د. صلاح الدين الحريري

"حرائق صيدون":سمفونية الظلال في سفر البراءة والحكمة

"حرائق صيدون":سمفونية الظلال في سفر البراءة والحكمة

"حرائق صيدون":سمفونية الظلال في سفر البراءة والحكمة

حكاية الممكن والمستحيل

 

"أفكارنا هي ظلال مشاعرنا،وهي دائماً داكنة،فارغة وبسيطة"

نيتشه

 

     تتفرد مسرحية صلاح الدين الحريري حرائق صيدون، معزوفة للظلال، بخلق لحظة مسرحية  تنبلج من الزمن اليقيني المتداخل بزمن التأمل وأحلام اليقظة والزمن الآخر الذي هو زمن التاريخ والأسطورة، حيث تتداخل تلك الأزمنة بعضها ببعض فتأخذك اللحظة بعيداً ثم تلقي في وجودك بهمهمات الظلال الهابطة على أرجاء المكان. المكان والزمان صنوان للحاضر والماضي على إمتداد رقعة الحيّز الذي يتحول ويتبدل مع تبدل حالات الوجود ليخلق ملحمة الوجود، في أعمق تفاصيلها، في لغة شعرية مفعمة بالخيال والعاطفة، تكاد تكون لغة المسرحية بأكملها. شخصيات في المسرحية يخلقها الكاتب من الواقع كما هو، وشخصيات يخلقها من الواقع كما يتصوره، فتتبلور عملية الخلق في حبكة درامية ، هي في الواقع حبكتان مختلفتان تتساكنان في خيال الكاتب الذي يحيل الزمن من الحاضر إلى الماضي ومن الماضي إلى الحاضر بتقنية متميزة عنصرها الأول هو التوتر الملحاح بين المستويات المختلفة للوجود حيث يتبدى جوهر العلاقة بين الحقيقة والواقع والظلّ وظلّ الظلّ . تلك العلاقة،  في كينونتها الأصلية، هي ظل ّ للحقيقة المتخفية في تحركات الظلال والتي في ماهيتها الأولى هي ملحمة الوجود: الحقيقة التي هي "الظلّ المتأرجح بين الظلال".

     تنبثق المسرحية للتو ساعة إنبثاق سامح الجمري على خشبة المسرح آتياً من سلسلة روايات الكاتب. هو الشخصية الشاعرة والمرهفة في روايات صلاح الدين الحريري،  وقد نيَف الآن على الستين من العمر بعد أن عاش كل هموم وصراعات الأحداث التي تتالت عبر الروايات الأربع : وعد شباط، على قارعة الغيب،   صلصلة الرعد، والرحلة نحو الفجر. ينبثق من الروايات لكي يؤكد وجوده ، يتسلل عبر الصفحات، هارباً من النسيان، يحلم بأن يتنفس الهواء النقي، يريد أن يصبح ويعيش مثل كل البشر من حوله، يصبح ظلّ الظلّ للحقيقة الثابتة التي هي حقيقة الكاتب الأصلية، يسقط نفسه كمعزوفة فنية في سمفونية الظلال. يريد أن يصبح بشرياً من لحم ودم فيتجسد على الكورنيش الغربي لمدينة صيدا ويعيش حيثيات الزمن الحاضر، تحاكيه من تجربته الشخصية شخصياتٌ تجسد واقعاً من التفكك والإنهيار يتأرجح في ظلال حقيقة سامح الملتحفة برداء العزلة والتفرد والتوجس والتوق إلى الخلاص الأبدي عبر نفحات وجدانية شفافة وعبر محاولات إثبات الوجود بواسطة الفن والخيال، الذي هو في الواقع ظلّ آخر من ظلال الحقيقة الأبدية المترنحة دائماً على عتبة المجهول. يعلن سامح إنفصاله عن كاتب الروايات وأنه يبحث عنه لكي يعلن له بصراحة تحرره من عبوديته لرواياته، يريد أن يصبح شخصية حرّة تتحدى الواقع وترسم ملامحها الفريدة من خلال نسج مسرحية داخل المسرحية الأصلية تلقي بظلالها الداكنة على أرض المدينة القديمة صيدون في أيام الفينيقيين.   يؤكد سامح للجمهور الذي يتخيله بأنه سيصوغ لهم مسرحية عن مدينتهم في زمن غابر لها.

     ولإستكناه طبيعة العلاقة بين الحياة المعيوشة والنص المسرحي الذي يحاول ترجمة هذه الحياة لغةً وحواراً، ولإستكناه طبيعة العلاقة بين الشخصيات في النص والممثلين الذين يحاولون ترجمتها أداءً وتمثيلاً على خشبة المسرح، يلجأ الكاتب إلى إستعمال تقنية فنية معقدة تشبه إلى حد ما التقنية التي إستعملها بيرانديلّو في مسرحيته "ست شخصيات تبحث عن مؤلف". يعتمد بيرانديلّو حبكة درامية معقدة تسلط الضوء على ست شخصيات كانت قد ولدت في خيال الكاتب على هيئة "إسكتشات"، على نية تطويرها فيما بعد في عمل روائي. إلا أن الكاتب تخلّى عن هذه الشخصيات حينما أحسّ بعجزه عن كتابة  رواية بطريقة مباشرة وبتسلسل زمني واضح. الشخصيات الست ترفض قدرها هذا وتتمرد على كاتبها فتتوجه إلى خشبة المسرح بحثاً عن مؤلف أو مخرج تروي له أحداث حياتها وتحاول أن تملي عليه وعلى الممثلين كيفية أدائهم للأدوار كما تتصورها هي، الشخصيات بذاتها، لا كما يستوعبها ويتصورها المخرج والممثلون. الشخصيات الست تصرّ على أن تخلق نفسها الآن خلقاً جديداً وأن تصنع لنفسها قدراً خاصاً بها من صنعها هي، لا من صنع المؤلف أو المخرج أو الممثلين. جوهر الصراع في مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" هو ذاته جوهر الصراع في مسرحية حرائق صيدون ، وهو التوتر الأزلي الأبدي بين الواقع كما هو، والواقع كما يتصوره الفنان، والواقع كما يرى هو نفسه... توتر ملحاح بين مستويات مختلفة للوجود . جوهر العلاقة بين الحقيقة/الواقع والظلّ وظلّ الظلّ كان وسيبقى الحيرة عينها التي شغلت العقل البشري منذ أن سوّلت له نفسه أن يطرح الأسئلة الكبرى.

     في سمفونية الظلال تتكون سمفونية الوقت  فتتحول اللحظة الحاضرة إلى حدث آني في صلب الحياة اليومية ومن ثم إلى حدث في عصر غابر يحاكي ظلال الظلال المتلاحقة والمتعاقبة تعاقب مسارات الغيوم في السماء . ويلتصق الماضي بالحاضر وبالمستقبل فكأن الماضي هو الحاضر والحاضر هو الماضي. حاضر سامح هو ملحمة الإلتفاف بين الحاضر والماضي حيث ينسدل الزمن الحالي بسطوته على الزمن الغابر فكأنما سامح قد أصبح عراباً للزمن يغيّره ويبدله وكأنما في يده عصا سحرية  يحدد بها مسار الحدث حسب رغبته الشخصية أو حسب حالته السيكولوجية التي يُعبّر عنها بحالات التفكك والإنهيار التي تسير بحياته الشخصية في مسار التقهقر والإنحلال حيث لا وعود ولا عهود و لا خيارات إلا خيار الإستسلام لإرادة الحياة التي لم تعد تفاجئه بشيء من مكنوناتها التي أسبغتها عليها أحداث حياته السابقة مع أولئك النسوة اللواتي يعترضن طريقه في الحياة، كما على الكورنيش، في إطار محاور ثلاثة.

     المحور الأول يتحدد من خلال حواريات سامح مع نوّارة، النورية التي ترتاد الكورنيش بحثاَ عن رزقها. ويتبين من خلال الحوار أنها تعرفه منذ زمن بعيد. فهي قد رافقته عن بعد في غير مكان وراقبته في غير زمان وهي التي ستسبغ عليه بعضاً من أحلامها – أحلام العذرية المتجسدة في جسد إبنتها ثُدَيَّة وفي عبق الياسمين الذي سترميه حول رقبته فتقيده به وتسلب لبّه . وتدخل النوريتان الصراع المتمحور حول سامح ، فكلٌ من زوجته السابقة نُهيّة وعشيقته السابقة تمارا وحفيده هادي والصيداوية الغريبة يريد الإستئثار به من خلال الدخول إلى حياته من جديد . نوارة تدخل حلبة الصراع من بوابة الرغبة واللذة الجنسية، أساس الحياة الإنسانية البدائية،  وتعتمد في مقاربتها تلك عل تحريك "ألإيد"- الأنا السفلى- عند سامح والتي تعرف هي من خبرتها أنها المحرك الأساسي للشخصية البشرية فتعده بأنها ستعطيه السلام الذي ينشده: "فمثلي من بيدها أن تعطيك السلام". وبالرغم من أنها تلقى معارضة قوية من سامح في بادىء الأمر إلا إنها في النهاية ستقدر على جرّه معها إلى عالمها حيث السقوط المريع لسامح وحيث تصل درجة الإنهيار في حياته الشخصية والعاطفية والسيكولوجية أقصى مداها . ملامح هذا الإنهيار تبدو جليةً مذ تطأ قدما نُهيّة بلاط الكورنيش لتذكّره بسبب إنفصالهما وبالتراجع الذي حدث في حياتهما بعد ذلك كنتيجة حتمية له. ملامح الأنهيار تتجلى كذلك في حوارياته مع تمارا، عشيقته السابقة، في كل ما تقوله عن نفسها التي ما تزال ترغب به، وفي عتابها له على تركه لها، كما في إلحاحها عليه أن يبحثا عن الخلاص في طلب السماح من الرجل الذي كانا قد خاناه.

     يدخل هادي إلى المسرح في هنيهة اللحظة الحاضرة ويؤكد إرتباطه المباشر بحياة سامح العائلية فهو الحفيد الذكي الحساس الذي تغريه ألعوبة الظلال التي تتراقص على الكورنيش، والتي تتماهى مع رقصة ظلال الغيوم التي تنسرح فوقهما في الفضاء الرحب. تتقدم العلاقة العاطفية والسيكولوجية مسار التجاذبات الكلامية واللغوية واللفظية في حواريات سامح وهادي، وهي تتسع لتوضح المساحة الوجدانية لشخصية سامح. فالياسمين الذي في حوزته سيصبح "موتيفاً" متكرراً في خلال الحبكة الدرامية لحياته كإنسان وككاتب وكعاشق، "موتيفاً" يتكرر حتى النهاية. الشخصيات المولودة من خياله تنثر عروق الياسمين على جسده المسجى على خشبة المسرح في طقس من طقوس ديونيسية تتبارى في إبداع ماهية الموت المقدسة، والتي على شاكلة موت الإله أدونيس ستُختتم بالعودة إلى الحياة مرة أخرى. يعقب هذا المشهدَ المشهدُ الذي يستفيق فيه سامح من غيبوبته التي حدثت من فرط عبق الياسمين ، حيث تحوطه ثُديَّة بعقد الياسمين لتنطلق به النوريتان إلى مكان أخر على أمل إستتباع الطقس الديونيسي على طريقتهما  في معبد اللذة الأولى، تسبغها عليه حواء الأولى إذ تغدق عليه هول عذريتها المبتلّة بقطرات الحليب الفاتر الذي تدلّك به جسدها في إنتظارها له وإيفاءً منها له بالوعود التي كانت قد قطعتها له منذ لحظة لقائهمالأولى.

     مرة أخرى ترجع ظلال الماضي، ممزوجةً بظلال الحاضر، عندما تأتي نُهَيّة تذكّر سامح بوضعه في الجامعة وبنسبة النجاح المتدنية في صفوفه وتحذره من خطورة ذلك على مستقبله كأستاذ في تلك الجامعة ، كمثل آخر من أمثلة الإنهيار التي تسود الحياة الأكاديمية والتي ستؤثر تاثيراً ملموساً على حياته العملية والسيكولوجية حيث أن العمل في الجامعة هو حاجة سيكولوجية عدا عن كونه حاجة مادية . ثم تاتي تمارا، عشيقته السابقة ، تذكره بالماضي، كما بلهفته القديمة عليها، ملمّحة له بإمكانية زواجه بها لو لم يطرأ على علاقتهما ما قد طرأ وسبّب الفراق. هو فصل آخر من فصول الإنهيارات التي تحكمت بمسار حياة سامح والتي تطلع عليه نتائجها في اللحظة الراهنة ، فاليوم غير البارحة . إلا ان تمارا لا تزال تعيش في الماضي لإنتفاء الحاضر والمستقبل من حياتها، وهي المشرفة على الماضي دوماً من شرفة الحاضر الذي لا يجلب لها النسيان أو التوبة أو السماح برغم إدعائها بذلك في عديد من المرات التي تأتي فيها لمجادلة سامح على الكورنيش أو لصب جام غضبها على نُهيّة التي تعتبرها قد سرقت منها أفضل ما كان لديها. كلٌ يفتش عن الحقيقة وكلٌ مشترك في لعبة الظلال ، فماذا تكون الحقيقة يا ترى؟ ربما تكون ظلاً من تلك الظلال التي تسكن الحياة المادية والتي لا تزال تشكلّ سؤالاً من أسئلة الوجود الكبرى. ويتمدد البعد السيكولوجي لمفهوم الظلّ في أدعية الشحاذ الذي يرتاد الكورنيش كل يوم ، ماداً يده للمارة وطالباً المال، وهو الذي يبادر بالدعاء لسامح عندما يدسّ هذا الأخير قطعة النقود في يده: "اللهمَّ أَظِلَّهُ بظلّكَ يومَ لا ظلًّ إلاّ ظِلُّكَ..." فتتوحد في هذا الدعاء معاني الظلال المادية والمعاني الروحية حيث يتدخل البارىء بذاته في لعبة الظلال فيكون عالم اللامتناهي هو عالم الظلّ الحقيقي الأوحد الذي يعطي المعنى للوجود.

     المحور الثاني في المسرحية يدور حول إعادة ظلال الماضي إلى حيز اللحظة الراهنة حيث يمتزج الزمن الغابر، زمن التاريخ والأسطورة، بالزمن الحاضر في حبكة درامية فريدة يطلق سامح الجمري من خلالها العنان لخياله التاريخي والوجداني والسيكولوجي وينسج بواسطته نسيجاً شفافاً يكون أشبه ما يكون بشباك الصيادين أو بحبات الرمل الذهبية أو كالسراب يلمع في الأفق البعيد، خيالات من حياة دفينة ، عميقة وغنية تنبعث إنبعاث الرماد كطائر الفينيق، يخرج من الأسطورة لكي يحط بجناحيه الوثيرتين على شاطىء صيدون، وعلى خشبة مسرح إبتدعه صائغ الروايات الذهبية  ليشاهده حشد من الجمهور الذي هو أيضاً مادة من مواد خيال سامح المجنحة. وتكون تلك المسرحية ذات الشطحات الخيالية بمثابة ردة فعل لدى سامح على الإنهيارات في حياته الشخصية وكبوابة للخلاص يرتفع من خلالها فوق الآلام التي يكابدها وهو يحاول أن يتخطى الحقيقة الآنية، حقيقة وجوده كما هو، بالعبور إلى عالم آخر تتسع فيه الرؤيا وتتجلى فيه العبقرية الفذة ويكون بذلك خلاصه.  وهكذا تتكون المسرحية داخل المسرحية والحبكة داخل الحبكة ، وتتدافع الشخصيات الفينيقية في طقس من طقوس العبادة لأشمون إله الصحة ولآلهة النبيذ والحب والجمال والعشق. يدخل إلى المسرح شاعر من شعراء صيدون إسمه عبد الجمال لينشد أولى قصائده:"لو كان ينبت الحشيش في الغيوم". وما تكون تلك الغيوم إلا ظلالاً من تلك الظلال الأبدية التي ترتع في جسد السماء وتهوي على الأرض حيث تتشابك  وترسم أشكالاً تتمادى في سياقاتها المترعة بغمرة الحنين :" أرّقها الحنين للسحاب". ثم تتهادى للجمهور أصوات الفتيات الفينيقيات وقد ألبسهنّ سامح لباس طالباته "المهفهفات" في الجامعة، طالبات كنَّ قد أشعلن خياله وفؤاده بأرق عواطف الوجد والحنين، طالبات كنَّ قد سكبن له من نشوة الحب والوله كؤوساً مليئة بخمر الصبا المتفجر منهنَّ، طالباته اللواتي كان قد هام بهن ، واللواتي قد سكنَّ خياله وبقين فيه يانعات ، على عكس نسائه الأخريات. طالبات كن قد أكبرن فيه ذلك الولع وشاركنه لغة الهيام، كل ٌعلى طريقتها فجاءت أسماؤهن نموذجاً لتلك اللغات، فها هي هتون وعشقاء وعسيلة ويارا ونسمة ورهية. ينبثقن من رواياته السابقات وقد نسج العشق والهوى في قلوبهن جذوة الفرح والتأمل في غد مجيد في مدينة تتشابك ظلالها بظلال الحرب والموت وتضج ساحاتها بوقع طبول الحرب منادية بالحرية والتمرد على القدر وبالنصر ودحر الأعداء.

     وفي المحور الثاني من لعبة الظلال تتحرك ظلال اللغة فتكون ظلّ الحقيقة الفلسفية كما يتصورها الشاعر: تتحلق الفتيات حول الشاعر الصيدوني  ويبدأن بترداد "لو كان ينبت الحشيش في الغيوم" ويسألن الشاعر عن معاني ترحيل التراب والحريم إلى السماء فيعرفن ويعرف الجمهور بهول المأساة التي ستحدث للمدينة عندما سينقضّ عليها الأعداء الفرس ويسبون نساءها ويقتلون شبانها . وتدور حواريات فلسفية بين الشاعر عبد الجمال والفتيات فيسألنه عن معنى المرأة في فلسفته. يجيب أن المرأة والتراب هما جوهر واحد، المرأة والجوهر هما المشكلة الأزلية ، فالمرأة عنده لم تكن شيئاً بذاتها ولذاتها ، وهي لم توجد لتكون هي هي، "جوهراً مستقلاً بذاته ولذاته" وإنما وجدت لتكون "مبدأ نظم لما خلقته الآلهة أشتاتاً أشتاتاً". إن غاية حضور المرأة في الوجود، في فلسفة الشاعر، هو رسم خطوط خفية  بين كافة الكائنات، خيوط وهمية أشبه ما تكون بمدارات النجوم والكواكب والأفلاك، خطوط وهمية ولكنها حقيقية ترسمها مسارات تلك النجوم والكواكب في مداراتها الدائرية حول نفسها وحول بعضها البعض فتتكون بذلك مدارات حقيقية متوازية تحفظ تلك الأجسام الصلبة من فتنة التشويش أو السقوط في العدم. والمرأة في فلسفة الشاعر هي إمرأة الوجود، فهي الوجود وهي وطنه، وكما الأرض فالمرأة وطن، والمرأة هي الأرض، ترابها الجسد للماء والجذور والورق والزهر والشجر، فلا أرض دون تراب  ولا أرض من دون أنثى ولا سماء تكون إلا بوجود الضد الآخر. وتكون السماء المغروسة بغيومها هي الوطن الآخر للوطن الأم.

     وكما يبتدع سامح الفتيات من بنات أفكاره ومشاعره يبتدع أيضاً لتلك الفتيات شباناً في ربيع العمر ليكونوا لهن الرفقة والحب والعشق فيكون هناك مشباح ، هلهال، عدّاء ، جيّاش ، هفيف، ميمون ولهفان . ويشترك الصبايا والشبان في أناشيد الحب والعشق والهيام ويؤتى بدامو بنت فيثاغورس الأغريقي، حسناء الحسناوات وشاعرة الشاعرات لكي تكون لهيب النار في صدر عبد الجمال. ويتبارى الجميع في قرض الشعر الذي يعبّر عن حالة وجدانية عميقة تنبع في الأساس من هول المأساة ، مأساة الحرب القادمة التي ستحول المدينة إلى أرض قاحلة للموت والدمار. نعلم لاحقاً أن الملك تيِنسّ ، ملك صيدون ، القائد الشجاع والفذ ، شاعر الملوك ،سيخرج إلى عدوه خارج أسوار المدينة وذلك لإبعاد شبح الدمارعن محترفات المدينة ومصانعها. وقبل إتخاذ قراره يشترك مع قادة الجيش وممثلي التجار وصانعي الزجاج وممثلي الصيادين وممثلي بنّائي السفن وزينون الفيلسوف في حوار لحل المشكلة التي تتهدد المدينة . ينتصر تيِنسّ ويظهر من جديد بعد ستة شهور. الآن  تبدأ حوارية شعرية رشيقة، فيتبين أن الملك  يؤثر العاطفة ويشبكها بالواجب  فتتكوّن جبهتان : جبهة العسكر وجبهة العشق : الأولى تحمي الأسوار والثانية تحمي القلوب. ستة أشهر قد إنقضت على ذلك الإنتصار، واليوم تثور حفيظة ملك الفرس فيستقدم جيوشه لمحاصرة المدينة وفرض شروطه لإستسلامها . هول الحاضر يتلطف دائماً بالشعر والغزل فتختلط الأصوات ويشترك الصبايا والشبان في حواريات حول فلسفة الحضور والغياب، الحلول والأفول، حيث تتضارب الآراء في جدوى الوصال أو البعد والهجران، أيهما أجدى للحب والوجد وأيهما يقرّب الحبيب من المحبوبة. تميل الصبايا إلى التمنع والمماطلة والغياب على عكس الشبان الذين يحبذون الوصال. يتدخل عبد الجمال للجمع بين الأضداد، كالجمع بين الري والعطش والجوع والشبع والليل والنهار كما الحياة والموت، وكأن الحياة لا تكون إلا إذا إرتكزت على مبدأ الأضداد . تتزاوج في فلسفة عبد الجمال لغة الشعر والفن والأدب مع أحلام الفتيات بالخلود عبر شعره فيهنّ فتكون المرأة مبدأ نظم تُسلك به كلُّ مكونات الوجود. كما تطلع علينا فلسفة الحياة والعدم والموت  والإنتحار "فاللإنتحار إرادة المفرد ، وللحرب إرادة الجمع"...إلا أن الحقيقة المفجعة لا تلبث أن تتسرب إلى الجمع  فيعرف الجميع أن محاولات التهدئة بين الوفد الذي يرسله تيِنسّ إلى ملك الفرس تتبدد ويُكتب لها الفشل عندما يُذبح الخمسون فرداً من أفراد الوفد. وحينما تأتي الأنباء بأن ملك الفرس يطلب رأس تيِنسّ نفسه ، يعلن تيِنسّ أنه سيرحل عن المدينة وينفي نفسه طمعاً بخلاصها بعد رحيله. إلا أن يد الغدر تمتد إليه فيُقتل ساعة صعوده للسفينة التي كانت ستنقله إلى منفاه. يذهب عبد الجمال وأتباعه يضرمون النار في المدينة، رافضين الإستسلام لإرادة الغدر والخيانة والخذلان، متحدّين الموت بالموت. تصبح المدينة بطلة من البطلات الأسطورية في تاريخ العالم القديم، تاريخ يستحضره سامح ويحييه لأن فيه جذوة الحرية والبطولة والدفاع عن الكرامة البشرية التي تسفك وتهان في صراعات العالم الحديث.

     اللغة الشعرية للمسرحية الفينيقية تتبدى ظلاً آخر للوجود الشفاف في سمفونية الظلال. يتضمن النص المسرحي لوحات شعرية متألقة يلقي فيها الشعراء عبد الجمال وعبد الصبا وعبد الود  والملك تيِنسّ مقطوعات شعرية تنبيء بعمق العاطفة، يستعمل فيها الشعراء صوراً من الطبيعة النباتية والجغرافية للمدينة كالنباتات والحشائش التي تُقطف من معبد أشمون إله الصحة والتي تكون دواء وشفاء من كل الأمراض، بالإضافة إلى قدسيتها ومباركة الآلهة لها. عبد الجمال يحاور تيِنسّ بلغته الشعرية فتصبح المدينة عنده إمرأة نُذرت للعشق وهي التي تُبقي عشاقها في حالة من الفرح كما في حالة يقظة، فيعلن تيِنسّ عن تأسيس جيش للعشق تنخرط فيه كل الشابات والشبان حيث يصبح العشق صلاة. ويتبارى الشبان في تجييش عواطفهم والتكلم عن قدراتهم التي سيجابهون بها الفرس. ويؤكد عبد الجمال أن العيون عندما تمتلىء بذات العشق تتفتح لها الرؤيا وأنه بالعشق وحده تتوحد المتناقضات. ويأتي عبد الود فينشد قصيدة باللهجة المحكية ، وهو العاشق المسلوب القلب بحب رهيّة إبنة الإثنتي عشر ربيعاَ، وهو الذي ناهز السبعين. قصيدته الحزينة تصبح "موتيفاً" للجوى وللعشق الذي فقد الأمل بتحقيق ذاته : "فَلّ الصِّبا من حَيِّنا يا رَبّ/ وفَلِّتْ عَم تْرَفْرِفْ مَناديلو/ لا نْهارْ عَمْ يِطْلَعْ عَلَيّي بْضَوّْ / ولا الليل مِضْويي قناديلو/ خْطُفْني إِلَكْ يا رَبّْ/ عَ الوَعْدْ وَدّيني/ما عادْ بَدّي قَلْبْ/يِشْقى ويِشْقيني/يا رَيْتْني غَيْمِهْ/ بْنُصِّ السِّما عَمْ سوحْ/ وِمْعَلَّقَةْ بْغَيْمِهْ/ هِيّي حبيبِ الرّوحْ". هذه الرباعيات الوجدانية تتردد في المقاطع الأخيرة للمسرحية الفينيقية، كما تتداخل مع الأحداث الواقعية في حياة سامح المعيوشة، فكأنها ليست حال لسان عبد الود فقط بل محطة تماهٍ مع عاطفة سامح وهو يتخبط في همومه اليومية التي تتنازعه في كافة الإتجاهات. سامح يريد الإنعتاق من قدره الآني الفارغ من المعنى و ذلك بأن يفرغ نفسه من الحياة ذاتها ، فيناجي ربه على لسان عبد الود ويطلب منه الإسراع بترحيله إليه ... فيكون الموت هو البوابة الوحيدة للخلاص ويكون ظلاّ من ظلال الحقيقة الأزلية، لا بل كنهها.

     وفي لعبة الإلتفاف بين المحورين الأول والثاني يظهر سامح من جديد ليعيد التاريخ إلى مكانه ويبدأ مسار اللحظة الحاضرة. تتوالى فصول التقهقر والإنهيار والجفاف العاطفي والسيكولوجي في اللحظة الحاضرة، على عكس بريق العاطفة الجياشة والعشق الأبدي في زمن التاريخ والأسطورة ، فقحالة الحياة العادية اليومية تتعارض مع غزارة وانسياب الحياة الأسطورية – حالة وجودية تقوم على مبدأ التضاد، المرتكز الأول للحياة الإنسانية. في اللحظة الحاضرة هناك سامح والنوريتان ونُهيّة وتمارا والشحاذ والصيداوية الغريبة وكل الأنهيارات والتفكك والتقهقهر حيث يختصر سامح  إحباطاته الوجودية  : "يعذبني أن تتضاءل كل الأشياء كلما إتسعت مساحة الزمن. حتى العمر الذي نسبحه نهراً لا نتذكره إلا قطرات". تختزل كلمات سامح فلسفة الكون الوجودية : رحلة الإنسان في مساحة الزمن تشبه رحلة الزمن نفسه الذي يتحرك فينا، فنكون نحن الرحلة التي ترحّل ذواتنا عن أجسادنا التي تتضاءل مع تقدم الرحلة إلى الأمام فلا يبقى للمسافر في نهر العمر إلا القطرات. أم أنَ القطرات هي النتف المشرّدة من الذكريات التي نحاول بها إسترجاع العمر/النهر؟ فلسفة سامح الوجودية تختصر التجربة الإنسانية التي يكون فيها الوعي البشري شاهداَ على عظمة الإضمحلال وعلى وقع السقوط. يسقط سامح وتسقط معه شخصياته الأنثوية في الحياة المعيوشة ولا يبقى إلا ظلال الحقيقة التي ستعيش متحدّية الموت من خلال الأدب والشعر حيث  اللغة هي الروح التي ستبقى أبداً محركاً لكل ما هو فذ وخلاق وجميل.

     وفي المحور الثالث تكون ظلال الأسطورة في موقع الزمن الغابر المتداخل بالزمن الحاضر حيث تشترك الشخصيات الواقعية والمختلقة في حوارات وإشتباكات وتدافعات في سبيل الإستئثار ببطل الخيال سامح الجُمَري. ولكن حالة سامح النفسية والسيكولوجية تتدهور حتى أنه يتمنى الموت، لأن الخلاص هو مجرد إحتمال. وكلما تقدم المشهد  نحو النهاية إشتد التوتر بين شخصيات الحبكة الأولى وشخصيات المسرحية الفينيقية التي ، والحالة هذه، تخاف أن يتراجع سامح عن وعده بإكمال المسرحية الفينيقية ويتركها في مهب الريح. تتدافع الشخصيات في المسرحية التي تشتبك فيها الحبكة الدرامية الوهمية بالحبكة الواقعية، على طريقة شخصيات بيراندلّو، تريد أن تثبت نفسها على خشبة المسرح وأن تستأثر بالكاتب لكي يكمل لها مسارها بعد أن إعتكف في عزلته الأبدية تحت وقع كل التداخلات الطارئة عليه من الحياة المعيوشة التي يمقتها. الكل يريد سامح لنفسه . النسوة الأربع يتخاصمن عليه والشخصيات الفينيقية تدخل حلبة الصراع مع الشخصيات الواقعية  فتؤكد عشقاء أن النسوة الأربع هنَّ طارئات على حياة سامح وان الصبايا الفينيقيات، بنات افكاره، وعذارى خياله، هنَّ أحق به من الأخريات: هن من أسس وجدانه. تتبارى الصبايا في طرد النسوة الأربع ويلتحم الجميع في معركة لتخليص سامح، وهو الذي يريد أن يتصالح مع الحقيقة لا أن يتمادى في خيانتها. ولذلك فهو الآن يهجس بأنّ "أشقى الرجال المتشرذمون بين النساء"... "وأن تتمنى التوبة ولا تستطيعها... فتلك هي المحنة الكبرى". في هذا الإطار تجسد سمفونية الظلال نموذجاً لحياة شريدة، متعبة، متشرذمة، مأساة الوجود التي تمزق الذات وترمي بها في غياهب المجهول."لم أعد أسيطر على أفكاري... ولا على خيالاتي ولا حتى على كلماتي". ولا يجد سامح أخيراً بداً من الإستسلام لإرادة نوّارة وابنتها فيسلم نفسه لهما  ويمشي معهما منكسراً ، مسلوب الإرادة ، في الوقت الذي تلتهم فيه النيران وسحب الدخان أجساد شابات وشبان صيدون وكهولها ونساءها وأطفالها، فيكون وقع سمفونية الموت في عالم الظلال، كما هو وقع الموت في العالم الواقعي. حرائق المدينة هي حرائق التجربة البشرية بكل أبعادها الحياتية والنفسية فيكون الموت، الحتمية النهائية لكافة الشخصيات، هو النهاية الوحيدة للكائنات. وتكتمل الرؤية عند الكاتب حيث يتم التطهير النفسي والجسدي من خلال الألم ومن ثم الموت : الموت النفسي لسامح، الذي أسلم نفسه للمجهول، والموت الواقعي/ التاريخي/الأسطوري للمدينة، التي أبت ان تندثر على يد الأعداء فآثرت الموت بإرادتها هي على الإستسلام . كلٌ يرى الحقيقة على طريقته. أيكون هذا هو ثمن التفتيش عن الحقيقة يا ترى؟ أم أنّ الأمر كله يرتبط بنصيحة نيتشه حيث يقول أنه من أجل أن تعرف الحقيقة يجب عليك أولاً أن تعرف نفسك تماماً، أن تسمو بنفسك عن وجهة النظر التقليدية، أن تخلص نفسك من عصرك وموطنك وأن تتفحص نفسك عن بعد؟

      د.ناهدة سعد

نوفمبر2012

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية