّها لحماً ويُكْتَسى اللحمُ غاشياً من اللون مغشِيّاً عليه من عبق البرتقال، ثم تُرْسَلُ من تحت ذلك العبق، تسري في رقّة الرجاء، نَعْسَةٌ من الشفق، كما أرسَلَ سليمانُ من تحت سرائرِ الزجاج الماءَ يجري ليّناً من تحت قدميْ بلقيس، تَراه ولا تحسّ به، فهو الوعدُ والإيفاءُ بالوعدِ تَلاَبَـسَا وهو طيَّ الحضورِ الغيابُ.
ينفتح فمي لحظةً على بلقيس لينغلقَ على طَعْمِ شيءٍ مُشَبَّعٍ بالفناء.
أبو طاهر
كلُّ أمّ ٍمسلمةٍ تموت هي أمّي، وأمّي اليومَ أنتِ يا مَنْ حملْنا جثّتـَـها الملتفّةَ بالأخضر اللونِ ونزلنا بها الطبقاتِ سبعاً في عتمةٍ كعتمةِ القبرِ قبل أن نبلغ بها القبرَ ونسلمها لعتمة التربة.
والقبرُ قريبٌ وإنْ تكنِ الجديدةُ المقبرةُ خارج المدينة، في أرضِ الشهداءِ، شهداءِ الحربِ ضدّ اليهودِ، يهودِ العربِ ويهودِ اليهودِ.
كلُّ أمّ ٍمسلمة تموت هي أمّي، وموكبُ الموت سائرٌ في اتّجاهِ الجنوبِ، جنوبِ لبنان، والطريقُ وحده سائرٌ على الطريقِ إلى السليبةِ الأرضِ، ليردَّ الزيارةَ لليهودِ، يهودِ اليهودِ.
كلُّ أمّ ٍمسلمة تموت هي أمّي، أحمل جثّتَها وأودعها رحمةَ الأرضِ كما سأودع بعد هنيهةٍ رحمةَ الأرضِ، أرضِ الشهداءِ في سينيق، جثّةَ أمّي وأمّ ِمَنْ لا أعرف. وها هي آخرُ حفنةٍ من الترابِ تنهارُ على الحجارة المسطّحةِ فوق الجثّة فأقف أنا فوق رأس الراحلة ألقّنها مبادىء رحلةِ الموتِ وأقول لها إنَّ مَلَكَيْنِ من الملائكةِ سيحضران الآن ويسألانها عن اسْمها وأنّ عليها أنْ لا تخاف ولا تحزن وأنْ تجيب مصرّحةً باسْمها كاملاً دون أن ترتجف شفتاها، ثم أقول لها إنّ الملكَيْن سيسألانها عَمَّنْ تعبد فَلْتَقُلْ لهما إنّها تعبد اللهَ وحده لا إله إلاّ هو، ثم أقول لها إنّ الملكَيْن سيسألانها عن دينها فَلْتَقُلْ لهما الإسلام جهرةً، ثم أقول لها إنَّ الملكيْن سيسألانها عن اسْم نبيّها فلا يُرْتَجْ عليها وَلْتَقُلْ محمّداً وتصلّي عليه، فيصلّي عليه المَلَكانِ، ثم تهبط عليها السكينةُ وتنضمُّ عليها جَنَبَاتُ القبر ضمّةَ النور والرحمة.
كلُّ أمّ ٍمسلمةٍ تموت هي أمّي.
سامح
العربةُ التي يجرّها البغلانِ تمزّقُ صفحاتِ الروايةِ من جديد وترسل طقطقاتِها العاريةَ من الصوت هيّنةً على الأرض، كوقع ِالنفناف ِفي الحلم، رخيّةً أصداؤها في أذنيَّ، وتمضي فتمضي بها الدربُ موغلةً في انْجذابها إلى الشرق المرصود لنا في الغيب، تَحُفُّ بها وبنا حفاوةٌ من الشجر على جانبيْنا، فكأنّنا نُصَعِّدُ في نَفَقٍ من اللون ومن عبق البرتقال.
تنشقُّ جفوني خلسةً على الموكبِ الصاعدِ صوب الشرق فتمتلىء بالسيّدةِ العذراء عيناي هنيهةً طيّعةً تنسبلان بعدها على العربةِ التي يجرّها البغلان، فإذا النعشُ منزلِقٌ في هَدْرَةِ النهر يتقاذفه الموجُ عُلُوّاً وخَفْضاً ودوراناً وسَحْباً ونَتْراً، ما أنْ يُغَيَّبَ منه طَرَفٌ حتى يُبْعَثَ الطرفُ الآخرُ إلى حيّز النور، والجثّةُ المضطربةُ في نعشها اضطرابَ الموج في مجراه لا تلبث أن تسبح أطرافُها في الماء المنسربِ إليها من خَلَلِ الألواح فتفغر فاهاً من العجب أنْ قد كُتِبَ عليها، وهي في الطريق إلى مقبرة أهلها في تلك البلدة النائية، أنْ تُعَمَّدَ هكذا العمادةَ الأخيرة. تفغر فاهاً، فتنكسر على بلاط القاعة قهقهاتُ الصبايا وأنا أشرح لهنّ أدبَ ذلك المجنون الأميركي ويَـتَـصايَحْنَ أنْ مُحالٌ أنْ يكون الذي كان وغُلُوٌّ في حُمَيّا الإبداع أنْ ينقلبَ البغلان على ظهريْهما فيحملهما على ظهره الموجُ وتُرى أرجلُهما وأيديهما تتخبّط في الجوّ كأنّما انقلب الكونُ فالفضاءُ هو الأرضُ ولجّةُ النهر الفضاءُ.
شيءٌ كهسيسِ الماء يتسلّل عبر زجاج النافذة التي إلى يساري، فتلتقطه أذناي ثم تضيّعانِهِ في زحمةِ الريبةِ التي تتكاثف في عينيّ الممتلئتيْن بجذوعِ الأشجارِ المشدودةِ بيقينِ الأرض إلى غَيَابَةِ التراب، ثم تتّحد عيناي وأذناي في حنينِ ترقّبِهما ومضةً من الزمن تُحيل الزمنَ إلى يقينٍ من الهسيسِ وتسرف وتلحّ في إسرافها حتى لا يدومَ من صفةِ الصوتِ إلاّ هديرٌ لم تسمعه أذنا بلقيس في قصر سليمان للنهر المُضْمَرِ مِنَّا غير بعيد. تُفْرَغُ من زحمةِ الريبةِ عيناي وقد زَحَمَ دائرتيْهما الجسرُ الذي حدّثوني عنه صبيحةَ هذا الموتِ، فإذا كلاهما لغةٌ في العبور.
إذنْ هو ذا الجسرُ الذي انْهار في الرواية والذي ظلّ قائماً ههنا، لا تزعزعه صرخاتُ الموجِ ولا تُسْري في حجارته وأخشابه الرعشةَ التي تُسْريها في أجساد العابرين عليه إلى أرض الموت. وإذنْ ها هو الموكبُ يتهيّأ أمامي للعبور المرصودِ له في الغيب، ليغيب بعد ذلك في عَطْفَةٍ لعلّها الأخيرة للدرب في رحلةِ الموتِ والوداع، وأنا عيناي، كأنّما يتقاضاهما الليلُ والنهارُ، تنسبلُ جفونُهما فينةً على موكب الأمّ التي اخْتارتْ لجثّتها مرقداً ثمّ تَنْفَضّانِ عن موكب الأمّ التي اخْتار لها الغيبُ ألاّ تختار، وما هذه في لغةِ الوعد إلاّ من تلك، وَإنْ تَنَافَرَ قَدَرَاهُمَا، وما الرحلتانِ سوى الرحلةِ عينها، كُتِبَتْ هناك، ولم تُكْتَبْ هنا بعد، سطورُها مرهونةٌ باحْتمالِ عبورنا سالمين إلى أرض الموت بذلك الموت الذي يجرّنا ونحمله، فراغاً يجرّ امْتلاءً، وانْكتاماً يقود أنفاساً تحرّق بحرارتها عروقَ الصقيع.
نينا
أقول لأبي في بيتنا في بيروت هل تموت قَبْلي أم تنتظرني حتى أكبرَ يا أبي فنكبرَ معاً ونموتَ معاً في يومٍ واحدٍ ولحظةٍ واحدةٍ ونُقْبَرَ في قَبْرٍ واحدٍ فلا أفترق عنكَ أبداً؟ يُمَلِّسُ على شعري أبي ويلتمع الدمعُ في عينيْه فتلتفُّ حولي يداه ويشدّني إليه شدّاً رفيقاً فأحسّ بأنفاسه تدفّىءُ أذنيَّ وعنقي ويأتي إليّ صوتُهُ مبلـــَّـــلاً بالدمع الذي يشدّني إليه لكي يخفيه عنّي، يأتي إليَّ صوتُهُ ضعيفاً كالهمس لا عليكِ يا حبيبتي سأنتظر حتى تكبري فنكبر معاً ثم يختبىء صوتُه منّي وأحسّ بصدره ينتفخ وبأنفاسه تعلو وتتسارع فأعرف أنّه يحبّني وأنّه يخبّئ حبَّه عنّي في الدمع الذي يلتمع في عينيْه المختبئتيْن في شعري.
حين يرتاح من الدمع ومن أنفاسه ويهبط صَدْرُهُ كما كان، يقول تعاليْ يا حبيبتي أحدّثكِ، ويحملني فَيُجْلِسُني على الكَنَبَةِ ويجلس بجانبي، رِجْلُهُ ملصوقةٌ برجلي، وعيناه تحومان حول عينيّ ولا تقعان على عينيّ أبداً، ويقول لا تخافيْ من الموت يا حبيبتي فما هو إلاّ مشوارٌ نذهبه إلى الله، فإن قَدَّرَ اللهُ ومُتُّ قبلكِ فلا تبكي ولا تحزني لأنني سأسبقكِ إلى الله لكي أهيّىءَ لكِ بيتاً جميلاً في حديقةِ اللهِ وأجعلَ لكِ في الحديقةِ كلَّ ما تحبّين من الطير والنبات والحيوانات الصغيرة التي تقرأين عنها في الكتب ولا تجدينها في بيروت وأظلَّ أنتظركِ هناك حتى تكبري ويكبر أولادُكِ ويتزوّجوا فتأتي إليّ وأجلس أنا وأنتِ في الحديقةِ ننتظرهم حتى يلحقوا بنا ونعرِّفهم بِجَدِّكِ الذي سَبَقَنا جميعاً ليدلّنا على الطريق.
ولكنْ كيف يكون قد دَلَّها على الطريق وهي الآن ذاهبةٌ إلى المقبرة الجديدة حيث لن يكون جدّي وحيث لن تنزل عليه، كما كانتْ تقول عمّتي للناسِ، والناسُ حول جدّتي يحمّمونها ويستمعون إلى عمّتي فجأةً تلتفتُ فتحدّث جدّتي وتخبرها أنّها لن تنزل على جدّي ولا على أحدٍ غير جدّي وأنّها ستنزل في قبرٍ جديدٍ طاهرٍ مثل قلبها وأنّ الله اخْتارَ لها أن تجاور أختَها التي سبقتْها أمس والتي هي الأخرى لم تنزل على أحدٍ في المقبرة الجديدة بل اختار لها اللهُ أن تسبق جدَّتي لتنتظرها هناك بعد غيابها عنها عمراً طويلاً طويلاً.
إذنْ ليس جدّي الذي دَلَّها على الطريق، بل أختُ جدّتي! وأبي قال إنَّ جدّي سَبَقَنا جميعاً ليدلّنا جميعاً على الطريق، فلماذا خَبَّأَ الحقيقةَ عنّي أبي؟
سميّة
كأنّني الآن في ذلك البستان الذي خلف النهر، حيث نشأتُ وقضّيتُ أحلى سنوات عمري. فَلَكَمْ كنّا وكنّا في ذلك البستان. لكم كنّا نَنْسَرِبُ عَبْرَ جُلولِهِ إلى بستان البلح، في أيّام البلح، فنلتقط ما سقط من حبّاتٍ حول جذوع النخلات الشاهقات في الجو، ثم نمسح تلك الحبّات بأطراف فساتيننا ونأكل حتى يَطْلَعَ الأكلُ من عيوننا، فنحمل في جيوبنا مِلْءَ جيوبنا من الأصفر والأحمر الزغلوليّ ونسرق خطانا وأنفاسنا عائدين. ولكم، في أيّام الصيف الخانقة، كنّا ننزلق إلى حافّة البستان، في الطرف الآخر لبيتنا، حيث نلتقي حافّةَ النهر، وننزل في الماء حتى رُكَبِنا، نتلذّذ بما تُسْرِيه لَدونَةُ الماءِ في أرجلنا من السحر الذي ينفذ إلى كلِّ نابضةٍ من عروقنا، وعيونُنا ترصد الضفّةَ الأخرى للنهر حيث شجراتُ الكينا المشرئبّات، تتسلّى أوراقُ غصونها بمعابثةِ الأنسام وبلهفة الضوء تنسرب من خلالها لِتَمْحُوَ ما طابَ لها أن تمحو على الأرض تحتها من ظلال.
الظاهرُ أنّ الموكبَ يتّئد أمامنا في المسير فسائقُ سيّارتنا يتّئد هو الآخر حتى لتكاد العجلاتُ تكفّ عن دورانها. تقفزعيناي من شجر البرتقالِ والحامض والأفندي إلى الإمتداد الصاعدِ شرقاً فأرى، وكأنني أراها لأوّل مرّة، سيّارةَ النعش تنعطف يساراً عن مسارِ الموكبِ ثم تختفي، فتنعطف خلفها السيّاراتُ واحدةً إثْرَ الأخرى، لتختفي مثلها، حتى ينكمش عددُ السيّارات المرئيّةِ أمامي إلى ما دون عدد أصابع اليد. تختفي آخرُ سيّارةٍ في الموكب فتمتلىء عيناي بالفراغ كأنّما انبثقتْ أمامهما هاويةٌ بلا قرار.
إذنْ هو المنعطفُ الأخيرُ، تحدّثني نفسي، الذي ينعطفه الموكبُ في طريقه بنا إلى مقبرة سينيق! وإذنْ فالمسافةُ كانتْ تَضْمُرُ كلّما أمعنّا في المسير لتبلّغنا فجأةً حافّةَ الأرض التي تربضُ منّا على مقربةٍ والتي عنّا تبعد أحلاماً في المسافات! وإذنْ هو ذا الجسرُ العتيقُ الذي كنتُ أسمع به من زمان، تضطرب تحته مياهُ النهر الذي سُمِّيَ باسْمِه وتُصَعِّدُ غضبتَها حشرجةً موصولةَ النَفَسِ، وهي تلاطم الصخورَ التي اعْترضتْ طريقَها فينةً ثم ما لبثتْ أنْ تصاغرتْ وانْطمرتْ، إلاّ رؤوسَها، تحت جبروت السيل الهادر.
بحذر اللّص تجسّ عجلاتُ سيّارتنا الجسرَ العتيقَ فنعبر بعبوره إلى أرض الموت، والموتُ أنفاسُهُ تزمجر من تحتنا، ملحاحةَ النداءِ، انْجَرَحَ من طول صراخِها الحَلْقُ وانْبَحَّ بحشرجةٍ موصولةِ النَفَسِ، فَيَا اللهُ لو كنتَ تأذنُ، ولن تأذنَ، للنفس التي بين جنبيّ لانْطلقتْ للتوّ وانْسَلَّتْ مع الريح فنفضتْ عنها أسْرَها وانْحَلَّتْ في السيل الهادر، وراحتْ معه حيث يروح، حرّةً كنيّةِ السيل، حرّةً كنيّةِ الريح، حتى يستفيق على رواحها فجأةً أبناءُ الراحلةِ، بعد قليل من الآن، بعد قليل.
لا ثمّ ألف لا! فلن يكون لهم اليوم ما يحلمون به ويتمنّونه في اسْتعجالهم الموتَ لي، وما يحلمون إلاّ بتوزّعهم من بعدي ثمنَ البيتِ الذي لن أورّثهم إيّاه، كما سيتوزّعون غداً قيمةَ الإرث الذي تركتْه لنا الراحلةُ. لا ثم ألف لا. وحقِّ السيلِ والريحِ لن يكون لهم ما يتمنّون. وإنْ يكنْ قد تَصَوَّرَ أحدُهم أنَّ حصارَهم الآتي لي سيدفع بي إلى إزهاقِ روحي ذات ليلة، وأنا في ذروةِ عزلتي، فأشرط بمقصِّ الأظافر شريانَ يدي اليمنى ثم شريانَ اليسرى وأنظر إلى الدم يحيل فِراشي إلى لزوجةٍ قانيةٍ فيهبط ضغطي ويرتخي بدني فأرسل نظري إلى فَتْحَةِ الباب أرْقُبُ دخولَ مَلَكِ الموت منها ليستلَّ روحي على حين غفلة منّي أو وأنا أنظر إليه، وإن يكن قد تصوّر أحد منهم أن أنتهي هذه النهاية، فلشدّ ما ستذهلهم خاتمةُ المأساة. فَها هم يتحلّقون حولي، وأنا المسجّاةُ تحت عيونهم في سريري الذي لم تلطّخه الدماءُ، يقرأون وصيّتي التي أهَبُ فيها منزلي كاملاً بكلّ ما فيه إلى الوَقْفِ الماروني في صيدا، وإلى جانبهم مطرانُ المدينة الذي، هو الآخر، يقف قرب سريري، مأخوذاً بالخبر الأكيد على غرابته، يقف هناك هنيهةً ثم يحوّل عينيْه إلى النافذة التي إلى اليمين وينظر عبرها إلى السماء، فكأنّه يراها لأوّل مرّة، ولأوّل مرّة يرقص الشيبُ في لحيته المرسلةِ إرسالاً، فيتهدّج صوتُه ويقول: قُدِّسَ الربُّ، هذا مَخَاضُ المدينة!.
الفصل السابع
- كسّاب
- سامح
- طارق
- وسيم
- صدى لصوت
- أبو محمود
- إسماعيل
- سميحة
إنّ الميّت إذا وُضِعَ في قبره فإنّه يسمع خَفْقَ نعالهم حين
يُوَلّونَ مدبرين.
عن أبي هريرة عن النبي (صلعم)
بعدما أنزلوني سمعتُ الرياحْ
في نواحٍ طويلٍ تَسُفُّ النخيلْ،
والخطى وهي تنأى، إذن فالجراحْ
والصليبُ الذي سمّروني عليه طوال الأصيلْ
لم تمتني...
بدر شاكر السيّاب
المسيح بعد الصلب
كسّاب
بالرغم من هبّةِ الريحِ ولسعةِ الصقيعِ، فهدوءُ المقبرة له هَيْنَمَةٌ غيرُ هينمتِهِ في المقبرةِ القديمةِ، فلعلّه البُعْدُ عن المدينة وانْسراحُ الأفقِ ههنا ما يُكْسِبُ المكانَ نكهةً كنكهةِ البستان الذي اشتريتُه منذ نيّفٍ وثلاثين عاماً، في ذلك الزمنِ الذي كانت العصافيرُ فيه أكثرَ من عددِ الناسِ وكان بيتُ الجارِ يبعد عن بيتِ جارِهِ بَلْسَماً من المسافات.
الريحُ تكشح الصفْوَ عن كلِّ الوجوهِ فتنطلق الأيدي بالنعش عَبْرَ بوّابةِ المقبرة وتمرّ به تحت شجرةِ الكِينا، فتتثاقل خطى المشيِّعينَ هناك وكأنّما ثَقُلَ على المشيِّعينَ النعشُ، أو كأنّما امْتثلتْ إرادتُهم إلى الرغبةِ الخفيّةِ في جسدِ المسجّاةِ في نعشِها في أن تُطيلَ لحظةَ إحساسها بأغصان شجرةِ الكينا وَاسْتِمتاعِها بالرائحةِ الكامنةِ في جذعِها وأوراقِها، ذلك السحر الذي أدمنتْهُ، سنواتِ عمرِها، بصحبةِ شجراتِ الكِينا التي تزنّرُ المطعمَ وتصعد إلى عينيْها وأنفِها، من خَلَلِ نوافذِ البيتِ، في الليلِ والنهارِ، مضمِّخةً لها الهواءَ الذي تتنشّقه في كل الفصول.
والمطعمُ لا يزال قائماً حيث تَرَكْتِهِ وتركه زوجُكِ وتركه من بعدكما ابْنُكِ الذي كان، وشجراتُ الكينا التي اجْتُثَّتْ من جذورها هناك ها هي تطلع عليكِ اليومَ حيث جذورُها وأنتِ ستحتلاّنِ الوجهَ الآخَرَ للأرض.
نلتفُّ يساراً مع الْتفافِ النعشِ، فإذا الحفّارُ وشريكُه لا يزالان في الزاويةِ الشرقيّة من المقبرة، يُفْرِغانِ الحفرةَ الجديدةَ من أزليِّ التراب ويرمقان العيونَ المستطلعةَ بنظراتٍ ليستْ من نظراتِ العيونِ، نظراتٍ تذكّرني بقجّتي بعدما كنتُ أفرغها من القروش المعدنيّة وعشراتِ القروشِ أيّام كنتُ لا أزال في العاشرةِ من العمر، أو أكثر قليلاً أو أقلّ قليلاً.
سامح
لِلْهُدْهُدِ مجذافانِ وبحرُ الهدهدِ زرقةُ ماءِ البحرِ وليس الماءْ
والموجةُ تِلْوَ الموجةِ لَهْفُ نسيمِ الصبحِ ورفُّ ضياءْ
وغيابٌ طال فَأَغْضَبَ سلطانَ الأشياءْ
سلطانَ الأرضِ وما يَرْعى في الأرضِ وما يَرْقى بسماءْ.
وَاحْتَدَّ سليمانُ المحمومُ ولَبَّتْهُ شفتاه:
عن عيني غاب طوالَ الليلِ ولم أعلمْ مَسْراهْ
الهدهدُ إنْ لَمْ يأتِ بعذرٍ مذبوحٌ بِهَوَاهْ.
طارق
هنيهةٌ هي تنتهي بعدها رحلتُنا بكِ إلى الأرض فنسدلُ عليكِ ستاراً من العدمِ ونمضي نعبرُ الدربَ عينها تلقاءَ المدينةِ التي نسيتْكِ بلا ريبٍ، وهي التي لم تتذكّرْكِ أصلاً ونحن نخوض بجثّتِكِ شارعَها الرئيسيَّ الذي عَبَثاً نَبَشَ ذاكرةَ الإسْفلتِ فلم يَجِدْ من أثرٍ عليه لقدميْكِ ولا مِنْ رنّةٍ للصدى. كأنّكِ ما كنتِ، وكأنّ الدنيا التي أنكرَها عليكِ الذي وَرَّثَــكِ الليلَ والنهارَ تنكركِ اليومَ، فكأنّكما ترافقْتُما، الرحلةَ كلّها، تُوَلِّي إحداكما للأخرى ظهرَها.
وها هم أبناؤكِ الذين سَعَيْتِ بهم إلى نور الدنيا تسعى بكِ أقدامُهم إلى ظلمةِ القبرِ الذي كنتِ تخشينه، والذي ما هو إلاّ فَزَّاعَةٌ نُصِبَتْ في كَرْمِ الأبديّةِ، فانْظري إليهم، اللحظةَ، يُنْزِلونَ على عَجَلٍ، عن كواهلهم وكواهلِ المشَيِّعينَ، نَعْشَكِ المسكونَ بالصمتِ، وبصمتٍ يريحونه على تلّةِ التراب التي ما خرجتْ من باطنِ الحفرةِ إلاّ لتنهالَ بعد هنيهةٍ فوقها وتظلَّ هناك مثل دُمَّلٍ جاهَرَ به جسدُ الأرض.
عبثاً إذنْ حَمَلْتِ بأبنائِكِ واحداً واحداً وعبثاً إذنْ عَدَدْتِ شهورَهم فيكِ تسعةً تسعةً، فها هم جميعاً عيونُهم تسترق النظراتِ نحو بوّابةِ المقبرةِ، توّاقةً جميعُها إلى نَبْذِكِ في الحفرةِ التي ستحلّين فيها ضيفاً على أَلْسِنَةِ الدودِ الذي سيحفر فيكِ الفراغَ الذي أوّلُهُ النفيُ وآخرُهُ الصدى.
كأنّكِ كنتِ العمرَ كلَّه وما تكونين، لتنتهي بكِ الرحلةُ الآن ههنا حيث أبداً ستكونين وحيث لن تكوني أبداً.
هو ذا معنى وجودِكِ وهو ذا الإرثُ الذي تتركينه لنا اليومَ ونحن تستحثّ عيونُنا الحفّارَ وشريكَه أنْ يُفْرِغَا منكِ النعشَ ويملآ بكِ التربةَ التي لا تردّ أحداً. خذي معكِ الإرثَ الذي هو ضعفُكِ وانْخذالُكِ وتلاشيكِ في وجه طغيانه وعتوِّهِ، ذلك الذي علّمكِ عبادَةَ القوّةِ بمنحِهِ إيّاكِ نعمةَ قدميْه، تغسلينهما له كلَّ مساءٍ في خشوعِ الشاكرين.
خذي معكِ الإرثَ الذي صَدَّعَ لنا الأرضَ التي سنرثها عنكِ وكفّني به الفراغَ الذي سيحفره فيكِ الدودُ، فَهَا أنا ذا أطأ بقدميَّ الأرضَ التي فيها ستنزلين، بينما تتوجّه عيناي إلى قبّة السماء، حيث سيولَدُ للسؤددِ اليومَ من رحمِ الموتِ مُرْتَقىً دَرَجَاتُهُ كالسماواتِ سبعٌ، تهمس فوقها قدماي، وقد شَفَّتَا شَفَّتَا، فَهُما المرتَقى وهما همسةُ الوطءِ ورَجْعُ الصدى.
سامح
لَمْ يُدْرِكْ أَحْكَمُ أهلِ الأرضِ الحكمةَ مِنْ مَسْراهْ
فالهدهدُ بَذَّ بعلمِ الغيبِ سواهْ
وَأَتاهُ بقصّةِ بلقيسَ المعتزَّةِ في سَبَأٍ وأتاهْ
بالوعدِ جراحاً تنزف شيئاً غيرَ دماهْ.
وسيم
بيني وبين النعشِ دائرتانِ سوداوانِ من نظّارتيَّ، وبيني وبين الحفرةِ أقدامٌ كثيفةٌ ترتفع عن مواطئها لحظةً ثم تنخفض إلى حيث مستقرّها، فلعلّها تخفّف من لسعةِ الصقيعِ الصاعدِ إليها من عُرْي التراب. وفوق الأقدامِ والسيقانِ تلعب في الريحِ المعاطفُ السوداءُ والرماديةُ والبنيّةُ الشديدةُ الإحتراق، جيوبُها تكتم الأكفَّ المرتجفةَ تارةً وتارةً تلفظها لتنفخَ فيها الأفواهُ الأنفاسَ التي من بخارٍ. ومن خلف الدائرتيْن السوداويْن تلتقط عينايَ، غَيْرَ مَرْئِيَّتَيْنِ، النظراتِ المستطلِعةَ عن يمينٍ وعن شمالٍ ومن أمامٍ حيث تلتفت عيونُ البعض إلى الوراءِ فراراً من الجثّة التي لا يحرِّك ثوبَها الريحُ في النعشِ ولا تتحرَّك طلباً للدفءِ أطرافُها التي جَمَّدَهَا لهاثُ الصقيع.
سامح
يا هدهدُ عُدْ بَلِّغْ بلقيسَ بأمرِ اللهْ
أنْ تأتيَ طائعةً ترضى مثلي بقضاهْ
وسأرصدُ عينَ الجنِّ لها إنْ لم تعبدْ إيّاهْ
وسأبْلوها بالقهرِ إذا اتَّخَذَتْ من دونِ اللهِ إلهْ.
صدى لصوت
يُنْزِلونَها بعد لحظةٍ ثم يَنْزِلُ الليلُ ثم يطلعُ الصباحُ، فَتُشَرِّدُ الصفوَ عاصفاتُ الغيومِ وتَسيلُ السماءُ بالهطلِ فَيُسَقْسِقُ الماءُ من خَلَلِ الترابِ عليها وهي طيَّ الترابِ سَقْسَقَةً تنعش الموتَ من غفلةِ الموتِ فيهبّ لأخْذِها ثانيةً فيلوِّحُ له بالفناءِ الفناءُ.
سامح
عَبَقَتْ بالهدهدِ أجنحةُ الليلِ المحجوبِ رؤاهْ
فَأفاقَ الجرحُ الأقدسُ في بلقيسَ وجَرَّحَ فيها الآهْ:
يا جُنْدُ بماذا أدْرَأُ عنّي الجرحَ وكيف أردّ أذاهْ
ورماحُ الغيبِ معتّقةٌ بالغيبِ مرطّبةٌ بِنَداهْ؟
أبو محمود
للحظةٍ أحسّ بأنني لستُ أدري إنْ كنّا نحمل إليكِ اليومَ يا زوجتي جثّةً ستنكر جيرتَها جثّتُكِ التي سكنتْ بالأمسِ حضنَ الترابِ في هذه الغربةِ من الأرض، أم أننا نحمل إليكِ البشرى بلقاء التي غَرَّبَتْكِ الحياةُ عنها نيِّفاً وثلاثين عاماً، والتي نيّفاً وثلاثين عاماً كنتِ تلهجين بذكرها فتقرعَ في عينيْكِ الدمعةُ الدمعةَ كلّما طاف بخيالِكِ لوجهها طيفٌ فتتشبّثُ به جفونُكِ وتطبق عليه أطرافَها، تَسْتَبقيه ما طاب لها أن تستبقيه، حميماً يشدّ إلى مقلتيْه حميماً. وللحظةٍ أحسّ بأنّني لستُ أدري، واللهِ، يا رفيقةَ عمري، إذا كان يُؤْذَنُ لعينيْكِ اللتيْن انْطَفَأ فيهما النورُ بالأمسِ أنْ تُلْهَما بالروحِ اليومَ أنَّ رفيقةَ صباكِ الأوّلِ لحقتْ بِكِ ولمّا تَمْضِ عليكِ في حضنِ الترابِ أربعةٌ وعشرون ساعة.
شيٌ هو من صُنْعِ اللهِ نقبله نحن كما ستقبلينه أنتِ، إذْ لا مَرَدَّ لحكمِ اللهِ الذي غيبُه الحُكْمُ وحُكْمُهُ الأمرُ وطاعتُنا لحكمه الحكمةُ والنجاة.
وها هم حول نعشها الآن يتحلّقون، والنعشُ على تلّة الترابِ، وأنتِ، يا مَنْ وَرَّثْتِني الليلَ والنهارَ مِنْ بعدكِ، أدنى بالجسد والروح إليها هي منّي أنا، فغربتي التي رميتِني بها أمس تشتدُّ عليَّ اليومَ وأنا أنظر إلى المشيِّعين الذين لا أعرف مِنْ بينهم مَنْ كنتِ لهم خالةً ولا هم يعرفونني.
وها هي الأيدي تتهيّأُ حول النعش لترفع جثّةَ أختِكِ من طَرَفَيْها، فتسلمها إلى أيدي الحفّار وشريكِهِ، فَتُودِعُها الأيدي تلك الحفرةَ التي حُفِرَتْ لها في الغيبِ من أوّل ما كان الغيبُ، جارةَ الأنسِ لكِ، يا رفيقةَ عمري، فَاهْنَئي بانْقضاءِ غربتكِ التي سيبدّدها الآن الحضورُ الحميمُ لرفيقةِ صباكِ، تتسامران بعد طولِ غيابٍ وتقصُّ إحداكما على الأخرى ما فاتَها أنْ تقصّه عليها في زمنِ البعدِ الذي كان والذي بعد هذه اللحظةِ لن يكونَ أبداً.
ليلةَ أمسِ عرفتِ أنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ فَضَمَّتْكِ جنباتُ القبرِ ضمّةً تحدّثني نفسي أنّها كانتْ ضمّةَ الصفحِ والغفرانِ، وها هي أختكِ عمّا قليلٍ ستعرف ما عرفتِ بعد انْهمارِ الترابِ عليها، فعسى أن يكون هيّناً عليها ما كان عليكِ هيّناً فتتساويا في ضمّةِ القبرِ كما ستتساوى بعد قليلٍ فوق قبريْكما تَلَّتَا الترابِ اللتانِ كُتِبَ عليهما في الغيبِ أنْ تتجاورا من أوّل ما كان الغيبُ، فوداعاً لكما في لقائكما اليومَ ثم وداعاً.
سامح
الفكرُ يَدُورُ وفي رَدَهاتِ القصرِ تَدورُ به قَدَماهْ
والجنُّ تشيد لعينيْهِ سحراً تَهْواهْ
والطيرُ تَبوحُ وهاكَ الوردُ يبثّ شَذاهْ
والنورُ مُدَلّىً كالعنقودِ فَمَا أشهاهْ
ومَرَايا القصرِ تَعومُ على أسرابِ مياهْ
حتى دخلتْ بلقيسُ عليه فكان العُرْيُ رداءْ
زنبقةٌ حَفَّتْ زنبقةً من تحتِ الماءْ
فَالْتَفَّ سليمانٌ بالجرحِ وكان قضاءْ
خَلَعَتْ عيناهُ رداءَ المُلْكِ إذِ ابْتَهَلَتْ عيناهْ
عيناهُ القلبُ وَرَفُّ القلبِ على المرآةِ جداولُ آهْ
بلقيسُ الجرحُ الجرحُ ولَثْمُ الجرحِ شِفاهْ.
إسماعيل
القبرُ مسافةٌ في الزمنِ فُتِحَتْ في رحمِ الأرض. وفَتْحُ الأرضِ إغلاقٌ للثغرةِ التي تفرّق بين غريبيْن ما هما بالغريبيْن، ألاَ وهما الزمانُ والمكانُ. فَفي حشرةِ القبرِ تمّحي اللحظةُ في الحيّزِ ويمّحي الحيّزُ في اللحظةِ ويندمل الجرحُ الذي ينزف بينهما غربةً فإذا الزمانُ مكانٌ وإذا المكانُ زمانٌ وإذا هُما تَجَزُّؤٌ للوعيِ كان ثم نَفى كَوْنَهُ الحدْسُ.
ولقد أنزلوها لِتَوِّهِمْ ووسّدوها الترابَ، فَها هو الجسدُ الأثيريّ ينتشر فوق مستوى القبر شاغلاً في الجوّ فسحةَ ذاته. رأسُهُ، مثلَ رأسِ الجثّةِ، يستشرفُ الغربَ، وقدماه، مِثْلَ قدميْها، تمتدّان ناحيةَ الشرق. ولسوف يظلّ الجسدُ الأثيريّ على وضعه هذا حتى تأخذَ الصيحةُ الأرضَ ويُؤْذَنَ له بالنهوضِ فيستوي في الجوّ منتصباً على قدمَيْه ووجهه مُشَرَّعٌ إلى حيث يشرق الحقّ.
يومَها يتشقّق رحمُ الأرض وتَتَنادى ذَرَّاتُ الترابِ أنْ هلمّي إليَّ، هلمّي.
سامح
بلقيسُ، امْتَثِلي للإيمانِ وكوني....
...الآنَ الآنَ أكونْ
ولآخرِ يوم ٍفي الدنيا سَكَناً لسليمانَ المفتونْ
آمنْتُ وجئتُ أكفّرُ عن آثامِ سنينْ
خُذْني بالقهرِ وخُذْ منّي السلوانْ
فلعلّ عذابي بين يديكَ هو الغفرانْ
والهدهدَ فَاجْزِ، رسولَ النورِ، بما أوحاهْ
أرسلْه إلى أطرافِ الأرضِ يعلّمها نجواهْ
فالهدهدُ بذَّ بعلمِ الغيبِ سواهْ.
سميحة
ومَنْ نعمّرْه ننكّسْه، فَهَا أنذا الممدودةُ لي في العمر منكّسةٌ في واهنِ البدنِ، يهجسُ الفجرُ بي أنني قابَ قوسيْن من حفرةِ القبرِ، بل لعلّني أدنى. ولعلَّني في الغدِ يخلصُ زيتي فأنوصُ رويداً رويداً أو أنطفيء فجأةً كالشمعةِ التي سهرتْ مع الليلِ ورحلتْ مثله مع الفجر. ولعلّ مشيئةَ اللهِ تقضي بأنْ ترحلَ بعد رحيلي أختي البعيدةُ عنّي وتُقْبَرَ بعد ذَيَّاكَ البعدِ جَنْبي. فإن تكنْ تلك مشيئةُ اللهِ، فلسوف يُخْتَلَطُ عليكَ الأمرُ، يا سامحُ، سبعةَ أشهرٍ لا تعرف خلالَها أيُّهما قبري وأيُّهما قبرُ أختي.
ولسوف تأتي تزورني، يا سامحُ، فتقف أمام قبرِها وتقرأُ على روحي الفاتحةَ ظنّاً منكَ أنّكَ تقرأها فوق قبري. ثم تتوجّه بكفّيْكَ إلى قبري وتقرأ الفاتحة على روحها ظنّاً منكَ أنّكَ تقرأها فوق قبرها هي. سبعةُ أشهرٍ، يا سامح، ستمرّ عليكَ وأنتَ ساكنُ البالِ مطمئنُّ الروحِ حنى يَفْجَأَكَ أخٌ لكَ يوماً بالحقيقةِ فيلفّكَ الصمتُ ويَسْري في ضميرِكَ الخجلُ فتعتصم بعزلةِ سريركَ تتفكّر في سِرِّ ضياعِكَ وفي سِرِّ المغزى من حَدَثٍ كهذا.
وَقْتَها أكون أنا آخذةً في الفناء، بل في عُمْقِ الفناءِ أكون، فلا تُسْلِمْ عينيْكَ الحزينتيْن إلى حزنٍ جديدٍ لا غِناءَ لكَ فيه ولا لي. وقتَها يكون الفناءُ قد خَلَعَ عن عظامي اللحمَ والجلدَ والعروقَ جميعَها أو يكاد.
ولكنَّ أمري وأمْرَكَ وأمرَ المتحلّقين حولي لشيءٌ غريب. فما الذي جَرَّأَهُمْ على التحديق فيَّ، وأنا المرأةُ، ممدّدةً أمام عيونهم، وهُمُ الرجال؟ وما لي أهرفُ بحديثِ الفناءِ وكأنّني شَرَعْتُ فعلاً بالفناء؟ أأكون فعلاَ أدركني الموتُ ولم أنتبه لاسْتِلالِهِ الروحَ منّي؟ ربّما وربّما لا. ولكنْ طالما أنَّ الشابّيْن الغريبيْن الملتحييْن قد بادرا إلى تثبيتِ الحجر المستطيلِ المسطّحِ على حافتيْ الحفرةِ وعلى ارتفاعِ زفرةٍ حرّى منّي، فأغلبُ الظنّ أنَّ الموتَ أخذني وأنا في غفلةٍ عنه. وطالما أنّهما يثبّتان الآن إلى جانب الحجر الأوّل حجراً مثله مستطيلاً مسطّحاً فلا يبقى مني مُعَرَّضاً لنورِ النهارِ إلاّ قدماي، فلا ريب أنَّ الجمعَ موقِنٌ بأنني مِتُّ وانتهيت. وبما أنَّ الحجرَ الثالثَ ينخفض الآن عند الطرفيْن الآخريْن للحفرةِ ليسدّ عنّي آخرَ نَفَسٍ من أنفاسِ النورِ، فلا ريب أنّه ليس من ريبةٍ في نفوسهم حول حقيقةِ موتي. وها أذناي تلتقطان انْهمارَ الترابِ فوق الحجارةِ المسطّحةِ بيني وبين النهار. إذنْ أنا حقّاً! لا أنا لستُ حقّاً! سأفتح فمي إذنْ وأصرخُ بهم إذنْ أن لا يهيلوا عليَّ الترابَ الترابَ الترابَ. ولكنّ فمي فاغرٌ، فكيف لي أنْ أفتحَ فماً فاغراً وأطلق منه الصرخةَ أنْ لا تُهيلوا عليَّ الترابَ الترابَ الترابَ الترابَ الترابَ الترابَ الترابَ؟
سامح
يَتَهَدَّجُ صوتُ سليمانَ المسحورُ وصوتُ العشقِ صلاهْ
يبتلُّ نسيمُ الصبحِ بمجذافٍ ينسابْ
ينسلُّ الهدهدُ في الزرقةِ نوراً بضبابْ.
[تمّت]
[من آذار 1992 إلى نيسان 1994]