«الوعد والإنجاز الأدبي: محاولة للإطلال على ‘وعد شباط’ لصلاح الدين الحريري»
«الوعد والإنجاز الأدبي: محاولة للإطلال على وعد شباط لصلاح الدين الحريري»
د. وجيه فانوس
( بين حدث الوفاة، إذ مفارقة الحياة، والإنغراس في القبر، حيث تحلّل ما كان موجوداً إلى نهايات لا غور لوجودها، مسافة زمنية تظل قصيرة مهما طالت. ولكن، بين حدث الوفاة والإنغراس في القبر، عند صلاح الدين الحريري، مساحة شاسعة من الوقت، تتخللها أحداث عمر، بل رحلات متدفقة الإيقاع في حياة مجموعة كبيرة من الأفراد تكاد تكون اختصاراً لجيل من الناس، أو تَعْبيراً عن ما يمكن لشريحة معينة من أبناء الحياة أن تعانيه في لحظات نظرها إلى ما هي فيه عبر مرآة صفا بلّورها حتى أعماق وجع الحقيقة.
بهذا القدر من التكثيف الحدَثي، وعبر المساحة الزمنية التي تغري بممارسة كثير من اللعب أو التقنيات الفنيَّةِ، يمعن الحريري في تسفير قارئ روايته وعد شباطإلى عوالم ناسه وإلى صفاء مراياهم التي يعبرون من خلالها إلى ذوات كثير من الآخرين وإلى تفاعلات مشاعرهم. يعمد الحريري إلى حكاية عن وفاة سيدة، تكون وفاتها بداية مسيرة الرواية، ويكون وقت ايداع جثمان المتوفاة القبر هو ختام تلك المسيرة. ويعمد الحريري إلى ما هو أكثر من رواية الحدث، فيعطي الحدث الواحد، أو مجموعة الأحداث المتعلقة بالسيدة المتوفاة، مجموعة متنوعة من الرواة. كل واحد منهم يروي الحدث، أو يعود إلى عيشه، أو يمعن في التعليق عليه وتحليله من زاويته الخاصة، وعبر مرآته التي تختلف، على ما فيها من صفاء، عن نوعية الصفاء الذي تتميز به مرآة أي راوٍ آخر من رواة أحداث وعد شباط.
لا يعود السرد مع الحريري حكاية متسلسلة، كما لا يقف عارياً بذاته وكأنه تداعيات جافة يفرضها واقع حدثي معين. واقع الحال، إن كل راوٍ يتحول إلى سيّد للحدث، يقولبه كما يراه، يحلله كما يفهمه، ويقدمه الحريري، عبر هذا الراوي، بكثير من التجرد الذكي الذي يحمل ألف موقف. ومن هنا، فإن كان ثمة من قد يربط بين هذه التقنية الفنية التي يمارسها الحريري في وعد شباط وبين أسلوب التداعيات والإعترافات الذي يمكن للمرء أن يجده في بعض كتابات روائيين عرب مثل جبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني، أو في كتابات روائيين غربيين مثل فرجينيا وولف، فإن الأمر قد يحمل بعض سوء الفهم للجهد الذي مارسه الحريري في هذا المجال.
ليس ثمة تداعيات في رواية الحريري، كما أنها لا تحمل أي نية لاختصار أمر أو وقت أو حدث. الرواية تمعن في تشريح الحدث، بل لعلها تتماجن في تقليبه على وجوه كثيرة، وتنظر إليه، بل تتيح النظر إليه، من خلال وجوه متعددة كل واحد منها هو حق لصاحبه في أن يعبر عنه. وتترك الرواية، بل المؤلف، إن جاز التعبير، حول كل رواية وراويها جواً هو من صميم الراوي. بل إن هذا الراوي لا يمكن أن يتشكل ناصعاً من دونه، بيد أن هذا الجو لا يلبث أن يتحول إلى شهادة مضمرة يرميها المؤلف في مكان، يحسه القارئ ولا يراه، حول هذا الراوي. وطالما الجو جو رحلة نحو المقبرة حيث الدفن، وحيث يعتقد كثير من الناس بأن ثمة حساباً سيقدمونه إلى «ملكيْن» ينتظران جثمان المتوفي عند جنبات مثواه الأخير، فإن المؤلف جعل كل واحد من رواته يظهر بكامل عريه الإنساني، ومن غير أن تفقد إنسانيته قيد أنملة من أناقتها، ليقدم جردة حسابه أمام جثمان الذي يشارك في تشييعه إلى المقبرة.
تكثيف الأحداث، وتنويعها، ثم توسيع رقعة التفاعل معها يشغل الجانب الأكبر من رواية الحريري، التي وإن اختلفت عن نسق روايات جبرا، وكنفاني، ووولف، فإنها تقترب كثيراً من بعض أعمال وليم فوكنر. من جهة ثانية، فلئن نجح فوكنر في استخدام أربعة أصوات شكّلت فيما بينها سدى رواية The Sound and The Fury ولُحْمَتِها، وقامت مشتركةً بعبء تطوير مسار الحدث الروائي وتنميته عبر تداخلات هي غاية في الروعة الفنية والكشف عن الجوانية الإنسانية الفذة، فإن الحريري، تماماً كما فعل نظيره الأميركي في روايته As I Lay Dying ، طَوَّعَ أكثر من دزينة من الأشخاص، يقف كل واحد منهم على مسافة شاسعة في بعدها عن الآخر، لكنه يلتحم وإياه عبر تنافرها في سياق تشكّل الأحداث والانفعالات التي تتأمن عبر الجنازة، ليقدم الجميع نصاً روائياً ريادياً في دنيا السرد الروائي العربي. الكثرة هنا لم تكن عائقاً أمام وضوح الرؤيا، والتشابك والتداخل بين فعالية كل واحد من الرواة لم يكن ليعيق تطور الحدث وتكامله في نمو طبيعي، والتعدد لم يكن آفة في تغييب الوضوح، كما لم يكن هذا الوضوح علة في تغييب الفني.
فسيفسائية رائعة ضمن النص السردي الروائي أتقنها الحريري في وعد شباط، ولعلها تدفع إلى القول إن هذا العمل يتجاوز كونه وعداً ليستقر جهداً ريادياً في تأسيس طاقات جديدة للسرد الروائي العربي، وليفتح احتمالات كثيرة للدرس المقارن ولسبر قدرة اللغة العربية على التعبير والاحتواء والتشخيص ضمن اللعب أو التقنيات الفنية المعقدة والمتشابكة بل المشغولة بحرفة الكبار ونهمهم إلى الإبداع المثبت لتأصيل ذاته، وليس الأمر بغريب على خبرة صلاح الدين الحريري وثقافته، فالرجل كاتب روائي ومسرحي وشاعر باللغة الإنكليزية، كما إنه يحمل الدكتوراه في الأدب الأميركي الحديث، إضافة إلى أنه أستاذ للأدب الإنكليزي والأميركي في الجامعة اللبنانية. وهنا يُطرح سؤال أساس في هذا المجال، هل ثمة من خلاف أو تضاد بين الأكاديميا والإبداع؟ تجربة الحريري في وعد شباطتؤكد العكس، وتعد بتكامل فذ بينهما، إنه التكامل الذي ما برحت التجربة الإبداعية العربية عطشى إليه منذ سنين ممعنة في عتقها!!.) (إنتهت مقالة د. وجيه فانوس).