النص الكامل //echo $btitle;?>
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى- كانون الثاني 2003
الإهداء
إلى الذين جرّدوا أجسادهم وأرواحهم سلاحاً مقاوِماً ضد الاجتياج الاسرائيلي للبنان وانتصروا لعاصمته المحاصَرة صيف 1982، في ظل الصمت العربي المريب، والذي يتكرر ويتكرر، على مستوى الأنظمة والشعوب والطوائف، تجاه المجازر المرتكبة يومياً على أرض فلسطين، وكأنما الخوفُ على العار أن يُمْحى من تاريخ العروبة الحديث لا يزال هاجس العقل العربي الأول.
شخصيّات الرواية
جهّار الجُمَري : صاحب مطعم الجُمَري
سميحة الجُمَري : زوجة جهّار
سميّة الجُمَري : إبنة جهّار
كسّاب الجُمَري : إبنه الأول
عديّ الجُمَري : إبنه الثاني
وسيم الجُمَري : إبنه الثالث
عَبَدْ البَرْبُوشْ : إبن بستانيّ من سقي صيدا
أبو طاهر: مواطن صيداوي
حسن القبرصلي: مواطن صيداوي
نزيه القبرصلي: إبنه
جودت الديماسي: مواطن صيداوي
عادل الديماسي: إبنه
الكابتن مَارْدكُوشْ: مواطن صيداوي، إسمه الحقيقي عَرَّابْ الهَشيمْ
حاتم العكاوي: صديق لسامح الجُمَري
هفوتْ البيشْ: طالب جامعي
رنده الحيفاوي: فلسطينية من مخيّم عين الحلوة
رَضِيَّة المَهادي: صحافية
أمّ إسحاق الديّارْ: زوجة عَازَرْ الديّارْ
جوزيف الديّارْ: من أقرباء عَازَرْ الديّارْ
موريسْ السّلَيْلاتي: شقيق بَرْجيسْ السّلَيلاتي
عِنَاسْ عِضاهْ الرّوحْ: أستاذة جامعية
نُمَيْمَةْ إِنَانَا الإيرْيالاّ: أستاذة جامعية
ديفيدْ مُرْدَخايْ: ضابط إسرائيلي
آيينْ شارونْ: ضابط إسرائيلي
شيمونْ أزرا: ضابط إسرائيلي
هَجْسَةٌ هَجَسَتْ
الفصل الأول
بالحجر الذي طَقَّهُ على طاولةِ الزّهْرِ طقَّةَ التشفّي ، ينطّ الآن فوق حجارتي التي كانت حبَسَتْ حجارتَه من أوّلِ هذا الدّوْرِ ، بأصابعِ الغيظِ ينط ّ ، وصوتُه يخنقه العدُّ في حنجرته، بعدما لَوَّعَهُ الزّهْرُ ساعةً فلم يأته بثلاثةٍ ولا بستّةٍ ليحرّك بإحداهما حجراً من حجارته. والحظُّ الآن حظُّه ، فبدل الستّة جاءته الآن ستّتان ، أربع وعشرون نقطةً ، دفعةً واحدةً ، فسبحانك في مشيئتك يا مقلّب القلوب . أفتح فمي لأُزَرِّكَ له بأنَّ الحظَّ وحده ، لا شطارتُه ، كان ما أدركه فأنقذه من شماتة عارف المرسي ورئيف البزري وحسن القبرصلي وجودت الديماسي ومحمد الحبّال ، فترميني عيناه بنظرةٍ كالحجر أنْ إيَّاك أن تحاول التشاطر أمامهم . الضحكةُ تكاد تفلت من فمي ، وقد أفلتت من أفواههم ضحكاتُهم ، فتتبادل عيونُنا السرَّ الذي لم يعد سرّاًً بيننا ، والذي ، وإنْ يكنْ هو يعرفه مثلنا، صار بحكم العشرة من المكروهات التي تنام عن ذكرها جهرةً ألسنتُنا . إذ كيف للدّنْدولْ أن يسمع رأينا بِلَعِبِهِ الطاولةَ ، ورأيُنا في ذلك أسوأ من ضحكاتنا ، ثم يرضى لنفسه أن يظلّ لنا شريكاً في اللّعب؟ عشرتنا الطويلة في البساتين عرّفتني عليه وكشفتْ لي منه حدّةً في الطبع تأتي وتروح ، تروح بسبب وبلا سبب ، ولكنها حين تأتي فإنها تركب رأسه فَيُتَنِّحُ ويعاند ويكابر ويجرّنا إلى أخذٍ وردّ ، وخصومة وعتب ، وكلامٍ لنا فيه لا يحبّه وكلامٍ له فينا لا يسرّنا في قليل أو كثير . أخضّ كفّي بالزهر ثم أرمي به فتتقلّب الأرقام على خشب الطاولة وتتقلّب لتستقرّ على واحدٍ ثم واحد، فتتوقف أصابعي في الهواء ، وصوتي يهجس مرةً ثانية بسبحانك في مشيئتك يا مقلّب القلوب.
الدّنْدولْ من عظام الرقبة ، أو هو ظِلُّكَ الذي يقف خارج بدنك ، دون أن يدري ، ليقول لك إنك موجود ، ليذكّرك ببساطةٍ أنّك هناك تقف أو هناك تمشي ، أو ، ثم أو ، ثم أو. كان دائماً حاضراً في حياتي ، ففي أوّل نشأتي كان يأتي من بين الأشجار في خفّةِ هرّ ، يعربش على جذع شجرةٍ ثم يقفز من غصن إلى غصن حتى يتيسّر له القفز إلى أرض البستان الذي كنّا فيه ، أو لعلّه كان يفتح كوّةً في السياج ، بقضيب أو خشبة ، ويَزُطُّ منها إلى جلّ البرتقال ، فيقطف ويمصّ ويرمي ، وتفضحه رائحةُ البرتقال في أنفاسه ، وهو لايدري ، عند وصوله إلى ساحة بيتنا . كان يأتي إلينا بسببٍ وبدون سبب ، هكذا ، كأنما حضوره بيننا من بديهيّات العيش ومن فطرة الجوار ، فكان أن تعوّدْنا على الأمر ، بل كان أنْ تجاوز الأمرُ كلَّ ذلك ، فغيابُه عن حياتنا صار نقصاً في حياتنا، فراغاً مشوِّشاً لعيوننا ، وحيرتُنا من فهم ما نحن فيه جعله أكثر من عظام الرقبة وأكثر من ظلّ . وفي زمن الشباب ، حينما تلحّ علينا مواسمُ الحمضيات كنّا نتبارى في قطفها فَمَلْءُ سلالنا بالحامض والبرتقال الماورديّ واليافاويّ والشمّوطيّ والحلو كان شغلنا ولهونا في آن معاً ، إن أتعبنا ذلك استروحنا بذاك . وكنّا وقت الظهر نجلس على كتف ترابيّ من البستان ، جنباً إلى جنبٍ ، يَفْرِدُ كلٌّ منّا زوّادتَه على ركبتيْه ، نأكل ، وكأنما من زوّادةٍ واحدة ، الخبزَ والزيتونَ والبقلَ المقلّى والتمرَ بالمرقوق والبصلَ الأبيض والأحمر ، نكسر الحبّةَ منه على رُكَبِنا بضربةٍ واحدة من قبضةٍ محكمة الضمّ، تزن وتتأنـّى ، فتفلق ولا تهشم. ولعلّ أجمل أيامه معنا كانت أيام الكوزينا في ثورة ال58 ضد شمعون ، أيام نتخفّى كنّا من دوريات الجيش في النهار ونتحرّك في الليل من بستان إلى بستان ، عبر سياجٍ ثم عبر سياج، أو فوق حائطٍ ثم فوق حائط، وبين كنايةٍ وكنايةٍ ، ومن ضفّةٍ للنهر إلى ضفّة ، نتدرّب ونتناقل أخبارَ الريّس في المدينة المحاصرَة وأخبار المدرّبين الفلسطينيين لشباب البساتين من جسر سينيق إلى جسر الأوّلي ، ونتهيّأ للمعركة التي كنّا فيها كأهل البيت ، نتحرّك في الأرض في يسر الألفة التي حُرِمَ منها غرباءُ الجند ومركباتُهم ومصفّحاتُهم ، فكان الذي كان وانتصر النهرُ من ورائنا وشجراتُ الكينا من فوق رؤوسنا وزغردت جيرةُ الظلّ والماء في عيوننا ، والدندول أخذتْه الحالةُ فكان يهجم علينا ، يضمّنا ويقبّلنا ، والدموع تطفر من عينيه وتكرج على خدّيه ، كما تطفر من بين شفتيه الصرخاتُ ، منهنهةً بحرارة الفرحة التي حرقت صدره وحوّلته إلى كائن خياليٍّ سقط علينا من حيث لا ندري ، بغرابةٍ لا يعادلها إلاّ غرابةُ سَارِبْ الهَيّوبْ ، حينما كان ، هو الآخر ، تأخذه الحالةُ الأخرى ، حالةُ الهَيّوبَةِ ماريّا، فينبّش عنها الليل والغيم والنجوم ويصرخ بِاسْمِها كالمجنون، مُمَسْمَراً في مكانه من الظلمة ، مشيعاً في كلّ ما حوله جوّاً من السحر المخيف . الدندول وأنا نجونا في معركة الكوزينا ، نجونا وما نكاد ، ونجا كذلك الهيّوبْ الذي سرعان ما ضيّعناه في مسارب الحياة . من شلّتنا ، وحده الهَنْسْ بَنَلْتي قتلتْه الرصاصاتُ. بكيناه صبيحة ذلك اليوم وحملناه على أكتافنا ، ثمّ دفنّاه ، ثم مضينا إلى أقدارنا ، لنلتقي بذكراه من جديد كلّما جمعنا لقاء أو ضمّتنا مناسبة.
طاولة الزّهْرِ المُزَّ يَّنُ داخلُ دفّتيْها بخطوطٍ ستةٍ تلتقي، على كل جانب من جوانبها الأربعة، بخطوطٍ ستّةٍ أخرى ليؤلّف كلُّ اثنين منها رأساً كرأس السّيبة التي نتسلّقها نحن أهل البساتين فنقطف من على رؤوس الأشجار ما نأى عن أيدينا مطالُه ، من حبّات البرتقال وحبّات الأكدنيا ، خَشَبُها الذي حفظتُه عن ظهر قلب لطول ما نظرتُ إليه ومشيّتُ حجارتي عليه، وحَبَّتَا الزهر الموشَّم بياضُهما بالنقط السوداء ، والخمسةُ عشر حجراً لكلّ لاعب من اللاعبيْن ،كلّها كلّها أصبحت جيرتَنا اليوم ، الدندول وأنا وغيرنا من أهل البساتين الذين كبر أولادُهم فحملوا عنهم أعباء ما تبقّى لهم من العمر وتركوهم يتسلّوْن بالأيام ، حتى لا تتسلّى هي بهم فَتُقْعِدَ منهم الماشيَ وتُمْرِضَ منهم الصحيحَ ، يتسلّوْن بعيداً عن مطارح العيش الأوّل ، في أرض المقهى بعد تراب البساتين ، وعلى الكراسي بعد الطراريح ، ويشتمّون رائحةَ السّمك ، يعبق بها كلُّ الهواء ، من البحر أتت أو من ميرة السمك أو من الساحة المنشورةِ على أخشابها الشّباكُ لتجفَّ ويُصْلَحَ ما تمزّق منها من خيوط ٍ بالمَيَابِرِ التي تحيل الساحة إلى ورشة أشبه ما تكون بورشة الحيّاكين.
جيرتنا تغيّرت ، وتسليتُنا في مقهى البحر لم تزدنا على الأيام إلاّ غربةً عن الدنيا وإلاّ إقبالاً نُقْبِلُ به على بعضنا من خوفنا أن نفتح عيوننا ذات نهار وليس على طاولة الزّهر إلاّ وجوه أهل المدينة القديمة، قِبْلَتُهم بَحْرُهم وقبلتُنا بَرُّنا ، ونَسيمُهم موجٌ ونَسيمُنا خليطٌ من العبق الذي تصدق فيه الآية الكريمة وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها . الدندول من عظام الرقبة والستّةُ الرابعةُ التي يطقّها الآن بالحجر على خطوط الطاولة الملوّنة طقّةً فطقّةً هي ستّةُ فَشَّةِ الخُلُقِ التي بها يختم دوره في اللّعب . أخضّ الزهر ، بدوري ، وأرمي به فيتدحرج ويتقلّب ويطقطق على مدى خشب الطاولة ويستريح على ثلاثةٍ وخمسة . عيناي تتحرّيان الفراغاتِ المتبقّيةَ لأحجاري على الطاولة ، وترسو أصابعي في الهواء ، يُرَسّيها الصوتُ الذي كأنه صوت إبني محمود ، ومحمود الآن ، على حدّ علمي ، في الحِسْبَة، يبيع ويشتري ويلاحق رزقه. أنفاسه اللاهثة، على غفلة مني ، تلفح الجوّ فوق رأسي ، فأرفع وجهي إليه لتطالعني من وجهه عينان مبغوتتان بكلام لا تبوح به شفتاه . تقصر المسافةُ بين حاجبيَّ ويهمّ فمي بالسؤال فيسقط عليّ استغرابُ سؤاله: ألم تسمع بالخبر ؟ولأنّ المتحلّقين حول الطاولة ، من لاعبين ومتفرّجين ، بالتأكيد لم يسمع منهم أحد بالخبر الذي ، حتى اللحظة ، لم يُتْحِفْهُمْ به أحد، نشبك عيونَنا في عينيه وآذانَنا بشفتيه وننتظر.
لهاثه يهدأ شيئاً فشيئاً ، وتذبل النظرة في عينيه ، مكسورةً بالخيبة ، وحينما تستقرّ كفّاه على ظهر الكرسي الذي عارف المرسي عليه، وقد هبطت كتفاه بانحناءةٍ وُلِدَتْ كأنّما لتوّها فيه ، يبلع ريقه وتنفتح شفتاه بالخبر الذي يفاجئ قلوبَنا ولا تتفاجأ به عقولُنا ، فذاكرتُنا لا تزال رطبةً بتهديدات إسرائيل بإختراق حدود الهدنة لتنظيف الجنوب اللبناني من المخرّبين الفلسطينيين ، كما تسمّيهم إذاعتُها، ومن الأحزاب والميليشيات اللبنانية التي تناصرهم . الحالة المزرية التي ينمّ عنها وجهُ محمود ، خمودُ النور في عينيه وانسحابُ اللون من خدّيه ، تحيله فجأةً في عينيَّ إلى الشاب الذي كنتُه أنا في أوّل الشباب ، إذ يستولي عليّ الهمُّ ويسلبني السكينة والطمأنينة كلّما هجم على دنيانا الصغيرة من الدنيا الكبيرة شَبَحٌ طَوَّافٌ أو حلّت بطرف من أطراف جيرتنا بليّةٌ لا تُرَدُّ . والبليّة ها هي الآن على مرمى نظرةٍ منّا نحو الجنوب ، وقلبي ها هو يضيق بدقّاته كلّما قَصُرَتْ في صدري أنفاسي ، وفمي الذي تنوء بصمته شفتاه يهجس في سرّه أن رُدَّها عنّا بمشيئتك يا مقلّب القلوب . وتهدر في خاطري فجأة أصواتُ المظاهرة الأولى التي سار فيها معي محمود ، شباط ال 75، من ساحة ميرة السمك إلى شارع الشاكرية، فشارع المطران ، في اندفاعنا نحو ساحة النجمة ، فها هو يشدُّ برأسه إلى أعلى ، مُقْحِماً كتفيه بين الأكتاف ، وها أنذا أطحش كالمجنون ، أشقّ لي طريقاً أنسرب منه إلى الأمام الأمام ليصبح هو خلفي ، لأحميَ قامته بقامتي وأردَّ عنه ما قد أردّ ، وإن كنتُ أعلم أنني لا أُغْني عنه من الغيب شيئاً.
لاضطراب الأصوات بعضها ببعض ربما لا يسمعني ، أقول لنفسي ، فأشدّه من طرف قميصه الملفوف على ذراعه حتى زنده وبـيدي الأخرى أجرّ كرسيّاً من أقرب طاولة إلى طاولتنا وأضعها تحته وهو يهمّ بالجلوس ، زائغَ العينين كأنما لا فرق عنده إن نزلت قفاه على قعدة الكرسي المقشّشة أم على باطون أرض المقهى. البربوش يَتَكَرْنَشُ خدّاه وهو يرى ابنه محمود على هذه الحال ، وسرعان ما ترتخي فكُّه السفلى ، فشفتاه مثل شفتيْ ذلك الأبله من بُلْهِ المدينة الذي يقطع النهار بطوله يقيس شارع الأوقاف بين سينما الكابيتول وسينما الريفولي ، يمرّ بالمارة وكأنه لا يراهم ، ولا يراهم حتى وهو يفنتر على تراب الأرض العراء التي تحت الطريق على وقع أصواتهم تنهره بعبارات ممزوجة بالضحكات أَنْ بَهْدَلْتَ البلدَ يا مَرْخِيَّ الحَنَكِ ، يا مُرَحْرَحَ الفنتور . تهدأ أصواتنا وأصوات لاعبي الطاولة في كل زوايا المقهى ، وحتى كركرة الأراكيل تصمت فجأة وكأنما اختنقت بها الأراكيل . عينا محمود تتجنّب لقاءَ عيون الحاضرين ، وأبوه يفتّش في عيون الذين حوله عن مدى صحّة الخبر الذي هبط به عليهم ابنُه هبطةَ الزاعقة ، لا تدري من سرعتها وفجاءتها إن هي أصابتك ، وإن أصابتك فأين. والمسجِّل الذي اختفى غناؤه وموسيقاه يبدو أنّ صاحب المقهى استبدله براديو يتحلّق الآن حوله الزبائنُ ، وقوفاً ، يحشر بعضهم بعضاً كما في المظاهرات ، هنالك حول أقرب طاولة في المقهى من باب المطبخ.
المحطة التي انفتل عليها المفتاحُ تزعق بالخبر زعقاً فيسقط علينا الخبرُ مخشخشَ الكلمات فتكاد تتبخّش بها آذانُنا وأكاد أتمنى لو تتخرّب الراديو فجأةً أو فجأةً تنقطع الكهرباء أو تنـزل الزاعقة مباشرة على الراديو فتحرقه وينتهي باحتراقه خبرُ عبور الجيش الاسرائيلي حدودَنا الجنوبية . ولا أنتبه إلاّ والبربوش منحنٍ فوق كرسيّ محمود يقول له شيئاً ولا أسمعه ، ولا ينظر إليه محمود بل ينهض ويمشي أمامه نحو باب المقهى فيبتعد الإثنان شيئاً فشيئاً حتى إذا ما صارا في الشارع ضاعا منّي فلا أدري إذا هما انعطفا إلى جهة القلعة البحرية أو انسربا إلى داخل المدينة عبر زاروب من زواريبها القديمة . الأب وابنه ولا أحد سواهما ذابا في الشارع مثل حبّة الملح ، أمام عينيّ ذابا لأستقبل من آخر الشارع عينهِ وجهَ ابني نزيه ، يسابق المسافة نحونا، فكأنه رأسٌ بلا جسمٍ وكأنّ اندفاعه نحونا حركةٌ بلا قدميْن.
شيءٌ أكبر من الخوف انغسل به صدري ، أقدم من الثلج ، طَيَّرَ الصيفَ ورطوبةَ الصيف من حولي ومن داخلي وخلط الفصول فاختُلِطَتْ عليّ رياحُها فَجَفْوَتُـها ولطافتُها ، واعتدالُها وتطاولُها، وكلّ صفاتها الأخرى كلّها صارت الشيءَ الذي أكبرَ من الخوف وأقدمَ من الثلج ، ينغسلُ به صدري ولكن على غير ما أُنْسٍ وترتعش له ضلوعي ولكن على غير ما طمأنينة . وإذ يتّسع وجهه في عينيّ ، تتّسع عيناه في وجهه وتسيل به منهما تلك النظرةُ التي تعوّدتُ في الشهور الأخيرة أن أدعها تسرّب إلى قلبي الشك والقلق وأشياء أحسّها ولا أفهمها ، تشلّني تارةً وطوراً تدفعني إلى حافة الجنون الذي لو قضى عليّ لأراحني ، ولكنه يأتي ويروح ، وما أكاد أحسّ أنه على وشك إنهائي حتى يهزأ مني وينتفض عني ليردّني إلى الحالة التي لا أموت فيها ولا أحيا.
إرحمْ نفسك واهدأ ، يستجديه صوتي ، فيعلو صدره ويهبط باللهاث الذي جناه على نفسه من شدّة ركضه المسافةَ التي لا يعرفها إلاّ هو، فأين كان حينما سمع بالخبر ، ومع مَنْ ، لن يقوله لي بالطبع ، وأنا ، لأنه سيخبّىء عني الحقيقة لو سألتُه ، فلن أسأل . وليس لأنه يرحم نفسه يجلس الآن على الكرسي التي تركها البربوش منذ لحظات ، بل ربما رحمةً بي لأنه اكتشف خلال الشهور الأخيرة قلقي الدائم عليه وعدم رضاي عن ممشاه مع شباب الحيّ المنظَّمين في الميليشيات الصيداوية والذين حشوا عقله وقلبه بأحاديث السلاح وضرورة التدرّب عليه للدفاع عن كرامة المدينة ضد المتطاولين عليها والطامعين بمينائها من ميليشيات وأحزاب المناطق الأخرى وتحسبّاً لإنزالات مفاجئة للجيش الاسرائيلي على طول شاطىء المدينة من جسر الأوّلي فحرج الكزبرينا فالملعب البلدي فأوتيل طانيوس فمطعم الجُمَرِي شمالاً إلى حيّ الفواخير فالمسلخ فامتداد البساتين حتى أطراف سينيق حيث تنتهي حدود المدينة جنوباً . يجلس على الكرسي ويشدّ بكفّيْه على أطراف الطاولة وكأنما ليهدّيء نفسه ويلجم هيجانه. نعم ليلجم هيجانه. ولو أنه كان بالفعل حصاناً للجمتُه وارتحتُ من وساوسي بروحاته ومجيئاته التي لا يعلن عنها إلا ببغتةِ غيابه أو بغتةِ حضوره . ولكن لا ، فقد أخذ من الحصان سرعةَ عدوه واتّساعَ عينيه والنظرةَ التي تسرَّب إلى قلبي الشك والقلق وأشياء أكبر من الخوف وأقدم من الثلج وأعجب من كل ما نتخيّله جميعاً . العيون كلها الآن عليه ، تنتظر أن تنشقّ شفتاه عن لهب، فأخبار الحرب خيالات ، تملؤنا بألوانها حينما لا نريدها ونملؤها بألواننا حينما تلوِّعنا الهزيمةُ أو يهمز بخاصرتنا مهمازُ الشوق للنصر.
من ثورة الـ 58 ونحن نعيش في ظلّ الحروب المعلنة والحروب الخفيّة ، والتي نكاية بكل أحد، ليست سرّاً على أحد. ومن الـ 58 ونحن نتمرجح بين إحباطات الداخل وإحباطات الخارج، وكأننا ، نكاية بكل التناقضات ، نظل ننهض إلى أعمالنا في الصباح ونعود إلى بيوتنا في المساء وننام ونفيق ونتزوج ونتناسل ونربّي أولادنا ونرسلهم إلى المدارس ، حالمين لهم بأيام أفضل من أيامنا ، ونبتهل ونصلي ، وتشهد على ابتهالاتنا وصلواتنا وأدعيتنا من أجلهم مساجدُ المدينة بحُصُرِها وسجّاداتها التي انطبعت عليها جباهُنا مرة بعد مرة. وتكبر، مع كل هذا ، مخاوفُنا عليهم ، تكبر في صمتنا عنها وإشاحتنا عن إيماءاتها ، فلا نعترف بها حتى تبغتنا بغتةٌ من هنا أو بغتةٌ من هناك ، من الجنوب أتت أو من بيروت ، من المخيمات أو من مواقع الميليشيات ، من أجنحة الجيش أو من أجنحة الطوائف والمذاهب. وها هي الآن تأتينا من عبر الحدود ، يأتينا بها صوتُ محمود ثم عينا نزيه، يرتخي فيهما النورُ ، ولكنه لا ينطفيء ، ففي أطرافهما ، كلما انخفضتْ ليلاقي بعضُها بعضَها جفونُه، تلمع ارتعاشةٌ من نور، تذكّرني بعيون الخيل التي كان يروّضها أبي لآل جنبلاط في سقي صيدا وفي الهلالية والبرامية لسنين وسنين طويلة . لغة الخيل هذه تعلّمتُها من صغري ، ولأني أعرفها يخيفني ما أراه الآن في عينيه ، تذبلان ولا تنطفئان ، وتهمّان بالغمض ولا تغمضان ، ويلوح في أطرافهما ما لا أعرف إذا كان شيئاً منهما أو شيئاً من خيالي. تسأله الوجوه والألسن التي فرغ صبرها من الانتظار فينداح الخبرُ على وجهه ، من عينيه ، مثل رغيفٍ ينتفخ ويحمرّ لتوّه عجينُه . ومثل العدوى ، ينتشر الوهجُ العجيب على وجوه الجمع وتخمد الصُّفرة التي رسمتْها على الخدود الدهشةُ والخوفُ والحيرةُ التي لا أمرَّ ولا أدهى.
من أين تأتيني الشجاعة لأنهض وأشدّ بيدي على كتفه وأشير إليه أن يتبعني، ووجوهُهم تأكل عينيه أكلاً ؟ من أين لا أدري ، ولكنني أدري ، وقد وطئتْ طريقَ الزفت قدماي ، أنه الآن خلفي ، أنّ عينيه أفلتتا من دائرة عيونهم وانسحبتا إلى حدقتيهما اللتين أحسّهما فوق ظهري. أسير ولا ألتفت إليه لأتجنّب النظرة التي سالت بها ملامحُ وجهه وسرّبتْ إلى قلبي ما لا يقوى على احتماله قلبي . من المقهى تأخذني قدماي في اتجاه ميرة السمك التي بمواجهة المنصّة الخشبية الممتدة في داخل البحر فوق أعمدة طالعة من قلب الماء. إلى يساري مياهُ البحر تَلُقُّ موجاتُه الصغار على طول حائط الباطون المسلّح حيث الشخاطير مربوطةٌ حبالُ مراسيها بقضبان الحديد الطالعة من قلب الباطون . لقّةٌ بعد لقّةٍ بعد لقّةٍ ، على حائط الباطون كما على جوانب الشخاطير المتمايلة مع حركة المياه ، كلها تلاحقني بانتظام وكأنها صدىً لوقع خطواتي . وهو ورائي ، لا يصل إليّ فيحاذيني أو يسبقني ، ولا يبتعد عني بالقدر الذي لا أسمع فيه وقع خطاه. المسافةُ بيننا تظل المسافةَ التي كانت بيننا منذ اللحظة التي تركْنا فيها المقهى. وأظل أنا أمامه حتى أظل أحسّ به ولا أراه، ففي قلبي هاجس لا يهدأ من الخوف أنْ لو التفتُّ إليه لذاب من أمام عينيّ كحبّة ملح . أداري الهاجسَ الطوّافَ بتسريح نظري إلى أبعد ما أراه من التموّجات على سطح البحر الممتدّ على مهله إلى أفقٍ بعيد. تتسارع التموّجاتُ بعضها خلف بعض وتبدو وكأنها تعلو عن سطح البحر وتعلو لتلتفَّ على نفسها الواحدةُ منها إثر الأخرى ، في حركةٍ تستدرج من خيالي الذكرى الضائعة للأمواج التي تمتطيها خيولُ القَدَرِ في ذلك الفيلم التوراتي الذي حضرتُه مرات ومرات في زمنٍ لعلّه زمن ُ التبشير بالخوف ، ذلك الخوف الذي أقدمُ من الثلج وأعتى .
يهوجُ المقهى ويموجُ بالناس ، رجالاً وشباباً وصبياناً ، تدفّقوا كلهم على صوت الراديو من أنحاء الجوار، ولا يزالون، حتى لأحسب أنه لم يبق في الميرة الكبرى مشترٍ أو بائعٌ للسمك ولا في مطعم الحمّص والفول آكلٌ ولا فوّالٌ ولا في محلّ الحلاقة مَنْ يقصّ الشعرَ ولا مَنْ ينتظر دوره لقشّة ذقنٍ ، وحتى عمّال الفرن التحقوا بالجمع ، فها هي أيديهم تلولح على جوانبهم وهم يهرعون من الشارع إلى باب المقهى، مراييلُهم المُبْيَضَّةُ بغبرة الطحين تفسح لهم الطريق إلى حيث الراديو الآن على الطاولة التي في وسط المقهى ، إقْتَرَحَ لها المكانَ هذا مجلِّدُ الكُتب الذي أعرف دكانه الضيّقة المستطيلة في الزاروب الطالع من ميرة السمك الصغرى نحو سوق الخضار ، مجلّد الكتب الذي لوّعني مرة فلم يُرْجِعْ لي لا كتاب غاندي ولا كتاب نهرو ، اللذين جلّدهما لي ، حتى قرأهما من الدفّة إلى الدفّة ، هو الذي يحطّ أنفه في كل شيء ويرمي برأيه في وجوه الناس ، أعجبهم أن يستمعوا إليه أم لم يعجبهم ، فالجيرة كلها تعرف طباعه وتتساهل معه ، كما يفعل الصيداويون عادةً ، فيتغامزون عليه من فوق كتفه ومن خلف ظهره ، وهم يسايرونه بالابتسامة المرخيّة الحنك وهزّة الرأس الزائغة ليقطعوا عليه كل محاولة للجدل والخصومة ولفرض رأيه عليهم أجمعين . ولذلك لم أعجب أبداً حينما رأيتُ صاحب المقهى يتركه ينقل الراديو من طاولةٍ إلى طاولةٍ ، مبتسماً له ابتسامة المغلوب على أمره ومحوِّلاً برأسه يميناً وشمالاً تحويلةَ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
هذه الجَمْعَةُ فُرْجَةٌ للعين ، ولو لم تكن جَمْعَةَ استطلاعٍ لصحّة الخبر لكانت أشبه شيءٍ بتجمعاتنا القديمة في ساحة باب السراي وساحة جامع الكبير للاحتفال بالريّس أيام الانتخابات وزمن الثورة وسنةَ الاحتجاجات والمظاهرات ضدّ مشروع الدولة الذي يدعمه رئيس الجمهورية لتجيير شواطىء الصيد للشركة المشؤومة التي علّمنا الرّيسُ أنها تشتري أصوات الوزراء والنواب لتمرير المشروع في مجلس هؤلاء ومجلس هؤلاء . فما أعجب ما نرى اليوم وما أغرب اليوم من الأمس ،وأنت، فأين أنت منّا يا أبو الفقراء ، طَيَّبَ اللهُ ترابَ القبر الذي نزلتَ فيه، أين أنت لتلمّنا على بعض ولتمزّق خلافات أحزابنا واستئثار بعض ديوكها وديوك الميليشيات الصيداوية بالزواريب والأزقّة وتحويلها إلى كانتونات لم تكن تعرفها في زمنك ولا تعرف ما يجري فيها من انتهاكات لحرمات المتاجر والبيوت ومن إشاعةِ شربِ الحشيشة وشرب سواها ومن المتاجرة بالخوّة لتأمين الحماية الوهمية لأبناء مدينتك التي افتديتَها منذ سبع سنوات بروحك يا أبو الفقراء ؟ والذين حاربتَهم في الـ 48 ، ها هم الآن ، في هذه اللحظات بالذات ، يعبرون بدباباتهم ومصفحاتهم وشاحناتهم وجيباتهم خطَّ الهدنة الذي كنتَ أنت في شبابك تعبره سرّاً إليهم لتقاتلهم مع رفاقك، لتشعل ليلهم بالنار ، وهم لايعرفون من أين تطلع عليهم أو تنـزل ، برصاصك وقنابلك اليدوية. أين مدينة الأمس ، يا ريّس الأمس ، من مدينة اليوم، وأين مَنْ يردّ عنها القهر الذي كنتَ تردّه بحكمتك وشجاعتك وبمحبّتك للناس ومحبتهم لك؟ مَنْ بعدك سيرعى الكرامةَ المهدورةَ ومَنْ غداً سيقف في وجه الجحافل التي طلعت على الجنوب من صفحات التوراة ، للمرة الثانية في أقلّ من عقدٍ من الزمن ، إذا هي استرسلت في تقدّمها إلى حدود المدينة أو حتى قرّرت دخولها بالحديد والنار؟ لا ، لن أنتظر حتى يقع ما أخشاه ، ولن أخطيء هذه المرة في حساباتي مع هذه المدينة التي لم تعد تستأهل أن يموت من أجلها رجل أو شاب أو حتى إمرأة. سآخذ إبني عادل وأضعه في أول بوسطة إلى بيروت وأتلفن لأقاربي في شارع المزرعة لإبقائه عندهم حتى ينجلي الأمر . سامحني يا أبو الفقراء ، فليست هذه هي الروح التي ربّيتَها فينا لوقت الشدائد ، ولكنّ شيئاً فيَّ انكسر منذ اللحظة التي رأيتُك فيها تسقط بالرصاص في ساحة النجمة ، في الصفّ الأوّل من مظاهرة الصيّادين ، شباط الـ 75 المشؤوم ، شباط الـ 75.
رنّةُ جرس الباب تأخذني من حواري الصامت معه فأفتح يديّ وأترك يده على حُرْجِهِ وأنهض، دون أن أمسح الابتسامة عن فمي حتى لا يقلق أو يستاء ، وأقول لعله أحدٌ من طرف أهلي يرنّ ، وتسرع بي خطواتي إلى الباب الخارجي ، ونفسي تهيّئني لاستقبال عديّ حاملاً لي أغراضاً يكون أبي قد وضّبها لنا من خضرة وفاكهة أو من ألبان وأجبان ، أو ربما هي أكلة سمك ، كما صار دأبه في معاملتنا في الشهور الأخيرة ، وبالتحديد من اليوم الأول لخروج زهير من مستشفى الجامعة الأميركية . لم يتركني أبي ، بل أحاطني بالكلمة الطيّبة والنصيحة التي بِجَمَلٍ وبأمور المعاش حتى أظلّ على رجليّ في زمن المصيبة التي لا أعرف أين كانت تنتظرني . لم يتركني ، فظلّ في عينيّ جهّارُ جهّارَ . أفتح الباب وليس من طرف أهلي أحد ، ولا حتى سائق التاكسي الذي يرسله أبي أحياناً إليّ في غياب عديّ أو انشغال إخوتي ، بل الجارةُ من الطابق الثامن ، بوقفتها الممشوقة هي هي والابتسامة على وجهها هي هي ، تقول اشتقتُ إلى قهوتكِ وها أنذا أتيتُ بلا عزيمة وبدون تلفون . أهلاً وسهلاً بأمّ عبّاس ، وأفتح درفة الباب على وسعها ، فتدخل وتقول همساً لا تقلقي يا سميّة فلقد تركتُ علبة سجائري في البيت حتى لا تزعجه الرائحة ، وتشير إلى الغرفة التي فيها زهير دون أن تسميّه . أسير معها إلى الصالون وأنا أحدّثها حتى إذا ما اطمأنّتْ في جلستها على كنبتها المفضّلة في زاويتها المفضّلة إستأذنتُها لحظة لأرى إذا كان لا يزال يبربس في سريره أو إذا كان يريد مني شيئاً قبل أن أقوم بواجب الضيافة تجاهها . أدخل عليه من جديد وأبتسم في وجهه وأخفض صوتي بِاسْمِها فيهزّ رأسه ويشير إليّ بيده أن أذهب إليها ، ثم يستلقي على طوله في السرير ، فأرى هموداً في وجهه وكأنما هدّه الغضب والتشبير والاسترسال في الشتم والسبّ على غير طائل ، فيدقّ قلبي بالخوف وتحدثني نفسي بحديث الوساوس ، فأشدّ على نفسي وأتنحنح وأمشي بخطى ثابتة نحو الصالون حيث الجارة تنتظرني وينتظرني في فمها الكلام. تفهم منّي أنني لم أكن قد فتحت الراديو اليوم لانشغالي بأمور البيت وبطلبات زهير التي تتزايد كلما ألمّت به وعكة . وحين تهبط عليّ بخبر عبورهم حدودنا أفطن إلى معنى مرور السيارات بالبناية على زعيق أشكموناتها وتزمير زماميرها وكأنّ سائقيها في سباق . أسند ظهري بظهر الكنبة وقد سقطتْ عليّ الهامدةُ فهمّدتْني من رأسي إلى قدميّ . الآن اكتملتْ مصيبتي ، فوصول الخبر إليه سيعجّل من احتمال الذبحة، تضربه هذه المرّة الضربة الموجعة لكلينا ، فيمضي هو إلى خالقه وأُرْمى أنا وثيابي ومتاعي والعمر الذي دفعتُه من شبابي وأنا أعينه في عمله ليل نهار لنجمع ثمن هذا البيت في عبرا ، كل ذلك كله ، أنا وثيابي وعمري ، نُرْمى في الشارع، يرمينا إخوتُه ، وَرَثَتُه الذين لم يعيشوا معه ولم يقاسموه المرّ والحلو ولم يغسلوا له ثياباً ولا كَوَوْا له قمصاناً وبناطلين ولم يقطبوا له جورباً ولم يطبخوا له طعاماً ولم يداووه في مرض ولا سهروا عليه في ليالي القلق ، ولا هم سخّنوا له الحمّام ودخلوه معه ففركوا عن جسمه التعبَ والعرقَ وليّنوا عروقه المشدودة وعضلاته المتشنّجة ، هم غداً ، هم ورثته الأوفرُ حظّاً ، الأوفر حظّاً مني أنا بالميراث ، أنا الموصوفةُ من فوق سبع سموات بأنني لباسٌ له ، لزوجي ، كما هو لباسٌ لي . في صدري الكلمات لها صوتُ النواح . يطلّ عليّ من اليأس وجهُ أمي ، يبتسم لي ابتسامة اليأس المريح ، ابتسامة الصبر الذي هو عجينُها وخبزُها وماؤها والأنفاسُ التي تتردّد في صدرها . فمي يتشنّج ، يضنّ هذه المرّة بالابتسامة حتى على طيوف الغائبين . تُرَبِّتُ جارتي بيدها على يدي ، وهي التي لا تخفى عليها خافية ، وتذكّرني بفنجان القهوة الذي أتت لتشربه معي ، فأشدّ على وساوسي وأنهض لأعبر المسافة بيني وبين المطبخ في الزمن الذي لا يزالون هم يعبرون فيه إلينا سرابَ الحدود .
وأرفس برأس اسكربينتي درفة الباب رفسةً لن يعرفوا لها تفسيراً إلاّ إذا طلع علينا صباحُ الغد بالغد . رأس اسكربينتي كرأس قلمي ، كلاهما يعطس بالحبر الأسود .
الذين أمامي والذين ورائي ، كل الذين يتمشون على الكورنيش الآن يرقبون لحظات الغروب وتَبَدُّلَ ألوان الشفق لحظة فلحظة على طول الأفق ، لن يكونوا غداً أو بعد غدٍ لا أمامي ولا ورائي ، حينما أجلس في الجيبّْ العسكري إلى جنب السائق وسلاحي متكئ على حافة الشباك ، فوهتُه تتهوّى في الهواء ، تقول للناس في الشوارع والمحالّ أنني لست الشغّيل الذي يحمل السلال في البساتين ويشحّل ويقصّف ، حسب مواسم الشغل ، ولا مُرافق الصيّادين في مراكبهم إلى عرض البحر لأعود معهم مع مطلع الشمس إلى الميناء لطرح أسماكهم في المزاد في إحدى الميرتيْن ، لا ولا الشغّيل المؤقت في مطبخ مطعم الجمري ، في مواسم الربيع التي تزدحم فيها طاولاته بالشاربين والآكلين ، لا أنا هذا ولا أنا ذاك، ولا هم أمامي ولا هم ورائي ، بل أنا الضابط المتخفّي بتقلّبه في أرجاء المدينة لجمع المعلومات عن الناس جملةً وعن أناس بأعينهم تفصيلاً ، أراقبهم وأستفسر عنهم ، ثم أبلّغ ما وعيتُه إلى مَنْ يلتقيني مرةً كل أول شهر دونما تحديدٍ لمكان اللقاء ، فلا أراه إلا طالعاً عليّ من طرف شارع أو هابطاً عليّ من سلّم بناية ، بحيت لا يتكرر مكان اللقاء مرتين ، لا أمامي ولا ورائي ، فمقعدي في الجيبّْ سيعلن لهم مكاني الذي حرموني من مثله في الميليشيات الصيداوية كما في أحزاب المدينة وتنظيماتها فاعتبروني متطلّعاً إلى حيث يحسن بمثلي من أهل البساتين ألاّ يتطلّع . لحظات الغروب انتهت ، والشفق الحادّ الحمرة كشقيق البساتين سيكون لحمرته غداً أو بعد غدٍ توائمُ من الوهج في شوارع هذه المدينة التي سأطلّ عليها بالزيّ الذي تفهم لغته وبمقعد الجيبّْ الذي سيجعلني لا من أمامهم ولا من ورائهم ولكن من ذلك المرتفع الذي يتقنون لغته . اليوم أنا الشغّيل الدوّار ، وغداً غداً الكابتن مَارْدَكُوشْ . الأفق يبهت احمراره ، وعن يمين مغرب الشمس ويسارها الخطوطُ الرمادية تمسح امتداد الأفق بغشاوة كالنعاس ، فيأخذ المتمشّون على طول الكورنيش بالتفرّق نحو الشارع لعبوره إلى الرصيف الآخر ، حيث يغيبون هناك وهنالك في ممرات ضيقةٍ بين البنايات أو في الشوارع الفرعية التي تصل كورنيش البحر بشارع رياض الصلح .
من مئذنة جامع الشمعون ، الذي حوّلوه إلى جامع أبي بكر ، ومن مئذنة جامع الزعتري ، يرتفع أذان المغرب ، بصوت من هناك ثم بصوت من هنا ، ثم تلحق بهما أصوات المؤذّنين من الجوامع التي داخل المدينة ، فتتداخل الله أكبر الله أكبر بحيّ على الصلاة وحيّ على الفلاح ، فلا تدري إلى أي جهة ترخي أذنيْك لتتتبّع مقاطع الأذان . ولكنّ أذنيّ تعوّدتا على ذلك حتى أنني لم أعد أبالي أي مئذنة تبدأ وأيّها تنتهي بالنداء على الصلاة . غريب كيف أن الشيء هذا بعينه لم يعد يثير فيَّ ما كان يثيره فيََّ أوّل طلعتي ، أيام كنتُ أنتظر نهار الجمعة بِعَدِّ الأيام يومًا بعد يومٍ بعد يوم ، أسلخها من عمري وكأنها ليست من عمري ، لهفةً على دخول المسجد قبل صلاة الجمعة بساعةٍ على الأقل لأكون هناك، تحت المئذنة التي منها يرتفع صوت المؤذّن ، لا يفصلني عنه إلاّ السقف ، يرتفع من فوقي بالله أكبر الله أكبر . ذلك العمر مات ، ولن أسأل كيف مات فأنا الآن داخل في العصر الجديد، عصر تحالف الأديان السماوية والشعوب التي تدين بها ، كما هو التبشير الجديد القادم إلينا من عبر الحدود . ومن دون أن يدري أحد سأكون في الصف الأوّل من هذا العصر الذي لن أدع فيه أحداً من الذين تسلّقوا ظروف الحرب الأهلية والحرب الفلسطينية الإسرائيلية فجلسوا في كراسيّهم آمنين مطمئنين، أعينُهم في السماء وأنوفُهم لا تتنفّس مثلنا غبرة الأرض ، لن أدع من أولئك أحداً ينازعني الإمتيازاتِ التي رُمِيَ خلفي من عمري أكثرُ من ربيع وربيع وأنا أنتظر مجيئها مع اللحظة التي أسمع فيها بخبر العبور . الأفق ضاع في الظلمة التي لا تزال تهبط على مساحة البحركله . الليلة سأصلي العشاء في جامع الكبير قرب مدرسة المقاصد ، فعادة المصلّين بعد الفراغ من صلاتهم التحلّق جماعات جماعات للتحدث في أمور الدين أو أمور الدنيا ورؤوسُ الجمعيات بينهم يوجّهون الأحاديث برياح أهوائهم ونواياهم ، ومن تلكّأ قريباً منهم بحجة قراءة القرآن أو لصلاة ركعات شكرٍ أو تقرّبٍ لله ، وأنصت من حيث لا يشعرون ، فقد تتكشف له من أسرارهم ما لن يندم على معرفته . قلبي يحدّثني أنّ هذا الجامع تتخمّر في مصلّيه اليافعين أفكار لا أدري خصائص تربتها ولا إذا ما كانت ستهتزّ بالروح إذا ما فاجأها وقعُ المطر.
القلعة البحرية يكبر بها قلبي ، فحجارتُها وسلالمها المدرّجةُ إلى مراكز المراقبة وأمواجُ الصيف التي تلقّ على قاعدتها الحجريّة الثابتة في قعر البحر ، وتظل تلقّ مثل اللطمات الخفيفة ، كل ذا يملأ صدري بزخم التاريخ الذي مرّ عليها فمضى هو وبقيت هي ، تذكاراً يحدّث للناس أخبارها. ولكنني لم أنزل من السيارة مع الذين نزلوا هناك لقضاء الليل هناك ، فجامع الكبير ومدرسة المقاصد حيطانُهما الغربية تنـزل إلى الطريق فلا تبعد عن صخور الشطّ إلاّ قذفة حجر ، والجامع والمدرسة حبيبتاي ، دراستي وصلاتي فيهما ، لا أذكر أنني تمنيت أن أكون في مكان آخر ، حتى في البيت ، لكثرة ما لي من رفاقٍ فيهما ، ندرس ونلعب ونتوضّأ ونصلّي ونستعير من مكتبتيهما قصص طه حسين والمنفلوطي وجبران ونعيمه وسِيَرَ الصحابة وقوّاد الجيوش الإسلامية ، وخاصة خالد ابن الوليد وبعده صلاح الدين الأيوبي الذين قهر قلب الأسد وأوقف توسّع الصليبيّين في بلادنا . حطيّن كأنني كنتُ معه فيها، أناوله السيف والرمح والخنجر ، وهو على ظهر فرسه ، وقربةَ الماء وهو يلهث من العطش ، راجعاً من المعركة ليشرب ويرتدّ إلى ساحة القتال ، وبرمحي الذي بنصف طول رمحه أحمي ابنته التي في مثل عمري ، أحميها من كل فارس وفرس ، وأصرخ بها أَنْ عودي إلى الوراء واختبئي في الخيمة التي خلف الصخرة ، حتى إذا كسرتْ كلمتي واندفعت أمامي وفي يدها قضيبٌ مسنونُ الرأس كالرمح ، أمسكتُ بيدها ونتعتُها إلى الوراء ، إلى حيث تكون في مأمن من السهام الطائشة ، فشدّتْ بدورها ونتعتْ وصرختْ ، فرميتُ على أرض حطيّن رمحي وأمسكتُ بها بكلتا يديّ حتى ثـبَّـتُّهما في الرمال حيث ركعتْ وأسلمتْ نفسها للبكاء الذي لم أعرف ماذا أفعل حياله غير أن أحسحس بأصابعي على خدّيْها لعلها تهدأ وترضى. لم أنزل مع الذين نزلوا من السيارة في القلعة البحريّة لأنّي الليلة سأسهر هنا مع عاصم الديماسي وهيثم الحبّال ونهاد البزري والذين سيلحقون بنا ساعة بعد ساعة حتى يطلع علينا الفجر بنور الفجر أو بنور القتال .
أنقل الرشاش الصغير من كتف إلى كتف وأسمع صوت هيثم يحدّث نهاد بشيءٍ لا ألقط منه إلاّ هسهسات وهشهشات . أقترب منهما خطوتين ثم أغيّر رأيي فلعل ما يدور بينهما لهما وحدهما . أمشي بعيداً عنهما وأتعمّد النظر إلى جهة البحر وكأنني أراقب ما يمكن أن يحمله إلى شاطئنا الموجُ في هذا الهزيع أو ذاك من الليل . يهسهس لي صوت نهاد فأتمادى في مراقبة البحر فيناديني باسمي بأخفض ما يكون الصوت . أستدير وأخطو في اتجاههما خطوات متمهّلات ورأسي يتكهّن بأكثر من سبب للنداء. نهاد يسألني ماذا فعلتُ مع أهلي قبل مغادرتي البيت وهل وصل الأمر بيني وبين أبي إلى حدّ الجدال والصراخ فأردّ بشيء وأطوي في صدري الشيء الآخر ، فعينا أبي الغاضبتان تهدآن في خيالي وتغرورقان بالأسى فيغرورقُ صدري بالحزن عليه لأنه بدأ يدرك أنّ ابنه أفلت من بين يديه فحتى دموع أمي التي استجار بها لم ترجعني إلى عتبة الباب .
يخوضان في ما دار بينهما وبين أهلهما وكيف اضطرّا إلى تلفيق كذبةِ الزيارة التي لا بدّ أن يقوما بها إلى بيت أستاذ اللغة العربية الذي قالا إنه كسر رجله الأسبوع الماضي وليس له من يعينه في البيت إلاّ زوجته التي هي الأخرى أقعدها المرض ، للاطمئنان عليهما والتأكد من أنهما سيكونان بخير في حال ضربتْ اسرائيل بالطيران أو المدفعية البعيدة المدى . طبعاً لم تمرّ على الأهل كذبة الإبنين ولكنهم اضطرّوا إلى قبولها وسمحوا لهما بالتغيّب ساعة واحدة لا أكثر ، وهم يعلمون في قلوبهم أنّ ولديْهما أصبحا منذ الليلة ملكاً للَّيل ، مثل سواهم من الشباب واليافعين في كل حيّ وساحة وشارع وبستان ، فحدود المدينة البرية والبحرية لا يحميها إلاّ أبناء البلد ، كما لا يفتأ أبي وأبناء جيله يتذكرون نقلاً عن الريّس الذي حمى نهر صيدا وبحرها في الـ 58 وحمى رزق صيادي السمك في الـ 75 باستشهاده في ساحة النجمة . الضوء الذي يلمع ثم ينطفئ ثم يلمع ثم ينطفئ من خلف الجزيرة المطمورة في العتمةِ يأخذ منّا أنفاسنا فما هي إلاّ ونحن على رُكَبِنَا خلف الصخور القريبة ، أصابعنا المتشنّجة تتلمّس طريقها إلى الزناد .
إصبعي تلتفّ حول الزناد ونَفَسي ينقطع في صدري كأني أستعمل الرشاش لأوّل مرة . أتذكّر نصيحة المدرّب لنا أن نرخي الإصبع المشدودة ونبعدها للحظات عن الزناد إذا كنّا متوترين أكثر من اللازم حتى لا تنطلق الرصاصات قبل أن نكون قد حدّدنا الهدف ووقّتنا لحظة التصويب . أعمل بالنصيحة وأغمض عينيّ وأعدّ للعشرة . نهاد يهسهس لي عن يميني فألتفت ناحيته وأردّ بِهِسٍّ واحدةٍ وأنتظر . يسألني بصوت مغمور إن كان أفضلَ لنا من الاحتماء بصخور الشاطئ أن نتسلل إلى تلّة قهوة رجال الأربعين ، حيث نكون في وضع يمكّننا من رصد أيّ حركة في البحر لمسافة بعيدة ويسهّل علينا الإنسحاب إلى زواريب المدينة إذا حدث واشتبكنا مع القوارب الإسرائيلية ونفدت منّا الذخيرة . الأفضل أن نظل حيث نحن وننتظر لنتأكد أنّ صعودنا إلى التلّة لن يفضح تحرّكنا ويعرّضنا لرصاصهم . ولكنه يعترف بأنّ الموت لا يخيفه بقدر ما يخيفه احتمالُ الوقوع في الأسر . كأنه في قلبي، فذلك بالضبط ما يرعبني وإن لم أبح بسرّي لأحد . وذلك ما سأحمي منه نفسي ، إذا ما نجحتْ عملية الإنزال ، بالهجوم عليهم ، بعد نفاد الرصاص ، بسكّينِ الستِّ طقّاتٍ حتى أَقتل أو أُقتل . مع أنّ هذا الأمر يقلقني، فلقد نبّهونا في دروس الجامع أنّ رمي النفس في التهلكة شبيه بالإنتحار . ولخوفي فظيع فظيع ألاّ يُكتبَ لي موتي بهذه الطريقة شهادةً إذا ما وقع عليّ المقدور ولم أؤسر.
ضوءٌ أبعد من الضوء الأوّل يلمع في البحر ويختفي ثم يلمع ويختفي وكأنّه يجاوب على الضوء الأوّل . وكأنما من ساحة مدرسة المقاصد المطلّة على موقعنا مباشرةً يصرخ صوتٌ بأنّ الزوارق الإسرائيلية تحوم على مسافة من الشاطئ تسمح لها بإصابة المطرح الذي تريده ، غرب أوشرق أو شمال أو جنوب المدينة . وكأنما من على سطح بناية بين المقاصد وبين قهوة رجال الأربعين ، صوتٌ آخر ينصح أن نستدرجهم إلى عملية إنزال ، وذلك بعدم تحرّكنا من مكان إلى مكان حتى لا يرصدونا ، وبعدم الردّ على قذائفهم إذا أطلقوها . تعجبني الخطّة ، فالجنديّ اليهوديّ جبان يفضّل الحرب من بعيد، فإذا تصيّدنا واحداً منهم فقط على الشطّ ستهتزّ معنويات الجيش كله .
ثم تختفي الأصوات و تشتدّ الظلمة ، أو هكذا يصوّر لي السكوت المفاجئ من قلب البحر كما من على سطوح البنايات . من محلّة الفواخير ، إلى الجنوب منّا ، تقترب في اتجاهنا ، مطفأةَ الأنوار ، سياراتُ جيبّْ ، على أقلّ من مهلها ، وعليها شباب الميليشيات والأحزاب ، يحملون القذائف ، وعلى كلّ جيب رشاش الـ 500 ، مثبّتاً بحيث يمكن تدوير فوهته في كل الإتجاهات . أصلّي في سرّي أن يكونوا الآن قد نسوا خلافاتهم حول زعامة الشوارع والأحياء التي تسبّبت في الأسابيع الماضية بسقوط أكثر من قتيل وأكثر من جريح ، فمن دون تنسيق بينهم سيكون سقوط المدينة في قبضة الجيش الإسرئيلي محتّماً ، إذا ما امتدّ الإجتياح حتى جسر الأوّلي الذي باستيلائهم عليه سيقطعون صيدا وبقيّة الجنوب عن بقيّة لبنان. كان هذا حديث كل الناس اليوم وكان هاجس الذين لم تتحمل أعصابهم مجرّد الفكرة فركبوا سياراتهم وعبروا الجسر في اتجاه بيروت والضاحية .
نهاد يتنحنح ويقترب مني . أعرف أنّه لا يحتمل السكوت طويلاً وأنّ صمت الآخرين عذابٌ له، فهو من عائلةٍ أفرادُها مثل حبّات المسبحة ، كما يقولون في حيّه ، لو حكى كل واحد منهم كلمة لتألّفتْ قصة في أقلّ من دقيقة ، وبما أنّهم يتحدثون على طريقة الضفادع ، بالجملة أكثر من المفرّق ، فقد تعودتْ أذناه على الأصوات ، يأكل بعضها بعضاً وتملأ حوله الهواء بما يعي وبما لا يعي. أتنحنح مسايرةً له وأسأله إذا كان ينبغي لنا أن نصطحب نزيه معنا ، وهو أصغرنا وبيننا وبينه ثلاث أو أربع سنوات . يقول نهاد في عمره كنّا نحمل السلاح، والعمر ليس بالعبرة ، العبرة في تصميمه على أن يكون بيننا وقت المعركة . أبوه متعلّقٌ به ، يهمس نهاد ، وما تراه العين غير ما تسمع به الأذن ، متعلّق به كأنما ليس له من الأولاد سواه . أطمئن نفسي وأطمئنه بأنّ شيئاً من المكروه لن يصيبه ما دامت أعيننا عليه . شيءٌ في الهواء يسحب قلوبنا معه قبل أن ندرك أنها طائرة الأف 16 عبرت كالسرّ فوق المدينة. ثم يدوّي صوت القنبلة الصوتية الأولى فيأخذنا هلعُ البغتة ، ثم تدوّي القنبلة الثانية ، من الطائرة نفسها أو من طائرة سواها ، لم نعد ندري ، وأنّى لنا أن ندري ، وحواسُّنا تداخل بعضها ببعض فليس لأحدها أن تكون مُعْتَمَدَنا في معرفة حقيقة ما يجري . نزيه لا نراه إلاّ منبطحاً على الأرض . ننحني لننـزع من قلبه الخوف ، فيرتفع إلينا صوته ، غريباً كأنه آت من وراء جسمه ، أنّه انبطح حتى لا يكون موتُه رخيصاً ، بقذيفة عابرة ، حتى ولو كانت قنبلة صوتية ، فموتُه لن يكون كما يشتهيه إلاّ بمواجهة الجنود الإسرائيليين أنفسهم ، عيناً بعين ، على الأرض التي دخلوها عنوةً ، وعنوةً ستذوق طعم دمائهم ، ولو حتى قطرات منها ، مجرّد قطرات .
ينـزل من سيارة الجيبّْ جَوْدَتْ العُلَّيْقْ بأزرار جاكيته العسكرية المفتوحة كلها، وتلولح يداه، واحدة بالرشّاش وواحدة في الهواء ، ، وهو يدخل المطعم ، متجهاً إلى طاولتنا مباشرة حيث جوزيف الديّار وأنا نتسلى بآخر كأس عرق لنا لهذه الليلة ، فنحن بعد منتصف الليل بقليل وعلى وشك الإنطفاء لولا بقيّةٌ من الحديث المهمّ الذي بيننا ، نخوض فيه ويقطعه داخلٌ علينا أو خارجٌ من عندنا ، من شباب الميليشيات الصيداوية ، خلال دورياتهم الليلية بين حواجزهم الثابتة المشتركة على جسر الأوّلي ومحلّة السبع أعين وما بعدها من امتداد البنايات السكنية للمدينة ، يقطعون علينا الحديث الذي نتحرّز أن يشاركنا فيه أحد ، ناهيك عن أن يفطن أحد إلى أننا في الأصل نخوض فيه . جودت العلّيق يرخي رشّاشه علىالكرسي بجانبي وتأخذ أصابع يده العفيّة بربع رغيف يفتله في ما تبقّى في صحن اللحمة على حمص فتلةً تنظّف الصحن من أساسه ويغوّرها في فمه ويعلك بشهوة مَنْ لم يذق الطعام منذ أيام ، وشارباه فالتان على شفته العليا ومدلدلان بينها وبين شفته السفلى ، كلما فتح فمه بالعَلْكِ يختلط طرفُ الطعام في فمه بالشعرات الطويلات من شاربيه . أفسح له كرسيّاً وأشير له بالجلوس فيشير بيده إلى البحر فأفهم أن الشطّ المحاذي للطريق الساحلي معرّض كله لإنزالٍ بحريٍ في أي لحظة وأن عليهم بالحركة الدائمة حتى لا تفوتهم شاردة أو واردة من البحر . ثم يغمزني فأنهض وأسير معه إلى الداخل ، إلى صالون المطعم حيث أبي غارق منذ ساعات في صمته وشروده ، يجلس هنيهات ثم يمشي من أوّل الصالون إلى آخره هنيهات ، وشفتاه تتمتمان بأصوات أشبه بالكلمات وكأنه يحدّث أحداً ، يحدّث أحداً بغضب وبألم وبشيء كأنه الرفض والتحدي ، فأتنحنح لينتبه إلى دخولنا عليه ، فيلتفت إلينا في غير تأهيل ويمدّ يده لليد الممدودة إليه فيصافح العلّيق ، الذي يعتذر لاضطراره إلى تناول كأسيْ ويسكي سيك على الواقف ليساعده ذلك على البقاء صاحياً حتى الفجر، فرأسه يحس به كأنه يتفسّخ ، والويسكي وحدها تلمّه على بعضه . يهزّ له أبي رأسه هزّة العارف المتفهّم . من الرفّ في زاوية الصالون أناول العلّيق كأسيْ جوني ووكر ، بلاك ، فيفتحهما ويضمّهما بيده ويحني رأسه إلى الخلف قليلاً ويفتح فمه للكأسين معاً ، فيكركر منهما الويسكي إلى أعماقه كركرة تنقطع فجأةً وكأنما المسكين رشف رشفة ماء . يشير إليّ بيده أنْ سيحاسبني غداً فأشير له أنّ ذلك ليس بيننا ، فالميليشيا التي هو فيها نحن نطبخ لعناصرها وجبات الطعام كل يوم ، حسب الإتفاق، وحسابهم معنا حسابٌ جارٍ ، نستفيد منهم ونشتري قبضاياتهم بمسايرة الكأس والزجاجة وصحن طعام نهرّبه من هنا وصحن طعام نهرّبه من هناك ومازة صغيرة نتدبّرها على عجل لهذا أو لذاك ، وقت انحشار أحدهم لتبييض وجهه في صيدةٍ نسائيةٍ اصطادها من يومه لليلته ، أو بالأحرى اصطادته من يومها لليلتها ، تشترط عليه أن يكون الأكل والمازة من مطعم الجُمَري حتى تُزَبِّطَهُ هي على طريقتها وتعدّل له مزاجه على التمام . أبي دائماً يهزّ برأسه ويقول إن كيدهنّ عظيم ، ومربحٌ لنا كيدُهنّ على كل حال ، وفي هكذا حال لا اعتراض على الكيد ولا على أهله . يمسح العليّق فمه بطرف كمّه ويصافحنا شاكراً ويمضي عبر الباب فيأخذ رشّاشه من على الكرسيّ ويطلع مباشرة إلى الجيبّْ الذي ينطلق به شمالاً صوب حاجز الجسر . أترك أبي يعود إلى هزّات رأسه وإلى مشيه من أول الصالون إلى آخره ، وكفّاه معقودتان على بعضهما وراء ظهره ، كما هي عادته كلما شغله شاغل فانزوى عنّا جميعاً وصار كأنما في خلوةٍ مع نفسه ، يزعجه أن يقطعها عليه أحد ، منّا نحن أولاده ، أو من الشغيلة ، أو حتى من الزبائن . هكذا أذكره كان أيام العدوان الثلاثي على مصر ، يقطع نفسه عن الناس ، حتى عن عابد البرّ وأبو الوليد وأبو سعد، شلّةِ مازة العرق وشلّة ضمان البساتين وشلّة مواسم كل الفصول .
جوزيف يحوّل برأسه هكذا وهكذا بعد أن يبتعد الجيبّْ ثم ينخّ صوبي فوق الطاولة ويقول بصوت مخمور ، مع أنه ليس حولنا من أحد ليسمعنا ، أن الميليشيات الصيداوية بالفعل فقدت عقلها إذا كانت تظن أن البوارج الإسرائيلية يمكن لأحد مقاومتها إذا كان في نيّتها التمهيد لعملية إنزال . أمزّ من كأسي مزّة لا أستطعم فيها طعمة العرق لأن الثلج الذائب غلب على مزاجها فرقّتْ وأصبحت شحيحة النكهة شحيحة البياض ، تماماً مثل مصل اللبن .أتجاهل مزاجه السياسي وأعود به إلى حديثنا الذي قطعه علينا العلّيق وأسأله إذا ما كان من الأفضل أن ننام الآن على سيرة المطعم وموضوع الأجار والاستثمار والطرق القانونية وغير القانونية لتحقيق رغبتي في تجيير كل شيء لمصلحتي حتى تنجلي الأمور ونعرف إلى أي حالة سينقل البلادَ الاجتياحُ الذي نعرف أنه بدأ ولا يعرف أحد متى ينتهي . يوافقني الرأي ولكنه ينبّهني إلى ضرورة مراجعته على طول الخطّ ، ولو مرة في الأسبوع ، حتى لا نسمح للمفاجآت أن تأخذ منّا زمام الأمر . أعرفه عن ظهر قلب وأعرف مغزى تلميحه بضرورة مراجعتي له ولو مرة في الأسبوع ، فمن أين له بمازة عرق كمازتنا ، طيّبةٍ ومُشْبِعَةٍ ولا تكلّف خاطره وجيبه بشيء ؟ هو محامي العائلة ، يعرف حاجتنا إليه ويعرف أننا نعتمد عليه في كل صغيرة وكبيرة في معاملاتنا الروتينية والطارئة مع الدولة ، وخاصة حينما تكون لنا قضية بحاجة إلى وساطةِ نافذٍ في السراي من ملّته . أعرفه عن ظهر قلب ، ويعرف هو أنني أفهم عليه النغمة والتلميحة دون كثير كلام . وهكذا أنا أرتاح ، فالخدمة التي أدفع ثمنها أكلاً وشرباً تضعني في موقع المكرِم له والصارِف عليه ، وهذا في نهاية الأمر سيخدم مصالحي ويجعل لي دالّةً عليه حينما يأتي الوقت لتهيئة الأوراق القانونية وفرضها على أبي بالتي هي أحسن أو بما تفرضه حالة البلد . المحامي والميليشيا ، هذان هما كل شيء ، بل لعلهما ليسا كلّ شيء ، فغداً يصل الجيش الإسرائيلي إلى صيدا وبعد غد سيفتح الطريقُ إلى فلسطين على مصراعيه وتعود الحال إلى ما كانت عليه قبل الـ 48 ، وقتما كانت ترنّ ليرة الذهب الفلسطينية وتنهال على الناس البركة والخير . الأمور الآن مرهونة بأوقاتها وعليّ توسيع علاقاتي بكل الفاعلين على الأرض حتى تكون لي شبكة من المعارف ، كيفما التفتُّ ينطّ إليّ منها مَنْ أنا بحاجة إليه . حتى الآن ارتحتُ من كسّاب فبكلّ ما جناه وكل ما خبّأه في القصب من ليرات الذهب الإنكليزية أجبرتُه على ترك المطعم فذهب إلى غير رجعة لأفرد رجليّ أنا في طول المطعم وعرضه ، وحدي وحدي ، وقريباً أتدبّر أمر وسيم وأطفّشه بضربة سكّين لا تقتله ولكن تفي بالغرض ، ثم أكتب لطارق أنصحه بالبقاء في الكويت . بالنسبة لسامح فجنونه بالكتب كفيل به ، والدكتوراة التي عاد بها من أميركا منذ عامين ستأسره إلى ما شاء الله في بيروت ، حيث شُغْلُهُ في الجامعة وحيث ابنته تعيش عند بيت عمه . الأمور مرهونة بأوقاتها ، ووحده دولاب الزمن سيدور حولي ويدور ليلمّع لي حذائي التلميعةَ التي ستتمارى بها كل أرتيستات الزيتونة ، وأرتيستات تل أبيب ربما ، فمن يدري ؟ أتمضمض بما تبقّى في الكأس من عرق وأفتح عينيّ أفتّش بهما عن آخر هذا الليل .
نمتُ واستيقظتُ بعد صلاة العشاء ثم نمتُ واستيقظتُ ثم صارت بعد منتصف الليل ليلتُنا ، ورائحته لم تعبق بها الطريق بعد ، ولا الهواء العابر إلينا من البساتين التي ناحية المطعم ، فلعله كما عهدتُه في هذا العمر قضى نهاره كله وما مضى من الليل يتمشّى ، معقودةً كفّاه وراء ظهره ، ويمزمز من كأسه اللعنة التي هي رفيق خلوته . هكذا هكذا عهدتُه كلما تعكّرت أجواء البلد وانجرح شيءٌ من كبريائه وعنفوانه ، فما أسرعه إلى الانكماش على نفسه إذا كانت البليّة فوق طاقته ، وفوق طاقته هي اليوم وطاقة كل الناس ، فدخول الإسرائيليين علينا من بوّابة الجنوب يصغر أمامه موتُ رياض الصلح وموتُ الريّس وموتُ عازر الديّار ، تلك الأحداث التي هزّته هزّاً وكسرت فيه شيئاً لم يصلحه مرور الأيام . مع كل حادث موت كأنما كان ينشال من قلبه شيء ويُرمى به في مجرى النهر الذي يحمله إلى غير رجعة . الأمر اليوم يختلف ، فاليهود أخبث الناس وأشدّهم عداوة لنا نحن المسلمين ، وإذا ، لا قدّر الله، دخلوا صيدا ، فماذا يفعل بكبريائه جهّار ، وهو الذي يحسب حسابَ كبريائه كلُّ من يعرفه من أهل البلد ؟ وكيف له بضبّ أولاده تحت جناحيه إذا اليهود تعمّدوا ضَبَّ الشباب من بيوتهم وشحنهم إلى السجون في فلسطين ؟
أولاده وأولادي مثل العصافير ، تكنكن في أعشاشها حتى يريّش عليها الريشُ ، فإذا ما دار عليها حتى اكتست ، تنفض به الهواء وترفرف بعيداً بعيداً ، ناسيةً دفء العيدان والأوراق في أعشاشها، مزهوّةً بقدرتها على الطيران الذي تكتشفه لأوّل مرّة ، فتعود ، إذا عادت ، لتبيت ليلتها ليس إلاّ ثم لتنطلق إلى الرحب والسعة والامتداد الذي لا تعرفه إلاّ أجنحةُ الطيور . وتلك هي زياراتُ سميّة لنا ، وإن تكن نهاريّةً بغير مبيت ، وتلك هي الأندرُ منها ، زيارات سامح ، اللاهث بابنته نينا ، يحملها من بيت جدتها لأمها في بيروت إلى بيته هو ثم إلى بيتنا هنا ، يطعمها ويسقيها ويلعّبها كأنه أمّها في غياب أمّها التي عاد من أميركا بدونها ، عاد بدونها ولم أفهم ، فأقول له كلما خلوتُ به ، من قلقي عليه وعلى طفلته التي كحبّة الياسمين ، والتي بالكاد تبلغ الخامسة من العمر ، أقول له بالله عليك طمّنيّ أين هي امرأتك يا ولدي ؟ نسيتُها في المطار مع حقائب سفري . مع حقائب سفره نسيها ، يقول ، كأن قلبي يتحمّل مثل هذا الكلام الذي يقوله باسترخاء ، ونظرته الزائغة تروح به وكأنها تلحق بصوته الذي راح بعيداً بالكلمات . البليّة أكبر من أن أحملها أنا أو جهّار إذا فكرّنا وفكرّنا في المغطس الذي وقع فيه ويرفض أن يفاتحه به أحد . وما كان ينقصنا الآن إلاّ هذه الحرب ، فكأن الذي فينا لم يعد يكفينا وكأن الميليشيات والأحزاب لم تعد تكفي لنظل على خوف دائم وقلق . ويا ما أحلى غربة سامح ونينا في بيروت ، في هذه الظروف المجنونة ، على غربة سميّة في عبرا ، بين أبناء الملّة الأخرى ، بعد مرض زوجها الذي يقول جهّار بأنه المرض الذي يقف بسميّة على مهوار اليأس والأمل . عصافيرنا رفرفت وأخذت بأجنحتها النسائمُ والأرياحُ ، ولم يبق لنا إلاّ نحن ، هو لي وله أنا، وإن لم ينتظرني هو كما أنتظره ، فسأظل أنتظره ههنا ، ههنا على عتبة الباب .
ولو أنه وصل إليّ الآن لفاتحتُه بأمر أخته أمّ حنقير وما ينبغي أن تفعل بأولادها الفلسطينيين لإبعادهم من وجه اليهود ، فهي يكفيها وفاة زوجها الذي كان في حياته مريّحها وكافيها وكافي أولادها العوز والحاجة . جهّار لا يحب أن يفتح له أحد سيرة أخواته ، هكذا كان من أوّل ما دخلتُ بيته ، وكان يفكر بهنّ الثلاثة وحده في صمت ، وحينما يزن في سرّه أمورهنّ ويعزم على شيء ، كان يرسل في السرّ أحد أولاده إلى هذه أو تلك ، بشيء من المونة أو بشيء من الليرات ، فيبوح إليّ كاتمُ السرّ بالسرّ من وراء ظهر أبيه ، فأطمئن عليهنّ وأرضى عليه في قلبي فكأنه وُلِدَ في قلبي من جديد .
نسمةً نسمةً تضيع من يدي في الليل درفةُ الباب ، فأعبر العتبةَ رغماً عني ، كأن عبقاً في الجوّ أمسك بي من أنفي وجرّني معه إلى الجهة التي منها أتى ، فيعرف قلبي أنه الآن في الطريق إليّ ، إلى بيته، فأصدّق قلبي وأحاول الإمساك بدقّاته حتى لا تفضحني دقّاتُه .
الهدهد يلملم الأشعّةَ التي بقيتْ من الفجر ويبني منها عشّاً له غريباً عن تراث الهداهد وعاداتهم، فالروثُ هو مادّةُ أعشاشها ، وبذلك طارت لها شهرةٌ حتى وصفها البعض بأنها أقذر الطيور على الإطلاق ، لملم الأشعّة الباقية من الفجر ودوَّرَها على بعضها وجعل لها عمقاً يحتضن تكوُّرَ صدرِها حينما يحطّ بها جناحاها ويلتمّان عليها دفئاً وسلاماً ، ثم تنفرج الدنيا المغلقةُ على نفسها خلف المسافات عن لحيةٍ رحبةٍ تنهلّ حتى الصدر من وجه الرجل الذي يسمّونه سليمان بلقيس انهلالَ نَدَفِ الثلج الذي كنتُ أهرع إليه وأسير فيه كأنني أهفّ على بياضه تحتي هفّاً هفّاً ، كلَّ فصل من فصول الثلوج الخمسة التي قضيتُها في ولاية إيلينوي أتابع حكاية الأدب الأميركي ، شعره ومسرحه وروايته ، تنهلّ من وجهه اللحيةُ حتى الصدر منه ، هفافاً هفافاً ، وعيناه اللتان ازدادت حدّةُ السواد في حدقتيهما صارتا وكأنما النَدَفُ المدندل من السماء هو المساحة البيضاء التي تحيط بهما ، اتّساعاً في اتّساعٍ ، ونصوعَ ظلامٍ في نصوع ضياء . كل الأشياء تتمدد أمامي كما تتمدد ظلال الأشياء في انحناءةِ شمس العصر تلقاء المغيب ، تتمدد الآن بلا شمس كلُّ الأشياء ، وكأنما تتحرك بنيّة الشمس المحجّبة بمنديل أمي المنقوع أبداً في حَلّة الياسمين . وينشقّ الأفق القريب خارج زجاج نافذتي عن قدميْن هفيفتيْن ترفّان على البياض رفّاً رفّاً ثم ترتفعان في الفضاء منسحبتيْن قليلاً إلى الوراء ، في ارتفاعٍ فارتفاع ، كما رقّاص الساعة ، حتى تبلغا النقطة التي لا بدّ عندها من رحلة العودة إلى الأرض التي بدل أن تطآها تحفّان بها حفّاً ، أو كأنهما ، ثم تنهضان في الهواء من جديد ، في الاتجاه الآخر ، لتتم بذلك رحلة الرقّاص التي قدّرها عليه قانونُ قياس الزمن . زفرةٌ عن الأرض فشهقةٌ إليها ، هكذا القدمان في الأفق القريب ، ثم هكذا هكذا ، في غيابٍ مسحور لبقيّة الجسد الحاضر أبداً في المرجوحة الطالعة النازلة بالمرأة جينيفر من فيلم كاميلوت ، زفرةٌ فشهقةٌ ، هكذا هكذا ، نافيةً من المشهد صبيانية الصبي المتأرجح في قصيدة فْروسْتْ ، فوحدها الأنثى المرجوحةُ والمتمرجحةُ والتّمرجحُ ، وحدها جينيفر ، يستدرجني غيابُها إلى خارج نافذتي لأتـمّم المشهد بريشتي أنا ، بأنامل عينيّ المسحورتين بنداء الحركة أنْ هيّا إليها فالكمال لا يكون إلاّ فيما اتَّسَقَ، ألم يعلّمك شَفَقٌ ؟ ألم يعلّمك غَسَق ؟
في خفّة روحٍ تنطّ على منسرح البياض الهفيف قدماي ، فخارج زجاج النافذة أنا ، وإن لم أفتح من البيت باباً ولم أكسر من النافذة زجاجاً ، بل خارج كل شيء أنا ، فحتى الوطءُ لا أحسّ به وَطْئاًً ، ودنوّي من القدمين المتمرجحتين أشبه بانسياب الصمت ، فما إن أحسّ بشيء كالوصول حتى أفتح قبضة يدي اليمنى وأصابعي في الهواء ثم أغمسها خمستها في النَدَفِ المدندل من السماء وأدفع بها إلى حيث المرجوحةُ احتمالٌ فأرسمها حبليْن ومقعداً ثم أغمس في الندف ثانيةً وأرسم في الحركة الطالعة النازلة ملامحَ جينيفر ، على شيءٍ في الهواء يعزف لحن المرجوحة في الفيلم ، فما هي إلاّ غمساتٌ هنا وتنسيقٌ ثم تنسيق هناك حتى يكتمل المشهد بوجه جينيفر وشعرها وجسدها وفستانها اكتمالاً تنشقّ له حنجرةُ الهدهد بأنْ هذه بلقيسُ محجّبةً بسواها ، فتعال وخذْها بعزّة القهر يا سليمان، وغرّدْ بها في أناشيدك التي لم تتمّ ولن تتمّ إلاّ ببلقيس التي كنتَ في غفلةٍ عن بلقيس ضيّعْتَها لتجدها اليوم محجّبةً بامرأةٍ سواها .
يا رسول الهوى من الروث أتيتَ ، محجَّبةً بالنفايا نواياكَ ، ولملمتُكَ أشعّةَ الفجر لتصوغ منها على الفجر عشّاً إنْ هو إلاّ أذانٌ بمثيلٍ له لسليمان ، حتى وإن إليّ من الروث أتيتَ ، هكذا يصوغ الملكُ صوتَه كلماتٍ ، فينفض عن جناحيْه وعُرْفِه بياضَ الندفِ ويحطّ على الكتف الملكيّة الهدهدُ ، يسرّ إلى صاحبها بما اهتدى إليه ، فتنهال الحدقتان السوداوان على المرجوحة تتمرجحان ، لا على حركة القدمين فحسب ، ولكن على انسياب المرأة في الحركة التي لا تقيس الزمن بل بها يُخْلَقُ الزمنُ خارج الزمن ، تماماً كما أنا الآن خارج زجاج النافذة ، وإن لم أفتح من البيت باباً ولم أكسر من النافذة زجاجاً . الملك تخونه عيناه ، ولكِنْ ما يشعل الغضبَ في أنفاسه والارتجاجَ في سحائب لحيته قلبُه الذي ضلّ فلم يميّز حقيقة المرأة التي خلف المرأة الحجاب . ترتجّ رقائقُ الندفِ بالصرخة الملكية أنْْ بَـيِّنْ لي أيها الهدهد، يا وسيطي مع الغيب ، بيّنْ لي إن كان من الحكمة أن أصدّق حكمك في المرئيات وما خلفها فأنتزع من المرأة المرأةَ التي ستكون لي العشَّ الململَمَ من أشعة الفجر ، أسكنه وأسكن إليه . الهدهد يغرق في صمته وينهال عليه الندفُ بغزارة ِوسواسٍ حتى يغطّيه من عُرْفِهِ إلى قدميه ، فهو تمثالٌ من البياض مسلوبُ الحركة والصوت .
الملوك الذين قبل سليمان والملوك الذين بعد سليمان يمزّقون صفحات التوراة ويخرجون منها مدجّجين بأسلحة الحرب التي أعلنها صولجانُ العشق والتيه ، سليمانُ المتلبِّسُ بغزارة الندف ، يمرجحه الشعرُ والوجهُ والثوبُ والساقان والقدمان من التي تعصّتْ حقيقتُها على العين والقلب فَاسْـتُعين عليها بطواغيت كل العصور . من شلالات الندف تدقّ طبولٌ وتعلو صيحاتٌ . حول الصولجان تنتصب راياتٌ وحول الرايات رماحٌ وحول الرماح خيولٌ وعلى الخيول وجوهٌ تحجبها خوذاتٌ ومن الخوذات عيونٌ تقدح الغضبَ بريقاً من الفتحات المدوّرات . وسليمان على حاله ، لا تزال تخونه عيناه ولا يزال يضلّ قلبُه فلا يميّز له حقيقة المرأة التي خلف المرأة الحجاب ، والمرجوحة لا تزال يضيّق عليه حَدّا حركتها الأرضَ بما رحبت فتضيق عليه نفسُه وأنفاسُه ، فهو أسير اللحظة العجاب ، خارج زمنه وعلى شفير زمن بلقيس ، تمرجحه اللحظةُ النَدَفِيّةُ في أسر الحركة التي لم يكتشف له سرَّها إنسٌ ولا جان . خارج سلطانه لن يكون ، تقول لمن حوله عيناه ، وترتفع لتوّها يدُه بالصولجان ويهتزّ الندفُ من حوله بصرخة الحرب التي تلبّيها الرايات والرماح والخيول والوجوه المحجّبة بالخوذات ، فتضيق على المرجوحة الدائرةُ وتضيق ، وما إن يُهَمَّ عليها بالضربات القاضيات حتى تفرقع من المرجوحة ضحكةٌ تهتزّ لها لحيةُ سليمان فيتجمد في المشهد كلُّ ما فيه ، على الهيئة التي هو فيها ، حتى الندف المنهلّ حبالاً من السماء يتوقف انهلالُه ويظل كما هو حبالاً ساكنةً في الفضاء . مرة ثانية تفرقع الضحكة في المرجوحة فتتناثر من دفئها فقاعاتٌ تسبح في كل اتجاه وتذيب الحبالَ المنهلّةَ بالبياض فتتقطّر هذه على الأرض قطرات قطرات ، وتظل تتجمّع وتذيب الذي تحتها من بياض حتى يسيل تحت المرجوحة جدولٌ من الماء ، ذائباً، صافياً ، رائقاً كصفحة مرآة ، فتتململ المرجوحةُ لحظة لتخلع عن نفسها المرأةُ التي خلف الحجاب المرأةَ الحجابَ . ثم ترخي المرأةُ الطالعة من المرأة قدميها في الجدول ثم تقف عليهما وتسير فيه ململمةً بأطراف أصابعها أطرافَ ثوبها ، كاشفةً عن ساقيْها ، فيخفض صولجانَه سليمانُ ويشير إلى طواغيت كل العصور بالعودة إلى صفحات التوراة ، فينخذل المشهدُ عمّا كان فيه ، وينقل سليمان قدميه في الماء ، مقرّباً نفسه من قدميها ، وعيناه تغوران في مرآة الجدول ، تتسلّقاها شعاعاً فشعاعاً فشعاعاً .
يا رسول الهوى من الروث أتيت .
يصبّح عليّ بصوت مزحوم في حنجرته ويختفي قبل أن أراه ، ثم أسمع باب الحمّام يُغْلَقُ فأعرف أنّ مثانته أيقظتْه على عجل كما هي عادةً توقظه منذ أن عرفتُه وكان ينام عندنا في الشقة التي لنا في اليونيسكو . يظهر أنه شرب كثيراً قبل أن ينام وأخذه النوم قبل أن يأخذ حيطته من طول الليل، كثيراً ربما شرب وهو ينغّم أناشيد سليمان نشيداً نشيداً لولعه بها ولع الغريب بالغريب . والغريب أنه نام هو وأنهضني القلقُ ، وأنا الذي سقتُ السيارة من بيروت إلى حمّانا ومن حمّانا إلى بيروت نهار أمس ، وهو مرتاح في مقعده إلى جانبي يتأمل الطريق والسيارات والمنعطفات والتلال وقمم الجبال والوديان ويلتهمها بعينيه ، وتتمتم شفتاه بتمتمات الدهشة والتعجب والإفتنان ، هو الذي كأنه في نزهة وأنا خلف الدركسيون مشدود الأعصاب من الفوضى التي يسوق بها السائقون فعيناي على كَسْراتهم على سواهم عند المنعطفات الخطرة وعلى انحشار سياراتهم في أضيق مسافة بين أي سيارتين ، نعم أنا أقضي الليل أتمشى على البرانده وهو غارق في النوم كأنْ لا شيء يحدث في الجنوب . ينفتح باب الحمّام على مهله وتقترب الخطوات في الممر إلى باب غرفة الجلوس حيث أنا على الصوفا نصف ممدّد ، وحين يقف بالباب لحظةً ينظر إليّ ويحكّ بأطراف أصابعه طاسةَ رأسه وتلتقي عيونُنا في صمت ، أعرف أنّ نومه لم يكن مريحاً ، وأنّ ليلته لم تكن كما كنتُ أظن . أتحرّج من سؤاله عمّا إذا كان ركبه القلق على ابنته نينا بسبب العبور الإسرائيلي ولأنها تبقى في بيت جدتها لأمها خمسة أيام ومعه يومين من كل أسبوع ، أتحرّج وأتردد وأتركه يدخل خطوة خطوة وكأنما على غير هدى حتى يبلغ الصوفا المواجهة للصوفا التي عليها أنا . يبلع ريقه ويهزّ رأسه ويجلس وعلى أطراف شفتيه ابتسامة أسف ، لا على الليل الذي مضى، ولكن ربما على كل العمر الذي لن يعود . هكذا تدور الأفكار في رأسي وأنا أحاول أن أقرأ أفكاره في عينيه . لو كان ينام الرأسُ حين تنام العينُ، تقول لي شفتاه ولا تتمّان . فكيف إذن إذالم ينم لا الرأس ولا العين ، أقول مبتسماً لأدلّل على حالي، فينفتح فمه بالدهشة وبمتى كنتَ تقلق أنتَ وأنتَ وُلِدْتَ نائماً في الأساس ؟ أتبسم من جديد، فبرودة أعصابي ، كما يسمّونها متفكّهين ، هو والرفقة في الجامعة، هي ما يحسدني عليه جميعُهم ، فوحدي من بينهم لا تفرط أعصابي إذا غضبتُ ولا أصرخ وألوّح وأهوّل إذا استفزّني أحد . أقهرهم ببرودتي ، ومَنْ أُوتيَ برودتي فقد أُوتيَ حظّاً عظيماً . أعرف ذلك كما يعرفون وعلى ذلك لا نختلف . لا تحسد نفسك على برودتك ، فالحرب ستذيبها عمّا قريب، يقول بصوتٍ نصفه من فمه ونصفه من أنفه ، أو هكذا أحسب أنني سمعت . يظهر أنه يتلحلح بالكلام فأغلق فمي على ما كنتُ أودّ أن أقوله من باب المسايرة . ومع سقوط أوّل شعاعات الشمس على باب الغرفة يأخذ يروي لي حلماً رآه الليلة ، من جملة أحلام ، عن حرب كأنه شاهَدَ بعضَ خيوطها في صحفات العهد القديم ، أو في الأفلام الأميركية عن حروب ملوك وأنبياء ذلك العهد ، فالوجوه ساميّةُ الملامح ، على طرفيْ كل جبهات القتال ، وحتى صرخات الحرب لَكْنَتُها ساميّة ، بل حتى الخيول والجمال هديرُها كله ساميّ ساميّ، وفي المعارك حيوانات مجنّحة ، ترتفع وتنخفض بصورة عامودية وتدور على نفسها وتنطلق إلى الأمام كما إلى الوراء وترمي بحمم النار في كل اتجاه فتحرق الأخضر واليابس وتذيب الصلد وتطقطق من حرارتها قشرةُ الأرض ويتشقق الهواءُ بحمّاها ، والرعدُ القاصف من فوق الغيم ومن خلل الغيم ومن تحت الغيم ، الرعدُ الذي بَرْقُهُ لا نور فيه وإن من لونٍ له فلون الرماد ، الرعدُ الراعدُ رعداً لا نداوة فيه ولا لدونةَ وعدٍ ، يسقط مطراً ، أجوفَ أعجفَ ، مطراً مطراً مطرَ السَّوْء . ألحق بحلمه الذي يسميّه حلماً وأسمّيه شيئاً آخر وأسير على أطراف كلماته ، لا عليها ، لأن سامح منذ أيام المدرسة في صيدا ولغتُه ، كما أفكارُه ، كالزئبق ، لا تكاد تظن أنك احتويتَها حتى تنسرب من بين أصابعك انسراب الرمال الناعمة ، ألحق به ولكنني لا ألهث لأنني لا يعنيني اليوم تفسير أحلامه بقدر ما يعنيني أن أسمعه يتحدث ويطرد من هواء الغرفة الهواجسَ التي لحقت بي حينما دخلتُ من باب البراندة واحتالت عليّ حتى اطمأنتْ في مستراحاتها من الزوايا والحشايا حيث هناك لا تموت فيها ولا تحيا .
ويطول الحلم الذي يسميّه حلماً وأسميّه شيئاً آخر وتتعقد حبكتُه وتتشقق منها حبكاتٌ يطلع منها أبطال جدد وأعداء لهم جدد وتتبدّل أرضُ الجبهات فمن برّ إلى بحر إلى جبل إلى فضاء مسكون بلا شيء وتهزم أسلحةٌ أسلحةً ويتحوّل كل ما على الأرض وكل ما في الأرض إلى أدوات للقتل والدمار فحتى الأشجار تسقط أغصانها على العابرين فترديهم والشوكُ يتمدّد من سياجات الورد في البساتين فيغزّ حتى العظم المُنْحَنينَ عليها لقطف الورد وشمّه وتفسِّخُ الترابَ وقشرةَ الترابِ جذورُ النبت وتعربش على الجذوع والأغصان وتلتفّ حول رؤوس الزهر والبراعم والطرابين تمتصّ ماويّتها وتذويها في لمحة العين فتسقط قبل أن يعتريها الذبول ، فذهولٌ ذهولٌ كلّ ما في الحلم الذي ليس حلماً وليس كذلك ما كنتُ أسميّه ، فله اسم آخر ، ثالث ، في ذكراتي ، أستدرجه إلى رأس لساني بسواه من الكلمات فيطاوعني لحظة وتخونني أطرافُه فتنسلّ إلى حيث لا أمام ولا وراء ، إلى حيث أحسّها ، هي الكلمة الثالثة ، تنظر إليّ ولا أراها، فآه من الحالة الزئبقيّة التي نقلها إليّ بالعدوى حلمُه الذي بلغة الإنسلال والصُّوَرِ الملتفّة على بعضها أنفاقاً منها تعبر في أنفاق . ولكنْ ، ولا يُتِمُّ ، فحاجباه المرتفعان وشفتاه المنفرجتان وعيناه الغارقتان في لا مكان ، كلّ ذلك ينبئني بأنه كان نسي شيئاً وفجأة تذكّره فأنحني تجاهه بغير إرادة مني وكأنني أستعجله الكلام ، فتخرج ولكنْ من فمه ثانية وكأنما يردّدها لنفسه ، فأردّدها بعده لتسكتني رحابةُ الضوء الذي يشرق به وجهه وكأنما هو في حضرة رؤيا .رؤيا ! رؤيا! هي ذي ، هي ذي. طرف لساني يلتفّ على الكلمة التي كان عبثاً يستدرجها بغيرها من الكلمات . أقبض عليها وأرتاح.
أستاذ التاريخ الحديث يحذّرنا من خزعبلات التراث الذي تعشّش فينا أفكارُه عابرة إلينا وكأنها حقائق فتلهينا عن الحقيقة الأولى وهي أنّ التراث نفسه أفيون الشعوب . الدكتور مرزوق حربوق ، فعن قصدٍ حوّر عبارة ماركس وأسقط منها كلمة الدّين ليتحاشى التصادم مع طلاب الضاحية الذين يحصون عليه كلماته وأنفاسه ويرصدون اللحظة التي تتيح لهم مهاجمته ونعته باليساريّ اللقيط ، يكتبونها له على اللوح قبل وصوله إلى قاعة المحاضرات وعلى حيطان درج المبنى . وفي جوّ العبور الإسرائيلي وحالة الاستنفار النفسي التي سبقتْه في صفوف الشباب ، هو أذكى من أن يعطيهم فرصة لافتعال مشكلة معه. يحلم بتغيير العالم الدكتور مرزوق ، بعبوره من حال إلى حال ، فليحلمْ ، فسواءٌ غيّر يسارُه العالمَ أم لم يغيّره ليس الآن أهمّ من أن تلينَ باطنتي وأتبرّز ، أن يعبرَ مني شيء إلى هذا العالم ، حتى ولو كان شيئاً قليلاً، فهذا الإكتام المزمن يقتلني ، ورجلاي تعبتا من القرفصة فوق البالوعة وكأنما مكتوب عليّ أن أقرفص ساعات كل يوم أستجدي معدتي بالماء الفاتر والمليّنات ، أستجديها تنـزيل مقدار بيضة مسلوقة حتى ولو كان البراز متقطّعاً على شكل بعر الماعز . أقبل بأي شيء حتى يخفّ الزَّوَغانُ والضَّوَجانُ الذي في رأسي ، فالإكتام من تحت ينتهي بإكتام من فوق . جرّبتُ الدّبس مذوّباً بالماء الفاتر ، آخذه على الريق وأظلّ أَحْرُكُ في البيت وأقوم بحركات رياضية لمساعدة الدّبس على تليين باطنتي والضغط عليها لتنـزّل شيئاً وتريحني ، ولم ينفعني لا دبس ولا ماء فاتر . جرّبتُ الخيار بقشره على الريق والبطيخ في الصيف على الريق والزيت السخن على باب المخرج على الريق وقراءة كل الصحف وأنا مقرفص على الريق ، ولم يبق إلاّ الحقنة التي وصفها لي الفرمشاني ، وجسمي يزنزل حتى من مجرّد ذكرها . الإكتام ، مثل صفرة الوجه ، وراثة عائلية ، وكل أطباء بيروت صاروا يعرفوننا ويجرّبون فينا وبنا وصفات الطب العربي والأدوية الأوروبية الحديثة ويعجبون من صمود إكتامنا الذي أصبح ظاهرةً بحدّ ذاتها في العاصمة .
أغسل وجهي من بقايا الصابون وأنشّفه وأعلّق المنشفة على منشرها . أبرم يد ماكينة الحلاقة وأبرم حتى تسقط الشفرة في جرن المغسلة . أغسلها من بقايا الشعر وأنفضها من الماء وأضعها على مصطبة المرآة . أغسل الماكينة كذلك وأنفضها وأسطّحها قرب الشفرة . الجرن والفرشاة أنظّفهما ويعود كل شيء إلى مكانه . المرآة تعطيني وجهاً نظيفاً ناعماً ولكن كالعادة أصفر . صوت أبي يستعجلني لأنّ بيت الخلاء ليس لي وحدي . أنزل بعينيّ إلى تحت ، فإذا البعرةُ اليتيمة الناشفة التي بحجم حبّة الحمّص الناشف لا تزال في وسط المرحاض . حتى هي ترفض العبور إلى البالوعة . أتذكّر مثلاً من الأمثال اللبنانية عن مرقد العنـزة بلبنان ، وأفتح الباب .
كان الحقّ مع عبد الناصر ، فما أُخِذَ بالقوة لا يُستردّ إلاّ بالقوة ، والمسلمون الذين استقووا علينا بالفلسطينيين فانتزعوا منّا سلطتنا على البلاد وخسروا هم سلطتهم على بيوتهم وممتلكاتهم وحتى أرواحهم يقفون منذ الأمس كالمتفرجين على عبور الدبابات الإسرائيلية وشاحنات الجند والمدافع ، وكأنْ لا علاقة لهم بما يجري في الجنوب ، والجنوبيون يتفرجون وكأنّ الصمت لغة التفاهم الحقيقي بين العابرين والمقيمين على أنّ اقتلاع السلاح الفلسطيني من قرى الجنوب وبلداته ومدنه أمر متّفق عليه ، كما هو متّفق عليه من غير كلام أنّ العابرين هم أداة الردع عن أنفسهم والتحرير لسواهم . ولكن ما لم يُتّفق عليه هو أنّ الذي لا يحرّر أرضه بيده ، تماماً كالذي لا يزرعها بيده ، لن يستحق السيادة على الأرض ولا الإرتزاق من خيراتها ، وأنّه سيكون بمثابة الظلّ ، خيالاً تحكمه إرادةُ الأشباح، والأشباح حليفنا منذ انشققنا عن السرايا اللبنانية وكوّنّا قوات التحرير كنواةٍ عسكرية للجيش الذي سيحل محلّ جيش الدولة المنحلّ أصلاً بتمزقاته وانشقاقاته . غداً غداً نقف مع حليفنا الندّ للندّ ونعلن ولادة لبنان الجديد ونستردّ بالقوة ما أُخِذَ منّا بالقوة .
زمّور ميشيل يزعق في أذنيَّ من جديد فأعرف أنه لفّ بدراجته على آخر الطلعة ونزل بالسرعة التي تفاجئ المساكين عابري السبيل ، فأنسحب إلى غرفتي حتى لا تقع عيني في عين أحد من سكان الطوابق العليا من بنايات الحيّ . باب البيت يُفتح ويُغلق . أتسمّع إلى وقع الخطوات تقترب شيئاً فشيئاً حتى يمتلئ باب غرفتي بقامة أخي إدجار . عيناه تفيضان على وجهه بشيء من السرّ الذي أعاده باكراً من مركز التدريب العسكري ، ولولا أنه يفتح فمه لكنتُ عاجلتُه بالسؤال . يسكتني ويسكته خرقُ جدار الصوت . إنتبهي لميشيل في غيابي ، فالأوامر صدرت بانتقال مركز التدريب إلى مكان نجهله في الجبال . وإذ أفتح فمي لأعترض على هذا وذاك ، يعاجلني بالخبر الذي كنتُ سمعتُه مرة من فم بْليرْ أنّ الجيش الإسرائيلي ، إذا أعطته أميركا الضوءَ الأخضر للعبور إلى الجنوب ، فلن يرضى بأقلّ من إتمام الزحف إلى بيروت لتطهير جزئها الغربيّ من سلاح المخيمات الفلسطينية فيها . لو ظلّ الضبابُ الأصفرُ أصفرَ ولم يتساقط عليه فيسوّده شحبارُ المداخن في لندن آنذاك ، لكنتُ آنذاك رأيت ما رأه بْليرْ بعينيّ وقلبي . أتلفّتُ في ذعر المبغوتة إلى براندة أمي ، عبر زجاج الباب ، وقد تهيّأ لي أنّ شيئاً كصوت البكاء طلع علينا من أصص البونْسْيَاتْ الصفراء ثم ضاع منّا في تلافيف الهواء. أشمّ صداه في سرّي فتتمدّد به رئتاي .
على صوت داوود كانت تُأَوِّبُ الجبالُ مزاميرَ داوود ، فما الذي يأوّب اليوم مع هدير دبابة الميركافا ، تعبر بنا خطّ الهدنة الذي لا وجود له إلاّ في رؤوسهم وفي كتب التاريخ التي لم نزل نعدّل في سطور صفحاتها ومفردات عباراتها ما تشاؤه إرادةُ الجيلِ بعد الجيل من سلالة داوود الذي ورّثني اسمه ولم يورّثني صوته لتأوّب معي جبالُ لبنان وتلاله ووديانه ، شاهقةً هنالك فوق رؤوسنا ، ومشرئبّةً هناك أمام عيوننا ، وسحيقةً ههنا تحت أقدامنا ، تأوّب معي من مزاميره فالهديرُ الهديرُ هو الصوت الذي تمخر به دبابتي عزَّ الظهيرة فينداح تحت جنازيرها الترابُ رقاقاتٍ بها يُوَرَّخُ لنا ، كما لهمُ ، الزمنُ الآتي .
يفتح لي باب سيارته وينتظرني حتى يطمئنّ بي مجلسي فيغلقه ويدور حول السيارة من وراءَ وراءَ فيتخذ مكانه خلف الدركسيون بكل أناة ويمدّ إليَّ عينيه بنظرة استفهام عن الوجهة التي أريده أن يتوجه إليها والتي كنتُ أوحيتُ إليه على التلفون بأنني سأحتفظ بها لنفسي حتى يصل إلى بيتنا في عبرا . شيء في داخلي يلحّ عليّ أن أحتفظ لنفسي بنواياي لأجعله يوصلني إلى حيث أدري دون أن يدري هو أنه أوصلني ، حتى نصل هناك ، فالمحامي فيه قد يهاله ما أنا مقدمة عليه فيجرّني إلى حوار معه ويُدخلني في متاهات الأخذ والردّ ليصرف نـيّتي عمّا أنا أضمرتْ نـيّتي ويحتاط بوسائله التي لا قِبَلَ لي بها لقطع الطريق عليّ فلا ألتقي بالذي لا بدّ لي من لقائه اليوم ، اليوم بالذات ، بعد أن أصرّ إبني إسحاق على اصطحاب أخيه يونس إلى مركز من مراكز التعبئة العسكرية التي أقامها حزب السرايا في قرى شرقي صيدا ليكون كل شبابنا طوع إشارة ٍمن قيادة الحزب حينما تطوّق القوات الإسرائيلية مخيم عين الحلوة وتنهي تواصله العسكري مع صيدا . أفتح فمي لأحلّفه بقرابته للمرحوم زوجي ألاّ يحرجني بالسؤال عن سبب رغبتي بالنـزول إلى ساحة النجمة ثم أترك المرحوم في مثواه ، فتنطلق بنا السيارة نزولاً نزولاً فتلفّ بنا لفّة كوع الخروّبة وتعبر قبر جنبلاط والمستشفى النسائي ثم كنيسة القناية ثم تكرّ بنا في اتجاه الساحة ، وهو يلعب لعبة الصمت ، ربما لأتعب أنا من الصمت فأبوح له بسرّي ، أو ليكسب بسكوته ثقتي فأُقبل عليه بحديثي ومنه يستدرجني إلى معرفة وجهتي الحقيقية من هذا المشوار الذي لم يخطر له على بال وما كان ليخطر لي أنا على بال لولا خوفي على ولديّ من السير في طريق الحزب التي لم تكن يوماً طريقنا والتي كان يقول عنها عازر إنها أسوأ طرق المسيحيين للوصول إلى حكم لبنان . في ساحة النجمة تقول له ابتسامتي أن يتجه بنا شمالاً فلا يتمالك نفسه عن القول بأنه يفضّل ألاّ نكمل المشوار إذا كان قلبي يحدثني بزيارة البيت الذي هجرتُه إلى عبرا منذ وفاة زوجي ، فحواجز الميليشيات والأحزاب الصيداوية في تزايد منذ بدء العبور الإسرائيلي أمس إلى قلب الجنوب . أبدّد ظنونه بابتسامة أخرى ، وبإشارة من يدي تنعطف بنا السيارة في اتجاه حيّ القملة فنجوزه ثم حيّ الشمعون فالبنايات التي تشكّل أوّل المنطقة السكنية على طرفيْ شارع رياض الصلح .
البساتينُ الممتدة أمامنا على يمين الشارع والشاطئُ المنسرح على يساره غربةٌ جديده لي تتغلغل في حناياي ، خوفٌ من الآتي الذي لا نراه ، ينضاف إلى المخاوف التي عايشناها وعاشرناها حتى أصبحت جيرةً للقلوب التي لا أدري كيف أفرغتْها الأيام من أنسام جيرة الورد المعبّقة بطرابين أم يحيى وبرائحة الخبز تهجم علينا بالفجر من فرنها الطيني تحت شجرات السرو الممتدة شجرة شجرة حتى حدود بستاننا المجاور لبستانهم ، بل الملاصق له ، فترابُه وترابُه شيءٌ واحد والماءُ الذي به يُرَوَّيان يجري إليهما من ذات النبع الذي تُروّى به بساتين الجيرة كلها . الغربة التي تكتنفني اليوم شيء آخر ، لها مذاق غير المذاقات التي تعوّدتُ عليها ، ولا يكاد الصدر يحتويها كما كان يحتوي سابقاتها ، فكأن أشجار البساتين غابةٌ مسكونةٌ بأطياف من الناس غريبة عن الناس وكأنّ الموج المرميّ على الشاطئ أصداءٌ لبحرٍ بلا موجٍ ، بلا صوتٍ إلاّ صوت الفراغ ، بل حتى حتى صداه .
الجيبّات المتوقّفة على مفترقات الطرق المتفرعة من شارع رياض الصلح إلى داخل البساتين والمسلحون الشباب ، جالسين وواقفين ومتمشّين ، آكلين أو شاربين أو مدخّنين ، بذقونٍ وبغير ذقون ، المشهد كله غير ما استأنستْ به عيناي طوال العمر الذي قضيتُه مع عازر في بيتنا فوق معمل الثلج ، كلّ أحدٍ منه يقلّني شوفيره الخاص إلى كنيستنا في صيدا وينتظرني عند مدخلها حتى نهاية القداس ليعود بي إلى البيت آخذاً الشارع نفسه على أقلّ من مهله فمشواري أقرب إلى النـزهة منه إلى أي شيء آخر. القداس ومشوار العودة كل أحد كانا ، أيام عازر ، بحلاوة البسكوت براحة التي كان يخبّئها لي جدّي في كيس الورق الصغير ويناولني إياه لحظة وصولي إلى البيت وكأنما ليشجعني على المواظبة على حضور القداس كل أحد . المشهد الذي كان ليفاعتي وشبابي بمثابة الأنس برحابة الحياة بدّلتْه الأيام فأفرغتْه حتى من لهفة نسمات البحر ، حتى من عبق البساتين .
جوزيف لم يعد يطيق الإنتظار على ما يبدو ، فالسيارة تخفّ سرعتها شيئاً فشيئاً حتى تتوقف بنا تماماً ونحن على مرمى النظر من البناية التي كانت أوّل طلعتي تُعرف بالكازانوفا واشتهرت كبديل لكباريهات بيروت وملاهيها ، يرتادها في الليل من الصيداويين ومن أهل القرى في شرقيّ صيدا الميسورون ، للمؤاكلة والمنادمة والمراقصة وتطريب العين والأذن على مشهيّات الجَلَبِ الغريب ، يُسْتَعَرْنَ من ملاهي بيروت ليلة بعد ليلة ، فتتزاحم الأقدام على الرزق الحرام وتتطاول الأيدي على الأيدي وتتشابك الألسن بالألسن وتطير إلى بيوت الناس أحاديثُ الشّبهات فتُخرب بيوت وتنهار صداقات ، ومن ذلك كله سلمتْ بيوتُ جيرتنا على ضفّتيْ النهر ، فعازر وجهّار كانا السياج العصيّ على شبابنا ورجالنا فلا تَهَاوُنَ بسمعة الجيرة على مرأى من الدنيا ومسمع ، وما كان جائزاً من اللهو بالجلب الغريب فكان من مُسْـتَتَرَاتِ العيش ، ولم يكن أحرص على مستترات العيش من عازر وجهّار ، وكان ذلك يرضيني منهما على ما بهما من شغفٍ ِبمُتَعِ الدنيا . ثم أغلقت الكازانوفا لأسباب كثر الخوض فيها وتشعّب وصارت على مرّ الأيام حكاية في أفواه الذين ارتادوها ، أو مرّوا بها وتوقفوا حولها يتسمعون إلى الصوت والنغم ويتسقّطون الخبر بعد الخبر ، أو حتى الذين تناهت إليهم على البعد شهرتُها ، كلّ ذلك في بيئةٍ كلُّ شهرةٍ فيها فضيحة .
جوزيف ، وراء الدركسيون ، يتخلّى عن لعبة الصمت ويسألني بصوت مكتوم النبرة إن كان أصبح من الجائز البوح بسرّ وجهتي من هذا المشوار ، فالمسلحون عيونهم على السيارات العابرة والمتوقفة، والطيران الإسرائيلي يتزايد تحليقه فوق المدينة وحواليها ، وخرقُ جدار الصوت يتكرر بإصرار أكبر ، ولم يبق لنا من شارع رياض الصلح إلاّ أن نجوز مطعم الجُمَري ونصبح على جسر الأوّلي . أقول له أن يثق بمعرفتي بما أريد وأتمنى عليه أن يتابع المسير حتى نزلة أوتيل طانيوس فيلفّ من هناك ويعود بنا أدراجنا تجاه المدينة . دهشته الآن ملء عينيه ، بل ملء وجهه ، وفمه المفتوح ينغلق فجأة فأحسب أنه لو لم يكن بيننا فارق العمر الذي بيننا ولم يكن لذكرى عازر في نفسه ما لها من المحبة والهيبة لكان طاش به حلمه وفتح لي باب السيارة وطلب مني النـزول منها إلى غير رجعة ، فهو ليس بشوفير لي وكتماني سرّ وجهتي عنه إهانة له كقريب وكرجل . ولكنّ المحامي فيه يتابع بنا المسير فنمرّ بمطعم الجمري ونصل إلى شجرة الجمّيز العتيقة عتق مختارها حيث بعد هنيهات ستلفّ بنا السيارة كما كنتُ تمنيتُ عليه . توقّفْ ، بحق العذراء توقّفْ ، فلقد تذكرتُ شيئاً . تنعطف بنا السيارة إلى يمين الطريق وتتوقف. الدهشة الآن في عينيه غضب ملجوم . يجب ألاّ تخذلني اللحظة . عشت مع عازر الديّار ما عشته من حلو الحياة ومرّها ، أداري من أمزجته وأهوائه ما أداري ، وهو الصعب اللّيّن لمن استصعبه واللّيّن الصعب لمن اسْتَلانَهُ ، عشتُ معه كل ذلك العمر وما خذلتني لحظةٌ وضعتُ فيها إرادتي ، أفيعجزني الآن الغضبُ الملجوم في عينيه ، هذا الجالس وراء الدركسيون ، وقد قطعتُ وإياه نحو وجهتي ما قطعنا من مسافة الطرقات ؟ لو لم تكن موضع ثقتي لما كنتُ طلبتُ منك أنت بالذات ، دون أولادي وأقاربي ، أن تأتي بي إلى جهّار ، فلي معه حديث مؤجّل منذ سنين ، أريدك أن تكون بجانبي لتسمعه وتشارك فيه ، أقول له باللجهة التي كان يحبها مني عازر ويقول لي ضاحكاً إنني لو كنتُ محامية ورافعتُ في المحاكم بهذه اللهجة لما كان عارضني قاضٍ وكنتُ ربحتُ لموكلييّ قضاياهم بلا استثناء . يتنفس الصعداء وترتاح صفحة جبينه فيرتدّ إليها صفاؤها وتستحيل الدهشة والغضب الملجوم إلى ابتسامة رحبة تتسع لكلّ ما حكيناه وما سكتنا عنه . ثم يهزّ رأسه بالقبول ويدير مفتاح السيارة فترتجّ بنا ارتجاجة خفيّة على صوته الأشبه بالخفيّ يعتذر لي عن تذكّره آية من قرآن المسلمين ، ولا يقرأ عليّ الآية التي تنهض من ذاكرتي إلى شفتيّ فأتمتمها لنفسي أنْ حقاً حقاً إنّ كيدهن عظيم . رأسه الآن ملتفّ إلى الوراء ليرى الطريق عبر الزجاج الخلفي للسيارة التي تتراجع بنا شيئاً فشيئاًَ وتنعطف إلى الطريق التي بمحاذاة الساقية وتتوقف تحت شجرات الكينا اللواتي من عمر مطعم جهّار . لا داعي الآن ليفتح لي جوزيف باب السيارة فلقد سبقه إليه عديّ بخفّة هرّ وفتحه بالإبتسامة المرحّبة ، ووراءه ابتسامة كسّاب وكأنما يزنها بين شفتين تحيّرتا بين الفتح والإغلاق.
بالقميص الأبيض ال 5500 والبنطلون الكَبَرْدينْ تطلّ عليّ من باب الصالون العريض قامةُ جهّار ، هذا الذي لا يزيده العمرُ إلاّ صلابةَ كتفين واتّزاناً في خطوات القدمين ، وتعبر إليَّ الهواءَ الذي يمتلئ بها ولا يحوطها ، فيستيقظ في أعماقي صوتُ عازر لأنطون الخوري ذات مساء وقد أخذهما الشراب والحديث إلى طبائع جهّار وطينة جهّار من بين الرجال ، يستيقظ فيَّ صوتُه أنْ ضيعانَكْ تكونْ مسلمْ يا جهّارْ ، فأمدّ بيدي لتلاقي يده في الهواء فيشدّ عليها ويرخي ويشدّ ويرخي مجدّداً ثم مجدّداً ترحيبه بي ، ترحيب الطلاوة التي لا يشوبها إلاّ دهشةُ الفجاءة في عينيه وإلاّ اخضلالٌ يحيل الدهشة إلى بركتين تطفو على سطحهما ذكرى عازر ، وإلاّ فما معنى كل الذي أراه وما معنى نسيانه ليدي في يده؟ وصول جوزيف إلى حيث نحن من القاعة يأخذ يد جهّار للمصافحة ثم تمتدّ رحابةُ اليد المرحبّة بنا صوب الطاولة التي في زاوية الصالون فنتّخذ مجلسنا حولها ونتبادل ، ثلاثتنا ، النظرات ، تحت نظرات عديّ وكسّاب وحنقير ومنصور الذي يضيء وجهُه بحضوري فكأنما يرى فيَّ طيفاً من طيوف عازر ، يستأنس به بعد غيابه عنّا جميعاً منذ سبع سنوات ، تاركاً لمرجعيّة أهل ملّتنا ، من بستان البلح إلى شرقيّ النهر فغربيّ بساتينه فالقرى المنشورة على التلال شرقيَّ صيدا ، تاركاً لهم صدىً لصوته الذي علّمهم أنّ الجيرة ملّة الخلاص وأنّ الكبير في الجيرة كبير للجميع . أبتسم لمنصور في سرّي ، أعزّيه في سرّي ، ثم تتسع ابتسامتي في وجه جهّار.اللحظةُ لحظتي ، ولن تخذلني الآن ، فلقد قطعتُ مسافة نصف الطريق إلى خلاص ولديّ . تأخذ تتهيّأ الكلماتُ في فمي فيأخذ بعضها مكان بعض وتتزاحم على أطراف شفتيّ أيـُّها تفاتحه بالرجاء أن يضع ثقله في إلزام جوزيف الديّار بإبعاد ولديْ عازر الديّار ، إسحاق ويونس، ولديّ ، عن طريق حزب السرايا كرامةً للذكرى التي نحملها ثلاثتنا ، ثلاثتنا الآن حول الطاولة ، للرجل الذي كلماتُه صداه وصداه السياج لنا جميعاً يحمينا من أنفسنا في هذا الزمن الذي أفلت منّا كما تفلتُ حبّاتُ الرمل الناعم من بين أصابع الأولاد الذين لا أزال أتخيّلهم يلعبون على طول هذا الشاطئ منذ أن كان للموج شاطئٌ ومنذ أن كان للشاطئ رمال . أرخي إلى الطاولة عينيّ وأفتح فمي وأقول .
الفصل الثاني
من وراء الجزيرة في عمق البحر أصواتُ البُمّْ بُمّْ الغميقةُ المفخّمةُ ترسل فوق المدينة الحممَ الطائرة التي ها هي تعبر فوق الجامع عبور النُذُرِ وينوص مع اجتياحها مسافةَ الفضاء الصوتُ المنذِرُ بعبورها لتخترق حائطاً لبيتٍ في طابقٍ من بنايةٍ على شارعٍ من شوارع المدينة المنتشرة في ساحاتها مدافعُ المضادّ ورشاشاتُ ال500 مركَّزةً على الجيبّات المتخفّية ، مثل مدافع المضادّ ، بالشّباك وبأغصان الشجر المموِّه والمضلِّل ، تعبر من فوقنا فنظل ننتظر ونبتلع اللحظات حتى تسقط مع آخر نَفَسٍ لها وتدوّي دوّياً غميقاً عميقاً ، وهو على عتبة بوابة الجامع واقف في سكون المنتظِرِ لشيءٍ أن يحدث ، شيءٍ يعطيه المبرّر للحركة فيتحرك عابراً عتبة البوابة نحونا ، طالما نحونا متّجهٌ وجهُه كلّه وقامتُه كلّها. أكبر الأربعة يتنحنح نحنحة خفيضة وكأنما ليلفت نظرنا إليه فنعلّق عيوننا بعينيه فيميل برأسه قليلاً إلى حيث الواقف ببوّابة الجامع لا يزال واقفاً ، ثم ينحني علينا بوجهه وهَمْسِهِ أنني أعرفه ، فنفهم من نغمة الهمس دلالةَ الحذر ، فنردد بعضَ عيوننا في بعض ونلتفّ بعباءة الإنتظار لما قد يحدث من حركة أو صوت من تلقاء البوابة التي لا تهتزّ بدويّ انفجارٍ ولا أظنّها تبالي بهواجسنا ، مهموسةً أو مكنونةً أو مستسرَّةً إلى حين ، وهو على حاله ، لابساً وقفتَه التي لا نميّز لها لوناً ، وإن يكن من السهل على عيوننا قياس طوله الفارع وكتفيه الضخمتين . ملامح وجهه من غبش الليل ، تزوغ بها عيوننا لأننا لا ننظر إليها بعينيْ أكبر الأربعة ، وأنّى ثم أنّى لنا أن ننظر إليها بغير عيوننا التي سرعان ما تغيض بنا حدقةً فحدقةً لتسلّمنا إلى قلوبنا التي هي أعينُ أرواحنا ، بها نرى الذي لا يُرى وبها نفقه المغـيَّبَ والمُعَمىّ ، فنفقه من ملامح وجهه التي من غبش الليل خَدَرَ القلب المغـيَّبِ في ضلوعه ، مجبولاً بخدر صفحات التوراة التي طلعت منها علينا ملامحُ مناحيم بـيغن وأرئيل شارون ، مخدّرةً كلها بخدر القنابل العنقودية، ولا من عنبٍ ، والفوسفورية ، ولامن نورٍ ، والإنشطارية ، ولا من بركةٍ، والفراغيّة الفارغة من كل شيء ، اللهم إلاّ من خَدْرَةِ العدم . وكلّ ذا كلّه في الليل الذي بَرَأْتَهُ أنت يا بارئ الليل والنهار، لنا مباتاً فمباتاً فمباتاً .ألا إنّ ناشئة الليل هي أشدّ وطئاً وأقوم قيلاً ، ألا إنّ ليلك ألقى علينا قولاً ثقيلاً .
أطيل انحناءة الركوع هذه المرة وأقطع نَفََسي على الآخر ، فحشرجةٌ من حلقوم أبو طاهر تتبعها حشرجتان من حلقوميْ أحمد المرسي وسليم الحبّال ، كلّها توسوس لي أن حواراً بين الجمع الذي خلفي يدور خفيضاً خفيضاً وأنه وصل بهم ربما إلى قرار فهم يتداولونه بالحشرجات التي أسمعها والإيماءات التي لا أراها وحركات الأكفّ التي تتحسّس جوانب الحصيرة وتشدّ عليها كلما حميَ الحوار، فأحسّ بأنّ شيئاً يحدث الآن خلفي أو أنهم يحضّرون لحدوثه بعد قليل ، فأرفع صوتي قليلاً بالله أكبر وأنا أنهض من انحناءة الركوع ثم أرفعه ثانية بالله أكبر وأنا أهبط للسجود ، عن عمد أرفعه ليظلّوا يحسبون أنني لا أزال مؤدّياً للصلاة ما داموا يشهدون مني وقوفاً وركوعاً وسجوداً أو تسليماً . حركةَ قيامٍ فوقوفٍ يسجّلها كلُّ كياني فتنضغط جوارحي كلها ، يتناهى بعضها في بعض ، فأتكوّر على نفسي وأتحوّل كلّي إلى أذنيْن ، بل إلى أذن واحدة ، إلى شَراّقةِ ذبذباتٍ ، تَشْرُقُ الذبذبات وكأنما بكاتم للصوت ، وأحلّل الشيفرة وأترجمها إلى كلمات والكلمات إلى معان أرتّبها وأعيد ترتيبها حتى تنكشف لي عن نواياهم والنوايا عن خططٍ والخططُ عن مسيرةٍ فلقاءاتٍ في حنايا الأزقة فأبوابٍ عتيقة تنفتح عن مخازن للأسلحة فازدحام الأيدي عليها ثم التفرّق عنها في مهامّ على عدد الزواريب والأزقة بمداخلها ومخارجها . طقشاتُ القُبَلِ الآن لها رائحة البساتين وقت الفجر ، فكيف ومنذ متى صار للقبل رائحة كرائحة البساتين وقت الفجر ، أكوّر السؤالَ في فمي وأبتلعه حتى لا أسمعه ثانية وحتى أركّز على معنى الرائحة التي حلّتْ محل الطقشات ، فتتحرك أقدامٌ على الحصيرة وتنأى بأصحابها عنيّ وعن الجمع الذي خلفي وتهبط قاماتٌ لتستقرّ مؤخّراتُها في مجالسها ، فأنهض من سجدتي الطويلة وأستقيم في وقفتي وأرفع صوتي قليلاً ببسم الله الرحمن الرحيم ثم أغلق فمي على الصمت ، فأنا ، فيما يحسبون ، لا أزال في صلاةٍ ما داموا يشهدون مني حركات الصلاة وما دام صوتي يذكّرهم بين الفينة والفينة بأنني مستغرَقٌ ومستنـزَفٌ في رحلة الكلمات .
ترتفع قدمه اليسرى عن عتبة بوابة الجامع وتنحطّ وتتبعها اليمنى في توجّهه إلى زاوية الساحة حيث ينحني ويخلع حذاءه ويستقيم في وقفته ثم يمشي على حُصُرِ القشّ وكأنما نحونا ، يقصدنا عامداً متعمداً عن إصرار وتصميم لعلهما جزء من خطّةٍ اخْتطّها لنفسه قبل مجيئه ، فَرَسَيَانُهُ بعتبة بوابة الجامع حتى ابتعدتْ أصواتُ الإنفجارات وخفّ هديرُ الطائرات ، لا يتلفّت يمنةً أو يسرةً ، غارقاً في نفسه ، حَرَّكَ الهواجسَ في قلبي ، الهواجسَ التي وُلِدَتْ ليلةَ تنبّهتُ إلى رؤيتي وجهه في نفس النهار مرّتين ، في شارعيْن مختلفيْن ، في حيّيْن متباعديْن من أحياء المدينة ، مرّتين ثالثتُهما ليلةُ عين النهار التي استفاقت فيها عيناي على ملامح وجهه في انحناءة الركوع وهبطة السجود وجمّد فيها عينيّ عليه استفاقةُ قلبي على نيّة الربط بين تلك المصادفات التي ربما فيها من غير الصّدْفة الشيءُ الكثير . من ليلتها لم يعرف النومَ قلبي ولا هو عرف السكينة والطمأنينة ، فبينه وبينهما قطيعةٌ ومشقّةٌ واستحالةُ تَعَابُرٍ أو عبورٍ ، وهو الآن ، من لحظات ، عَبَرَ عتبةَ بوابة الجامع بقدمه اليسرى أوّلاً ، على غير عادتنا في التيمّن في كل ما نأتي به من فعل وقول وحركة ، فلعل تلك إشارة من إشارات الماسونية أو غيرها من الجمعيات السرّية التي تستدرج منّا مَنْ تقدر على استدراجه لتدخل به علينا دخول المتخفّي بثيابِ غيره فتعرف عنّا ما همُّها أن تعرفه عنّا وتنفّذ به فينا نواياها التي إن نصرتْ أحداً تكنْ نصرتِ الحركةَ الصهيونية التي تنسلّ إلى كل الحركات السرّية على وجه الأرض فتنفخ رياحَها في أشرعة الدنيا لتُميل قواربهَا تلقاء شواطئها هي وشواطئ حلمها بكيانٍ سليمانيٍّ ليهود العالم المشتَّت بهم لِتَشتّتهم فيه ، إشارةٌ لعلها ، يفهمها كلُّ من مشى ممشاه وسبق بيسراه يمناه .
ثم ينعطف فجأة في مشيته ويبتعد عنّا مسافة أمتار ، معطياً إيّانا ظهره على عمد ، حتى إذا ما استقبل القِبْلةَ وقف يقيم الصلاة على ما يبدو ، على ما يبدو لأنّ قلبي جفاه اليقينُ القديم ، يقينُ السكينة والطمأنينة أنّ عيشي في جيرة الناس الذين من ملّة واحدة هو عيش المهجة الواحدة، فإذا هم ، بإندلاع الحرب الأهلية ، جيرةُ شقاقٍ ونزاعٍ وأطماعٍ وبيعٍ وشراءٍ لمتع الدنيا الكثيرة ِفي عيون أهلها القليلةِ في عين الذي بَرَأَ المُتَعَ وجهّز لها الحواسَّ وأغرى بها وفتن ثم أغرانا وفتننا بما فضّل لنا عليها من مُتَعِ الجنّاتِ تجري من تحتها الأنهارُ والحورِ العين ينتظرننا بنوايا الحُسْنِ ، يسبيننا به وبكل داعجٍ من أسرارهنّ ، وخَيَّرَنَا بين ملكه وملكوته ، وكلاهما طوع أمره ، وأخذ العهدَ منّا قديماً من ظهر آدم أنه اشترى منا نحن المؤمنين أنفسنا فنقاتل في سبيله فنَقتل ونُقتل ، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن أن تكون لنا الجنّة ، فنحن فيها ثلّةٌ من المستأخرين الطامعين برحمة منه ورضوان يحوّط بهما مُتَعَنا التي لها برأ حواسّنا ، فَطَمَّعَنا بمدارج لذّاتٍ لعالميْن لا يلتقيان ، قسمهما مكاناً وجمعهما في أشواقنا وأتواقنا فقلوبُنا هي المتنازَغُ عليها في تنازعها هي بين الشمّ واللمس والذوق والسمع والنظر، خمستِها، خمستِها المدغدِغاتِ ، وبين الهيمان في رضوانٍ لعلّه الروح صِرْفَةً ، صِرْفَةً ، قلبي جفاه اليقينُ، جفاه جفاه اليقينُ القديم ، وحَقَّ له أن يجفوه ، فها صاحب الكتفين العظيمتين لا يفتأ ينحني بهما في ركوع ويهبط بهما في سجود ، في إصرارٍ لا رقّة فيه ولا لين ، القلبُ غائبٌ عنه ، فالصلاةُ صلاةُ الحركاتِ ، والبسملاتُ التي يرفع بها الصوت َوالتكبيراتُ قبلها أو بعدها كلُّ ذا ينبذه قلبي من أذنيّ وعينيّ ، فمكرٌ كله باطلٌ ، ولا ينطلي على قلبِ المؤمن مكرُ منافقٍ يتّخذ من المسجد مرصداً ، فضِرارٌ ركوعُه وسجودُه في ضِرار .
أوميء إلى الذين تدحرجت إليهم أشواقي وهم يعبرون إليّ عتبة البوابة فتنحني رؤوسُهم حتى تكاد تلامس رأسي فأوزّع عليهم همساتي ، نُتفاً نُتفاً من الخطّة التي رسمتُها لهم منتصف الليلة التي استهدف فيها الطيرانُ المدينةَ بخطف الصوت والهواء والنَّفَس والقلب ، بالرِّعدةِ والرّعد اللذيْن يبشّران، كلما بشّرا ، بمطرِ بمطرِ بمطرِ السَّوْء .
أكُفُّنا ، كما رؤوسنا فوقها ، تتجمّع في قلب الدائرة التي نستديرها ، عشبةً فوق عشبة ، فوحةَ رمّانةٍ فوق فوحة ، قبضةَ عجوةٍ فوق قبضة ، فتنبثق من الليل شجراتُ النخيل وتعرّش عليها العرائشُ وتظلّلنا شجرةٌ مخضلّةُ الأوراق فتحشرج الفرحةُ في حلوقنا وقد حشرجت بها صدورُنا ، وتنهض بنا قاماتُنا فننهض بها وتأخذنا في وداعِ اثنين منّا قُبَلٌ كأنها قُبَلُ الرحيل .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ثم أتنبّه إلى أنني تَلفَّتُّ إلى كتفي اليسرى أوّلاً ، وبعدها إلى كتفي اليمنى ، فعسى ألا يكون أحد منهم رآني أرتكب العجيبة الكبرى بحقّ الملائكة وعسى ألاّ يكون تنبّه الملائكةُ فسجّلوا عليّ الشمال يميناً واليمين شمالاً وضيّعوا ، هُنَّ ، مثلما ضيّعتُ أنا لتيقّظِ الوعي عندنا جميعاً تيقّظَ الحدّة التي ربما لا يتحمّلها الوعيُ نفسه ، ثم يفرط مني التركيزُ على حركات الصلاة فأهمّ بالنهوض ولا أنهض وأهمّ بالميل برأسي لأرى ما يفعل الأبو طاهر هذا ومن بقي من الشباب خلفي ولكن لا يقوى على الميل رأسي، فأبقى في جلستي مُرْبَكاً قد توقّف عقلي عن التفكير وتجمّد فيه شيء لا أعرف كيف أحلحله . حشرجةٌ من حلقوم الأبو طاهر هذا تتبعها حشرجة من حلقوم عادل الديماسي ثم حشرجة من حلقوم نزيه القبرصلي تزحزِح الثّقلَ الذي ناء به دماغي هنيهةً لا أحسبني أدري مداها ، ثم ينفتح عليَّ أن أرفع كفّيّ على هيئة الدعاء فيرتفع صوتي معهما باللهم باركْ لنا ، ثم ينخفض إلى حالة الهمس والوسوسة . عادل ونزيه معه لايزالان ، وإذن فأحمد المرسي وسليم الحبّال اللذان ذهبا ، وذهبا إلى أين لا أدري ، ولماذا هما من أصل الأربعة المتجايلين سؤالٌ يزيد من حيرتي ويحسّسني بأنّ الأبو طاهر هذا يلعب لعبة لم أكتشف أحجارها ولا نَرْدَها بعد ، وتتوتّر أعصابي وينخضّ بدني إذ يلعب الفأر بعبّي أنّ كيده بدأ يتغلّب على كيدي وأنّ سيارة الجيبّْ التي بعد يوم أو يومين أو ثلاثة على أبعد تقدير ستدور بي في شوارع المدينة لتقول للناس جميعاً مَنْ أنا بعد الحياة النَّكِرَةِ التي أجبروني على عيشها سنوات لن أسامح أحداً على هدرها من عمري ، أنا الذي على بسطةٍ من الجسم تفوق كل أجسامهم ، إذ تكفي منيّ كتفاي العفيّتان العريضتان اللتان يشبّههما البعض بكتفيْ الريّس أيام شبابه ، تكفيان لتجعلا مني ريّساً على الجربوع واليربوع والبربوع من صعاليك الأزقة والزواريب الذين ترعرعوا في عزّ الحرب الأهلية ونَبَتَ عليهم الشحمُ الذي هو أقرب إلى الورم منه إلى العضل ، يلعب الفأر بعبيّ أنّ سيارة الجيبّْ التي ستكون عزّي ووجاهتي بدأ كيدُه هذا الأبو طاهر بإنزالي من على مقعدي فيها زحطةً زحطةً ، فأنا لأوّل مرة يخونني حدسي وحواسّي وأُخذل بعد عمرٍ من الدربة على الإحاطة بكل حركة ونظرة ولفظة وهمسة وإيماءة ، رأيتُ ذلك مجاهرةً بعينيّ أم توقّعتُه وتخيّلتُه مغمضاً . بل لعل كل ذلك من قلة النوم ومن ازدحام المعلومات في رأسي ولأنّ الرجل الذي يلقاني مرة من كل شهر ، طالعاً عليّ من مفرقِ شارعٍ أو عطفةِ زقاقٍ أو مدخلِ بنايةٍ ليأخذ مني ما جمعتُه من معلومات وأخبار ثم يختفي فلا ألقاه إلاّ بعد شهر وفي مكان غير مكان اللقاء الذي سلف، أجل أجل لأنّ ذلك الرجل مرّ بي في ساحة المصلّبية ليلة أمس ولم يتوقف ليحدّثني ، ولمّا أحس بتباطؤ خطواتي ، وأحدنا يقترب من الآخر ، شدّ بقدميه وسارع الخطى وتركني لا أعرف إذا ما كان ينبغي عليّ اللحاقُ به أم تَرْكُه يمضي إلى حيث ابتلعتْه عطفةُ الزقاق قبل أن أحزم أمري وأتصرّف .
كفّاي على هيئة الدعاء جامدتان في الفراغ الذي أمام عينيّ . الحشرجات من خلفي يترحرح بها حلقومٌ فحلقوم فحلقوم . طقشات القبل لها رائحة كرائحة البساتين وقت الفجر . تتحرك أقدامٌ على الحُصُرِ وتنأى كما نأت قبلها أقدامُ المرسي والحبّال ثم يضمحل وقعُها مخلّفاً حواسّي كلّها في فراغ مريب . أشحذ كياني كله لأتأكد من أنهم ذهبوا جميعاً لأسرع خلفهم فأتتبّع آخرهم وألقط طرف الخيط الذي يحوكون به خطّتهم ، فلا تستقرّ خلفي مؤخّرةٌ في جلستها ، فأخفض كفّيَّ وأضعهما أمامي على الحصيرة وأضغط عليهما بكلّ قوّتي فتنهض بي قامتي في الفراغ فألتفت إلى الخلف لأتأكد من امتداد الفراغ خلفي فإذا بقامة الأبو طاهر هذا وحدها وحدها منتصبةٌ في وجهي وإذا بصوته الذي يربكني صفاؤه يمتد إليّ بأنْ تقبَّلَ الله صلاتَك والدعاء .
كان ينقصنا اليومَ زَوْغَةُ عينيه ، فتحليقُ نظره في سقف الغرفة كلما حلّق الطيرانُ الإسرائيلي فوقنا وكأنما ينتظر سقوطَ القذائف علينا مخترقةً سطح البناية فسقفاً من تحته سقفٌ من تحته سقفٌ حتى ينفتح علينا سقفُ غرفته وينهال عليه الركامُ فيحطم عظامه ويدفنه في سريره ، تحليقُ عينيه في وسط السقف وزواياه الأربع زَوَّغَ عينيه فلم يعد يعرف إن هو رأى شيئاً أيَّ شيء يرى ، كما أَفْلَتَ منه القليلُ من الصبر الذي كانت تركتْه له الأيامُ بعد طرف الذبحة ودخوله مستشفى الجامعة الأميركية مريضاً وهو الذي تعوّد أن يدخلها معافى لزيارة المرضى من معارفه وزبائنه في المدينة وضواحيها . كان ينقصنا تبلبلُ عينيه ، وإليهما حاجتُه اليوم أكبر من أي وقت مضى ، فالطيران اليوم صبّحنا قبل شروق الشمس بغارة وهمية فاستيقظتْ عليها المضادّاتُ الأرضيّة من كل الجهات وهَمْدَرَتْ في الفضاء قذائفُها التي لم تُسْقِط حتى الآن طائرةً واحدة ، ثم ثَـنَّتْ بتحليقها الطائراتُ فأغارت على مخيم عين الحلوة فارتفع الدخان الأسود من أكثر من مكان فيه ، وأنا أطلّ كالمجنونة من زاوية البراندة الغربيّة لأرى أين تسقط القذائف ولأقيس بعينيّ المسافة التي تفصل منطقة عبرا عن الأمكنة التي يطالها القصفُ ، تحسّباً لما يمكن أن يحدث لنا ولما يجب أن نستعدّ له في حال تخطّى القصفُ حدود المخيم ، وهو من غرفته يصرخ بي ألاّ أقف على البراندة حتى لا أُصاب بشظيّة فيحدث الذي هو يخشاه ويخشاه ، وليس معنا في البيت مَنْ ينقلني إلى المستشفى أو مَنْ يبقى معه إذا أصابني مكروه ونقلني إلى المستشفى أبناءُ الجيران ، هذا إذا كانت الطريق إليها آمنة حتى يوصلوني إليها على الأقل . اليوم أكلني الندم لأنني لم أقبل بنصيحة أبي حينما عرض عليّ أبي أن يخلّصني من زهير ليـُتاح لي أن أتزوج من رجل سواه فلعلني أُرزق بولد أو ولديْن لآخرتي . هذه هي آخرتي ، آخرتي المقطوعة من الذّرّية وصلتْ ، فلا بنت لي تعينني على مرض أبيها ولا صبيّ ينقلني إلى المستشفى إن أُصبتُ بشظيّة ، ولعلني أُصاب بها قريباً قريباً ، إن لم يكن اليوم ، فالبتأكيد غداً ، فقدماي الحافيتان تركضان بي إلى البراندة كلما حلّق الطيران فوقنا ، فعينٌ لي على جسر الأوّلي ومطعمنا وبيتنا والعينُ الأخرى جوّالة بين قلب المدينة حيث عمّتي وعمّتي وساحة النجمة المركّزة فيها أسلحةُ المضادّ والجيبّات المجهزّة برشاشات الـ 500 لاحتمال إنزال المظليين فيها ، فاليهود مُتَوَقََّعٌ منهم أي شيء ، في الحرب كما في السلم ، فهم الذين خلقهم الله قبل إبليس بيوم ، وأنا اليوم بطوله كنتُ كالمجنونة بين غرفته وأطراف البراندة الغربيّة ، حتى حينما لا يكون هناك طائرات في الجوّ ، فكلما طال غيابُها عن سمائنا اشتدّ توقّعي لوصولها المباغت ، فأظلّ أطلّ وأدخل ثم أعود فأطلّ وأدخل ولا أرتاح حتى أسمع هديرها من جديد فأطمئنّ إلى اقتراب الخطر الذي صار دُنُوُّهُ راحةً لي من التوقّع الذي لا ينتهي والإنتظار ، وهو من غرفته يصفّق لي بيديه لكي أبتعد عن نوافذ البراندة الزجاجية وأبوابها ، بيديه المجنونتين يصفّق لي وقد أتعب صدرَه الصراخُ الذي بدل أن يثبّت عقلي في رأسي فأهدأ وأكفّ عن الركض وأجلس على طرف سريره لننتظر معاً قدرنا المكتوب لنا في السقف الذي فوقنا ، كان يولّع فيَّ القلقَ والتوترَ وينطّط قدميّ الحافيتين عن بلاط الغرف ، فسميّة وصلتْ إلى آخرتها ، وصلتْ ، وشماتةُ إخوته بي ما أقربها إذا هو أصابه من القَدَرِ المخبَّأُ الذي يتمنّونه له ويستعجلونه له من الغيب ليحمّلوني متاعي ويرموا بي وبالعمر الذي قضيته معه في الشارع الذي لا يزال ينتظر وقع قدميّ على سواده منذ اليوم الأول الذي وطئتْ فيه عتبةَ هذا البيت الجديد قدماي .
من حسن حظيّ أنّ غرفة نومنا في الجهة الشرقية من البيت حيث لا مَطَلَّ إلا على الشارع الطالع صوب عبرا القديمة فمجدليون وعلى البنايات المصطفّة على جانبيْ الشارع ، ولو لم يكن ذلك كذلك، لو كانت الغرفة غربيّةً تطلّ على المدينة والجزيرة في البحر وامتداد البحر إلى حيث يلتقي بالسماء ، لكان ازداد وضعُ زهير سوءاً على سوء ، فليس الطيرانُ وحده المستبيحَ لأجوائنا بل مثله البوارجُ التي خلف الجزيرة والتي لا تكفّ عن الإلتفاف حول نفسها في دائرة تبقيها مواجهةً للمدينة وعن التجوّل ما بين منطقة كعب الصخر ، حيث مفرق إقليم الخروب الذي بمثابة خطّ عسكري لتجمّعات المسلحين من الأحزاب والميليشيات والمنظّمات ، وبين منطقة المسلخ ، حيث المسلحون ينتشرون على مقربة من الشاطئ المعرَّض لعملية إنزال بالقوارب المطاطية التي كانوا يتحدثون عنها حتى قبل أن نترك بيتنا قرب جامع الكبير ونشتري هذا البيت . من حسن حظي أنه لا يرى كلّ ما رأيتُه وأراه ، وإلاّ لكانت وقعتْ عيناه في أكثر من زوغة ولكانت الزوغة أدّت بهما إلى تلف أكيد .
وها يكاد الليل ينتصف الآن ، والسكون غارق غارق في الصمت ، وهو غارق في النوم رغماً عنه ، منهكَ البدن مهدودَهُ من التوتر والصراخ والتصفيق لي كأنه زبون في مطعمنا يصفّق للكرسون ليسرع إليه بشيء أو بشيء . كل شيء مرتاح ، حتى أنسام الليل التي نسيتْ نفسها معلّقة في الفضاء بدون حركة ، حتى النجوم في السماء ، لا يعكر هدوءَها وصفاءَها هديرٌ أو التماعةُ نار ، بل حتى البوارج سكنتْ في المياه فهي أشبه بقوارب الصيد الليلية . كل شيء مرتاح ، أو هكذا يبدو، كل شيء مؤتَمن على سرّه ، حتى قدماي تكادان تسترخيان على بلاط البراندة ، تسترخيان لوهم السلامة والسكينة والطمأنينة ، فما أعجب ما يمرّ بالنفس من تقلّبات اليأس والأمل والتمرد والاستسلام والعتب على القدر والتسليم به ، خيرِه وشرِّه ، وما أعجب تلك النجوم المطلّة علينا في كل حالاتنا ، تشهد ولادتنا وأفراحنا ومسرّاتنا وأحزاننا وسِلمنا وحروبنا ثم موتنا وفناءنا في التراب ، تشهد على الحبّ والشوق والحسرة والكره والطمع والبخل والجشع والخوف ثم الخوف ثم الخوف ، وتظل على عهد الناس بها ، نجوماً لا يهرمها ألم ولا يستدرجها أمل ، ولا يُوَسْوَسُ لها بالخوف من أن يزحزحها من مواقعها أحد ، ولا ، ولا ، ولا.
حينما دقّ علينا البابَ ابنُ أخته حنقير بُعَيْدَ الغروب بقليل يطلب لخاله حصيرةً ومخدّةً أدركتُ أنه قرّر ألاّ يعود إلى البيت هذه الليلة وأنّ مبيته الليلة وبعدها سيكون في المطعم الذي هو في الأساس بيتُه الأوّل ، لأنّ روحه معلّقة هناك في الصالون العريض وفي الفسحة التي تظلّلها البلحاتُ الصفراء والحمراء وقد توزّعت حولها الطاولات والكراسي ، ولأنّ قلبه ينبض أكثر ما ينبض في المطبخ الذي يقول إنه ركيزة السمعة التي طارت شهرتها من أقصى الجنوب حتى بيروت فأتت إليه بالزبائن الذين يفتّشون عن اللقمة الطيّبة والروائح الشهية ، فلطالما اقتحموا عليه المطبخ يستفسرون عن سرّ اللقمة الطيّبة التي حيّرتهم وتحيّرهم ، فالحمّص عندهم حمّص والمتبّل متبّل والطرطور طرطور والسمك سمك واللحمة المشوية لحمة مشوية ، من أقصى الجنوب إلى أقصى بيروت ، فلماذا هي في مطبخ جهّار وحده غيرها في مطابخ مطاعم الآخرين ؟ مطبخه أرض عزّه وكذلك الصالون وكذلك الفسحة حيث يستقبل وجوه الناس ويدعو إلى غداءٍ وعشاءٍ أصحابَه ومعارفَه من النوّاب والمحامين والقضاة والضباط ، وأكاد أراه يجلس بينهم مضيئاً حضورَهم بحضوره ، وكأس اللعنة في يده ، يمزمز منها ويضعها على طرف الطاولة ، يتأملها كما كان يفعل في البيت في سنوات زواجنا الأولى ، وأنا أصفّ له على الطبليّة المازةَ التي كنتُ أحضّرها له على مضض أكتمه في قلبي ، فطاعتي له من الدّين وإن كان الدّين لا يسمح له بالشراب ، فزوجي هو أبو أطفالي ، أخدمه في كل ما يرضيه حتى يتعوّد على البيت وتكبر عاطفتُه لأطفاله وهو يراهم يلفّون حوله ويدورون ويلعبون ويتهارشون ويشكو إليه بعضهم بعضاً فيدخل بينهم حَكَماً والإبتسامة تملأ وجهه وتملأُ عليّ الدنيا ، أخدمه في كل ما يرضيه، وفي سرّي ، حتى لا أُغضب ربّي ، أستغفر لنفسي وله ، وفي الليل أصلّي ركعات أسترحم بها الرحمن، ونفسي تبكي على نفسي التي سينالها من العذاب شيءٌ وشيءٌ لحضورها المنكَرَ والسكوتِ عنه ، وسكوتي عنه ما كان سكوتَ القبول بل حتى لا يذهب عنّا إلى حيث يجد من يلبّيه ويريحه من العتب والعتاب الذي يراه منقصةً لرجولته لو سَكَتَ عنه وتركه يؤثّر فيه ، فأصلّي في الليل وأستغفر لنفسي وله ، وأطرافُ بدني تحسّ بلسعات النار فيحتملها بدني بالصبر حتى يظل حنانه لأطفاله يكبر في قلبه مع الأيام فلا يكبرون وبينهم وبينه غربةُ البعد وجفاءُ القطيعة .
ناولتُ حنقير الحصيرةَ والمخدّةَ وسألته عن أمه وإخوته وأخواته ورجوتُه أن ينتبه لنفسه ولهم ولهنّ إذا دخل اليهود المدينة ، فاليهود لا يأمن شرَّهم من المسلمين أحد،وخاصة إذا كان فلسطينياً، فوعدني أن يظل مفتّحاً عينيه على ما يجري والتفّ على نفسه وغاب عنيّ في أوّل العتمة ، ووقتها كان قد خفّ مرور الطائرات فوقنا وهدأت أصوات الإنفجارات إلاّ من بعضها ، عميقةً غميقةً تأتي إلينا وكأنها أطياف المنامات التي نراها في نومنا والتي متى استيقظنا تشتّتتْ من حولنا وخابت كل محاولاتنا للملمتها بأهدابنا من جديد . والآن ها قد مرّ من الليل ما مرّ وصلّيتُ وابتهلتُ ماشاء الله لي أن أصلّي وأبتهل لتنتهي هذه الحرب ونعود إلى هدوء أيام زمان فيرتاح قلبي من الهمّ الذي فيه ومن الخوف على أولادي الذين كبروا وكبرت معهم هموم الدنيا فكأنهم منذورون لأيام العذاب التي أتت إلينا بتقاتل أهل الجيرة فيما بينهم ثم بِتَقَاتُلِ بعضهم مع الفلسطينيين المشرّدين من بلادهم ثم الآن بدخول اليهود حرباً على كل الناس .
صحيح أنّ العقل زينة ، فما وصلنا إليه اليوم دليل على أن الدنيا فقدتْ زينتَها التي كان سياجُ الورد الذي رعتْه أمّ يحى ، بيديها وعينيها وقلبها ، الشاهدَ على أنّ الورد كان وعلى أنّ السياجَ كان يحكمه الوردُ لأنّ السياجَ يرفع قضبانَه وأشواكَه شيءٌ غيرُ القلب وأنه وحده الوردُ يرضى بالماء من التراب غذاءً ولكنه لا يفوح له عبقٌ إلاّ إذا تعهّده بالرعاية القلبُ ، فطيّب الله تراب القبر الذي نزلتِ فيه يا أم يحى مثلما طيّب ترابَ البستان الذي عشتِ فيه عمركِ كله ، وَطْءُ خطواتكِ في جلوله وعلى الأكتاف العريضة لِجُوَرِهِ وعلى المنبسَطِ من ممرّاته ، الصاعدِ منها إلى حدود البساتين الأخرى للجيرة والنازلِ منها إلى كومات الغزّار على ضفة النهر الذي هو الآخر سياجٌ من سياجات الرحمة ، نُحمى به من احتمال الجفاف الذي إذا أصاب الأرض حوّل ترابها إلى تُلاّعٍ يتراشق به الأولاد ويفدغ به بعضهم بعضاً . ولقد أصبحت الدنيا اليوم كلها تُلاّعاً بعدكِ يا أم يحى ، وبعدكِ صدق فينا المثلُ القائل أنّ العقل زينة ، وإن يكن صدق فينا كذلك المثلُ الذي لم يقولوه من أنّ العقل زينتُه القلبُ ، فواحسرتاه ثم واحسرتاه على ما كان لنا زينةً فضيّعناه .
ولقد ضاع مني الليلة النومُ فسهرتْ أذناي على توقّع هديرٍ وانفجاراتٍ وعيناي على التماعات النجوم التي لا يسكن لمعانُها في حرب أو سلم ، والتي كان من أيام طفولته يحبها سامح وينتظر طلوعها في أوّل العتمة من ليلات الصيف ويحاول عدّها فيخطئه العدُّ فيحاول من جديد حتى ينال منه اليأس فيكتفي بتقليب وجهه في السماء والدندنة لنفسه ، وقد نسي حضوري إلى جنبه ، حتى يحتال عليه النعاسُ ويحني له رأسَه فوق صدره فآخذه بين ذراعيّ وأحمله إلى فراشه فأغطّيه وأتركه لينام . من أيام طفولته تعوّدتُ أن أرفع عينيَّ في العتمة لأفعل مثلما يفعل هو فأنسى لهنيهات أنني مربوطة بالأرض ، أنسى حتى ينبح من طرف البستان كلبٌ أو تنوء من خلف البيت هرّةٌ أو يخفق في أغصان شجرة جناحا عصفور ، إذذاك تهبط عيناي إلى موقعي من النافذة المشرّعة على الليل أو إلى موطئ قدميّ بين درفة الباب الثابتة والدرفة المشقوقة ، تماماً كما كانت عادتي وأنا أطلّ على الطريق منتصف الليل ، ليلةً بعد ليلةٍ ، أتسقّط وَقْعَ قدميْه في الأنسام والأرياح فلعله يكون أغلق المطعم وصار على وشك الوصول إليّ ، إلى بيته ، للمبيت .
ثابتاتٍ يَقِفْنَ في الهواء كأنهن معلّقاتٌ بحبالٍ منـزَّلةٍ من غيب السماء مخفيّةٍ عن العين بعتمةِ منتصف الليل ، ثلاثةٌ منهنّ ، هديرُهنَّ يقيس لي المسافة التي تفصلهنّ عن المدينة فأحسب أنهن خلف الجزيرة وفوق البوارج التي لم تبرح مواقعَها من البحر فتكاد للحظةٍ خادعة تخطئها العين فتحسبها قواربَ الصيد الليليّة التي تَزَّيـّنُ بقناديلها لقّاتُ الموج على وعدٍ بالرزق الحلال ينبلج الفجرُ عنه للصيادين في طول الشباك وعرضها ، لولا أنه الزمن الذي غيّره الزمن ولولا أنه الخطر الذي تحالفت به علينا الأرضُ والسماءُ ، ثابتاتٌ ثلاثتهنّ في الهواء ، وثابتٌ على وتيرته هديرُهنّ ، وأنا على غير عادتهما قدماي الحافيتان ثابتتان هما على بلاطة واحدة من بلاطات البراندةِ ، ساكنتان حتى لا توقظه منيّ حركة فيتوتّر قلبه من قلّة النوم ومن توقّعه المفجوع للقصف الذي ما صَدَّقْنا على الله أنه توقّف بعد الغروب بقليل .
وتنهال على المدينة القنابلُ المضيئةُ دفعةً واحدةً وتتمرجح في الهواء فهبوطُها هبوطُ القناديل المعلّقة بالبراشوتات المعدَّة لها ، تتأرجح فيضيء بعضُها بعضاً وتضيء جميعُها الفضاءَ الذي فوق سطوح البنايات ورؤوس المآذن والساحات التي تنصبّ فيها الشوارع ، ويا الله يا الله كيف الجزيرةُ في البحر يغمرها النور فتطفو على لقّاتٍ من الموج ولألآتٍ ، فلأوّل مرة في عمري أراها مغمورة بنور غير نور القمر في بدر تمامه ، والقنابلُ المضيئةُ تتمرجح في هبوطها فوقها ودنوّها من صخورها ومنارتها ، فكأنها الجزيرةُ العائمةُ جزيرتُنا الليلةَ ، يحركّها تمرجحُ النور ، عن حقّ يحرّكها لعينيّ ، وإن يكن يحدّثني عقلي بغير ما توحى به إليّ عيناي ، وإلى الشمال قليلاً فندقُ طانيوس وحديقتُه الفسيحةُ ومطعمُنا والملعبُ البلدي وحتى حرجُ الكزبرينا الملاصق له ، كلُّ شيء لأوّل مرة من عمري تضيئه دفعة واحدة قناديلُ البراشوتات التي لو لم تكن ألقت بها في سمائنا طائراتُ العدوّ الصامتات من علوّها الشاهق لكنتُ حسبتُها مهرجانَ النور ولكنتُ تمنّيتُ لو كان عرسي في هكذا ليلة وهكذا مهرجان . ولكنْ ربّاه ربّاه ما سرُّ هذا الصمت من عمق المدينة وأطرافها ؟ وأين هي المضادّات التي كانت لا تترك قنبلة ضوئية واحدة تصل إلى الأرض فـتمزّقها مزقاً مزقاً في أرجاء الفضاء ؟
ورائي ، على البلاطات ، تخبط خبطةُ البغتةِ فأنطّ عن البلاطة التي عليها قدماي وألتفت صوب باب البراندة فإذا هو مبطوحٌ على طوله ، فأقفز المسافة كلّها إليه وأهبط عليه كالمجنونة ، أرفع رأسه عن البلاط ، وخوفي أن يكون انفدغ رأسُه من هول الخبطة ، فيتشنّج وجهُه بين يديّ ويتلوىّ على نور القنابل المضيئة ، وأسأله أين ألمه فيئنّ صوته أنيناً لا يجيب على سؤالي ولا يدلّني إلاّ على الورطة التي أوقعني فيها بقيامه من السرير ولحاقه بي ليرى الذي أرى وليعرف بنفسه ما يجري في ليل المدينة الذي كان تركه ينام لساعات ثم أيقظه صمتُه المُناَوِرُ أو ربما هديرُهنّ الثلاثةُ فوق البوارج خلف الجزيرة . ويشحط فجأة في الجوّ شيءٌ شحطةً تطول وتطول وتتبعها شحطةٌ ثانية فثالثة ، فأدير إلى الغرب عنقي بصعوبة لأرى القذائف الصاروخية الثلاث يتبع بعضُها بعضاً في اتجاه مخيّم عين الحلوة ، ثم يزعق الجوّ بالمضادّات كلها دفعة واحدة فأسقط على البلاط جنبه وأنحني فوقه لأحميه من كل الجنون الذي اندلعت به سماء المدينة . قلبي تخنقه الغصّة فيكاد صوتي يخونني فأهمّ بالنداء على ابنٍ لنا لم ننجبه وعلى بنتٍ لم يُكْتَبْ لها أن تكون ابنةً لآخرتنا التي وصلتْ إلينا ووصلنا إليها ، فتغصّ ضلوعي بكلّ ضلوعي فأغفر لأبي في سرّي مساررتَه لي باستعداده ليطلّقني منه ، ويأكلني في سرّي الندمُ على ندمي اليوم لأنني لم أستمع إلى نصيحته التي ، يقول أبي ، كانت يومها بجمل .
لا أراها ، ولكن أعرف أنها معلّقة في الهواء وراء الجزيرة بحيث لا تطالها مضادّاتُنا ، المزروعةُ منها في اللَطَواتِ على طول الشاطئ والمركَّزةُ منها على تلّة رجال الأربعين ، وفوقها في القلعة البريّة ، كما في الساحة التي تطلّ عليها القلعةُ قريباً من مقبرة الشيعة ، أعرف أنها واقفة في الهواء وأحسب من أصوات قذائفها الساحبة في الجوّ أنّ وجهتَها المخيّمُ الذي لا ينام أهلُه هذه الأيام إلاّ في الخنادق التي حفروها في الشوارع والممرّات وإلاّ في الملاجئ المسلّحة بالباطون المسلّح ، بنوْها تحت هشاشة سقوف الزنك التي سرعان ما جايرتْها سقوفُ الحجر في أوّل إندلاعةٍ للحرب الأهلية وأوّل غيابٍ لرقابة الدولة عن المخيمات الفلسطينية ، بنوْها فتفشّى انتشارُها ، الخنادقُ والملاجئُ ، فوق الأرض وتحتها حتى وُصِلَتْ أطرافُها بأطراف المدينة ، انْبَنَتْ كلّها وتفشّتْ على مرأىً من المحبّ والكاره ، وبإشراف المهندسين الروس ومهندسين فلسطينيين كانوا تلقّوا دراستهم في الجامعات الروسية المحتضنة لقضيّتهم والموسَّعَةِ بهم رقعةَ انتشار نفوذها حيثما تواجدوا على الأرض اللبنانية ، على غرار احتضان الدولة الروسية للقوات السورية وتزويدها بصواريخ سام 7 التي يحسب لها الطيرانُ الإسرائيلي ، وخاصة الطائرات الأميركية الصنع منه ، حساباً وحساباً ، هنالك حيث رُكِّزت كلّها الصواريخ في سهل البقاع الذي إذا وقع بين السوريين والإسرائيليين صدام فأوّله سيكون فوق ذلك السهل الذي تدغدغه في ذاكرتي من التاريخ القديم ذكرى سهلِ حطيّن ، فَاجْعَلْه اللهم كسالفه السهلَ الفاصل في صراعنا مع يهودية التلمود المقاتلتِنا بأسلحةِ الصليبية الحديثةِ التي يستطيب ذكرَها صليبيّو القلبِ من مسيحيّي هذا الشرق العجيب .
ساحةَ النجمة ، يا ساحة النجمة ، كم تبارت في انسراحاتك ميليشياتُ المنافع وتضاربت على التفافاتك أحزابُ المطامع ، صيداويُّها وفلطسينيُّها سواء بسواء ، وكذلك خرّوبيُّها من جهة الإقليم وقُرَوِيُّها من التلال المطلّة عليكِ من الشرق ، تَنَاوَشوا وتَهَارشوا وتهاوشوا وتناوبوا عليكِ تَنَاوُبَ ديوكِ المزابل بعدما أحالوكِ بأهوائهم إلى مزبلةٍ تليق بأهوائهم ، ناسين دمَ الريّس المهراق ودمَ رفاقه الذي به تطهّر زفـتُكِ الأسود من نوايا الأحذية الغليظة لدولة ال75 والتي لم تكن إلاّ امتداداً لأحذية ال58 التي نبذها ونبذ رئاستَها الوطنُ فأسقط الحلمَ الأميركي بإحباط التجديد لواحدٍ من أهمّ مروّجي مشروعه المعروف آنذاك بحلف بغداد . ذلك بالأمس كان فأمّا الليلةَ فقد اختاركِ الليلُ ، يا ساحة النجمة ، نجمةً للساحات التي ستكون معبرَ الغيب بنا إلى القدس ، كما اختاركَ الليلُ ، أنتَ أنتَ يا منتصفَ الليلة ِ، زمناً لرحيل الدم الذي ها من فوقنا تنحدر إليه مقاتلاتُ الأف 16 ، نزولاً نزولاً لتفجّر بقنابلها الصوتية أجسادَ شبابنا ، سالخةً عن عظامهم اللحمَ وعن أكتافهم الرؤوسَ وعن كلّهم كلَّ أطرافهم ، مفسِّخةً شرايين قلوبهم ، مشلِّعتَها شلعاً ، فالأحمرُ القاني فرقعاتٌ ، رذاذٌ رذاذٌ في الجو ، ولطخاتٌ كأنها ورق الشقيق على الأرض ، وفي معبر الغيب بنا إلى القدس ، نُطَفٌ فَعَلَقٌ فَمُضَغٌَ في خلقٍ ثم خلقٍ ثم خلقٍ جديد .
مع أنني تلطيّتُ بلفّة الدرج فَضَغْطُ الهواء الذي نزل به الطيرانُ فوق الساحة انضغط به الجوُّ كلُّه وشدّ عليَّ حتى أحسستُ أنني مُغْلَقٌ عليّ في صندوقٍ من الهواء ، فتجمّد كل شيء فيّ حتى نبضات قلبي، ولو ظل على إحساسه بدني ثوانيَ بعد رعب تلك الثواني لطار عقلي أو لطرتُ إلى الشارع فطارت منيّ الأطرافُ فوجدوها كلّ طرف في زاوية من زوايا الساحة ، ولعلهم كانوا وجدوا شِلَعاً من الجلد والعضل المفَتَّق لاصقاً بحيطان مبنى البلدية أو على نوافذ باص من باصات خطّ صيدا بيروت ، أو حتى على عمود من أعمدة الكهرباء ، ليكتشفوا آخر الأمر ما تبقّى من صاحبها مرميّاً على مدخل كاراج حبلي أو على أو على . ولكنني نجوت من خرم الإبر ، وكان لا بدّ أن أنجو بعد أن حُذِّرْتُ من خطر التعرّض لضغط الصوت والهواء اللذيْن تفتحهما الطائرات في انخفاضةٍ خاطفة ٍ لا يكاد يحسّ بها مَنْ على الأرض حتى تكون قد انخطفت انخطاف الأشباح الطائراتُ وضاعت بعيداً عن مرمى الأذن والعين .
أحسحس بحذائي على البلاط العاري لأتأكد من أنّ قدميّ لن تَزُطّا على البلاط ، فيتبرغل النعل تحتي بما تركه الهواءُ المضغوط من ترابٍ ناعمٍ وغبارٍ على طول المدخل من البوابة الحديدية القضبان حتى مَلْطَايَ بلفّة الدرج . أتأكد من صحة تخميني وأنا أحسحس طريقي إلى البوابة بلاطةً بلاطة ً. القضبان الحديدية تنـزاح إلى الداخل في غبشة الليل وأطلّ برأسي ، نظرةً عن يساري إلى كاراج حبلي فانعطافةِ الساحةِ إلى شارع الأوقاف ، ونظرةً عن يميني إلى حلويات كنعان ، وليس إلاّ الأبوابُ الجرّارة لا أتبيّن ماذا حدث لها بالضبط من شدّة ضغط الهواء والصوت . نظرةً نظرةً أطلّ برأسي على الساحة والتفاتةً فالتفاتةً حتى أطوف بعينيّ المكان كلّه في الغبشةِ ، فأطمئنّ إلى السكون وآخذ نفساً عميقاً سرعان ما أندم عليه للثِّقْلِ الذي يُثْقِلُ به صدريَ ورئتيَّ ، فأكاد أن أرسل في الهواء قحّةً أنظّف بها حلقومي من البرغلة التي ألـمّت بها فتنضمّ كفّاي على فمي وتكتمان الصوت حتى لا يتنبّه إلى وجودي أحد قبل أن أكتشف ما جئتُ لاكتشافه وقبل أن أحدّد أنا اللحظةَ المناسبة لأظهر فيها على الناس ، مسلّحين وغير مسلّحين .
السكون غشّني للحظات ، فمن كل الجهات الهمهماتُ تنصبّ في الساحة ويختلط قريبها ببعيدها فيصعب عليّ تمييزُها من بعض . أنقل خطاي نقلاً خفيفاً نحو قلب الساحة ، في مثل الإنجذاب الخفيّ وكأنما جميعنا نَنْشَدُّ بشيء يوحّد إرادتنا ، ننصبّ جميعاً خلف هَمْهَماتنا لنلتقي في النقطة الوسط حيث تتدافع الأصوات ويدفش بعضها بعضاً ، وتتدافع وراءها الوجوهُ والأرجلُ والأيدي ، هاجمةً على اللِّسِّ من أوّل شارع جزّين ومن جهة حيّ القملة ومن شارع الأوقاف ومن جهة سينما الهيلتون ، وتكاد تهبط علينا حتى من الفضاء الذي لا أظن الطيران الإسرائيلي سيغيب عنه طويلاً . تطلع عليَّ ضالّتي من بوابة البلدية ، تطلع أخيراً عليّ ، فتصدّق عيناي حدسي ، فأبو الطاهر هذا لا ريب انشغل بالُه على أشباله الذين ربّاهم على يديه في حلقات الجوامع ودرّبهم ، ولا يزال ، على استعمال الأسلحة لحرب الشوارع وربما كذلك أسلحة القنص بالبندقيات المُنَوْضَرَةِ ، بالتأكيد انشغل بالُه عليهم فهو إمامهم الذي بدون عمامة ، ولعله جاء وراءهم يبحث عن أشلائهم المشلّعة في أطراف الساحة مثلما يبحث كالمجانين سواه وسواه من الناس عن أولادهم أو إخوتهم أو حتى آبائهم . وترتجّ الساحة بغتةً بصرخة ألم عظيم ، منه هو ، هو الأبو طاهر هذا ، فأنظر إلى حيث ينظر فإذا بي في مواجهة جودت الديماسي وحسن القبرصلي ، كلٌّ يحمل بيديه شلعةً ممزّقةً من اللحم ويستجدي الذين يراهم ، كلَّ الذين يطلعون في دربه ، أن يقولوا له إنها ليست من لحم ولده .
من كثرة ِالخضخضةِ الشظيّةُ تغُزّ وتغزّ في كتفي ، فأشدّ على أسناني وأشدّ ، ومن بين أسناني تفلت الصرخة ، وأصواتهم تهدّئني بأننا في لحظات سنصل إلى مستشفى حموّد ، فأكزّ من جديد على أسناني وأعرف أنهم يكذبون عليّ حتى يلهونني عن الوجع ، والوجع مثل شكّات السكاكين في كتفي، والمسافة بين السينما هيلتون ومستشفى حمّود تطول أكثر من اللازم ، فهم الآن يطلعون بي طلعة السينما شهرزاد ويظنون أنني من الوجع لا أعرف أين الآن نحن ، وتغزّ الشظيّة في كتفي وهم يقطعون الشارع بي ، يحملونني ، ثلاثتهم ، لا أعرف كيف ، ولكنهم يحملونني ، أحمد المرسي وسليم الحبّال ورجل لا أعرفه طلع علينا من تحت الأرض وأمرهما بصوت حازم قاطع أن يرفعني أحدُهما من تحت فخذيّ والآخر من تحت وسطي ومَرَّرَ هو كفّيْه تحت كتفيّ ونهضتْ بي عن الرصيف الأيدي كلُّها على صوته الحازم القاطع أَنِ الآنَ ارْفعاه ، وانطلقت بنا أقدامُهم ، وأنا أتلوّى في الهواء وأحاول أن أصل بيدي إلى كتفي التي فيها الشظيّةُ فتُمسك بيدي يدُ الرجل الغريب وتمنعني فتعلو صرختي وأتوسل إليهم أن يضعوني على الأرض فوجعي لا يحسّ به إلاّ أنا ، وأنا أتقطّع ، فتهبط عليّ أصواتهم أَنِ اصْبِرْ فالمستشفى بعد خطوتين ، وأيَّ خطوتين يعنون والمسافة بيننا وبين المستشفى تطول أكثر من اللازم ، فأصرخ بهم أن يتركوني ويذهبوا إلى أبي ليأتي ويأخذني إلى البيت لأموت في فراشي ، فيأمرني الصوتُ الغريب بأنهم لن يتركوني لجنوني ، ثم ينخفض فجأة بأنّ لأبيك عليَّ ديْناً وأنا أوفّيه له الآن ، فأبوك ، يقول الصوت ، وإن لم يحملني كما نحملك الآن ، فقد حمل من جرحي أيام جرحي الكثيرَ الكثيرَ ، بلهجةٍ ذات معنى عميق تنـزل عليّ كلماتُه ، بلهجةٍ مخنوقة أحسّ بها تتغلغل فيّ كالسرّ الذي عليّ أن أتقبّله قبل أن ينفتح لي معناه .
أظننا الآن في أوّل حيّ اسكندراني ، وإذن فلن يعرف أبي أنني في المستشفى إلاّ بعد أن يخبروه بأنني نزفتُ حتى الموت من شظيّة القذيفة التي ضربتْها البوارجُ على شارع رياض الصلح فكانت من نصيبـي وأنا أركض صوب ساحة النجمة بعدما فتحت الطائراتُ الإسرائيلية قنابلَ الصوت والهواء عليها وعلى المسلّحين الذين خلف مدافع المضادّ ، لأساعد في حمل الذين حطّمهم الهواءُ المضغوظ أو أذاهم أذىً خفيفاً إلى الطوارئ في مستشفى حمّود ، كما هي المهمّة التي كُلِّفتُ بها مع المرسي والحبّال. الوجع يخفّ ويخفّ حتى يختفي كالسحر فكتفي لا أحسّ بها وكأنها تخدّرت بشيء ، ورأسي يدور بي في الهواء ، وبطني يرغرغ فيه شيءٌ ويظل يطلع حتى يفاجئني اللعيانُ في حلقومي فأفتح فمي لأستفرغ ، ولا يحدث شيء ، واللعيان يرغرغ من بطني إلى حلقومي ، والصوت الغريب يهمس بي أَنْ أَخْبِرْ أباك حينما تعود إلى البيت أنّ سَارِبْ الهَيّوبْ وَفىَّ له اليومَ الديْنَ القديمَ الذي كان له عليه . تأخذني من أيديهم الأيدي الأخرى ويرتاح بدني على الحمّالة ، وكتفي كأنها ليست ليست منيّ ، وحينما يلتفّون بي إلى نزلة الطوارئ أتخيـّل المرسي والحبّال يتسابقان إلى ساحة النجمة وصاحبَ الصوت الغريب تبتلعه الأرض التي كان طلع منها علينا ليحملني معهم إلى المستشفى ويحملّني إلى أبي سرَّه المختنق العجيب .
كل واحدة انفجرت في مكان ، الأولى فالثانيةُ فالثالثةُ ، وكنّا ننتظرها من أوّل الليل ، وها تلكم النيران تشبّ في العتمة فتضيء البيوتَ الهزيلة والشوارعَ النحيلة الأشبه بالممرّات الضيّقة منها بالشوارع ، وكذلك شجراتِ الكينا الناهضةَ أغصانُها فوق مآذنِ الجوامع المستحية بكالحِ جدرانِها المشوّهةِ بشعاراتِ الأحزابِ والجماعات الدينية المتنافسة على الإمساك بالمخيم شارعاً وزاروباً وحيّاً وشباباً وسلاحاً وقلباً لا يزال يتقلّب بهم جميعاً في ردود فعلهم تجاه أزمة حماية الشيوخ والأطفال والنساء من مكر عدوّ يركب السهل والبحر والجوّ فيطال أوّلهم وآخرهم ، إذ ليس فيهم عنه بعيدٌ أو منه قريبٌ. رابعةُ القذائف لم تُطلق بعد ولكنها جاهزة في بيت النار ، والنار التي لا تنتظر ، مثلما ننتظر نحن ، لعلها تعربش من بيت إلى بيت وتنتشر في الغرف المحشوّة بالفُرُشِ والألبسة والأمتعة، تسري بها سريانَ النسيان بالذاكرة فتجعلها نسياً منسيّاً ، فمن الجهات الثلاث تتلوّى لا تزال الألسنةُ اللاهبةُ وتتّسع في كل لحظة لهباً ، والعدُّ في لغة النار لو كان يجدي لعددتُ ، ولكنّ شكسبير اللاحقَ بي إلى المخيم لا يعدّ النارَ لهباً لهباً ، فنصيحتُه أنْ save your arithmetic ، وَفِّرْ عليكَ تعداداتكَ ، تنطبق على اللَّهَبَاتِ المنبثقات من اللهبة الأولى كما على رحلة الزنا التي تبدأ بالزنية الأولى . إلى قلب المخيم يلحق بي ، حتى وأنا في ظلال الموت ، ولأنه يلحق بي فسأطارده منذ الليلة أنا وسأردّ له قسمةً في العلاقات البشرية كان قَسَمَها ، وهو الذي لم يتعرّض لقذائف ال155 من مدافع الدبابات ولقذائف الأف 16 العاتيات ولقذائف البوارج البَاجَّاتِ على بيوتنا وساحاتنا بجّاً بجّاً ، أجل أجل قِسْمَتُه لعلاقة النساء بالرجال بين زنا زنا لا نقاش فيه وزواجٍ رسميٍّ حلالٍ تحكمه القوانين والأعراف قسمةٌ ضيّقة الأفق ، منه هو أتت أو من شخصية من شخصياته ، وسأحاور الحياةَ أنا ، نكاية به ، فأبتدع لهذه القسمة بُعْداً ثالثاً ما كان ليخطر للعقل البريطاني آنذاك على بال ، مع أنه خَطَرَ على بال المسلمين الأوائل قروناً طويلةً قبل ولادة شكسبير .
من فوقنا ، من فوق سطوحنا ، تَهِسُّ هسيسَها إلى شرقيّ المخيم ، وانفجارُها سيدوّي في بيت من البيوت ، على أهله سيدوّي ، إن لم يكونوا قد نزلوا بعد إلى الملاجىء تحت الأرض وبقوا مثلي ينتظرون تَفَجُّرَ الوضع لينـزلوا طلباً للسلامة التي لم تعد الملاجىء شرطاً لها ، وقد انكشف سرّ القذائف الجديدة المعدّة للتسلّل إلى طبقات وطبقات تحت الأرض . كأنها في طبلة أذنيّ تنفجر ، فأنحني على الأرض وأنسلّ على يديّ وقدميّ إلى الباب ، وقلبي هذه المرّة يحدّثني أنني أخطأت التوقيت وأنني ما كان ينبغي لي ، فالهسيسُ الهسيسُ يشقّ بالخامسة الهواءَ من فوقي فأرمي بنفسي في الخندق المحفور طريقاً إلى غرف الباطون المسلّح والمخفيّة تحت تلاّت من الرمل ، وما هي إلاّ وأنا بين الأصوات والهمسات والتعليقات المستنكِرة لبقائي فوق وتعريضي نفسي للخطر . أرمي بأفواههم خلف ظهري ولا يلفتني من الأصوات إلاّ لفظةُ إسمي يلوكها فمُ امرأة تتفكّه بالأديبة التي ما همّها من الحرب إلاّ اقتناص الأخبار والفجائع لتصوغ منها قصصها فتنشرها لتجلب لها الشهرة على حساب المآسي التي نعيشها نحن أهل المخيم كل يوم من أيام حياتنا . الصوت يزعجني أكثر مما تخيفني أصوات الإنفجارات فيقفز أمام عينيّ وجهُ غسان كنفاني يبتسم بمرارة وكأنما عرف ما يدور بخاطري فتصارحه عيناي أنّ الخيانة من الداخل أشدّ خطراً في الحياة المدنيّة منها في الحياة العسكرية لأنّ أثرها أَدْوَمُ في حياة المخون وفي البيئة التي يمثّل وفي القيم التي بها يبشّر ، فيتقارب حاجباه وتتململ ملامحه ثم تضمحل في الهمسات والأصوات التي تعلو وتهبط ويلتفّ بعضها ببعض ، تماماً كما يحدث في غرفة المعلمين والمعلمات .
يحمل معي كالونات مياه الشرب وننـزل بها الدرج إلى الطابق الذي تحت مستوى الشارع من بناية جاد ، فالخوف من صواريخ الجوّ أرض وقذائف البوارج وقنابل مدافع الدبابات أخلى طوابق كل البنايات في منطقة القناية من سكانها الذين تَوَزَّعهم ملجأُ هذه البناية الذي يتّسع لمئات من الناس وملجأُ المدرسة التكميلية للصبيان ، على الطرف الآخر للشارع ، على مرمى حجر أو صرخة صوت من مدرسة جنّة الشرق التي إلى شمالها بمئة متر مخزنُ الأنروا للإعاشة يبدو وكأن الفلسطينيين أخلوه منذ يومين تحسّباً لإمكانية تعرّضه للقصف . على باب الملجأ يضع نزيه كالونيْ العشر ليترات فتسرع إليهما وإلى الكالونيْن في يديّ أيدي النساء والأولاد ويغيب الجميع في الحشد الهائل من الناس والأصوات في الداخل ثم يعودون إلينا بكالوناتٍ غيرها فارغة لنملأها لهم من حنفية مركز الميليشيا على أوّل مستديرة القناية . منذ توقّف القصفُ بعيد الغروب بقليل ونحن نروح ونجيء بين الملجأ والحنفية ، وكان يروح ويجيء معنا أصحابُ الهمّة من شباب الحيّ الذين خجلوا من أنفسهم وهم يَرَوْنَنا ، نحن الذين في مثل سنّهم ، نزوّدهم بمياه الشرب ، وهم بين أهلهم وجيرانهم لا نفع منهم ولا فائدة ، مثل الصيصان والفرخات يتفتّلْنَ بين الدجاجات منتظراتٍ من يرمي لهنّ الحَبَّ، خجلوا من أنفسهم آخر الأمر ودبّت فيهم الحميّة فأراحنا ذلك شيئاً وأَمَّنَّا لكلٍّ حاجته من الماء .
والآن تمت مهمّتنا التي أدّيناها بما يرضي الله وبما يرضي أبو طاهر إن شاء الله ، ويرضي أنفسنا، فنأخذ الكالونات الفارغة لنصعد الدرج للمرة الأخيرة ونعود إلى حيث كنّا خبّأنا أسلحتنا ونكمن في انتظار ما قد يطرأ من حالات تستدعي تدخّلنا ، فتطلع في وجهنا امرأةٌ محجّبة من نساء الحي وتدفع إلينا بكوبيْن من الشاي وسندويشتين ملفوفتين بورق السانيتا وتحلف علينا ألاّ نردّها خائبة ، وصوتها يرتفع بعينيها إلى السقف بالدعاء لنا أن يحفظنا الله لأهلنا ، وخلفها عيونُ بناتها وبنات الجيرة المبتسمات لنا بحياء وجرأة تحثّنا كلها هي الأخرى على أخذ السندويشات وشرب الشاي ، فنضع الكالونات من أيدينا على جانب الباب ونأخذ كُلٌّ كوبه ونرشف ، وعيونُنا في الأرض من كثرة العيون المسلّطة علينا من داخل الملجأ ، وإذ تمتدّ إلينا يد المرأة من جديد بالسندويشتين اللتين كنّا تردّدنا بأخذهما ، أرفع وجهي لأشكرها ولأرى ، على جانب كلٍّ من كتفيْها وجهَ فتاةٍ وفي كل وجهٍ طرفَ لسانٍ يروح ويجيء بين شفتين ، والعيون الأربع مذبّلاتٌ في نصف إغماضةٍ ، فيرتعش كوب الشاي في يدي فأشدّ عليه لأثبت لهنّ أن رجولتي ، وإن كنتُ صغيراً بعد ، لا تتأثر بألاعيبهنّ التي لا ريب تعلّمْنَها في المدارس ، فترتفع البنات خلف المرأة بالضحك المكتوم الذي لا تستنكره المرأة وكأنما تعوّدتْ عليه ، فهي لا تزال تشجّعنا بلطف أن نأكل ونشرب حتى لا تنهار صحّتنا ، وما إن تعاود الفتاتان فعلهما حتى يتشردق نزيه بالشاي ويفلتَ من بين أصابعه الكوبُ فيبغتنا صوتُ انكسارٍ على البلاط فكأن قنبلة انفجرت ونشرت شظاياها بين عتبة الباب وآخر درجة من درجات السلّم . الأكتاف والرؤوس والعيون الآن تحتشد بالباب ، والحَرَجُ يأكلني ويأكل المسكين نزيه إلى جانبي ، وبحركة لا إرادية نلتفّ معاً ونأخذ السلّم درجتيْن درجتيْن ، تاركيْن الكالونات الفارغة على مستديرة السلّم ، وناسياً أنا كوب الشاي في يدي ، أشدّ عليه وكأنما لأثبت لنفسي أنّ ما حدث كله لا يؤثر في رجولتي . على بوابة البناية نقف لاهثين في الليل ، وحينما تلتقي عيوننا في الغبشة ، شيء يحدث لكلينا في اللحظة عينها فنطقّها ضحكةً طالعةً من نصف دين القلب ، ولا أحسّني إلاّ ويدي تضرب الكوب في الأرض فيطربني هذه المرّة انكسارُه المفرقعُ على البلاط .
كأننا خرجنا من الكابوس الذي لا نعرف كيف دخلنا فيه ولا إذا ما كان خروجنا هو بالفعل ما كنّا أردناه ، فشيءٌ كالحزن غريب عني يرغرغ في صدري وأنا أقطع الشارع إلى الطرف الآخر منه ، وإلى جانبي المسكينُ يمشي في الصمت والظلمة ، يفكر ربما مثلما أفكر ولا يفهم ، مثلما لا أفهم أنا ، لماذا حدث لنا ذلك الليلةَ بالذات ولماذا كلّفنا أبو طاهر بمهمة مياه الشرب نزوّد بها الهاربين من القصف ومن خوف معاودة القصف إلى هذه البناية بالذات وإلى هذا الملجأ بعينه . يتحرك شيء في أوّل الزاروب المؤدي إلى تكميلية الصبيان فنتجمّد في مكاننا من الشارع وننصت . الشيء الذي يتحرك في الظلام يبدو أنه لا يرانا ، فصوته لا يزال يتحدث إلى شيء آخر تبحث عنه عيوننا ولا تراه . ولا أفهم لماذا تجمّدنا في مكاننا وكأنّ الحيّ كلّه لفّه فجأة هواءٌ غير هواء الليل الذي تعوّدنا عليه ، يطلع علينا من البساتين التي على ميلتيْ الشارع ، لا أفهم لماذا ولا أراني إلاّ وأنا أشير إلى نزيه أن يتقدم معي نحو الزاروب بخطى الحذر ، وقد سحب كلٌّ منّا سكّينه من بيتها الجلدي المثبّت داخل فردة الحذاء اليسرى . هواء الليل الغريب يزيد من غربتنا ونحن ننقل خطانا لاحقين بالصوت المتحرّك أمامنا ، وإذ يحسّ الشيءُ باقترابنا منه ينهض من إنحناءته بقامة هائلة وكتفيْن عظيمتين ويستدير نحونا وفي إحدى يديه شيء أسود لا أتبيّن إن كان مسدساً أو شيئاً آخر ، يكبس عليه كبسةً ويضعه في جيبه وينتظر . ماذا نفعل ونحن لا نعرف ماذا يجري في هذا الزاروب وفي هذا الليل ، والرجل يتطلّع نحونا ، ولا نرى رجلاً آخر من المفروض أنه كان يكلّمه قبل وصولنا ؟ يتنحنح ويلفظ إسميْنا ليقول لنا إنه يعرفنا فنسكت عن رؤيتنا له في الجامع الكبير بعد العِشاء بقليل وأسأله أنا إن كان يبحث عن أحد . نَفْيُهُ يزيد من عجبي ، ولساني يسبقني بالقول إنه تهيّأ لي أنه كان يتحدث إلى أحد . آه ، بالطبع ، كنتُ أتحدث بالتوكي ووكي مع مركز الحزب ، فهم يطلبون مني العودة فوراً لطارئ طرأ ، يقول بهدوء وبدون أدنى تردد ، وكتفاه كأنما تتسعان على جانبيه . أتردّد في سؤاله أيَّ حزب يعني ، وقبل أن أستجمع وعيي وشجاعتي لأحشره بالسؤال ، يقذف به الزاروب إلى الشارع فينطلق بخطى حثيثة نحو ساحة النجمة .
أبو طاهر كان حذّرنا منه ، فظهوره المفاجئ وغيابه المفاجئ ، في الجامع أو في الشوارع التي نمرّ بها كل يوم ، يحيّران أبو طاهر إلى حدّ الوسوسة فقلبُه علينا من الذين قلوبهم ضعيفة من رجال المدينة وشبابها وينخرطون في الشبكات السرّية لجمع المعلومات عن نشاطاتنا وتسريبها لأعدائنا في الداخل والخارج وقبض ثمنها بالدولارات ، عِمْلِةِ الخيانة التي تتفشّى رائحتُها كلما تفشّت في شبابنا روحُ المقاومة لإسرائيل ولعملائها في الداخل وكلما ازداد الوعي وترسّخ في القلوب بأن كل الحروب إنما هي خطوات تقترب بنا من معركة القدس ، فتقدسّ اسمه الله الذي جعلها الفتنةَ والإختبار لكل الأجيال منذ أن كان حديث الإسراء بل ربما من الزمن الذي جُعِلَتْ فيه القبلة الأولى للمسلمين. أبو طاهر علّمنا وأبو طاهرحذّرنا من تذبذب الذين في قلوبهم مرض ، ولا مرض إلاّ هذه الدنيا الخضرة الحلوة التي أعطت لونَ خضرتها للدولار فكان التجسيد الجديد للولع بالغرّارة الفانية . علّمنا وحذّرنا حتى لا نتذبذب ونبوء بالإثم العظيم بعد أن تواثقنا وبعنا أنفسنا لله نجاهد في سبيله فنَقتل ونُقتل فتكون لنا الجنة، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن . علّمنا وحذّرنا ولكنه لم يربط قلوبنا بإرادته هو ليمنعنا من السقوط في فتنة الوجوه المبتسمة لنا عن جانبيْ المرأة المحجبّة وفتنة اللسانيْن ، يروح ويجيء طرفُ كلٍّ مِنهما بين شفتين . ولم يكن هو معنا ليرى مثلما رأينا ولنرى نحن إن كان سيحدث له مثلما حدث لنا. علّمنا وحذّرنا وتركنا لأنفسنا وللدنيا ، فَرُدَّ عني الشوقَ إليهن يا الله ، فها قدماي تكادان تعصيان أمري وتكادان تهمّان بقطع الشارع إلى البناية التي أصبحت كل شيء في هذا الليل ، كأنْ لا حرب ولا ضرب ولا قصف ولا انتظار قصف ، فيا ليتنا ثم يا ليتنا بقينا نقطع الليل بين حنفية الماء وملجأ البناية ، فلا الليل ينتهي بنا ولا هنّ من حاجتهنّ إلى الماء يكتفين ، وأنا ونزيه نظلّ نشرب الشاي المقدَّمَ لنا ونظلّ نشرب ، وعيونهنّ علينا مفتّحاتٌ كأنهن بوابات الجنة إلى الحور العين .
نزيه يقول لي فجأة أنه كان علينا ألاّ نتركه يذهب هكذا وكأنّ شيئاً لم يكن فأفيق من نفسي وأكرّر خلفه الكلمات التي قالها وكأنما لأتشبّث بشيء ، والخوف من أن تنتهي اللحظة التي أنا فيها يأكلني ، أكرّر خلفه الكلمات وأتقلّب بين الثبات على قدميّ لأقوم بما أُوصيتُ به وبين الإنسياب مع اللهفة التي سبقتْني إلى بوابة البناية ونزلتِ الدرجات ووقفتْ بباب الملجأ تنتظرني ، ونزيه وجهه في وجهي كأنه يراني لأوّل مرة ، ولأوّل مرة أرى الدهشة في عينيه فأفيق من نفسي وأسأله إن كان من الحكمة أن نلحق به إلى ساحة النجمة فيذكّرني بأوامر أبو طاهر لنا ألاّ نترك منطقة القناية إلاّ إذا اضطررنا إلى الإختباء في البساتين القريبة . لماذا لم يقل لي هذا الكلام قبل أن تختفي آثار الرجل عنّا في المسافة والليل ؟ وهل يعني ذاك أنني جَبُنْتُ عن مواجهة الخطر وتساهلتُ في أمر تواجد الرجل في الزاروب بطريقة تثير الريبة ؟ وهاتان الكتفان العظيمتان ، هل كان بإمكاننا أن نتغلّب عليهما لو حاولنا توقيفه بسكينتي وسكين نزيه ليتولى التحقيق معه أقربُ مركز لمسلحي المقاومة ؟ وهَبْنا كنّا قدرنا عليه فبأيّ تهمة بالضبط كنا سنوقفه ؟ نزيه لم يعد وجهُه ينتظر مني الكلام ، فعيناه ترتفعان فوقي وتدوران في السماء ، فتدور عيناي في الفراغ الكبير وأبحث عمّا يبحث هو عنه ولا أرى إلاّ بناية جاد أينما اتجهتْ بي عيناي . فلنخرجْ بسرعة من الشارع ، يقول لي صوتُه المتوتر ، ويركض دون أن يشرح لي شيئاً ، فأركض خلفه ولا أراني وإيّاه إلاّ في مدخل البناية . الآن فقط تلتقط أذناي ما كانت التقطتْه أذناه من لحظات ، والآن فقط يصبح الهدير البعيد للطائرات حقيقةً تحوّم فوقنا بكل الاحتمالات . قدماي على الدرجة الأولى ، وأتوقف . صوته ينهرني ، وإنْ كلماتُه تستوقفني برجاء . يقول لعله خَدَعَنا وتَرَكَنا في مرمى الخطر . أقول في مرمى الخطر نحن ، به وبدونه . يقول قلبي يحدّثني، ويسكت . الذي يحدّثه به قلبه ربما يحدّثني به قلبي ، لو أنه فقط يتمّ جملته ويريحني من التخمين.كلانا ننحني إلى الأرض وكأنّ القذيفة فوقنا مباشرة . ولكن اللحظة التالية تؤكد لنا أننا لم نصب بسوء وأنّ الذي انخطف فوقنا كان طائرة وَطّتْ أكثر من المعتاد . نزيه يصرخ بي أن الطيران ربما يستهدف البناية ويشدّني من يدي إلى الشارع فنعبره ركضاً إلى الزاروب المقابل ونرمي بأنفسنا من فوق السياج إلى أرض البستان الذي تطل عليه تكميليةُ الصبيان . هنا نحن في مأمن ، ولكن إحساسي بالأمن يتناقص مع كل لحظة تمرّ ، فلعلنا بالفعل خُدِعْنا . ثم يدقّ قلبي الدقات التي لم يدقّها من قبل ثم ينهار علينا من فوقنا الهديرُ وينخطف الهواءُ انخطافة البرق وتأخذ تقرقع السماءُ من فوقنا ، فينهض بنا الرعبُ من خلف السياج لتأخذ عيونَنا طبقاتُ بناية جاد ، ينهار بعضها في بعضٍ على صرخات نزيه بأنها القنبلة الفراغية وبأننا ما كان ينبغي لنا أن نتركه يذهب هكذا وكأنّ شيئاً لم يكن، كأنّ شيئاً ، كأنّ شيئاً ، كأنّ شيئاً بالفعل لم يكن .
طَيَّروا الفجرَ من حساب صلاتي والمآذنُ القريبة طيّروا من حناجرها أذانَ الفجر فلم يطلع علينا في أوانه الصبحُ وإن تكن تخنق الشمسُ الهواءَ بحرارتها الآن وتضغط الرطوبةُ على أنفاسنا وصدورنا منذ مكبّراتُ الصوت مشت في الزواريب والأزقّة ، تأمرنا أصواتُها الغريبة بترك بيوتنا والنـزول إلى البحر تحت طائلة الموت إن نحن تمنّعنا أو حتى تلكّأنا ، وإلى بحر العيد بالذات ، بحر العيد بالتحديد ، تأمرنا بالنـزول ، فكيف عرفتِ الأصواتُ الغريبةُ اسم الساحة الممتدة من ميرة السمك الكبرى حتى الحائط الغربي لجامع الكبير ولمدرسة المقاصد ، ومن لقّنها اللكنة التي لا هي بالعربية الصرف ولا بالصيداوية المألوفة لآذاننا ؟ منذلم يطلع الصبح علينا وغربتُنا هي دليلنا الوحيد على أننا لم نزل على قيد الحياة وأنّ الأيدي التي تحمل المكبّرات وإلى جانبها الأيدي القابضة على رشّاشاتها المدلدلة من الأكتاف بأحزمةٍ جلدية لم تمسّنا بالسوء المباشر بل دفعتْنا دفعاً في الأزقة والزواريب حتى وجدنا أنفسنا في عين الشمس، يتطلع بعضنا في بعض ذاهلين عن كل شيء إلاّ الذلّ الذي أخذ يتفشّى في قلوبنا وتتناقله عيونُنا فكأننا نستيقظ الآن على خطيئة خروجنا من بيوتنا ، خطيئةِ إذعاننا لجنود التوراة الذين اقتحموا علينا المدينة من كل منافذها بعد أن مهّد لهم العمليةَ الطيرانُ والبوارجُ والدباباتُ ، قصفاً ثم قصفاً ثم قصفاً ، الآن الآن كأننا تستيقظ عيونُنا لترى ذلَّها مفضوحاً في العيون الأخرى لأهل الحيّ والجيرة ، فالأحياءُ كلها يتعذب بعضها بمرأى بعض ، تُؤمر فتطيع وتُنهر فتصمت ويُشار إليها بالركوع على الأرض فتركع وبرفع الأيدي في الهواء فترفع وبخفض الرؤوس إلى الأرض فتخفض وتُرْكَلُ مؤخّراتُها بالأحذية الغليظة فتطبّ على التراب وتنهض لتستأنف ركوعها في صمت ، في عين الشمس التي ترانا وتحدّق في جمعنا وتمطرنا بأشعةٍ بلا نور وتحاصر أفواهَنا اللاهثة برطوبة لا تبشّرنا لحظةً ببلالة القطر ، فجفافٌ شفاهُنا وألسنتُنا وأنوفُنا وحلوقُنا ، ومثلها كلها ، حناجرُنا ، جفّت فيها أصواتُها فهي صدى لعزيفٍ ووجيفٍ وحفيفٍ وحشرجات .
تُجْفِلُنا طلقاتُ النار فوق رؤوسنا فتنهار أكفُّنا على الأرض وتنحني حتى تمسّ جباهنا التراب، وبعضنا يكاد يكون في حالة انبطاح تامة ، ترى ذلك كلَّه عيناي الحائرتان بين يمين وشمال ، ثم تتبادل الأصواتُ الغريبةُ الصيحاتِ التي تهوي على الظهور والأكتاف رفساتٍ بالأحذية الغليظة تلو رفساتٍ وطقّاتٍ بأعقاب الرشاشات فتتكسر تحتها الصرخاتُ المبغوتةُ من هناك ومن هناك ويموج الأنين بالبكاء ويموج كلاهما بالله أكبر الله أكبر ، وتقترب الأصواتُ الغريبةُ أكثر فأكثر من الإنحناءة التي ينحنيها كلُّ ما فيَّ حتى أنفاسي فينهض بعضي وكأنما يهمّ بالوقوف وتقفز يداي في الهواء ويقفز أمامهما صوتي بأنْ عَلَّمَنا الريّس أن نموت واقفين كما هو مات ، فتطير إليَّ القبضةُ الغريبةُ لتسرق الصيحةَ من فمي ، وتعيدُ إليَّ انحناءتي الطقّةُ التي طقّتْ على ظهري ، ثم لا أحسّني إلاّ والتراب تتبرغل به شفتاي .
لو كان كسر سنسلةَ ظهري فقرّبني من الموت أنفاساً لكنتُ أرحتُه من غضبي الذي استفاق في جسدي تظاهراتٍ نرفع فيها الشخطورةَ الملوّنةَ جوانـبُها بالأزرق الذي تستحليه حتى موجات البحر ، نرفعها آنذاك نكاية بمخابرات الدولة ، وهو فيها جالس في القلب ، ممسكةً كفّاه بحافّتيْها ، تعدّلان من ميلانها كلما مالت بها وبه الأكفُّ الرافعتُها فوق الأعناق ، نسري بها وتسري بنا كلقّات الموج بعضها خلف بعض ، وساحة بحر العيد إن هي إلاّ الفسحة الممتدة من البحر ما بين الشاطئ والجزيرة ، زرقاء زرقاء ، يستحثّنا من زرقتها الحنينُ القديم إلى هزّة السفر ، فتهتزّ بنا أنفاسُنا وأكفُّنا وأقدامُنا وتنهض بنا لتملأ بنا الساحة التي بين الميرتيْن ثم لتغمر بنا الطلعةَ الملتفّةَ بنا إلى شارعِ الشاكريةِ المنعطِفِ بنا وسطُه إلى شارع المطران المنسرحِ بنا إلى ساحة النجمة ، من ساحة إلى ساحة نسري بها وتسري بنا ، مرفوعةً فوق أكتافنا طافيةً كأنما في الهواء ، كما كانت تطفو في بياض الورقات ، على لا شيء ، الشخاطيرُ التي كان يرسمها نزيه كلما عاد من لعبه مع رفاقه في بحر العيد ، لو أنه كان، لو أنه كان كسر سنسلةَ ظهري لكان انتهى كل شيء ، ولكنه اختار أن يكسر سنسلةَ الشيء الآخر فيَّ فضغط بثقله كله على ظهري ، بعكب حذائه ضغط ، فوجهي في التراب الذي تتبرغل به شفتاي، تحت الأنفاس الأقصر من مَدَّةِ الأنفاس والدموعِ التي تتشبّث بها عيناي كما تتشبّث بلمعات الماء الخيوطُ المبلّلةُ من شِبَاكِ الصيادين المنشورة في الشمس والريح على أعمدة الخشب الطالعة لأجلها من قلب الأرض .
لو أنه كسر سنسلةَ ظهري ، لَوْ أَنْ ، ولكنّ الخيلَ المنشقّةَ عنها صفحاتُ التوارة تمتطي لا تزال أطرافَ الصفحات كما لا تزال تمتطي رؤوسَ الأمواج البيضاء الخيولُ المصفّاةُ عيونُها من كل أثر للنور، إلاّ ما كان انعكاساً فيها لإستدارة الزبد على نفسه ، التفافاً منه على لمعة البلالة التي تكاد تطمسها عجرفةُ الحوافر ، في ذلك الفيلم التوراتي المبشّر بزمن الخوف الذي لا زمان له إلاّ صفحات التوراة ، لو أنه كسر كان في عظامي الحياةَ فأراحني من طأطأة الضعف الذي لم تختره لجسدي روحي ولا رضي به هو لنفسه مَعْبراً للعجز فالموت فالفناء ، لو أنه ، لو أنه لاختصرتْ إذن رئتاي وأنفي المقتطفاتِ المهلهاتِ من أنفاسي ولارتفع كان من بين جفوني طيفُه هو، طيفُ ابني نزيه، السابح في بلالة الدمع ولكانت عيناه المغرورقتان بعينيّ لم يشهد اتّساعُهما ضيقَ المسافة التي تُرِكَتْ لأبيه بين التمدّد والانحناء.
الخطوط الدقيقة للخريطة المفصّلة لشوارع صيدا القديمة تستدرجني فأعبر أمام الجند المدخلَ الجنوبي لجهة القلعة البرّية التي هي أعلى نقطة في هندسة المدينة ، أعلاها على الإطلاق بحيث إذا دُلِقَ الماءُ هناك ظل يكرج من تلقاء نفسه حتى ينتهي إلى أدنى بوابة من بوابات المدينة ومنها إلى البحر ، هكذا هكذا ببساطةِ الفكرةِ الفينيقية التي تمّ على أساسها التخطيطُ والبناءُ لهذه التي كانت حاضرةً شمولية الحضور في العالم القديم ، لا بأسطولها التجاري فحسب ، بل بالمعاهد الثقافية التي كان من شهرتها ما دفع بفيثاغورس اليوناني إلى إرسال ابنته الجميلة دامو لتتلقّى ثقافة العصر في الأرض التي كان حتى ملوكها شعراء ، أعبر المدخل وأسير أمام الجند نزولاً نزولاً والحلمُ الذي حملتُه من كتبي يندفن أمام عينيّ في هذه الروائح العَفِنَةِ النَتِنَةِ المكفّنةِ بِصَنَّةِ البول المشبّعةِ بها جدرانُ البيوت على جانبيْ الشارع الضيّق الذي كانت تعبره مواكبُ الأمراء والأميرات في المواسم والأعياد ، وما كان أكثرها وأجملها في ذلك الزمن الذي من سوء حظي اليوم أنني وُلدتُ متأخراً عنه قروناً لا أحبّ تعدادَها لنفسي ، فأترك الحلم الذي حملتُه من كتبي تدفنه العطنةُ والصَّنَّةُ وأعود إلى خطوط خريطتي ، فها نحن نقترب من نقطة تقاطع فننعطف يساراً بانعطاف السهم المؤشّر على الورقة فنسير مئة خطوة على وجه التقريب وننعطف شمالاً فيلوح لنا المدخلُ الجنوبي لساحة باب السراي ، فيشتدّ على الأرض وقعُ خطواتي ويشتدّ من حولي وقعُ خطوات الجند الذين لم يعرفوا بعد سرّ حماسي لهذه الجولة الصامتة التي لا قتال فيها ولامداهمات ، وقد أُخْرِجَ إلى الساحات البحرية كلُّ الرجال والشباب والفتية ، من بيوتهم أُخرجوا بالتهديد بنسفها فوق رؤوسهم إن لم يفعلوا وبالوعد بسلامتهم إذا اتّبعوا أوامر مكبرات الصوت ، فدخولُنا المدينة القديمة لا يُقْصَدُ منه إلاّ تنظيفها من أوكار الميليشيات الصيداوية التي باعت أحياءها للمخرّبين وشاطرتهْم حياةَ الإبتزاز والخوّة والخطف والتصفية والتحشيش والدعارة المنظّمة والمرتجلة حتى صار لبعض نساء الأحياء سلطةٌ على حياة الناس في الأحياء لم تكن لسواهنّ من قبل ، بهذا كله مكبراتُ الصوت أَغْرَتِ الناس بالخروج من بيوتهم وقد حرّكتْ فيهم حساسيّاتِ الشرق التي لم تمت فيهم بعد . تلك خطّة لعلني ورثتُها عن جدّي ، وإذن بعيداً عنكَ يا جدّي ، هي ذي أمامي الساحةُ التاريخية المسمّاة بساحة باب السراي ، وإذن ما عليّ إلاّ أن أحاذيَ حيطانها الشرقية إلى يميني وأتتبّعها حائطاً حائطاً حائطاً حائطاً حائطاً حائطاً حتى العطفة التي ها هي تأخذني أمتاراً في الشارع الطويل الممتد أمامنا نحو الشرق فأتمهل ثم أتوقّف ثم أعدّ أبواب المحلات المغلقة على شمال الشارع ثم يتلفّت بي قلبي يمنةً يمنةً فإذا بي في مواجهة زاروب الحارة المعروفة بحارة اليهود .
يطول وقوفي ، ويطول من الجند التساؤلُ الذي تعبّر عنه تلفّتاتُهم في كل صوب وكأنهم يستدرجون من فراغ المسافات التي حولنا شرحاً لهذه المهمة التي بدأت بلا تمهيد وتوقفت فجأة بمدخل زاروب الحارة التي لم يعرفوا بعد أنها أكثر من حجارة يعلو بعضها بعضاً لتستقيم حيطاناً وفوق الحيطان تمتد سقوفاً . لالم يعرفوا بعد أنها جزء كاد يصبح منسيّاً من تاريخ أجدادهم وشاهدٌ حسّيٌّ على ترحالاتهم السحيقة في الزمن التوراتي إلى قلب الحواضر المنشورة على شطوط البحار لمشاطرتها صناعة التاريخ وتعديل الخرائط ، السمتيْن اللتيْن اشتُهرت بهما عصورُ الأنبياء . إخفضوا أسلحتكم ، كأنما أصرخ بهم ، واخفضوا كذلك رؤوسكم ، ففي داخل الحجرات القابعة وراء الحيطان ، لمئاتٍ من السنين بل ربما لآلافٍ ، كانت تُرَتَّلُ هنا صفحاتُ التوراة وكانت تُأَوِّبُ مع كل مرتّل لمزامير داوود أصواتٌ لأجنحةٍ لا يراها الذي يسمعها ولايسمعها إلاّ توأمٌ لملاكٍ كريم .
كأنما يقفز اثنان من الجنود أمامي في داخل الزاروب غير عابئيْن بأوامري وتقفز عيونهما في أرجاء الساحة وقد اتخذتْ أيديهما وَضْعَ المهاجِم الذي ليس بينه وبين عدوّه الواقف خلف باب من الأبواب أو بين درفتيْ شبّاك من الشبابيك إلاّ ضغطة الإصبع على الزناد . لا هما يتوقفان ولا أنا أعرف ماذا أقول لهما ، وقد تبلبلتْ نبرةُ صوتي فغريبةٌ هي حتى على أذنيّ وعاجزٌ أنا تماماً عن استرجاع الهيبة العسكرية لحنجرتي . قدماي وحدهما تنجداني فتدقّان على البلاط الحجريّ الدقّات التي لن تتجاهل عزمَ انضباطها أذنٌ من أمامي ولا أذنٌ من ورائي . ولكن عبثاً عبثاً ، فما إن أُصْبِحُ في أوّل الساحة حتى يحيط بي الجند على شكل دائرة ، وأيديهم مرفوعة من حولي في الهواء ، مصوِّبةً إلى الحيطان العليا للبيوت وإلى السلالم التي لا درابزين لها وإلى درف الشابيك العتيقة .كأنما أصرخ بهم أن يخفضوا أسلحتهم وتسرع يدي إلى حزام مسدسي . صوت شيمونْ أَزَرا يأتي من فوق كتفي اليمنى أنْ هذه الحارة ضبطوا فيها صباح اليوم مجموعة من أفراد الميليشيات الصيداوية بثياب مدنية لتمويه خطّتهم الهادفة إلى اصطياد دورياتنا بكواتم الصوت المخبّأة في بئرٍ جَفَّتْ مياهُها من سنين . خذني إلى تلك البئر ، وخذني إليها الآن، كأنما أصرخ في وجهه وتهزّه من كتفيه قبضتاي . تأكّدا من خلوّ المكان ، يأمر صوتُه اثنين من الجند بدخول البيت الذي في أقصى يسار الساحة . يغيبان في ظلمة لا أراها ثم يخرج أحدهما معلناً أن لا أحد في الداخل بينما يظل الآخر واقفاً بالباب . دقات قلبي تسبق دقات حذائي على البلاط الحجريّ ، فما هي إلاّ خفقات حتى أراني أقف تحت السقف المعتم إلاّ من غبشة النور الضئيل المتسلّل إلى الغرفة عبر الباب الضيّق . يشير شيمونْ أَزَرَا إلى دائرة في الأرض وينحني فيرفع عنها دائرةً من الخشب ويضعها جانباً ثم يسلّط دائرةً من نور مصباحه الفلاش إلى قلب الفراغ النازل قامةَ رَجُلٍ في الأرض . أنحني وأثـبِّتُ نظري في التراب الذي اصطدم به الضوء . ذلك هو قعر البئر إذن. احفروا مسافةَ متر واحد ، كأنما يقول لهم صوتي الذي لم أعد أعرف كيف يسمعونه بعد أن أصبح غريباً حتى على أذنيَّ . نحفر أين، تسألني عيونهم . هناك هناك في أسفل البئر ، مسافةَ متر واحد ، كأنما يحثّهم صوتي وينتظر . العيون الآن كلها عليّ ، أحسّها ولا أتطلّع فيها ولا ألتفت إلى النظرات التي تتبادلها العيون التي خلفي . العيون كلها عليّ ، بل لا ، ليس كلها ، فها بعضها يلحق بالجندي الذي ها هو يقعد على الأرض ويدندل رجليْه في دائرة الفراغ ثم يقفز ويعالج نفسه حتى يتسنّى له الركوع على رِجْلٍ واحدة ويروح يحفر بسكّينه في التراب . مُدّوا له أكفَّكم ليملأها بحفنات التراب المحفور . تطيع شيئاً في صوتي الأكفُّ كلّها فتتسع دوائرَ دوائرَ على حفافي البئر فيملؤها التراب وترمي به جانباً ثم يملؤها وترمي به ثم ينفجر الصوت من قعر البئر أنّ في القعر حلقة. شُدَّها بكل ما في قلبك من قوة . يشدّها بكل ما في قلبه من قوة . وكما تتداخل البروق والرعود في ليالي الشتاء العاصفة ، يدوّي في اللحظة ذاتها الصوتُ الشادُّ بالحلقة وصوتُ هديرِ الماءِ يضرب سقفَ الغرفةِ وينصبّ من فوقنا كالموج المنكسر على صواري السفن. وحين يصلصل صوتُ جدي في أرجاء حارتنا وتطقطق لصلصلته الحيطانُ والسقوفُ والسلالمُ والأبوابُ، تأخذ تهدأ المياهُ في هيجانها شيئاً فشيئاً حتى لا تعود تُسمع لها إلاّ بقبقة ٌكبقبقة مياه النبع على سطح الأرض . الآن أحسبني أفهم معنى الحكاية التي كان يحكيها لي جدّي عن الحارات التي دأب على بنائها وسَكَنَها في حواضر الشطوط القديمة أولئك الذين غنىّ مزاميرَه لأمّتهم داوودُ النبيّ . أطأطيء رأسي فوق الحكاية وأزيح المزاميرَ إلى ما وراء ذاكرتي فيسقط من فوق جفوني ما كان علق بجفوني من مطر البئر الذي نبعت به الأرضُ ولم تسقطه علينا من الأعالي السماءُ .
حين أرفع رأسي من لحظة الحلم ، على رفرفة جفوني ، أتذكر أنّ الجند حولي في الشارع لا يزالون ينتظرون أوامري بدخول الحارة التي لم يعرفوا بعد سبب وقوفي بأوّل زاروبها طويلاً طويلا .
من القلعة البرّية إلى ساحة البوابة الفَوْقا لا بدّ من المرور بمقبرة الشيعة الصغيرة ِ، وصغيرةٌ هي بالمقارنة مع مقبرة السنّة ، صغيرةٌ ليس لأن الشيعة يعمّرون أكثر من أهل السنّة ولكن لأنهم أقلّية في هذه المدينة ، كالمسيحيين تقريباً ، رغم الشائعة عنهم أنهم ينافسون الفلسطينيين في إنجاب الأطفال، أولئك للمباهاة بهم يوم القيامة وهؤلاء لتدريبهم على قتالنا لاسترجاع فلسطين . أقول لنفسي مقبرة شيعية خيرٌ لنا من مقبرة فلسطينية ، أقولها ثم أغيّر رأيي وأنا أشير إلى الجند بالخروج واحداً واحداً من الملاّلة والسير في الخط الذي كنتُ رسمتُه لهم ، وأقف أنظر إليهم يبتعدون عني ويهبطون في الليل غبشة غبشة .
لو أراد الله أن يجعل الليل عليَّ سرمداً لما قيّض لي أن أهتدي في آخر هذا السرداب إلى الدرجات السبع الضيّقات التي ما ارتقيتُها إلاّ بحشر نفسي حشرةً قصّرت عليَّ أنفاسي وأرغمتني على أن ألوي رقبتي إلى أسفل ليتسنّى لكتفيَّ أن تنهضا بالدرجة السابعة التي لم تكن إلاّ غطاءً لفتحةٍ في سقف السرداب تسلّل منها خيطٌ من الضوء يستدرجني إلى رحابة النهار . ولكنّ النهار يبدو الآن في آخره ، فالشمس تنـزلق أشعّتُها عبر زجاج النافذة المكسور في الحائط الغربي من الغرفة التي كل ما فيها يقول لي بأنها مهجورة لأنها ببساطة لا شيء فيها إلاّ الفراغ تحيط به الجدران الأربعة والسقف والفتحة التي سددتُها بالدرْجة السابعة بعدما تأكدتُ أن بقيّة الغرف مهجورة هي الأخرى وكأنما من زمن بعيد . عيناي تتعلقان بالأشعة وكأنما لتختزناها في احتمال ليل آخر مظلم طويل . لو أراد الله أن يجعل الليل عليَّ سرمداً لكنتُ لا أزال الآن مطموراً في ظلمة الأرض ، ولكنني نُجّيتُ ، فالظلام مهما اشتدّ فوق الأرض يظل ظلاماً اعتادته العيونُ وألفتْ منه الهدأةَ التي تشتاقها النفسُ بعد هرج النهار ومرجه ، بعد هيجاناته وقلقلاته ، لتسترسل في استرخاءات اليقظة الأخرى . أجلس على الأرض في بقعة النور الآخذ في الانسحاب عني عبر زجاج النافذة المكسور فأتأمّلها وأتأمّلها حتى تستحيل في عينيّ إلى بالونٍ منفوخ أصفر مربوط بخيط تشدّه إلى خارج الغرفة أصابعُ ولد صغير يلعب في حديقة البيت .
إسترخاءات اليقظة الأخرى ، ذلك ما يخيفني الليلة ، فالليلة شوقي إلى رائحة المساجد لن يفوقه شوق بعد رائحة السرداب ، التي لولا دخان الشمعة وشحطة الكبريت ، لكانت أشبه برائحة القبر ، ولقد غشيني ، رغم توكلي على الله ، الخوفُ من أن أُقْبَضَ إلى بارئي وأنا في حالة الإختباء من الذين يبحثون عني ، أنا المبشّر بالشهادة سبيلاً إلى لقائه ، تعالى وتسامى في ملكه وملكوته . رائحة المساجد ، بسجّادِها وحُصُرِها وحتى بلاط ساحاتها ، بل حتى مُتَوَضَّآتها العتيقةِ حنفيّاتُها ، رائحةُ الأذان في المآذن ، ورائحة إقامة الصلاة ، ورائحة ركوع المصلّين وسجداتهم ، بل حتى رائحة همهماتهم ، بل حتى رائحة اللهفة في عيونهم والأمل واليأس والخوف والضراعة ، المساجدُ المساجدُ الليلةَ حِرْماني منها الغربةُ والنفيُ والتشرّدُ والرحمُ المقطوعة ، وأقول عن كل ذا باللفظ المقلوب إنه استرخاءات اليقظة الأخرى ؟ فأنّى وأنّى لذلك أن يكون إلاّ في رأسٍ حوّله السرداب إلى سرداب . زجاج النافذة المكسور في الحائط الغربي يمتلئ بالغبشة التي تشتدّ وتعمق لحظة بعد لحظة حتى تلتحم أطرافُ الزجاج بنسغ الليل الذي لعتمته قدرةٌ على اجتراح المعجزات في العين التي ترى كما في القلب الذي يفقه بالشهود حين لا ترى العين .
كل هذه الخواطر والأفكار لا تنفعني الآن ، فالليل في أوّله لا يزال . أمدّ أمامي قدميّ وأتكيء بكتفي اليسرى على الأرض وكأنما لأتخذ هيئة المسترخي ، كما يحلو لي أن أفعل في المسجد وأنا أنتظر من صلاة إلى صلاة . خدعة جسدي لا تنطلي على تشنّج الصُّوَرِ التي يُؤجَّج بها خيالي فأوهم الصوت في داخلي أنني أصغي إليه لعله يفرغ نفسه من نفسه فيريحني ويرتاح .
إن ينقموا مني تبشيري بالشهادة التي هي أعلى درجات الجهاد ، فإنهم ينقمون مني إسلامي كله، وإن يكن مثلي همّهم فاجتياحهم إذن للجنوب لا يستهدف الوجود العسكري الفلسطيني فيه لدرء خطره عن مستوطناتهم الشمالية ، ليس ذلك فحسب ، بل كذلك السلاحَ الروحيَّ الكامن في هذا الشرق الإسلامي ، والذي يجهض كمونَ القدرة التدميرية في آلتهم العسكرية ويقلبها همّاً على مخترعيها ومزوّديهم بها كلما ازداد يقينهم ثبوتاً أنها المحفِّز الأكبر للروح التي ما إن يتسلل إليها من بعيد هسيسُ الخطر وحسيسُه حتى تنهض بها كبرياؤها لتبحث عنه مع أي ريح أتى ولتسعى إليه لتوفّر عليه مشقة العبور إليها . روحُ الشرقِ الإسلامي سردابُ هذا الشرقِ ، لا يعبره إلاّ حافروه وساكنوه ، وإذن فهمّهم، هم الغرباء عنه ، رموزه فوق سطح الأرض ، وهل غير جسدي مادّةٌ لهذا الرمز الذي لن يقدروا إلاّ عليه إذا هم وصلوا إليه ؟
أمسح على وجهي بكفّ يدي اليمنى لأخفّف عنه شيئاً من تراكم العتمة وآخذ أنفاساً عميقة متتالية لأحسّ بأن شيئاً غير الأفكار فيَّ لا يزال يتحرك . الصمت الرابض على الغرفة وخارجها يوقظ في خيالي خطّة بسيطة للتسربل بالليل والتسلل من هذا البيت المهجور إلى حيث أكتشف أين أنا بالضبط من جهات المدينة وإلى أيٍّ من شوارعها أو ساحاتها الرئيسية أنا أقرب . طبعاً هذا ما ينبغي عليّ القيام به لمعاودة الإتصال بالشباب الأربعة لمعرفة كل ما يجري وكان جرى منذ الليلة التي حدّدتُ لهم فيها مهماتهم وودّعتُهم في جامع الكبير ، ليلةَ مَكَرَ في مراقبتنا عَراّبْ الهشيمْ ومَكَرْنا ، ولكنّ خروجي الآن ، إن خرجتُ ، مجازفة أكثر منها خطّة محكمة الحبكة ، فلم تسترخِ بَعْدُ دوريات المساء من تجوالاتها ، وحتى إن هي توقّفت ، فالجنود أعصابهم لم يَتَسَنَّ لها بعد الإسترخاء الذي هو شرط لنجاح تسلّلي إلى حيث قررتُ . أمسح من جديد على وجهي بكفّ يدي التي ما إن تمرّ على شفتيّ حتى تستوقفها تثاؤبةٌ تطول وترتدّ حتى لتكاد تنخلع فكّاي إحداهما عن الأخرى . أحيط فكّي السفلى بكامل يدي وأشدّ عليها من الجهتين مرة بعد مرة حتى تسترخي عضلاتها التي كادت بالتثاؤب تتمزق .
تتدلدل يدي على الأرض وتظل هناك فأنظر إلى حيث هي ولا أراها ، وأثـبّت نظري على أصابعي المعكوفة إلىقلب راحتي ، معكوفةٍ لا بتشنّجِ قبضةٍ للعراك بل بالفطرة التي في طفولتي ثم في أيام وَلْدَنَتَي كنتُ ألتفّ بها على نفسي في فرشتي فتضحك مني أمي وتقول هكذا كنتَ في بطني قبل أن تولد يا ولدي ، والطبيب يقول هكذا كل ولد يكون في بطن أمه . وتُمَلْمِسُ على رأسي أمي وتملمس وتكرج رؤوسُ أصابعها وراء أذنيّ وحول رقبتي كأنني هرّة صغيرة يلاعبها الأولاد ، فأتزكزك وأتلوّى في الفرشة حتى لا أعود أحتمل فأتكركر بالضحكة المخنوقة وأفتح عينيّ وأصيح من خلال الضحكة بأمي أن تتركني ، ولا هي تتركني ضحكتُها وأصابعها ولا أنا أقدر أن ألتفّ على نفسي في فرشتي لأنام ، ولكنها في النهاية يناديها أبي أو تحدّثها أختي أو تدقّ علينا البابَ جارةٌ من الجارات فتنهض عنيّ وتبتعد خطواتُها حتى لا أعود أسمعها فتعود وتلتفّ على بعضها أطرافي ورأسي ويتكوّر ظهري ويأخذني شيء كالخدر في عينيّ وجسمي ويظل يأخذني ويأخذني ويأخذني .
من كل جهات الأرض تنصبّ الأصوات في ساحة النجمة ، فالشوارع التي أعرفها كلَّها ولا أراها في ليل القصف المجنون علينا كأنها منحدرات تتدفّع فيها السيول ، ولكن بغير ماء بغير ماء بغير ماء، فالمطر الذي لم يهطل علينا مطراً مرّغ ساحتنا بالدم الذي سُرِقَتْ منه حمرتُه وبشظايا القذائف والقنابل وحيطان الأبنية والزفت المقلوع من الحفر المفجوعة بالأطنان وبشظايا الجثث التي خلّعتْها ونتّفتْها القنابلُ الصوتيّة التي حذّرناهم منها فسمعوا ولم يحذروا ، فمن كل جهات الأرض تنصبّ الأصوات نحو الساحة تستصرخ الليل أن يحلّ عن ساحتنا لنقلّب بنور عيوننا ما لا تراه الآن عيونُنا ، ومثلهم كلهم ، مثل الراكضين المتخبّطين المتلعثمةِ أقدامُهم بأقدام بعض ، المصفوقةِ أكتافُهم بأكتاف بعض ، أهرع أنا من مخبئي في بناية البلدية نحو البوابة التي طيّرتْها القذائف ، عبر الممرّ أمدّ خطواتي التي تفصلني عنهم خطوات ، حتى إذا ما انخلع من حنجرتي صوت فيه أكثر من صرخة وأكثر من استغاثة ، على مرأى الديماسي والقبرصلي يحمل كلٌّ منهما شظيّةً من اللحم الممزّق ويدور بها في الجمع ليطمّنوه أنها ليست من لحم ولده ، إذذاك إذذاك ، وقبل أن تهدأ من الصوت حنجرتي ، عيناه، هو هو ، تتشبّثان بعينيّ في غبشة الليل وتتّسعان اتّساع كتفيْه العظيمتين لتملآ كل أنحاء الساحة والليل .
هيجةُ الناس ، طوشتُهُمُ ، انكسارُ موجةٍ من موجاتهم على مساحة البوابة التي كانت طيّرتها القذائف ، كلها كلها تلاطم اتّساع عينيه وكتفيْه وخطواته وتثبّت المسافة بيني وبينه فكأنها سدٌّ صُبَّ على حديده النحاسُ فلا تخرقه نيّةٌ ولا تستقوي على قوّته قوةٌ ، ويضيع من عينيَّ القبرصلي والديماسي وتسحبني إلى الوراء الوراء الغبشةُ وتستدير بي وتلفّني على نفسي وحول عطفات الأبواب التي كنتُ عبرتُها في طريق خروجي من مخبئي ، تلفّني وتلفّ في رأسي الأفكارَ التي تستحيل إلى نافذة طارت كانت من مربّعها في حائطٍ لغرفةٍ في عمق المبنى فتنطّ بي النافذةُ إلى طرف شارع رياض الصلح الذي يركض بي مسافتَه إلى الممرّ بين بناية كاراج حبلي وبناية حلويات كنعان فتحاذي قدماي محلّ الشريف للملبوسات والمحلّ الذي يليه والذي يليه ويليه ، وتنهب المسافةُ خطواتي إلى شارع الأوقاف ومنه إلى شارع المطران فعن يميني سينما الريفولي وبعدها سينما الكابيتول في النـزلة النازلة بها إلى اليمين اليمين، وعلى أوّل النـزلة اللحّامُ في المطعم الصغير الذي أحبّ شواءه ، مغلقٌ مغلقٌ بابُه بابُه ، مؤجَّلةٌ لا مؤجَّلةٌ رائحتُه رائحتُه ، وعن يساري الكنيسةُ الكنيسةُ ، واقفاً على مسافة عريضة من الرصيف حديدُ سورها وبوابتها بقضبان لا تحجب عن العين المارَّةِ الساحةَ الرحبة الرحبة في الغبشة التي تعطف قدميَّ عند بائع الخضرة الذي أظل أنسى اسمَه واسمُه من نبت الأرض وحشائشها فإذا أنا في منتصف شارع الشاكرية الذي لا يعبر بي إلى معمول القصير الذي بجانب الصيدلية بل يشدّني جنوباً إلى مطحنة البهارات ، فالمطحنة التي بجانبها ، فإلى فلافل العكاوي ، فشوكولا وملبّس وملبن النقوزي، فحلاوة البساط بالطحينة السادة والفستقِ الحلبي والجوزِ والشوكولا ، ففلافلِ بْديعْ ، فالسمك المدخَّن المملّح على باب البقّال القريب ، والأبوابُ الأبوابُ مسدودةٌ مسدودةٌ في وجهي ، مؤجَّلةٌ مؤجَّلةٌ إلاّ من الروائح التي يتعلّق أطرافُ بعضها ببعض فهي تلحق بي مع كل لفّةٍ ، عبر كل ساحة ٍ، فتشتد وترخى وتزحم أنفي فتدغدغه ثم تبخل عليه ، تحرقصه ، فتنتفي لحظات تنحشد بعدها ، لا في فتحتيْ أنفي ، بل خلفي خلفي، تجلدني بانحشادها وتَدافعها ، فهي المظاهرة التي لا منظِّم لها يوجّه مسيرتها ولا شخطورةَ فيها تتململ فوق الأكتاف ولا في الشخطورة أحدٌ يتمايل بتمايلاتها ، تلحق بي تلحق إلى ساحة المصلبية التي قبل مدخلها بقليل ألوانُ المشبّك في صدر المشبّك ولمعانُ القطر عليها فالشعيبيّاتُ المصفوفة كلّ شعيبيّة حَدَّ أختها في صدر الشعيبيّات الموحِّدِ ربَّه في المحلّ الذي مرةً قيل هاجر إلى البرازيل صاحبُه ، ثم تدفع بي في انحدار الدرجات العريضات الدرجات العريضات تنـزل بي وتنـزل بين قهوة القزاز العابقة برائحة الأراكيل ومطعم فلسطين العابق بالحمّص والفول والخبز الأسمر والبصل والنعنع ، وها شيءٌ كالنيّة التي حاكتْها على الطريق الغبشةُ يلويني إلى باب حمّام الشيخ، فما هي إلاّ وأنا في وجه كتفيْن عريضتيْن تستوقفان كلَّ ما فيَّ ، فأكاد أرتدّ ، ولا أرتدّ ، لأن الوجه الذي فوق الكتفيْن ليس ذلك الوجه ، الوجه الذي ، بل وجهُ المسؤول عن الحمّام ، وجهٌ كأنما كان ينتظرني من زمن بعيد ، أو لعله كان ينتظر أحداً غيري ، بل هو يبدو عليه كأنه وُلِدَ منتظراً أحداً لا يصل . والواصلُ الآن أنا وليس سواي ، لتلقاني وتحوطني رائحةُ الصابون ، يعفّ بها كل شيء ، أرضُ الحمّام وحيطانه وغرفه وسقفه وهواؤه المجبول بالأبدان قبل تحمّمها وبعده ، رغوةً ممجوجةً في رغوة فوّاحةٍ بالطّيب ، تلقاني وتحوطني وأنا صامت في عينيه ، لا أقول له ولا يقول لي ، ولكنه كمن أفاق يفيق من خَدَرِ انتظاره الطويل ، تومض في وجهه عيناه ويتلفّت حواليه بحثاً عن لا شيء بالضبط ، لا شيء أعرفه أنا ، حتى إذا ما انسلّ ينسلّ كله من دائرة الخدر يشير إليّ بعطفةٍ جانبيةٍ من رأسه ويسير فأتبعه ولا أعرف كيف يدخل أمامي الحائطَ فأدخل وراءه وينحني في زاويةٍ لمكانٍ لم أره قبل الآن ويشدّ بحلقة في الأرض فيرتفع تحت عينيّ من الأرض مربّعٌ تختبيء تحته درجاتٌ تهبط شيئاً فشيئاً ، لا انحداراً في عمقٍ بل تدرّجاً سائراً كأنما إلى الأمام . أنظر إليه ينظر إليّ وقد أراح المربّعَ إلى يمين قدميه ، ومن أين أتى يأتي بعلبة الكبريت والشمعة لا أفهم ولن أفهم ولن أعرف ، ولكنني آخذهما منه لتسبقني عيناي ، على شحطة عود الكبريت ولهب الشمعة ، إلى حيث أسير وحيداً وحيداً في عين اللحظة التي تضرب أذنيَّ فيها هبطةُ المربّع ورائي في مكانه الذي قد لا يُفتح من بعدي أبداً .
حتى الحرب لها أرزاقُها ، وإن لم أشترِ أنا بضائعهم وأسوّقها فغيري سيشتري ويسوّق . من صور إلى النبطية فإلى صيدا الآن ، من حبّة العلكة ولوح الشوكولا إلى علبة المعكرونة والمعلبات على أصنافها ، إلى الخضار والفواكه ، الأسواقُ كلها امتلأت ببضائعهم ، المكتوب عليها بالعبرية والمكتوب عليها أنها صنعت في لبنان ، والأسعار مَغْرَقَةٌ لأسعار المنتوجات اللبنانية ، والمنافسة ممنوعة ، لأن الطلب على الأرخص يزداد والزبائن بطرف عيونهم يمرّون على الحروف العبرية ويقلّبون العلبة والتنكة والمظروف وكأنهم لم يَرَوْا ، على طريقة التطنيش وسياسة ما باليد حيلة وداوِ الحاضر بالحاضر، وأنا تقف الفانات بباب محلّي كل يوم قبل الظهر ، يتنافس أصحابها في عرض ما استجلبوه أو استُجلب لهم عبر الحدود الجنوبية ، بسعر الكلفة ، بل حتى بأقل من سعر الكلفة ، ليتعوّد الناس على الأسواق الجديدة التي فتحتها الحربُ لتسهيل الحياة على الناس الذين لا ذنب لهم ، يقول السماسرة ، إلاّ أنهم غُلِبوا على أمرهم فاستُعملت حدودُهم لضرب شمال إسرائيل وأنهكتهم استباحاتُ الميليشيات والأحزاب لأرزاقهم ولأملاكهم بالخوّة والإبتزاز والصَّلْبَطَةِ على الدكاكين والمتاجر والمحلات والسوبرماركتات ، وإن يكن الغرض من كل هذه التسريبات والإغراءات يـبقى مبطّناً ، فاليهود يُغْرِقون السوق حتى يُفلسوا الذين لا يتعاملون معهم وليحوّلوا البلد إلى سوق استهلاكية لهم ، بالرغم من ذلك ففي الدعاية كلها شيءٌ من الحقيقة ، فمنذ دخول اليهود صيدا ، بل حتى وهم يقتربون إلينا من الجنوب شيئاً فشيئاً ، لم أَعُدْ أرى مسلّحاً من مسلّحي الحيّ أو الأحياء الأخرى أو الحواجز الثابتة والمتنقّلة يدخل عليّ المحلّ ويطلب قنينة البيبسي وعلبة الملبورو وعلبة السردين من هنا والتونة من هناك وربطة الخبز ، يحملها كلها في كيس ، الكيس طبعاً قبل كل شيء، يحملها ويضرب كفّه في جيبه ثم الكفّ الأخرى في الجيب الأخرى ، ثم ينفخ نفخةَ الذي نسي عِمْلَتَهُ في البيت ، فسجِّلْ على الحساب يا كسّاب واصبرْ على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً . من أين لي بالهجر الجميل وهم الذين يسومونني هجرتهم إليَّ ، ينقّونني من بين كل دكاكين الحيّ ويحطّطون عليّ وكأنّ مالي حلال عليهم حرام عليّ ؟ صَلْبَطَةُ الجوع والعطش وتَدَنّي معاشات الميليشيات أفهمها كلها وأعرف أنّ السلاح مفسدةٌ للشباب ، ولكن لماذا الكيس ونهايتُه أنه سيُرمى في الشارع ، لأنهم بالطبع لن يأكلوه ، وأنه ستحمله الريح من جوّ إلى جوّ ، مالاً سائباً في الفضاء.
أعبّيءُ من كيس الرزّ الخيش في أكياس النايلون كيلو كيلو وأعقد حول رؤوسها ربطات النايلون وأصفّها على الرفّ قرب أكياس الثلاثة والخمسة كيلوات ، أعبّئها وأسرع قبل حلول الظهر واجتياح الزبائن لمحلي وكأنما يتذكرون في وقت واحد أنني موجود ، يذكّرهم بي جوعُهم وعطشُهم ، وأعدّ ربطات الخبز العربي التي أنزلها الموزِّعُ من الفان ورمى بها على عجل على الطاولة لأنني كنتُ في لَهْوَةٍ عنه أتسلّم من فانات الجنوب لوائح مفصّلة بأسعار الدبوس والإبرة وبكرة الخيطان ولفّة المغّيط المدوّر والعريض وأزرار الفساتين والقمصان والبناطلين والسحّابات الطويلة والقصيرة والمسمار والبرغي والعزقة وعلبة الشحمة ولفّة الشرطِطون الأسود والبرايّة والمحّاية وقلم الرصاص وقلم الحبر الناشف ودفتر العربي ودفتر الإنكليزي والفرنساوي ودفتر الحساب ودفتر الرسم وأقلام الرسم الملوّنة الخشب في علب مستطيلة وعلب ألوان الرسم المائي والفراشي الرفيعة والعريضة والوسط وقناني الصمغ والمساطر الخشبية والمعدنية والبلاستيك وقناني الحبر الأسود والأزرق وشنط المدارس لأولاد المدارس بالقشاط الطويل للذين يحبّون تعليقها بالكتف وبالقصير للذين يفضّلون حملها باليد ، فأقرأ اللوائح من أوّلها إلى آخرها ، أدرس أسعارها بالمفرّق والجملة وأقارن أسعار هذا بذاك وأزمّ شفتيّ دون أن أنظر إلى الموزّعين ليفهموا أنني عتيق في المصلحة وأحسب نسبة الربح من الأسعار كما تحسب النحلةُ نسبةَ الرحيق في الزهرة . أظنني نسيت لوائح البنّ والشاي وصناديق الكبريت والبهارات . دعساتٌ غليظة على مصطبة المحلّ تلفتني من الرفوف إلى الباب .
أربعة من جنود اليهود يدخلون واحداً واحداً ورشاشاتهم معلّقة بأكتافهم وعيونهم تتوزّع زوايا المحلّ ، ولا يكلموني ولا يتكلمون فيما بينهم ، فأنقل نظري بينهم وأنتظر . أقربهم إليّ أكبرهم سناً ، وجهه أسمر كأنه من اليمن ، ولكنني لن أعرف حتى يتكلم . أنتَ ابن صاحب المطعم إذن ، يسألني بالعربية فيرتاح فيَّ شيء حتى وإن بدأ يقلقني السؤال . أقول له نعم وأنتظر . يبدو أنك تحسن التجارة ، يقول ويده تشير إلى رفوف أكياس الرزّ ، فيبتسم الثلاثة الآخرون في صمت . أشرح له أن تحضير الأشياء موزونة موضّبة يسهّل البيع ويوفّر عليَّ الوقت وقت العجقة ، ولا أشرح له لأنه بحاجة لشرحي ولكن لأبدو طبيعياً أمامهم . وكيف يقولون إن الوقت لا قيمة له عند ... ويتردد في اختيار الكلمة ثم يحسم أمره على كلمة عندكم ، وظني أنه كان على وشك القول عند العرب . عند العرب أو عند الجرب ، لا يهم الآن ، ما يهمني هو معرفة ما يريدونه مني اليوم ، فليست هذه أوّل دورية تمرّ عليَّ . أفتح فمي لأسأل إن كانوا يريدون شراء شيء فيقطع عليَّ الفرصةَ الذي أحسبه من اليمن فيخطو نحو الرفوف ويتحسس لوح شوكولا ويقلّبه ويهزّ برأسه مبتسماً . هل تعرف أين يختبئ حنقير؟ يريد أن يأخذني على حين غرّة ، أن يبغتني بالسؤال ، فأبغته بالجواب أن لا علاقة لي بالمطعم وعمّالِهِ من قريب أو بعيد . أنا لا أسألك عن العمّال بل عن ابن عمتك الفلسطيني . صوته راح منه الهدوء وعيناه راح منهما الإسترخاء الذي غشّني للحظات . ربما كان يجب أن أتمهل فلا أجيبه على عجل وكأنني لا آبه لأهمية السؤال الذي طرحه عليَّ ، ولكن فات الأوان الآن ، وغلطة كسّاب بألف غلطة . ربما لجأ إليك لتخبّئه في بيتك أو في المخزن الذي تحت البيت . أؤكد له بهدوء أنّ ذلك لم يحدث وأنني لم أرَ حنقير منذ شهور . أقولها ورأسي يحمى كالنار وحلقومي يتبرغل ويشحرق فأهمّ بالسعال ولكنني أجاهد نفسي وأحرّك لساني في فمي ليتحرّك فيه اللعابُ حتى لا أختنق من حالة الجفاف . رأسه يهزّ لفترة طويلة وعيناه مثبّتتَان في عينيّ كأنه لا يصدِّقني . ولستُ ألومه . لا شيء يتحرك الآن ، لا شيء يقال ، والوقت ثقيل ثقيل . ثم يخرجون كما دخلوا واحداً واحداً دون أن يلتفتوا إلى الوراء ولو مرة واحدة . وإذ تنقطع أصوات دعساتهم الغليظة أتذكّر جدتي أم يحى . لوكانوا اجتاحوا الجنوب يوم وفاتها لكانوا شاركونا في الجنازة وتقبّلوا معنا التعازي بها بنسبة الدم اليهودي الذي يقال إنه أتاها من جهة جدتها لأبيها أو لأمها كما في بعض الروايات التي تُروى ولا تُروى إلا همساً . عُلَبُ جبنة البيكون المصفوفة أمامي على الطاولة تذكّرني أنني لم أتناول فطوري بعد. على الأقل البيكون فرنسية . نكايةً بهم سأفطر منها اليوم وغداً وبعد غد حتى لا أنفّعهم بِشيِكلْ واحد .
فَرْدْ ال12 كولْتْ ورصاصاته التي كل حبّة منها أحلى من ليرة الذهب أقنعتُه آخر الأمر أن يخبّئها من أعين الإسرائيلين الذين جعل ضابطهم ديفيد مردخاي من مبنى دار المعلمين القريبة منّا مركزاً لجنوده وشاحناته وجيبّاته وبعض مصفحاته . جهّار ، جهّار الذي لا يقنعه أحد أن يبقى مجرّداً من السلاح للحظة واحدة ، أقنعته أنا أن يحمي الفَرْدْ قبل أن يستحْلوه ، أن يضنّ بهذه القطعة الجميلة أن يصادروها وهي التي ليس في كل الجنوب اللبناني من يملك مثلها سلاحاً إلاّ عادل بك ، الذي يموّلنا كل سنة بملء الكفّين المفتوحتين رصاصاً ، وذلك من باب التكريم لأبي المصرّ على ألاّ يهديه في موسم البلح من كل عام إلاّ أجمل قرط بلح أصفر في سقي صيدا . خبّأ الفَرْدْ أخيراً بعدما حلّيتُه له في عينيه ، وقد كان تغيّر وتبدّلت فيه أشياء لا أفهمها ولا أحصيها منذ دخل الإسرائيليون صيدا ، فهو لا ينام ، إذا نام، إلاّ وهو جالس على كرسي ، مرة خلف ال COUNTER ومرة في زاوية المطعم حيث كان يشاركه الجلسة في تلك الأيام عازر الديّار ، يغفو وقد تدلّى رأسُه إلى الأمام حتى تصل ذقنه إلى صدره فَيَنْقَزَ ويرفع رأسه من جديد ليأخذه النعاس من جديد بعد لحظات ويحني له رأسَه فيتكرّر المشهد ساعات وساعات ، حتى إذا ما أفاق على وهلةٍ انتفضتْ عيناه في أرجاء المطعم وكأنه يتوقع رؤية أحد هنا أو هناك . ثم مشيُه الصامت الذي طال وطال حتى لا أعرف إلى أيّ حالة سينتهي به . ثم حديثُه إلى نفسه وكأنه مُغَلَقٌ عليه في غرفة مع واحد من أفراد شلّته ، يحدّثه وينصت كأنما إليه فإذا لم يعجبه من كلامه شيء قطّب حاجبيْه واهتزّ رأسُه بالمرارة والخيبة وكذلك اهتزّ بالغضب المكظوم الذي لا يتسرب إلاّ تمتمات من بين شفتين مغلقتين أو خرخرات ونخرات من فتحتيْ أنفه العريضتين . في تلك الحالة تبدو الحبّةُ الطالعة فوق الفتحة اليسرى وكأنها تتضخّم فجأة وتهمّ بقول شيء ، بقول شيء بالنيابة عن شفتيه وعينيه وتغضّنات جبينه الأبيض الفسيح . جهّار الذي إن وقف سَبَعَ وإن حَكى سَبَعَ وإن نظر بغضب سَبَعَ وإن نظر ببلالةِ الشهوة في عينيه في عين امرأة سَبَعَ ، مسبوعٌ هذه الأيام ، شيءٌ في أعماقه سَبَعَهُ، لا من خوفٍ على نفسه ، فهو يرمي بنفسه على الموت إذا انحشر ، ولا علينا ، لأنّ عقله كالعادة يحدّثه بأنّ الذي جئنا منه إلى الدنيا قادر على أن يجيء إلى الدنيا بسوانا ، يقولها حين يقولها وإصبعه تشير إلى ما بين فخذيه ، وإذا قالها في حضور أبو الوليد طَيَّبَ له أبو الوليد وضرب بكفّه على الطاولة وصاح مقهقهاً هَيْهَايْ يا قضيب الخيزران هَيْهَايْ ، فتفرط من فم أبي الضحكة رغماً عنه وقد قلب أبو الوليد المشهد من الجدّ إلى الهزل والمداعبة وحتى إلى المَرْقَعَة . لا الخوف علىنفسه ولا الخوف علينا . أبو الوليد يقول إنها عنجهية جهّار ، لم تروّضها أحداث الحياة ولا تجارب العمر ، فهو ليس بمقدوره أن يتصوّر نفسه في موقف المقهور الذي لا يرتفع له صوتٌ أو يدٌ أو رِجْلٌ أو فَرْدٌ أو جِفْتٌ أو حتى قضيبُ الخيزران، يجبه بها ، كلها معاً أو مفردةً مفردةً ، ذلك الوحشَ الخفيّ الذي في نيّته أن يلوي له جهروته وجبروته . ويشبّه أبو الوليد النـزعة هذه في أبي بالنـزعة التي كانت فيه هو قبل ثورة ال58 وأبت عليه إلاّ أن يردّ على إنذارات وتهديدات الدولة التي كانت تحمي مهرّبي الدخان والحشيشة في السعديات آنذاك ، نعم نعم أن يردّ عليها بالقتال المسلّح ضد المهرّبين حتى ضَبَطَ التهريبة وأوراقاً معها تدين رئاساتٍ في ذلك العهد الذي كان زمن عزٍّ له لا يزال يتغنّى به ويتغنّى كلما مرّ ذكره في حديث . وتلك هي ، هي بذاتها النـزعة التي تقلقني لأنها تفتح عليّ أبواب المجهول كلما تصوّرت اللحظة التي أدخل فيها على أبي ، وحولي همشريّتي من مسلّحي الميليشيا ، وعن جانبيَّ الكاتبُ بالعدل والمحامي جوزيف الديّار لإتمام المعاملة التي تجيّر لي من المطعم ما أحلم به لنفسي ولإبني لؤيّ من بعدي . إنها هي، هي بذاتها ما يقلقني . ولكن لا عليّ ، فدخول الجيش الإسرائيلي على الخطّ الآن وعلاقة جوزيف وأهل قرى شرقيّ صيدا المتوطدة بهم يوماً بعد يوم ، لا ريب سيسهّل عليَّ الأمر أكثر مما أتصور .
ولكم كان حظي يفلق الصخر إذ لم يَرُشُّوهُ بالرصاص يوم دخلوا علينا أوّل مرة وكان جالساً على كرسيه ، قناني العرق والويسكي والنبيذ مصفوفة وراءه على رفوف الخزانة وفي الفسحة الضيّقة بين الخزانة والcounter الذي أمامه جِفْتُهُ الخَلَعْ ، يقف منتصباً إلى أعلى ببوزَيْهِ السوداوْين اللذين كفتحتيْ منخار بقرة . نظر بعضهم إلى بعض في عجب عجاب لهذا الإستهتار بهم وبأسلحتهم، الإستهتار الوقح المترفّع لا عن الخوف منهم فحسب ولكن حتى عن الحيطة والحذر ، والتمع الغضب البارد في عيونهم حينما رفع كأس الويسكي ورشف منها رشفة أبردَ من مكعبات الثلج المحشورة فيها حشراً ، فاندفع أقربهم من الcounter ومدّ بوز رشاشه وضرب بطرفه الكأس فطارت من اليد ليتشظّى صوتُ تحطّمها على الأرض ولكن لتظل اليدُ مرفوعةً في الهواء على هيئة احتضانها لما كانت تحتضنه قبل لحظات . ثم صرخ الصوت به بالعربية أنِ ارفع يديك إلى فوق . وانتظر الصوتُ نَفَساً ، نفسيْن ، ثلاثة ، ولم ترتفع اليدان ، بل جاء من الحنجرة الصوتُ عميقاً أنْ إنْ كنتَ لا تعرف إلى أين يجب أن تصوّب رشاشك فأنا أدلّكَ ، وتكوّرت كفُّ اليدِ على هيئة قبضة راحت تدقّ على مطرح القلب دقّات متتاليات على تتالي الصوت بهُنَا هنا هنا هنا . وهجم بوز الرشاش على الوجه فلطمه لطمة جاءت على الخدّ الأيسر وفَزَّ الدّمُ فزّةً من الجرح وسال على الرقبة فالقميص ، فارتفعت قامة جهّار وارتفع من حنجرته الصوت أَنْ أين علّموكَ أنّ من الشجاعة أن ترفع سلاحاً ولا تقوّص به ؟ وكانت لحظةُ الجنون فصرخ الجندي شيئاً بالعبرية وحاول أن يطال الوجه النازف مرة ثانية ببوز الرشاش فتلتفّ الكفّان عليه وتدفعانه يميناً وشمالاً في تصميمٍ عجبٍ عُجاب . وحينما ترتفع الرشاشات الأخرى في الهواء تنتر اليدُ بوزَ الرشاش بعيداً عن مطال الوجه . ثم تحدث المعجزة التي جعلت يومها حظي يفلق الصخر ، فقد هجم على الجند صوت بالعبرية آمراً إياهم بشيء، فتجمّد كلّ شيء حتى أنفاسهم . عرفت في اليوم التالي من جوزيف أنه الضابط ديفيد مردخاي . كان حذقاً ، استوعب الموقف كله بلمحة عين . تأمّل جهّار طويلاً ثم سأله عن سبب احتفاظه بسلاحه بعد إعلان الجيش الإسرائيلي عن ضرورة تسليم كافة الأسلحة تحت طائلة الموت . نحن نقدّم الخمور لزبائننا ، والمطعم الذي تُقَدَّم فيه الخمور يجب أن يحمي نفسه بسلاحه ، فالخمرة تلعب أحياناً بالرؤوس . يتأمل الضابطُ وجهه هنيهة ثم يهزّ رأسه . هذا الرجل يقول الحقيقة فاتركوا له الجفت ، ثم إنه على كل حال سلاح صيد . المنبهرون تتطأطأ رؤوس رشاشاتهم ويغادرون المطعم واحداً واحداً في صمت أشبه بالحقد البارد . ولولا ظهور المردخاي هذا في اللحظة المناسبة لربما كان تغيّر مجرى قدري في ما كنتُ أخطّطه له مع جوزيف الديّار.
شاحناتهم ودباباتهم لا تزال تصطفّ من جسر الأوّلي حتى مطعمنا ، بل حتى مفرق زاروب الشيخ مراد . جوزيف قال لي إنهم ينوون ملاحقة الفلسطينيين إلى قلب بيروت . وما الذي يمنعهم ؟ لا شيء بالطبع . المهم الآن أن أنتظر ، وإن أكن منذ الآن حُرِّمَتْ عليَّ الكباريهات حتى ينتهوا من مهمّتهم وينسحبوا إلى ما وراء الحدود .
يبدو متردداً في التعامل معنا ديفيد مردخاي ، فهو مستمعٌ من الطراز الأوّل ، منصتٌ متأمّلٌ، جلُّ تعليقاته على آرائنا كحزب السرايا اللبنانية ينكمش إلى حيّزِ هزّة الرأس التي ما إن تبدأ حتى تفلت السيطرةُ عليها فليس إلى إيقافها من سبيل إلاّ للحظات تُستأنف بعدها وكأنها دورة فلكية لا يتم اكتمالُها إلاّ بهمهمات منتظمة تهمهمها شفتان تحجمان عن البيان والتصريح ، همهمات معلِّلة مرطِّبة فيها من روح الدبلوماسية أكثر مما فيها من الروح العسكرية المتوقَّعة من فمٍ تدرّب على أن يأمر فيُطاع ويقول فنبرتُه الفصلُ والحسمُ . وأنا المحامي الخبير بأساليب اللفّ والدوران والإلتفاف يُسقَطُ في يدي كلما انْزلق بي لساني إلى نزوة الحديث اللبق المستدرِج للآخرِ المستدرِجِني بدوره إلى التأنيّ والصبر والإنتظار وكأنّ لنا الدهرَ كله أمامنا لنتصارع فيه ونضع نقاطنا على الحروف فنجعل منها بنوداً ومن البنود ميثاقاً يحيلنا إلى شركاء وينتشلنا نحن من هامش التفرّج بالعين والمناصرة بالشفة التي لا ترتقي مشافهتُها إلى حدّ الفعل ، إلى الحدّ الذي يناسبنا ويرضينا من ممارسة الفعل . عسكريٌ يمارس الدبلوماسيةَ عليَّ ، وحيرتي فيه تقهرني ، فإن تكن نزعةُ الإنكماش شيئاً في طبعه فكيف نأتمنه على أسرار مناطقنا في شرقيّ صيدا ، وجنودُه قد جعلوا من قرانا محطات عسكرية لهم ، فهم يتجوّلون في شوارعنا ويمرّون على مهلهم ببيوتنا ومحلاتنا وحتى مراكزنا العسكرية الخاصة بنا ، والتي بالطبع لم يشملها أمرُهم لمن على الأرض اللبنانية بتسليم أسلحتهم الحربية والخاصة تحت طائلة المداهمات والسجن وحتى القتل في احتمال التنقّل بهذه الممنوعات ، كيف نأتمنه على أسرار مناطقنا وكيف نأتمن جنوده ؟ وإن يكن انسحابه إلى ما خلف نواياه استراتيجية مدروسة يمارسها علينا ليحول بيننا وبين الإنفلاش في الأمكنة التي صارت تحت هيمنته ، فلمن ستُتْرَك مراكزُه في ساحات صيدا وعلى مداخلها وعبر شوارعها الداخلية والخارجية إذا اضطر هو وجنوده فعلاً إلى مطاردة الفلسطينيين الذين انسحبوا شمالاً شمالاً ، وكأنما حسب خطّة مبيّتة للتحصّن داخل بيروت ، لمن سوانا ستُسلّم مراكزُهم إذا استدرجهم ياسر عرفات إلى عاصمتنا واضطروا إلى استجلاب المزيد من الآلاف المؤلّفة من جنودهم وآلياتهم لتأمين طرقهم الرئيسية ، لمن سوانا غداً ، لمن ، لمن ؟ وقع الذي وقع الآن، والأسابيع التي أذنت بها أميركا لمناحيم بيغن وآرييل شارون لتسوية الوضع في جنوب لبنان والقضاء على منظمة التحرير ستنسرح إلى شهور ، وربما إلى ما لا يستشرفه العدُّ فالزمن هذه المرة ليس زمن ال 78 بل هو أشبه شيء بالمغّيط الذي تشدّه فينفسخ ويتفسّخ ويُشَطْشِطُ فليس إلى ارتداده إلى أصله من سبيل .
الفصل الثالث
شقائقُ الحكمةِ والقوّةِ
سابغُ عُرْيِ المرأةِ سابغُ سِتْرِ الرَّجُلْ
سهادُ العاشقِ امرأةٌ راودتْ عن نفسه الفجرَ فَضَلَّ طريقَهْ
- أوّلُ الحيضِ شقيقٌ وآخرُه شَفَقْ
- ما تَعَادَلَ شيئانِ كما يتعادل في رجرجة كَفِلَيْها الذنبُ والغفرانْ
أناشيدُ سليمانَ المَنْسِيَّهْ
النساءُ عُجْمَةٌ في لغةٍ بيانُها المرأةُ الفاتنةْ
النساءُ أضغاثُ أحلامٍ ووحدَها المرأةُ الفاتنةُ رؤيا صادقهْ
- ما طالعتْني امرأةٌ لفّاءُ إلاّ وجَدَلَ لساني لَفَفْ
ألتفتُ على غير ما قصد منيّ إلى الفسحة التي تقوم فيها شجرات البلح فتأخذني عينا صاحب المطعم وهو في كرسيّه يرشف القهوة وحيداً ، كُمّا قميصه ملتفّان ثنيّاتٍ ثنيّاتٍ على ساعديْه حتى لفّة مرفقيْه، تماماً كما رأيتُهما أوّل مرة رأيتُه ، ورأسه فوق كتفيه العفيّتين يذكّرني بخطيب من خطباء الرومان يملأ اللوحةَ امتلاءُ جسده ويهيمن على تفاصيلها فيضٌ من قوّة الحضور يبثّه من وجهه شيءٌ غير حيوية الجلد والعضل وغير النظرة الجليلة في عينيه . عفو خاطرها ترتفع يدي إليه بتحية الوداع فيهبّ من جلسته واقفاً ويردّ التحية بتحيّتين ، من رأسه ويده ، ويظل واقفاً في مكانه ، هناك تحت شجرة البلح ، وكأنما إكراماً لمبادرتي له بالتحية، حتى أنزل درجات سلّم المطعم . أنزلها وأتّخذ مقعدي من الجيبّْ الذي ينطلق بي صوب جسر الأوّلي لقيادة القافلة العسكرية في رحلة الأربعين كيلو متراً المتبقية لنا لبلوغ بيروت .
الزوبعةُ امرأة ٌ شرّعتْ جسدَها للرياحِ الأربعْ
الفناءُ امرأةٌ يُلغي حضورُها حضورَ الشوقِ إليها
أناشيدُ سليمانَ المَنْسِيَّهْ
أجملُ الفساتينِ ، كأجملِ القصائدِ ، هو ما يأتيكَ بالمرأة كلِّها فيغنيكَ عن التفاصيلْ
بعد قليل ، حينما نبلغ بناية الحزب في رأس النبع ، سأُنزل معهم الصندوق إلى ملجأ البناية ولا أدري ماذا أفعل بنفسي إذا فرطتْ باطنتي ونحن في الملجأ الذي ليس فيه مرحاض ولا زاوية مستورة لقضاء الحاجة . هذا على كل حال ليس أعظم همّي ، فزحفُ الجيش الاسرائيلي في اتجاه بيروت دفع بالجامعات والمدارس إلى إغلاق أبوابها حتى إشعار آخر ، وهذا يعني تأجيلَ الإمتحانات النهائية حتى إشعار آخر كما يعني تعليقَ تخرّجي في الهواء حتى ينتهي الجيش الاسرائيلي من تصفية حسابه مع منظمة التحرير . كل شيء على حسابي أنا الذي جرجرتُ نفسي من صفّ إلى صفّ حتى رُفِّعْتُ إلى السنة الرابعة بوعد من الدكتور مرزوق أن يؤمّن لي معدّلاً عامّاً يؤهّلني للحصول على منحة لتحصيل الدكتوراه في السوربون . العرض الذي عرضه عليّ الحزب لأتابع دراستي في روسيا هربتُ منه بالطبع وإن كانت وساطة الدكتور مرزوق مع السفارة مضمونة مئة بالمئة ، فما لي ولدراسة اللغة الروسية وقضاء ثلث عمري في تحضير الدكتوراه بحجّة الولاء لليسار إذا كانت فرنسا تختصر عليّ الطريق وتؤمّن لي شهادة غربية يمينية أهمّ في نظر المجتمع اللبناني من كل الشهادات التي يمنحها المعسكر الشيوعي كما تؤمّن لي رجوعاً سريعاً إلى بيروت لأحشر نفسي في الكادْرِ الجامعي قبل أن يملأ دكاترة التاريخ المتخرجون حديثاً كل الأماكن الشاغرة في القسم . يساريٌّ بدكتوراه يمينية يظل ينـزل واقفاً على رجليه كيفما رمتْه تقلّباتُ البلد . المهم أن أَزْمُطَ من هذه الحرب ، أن أؤكد لنفسي النجاه من الموت أو التشويه أو العجز المعيقين للسفر . ولهذا عليّ أن أداري، لأن ثلاثة أرباع الحياه مداراة ، وأن أكتم نواياي في صدري كتماناً أشد من الإكتام الذي أنا فيه لأنه استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان . هكذا هكذا عليّ أن أعيش في عالميْن وأتكلم بلغتيْن حتى أحصل على المراد وترتاح نفسيتي فتلين باطنتي بعد الدكتوراه ويخفّ اصفرارُ وجهي فتقبل بي علياء ابنة خالتي التي من شروط قبولها أن يكون المتقدّم إليها أبيضَ الوجه أبيضَ أو أسمرَ الوجه مشرباً بالحمرة ، ولن يكون لي من ذلك شيء إلاّ بعد انفراج بدني عن أكثر من بعرة جافة ناشفة. أخشى ما أخشاه الآن هو أن يكون لحصار بيروت تأثير سلبي على بدني فأُحرم حتى من تنـزيل البعرة الواحدة ويتطور في داخلي ميكانيزم جديد تتحول به البقايا في المعدة والمصران إلى خلايا تحشر نفسها في الدم والجلد والأعصاب وتتكاثر حتى تتفوّق نسبتُها على نسبة الخلايا الأساسية لبدني فأهبط كلّي في المرحاض ويكنسني ماءُ الفلاش إلى قعر البالوعة فإلى البئر المالحة فإلى نسيان أبدي . الهاجس هذا يقتلني ، ولن أتغلب عليه حتى أوجّه إهتمامي إلى الدنيا حولي ولو إلى حين .
الجيبّ يفتل بنا يساراً ويدخل شارع محمد الحوت فيعبر بنايةَ العِجِّة المشهورةَ منذ بداية الحرب الأهلية كمتراس لمقاتليها وللشارع كله والمبخّشةَ حيطانُها برصاص القنص من جهة المتحف والمقدوحةَ زواياها وبرنداتها بالقذائف العشوائية التي طالتها حيناً بعد حين . البنايات تنسحب إلى ما وراءنا على جهتيْ الشارع حتى نبلغ اللفّة الثانية إلى يسارنا فيتمهّل الجيبّ لدى اقترابنا من بناية الحزب وينـزل بنا في نزلة الملجأ بعد أن يُرفع الحاجزُ الخشبي ونُعطى الإذن بالتحرك . الملجأ يذكّرني بملجأ بناية في منطقة ثكنة الحلو يقوم سقفه على أعمدة ضخمة من الباطون المسلّح يحكي سكّانُ الحيّ عن مدى قوّة احتمالها في وجه الهزّات الأرضية . في تلك المنطقة سأحاول أن أبقى معظم الليل والنهار وإلى ذلك الملجأ سأهرع إذا اشتدّ علينا الحصار وحمي الوطيس . نعم نعم عليّ أن أظل مفتّح العينين أشارك في المهمات التي يوعز إليّ بها الحزب تحت إشراف الدكتور مرزوق الذي جاءته الحرب بالفرصة الذهبية لتسجيل مواقف على الأرض عسى تمهّد له الطريق لترشيح نفسه للنيابة عن بيروت ، أفعل ذلك فأسجّل على عينه مواقف ستلزمه بمساعدتي في تأمين المنحة والسفر بعد نهاية الحرب ، هذا إذا استطعت أن أضمن لنفسي النجاة من الموت . أن أحافظ على طواعية الكرّ والفرّ بين رأس النبع وثكنة الحلو تلك هي مهمتي وتلك هي معركتي . نرفع أربعتنا الصندوق ، كلٌّ من زاوية ونمضي به لنصفّه في آخر الملجأ إلى جانب الصناديق المغلقة الأخر.
إلى قرى الجبل الذي فوق ساحل الشوف ، من الشريط الحدوديّ عبْر جزّين ، عبرتْ آلياتُنا ، قافلة إثر قافلة ، تحت الأعلام البيضاء المرفرفة على سطوح البيوت والمحالّ ، بياضاً صامتاً نشفتْ نبرتُه فليس فيها خفقانُ البياض من رشّات الأرزّ التي سبقت ، ففشّةُ الخلق الآن مقموعةٌ مؤجَّلةٌ نواياها لأنّ للجبل من مهجّري الملّة الأخرى في الجبل نوايا مؤجَّلة مثلها في شرقيّ بيروت إلى ما بعد تصفيتنا الحساب مع منظّمة التحرير وانسحابنا إلى ما وراء الحدود مخلّفين وراءنا من نزوة الفراغ اللهفةَ اللهيفةَ إلى امتلاءٍ ليس إلاّ به تتّخذ الحياةُ كياناً لها واضح الخطوط والمعالم والوجود . رفرفة البياض الصامت التي خُبِّرْتُ عنها في الجبل حيلة أخرى من حيل الحجاب المُعْتِقِ للزمن من حركته ، المُثَبِّتِ له على رأس دبّوسٍ واقف في مهبّ النَّسَمِ والريح ونزوة الصُّدَف .
الصُّدفةُ لا مكان لها في تواصلنا مع الشريط الحدودي وبيروت الشرقية في امتداداتها الجبلية والساحلية . توجّهاتُ الموارنة واضحة لنا وحلمهم بإقامة دولة تستقطب مسيحيي الشرق على غرار دولتنا اليهودية هو لون من ألوان التشبّه بالغير علّتُهُ أنه الحنين إلى مستقبل لا جذور له في التاريخ كالتي للمشتتين في الرياح الأربع من اليهود الذين لم يكونوا إلاّ من هذا الشرق وإلاّ من الأرض التي شاعت لها في غيابهم عنها تسميةُ فلسطين ، تراضى عليها المسلمون والمسيحيون حتى أُنجز لنا وعدُ بلفور وعادت لأهل الأرضِ السليبةُ من الأرض في ال 48 فارتفعت في أورشليم أعلامُ أورشليم وخفقت في كل علم نجمةُ داوود التي عنها ندفع اليوم العدوان الفلسطيني المتجدّد في كل حين . كأنما يحلو للتاريخ أن يلهو بنا ، أن يبني تراثه على نزاعات الشعوب ، أم تُراها تُراها الحرب نعمةٌ هي الأخرى محجّبة بالنار والدم مَنَّتْ بها علينا السماءُ الساميّةُ السحابِ والبرقِ والرعدِ والريحِ والمطرِ ؟ حُلْمُنا غرسةٌ شُرْشُها في التراب وحلمهم نزوةُ المفردات ، عَمَروها فسكنوها فسكنتهم ، فراغاً في فراغ .
من البلاد السورية إلى جبال لبنان هِجْرَتُهم لم تُحذفْ من تاريخهم بعد ، واستنباتُهم جذوراً فينيقيةً لجدودهم السوريين إنما هو بمثابة تسربلهم بعباءة جيرانهم ، وأمّا تواصلهم معنا منذ قيام إسرائيل فلم يَبْنِ لهم إلاّ عتبةً لن تعبر بهم خطاهم فوقها غداً إلى وطنٍ أو حتى بيت .
يقينُكَ بِعُهْرِها صُلْحُكَ الوحيدُ مع الشّك ْ
الخرائط لا تكذب . نحن نرسمها ونحن نعدّلها ولذلك فهي لا تكذب . من نهر القاسمية إلى نهر الأولي ،ومن نهر الأولي إلى نهر الدامور كيلومترات محسوبة على الورق حساباً لا جدال فيه. بساتين وسهول وحقول على مدّ عينك والنظر . بالتأكيد هم لا يستحقون هذه السهول ولا هذه البساتين ، ففي الصيف تشحّ أنهارهم وقد تجفّ ، وفي الشتاء والربيع ، السيولُ كلها والمجاري تصبّ في البحر فيملّحها بملوحته ويخلطها بأمواجه فلا تصلح بعد ذلك إلاّ للسمك ، ولا يفعلون هم شيئاً لحماية الأرض . وطن الطوائف يحب أكل السمك المنقوع بالملح ، ولذلك فمياه أنهاره الحلوة ليست من همومه. إقامة السدود في كل الممرات الجبلية بشكلٍ يوفّر حفظ المياه لري الزرع في الصيف ولتوليد الطاقة الكهربائية في كل الفصول لكافة مناطقهم ، يعرفون مثلنا أهميتها ويعرفون أن الأمر لا يتطلب عبقريةً هندسية وتقنيات لم تُطوَّر بعد . الأمر يتطلب إرادةً للتخطيط لا أكثر ولا أقل . وهم لا يخططون لأن حياتهم السياسية أشبه بالصفقات القبلية والعائلية ، وطموح كل طائفة يُختصر في تذاكيها على الطوائف الأخرى وفي فرحتها بمكاسب وظائفية تقتنصها من حصص الآخرين لتضيفها إلى مكاسبها القديمة في كادرات الدولة . هؤلاء الناس لا يروْنَ أبعد من أنوفهم ، وأنوفُهم ، لسوء حظّهم ، أقصر من ألسنتهم. من همومهم طموحُ سياسييهم إلى الكسب السريع ، والمياهُ الجارية المهدورة تحت عيونهم وأنوفهم في القاسمية وصيدا والدامور وبقية مناطق الساحل الممتد حتى الحدود السورية لا تدخل في إطار هذا الكسب . إدجارْ عِضاهْ الرّوحْ لسانُه نموذجٌ حيّ لألسنتهم ، وإن لا يعتبره أحد مرجعاً من مرجعيات حلفائنا في بيروت الشرقية ، وهذا بالطبع يناسبني ، فالسياسيون أنا لا أتعامل معهم لأنهم على الأرض لا يقدّمون ولا يؤخّرون ، وما يجري على الأرض هو إختصاصي الأول والأخير ، فرؤيتي للحرب ميدانيةٌ بحتةٌ . أو ليس في الميدان تُحَارَبُ المعارك وتُقرّر مصائر الحروب ؟ ونحن الآن في حالة حرب عجيبة ، نطارد الفلسطينيين في بلد ليس بلدهم ، نِصْفُ أهله ينصرونهم ضدنا وبعضُ النصف الآخر المتحالف معنا مستعد أن يتفاهم حتى مع الشيطان ليتخلص ليس فقط من عسكر منظمة التحرير ولكن كذلك من فلسطينيي المخيمات الذين يرجّح استمرارُ وجودهم كفّةَ الميزان لصالح المسلمين في البلد . إدجارْ لسانه واضح ، لا يتأتيء ولا يوأويء ولا يفأفىء ، واضح مثل طقّة مدفع الميركافا .
تماماً مثل طقّة مدفع الميركافا، وهو لذلك لا يصلح أن يكون رجل سياسة يحترف اللفَّ والدورانَ وقولَ الشيء المقصود سواه حينما يضطره القولُ فيقول ، وهو لهذا بالذات مهيّأ بطبعه وتكوينه للتفكير مثلي بوضوح لا تشوبه التمنيات ، معرّى من غباشة الاحتمالات والتمويهات . واحد زائد واحد يساوي اثنين . هذه هي لغة الميدان . وأنت اليوم عدوٌّ وغداً عدوّ في نظري حينما أقاتلك ، ولو كانت أصوات المنابر تلطّف الحقيقة بالقول إنّ عدوّي اليوم قد أتفاهم معه غداً ونتعايش كأحسن ما يكون . الفلسطينيون لن يتعايش معهم مسيحيو لبنان ولا نحن . إدجارْ يعرف هذا كما أعرفه أنا وكما يعرفه حتى الفلسطينيون. تجربتهم في قرى الجنوب وردّات فعل الناس تجاه هيمنتهم العسكرية نتائجُها حصدناها نحن في عبورنا الحدود واجتياحنا المدن والقرى بطمأنينة لا يطمئنّها إلاّ مَنْ قدّم نفسه للناس بصورة المخلّص الذي طال انتظارهم له . وهكذا نحن الآن . وهكذا الآن كذلك إدجارْ . فجيشنا مخلّص النصارى من عدوٍّ صدف أننا نطارده في أرضهم لنعيد لمستوطناتنا الشمالية الأمن والاستقرار . ولكنّ إدجارْ حليف لا يؤتمن ولا يعوّل عليه في نهاية المطاف فَنَفَسُهُ قصير وسعيُهُ سعيٌ للكسب السريع. وهذه صفة المغامر .على أن المشوّق في هذا التحالف القائم بيننا أننا تبرّعنا بتدريب ضباطهم في إسرائيل على أصول المعارك الكلاسيكية والميليشيوية وأبدينا اهتماماً خاصاً بتدريبهم على أساليب الترويع التي تحتاج إليها كل الجيوش في حروبها المصيرية، وهو مصرّ على أن العبقرية اللبنانية يأبى عليها تاريخها الطويل في كافة حقول الإبداع أن لا يكون لها ما تقدّمه في مجال الحرب ، أن لا يكون لها امتياز تفاخر به غداً أمم الآرض . شيّقٌ شيّقٌ حماسه ولكم أتمنى أن يعجّل بنا الوقت إلى اليوم الذي ندخل فيه بيروت الغربية ، أنا وهو ، ليُجري ، تحت حمايتي وإشرافي ، تجربته الأولى في تحويل الموسيقى الكلاسيكية إلى أداة فعّالة في تطوير ما يسمّيه بأساليب الترويع الحضاري لأعداء اليوم والغد . شيّق شيّق حماسُه ، وشوقي إلى اكتساب المعرفة ، حتى من هؤلاء اللبنانيين ، لا حدّ له ولن يكون له أبداً أي حدّ .
- لا تهملجُ المرأةُ إلاّ تحت شيطانْ
بعيداً قريباً ، غائباً حاضراً ، يراني كأنما ولا ينظر إليّ ، هكذا هكذا على مسافةٍ مني لا أعرف كيف أصفها يظل شيمون أَزَرَا ، بعيداً قريباً ، غائباً حاضراً ، يراني كأنما ولا ينظر إليّ . جولاتنا معاً في شوارع صيدا وأحيائها والاستجوابات التي قمنا بها معاً ، حتى الخواطر التي كانت تخطر ببالي وباله في لحظات متقاربة ، هي وسواها من منتجات الخوف والقلق والسهر والضجر والشك الذي لا يقين معه في زمن الحرب إلا يقين الموت ، التجارب التي خضناها في صمت متفاهَمٍ عليه بدون كلام صهرتْنا في حالة من الوجود أنضج وأشفّ من حالةٍ يتواجد فيها اثنان يوماً بليله ونهاره أو أسبوعاً بنهاراته ولياليه ويبقى أحدُهما رهينةَ وعيه لنفسه أنه أحدَ الاثنين لا يزال . الحالة تلك اضمحلّتْ ونحن نقترب من مثلّث خَلْدِهْ ، فالملوحة المشبّعُ بها الهواءُ ذوّبتها ، وربما من أجل ذلك البحرُ لم يفارقنا طوال الطريق ، منسرحاً على هواه حتى غيابة الأفق، ترقّص تنهّداتُه أشعةَ الشمس فتفرقعها ومضاتٍ تلهو بها ومضاتٌ ، مرآةً هوَتْ على البلاط هوّياً فتشظّتْ تحت ضوء الكهرباء لمعاتٍ مشدوهةً بلمعات. من أجل ذلك البحرُ ربما لم يفارقنا طوال الطريق وتمادى في سَوْقِ نواياه على متعرّجات الشاطىء حتى بلغنا معاً مثلّث خَلْدِهْ الذي غربُه الماءُ ووسطُه الصحراءُ الطالعة حتى حدود مطار بيروت وشرقُه الصخورُ المتسلّقُ بعضُها بعضاً ، صعداً صعداً إلى قممٍ خلفها قممٌ لا تُرى من هنا ، من على سرحة هذه الرمال ، وهو على حاله منّي ، بعيداً قريباً ، غائباً حاضراً لا يزال ، أحدَ اثنين كانا مرّةً ضَيَّعَا ثنائيةَ العدد في الخوف والقلق والسهر والضجر والشك الذي لا يقين معه في زمن الحرب إلاّ يقين الموت .
شيمونْ أَزَرَا ، أناديه على مدى صوتي فيضطرب الهواء المثقل بملوحة البحر اضطراب الغالب عليه الحيرةُ لا اضطراب المستنكِر الوَجِلِ ، فالنداء خرج من فمي على هيئة صرخةٍ أمّارة بالوضوح ، بنقاوة الكشف المعتِقِ للّيل من لزوجة الهواء وغبَش الملوحة ، فعسى أنْ ثم عسى أنْ . ينتصب أمامي وينظر في عينيّ بعينين لا رطوبة فيهما ولا ألق ، فتحتيْن مختومتيْن بالليل المحمول علينا وحولنا من الأفق الغربيّ بهمّةٍ نَعِسَةٍ تركتْه علينا وحولنا وأغفتْ لننتظر بدورنا انقشاع غفلتها عن نفسها فعساها أنْ ثم عساها أنْ . أسأله عن حضوره فيؤكد لي غيابَه وأسأله عن قربه فيؤكد لي بُعْدَهُ ، وأسأله عن غيابه وبعده فيؤكد لي حضورَه وقربَه ، فترتعد في الظلمة شفتاي وإذ تحرجهما لزوجةُ الهواء وغبشُ الملوحة، تنطبقان على رعشةِ سؤالٍ لم يُسأل ليُنتظر له من أحد اثنيْن جوابٌ أو نـيّـةٌّ لجواب .
طفولتي وصباي ولّتا ولّتا ، وبيتي وأهلي ووطني ، كلّ الذي أطمئن إليه ، صار الآن ورائي ، وأمامي لم يعد لي إلاّ شراهة الليل والمسافة الممتدتيْن بين حدقتيَّ وبين الأضواء المتلألئة بخفوتٍ حييّ من العمران المتسلِّل إلى قلب البحر لمعةً لمعةً ، ومضةً ومضةً ، كشبكةٍ تصيّدتْ لتوّها رفّاً من السمك المشعّ بنور عيونه وأذنابه وحراشفه الفوسفورية ، تنعس ثم تستيقظ على وهلةٍ ، من ذاتها لذاتها تشعّ وتنوص ، ذبذباتُ عتابٍ ربما على المدى والظلمةِ في المدى إيماضُها ، تلك إذن ، تلك هي الغريمةُ التي تساهر غربتي ويسحبني من ظلّ العَدَمِ انشغالُ وعيي بها ، بيروت التي يحسد شرقُهم نفسه عليها ولا يفاخر حاضرَها في أمجادها إلاّ ماض لٍها من صفحاته مدرسةُ الحقوق التي شرّعت للدنيا أعراف السّلم والتسالم والعيش والتعايش والجيرة والتجاور والفعل والتفاعل في أطر التبادع كلها كلها ، تساهر الليلة غربتي الغريمةُ التي استُدرج اليوم تاريخُ إسرائيل إلى استفتاء حقوقيّيها الجدد في جدوى الحرب، في دلالةِ مناصرتها لعدوٍّ لنا وعدوِّ لها ودلالةِ انسياقنا بقانون الضرورة إلى اجتياحٍ فحصارٍ فتدميرٍ لمعالم العمران، آتٍ غداً ، ولا بدّ آت .
قوانين الوجود تعبث بالكتب والمكتبات ومدارس الحقوق فيا ليته لا يكون الذي سوف يكون فتصدق نَفْسَها الرؤيا . وقفة نابليون على مشارف موسكو لا تزال تطل عليّ من رواية الحرب والسلم تستنبش العلاقة العجيبة بين المدينة والغريب الموشِك على اقتحامها ، بل المدلّ عليها في قرارة نفسه باستعداده لقبول استسلامها له بدون قتال استسلاماً يأتي به منها إليه وجوهُ المدينة وأشرافُها وعليةُ القوم فيها في وفد يدخل عليه دخول المعلن لخصمه تفوّق خصمه عليه . وقفة نابليون على مشارف موسكو ، كما يصوّرها تولستوي ، جملة من تأملات له في مغزى المجد الذي يريد أن يحصده نابليون من استسلام العاصمة التي كان حلمه بقهرها يضارع كل أحلامه الأخرى بقهر عواصم الدنيا . الوفد الذي انتظره الغريبُ وضاق بانتظاره له ذرعاً ولم يَدُرْ له ببالٍ احتمالُ معنى آخر لتأخّره عن المثول بين يديه ، معنى غير المعاني التي يصوغها للغزاة خيالُ الغزاة ، الوفد ذاك أفرغ اللحظة من زمنيّة مجدها حينما أعلن لنابليون ضبّاطُه أن موسكو مدينة أفرغها أهلُها ، بإرادتهم للحياة ، من كل معالم الحياة ومقوماتها فرحلوا عنها وخلّفوا له الفراغَ ليقهره بعدهم إذا استطاع إلى قهر الفراغ سبيلاً . النصر على الفراغ ، تلك كانت نهاية حلم وبداية هزيمة .
ولكنّ بيروت ليست موسكو ، فعليها كما علينا حكم التاريخ بالمعركة التي وإن ستنتهي بإخراجنا لمنظمة التحرير منها ومن لبنان كله ، فخسارتنا للجيرة المرتجاة لهذه الأرض سيكون الحصادَ الذي ستأكل منه الأجيال القادمة في إسرائيل لزمن مرٍّ مرٍّ وطويلٍ طويل .
أمنيّةُ الرؤيا رحيلُ المقاتلين الآن الآن ، الليلة الليلة ، قبيل المعركة ، على موج البحر إلى البلد الذي يطيب لأهله استقبالهم فيه ، شريطة ألاّ يكون لتلك الأرض مع أرضنا حدود لقاء أو حدود تماسّ، رحيلاً يرفع عنّا مغامرة النار ويقمع في قلوب المتطرفين منّا طموحهم لاستباحة العواصم التي لم يَعُدْ يَهَالُها مُلْكُ سليمان وداوود ولا خيولُ جحافلهما ونسيتْ ربما، مثلما نسي الكثيرون منّا ، أناشيدَ الهوى والأمثالَ السليمانية فليس لهم من التوراة إلاّ نداء الطبول وإلاّ حشرجة الدم في عروقٍ نشّفتها شموسُ التشرد في أربع رياح الأرض قروناً قروناً . أمنيّة الرؤيا تساهر اللألآت النّعِسَةَ اليَقِظَةَ ، بنور ذاتها لذاتها تنوص وتصحو ، وأنا أساهرها كلّها ، غريمتي في سهري ثنائيةُ القبح والجمال تقلّبهما لزوجةُ الهواء وغبشُ الملوحة، وهو مني على مسافة لا أعرف كيف أصفها، بعيداً قريباً ، حاضراً غائباً، يراني كأنما ولا ينظر إليّ .
بالطالع عن الجامعة العربية ، على زاوية المفرق الأول قبل الملعب البلدي ، وعلى الرصيف تماماً بباب محل العصير ، قالت إنها ستنتظرني لتأخذني من هناك إلى بيت عمّة لها في الفاكهاني ومن هناك تمضي بي إلى مخيم صبرا ، تأخذني هي بعدما كنت أنا التي آخذها إلى هنا وهناك لأعرّفها على ما لا تعرفه من شوارع بيروت . ولي الآن اثنتا عشرة دقيقة وأنا أتمشى وأقلّب عينيّ في المارّة وأتذكر الساعات التي تمشّيتُها أيام الجامعة من شارع استراليا إلى منطقة اليونيسكو فإلى كورنيش المزرعة ، أتمهّل في روحتي ومجيئتي عند باتيسيري الجندول تحت نظرات زبائنه من طلاب وطالبات الجامعة اللبنانية الذين لم يكن يخفى على بعضهم وبعضهنّ أنني في حالة انتظار وترقّب وأنّ سامح سيطلّ بين لحظة وأخرى من جهة مقهى سيمونيدس . مسلّحان يتوقّفان بباب المحلّ ويطلبان عصير الجزر وعصير البرتقال ويأخذان في الدردشة مع الفتيات الخارجات من المحل . أمشي بالطالع عنهما وعنهنّ حتى حدود المفرق المواجه لمدخل الملعب البلدي وأقف لحظات أتلهّى بالمارة الآخذين المفرق باتجاه الفاكهاني . من الرصيف الآخر يعبر الشارع شاب أسمر طويل ، في مخايله شيء يشي لي بأنه فلسطيني ، فيتأهبّ فيّ شيءٌ للقائه وتكاد تتلعثم أنفاسي . ولكنه يمرّ بي ، يمرّ بي هكذا في لمحة عين، ويتركني ليتملّكني في لمحة عين إحساسٌ بأنني خذلتُ نفسي بتأهّبي الإعتباطي للقائه وكأنه قطع الطريق من رصيفه إلى رصيفي عمداً عمداً ، ومن أجلي أنا . للحظة أرى نفسي صغيرة كنملة وأكاد أعاتب كياني كله على زلّةٍ ما كان يجب أن أزلّها وكأنني فتاة مراهقة في عمر تلميذاتي . أبتسم في سرّي وأقول هذه الأمور تحدث كل يوم في حياة الناس ومن صغر العقل أن أجعل من الحبّة قبّة.
رُنَيْدَتي ، رنيدتي ! يأتي من خلفي صوتُها ، متحمّساً وكأنما على وشك أن ينفجر بشيء ، فألتفت إليها لألعنها بوجهها وأهددها بإلغائي لموعدنا ، فيسكت كل شيء فيّ ، غضبي الذي لم يعد غضباً ولعناتي وخططي وحتى أنفاسي . عيناي تمتلئان بالشيء الذي تجرّه إلى جنبها عائشة . من بعيد رأيتُكِ كالضائعة على هذا الرصيف ، ومن قريب أراكِ وقد أخرسكِ دركسيون ودولابان ، يتمايع صوتُها وتنهدل شفتاها وتنتظر .
أهمّ بسؤالها عمّا تفعله بهذه الدراجة ومن أين أتت بها فتعجّل بالقول إنها قررت أن تفعل في بيروت كلّ ما كان ممنوعاً عليها في عين الحلوة ، فأغمض عينيّ لعل المشهد كله يطير من أمامي وأعود فأفتحهما وأصرخ بها صرخة مكتومة أنّ الأفكار المجنونة ستجعل منها أضحوكة وستغري الشباب بالتطاول عليها . ترجوني أن أصبر عليها حتى تشرح لي ما في صدرها فأفتح حقيبتي وأسحب نظارتيّ السوداوين وأخبيء خلفهما نفسي من الشارع الذي تحوّل كل شيء فيه إلى نظرات متطاولة، تتفحص ، تتساءل، تستهجن ، تتفكه ، نظراتٍ أشبه بمظاهرة هبطت علينا من السماء .
أطوّع غضبي وأطاوعها فأصبر عليها لتحدثني بما يدور في خيالها وأسير معها بقية الرصيف وينعطف بنا المفرق صوب مبنى كلية الهندسة ، والدراجة بيننا تسير على دولابين ، والسيارات تخفّف من سرعتها وتسلقنا بعبارات التلطيش ، وعائشة ولا كأنها موجودة ، تتجاهل الصَّفْرَةَ والوِسْتْ وِسْتْ وترقيص الزمامير على أنغام وأنغام ، وأنا واثقة أنها تستمتع بكل هذا الجوّ الذي تثيره درّاجتها الماشية بيننا على دولابين . أنتظر شرحها فتضحك وتدلّعني بيا رندتي يا رندتي وكأنما تتبادل معي الأدوار فهي الآن الأكبر سناً وأنا الرفيقة المدلّلة . أبدأ أتهيأ لإيقافها عند هذا الحدّ بفرض شروطي عليها لإتمام هذا المشوار معها خشية أن تورطني وتورط نفسها في أكثر ممّا نحن فيه . مهدّلَةُ الشفتين تتهدّل رموشُها وتتهدّل كتفاها وتقف لتسجّل عليّ لحظة عتاب . أهزّ رأسي وأعترف في سرّي أن الوقت فات لتصحيح الوضع ، فبيروت تآمرت معها عليّ ، وفي ما يشبه تداعي الصور في الحلم يتسلسل في خاطري مشوار السنوات الأربع التي استضافتني فيها شوارعُ بيروت وأبنيةُ بيروت وهواؤها وبحرُها ومحلاّتُها وكافيتيرياتُها وباصاتُها وسرفيساتُها ومآذنُها ، فيا الله يا الله كيف يَفْرِكُ قلبي على ذيّاك العمر . اللحظةُ تنتصر لعائشة فتغمرها من قلبي أحاسيسُ من ذلك الودّ الحميم الذي كنتُ أظنني فقدتُه إلى الأبد في صراعاتي المقيتة مع كثير من أساتذة الأنروا الذين سرعان ما تألّبوا عليّ وحاربوا فيّ الحدسَ الذي به كشفتُ لهم عمّا لا أرضاه فيهم ، عن تحوّلهم إلى موظّفين لا علاقة لهم بقضية الشعب الفلسطيني ، فطموح بعضهم قد لا يتعدى الطعن بزميل له أمام الإدارة ليُرضى عنه من فوق ، ولو كان الذي من فوق هو الآخر مهووساً بالأمر والنهي والقهر ، يمارسها كلها على مَنْ دونه ربما ليخفّف عن روحه وطأة إحساسها بالقهر الذي وُلِدَ فيه ورُبّي في ظلاله ورضعه مع الحليب وتنفسه مع الهواء ، القهر الذي كان توأمَ تهجير الأجداد والآباء من فلسطين ورفيقَ درب الحياة الشقيّة تحت سقوف الزنك في المخيم ، تألّبوا عليّ وحاربوني وجهدوا أنفسهم ليكسروا فيّ الشيء الذي لو كسروه لنالوا مرادهم منيّ ولما كنتُ الآن في هذه المدينة ، على هذه الأرصفة ، أسير مع هذه التي لا تطاوعني روحي أن أكسر فيها ذلك التوق وتلك الحميميّة اللتين تُنْبِتَان لها على كل رصيف جناحيْن مثل جناحيْن لا أزال الآن أذكر رفرفتهما في الهواء وفي الريح وتفكّان عن معصميْها أغلال البؤس الذي لا يسير بأهله إلاّ إلى الوراء إذا لم يتطاولوا هم عليه ، إذا لم يصرخوا به ، في وجهه ، أنّ العين بالعين والسن بالسن والباديء أظلم .
لا أصدّق أن عائشة قالت قولتها ، ويعجزني فهمُ ما أحسه تناقضاً بين نيّتها في ملاحقة ابن خالتي لتوقعه في حبّها فيكون لها الزوج الذي تحلم به منذ أيام المراهقة الأولى وبين قفزتها إلى زمن ما بعد الحرب ، زمن السلم أو زمن الهزيمة ، حيث ستتلاشى من حياتها حالة الجنون التي تعيشها الآن . الهاجعاتُ الهاجعاتُ من الكوامن في النفس والخيال تستيقظ في شوارع بيروت على المنعطفات والأرصفة وواجهات المباني وزجاج الفاترينات ، وعلى دقات القدمين وعلى شحطهما شحطاً على الزفت المحموم بحرارة الشمس ، وفي حبّات العرق التي تلمع على الجبين وتكرج على الخدّ والخدّ ، وفي اللزوجة التي تفوح برائحة الإبط والإبط لطول لولحة اليدين ولطول المسير ، تستيقظ الهاجعات وتطفو ويولد الخوف من خسارة اللحظة باحتمال حلول المستقبل فيها، المستقبل الذي كان في الأصل هو القصدَ المُطَارَدَ والمرتجى ، فأي مفارقة هذه المفارقة وأي منعطفِ وجودٍ تنعطفه اليوم عائشة؟ لوكنتُ الآن أكتب روايتي وأرسم الملامح الأساسية لشخص عائشة لاتخذتُ إذن من درّاجتها رمزاً لمرحلة التحول الداخلي الذي تعيشه والذي لغرابته عليها لا تجد له وصفاً سوى كلمة الجنون ، تتعلق بها تماماً كما تتعلق بذلك الفيض من عفوية التوق والحميمية اللتين فُطِرَتْ عليهما وهي بعد في ظلمات التكوين. الجنون والشوق والحميمية هي بمثابة اللحظة ، ولكنها ليست اللحظة المقتطعة من الزمن ، بل هي الزمن الجاري ، اللحظة الجوهر ، الحركة التي يتحركها دولاب الدراجة فيكسبها الدلالة على كونها ما تكون. وإذن فعائشة تهجس بالعلاقة الخفيّة بين الحركة والجنون وتتشبث بحقها في هذا الجنون الذي أصبح لها رديفاً للحياة . ذلك سيكون جوهر تجربتها، به تتطور وبه تندفع إلى قدرها وبه تتميز عن باقي شخصيات الرواية .إذن لا بد أن أسجل هذه الملاحظات في دفتر خاص عند عودتي إلى بيت حورية هذه الليلة حتى لا تضيع في خضم الأحداث التي ستتضاعف إلى حدّ الجحيم حينما يستحيل الحصار إلى مواجهة عسكرية لا مفر منها ولا مهرب .
يجمد الدركسيون في الهواء ويكفّ الدولابان عن الدوران . عائشة تنتزع الحركة من اللحظة، فالهواء بيننا انتظار . تسألني لماذا لا أعلّق على ما تحدثني به ولماذا لا أجيب على أسئلتها ، فأعترف لها بغرقي في بعض أفكار الرواية التي أعتزم تجميع موادها من ملاحظاتي ومشاهداتي . ولكنكِ لم تكتبي رواية من قبل ، فكل ما نُشِرَ لكِ في المجلات والصحف لم يتعدّ القصص القصيرة والمقالات ، تحاورني، فأشرح لها أن اتساعَ الحياة وزخمَ تجربة الناس في ظروف الحرب والتهجير المستمر والموت الهابط على الناس كما في الليل يهبط المطرُ الذي يصعب رصدُه في الظلام واحتمالَ الموت حتى في حالات الصحو التي فقدت دلالة الصحو ، كلها كلها أمور تفيض عن حدود القصة القصيرة وتبحث لنفسها عن أطر فنّية تستوعب بدل الحدث الواحد أحداثاً وبدل التجربة الواحدة المجتزأة تجارب لا تحصى ، وتتفنن في تقليب التناقضات والتشابهات والوقائع والاحتمالات وتتحرى من التفاصيل ما لا تجرؤ القصة القصيرة على تحرّيه واحتوائه ، ولذا فالرواية ستكون الحقل الثاني لتجربتي الأدبية . أشرح لها ذلك ، ومع كل كلمة أقولها ينتابني إحساس غريب بفداحة التجربة . همنغواي ، وليس كنفاني ، من يستفزني هذه المرة . وإذا قُدِّرَ لي أن أعيش إلى نهاية هذه الحرب ، كما عاش هو الحرب الاسبانية عن كثب ، فسأقفو خطاه وأستفيد ، لا من نظرته للحياة ، إذ أنني لا أستسيغها كلَّها، ولكن من تقنياته في رسم المشاهد وتطوير الشخصيات حتى يوصلها إلى اللحظة الحاسمة ، اللحظة التي تحوّل الفعل المعيوش إلى المعنى المعيوش ، إلى مغزى التجربة الانسانية كلها، تلك التي يسميها لحظة الحقيقة .
أحسنتُ جوار النعمة حتى أثثّتُ هذا البيت ، غرفةً غرفةً وسريراً سريراً وكنبةً كنبةً وطاولة سفرةٍ بكراسيّها الثمانية ، وتلفزيوناً 27 إنش مع طاولته ، أثّثتُهُ ولم أترك من مستلزمات المطبخ شيئاً إلا وحسبتُ حسابه فَوَثْقَةُ طناجر الطبخ ، وعلى رأسها طنجرة الضغط ، والمقلى المدوّر الغميق وملاعق النحاس والخشب وسكاكين الفرم وماكينة فرم اللحمة ، والصحون بكل أحجامها والجاطات المدوّرة والمستطيلة ، وفناجين الشاي والقهوة ، والصواني الصغيرة والكبيرة ، والكبايات والطاسات ، والشُّوَك والملاعق بحجميْها ، ثم البرّاد والغسّالة والبوتوغاز ، ثم السجاد للغرف وللمدخل ، ثم الممسحة لعتبة الباب ، ثم النثريات التي لا يعلمها إلا الله ولا تحصيها الذاكرة ، كلها كلها حسبتُ حسابها وأثّثت بها البيت وتمّمت كل متطلبات العيش فيه قبل أن تعبر عتبتَه رغدةُ حتى لا تفتح فمها وتقول اشترِ لنا ذاك وحتى لا يفتّح أهلُها عينيها على نواقص تجعلني عرضةً للنقد وللإتهام بالتقصير ، فهذا كان شرطهم من أول الطريق ، ولقد وفيّتُ لهم الشرط وسكّرتُ عليهم كل أبواب المطالبة . وما كان ذلك ليكون لولا أنني أحسنتُ جوار النعمة ، فلا تدخين سجائر ولا شرب مسكرات ولا بَهْوَرَةَ في المصروف وشمّ الهوا، إلاّ ما قد تفرضه الظروف الطارئة . وحتى لا تغريني وتغري رغدةَ هذه الدنيا الخَضِرَةُ الحلوةُ فقد حوّلنا حسابنا في البنك إلى الدولار وجمّدناه لنستفيد من ارتفاع الفائدة ولتظل قيمة المبلغ هي هي إذا ما انخفض سعر الليرة اللبنانية أو انهار بسبب الحروب الداخلية والآن بسبب الاجتياح . وكان ذلك كله أعطاني وأعطى عائلتي شيئاً من الطمأنينة التي بدونها لا يمكن لنا العيش في هذا البلد الذي تحكمه الخضّات والمفاجآت والمتغيّرات المتوقّعة والمباغتة والتي آخرها هذه الكمّاشة التي يُحكِمون بها الطوق على بيروت الغربية ، وخاصة من جهة المتحف الذي لا يفصله عن شارع محمد الحوت إلاّ مدى رصاصةِ قنص وإلاّ خشّةُ قذيفة ما إن تنطلق هناك حتى يدوّي لها انفجار هنا .
كل ذلك يريدون مني أن أتركه ورائي وأنطلق معهم ليس فقط من شارع محمد الحوت لقربه من خطوط التماس ولكن من كل بيروت الغربية ، وإلى أين ؟ إلى بيروت الشرقية ، ومنها إلى المناطق الشمالية الجبلية لنكون أبعد ما يمكننا البعد عن أرض المعركة . لأيامٍ وعمّي وامرأة عمي ورغدة الخائفة على رغيد ، كأنما هي أمه ولست أنا أباه ، يخيفني ما يخيفها ، لأيامٍ متتالية وثلاثتهم لم يحلّوا عني ليلاً أو نهاراً ، يلاحقونني من غرفة إلى غرفة ، ويتناوبون عليّ ليقنعوني بوجهة نظرهم أنّ من الحماقة بل من باب رمي النفس في التهلكة أن نبقى تحت رحمة القصف الذي بدأ يتركز أكثر فأكثر منذ اتخذ الجيش الاسرائيلي مواقعه في جهة المتحف وفي جهة كاليري سمعان ، من باب رمي النفس في التهلكة أن نبقى وعلينا تنـزل من الطائرات كل يوم مناشير تدعو الأهالي العزّل إلى مغادرة المنطقة الغربية بأمن وسلام لأن القصف والاقتحام القريب لشوارعنا موجه ضدّ مقاتلي منظمة التحرير ومَنْ يناصرهم وليس ضدّ الذين لا علاقة لهم بالحرب من أهل بيروت . فتعصُّبُ أهل رغدة لبيروت شيء فوق الوصف ، ومعرفتهم بالشرش الفلسطيني الذي يمشي في شراييني ويحسّونه في تحمّسي لكل ما له علاقة بالقضية ، ذلك الشّرش وقف بيني وبينهم كالسّدّ ، فهم لشهور طويلة ظلوا يحتالون عليّ بمطالبهم المستحيلة ليطفّشوني من حياة رغدة التي لا هي مالت ميلهم ولا أنا تخلّيتُ عنها وهي تعني لي ما تعني . برودة أعصابي حرقت أعصابهم فتزوجتُ رغدة ولكني فشلت فشلاً ذريعاً في تخفيف حدّة تعصّبهم لبيروتيتهم، وأنا إنما جئت إليهم غريباً من صيدا ، فكوني سنّـيّـاً مثلهم لم يكن ليرضي سنّيتهم البيروتية ، كما كان ينغّصُ عليهم صفاءَ عترتهم البيروتية واللبنانية ذلك الشرشُ الذي لا خلاص لي ولا لهم منه ولو طلعت الشمس علينا غداً من جهة الغرب . لا الذكريات هذه استطعتُ أن أتركها ورائي حتى بعد أن لان مسرى الهواء بيني وبينهم وقرّبتنا من بعضنا ولادةُ رغيد ، ولا ذكريات سنوات الشقاء الطويلة تتركني ، سنوات الركض والتدريس في ألف مدرسة لضبّ الليرة فوق الليرة والألف فوق الألف لتأثيث هذا البيت الذي يطلبون مني ببساطة كالجنون أن أتركه ورائي للقذائف تدمره وللمحرِقات تحرقه وللسارقين يُفرغونه من تعبي وعرقي وأحلامي والعمر الذي صرفته أكافح من أجله ثم العمر الذي عشته فيه ، وسأعيشه ، إذا كُتبت لنا السلامة من الحرب .
زمّور سيارة الغولف يشتّت الأطياف من حولي فأنهض من استلقاءتي في السرير وأمضي إلى البراندة فأطل على الشارع وأشير بيدي إلى سامح الواقف على الرصيف ينظر إلى براندتنا أن يطلع فيشير إليّ بيده ورأسه أن أنزل ويحاول أن يُفهِمَني بالإشارة والحركة أنّ في طابّوني سيارته شيئاً يريد مساعدتي لنصعد به سوياً إلى بيتي . أتذكر أنه قال لي من يومين أنه سيُحضر بعض أمتعته من شقته المفروشة في شارع الكومودور حتى إذا ما دُمِّرَتْ بالقصف شقّتُه يكون له عندنا من الملابس ما يتدبر به أمره ، وفي حال نالت القذائف من بيتي يكون قد بقي له في شقته ما يعينه على الاستمرار ريثما تستقر الأوضاع . هكذا هو سامح ، حينما تضغط عليه الظروف يتفتّق عقله عن قصص ودواوين وخطط ما أنزل الله بها من سلطان ، فهو يتصرف على أساس أن ما يدور في خياله من أحداث هو الجزء الأساسي من الواقع وأنّ ما نراه على شاشة التلفزيون ونشاهده ونقرأه في جريدة السفير وجريدة النهار هو الجزء المكمّل للواقع والحقيقة . نِصْفُ ثيابه في الحمرا ونصفها الآخر في رأس النبع يعطيه إحساساً بالأمان وبأنه لم يستسلم لوطأة الحرب والحصار . الاستسلام حالة نفسية لا يحتملها كيانُه ، ولأنه لا يحمل السلاح وينخرط في عملّيات المقاومة ضد الجيش الاسرائيلي فهو يتمرد على هذا الواقع الذي يزيحه إلى هامش الأحداث ويحيله إلى نكرة من النكرات . خيالُه المقاوِمُ هو إرادة الحياة فيه ، عرفتُ فيه ذلك في كل مراحل حياته . والآن يقاوم احتمالاتِ الهزيمة برفضه أن يغادر البيروت المحاصرة ويقاوم احتمالات الموت بتهيئته ظروف الاستمرار إذا ما حلّت بنا هنا أو هنالك الفاجعة .
أصل أخيراً إلى مدخل البناية حيث عيادة الدكتور مكي مغلقة منذ اليوم التالي لبدء الاجتياح ، فلعله الآن أصبح في بنت جبيل حيث ، كما يقول الجيران ، قرر أن يبقى ويستقر حتى ولو تحت الاحتلال . يستقر حتى ولو تحت الاحتلال ! هذا ما جنتْه الأحزاب الفلسطينية بتواجدها العسكري في الجنوب ، أو بالأحرى ما جرّته على الفلسطينيين المقيمين في لبنان. أمضغ مرارتي وأخرج مجرّراً شحّاطتي بقدميّ إلى حيث ينتظرني سامح . ينفخ أنفاسه في الهواء والعرقُ يتصبب من جبينه ووجهه والحمرةُ تكاد تشتعل بجلده كله في وهج الشمس . يفتح طابّوني سيارته الخضراء ويلتفت إليّ . كل ما تصورتُه في خيالي من قمصان وبناطلين وجاكيتات وكلسات وغيارات داخلية وحتى أحذية يتبخّر من خيالي المصدوم بأكياس النايلون المعبّأة بجنون المراتبينْ والمعلّبات على أحجامها وأنواعها وألوانها ، فالطابّوني أشبه بعلبة كرتون ضخمة أُفرِغَتْ فيها رفوف محل من محلات البقالة . وماذا نفعل بكل ذلك يا سامح ؟ صوته يظل لهاثاً في الشمس . ينحني فوق جنونه ويدفع إليّ بكيس نايلون من الحجم الكبير فأفتحه له وأراقبه ينقل إليه من الأكياس المعبّأة أنصافَ محتوياتها ، لتبقى الأنصافُ الأخرى في السيارة ، سيارته التي قال لي مرة إنها بيته الثاني . مرتبان عسل ، مرتبان مربى المشمش ، مرتبان مربى الفريز ، مرتبان جبنة بلدية بيضاء كذلك مسبّحـة بزيت الزيتون ،ثلاث علب جبنة بيكون وثلاث علب لافاش كيري ، عشرة علب تونة وعشرة علب سردين مغربي مكبوس بالزيت والحرّ ، والسردين حبيب قلب سامح على كأس العرق ، وها هي ذي أكبر زجاجة عرق رأيتها في حياتي مغلّفة بجريدة السفير حتى لا ينتبه إليها أحد ، وعلبة مكسّرات مشكّلة ، من حواضر المازة ، وكيس برغل ناعم وكيس برغل خشن، ربما لتحضير الكبّة بالسردين والتونا ، وكيس عدس حب وكيس عدس أصفر مجروش ، عرنوس مرتديلا بزيتون مغلف بالنايلون ومختوم ، علبة حلاوة بطحينة ، وقنينة زيت زيتون الكورة . طبعاً كيس النايلون طاف بالخيرات والآن يكاد يطوف الكيس الثاني ، وسامح على انحناءته يتابع عملية جنونه المقاوِم الذي ارتأى له أن يقسم مواد استمرار الحياة إلى ثلاثة أثلاث ،ثلث لشقته في الحمرا ، وثلث لبيته في رأس النبع والثلث الثالث لسيارته يذهب معه إلى حيث تكرج به الدواليب . خياله المقاوِم لا شك أبدع له اليوم خطةً مثلّثةً في وجه المحاور الثلاثة للحصار .
ستّة طوابق بدون مصعد كهربائي قد يكون صعودُ دَرَجِها رياضةً للقدمين والساقين والرئتين والقلب ، ولكن أن يحمل الواحدُ مناّ فوق وزنه زِنَةَ هذا الكيس الذي يميل برأسي وكتفيّ إلى جانب واحد ويرهق قلبي ورئتيّ من أمرها عسراً ، وفي هذا الحرّ القائظ بالذات ، لهو الجنون بعينه . يقولون المرءُ قَدَرُهُ أهله ، وأقول ومن بعد أهله رفاقُه ، وخاصة إذا كانوا من نفس البلد والمدرسة والملّة والاختصاص الجامعي . وهذا المزاجيُّ الذي لا أعرف لزئبقيّته شكلاً تستقر عليه هو طائري في عنقي ، كُتِبَ عليّ أن أحمله خلال هذا الحصار وفي غياب ابنته وزوجته عن حياته . أصعد الدرجات خلفه أتسمع إلى أنفاسه في الهواء تعلو فوق أنفاسي وألاحق قدميه ترتفعان وتحطّان في عناد منه مقصودٍ أو سهيانٍ منه عن ثقل الكيس الذي يحمله وينهض به مع كل نهضة قدم وكأنه يحمل بحكم العادة حقيبته الأكاديمية . على مستديرة باب البيت نحطّ حِمْلَنا على البلاط فيخشّ النايلون وقد ترحرحت محتويات الكيسين فاتّسعا عرضاً وانكمش ارتفاعُهما على قرقعة المراتبين وحكّ المعلبات بعضها ببعض . أسحب حزمة المفاتيح من جيبي فيعترضها كيس سامح فأزيحه مسافة بلاطتين وأشرّع الدرفة اليمنى إلى جهتي على وسعها وأتركها ملصوقة بحائط المستديرة . ولأن باب الخشب كنتُ تركتُه مفتوحاً ، ندخل بحملنا مباشرة إلى المطبخ ونضعه بين البراد والطاولة التي نأكل عليها . فجأة يقطّب جبينه سامح ويهزّ رأسه يمنة ويسرة كأنما يتأسف على شيء . سأنزل وأعود ، يقول كلمتيْه ويمضي ، فأعرف أنه نسي شيئاً في السيارة ويريد إحضاره ، ولعل ذلك أن يكون بعض متاعه وثيابه . أضع ركوة القهوة على البوتوغاز وأقرّر أن أصحّي رأسي ورأس هذا المزاجيّ الذي اختار احتمال الغربة في دائرة الحصار واحتمال سلخ ابنته من دائرة عينيه ، ومن إحاطة سياج القلب ، قلبه ، بعمرها الغضّ ، وهو القادر ، لو شاء ، أن يخرج مع عمّه وامرأة عمه وابنتيهما وابنته هو حينما خرجوا جميعاً من شارع محمد الحوت ومن كل بيروت الغربية للمكوث في اوتيل بْزِمّارْ في المناطق الشرقية ريثما يتضح الوضع في الجنوب ويصبح من اليسير عليهم العودة إلى بيتهم في النبطية . كان بمقدوره ، لو شاء ، أن يلازمهم من أجل طفلتِهِ إن لم يكن من أجلهما معاً ، ولكنه ، ربما ثم ربما ثم ربما، لأمرٍ في نفسه أعمق من جزعه من تقبّل احتمال الهزيمة يُؤْثِرُ هذه المغامرة بكل وجوده ، على عكسي أنا المضطر إلى لزوم بيروت الغربية بسبب الشرش الفلسطيني الذي قد يعرّضني ، في الجنوب أو في المناطق الشرقية ، إلى ما لا يتمناه لنفسه عاقل .
شيء يسحب الهواءَ والنفَس والروحَ يعبر فوقنا خطْفاً وينخطف بعده مثيلٌ له ثم يقصف جدارُ الصوت ليقصف بعده مثيلٌ له فترتجّ الركوةُ في يدي فأعجّل وأطفيء الغاز وأسكّر قنينة الغاز وأشدّ السُّكْرَ بكل قوتي ، وأنا أتخيل هذه القنبلة الموقوتة في مطبخي تأتيها من زجاج باب البراندة شظيّةٌ تشعُّ بالنار وتخترقها وتفجّرها على ما في البيت كله تفجيراً . وما أنتبه إلاّ وسامح بباب المطبخ ، وبيده كيس أسود ، يختنق بأنفاسه اللاهثة ، فأتخيله وقد فاجأه جدار الصوت فراح يأخذ درجات السلم اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، بدل أن يتوقف حيث هو من السلّم أو على أقرب مستديرة من مستديرات طوابق البناية ، أو أن يكون له من حضور الذهن ما يملي عليه الهبوط إلى مدخلها لا الاستمرار في الصعود إلى طبقاتها العليا الأكثر عرضة للإصابة بالقصف إذا ما هوى .
ليلةَ الملجأ الطويلة أنهيها بفتحيَ البابَ الحديدي وتَلَمُّسِ رأسي الخروجَ إلى مصطبة المدخل المغسولة بوهج الشمس التي لم نشهد طلوعها مَشْرِقَيْن. النور يشدّ جفوني على بعضها ويتسرّب وقحاً مصراراً إلى حدقتيّ من خلل الأغشية الرقيقة التي لا تقيهما إلاّ عبث الهواء والغبار . البناية لم تُصِبْها القذائفُ المتبادلة بين الشرقية والغربية لا في الليل ولا في النهار ، والثماني والأربعون ساعة التي مضت قضيناها في الصلاة والانتظار والسقوط في غفلات النوم السارقات لوعينا منّا هنيهات هنيهات تطول وتقصر وتنتهي في كل مرة بِوَهْلَةِ اليَقَظَةِ تبغتنا لتعيدنا إلى ما كانت أخذتْنا منه هنيهات هنيهات ، وكأنما الوعي فينا مثل القارب المهجور المتقلقل بين دفع الموجات له ولقّاتـها حواليه ، مسلوب المجذاف والربّان . ومن أين تأتي كل تلك الأحلام الغريبة ، ولماذا تطول حتى لا منتهى وتتلبّد في مسيرها حتى لا حركة ، وتداخُلُ بعضها في بعض تُراه لأي مرتجى؟ تتآلف عيناي مع وهج الشمس وأنا أقطع الطريق إلى رصيف مدرسة الثلاثة الأقمار وأسير صعداً في اتجاه وزارة الخارجية في ظل البنايات التي لعلها تحميني من قذائف الغربية إذا ما عادوا إلى تبادل القصف من جديد بعد الهدوء الذي فرضوه علينا بغير إعلان مع حلول أول الفجر . ميشيل خرج من الملجأ بعد منتصف الليلة التي سبقت ليلتنا الطويلة تحت القصف . علّق كيسه الجلديّ بكتفه وتناول رشّاشه الصغير المتكىء على الزاوية التي يؤلفها لقاء جداريْن في عمق الملجأ وخرج بلا كلام ولا شرح ولا وعد ولا حتى التفاتة تنوب مناب جواب واحد عن أسئلتنا الغامرة الشّتّى . يقلقني قلقُه وتربّطني الأسئلة الجديدة التي يطرحها على نفسه وقد أُذْهِلَ عن حضوري المعلّق في الصمت ، يقلقني إلى حدّ الهلع لاستحالة الإجابة عن شرعية التناغم العسكري بين الجيش الاسرائيلي الذي حلّتْ كتائبه علينا حلول الضيف والحليف والمنقذ ، في طول الأشرفية وعرضها وفي ما حولها وفي الامتداد الصاعد إلى التلال والجبال شرقيّنا شرقيّنا ، وبين جنود وضباط وقيادة قوات التحرير ، ذلك التناغم الذي على مرأى من المسلمين بكل مللهم والأحزاب بكل توجهاتها وعلى مرأى المحيط العربي الذي يزنّرنا ، بعد أن كان سراًّ تناغُمُنا وسراً ظلّ لسنوات من الحرب مديدة كانوا يدرّبون خلالها شبابنا ويزوّدوننا بالسلاح والعتاد وما عجنوه وخبزوه من أمور الحرب التي لا نزال فيها أطفالاً . الأسئلة من أين وُلِدَتْ يبقى سرّه هو ، سرّ ميشيل، والبحث عن الإجابة يبقى لي الهمّ المتعتِع لذاكرتي التاريخية. الدكتورة نُمَيْمَهْ إِنانا الإيرْيالاّ تهوّن عليّ الأمر وتؤكد لي أن الإجابات كلها عن الأسئلة التي يطرحها على نفسه ميشيل وغير ميشيل منذ وصول الجيش الاسرائيلي إلى شوارعنا وأحيائنا وكان قد أُجيبَ عليها في العهود السحيقة ، هي مكنوناتُ أزمنةِ كتابةِ العهد القديم . تؤكد لي معرفتَها ولكني لا أطمئنّ ، فميشيل بدأ يتخيّل دخولَنا المنطقة الغربية بعد انسحاب الحليف إلى ما وراء الحدود دخولَ المهيمن المستردّ للزعامة المسيحية على لبنان ، وينفخ سؤالَه المحشرج في الهواء أنْ كيف سنواجه نظرات عيونهم، وقلوبُهم مملوءةٌ بالعجب العجاب لاستنصارنا بصُلاّبِ المسيح عليهم ، هم الذين يحتفل قرآنهم بمريمنا وابنها احتفال التجلّة والمحبة باحتسابه لهما قدسيةً هي ركن من أركان الإيمان ، كيف ثم كيف ثم كيف ستلتقي بعيونهم عيونُنا على أرض هم فيها ، رغم تفوّقنا العسكري والحضاري ، أهلُها ومواطنوها والمشاركون في صناعة تاريخها ؟ على كلِّ الأسئلة أن تنتظر الآن ،فخطواتي العجلى إلى حيث أظن سيكون ميشيل هي الصفحة التي لم تنقلب بعد من دفتر التاريخ ، تاريخي ، بعد عودتي من لندن ، لأقرأ سطورها وأعرف على أي مفترق من الطرق أقف الآن ، وقد رحل إلى خفايا الجبال إدجارْ أخي في مهمّة لها رائحة الجفاف ، ربما تأخذه عن نفسه و عنّا بعيداً بعيداً فلا يعود بعد ذا إليها ولا إلينا أبداً ، حتى ولو عاد يوماً ، مرة ، حتى ولو عاد .
وكأنما من غيابة الذكرى إلى الرصيف الآخر للشارع يعود يعود ذلك العتيقُ المدربسُ الذي كنتُ أحسب الحرب رحّلته من أمد بعيد إلى أميركا أو ذهبت به إلى أبعد من كل القارات ، يدقّ الرصيف بنعليه اللذيْن لهما ، كما لروحه ، إرادة الإصرار وعزم التأكيد ، لم ينيا من تعب ولم يضجرا من تكرار العبور من وإلى. ذلك العتيق المدربس الذي ، حينما خذلتْني أطروحتي في لندن ، إبّان تطويري لفصولها فَتَنَّحَتْ وأرستْني في أول جملة لأول مقطع من الفصل الثاني ، أرسل إليّ في السرّ من بيروت خمسين صفحة نقدية أسند بها البحث الذي لولاها ، الخمسين صفحة تلك ، لظلت كاثرين مانسفيلد تنتظر ختاماً له محكوماً عليه ربما ألاّ يُنجز أبداً . في تلك الأيام كانوا ينادونني في أروقة الجامعة بالْ Ph.D. candidate وكان صوت في داخلي ، كحشرجة السعلة الناشفة، يناديني بعبارة أخرى ، وكنت أتعذّب في سرّي ، والطبيب الذي كان يشرف على علاجي كان طالما أعلن عجزه عن فهم جفاف بشرتي حتى حينما كان يرطّبها لي بالمساحيق . العتيق المدربس لا يلتفت إلى رصيفي ويمرّ فلا يراني من أمام ولا من وراء وتظل تدقّ قدماه على الرصيف دقات العزم والإصرار اللذيْن بهما بنى لنفسه في الوسط الجامعي سمعة الأستاذ الذي يحضّر أي مادة ويعلّمها ، إذا أُسندت إليه ، أفضل ممّا يعلّمها المختص بها من زملائه . أيام تتلمذي عليه كان ملاذي الحبيب ، ولكنّ ما حدث لي في لندن كسر في داخلي شيئاً راحت بعده الأشياء تعسّ في كل كياني، ولا شيء أكثر ، لأن حرارة النار كانت دخلتْها ولم تقدح فيها لهباً .
البونسيات الملوِّنات لحديقة بيت جْوَانيتّا يكسرن عينيّ الكسرة الحادّة التي تعرفها عيناي في لحظات هنّ مواسمُ حَرَجِ الروح من نفسها ومما يجري لها في صحبتي ، على براندتي كنتُ أو في الشارع أو حتى وأنا أعبر نظراتهنّ ، المتمشّيات في ساحة الجامعة وأروقتها ، وقبل ذا الراصدات وصولي إلى بوابة الثانوية وكأنني ، دون زميلاتي ، أحرّك في أعماقهن اللاوعية أحاسيس لا عهد لهن بها، فيضيّقْنَ عليّ بوابة العبور إلى الساحة بحشد نظراتهنّ المربـِكة حتى لأرواح المكّار والفجّار . ينشقّ الباب عن ملامح جْوانيتّا التي لم تنم كما تنام الحملان ليلة أمس ، ويأخذ وجهَهَا وصوتَها اصفرارُ بونسياتي الذابلات في أصص أمي ، على براندتها ، في بيتها ، وتسألني جْوانيتّا ما الخبر ، فأعاجلها بالسؤال عن ميشيل ، إذا كان مرّ عليها أو بات عندها الليلة أو التي قبلها ، أو إذا كان ساررها بالوجهة التي أرادها حينما خرج من الملجأ تحت القصف وتركنا نَهْبَ الربّما واللّعلّ والعَسى . بالنفي تجيبني جْوانيتّا . جْوانيتّا ، الرياّنةُ كلِّ شيء ، كانت ستسحب من دربي إلى دربها قدميْ إميل متّى ، منسّق اللغة الإنكليزية في الثانوية ، لو أنه رآها ، كما سحبتْه مني ، وقبل أن يُتِمَّ عبورَه إليّ ، ديمهْ الحدّاد ، تلميذتنا، الريّانةُ كلِّ شيء هي الأخرى ، والتي كانت لا تفتأ تذكّر زميلاتها ، لدى عبور الدكتورة نُمَيْمَةْ إِنانا الإيرْيالاّ ساحة الملعب، بالقصة التي مطلعها She was ugly on purpose . الريّانة اللعينةُ جعلت من كلِّ ديمهْ في حياتي وحياة الإيريالاّ مَفْقَأً لدمّلِ الروحِ الريّانِ بشبق العَمَلِ المخمَّر فيه حقباً حقباً . كل ديمهْ بعدها ، بل كل تلميذة في مدرستي وطالبة في جامعتي ريّانة أو منغنغة أو مهدّلة في قلوب الشباب وأرواحهم ، لم يعد لها نصيب من النجاح في صفوفنا ، رغمنا رغمنا ، وإن أُحرِجنا باجتهادها ، فالعلامة التي لا تشي بتفوق وجدارة . هو الشر كأنما لا بد منه ، وهو الخطيئة التي لم تقلع عنّا ، ربما لتُكْسِبنا بجدارةِ إصرارها العذابَ الذي حلّ علينا وعلى شوارعنا وأحيائنا لعنةً تعسّ في جوارح الأحياء والأشياء عسيس القذيفة الصاروخية التي انخطفت فوقنا ، وفي لحظات سوف تقدح في بنايةٍ حائطاً وسوف تشعل في بيتٍ لهباً .
مِسْ بْريلْ ! مِسْ بْريلْ ، لا تنصتي إلى الصوت الطالع عليكِ من الصندوق الذي أغلقتـِِه لتوّكِ على فرائكِ ، فقريباً قريباً ، ستتقطع خيوط القصة من صفحات الكتاب ، ومن الدهاليز التي اتخذتِها لنفسكِ من روحي سكناً ، سوف تنسلّ قريباً قريباً ، حرّةً حرّةً ، إلى الهواء الهواء .
من ميدان سباق الخيل إلى مستديرة شاتيلا يجب أن يحرق الطيران كل شجرة صنوبر من شجرات حرج بيروت قبل أن نحشد دباباتنا في ساحة المتحف وفي الشوارع الجانبية التي تصب فيها استعداداً لاقتحام المنطقة الغربية . أسرّح قدميّ قريباً من ساحة القصر الجمهوري وأعطي التعليمات المفصّلة على ورقة وقّعتُها بحروف كبيرة سوداء واضحة كالليل . ضبّاطي تحمّسوا لحرق الحرج عن بكرة أبيه من أوّل مرة ألمحتُ إليهم بالفكرة ، وهم يشاركونني الرأي أنّ من الغباء ألاّ نتصيّد عصفورين بحجر واحد فنمنع الفلسطينيين من الاحتماء بكثافة الأشجار ومن تصيّد جنودنا ونحن نتقدم في اتجاه المخيّميْن، كما نشوّه للبنانيين هذا المنفسح الأخضر من عاصمتهم التي إن لم نشوّهها وندمّر معالمها الحضارية الآن الآن ، ولنا اليد الطولى ، فلن يكون لتل أبيب حظّ قليل أو كثير أن تحلّ محلّها في هذا الشرق كمركز سياحي ومالي وتجاري. العراقة المتجددة لهذه المدينة ونشاط أهلها المقيمين والوافدين ، أولئك الذين كأنهم في الهمّة والخفّة والابتكار من جنّ سليمان وعفاريته ، تُهْمَتَان صارختان لكل العواصم المجاورة ولكل الشعوب التي تسكنها ، تهمةُ احتراف الركود في ذكريات لمجدٍ قديمٍ وتهمةُ الخمول في زمن تفوق سرعتُه سرعة الضوء ، وبعد غد سرعةَ الحدْس ، ربما ، ربما . تدمير هاتين السمتين هو هدف الحرب التي وراء الحرب والحصار الذي وراء الحصار ، ولا يرى رأيي هذا ديفيد مردخاي ، فلإفشاء شرعة التعايش التي يدافع عنها ويرى فيها المدخل التاريخي إلى هيمنة إسرائيل على الشرق الأوسط برمّته بعيداً عن رائحة الدم ، علينا ، يحاورني ، أن نُبقي على بساتينهم وحقولهم وأحراجهم فلا نحرقها حتى لا نشعل في قلوبهم حقداً يظل بيننا وبينهم ، في شرعة التعايش ، سدّاً بصلابة السدّ الذي بناه الاسكندر لحماية المستجيرين به من يأجوج ومأجوج . أتركه يدافع عن رأيه بحرارة يستمدها ربما من بعض مزامير داوود وأجمّع في السرّ حولي الذين يؤمنون مثلي بضرورة التوحيد لثنائية أكل العنب وقتل الناطور لأنّ اجتياح عاصمة عربية على مرأى من الدنيا ومسمع قد لا تتوافر لنا ظروفه ثانية لعقود، وربما لقرون .
لواشنطن حمائمها وصقورها ولنا في تل أبيب حمائمنا وصقورنا ، وها على مدى الفضاء الأزرق فوق بيروت تتوحد الصقور بالصقور في السابحات من مقاتلات الأف 16 وكأنما في زرقة بحر لا أثر للموج فيه . هوذا شِعْرُ القوّة يا ديفيد مردخاي ، هو ذا مزمور شعبك يا داوود النبي ، مفعماً بيقين الحدس العلمي حيث للحدس الرومانسي لا مكان البتّة في خواتيم القرن العشرين . وبغنائنا لهذا المزمور سَنُسْكِرُ العقدين الأخيرين من هذه الألفية الثانية ، بانتصاراتنا سنسكرها لنعلن ولادة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل في منتصف الليلة الأخيرة للعام 1999 ، فنودّع ونستقبل لأنّ لنا الماضي والحاضر والمستقبل ولأنّنا سنكون قد حققنا نبؤة الربّ المُغَنّاةَ في مزامير داوود أنْ تنويهاتُ الله في أفواههم وسيفٌ ذو حدّين في يدهم . ليصنعوا نِقمةً في الأمم وتأديباتٍ في الشعوب .
كُرّي من أعالي السماوات ، كُرّي ، فلقد سئمت روحي أزلية هذا الأزرق وأبديته الرتيبتين ، وضُجّي أوطأَ أوطأَ ، فوق سطوح بيروت ضُجّي ومزّقي بهديرك الخاطف للروح والنفس والهواء نداءَ مآذنها ، ولفّي ودوري على منخفض الرعب فوق مخيميْ صبرا وشاتيلا ، واقذفي بشهوة النار في اخضرار شجرات الصنوبر من ميدان سباق الخيل إلى مستديرة شاتيلا . إلهي إلهي البراكينُ تتفجر من قلب الخضرة شهقاتٍ عملاقةً من حمرة النار وشهقاتٍ مثلها كأنها قطع من الليل . من الخضرةِ الحمرةُ والسوادُ ، هو ذا شِعْرُ القوة ، هو ذا الإعجازُ الذي سأقرأه عليك يا إدجارْ قبل أن تباهيني باختباراتك التي ما زلتَ تحضّر لها وتجري عليها تجاريبك في جرود وغابات تلك الجبال . تلتهب عدستا منظاري وتلهبان حدقتيّ بالنار .
ماذا يصنعُ الآثمُ بِوَرِكَيْنِ تحرُسانِ عذابَهْ ؟
لأمرٍ ما أوحتِ النديمة ُ لنديمها أنّ الرشيفَ أنقعُ للظمآنْ
في حُكْمِ الخمرةِ المرأةُ : شرٌّ في الدنيا وثوابٌ في الآخرهْ
- تَنَادُمُ شفتيْنِ حديثُ العاشقهْ
بين الحازمية والفياضية والجمهور ، محطاتنا الثلاث التي تتمركز فيها دباباتنا ومرابض مدفعيتنا، وجهتُها كلها الشطرُ الغربي من بيروت ، الشطر الطاحش برأسه في البحر ، بينها محطاتنا الثلاث، لأيام ثلاثةٍ ، وأنا أطارد الأشباح والطيوف وأتعلّق بِهُدُبِ الشائعات وأحطّ الهمسة على الهمسة لتصيرا في أذنيّ النبأ الذي أحسُ به ويخشاه قلبي وشيءٌ فيّ يرفض فهمه لأنني إذا قبلتُ بفهمي له فقد تحنو عليه ضلوعي وتتبناه نواياي فلا أراني إلاّ أسقط في حالة الإنحياز التي هي أخطر العواطف لأنها أضعفها . رأسي لا ينام لا في الليل ولا في النهار ، فأصعد بالجيبّ من محطة إلى محطة وألفّ فأنزل الطريق رامياً بعينيّ إلى مساحتين محددتين من بيروت الغربية تزداد بمرور الوقت الخصومةُ حول أولوية إحداهما كهدف استراتيجي للحصار والقصف والاقتحام الذي نهيءّ له كل الظروف الممكنة . رأسي لا ينام وإن أغمضتُ عينيّ أربع وعشرين على أربع وعشرين ، والجيبّْ كأنه قطعة مني لا يفارق هواجسي ويعيد عينيّ المرة تلو المرة من هذا العلو إلى ميدان سباق الخيل المحاذي للشارع الذي لا يني يتصوره كبار ضباطنا محشوراً بأرتال دبابات الميركافا الزاحفة في اتجاه البربير فكورنيش المزرعة وصولاً إلى الرملة البيضاء حيث سنقطع بيروت شرحتيْن ونُضعف حالة المقاومة بحؤولنا دون تنقّل الفلسطينيين بين معسكراتهم الثابتة في المخيمات ومراكز مناصريهم في رأس بيروت نزولاً فالتفافاً نحو منطقة السان جورج والفنادق امتداداً إلى المرفأ حيث قواتنا البحرية تتهيأ لتنفيذ عمليات الإنزال في عين الوقت الذي نقتحم فيه منطقة المتحف وننهي ما كان لسنوات خطّ تماسّ لا يُعْبَرُ . وهذا الرّتْل من الميركافا ، من المتحف إلى الرملة البيضاء ، سيحرم الفلسطينيين كذلك من المدد العسكري والبشري الذي من المحتمل أن يتلقّوه من مناطق في رأس بيروت حينما يشتد الخناق على المخيمات . آيين شارون عينُه على نزلة الحازمية فكاليري سمعانْ فالمطاحن فمنها وعبرها التسلّلُ إلى مخيمي صبرا وشاتيلا . منظاره يصرّ عليه أن الخطّ العسكري لعملياتنا يجب أن يشكّل طوقاً حول المخيمات بعزلها من الجنوب عن الضاحية الشيعية ومن الغرب والشمال عن الشطر السنّي الذي ينتشر فيه المرابطون وتتمركز فيه الأحزاب اليسارية . الخط العسكري هو خط كاليري سمعانْ فالسفارة الكويتية فالمدينة الرياضية فالجامعة العربية فالملعب البلدي فمقبرة البيارتة السنّة، خطّ يتدوّر ليشكّل شبه دائرة كاملة لا يمكن لأي مقاتل فلسطيني أن يخترقها . والخصومة بين النظرتين تتفشى بين الضباط وتطارد روائحُها الجنودَ وتخلق حالة من البلبلة نحن بغنى عنها ، وقد ابتعدنا كثيراً كثيراً عن نهر الأولي الذي كان الخطّ الأقصى المسموح لنا ببلوغه ساعة بُلِّغْنا بأمر الاجتياح . الخصومة ليست نزالاً حول الأولوية الجغرافية لأهدافنا العسكرية بقدر ما هي سجال بين استراتيجيات النوايا . وبين أسرار قلب وقلب ينبض رأسي بالخوف من اقتراب حلول اللحظة التي لا مكان فيها لمحايد وحياد.
أصوات الرجال على مدخل الملجأ تناحر الهواء وتتصادم في غلوّ الحماسة والهلع للوصول بالجرحى إلى المستشفى الميداني تحت الأرض قبل فوات الأوان ، قبل فوات الأوان لأن الدم عزيز وصونُه من حالات النـزف أصبح في مهمتنا الهدفَ رقم واحد ، الأولوية بامتياز ، يوصي بها الأطباء الجراحون ويلح عليها معاونوهم ونتلبّسها نحن الممرضات كلما احتدمتْ بباب الملجأ أصواتُ المسعفين . دفعة جديدة من الجرحى بشظايا القنابل الانشطارية والمحترقين بالقنابل الفوسفورية . قلبي ما زال ينكمش فيه شيء لشراسة وبشاعة ما أرى ، ولكنّ عينيّ لم يعد يرعبهما منظر الدم ولا انشقاق اللحم ولا انفساخ العضل . توصية الطبيب الذي تولى تدريبنا كانت في محلّها فتجنُّبُ النظر إلى وجه الجريح الذي نسعفه وإلى عينيه يجنّبنا الخضّات النفسية التي تفقدنا القدرة على الأداء الصحيح . من رائحة المطهّرات التي يعبق بها القطن في يدي ينتشلني الصوت من ورائي على بعد أمتار ، صوتٌ حوّله الألم إلى صرخة تمنع اندفاعَها في الهواء كزّةُ الأسنان على بعضها . ألتفت إلى حيث هو يتمدّد ، والطبيب مكبّ على كتفه العارية يعالجها ، والممرضة تمسك بيديه من الرسغين تمنعهما من الحركة ، وأناديه باسمه ليطمئنه وجودي فيردّ بصرخة لا تتم ويخمد صوتُه بين الأصوات الآمرة والهمهمات الملبّية . بلحمه وشحمه بين الجرحى ابنُ خالتي حسام ، وليس بيدي خيار التنقل لتفقّده والعناية به بدل الممرضة الأخرى . وبخمود الصوت هناك في سريره يتململ في داخلي صوتُ الضعف البشري، صوتُ الذاتية التي لا يتأتى لها أن تتخطى ذاتها فتنفعل بألم مَنْ لا تعرفه تماماً كما تنفعل بألم مَنْ تعرفه وتودّه . ينهار في داخلي شيء ، وأكثر من أية لحظة مضت أراني أحاذر أن تقع عيناي على وجه الجريح الصامت بين يديّ حتى لا يرى فيهما مني الصورة التي أكره أن أرى انعكاسها الصارخ في نظرات عينيه .
ما اسمكِ إذن يا آنسة ؟ يطلع الصوت من الروب الأبيض الطويل الواقف إلى جانبي ، ولا أعرف من أين سقط عليّ ، وأكاد أن أجيبه لولا أن تمتلىء عيناي بالشاب الأسمر الطويل الذي عَبَرَ مرة من رصيفه إلى رصيفي قرب الجامعة العربية ومرّ بي كأنه لا يمرّ بي لأراه بعد هنيهة ينظر في اتجاهي وكأنما يراقبني من بعيد ثم يستدير ويختفي في عطفة شارع .
سألتكِ ما اسمكِ ، ما اسمكِ يا آنسة ؟
لمن تُقْرَعُ الأجراسُ ، يا أرنست همنغواي ، إن لم تكن تقرع لي ولك لتقتحم اليوم معي الحرب الفلسطينية الاسرائيلية على أرض لبنان كما اقتحمتُ معكَ من سنوات طويلة حربـك الاسبانية في صفحات روايتك وعلى الشاشة السينمائية وقضيتُ الليالي أتنقل بين روايتيْن لكَ وأحلم بأنني أنا الممرضة ، أتعرّض لكل ما تتعرض له هي من أخطار الحرب وهواجس الحب وخوض المغامرة التي تتمناها في أعماقها كل امرأة ، بعيداً عن التقاليد وعن أقنعة الثقافة التي تلبس وجوهنا وعقولنا وتسيّج بالخوف أنفاسَنا ونبضات قلوبنا وتقلّبنا على مضاجع الشك حتى في نبل العفوية الخُلُقية المصاحِبَةِ للأحاسيس التي تفاجئنا ببداهتها فلا نملك من الخيار تجاهها إلا تأمّل أنفسنا تصطخب بها ، كما يتأمل القاربُ نفسه يصطخب به الموجُ دفعاً ولطماً وميلاً وسحباً وعلوّاً وخفضاً في حركة دائبة هي ما فهمتَه أنتَ من معنى الوجود وما أحاوره الآن ويحاورني ، لمن ، ولمن سواك وسوانا ، تقرع الأجراس ، يا همنغواي ، في هذا الليل المشتعلةِ محاورُه بصلصلة الرعد ومطر السّوء وتصلية الجحيم المختنقةِ نارُها بدخانها والمضيءِ دخانُها بنارها والملوَّحةِ مخيّماتُها بهذا وذاك من الألوان الغامقة والقاتمة في متدرّجاتها وفي بغتات هيمنتها وفجاءة انشراقها إلى داخل ذاتها ، أراها كلها وإن أكن لا أراها ، لمن، ولمن سواك وسواي وسوانا ؟
سألتكِ ما اسمكِ ، ما اسمكِ ، يا آنسة ؟
كان الجوُّ رائقاً رائعاً ، بسمائه الزرقاء المبقّعة بفسحات ذهبية من النور وكأنها طرطشات من النبيذ الأبيض انسكبت فوق الحدائق العامة ، من تلكم السماء الرائقة انسكبت ، وكأنْ من لا مكان . وبالرغم من روعة الجو ذلك النهار ، فقد خامر مِسْ بْريلْ إحساسٌ بالرضا ، بالسعادة الغامرة، لاختيارها الفراء ، فراءها ، ترتديه اليوم في نزهتها المعتادة بعد الظهر من كلّ أحد . الهواءُ كان راسياً ، لا ينبسُ بأدنى حركة ، إلاّ أنك ما إن كنتَ تفتح فمك حتى كانت تأخذك قشعريرةٌ خفيفةٌ خفيّة كتلك التي يثيرها فيك كوبٌ من الماء المثلّج وأنت تهمّ ُ بأخذ الرشفة الأولى من حفافيه . ومن حينٍ لآخر كانت تنساق في ركود الهواء ورقةٌ سقطتْ من غصن قريب .
ما أضعفَ ذاكرةَ المرأةِ : تنسى كلَّ شيءٍ إلاّ نفسَها
- المرايا أحاديثُ للمرأةِ عن عيونِ الرجالْ
أعرف أنه انضرب على عمره منذ لمحها على مستديرة الدرج وأنه الآن يطاردها من طابق إلى طابق مصرّاً على زجّي مع الجيران في فضيحة كنت بغنى عنها . في لمحة البصر اختفى وتركني مع رائحة المارلبورو والسجائر المشفوطة إلى آخرها والرماد الممسوح بالفلاتر في منافض البيت في كل غرف البيت، فكل شيء مثل سياق مسرحيته وسياق ديوانه وأصداء كلماته وأفكاره في خاطري ، إلحاحاً وإلحافاً وتشبّثاً بالشيء وتقليباً له على كل الوجوه ليُرى من كل زواياه ويظل يُرى ويُرى ويُرى فليس منه فكاك، فهو الهاجس والحمّى وطلعةُ الروح محشورةً في الحلقوم ، محشورةً ، بلغته هو ، حتى لا سياق،حتى لا انسياق ، كحافّةٍ بلا هاوية ، صورتِهِ الشعريةِ التي يقول إنها تختصر وجودنا ، وهي التي هي ، إلحاحاً وإلحافاً وإمعاناً حتى لا خلاص للنص من مفرداته إلاّ باختناقه بها ، فإذذاك يتحقق للنص سياقُه ، وإلاّ فما هي الدلالة اللغوية لهاجسِ تفكّكِ الأشياء وانحلالها وانهياراتها في الحوار الذي يسير ولا يسير لأنه يظل يفجؤك بالإشارات والإيماءات والإلماحات إلى الشيء عينه عينه ، وإلاّ فما معنى الإصرار في مقطّعات ديوانه على سَلْكِ كل صُوَرِهِ الشعرية بهاجس المرأةِ المرأةِ ، إلحاحاً وإلحافاً وتشبّثاً وإمعانً، وكأنما هو صدى لسليمان في نشيد الأناشيد ؟
أعرف أن العيشة معه هذا الصيف أصابتني بالعدوى ، عدوى تحسس الكلمات بطريقته الشعرية وطريقته الدرامية ، ولكنّ الضغط على حسّي النقدي ، بقراءتي لأوراقه كل يوم والاستماع إلى شذرات من أحاديثه مع نفسه ، هو الآن ما يشغل بالي ، من قلقي على نفسي لا من قلقي عليه ، لأنني بدأت أفقد شيئاً من برودة أعصابي التي هي مضرب المثل في الجامعة ، سلاحي الذي به قهرت كل متحرّش ومستفزّ. ولكن لا عليك من هذه العدوى ، لا عليك ، فلقد نجوتَ ، يا حاتم ، من أعظم منها فلم تجرّك إلى التدخين لا رائحةُ المارلبورو المعشّقةُ بها الجدرانُ وقطعُ الأثاث ولا الرمادُ الممسوح بالفلاتر في كل منافض البيت ، نجوتَ نجوتَ وبقيتَ أنتَ أنتَ .
أغمض عينيّ لأسترجع من ديوانه الصفحة التي لا تزال تطاردني كالوسواس منذ ليلة أمس ، مرة واحدة أسترجعها ثم آخذ الدرج تواً إلى ملجأ البناية التي عبر الشارع ، قبل أن يسحب فيليب حبيب طرف الجزرة ويمدّ إلينا بطرف العصا فتنصبّ علينا ضرباته من جديد قذائفَ وصواريخ :
الحواسُّ أفواهُ الهواجسِ والحدسُ امرأهْ
الملحُ امرأةٌ قليلُها مُصْلِحٌ للذوقِ ، كثيرُها موجِعٌ للرُّكَبْ
البطاطا الحلوةُ ثديُ مُرْضِعَهْ
ليلُ الشتاءِ امرأةٌ تلحسُ من بُرْنـِيَّتِها دبسَ الخرّوبْ
- تهدُّلُ ورقِ الموزِ على أقراطِ الموزِ نسوةٌ ينحنينَ فوق همومهنّْ
- يا لحمّامِ الشَّبِقَةِ من حمّامٍ : ليفةٌ من الزعتر الفَتِّ وصابونةٌ من الشمّامْ
ولا يقنط من رحمة الله إلاّ الكافرون ، وما النصر إلاّ من عند الله ، ولنبلونّكم بشيء من الخوف، آياتٌ كلها محكمات كانت تطاردني وتلحّ عليّ كلما اشتدّت مطاردتهم لي ولشبابي الأربعة وللذين التحقوا بهم من أبناء المدارس ، في الليل وفي النهار ، على سطح الأرض وفي سراديبها ، آياتٌ قلبي كان يخفق بها كلها وتخفق بها أحلامي في غمرة النوم ، حتى كانت الليلة التي سهوتُ فيها أول سهواتي بعد صلاة العشاء على حصيرة الجامع في زاوية منه عصيّةٍ على العين وحسحس إلى أذنيّ صوتٌ خفيّ أنْ ولسوف تُسألون ، ولسوف تُسألون ، ولسوف تُسألون ، مرّاتٍ ثلاثاً حسحس إلى أذنيّ ، خفيفاً لطيفاً هفيفاً ، أيقظ فيّ شيئاً وما أيقظني ، ولعل روحي غادرت جسدي هنيهة وسرت سريان الرؤيا فهي تطّوّف في سماء القدس وتتلألأ مرغرغةً فوق قبّة الصخرة ، وإذ من القبّة يحسحس إلى أذنيّ الصوتُ الذي سمعتُه آنفاً أنْ ولسوف تُسألون ، ولسوف تُسألون ، ولسوف تُسألون ، ثم وإذ بمسحة الطمأنينة تسبح بروحي إلى مستقرها مني ، فلا أنتبه إلاّ على شفتيّ تبتهلان أنني رأيتُ ووعيتُ وصدّقتُ ، وأني للتبشير بالرؤيا غداً القويُّ الأمين .
في البيت الذي بِقَفْوَةِ جامع باب السراي ، أنتظرهم ، شبابي الأربعة ، منذ حلول الظلام أنتظر وصولهم واحداً إثر واحد ، فيسقطون عليّ كحبّات الندى ويستحيل الليل كله إلى لحظة فجر لأنهم طلائع الفجر الذي سيصل الأرضَ بالسماء بعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول عليه من الله صلوات وبركات ، يصل الأرضَ بالسماء جهادُهُمُ الذي فوق الجهاد بالقول وببذل المال لأنه البذلُ خالصاً من كل شوائب الخوف والشك والتردد والتذبذب ، البذلُ الذي بعده تنغلق على نفسها من خجلٍ كلُّ أبواب الكرم ، البذلُ الذي هو التصديق بالوعد ، تاماً بنفسه لأنه النفسُ مبذولةًً في لحظة يتّحد فيها الفعل بالفاعل فلا يفترقان بعد تلك اللحظة أبداً . ذلك هو سلاح الشرق الاسلامي الذي لا يقهره سلاح ، نُعِدُّهُ بتهذيب النفس وتربية العقل وتهيئة الروح للارتقاء بالأنقياء الأصفياء منّا من رتبة الغفلة إلى رتبة الصحوة في قفزة حميمة فوق حواجز الأنسنة والأَرْضَنَةِ ، استشهاداً سمّوْه مضمراً في سياقِ الجهاد أم سمّوْه استدراجاً للموت مقصوداً إليه قصداً ، لا فرق الآن لا فرق ، لأنه السلاح اللامرئي في وجه مرئيات الحضارة الغربية التي تجتاحنا من قبل أن يبدأ الاجتياح وستبقى تمارس نفسها على كياناتنا حتى تلغي الشرقَ فينا وتلحقنا بمقطوراتها ذَنَباً من أذناب العالم المقهور المندحر.
ولكنْ أبداً أبداً ، فعادل الديماسي وسليم الحبّال وأحمد المرسي ونزيه القبرصلي هم خليّة الفجر الأولى ، أُسّست ، كما كل الخلايا التي لحقت بها ، على الإيمان بـ كَمْ من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وسرّاً ، فلا يعرف أفراد الخلية الواحدة أفراد الخلية الأخرى ، عملاً بنصيحة الرسول الكريم أنِ استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ، وعلى أن أدرّبهم جميعاً أنا وأسلمهم إلى أنفسهم يخطّطون ويعدّلون في خططهم وينفذّون لتكون كلمة الله هي العليا دون الرجوع إليّ إلاّ في حالة الأزمات المعضلات . ولقد فهموا أن العدوّ يحاول إقتحام بيروت الغربية من محاور ثلاثة وأنّ محاورَ مثلَها ثلاثةً تواجهنا نحن في هذه المدينة، أوّلُها المحتل بجنوده وضباطه وآلياته ، وثانيها الصغيرةُ نفوسُهم من ملّتنا ، المتعاملون مع المحتل ، وثالثُها مسيحيّو قرى شرقي صيدا المنضمّون إلى السرايا اللبنانية وقوات التحرير ، المتحالفون مع جيش العهد القديم لاسترجاع الهيمنة التي فقدوها على لبنان نهائياً منذ شباط ال 75 . خليّة الفجر الأولى لا يزال يلاحقها الكابتن ماردكوش ويلحّ في التنبيش عنها بعد أن فجّرتْ أربعةَ متاجر كبيرة وثلاثةَ محالّ بقالة تتعامل بالبضائع الاسرائيلية وصَفَّتْ مُرافِقَ الماردكوشْ نفسه فنجا هو ، فارّاً من قضاء الله إلى قدره المؤجل المحتوم . وخلايا الفجر أُشْرِبَتْ كلها نورَ الرؤيا ، فعملياتها الاستشهادية الأدقّ ستبدأ ضد الجيش الاسرائيلي بعد أن تنهك روحَه محاولاتُه لاقتحام بيروت فيرتدّ خائباً ، منسحباً من كل المدن والقرى التي يتمركز فيها الآن ، تبدأ ولا تنتهي عملياتنا لأنها ستطارده عبر الحدود لتحرر مع الفلسطينيين الأرضَ التي دنّستْها جحافلُ التوراة ولترفع راية الله على قبّة مسجد الصخرة ، فهيّا وهيّا ، يا رفقة الفجر ، تعالوا فقد طال بي الليلةَ انتظاري لكم ، أم تُراه الشوقُ إلى بلالة حبات الندى يُفْقِدُني الصبر كما في كل ليل ؟
تحت شجرة من شجرات البلح في أقصى المطعم يجلسون ثلاثتهم يرتشفون القهوة ، أبو الوليد وجهّار الجُمَري والعَشّي منصور . أعرفهم ثلاثتهم ويعرفونني منذ شهور الربيع التي كنتُ أعمل فيها في المطعم من كل سنة كان يسودها الهدوء وتأخذ فيها الميليشيات والأحزاب في المدينة ، كما أهل القرى المسيحية شرقيّنا، كما الفلسطينيون في مخيم عين الحلوة ومخيم درب السيم ومغدوشة ، تأخذ كلها ، وكأنما كلها على اتفاق ، إجازةً من التقاصف بالمدفع والصاروخ والراجمة ، أعرفهم ويعرفونني ، ولكن معرفتي الآن بهم ومعرفتهم بي تُغيّرها المستجدات ، فتلك الأيام نداولها بين الناس ، وهم الآن تنفتح عيونهم عليّ وأنا أنقل خطاي العسكرية نحوهم فيهبّ منصور واقفاً ويتقدم في اتجاهي بضع خطوات ويتململ جهّار الجُمَري وأبو الوليد في مجلسهما بانتظار وصولي . لا يتغيّر هذا الجهّار ولو لبستُ له ألف بذلة عسكرية ولمعتْ على كتفيّ آلافُ النجوم ، فديفيد مردخاي نفسه سمح له باستبقاء سلاحه في المطعم وبعد ديفيد يحترس الضباط في التعامل معه فهو يجامل الكلمةَ بالكلمة فلا يأخذون منه إذا حدّثوه حَقّاً ولا باطلاً . وحينما أتاه نبأُ سَحْبِهِمْ لعديّ من بيته بعد منتصف الليلة التي كَبَسوه فيها استجابةً لوشاية واشٍ من الحيّ لم يعبر الشارع لطلب العون من الضباط المقيمين في مبنى دار المعلمين ، والذين يعرفونه جيداً ويجالسونه ربما كل يوم ، بل ، مثلما فهمت القصة ، أرسل إلى جوزيف الديار ، باعتباره محاميه ولاعتبارات العشرة والجيرة التي تربط بين العائلتين ، فأسرع جوزيف ليقوم بما يمليه عليه الود والمصلحة فسخّر موقعه في السرايا اللبنانية للتوسط مع المحقق العسكري للإفراج عن عديّ ، جليسه وأنيسه على مازات العرق التي تمتد أحياناً إلى ما بعد منتصف الليل . وأبو الوليد ، رغم تقدمه الآن في السن لا يزال يعيش بعنجهية شبابه الأول ، على ذكرى مطارداته الليلية لعصابات المخدرات في السعديات قبل ثورة الـ 58 ، إذ ما الذي غير تلك الذكريات يمنعه من الوقوف لي حتى قبل أن أصل إلى الطاولة التي إليها يجلسان ؟ أفهم عنجهيّتهما لأنني عرفتهما ، ولعل عاطفتهما لخطّ الريّسْ ، يوم كان، ودعمُهما السرّي للمقاومة الشعبية سنة ال 58 يقف بيني وبينهما اليوم كالسدّ الذي لا يمكن النفاذ منه ولا القفز فوقه كما كنت أتمنى وأتوهّم . أصافحهما وأسرع إلى قطف اللحظة قبل أن يتمكن جوزيف من مصادرتها لنفسه فأعلن عن وجود عديّ في جيـّبي ، وقد أُفرج عنه وعُهِدَ إليّ بتسليمه إلى أهله بنفسي . العيون كلها قطفتُ دهشتَها ببغتة الخبر ، ولهفتُها الآن تلحق بي وقد استدرتُ ومضيتُ أمامهما إلى واجهة المطعم حيث مرافقي لا يزال ينتظر الإذن مني لِيُنْزِلَ عديّ من مقعده . جوزيف يصعد درجات المطعم وعيناه بين جهّار وأبو الوليد تسألان وتستفسران ، وحينما يفطن إلى أن عديّ لا يزال في الجيبّ يسرع خلفي ويحشر نفسه بيني وبين مرافقي فيأخذ مبادرة الإمساك بعديّ من جانبِ كتفه اليمنى بإصرار يجبر مرافقي على الانسحاب من المشهد والسير خلفنا فلعل وعسى . هو وأنا نصعد به الدرجات ، وإذ بالوجوه تلتقي بالوجوه والعيون تمتلىء بالعيون ، وإذ ما كنت أنتظر حدوثه لا يحدث ، فأنتظر لحظة ، لحظتين ، ثلاث لحظات ، والوجوه في الوجوه والعيون لا تقول ولا ترفّ ولا تدمع . جهّار صخرة لا تتحرك وأبو الوليد يتأمل بغضبٍ ملامحَ الوجه المفجَّم . الآن يتحرك جوزيف ، الآن لحظته هو ، وإذ بيديه الاثنتين تحوطان بعديّ وإذ بقدميه تسيران بهما معاً إلى الصالون الداخلي ، وجهّار وأبو الوليد والعشّي منصور ، ثلاثتهم يمضون خلفهما في صمت ، وأبقى أنا في وقفتي دونما التفاتة من أحدهم إليّ ، دونما كلمة شكر ، دونما دعوة لشرب فنجان قهوة . ولكي لا يرى مرافقي العرقَ يتصبّب من وجهي ، آمُرُهُ ، دون أن أنظر إليه ، أن يسبقني إلى الجيبّ وينتظرني هناك .
- العِفَّةُ دَيْنٌ للجميلةِ على الحياةِ تستوفيه من كسادِ القبيحهْ
- الحياءُ في الجميلةِ وَرَعٌ وفي القبيحةِ عتابْ
- الحبُّ وضوءُ الرّوحْ
- الوباءُ امرأةٌ تَبَعْثَرَتْ في نساءْ
حرب النوايا انفجرت بينهما على الأرض ، وفي الجوّ فوقنا جنّ جنون الطيران ، فمقاتلاتنا تلاحق ياسر عرفات في تحركاته الليلية والنهارية من مبنى في شارع إلى مبنى آخر في شارع آخر ، تلاحقه بإيحاء من مخابراتنا العاملة في بيروت الغربية ، وهو يعيش ويعيّشها في ديمومة من التنقل الحَذِرِ يشي بجنوحه إلى الشك المطلق في كل من حوله وقت الخطر وبنـزوعه إلى أخذ المبادرة بنفسه لحماية نفسه . وعلى هذه المرتفعات أتلقى أنا الأوامر والأوامر المضادة بقصف الأحياء السكنية في بيروت الغربية بلا شفقة أو رحمة ليثور على عرفات البيروتيون أمام الدمار الهائل الشامل لممتلكاتهم أو على الأقل ليستجدوننا السماحَ لهم بالخروج إلى المنطقة الشرقية لتخلو المدينة لنا منهم فيسهل علينا اقتحامها وتسكت عنّا الدول التي تنقل وسائلُ إعلامها مشاهد المباني التي تُسقطها القنابل الفراغية على من فيها ، وهم بالمئات المئات ، أتلقى الأمر بالقصف من آييْن شارونْ ليبغتني ديفيد مردخاي بأمر التوقف مباشرة عن هذا القصف ، لإيمانه بأننا نخوض حرباً استراتيجية الغرضُ منها اقتحام المحاور والإطباق على مقاتلي منظمة التحرير وأسرهم تمهيداً لشحنهم إلى خارج لبنان ، أو لإجبارهم ، عبر وساطة فيليب حبيب، على الرحيل ، فَيُعْفَى جيشُنا من عمليات الاقتحام ونُعْفى من تهمة التدمير المنظّم المتعمَّد لمعالم هذه المدينة التي ، إذا ما حلّ السلام في المنطقة عما قريب ، لن يحمل العداءَ لنا أهلُها إذ لن تكون لديهم ذكريات مرّة لفظائع وحشيتنا تقف غداً بيننا وبينهم كالسدّ فليس بين القلوب سلام وليس بيننا وبينهم على الأرض سلام . الكاميرات التي تلتقط والشاشات التي تبثّ ما يسمّيه ديفيد مردخاي الوجهَ المتجهّم لتاريخ ملوك التوراة هي اليوم المؤرِّخ الجديد للعصر الجديد وهي سلاح الحضارة ضد نفسها ، تحضّر به شعوبَ العالم لِتَقَبُّلِ الحكمة من ضرورة إبادة شعب ثم به تدين الحكمةَ بالصوت والصورة على مرأى من أربع جهات الدنيا ومسمع . سلاح الحضارة ضد نفسها ، هكذا قالها أكثر من مرة ونحن نراقب مقاتلات الأف 16 يَهْوِينَ في الجوّ وتهوي بهويّهنّ العملاقاتُ من البنايات ، في وضح النهار يهوين ، على مرأى ومسمع من الساتيلايت السابحة في الفضاء ومن كاميرات التلفزيون التي ترصد أخبار السماء من الأرض . كيف تخطر له كل هذه الأفكار ونحن في معمعة الموت ؟ لعله فات أوان دهشتي الآن ، ولكن أنىّ لي أن أطرد من خيالي صورته وهو يروي لضبّاطه قصة ذلك الضابط الألماني الذي جاءه أمر قيادته له بتدمير متاحف باريس ، فَهَالَهُ أن يرتكب مثل هذا العمل الوحشي ضد حضارة الانسان فأوعز إلى الباريسيين أن يُفرغوا متاحفهم من مقدساتها تحت جنح الليل ، أنىّ لي ثم أنىّ أن أريح أذنيّ من صوته الذي كان أكثر من صوت فأربكني وأربك حلقة الضبّاط ، فعيونهم كبيت النمل فاجأه أوّلُ السّـيْل فبكلِّ اتجاهٍ رمتْ بنفسها النملاتُ . هكذا كنّا لحظتذاك ، أشتاتَ الحَرَجِ من مستقبلٍ يُرْسَمُ لنا بنا ، متأرجحٍ بين إرادتيْن يتنازعهما من مُثُلِ العهد القديم مِثالا حكمةِ القوةِ وقوةِ الحكمةِ ، مزاميرُ داوود وأناشيدُ سليمان وحِكَمُهُ، إرادةُ الإله في الإنسان وإرادةُ الإنسان في الإنسان . حرب النوايا انفجرت في الأرض كما في السماء كما في صفحات العهد القديم، ورذاذها المتوهّج يعشي ناظريّ ، فإن أَلْمَحَ غداً آيين شارون بما أَلْمَحَ لي به اليوم فلسوف يعشي قلبيَ اتخاذُ قرارٍ لا تزال معميّات الحرب تستدرجني إلى اتخاذِهِ واتخاذِهِ واتخاذِهِ .
زوّجتُكَ نفسي على مهرٍ وقدرُه تحريرُ القدسِ ، صداقاً مؤجَّلاً ، ومقاومةُ المحاصِرين لنا في بيروت حتى النصر أو الشهادة ، صداقاً معجَّلاً ، في عقدِ زواجٍ نضاليٍّ لبالغيْن حسبُهما شهيداً على اتحادهما بالروحِ والجسد تعالى في ملكه وملكوته اللهُ وحده ، وحده اللهُ ، شهادتُه دونما شهادة البشر ، حتى يقضيَ في أمرنا أمراً كان مفعولاً . أردّد عليه الكلمات التي كنت صُغْتُها لهذه اللحظة المسوَّفة في خيالي ، صغتُها بين أصداء الإنفجارات التي تهزّ الأرض من فوقنا ومن تحتنا هزّاً هزّاً وبين انشداهات الهواء بالقذائف الصاروخية العابرة فوقنا لتنصبّ علينا وحولنا فإذا الدخان واللهب يسعّر بعضُه بعضاً ، وإذ كلُّ ما في صبرا وشاتيلا وقودٌ لهما في حُمّى وقود . للمرة الثالثة أردّد على مسمعه الكلمات ، وعيناه واقفتان على شفا جرفٍ هارٍ ، لا هما تُفْتَحان ولا هما تُغْمَضان ، وكأنما تحرُّكُهما رمشةَ عين إيذانٌ برمشة الإنهيار . أرفع يدي وأحرّكها قريباً من وجهه ، يميناً ويساراً أحرّكها ، وعلوّاً وخفضاً ، وأرقب من جفونه جفلةً ومن حدقتيه انبعاثاً ، فيعجزني الترقّبُ ويستفزّني الإنتظار فأنقر بطرف إصبعي على طرف أنفه وكأنني ألاعب طفلاً فتطرف رموشُه ويحدّق فيَّ وكأنه يراني لأول مرة . لعله يراني لأول مرة. همنغواي يساررني بأنّ المستشفى الميداني يتقلّص بنا تحت الأرض ، تضغط علينا جنباتُه ، وسقفُه ينتابُه استرخاءٌ فيكادُ يهمّ بشيء . الزاوية التي حشرتُه بها للحظات لعلها تضيق عليه أكثر مما حسبتُ . لعلها . ولعلني في الحسبان أخطأتُ وفي التمني بالغتُ ، ولكنني أبداً ما قلتُ هُجْراً ولا تسخّفتُ في حديثي إليه ولا هوّلتُ عليه بما لا تحتمله الرجولة . وجهي يطاول وجهه وحشرةُ الزاويةِ تلزّني به لزّاً ، فأتنفس في عينيه وأحدج همنغواي من فوق كتفيه ، ثم يحاصره بإصراره صوتي :
لِتَكُنْ غايةُ انبساطِكَ بها بَسْطَكَ لها تلحقْ بكَ إلى آخرِ الدنيا المرأةُ
*****
1982 بيروت الغربية
- قاطفُ الوردةِ قطفتْهُ الوردهْ
لا يخرج اللحن الشجيّ من أذنيّ لحظة واحدة فكأنما يتشبث بهما إلى الأبد ، لا يخرج ولا يتحلحل شيئاً قليلاً لتتنفس روحي غير الشجى وليستروح صدري بغير اللوعة التي تُصعِّد بها الحنجرةُ الكلماتِ الموزونةَ بمجد الصمود وأسى التخلّي الذي لا تقوله الكلمات ولكن تبثّه الحنجرة الجريحة على النغم العاتب الحزين ، وعاتبٌ حزينٌ هو لأن بيروت تغنّي مقاتليها المختصِرين لعصور الفروسية العربية في زمن التثاؤب العربي الممتد كسحابةٍ كالحة فوق كل العواصم والمدن والشعوب من المحيط إلى الخليج، أو كضبابةِ النوم التي غشيتْ أهلَ الكهف نيّفاً وثلاثمائة عام ، فهم لهم ولها أوفياءُ، على ذمّة الوفاء العربي الذي تكتظ بقصصه كتبُ القراءة والمطالعة وتتفانى المدارسُ في توريثه من جيل إلى جيل . أبداً لا يخرج من أذنيّ اللحن والصوت والكلمات وأبداً ليست كثيرةً عليكِ الأغنيةُ يا بيروت . ليست كثيرةً عليكِ ولكنها أكثر مما تحتمله حنجرتي المتبرغلة بها في الصمت المحموم بأنات الجرحى المقاتلين وبصرخاتٍ تباغتنا تحت الأرض طالعةٍ علينا من كوابيس المخدَّرين ، أكثر مما تحتمله أذناي وتتنفسه روحي ويتردد في صدري . ولا أدري ما الذي كنتَ ستقوله، يا همنغواي، لو كنتَ معنا ، كما كنا دائماً معك ومع مقاتليك في روايتيْك ، وفتحنا لكَ الراديو على : أناديكمْ ... أشدُّ على أياديكمْ ... وأبوسُ الأرضَ ... تحت نعالكمْ...وأقول أفديكمْ ، تُراك كنتَ ستمرّ عليها كما يمرّ الغربيون أمثالك على أشياء من شرقيّتنا مرور المغبّشةِ عيناه فيفوته المعنى ويجوزه الوجدان الكامن فيها ، كمونَهما ، مثلاً، في غسل السيد المسيح ، الشرقيّ الشرقيّ ، لأقدام تلاميذه في فلسطين .
ومثلَ التلميذِ الوديعِ كان ليلتها ، بل مثلَ واحدٍ من الأطفال الذين ناداهم السيد المسيح إليه ، كان طبيـبي وزوجي وحبيـبي ، يا همنغواي ، وقد أخذه النوم العميق من طول السهر وشدة التعب من العمليات الجراحية التي كانت تصل نهاره بليله وليله بنهاره ، وقد أمر فيليب حبيب بتدمير بيروت إن لم تذعن لقراراته النَّازّة بترحيل مقاتلي منظمة التحرير من بيروت ومن كل لبنان ، مثلَ تلميذٍ طفلٍ من أولئك الذين غسل أقدامهم السيد المسيح في فلسطين بدا لي ليلتها ، ممدَّداً على مقعد خشبي وطىء ، بمعطفه الأبيض المشعّ بشقائق الدم المطروشة عليه من جراح الذين قضوا نحبهم والذين لم يقضوا ، وجهُهُ مستسلمُ القسماتِ وأنفاسُهُ موزونةٌ بصعود صدره وهبوطه ، طبيـبي وزوجي وحبيـبي ، يا همنغواي، الذي سيأخذه مني فيليب حبيب ، سيشلّحني إيّاه بكل أسلحة الدمار بعدما لبستُه ولبسني وكنّا لبعضنا الأُنْسَ والسكن في احتمال الموت الذي لا يزال يقيننا في انتظاراتنا التي يشيّع بعضها بعضاًَ، وكأنما الزمن لم يعد له على وجه الأرض من أحد سوانا يتلهى به ويتسلى ، مثل الطفل كان ليلتها فتحرك فيَّ من غوامض الأحاسيس ما تحرّك فما رأيتُني إلاّ وكأنني بين يديّ تحت المقعد طشت مملوء نصفه بالماء الفاتر، وأنا أسحب من قدميه فَرْدَتَيْ الحذاء وأسحب بعدهما جوربيْه وأُنزل قدميْه على أقل من مهلي فأنقعهما في الطشت وآخذ أمسّدهما وأُمَرِّجُهما في الماء ، وعيناي على وجهه حذرَ إيقاظه من النوم العميق ، وكلّي يقين أنّ شيئاً لن يوقظه الآن ، وما راعني إلاّ صوت من وراء المكان ، دافىء عميق ، يترنم بتعالوا إليَّ يا أطفال العالم ، فألتفتُ وقد تجمدت أصابعي في الطشت لأرى إبراهيم وعائشة ولطفي وحسام، مُضَمَّداً كتفُه لا يزال ، فوقي ينظرون إليّ مستسلمي القسمات . حنجرتي المتبرغلة باللحن الشجيّ تتنقّل بين وجوههم في ترتيلها الواجم الصموت:أناديكمْ .... أشدُّ على أياديكمْ .... وأبوسُ الأرضَ ... تحت نعالكمْ ... وأقولُ أفديكمْ .
الإنفجاراتُ التي تستهدف شارعَنا والشوارعَ المتفرعة منه أصواتٌ غريبة مثلها لم يَجْتَحْ أسماعَنا قبل الليلة ، من بدء الحصار وعلى امتداد عمليات القصف المركّز حيناً والعشوائيّ أحياناً ، أصواتٌ لها انفلاشاتٌ طويلةٌ حادّة ، فالقذيفةُ من هذا الطراز الغريب ما إن تبجّ على الأرض بجّاً حتى تنتشر لها في الهواء سحبةٌ صوتيةٌ أشبه ما تكون بنغمة الصّنْجِ، ولكن مشحوذة على حدِّ شفرةٍ على مساحة المدى المحيط بمبنى الملجأ الذي نحن فيه ، نحن السبعين من سكان البنايات القريبة ، المعتصمين بالأصوات البشرية لمذيعي الأخبار من الحشود الصوتية الهائلة التي تستهدفنا ، مقتحمةً علينا الجدران والأبواب والليل والمسافة ، حصاراً يتركّز منذ منتصف الليلة على طبلات آذاننا ، يبغتُها ويخدشها ويجلفها ويجلطها ويمسّها بالصَّرَعِ بما لا تحتمل من شراسةٍ ونشازٍ وتنفير . حربُ الأصوات علينا ، حصارُ الأصوات لنا ، موتُنا المُزْمَعُ بالأصوات ، أمأخوذٌ كلُّ ذلك من مكرك في تدميرك للأمم السالفة، يا الله ؟ إنّا أرسلنا عليهم صيحةً واحدةً فكانوا كهشيم المُحْتَظِرِ ، صيحةً واحدةً وينهار العالم ُالصارخُ بالحياة المتصايحُ بالشرّ وتصبح بهول الصوت الأمّةُ أمّةً من الغابرين ، حديثاً من أحاديث الأولين . الريحُ الصرصرُ والحاصِبُ بالسَّحَرِ وذَوْقَةُ بعضكم بأس بعض وسيلُ العَرِمِ وطوفانُ الأرض والسماء وزلزالٌ من تحت أرجلكم ، كلها كلها ، يا الله ، أهون علينا من هذه الشفرات الصوتية المسنونة بأدهى من حدّ النوايا المغيّبة عنّا لتبغتنا الليلة الليلة فتحاصرنا وتطيل علينا الحصار لتطيل به عذابنا حتى لنتمنّى بها أو بسواها الموتَ ، نتمناه من لحظتنا ، فعجّلْ لنا به، يا الله ، واجعلنا برحمةٍ منك حديثاً من أحاديث الأوّلين .
ثم تنفتح عيناي وأذناي على هول الصرخات العاتيات من كل أرجاء الملجأ ، فإذا الوجوه كلها في السقف ، تأخذه شرحةً شرحةً وزاويةً زاويةً وتدور فيه العيونُ دورانَ الذاهِلِ اليَقِظِ ، المنتظر على حدّ الحافّة بلا هاوية ، لأن الهاوية هي المُنْتَظَرُ الآتي ، هابطاً علينا قرقعاتِ طَوَابق تنهار من فوقنا طابقاً فوق طابق ، مثل انهيارات الجبال تتكدس خانقة ما بينها المسافةَ والمسافةَ ، طاردةً شيوعَ الهواء ، مطربقةً أدناها بأعلاها ، موحِّدةً أثقالها الموزّعة على أعمدة الإسمنت المحشوّ بقضبان الحديد ، يشد بعضها بعضاً كالبنيان المرصوص ، يتدثر حاميها بباردها ، ويتضخّم ويتفخّم ويتعظّم الهَدْرُ المُتَكَرْفِتُ علينا، فها هو يدنو ، وها هو أدنى ، ثم ها هو أدنى ، ثم تتوقف كل الأشياء ، ولا يسقط علينا السقف ولا تضيق المسافة بينه وبين أرض الملجأ فلا هي تُلغى ولا نحن نُلغى لنصبح حديثاً في الأحاديث ، تتوقف كل الأشياء ، في داخل الملجأ وفي خارجه ، من فوقه ومن تحته ، عن يمينه وعن شماله ، من أمامه ومن ورائه، كلها تتوقف، القرقعاتُ الهادرةُ والسّحباتُ الصوتيّةُ الصّنْجيّةُ ، وينهار احتمال الآتي وترتفع عنّا الهاوية التي ندرك فجأة أنها حلّت على البناية التي إلى غربيّنا فلم يكن لنا من وقع الكارثة إلاّ الأصوات التي سنحملها معنا إلى يوم النشور .
البناية التي إلى غربيّنا نامت بالقنبلة الفراغية ، والسبعون النحن في هذا الملجأ ، في لحظة أو لحظتين نسينا ، وها نحن لا نزال ننسى ، الجيرةَ التي جمعت حائطاً وحائطاً وشرفةً وشرفةً وألّفتْ ما بين الباطون والباطون كما ألّفت بين سكان الطوابق الموازي أحدها للآخر من كل بنايتين لا يفصل بين رصيفيْهما إلاّ عَرْضُ الشارع ، على طول هذا الشارع الذي نتقاسم زفته ورصيفيْه في غدوّنا ورواحنا ، في صيفنا وشتائنا ، في فصول أحزاننا كما في فصول أفراحنا ، نامت الليلة على الفجر بالقنبلة الفراغية البنايةُ التي إلى غربيّنا ، وفي لحظة أو لحظتين نسينا جيرتها ، ونصرّ على نسيانها ، نطردها بفلاشات الأخبار من إذاعة المرابطون وإذاعة السرايا اللبنانية وإذاعة مونت كارلو ، فالزمن الذي تشكّى من بلادته الأوّلون ولىّ زمنه ، واللحظةُ الآن حقبة ، تاريخ ، عمر ، اللحظةُ من تكدّسها صارت بناية ، تتكّ وجودَها فتعلنه وتلغيه في آن معاً ، كالنفَس الذي يمدّ الحياة بالحياة نفَساً ويقربّها من الموت ، من نقيضها ، نفَساً .
يناولني من أكياس النايلون السوداء الكيسَ الذي فيه علبة الحليب الناشف ومرتبانان من النسكافة ومرتبان العسل وأشياء أخرى بينها وتحتها ، وينتشل هو كيساً يقلّب ما فيه ثم يطبش غطاء الطابّوني ويسحب المفتاح ويشير إليّ برأسه أن ألحق به ، غير آبه للقلق الذي عصف بي لرؤيتي البناية التي فيها بيتي مبقورةً حيطانُ طوابقها بقذائف الليل ، فألحق به وكأنما اللحاق به فرصه هيّأها لي جنونُه المقاوِمُ ليخلّصني من مغامرة التطلع إلى فوق ، إلى شرفة الطابق السادس وحيطانه المطلة على الشارع ، لأحصيَ فيها الثغرات والفجوات ، وأتخيلَ في المطبخ ، مطبخي ، بقايا حريق ، وأسمعَ عسعسةً ، وتلفَحني الحرارةُ من جهة قارورة الغاز الممزّق نربيشُها المطاطيّ ُ النَّازَّةُ من شقوقه رائحةُ احتراقٍ جلديٍّ يمجّها الأنف والفم والحنجرة والرئتان .
المرأة وبناتها كنّ قد أصررن على بوّاب البناية القاطن في غرفة المدخل أن يفتح لهنّ شقة من الشقق وإلاّ أَثَرْنَ الرجال ضدّه فاقتحموا الطوابق اقتحاماً ، فطلع بهنّ المسكينُ إلى الطابق الثالث وفتح الشقة التي كان أصحابها قد تركوا معه مفتاحها ، فدخلن إلى المطبخ وفتّشن الخزائن وتأكّدن أن البوتوغاز صالح للاستعمال ، حتى إذا ما وصلنا بالمونة إليهن ، والدرج مكتظ خلفنا باللاحقين ممّن سمع بخبر الكيسين ورأى ، هَلَّلَتْ وجوههنّ واقتسمت العمل أيديهنّ ، فبكرجُ الشاي الكبير يمتلىء بالماء من حنفيّة الخزّان وتلتهب من تحته دائرةُ النار ، وتُغسل فناجينُ الشاي وكبّاياتُ الشُّرْبِ والملاعقُ ، ويُسكب الحليبُ الناشف ويُرَشُّ فوقه النيسكافه ، ثم الماءُ الساخن نصف سخونة يكركر من فم البكرج في الفناجين والكبايات وتنـزلق ملاعقُ العسل فتدور في الماء والحليب والنيسكافه فيذوب كله بدورانها ويذوب كذلك العسلُ ، وتتنازع الأيدي ما تتشهّاه العيونُ ، والشكر كله للمرأة وبناتها ، وصاحبُ المونة عيناه كجناحيْ فراشة ، يرفّان يرفّان ، أفقُهما فستانُ التي هو في إثرها .
صوت مونت كارلو يعلن من مستديرة الطابق الثالث أنّ الهدنة غير المعلن عنها قد ألحّت عليها حكوماتُ الدول الكبرى وأنّ اتفاقاً قد تمّ لإجلاء مقاتلي منظمة التحرير من بيروت براً وبحراً وأنّ معبر كاليري سمعانْ قد فُتِحَ للمدنيين الراغبين بالعبور إلى المناطق الشرقية من سكان بيروت وضاحيتها . إذن انتهى الحصار ، يصرخ صوت ، وإذن عَصِيَتْ عليهم بيروت ، يصرخ آخر ، وتتهدج الحناجر بالله أكبر الله أكبر ، وتموج ابتهالات النساء بهتافات الرجال ، والمرأة وبناتها تحتضن إحداهن الأخرى ويُعْلِنّ عن عزمهنّ على التفتيش عن سيارة أجرة تنقلهنّ إلى كاليري سمعانْ فمن المعبر هناك إلى عاليه ثم إلى الجنوب عبر الطريق الساحلي الذي تنتشر عليه آليات الجيش الاسرائيلي . ولا أريد لحدسي أن يصدق مرة أخرى ، ولكن سامح يذكر سيارتَه ويعلن عن نيّته الخروج فوراً من بيروت الغربية إذا كانت سيارته لم يتعطل موتورها بفعل قذائف الليل ، ولا يُتِِمُّ لَهُنَّ قولَه حتى يكون قد أمسك بيدي وجرّني معه على درجات السلّم إلى مدخل البناية فالشارع فالعطفة منه إلى شارع محمد الحوت فإلى سيارته المكدَّسِ زجاجُ نوافذها على مقاعدها ، فيفتح الباب ويتحسس الزجاج ثم يجلس عليه بحذر ثم تخشّ السيارة مرة ومرة ومرة ثم يدور الموتور وكأن الدنيا بدأت للحظتها من جديد .
هُنّ الآن حولنا ، أربعتهنّ ، وحولهنّ رفيفٌ من الشبان متحمسون لحماستهنّ، فيهتف سامح بالرفيف أنْ مُدّوا يد العون لننظّف السيارة من كِسَرِ الزجاج ، يهتف لا بصوته ولكن بيديه فتلبيه الأيدي ، وفي غياب المقشّة والمجرود تقتحم المقاعدَ عيدانُ الخشب وشرحاتٌ من الباطون الممزّق من شرفات البيوت ، ويندلق الزجاج على الرصيف من جهة وعلى الزفت من الجهة الأخرى ، والمرأة وبناتها على قلوب الشبان مثل لحسة العسل ، ضحكاتهنّ تثير حولهنّ الحياةَ ، وللحظات ينسى شارع محمد الحوت مأساةَ ليله والخرابَ المنتظِرَ سكانَه في بيوتهم حينما يعودون إليها عمّا قريب ، وللحظات أنسى أنا أنّ رفيق الحصار سيتركني بعد هنيهة لأصعد وحدي إلى البيت أحصي نصيـبي من الدمار فأضحك لضحك الفتيات ثم أتذكّر الشيء الذي أتمنى لو أنني لم أتذكره الآن . مسرحيته وديوان شعره في الكيس الذي تركه عن قصد إلى جانب الباب الحديد بعيداً عن أي شيء قابل للاشتعال إذا ما قُذِفَ بيتُنا وشبّ فيه حريق ، ما الذي حل بهما وهيئةُ الخراب على البناية لا تبشّر بالخير ؟ أقول له أو لا أقول، أتركه يرحل بأحلام الفساتين قبل أن يعرف مصير حلميْه الأدبيين أم أذكّره بالكيس الذي دونه مسافةُ المستحيل ، تلك هي المسألة التي لن أتركها للاحتمال ، فرفيق الحصار وأنا قد لا نلتقي من جديد، فنجاتُنا لم تكن إلاّ معجزة قد لا تكررها الأيام. يفتح عينيه على وسعهما لدى سماعه كلماتي ويبدو وكأن وجهه يتسلق طوابق البناية . ومن ذا الذي يمنع قدميه من تَأَثُّرِ حركة عينيه إذا ما عَزْمُهُ على الأمر تم بينه وبين قلبه وإرادته ؟
الكل يصرخ به ألاّ يحاول الصعود إلى الطابق السادس فما أصاب البناية من قذائف الليل وما هي عليه حالةُ الدرج والسقوف بفعل الحرارة يرجّحان احتمالَ انهيار قد يحدث في أية لحظة ، ولكنّ المهووس الملبوس يستجدي الناس منشفةً وسطلَ ماء ، يستجديهم وهو لا يراهم ، فعيناه ليستا على أحد ، ووحده صوتُهُ الهاتفُ بوجداناتهم ، فتضجّ الحركةُ في الناس وتتلعثم كلماتٌ في أفواه وتتحرك في كل الاتجاهات أقدامٌ ، والفتياتُ الواقفات ينظرن إليه كأنّ أحداً يزكزكهنّ في خواصرهنّ فَيُكَرْكِرْنَ بالضحك ويَتَغَمَّيْنَ متمايلاتٍ على بعضهنّ ، مغمَضاتٍ عيونُهُنَّ ، مسترسَلاَتٍ حول بعضها أذرعُهُنَّ ، والنشوة آخذهٌ بهنَّ ، والشبّانُ انهياراتٌ وانسحاراتٌ وتندّياتُ عيونٍ مغرورقات . ثم تنـزل المنشفة على يديه من يد امرأةٍ برداً وسلاماً فيثنيها على بعضها مرة ومرة ويغطّسها في سطل الماء المُحْضَرِ من ملجأ أو شقة مفتوحة أو مُقْتَحَمَة ، ويرفعها إلى وجهه فيخفي فيها أنفه وفمه وتنطلق به قدماه من مدخل البناية فوق الركام ، والجمعُ يلحق به وينحشر في مواجهة المدخل ، لا يجرؤ على التقدم إلى داخل البناية خطوة واحدة ، وترتفع العيون التي لا تراه الآن ، ترتفع معه درجةً درجةً وطابقاً طابقاً ، والأفواه تلهج له بالدعاء أن يعود بخير ، ألاّ يتعثر بشيء أو يسقط عليه شيء أو حتى ينفجر به شيء ، العيونُ العيونُ والأفواهُ الأفواهُ كلها معه من إشفاق عليه وتمنٍّ له بتحقيق أمنيته التي لا يُعرف منها إلاّ أنها أمنيّة شاعر مجنون تشفع له بجنونه آيةُ الهيمان في كل واد ، وربما الناسُ يغرقهم في ما قد غرقوا فيه من عواطف اللحظة إحساسٌ فيهم خفيٌّ بانهزام الجيش الاسرائيلي أمام صمود أبطالهم ، أبطالنا نحن ، المغامرين إلى حدّ الجنون في مواجهة الجنون الآخر ، إحساسٌ فيهم خفيٌّ أنّ فينا الذين يركبون الخطر ويكسرون حدّ الهول ويطمئنون أرواحَنا بأننا فوق الحصار وفوق الهزيمة وفوق الخوف ، فكل انعتاقٍ وكل تَفَلُّّتٍ وكل تحدّ للعاقل والمعقول إن هو إلا نشوة الحياة ، رقصة الوجود أمام العدم الدائر حول نفسه وحولنا دوراناً لا يكلّ . ويهزّ الجمعَ تململُ رؤوسٍ وفركُ أكفّ بأكفّ وطحشةُ أقدامٍ على الركام بأقدامٍ ، والأنفاسُ صار لها صوت فهي نفثات وتأوهات ، والمرأةُ التي لها البنات شفتاها مخضلّتان بذكر الله المعينِ المدبّرِ الحافظِ المنقذِ السميعِ المجيبِ المحيي العظامَ وهي رميمٌ الشفوقِ الرحمنِ الرحيمِ المغيثِ الآخذِ الرَّادِّ... رُدَّهُ إلينا سالماً وسلّمنا بسلامته يا الله . وتسبقه خشّةُ الكيس إلينا وتتدحرج فوق الركام قدماه الخفيفتان فإذا هو في المدخل ثم في الشارع على صرخات الفرحة ولولحة المنشفة في يده ، ناشفةً وكأنما امتصّت بلالتَها الشمسُ ، لولحةَ نجوتُ نجوتُ ، هزجةَ النصر محمومةً بالخطر ، على خشّة الكيس بورقات كتابيْه وقد أصابها الجفافُ فكاد أن يمسّها، ولم يمسّها، الاحتراقُ ، فطقطقتْ أطرافُها ، مثلما يتراءى لي في خيالي ، وسلمتْ سلمتْ ، ونجوتُ أنا من هول الوعد الذي كنتُ وعدتُ أن أحفظها له في غيابه حفظي لروحي. ويرمي بنفسه في مقعده من السيارة وتتسابق البنات وأمّهنّ إلى المقاعد الأخرى ، وتتحرك الدواليب الأربعة دائرة إلى الأمام ثم إلى الوراء ثم تلتفّ السيارة على نفسها في اتجاه بناية العجّة وتطلع وتنـزل وتنخضّ وتهتزّ على الركام ، وعيونُنا تشيّع أيديهنّ الملوّحات لنا من المساحة التي كانت مرّةً زجاجَ السيارة الخلفي فغدت في رمشة سحرٍ شرفةً للأنوثة الهازئة بما تحتها من دمار .
المعنى المعيوشُ للحدث المعيوشِ ، هو ذا هي ذي لحظةُ الحقيقة ، يا همنغواي ، ولكنها ليست اللحظة التي تنتهي بانتهاء الحدث ، فالحقيقةُ جوهرٌ يتمدّد بتمدّد الزمن ، ينبثق من اللحظة ، يتخطاها ، ومثل رائحة الحرائق المعشّشة في الحيطان والعَفَشِ حولي ، يدمغ التفاصيلَ بدمغة ذاته ، فإذا هي في ذاتها ما هي وإذا هي أكثر من ذاتها بقليل. تتقلّب عائشة في نومها ، وإذ تهبط ذراعُها على صدري ، تنفتح عيناها بغتة على شيء من الخوف ، تتأملاني ، حتى إذا ما تفتّحت ذاكرتُهما ، تقلّصتا وانسلّ من خلل الشفتين المطبقتين أنينٌ خافت فهو لا يزال يتمدّد في الغرفة ولا يزال ، مثل رائحة الحرائق المعشّشة في الحيطان والعفش حولنا، يدمغ الأشياءَ بِصُفْرَةٍ تُلطّف الرماديَّ القاحم تحتها شيئاً قليلاً .
أستقلّ الجيبّْ العسكريَّ إلى جانب عائشة وينطلق بنا العارفُ بأمرنا ، صديقٌ من أصدقاء السلاح ، فيطوّفنا بين الركام وعليه ، في منطقة الفاكهاني ، ويتوقف بنا قريباً من مركز ال 17 ، ننتظر هناك ، في هرج الجيران ومرجهم ، وصولَ عرفات لتوديع الجيرة التي كان كل بيت من بيوتها له مقراً ومستقراً وملاذاً ومهجعاً ، ذات ليلة أو ذات نهار من الثمانين يوماً التي عصمت فيها بيروتُ شرفَ أهلها والمقاتلين معهم من فصائلنا ومن القوات السورية ،كما عصمتْ شرفَ الذين نسوا أنّ لهم شرفاً . من الفاكهاني ، إذن ، تنبثق اللحظة الحياتية واللحظة الفنّية اللتان كنتُ أرتقبهما منذ أول أيام الحصار ، تنبثقان ها هما معاً معاً ملء عينيّ في المشهد الذي سيكون فاتحة روايتي التي ستؤرخ لحساب البقايا أو لبقايا الحساب أو للعبارة التي لم يُلْهَمْها غسان كنفاني حينما كتب ما تبقى لكم ، فَتُرِكَتْ للتاريخ يصوغها على نسق واضح أو مريب ، يختصر به غداً كل مستجدّاته . الزغاريد من على شرفات الأبنية المحطمة ترعش هواءَ الصباح الذي لم تتحرك به همةٌ بعدُ ، وهرجٌ في جموع الناس ومرجٌ على باب مركز ال 17 ، وبكوفيته السوداء والبيضاء وقميصه الكاكي وبنطلونه الأخضر وحزامه العريض ، أتخيله يترجّل من سيارته أبو عمّار ويطول عناقُ الجيران له وعناقه للجيران ، فالكتلة البشرية المتراصّة لا تتزحزح . أهمّ بالنـزول من الجيبّ للالتصاق بهؤلاء الناس فيشدّني إلى مجلسي رفيقُ السلاح ، وعائشةُ إلى جانبي تتقلَّص في وجهها هَدْلَةُ شفتيها ، تتقلّص حتى لا أثر . أكذّب عينيّ وأصدّق لا شيء ، لا شيء ، لأنّ شيئاً في أعماقي يأبى أن يجفّ ذلك الفيض من عفوية التّوق والحميمية اللتين فُطِرَتْ عليهما وهي بعد في ظلمات التكوين، والمتمثلتين في فطرة الانهدالِ المنعَّمةِ به شفتاها ، والذي عليه تهادنت عيونُ المتأملات وبه تهامس شبابٌ وضجّت بصلصلة هواجسها من أجله رؤوسُ رجال . البراءة والطيش وجنون الحلم والدراجة الهوائية ، في قلب الخوف والقلق والرعب ، في تمزّقِ الهواء والسمع والبصر بدويّ الألوان والأصوات ، في قلب الغربة التي تقهرها بإحسانها جوارَها أمُّ حسنين ، في حضور الموت والإختفاء ، كل ذا كل ذا خمائرُ للذاكرة التي بها يستحيل عجين الأيام إلى خبز وحياة . ولأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان فلسوف تولد روايتي غداً من صلصلة الرعد ومطر السوء وتصلية الجحيم ، تولد مني إليّ وإلى أمثالها ، عائشة ، وأمثال المخلَّفين والمخلَّفات في صبرا وشاتيلا وعين الحلوة والمخيمات الأخرى ، لا كصفحات تعزية وعزاء ولكن كأشواك الورد المتوأمةِ أوراقُهُ بدم الشقيق ، واخزاتٍ ثلاثتُها ، جارحاتٍ ثلاثتُها ، حتى لا تأخذ ذاكرتَنا الحرّى سِنَةٌ من نوم الآخرين .
هذه المرة عتاباً غاضباً لكأنه موجّه إلى السماء . ثم تنحدر الكتلة البشرية المتراصّة في اتجاهنا ، وتشرح أصواتٌ لعيونٍ وآذانٍ أنّ الباصات التي ستقل الراحلين لم تصل في موعدها وأنه قرّر عدم الانتظار . الفاكهاني ومنطقة الجامعة العربية مثل السيل العرم ، يحاذينا ثم يجوزنا ولا ينتهي ، فهو العطش الذي يطيله الملحُ في الماء . نثب من الجيبّ ، ثلاثتنا ، ونهمّ بالاستسلام لحركة السيل الهادر نحو المصيطبة لملاقاة زعماء الحركة الوطنية الذين سيصطحبونه إلى الصنائع لوداع رئيس الوزراء في القصر الحكومي ثم للإنطلاق به إلى النورماندي فالسفينة اليونانية المنتظرة هناك ، نهمّ ويمنعنا الخضمّ الزاخر من الإلتحام بالناس ، من الذوبان بهم ذوباناً يريحنا من أنفسنا ، فنهمّ ثانيةً ليمنعنا ثانيةً وجهُ أمّ حسنين يطفو على حافة السيل ويداها في الهواء يديْ أعمى يتلمس أمامه ملامح الطريق . قلبي يرتمي في الهواء خلفها وترتمي خلفي في الهواء عائشة وخلف عائشة رفيقُ السلاح . صوتُها يناديني وصوتُه يصرخ بنا أن نمسك بها من تحت ذراعها وأن لا نشدّها إلى الوراء لنوقفها بل نسلم أنفسنا معها لاندفاع السيل ، وبين الهنيهة والهنيهة ، نميل بها ميلة طيّعةً صوب الرصيف . تمسك بذراعي عائشة وفي لحظاتٍ أحسّ بجسمها يضغط عليّ . تصرخ بأنها ستحاصر عمّتها من جهة الكتف اليمنى وأنّ عليّ بالكتف اليسرى لنضغطها بيننا قبل أن تنهار بها قدماها ويدوسها الغضبُ الأعمى . الأذرعُ والأكفُّ تضرب في الفراغ حولنا وكأنما تزاحم وهج الشمس . منديل أمّ حسنين يتحلحل عن رأسها وينـزلق شعرها ويتضاءل بين الأكتاف والرؤوس والأذرع والأكفّ ثم يغيب ، مشرّعاً شيبتَها لكل غريب ، هذه الصابرة التي خانها صبرُها فأخرجها من بيتها لوداع الذي كان في جيرتها وكانت في جيرته . ألمس ثوبها ، أخربش عليه بأطراف أصابعي ، ألملم من تثنّياته ما يجعله حقيقةً في يدي ، ثم أخوض الخوضة التي لا رجوع عنها ، فإذا لِصْقَها أنا ، ومن الجانب الآخر لِصْقَها عائشة . لا تحاولا تخفيف مسيرها ، يصرخ بنا من ورائنا رفيقُ السلاح. ولا نحاول نحن . تلتقي عيوننا أنْ هي ذي لحظة الميل فنميل بها الميلة التي تجعلنا أقرب ما نكون من عتبة الرصيف . تقول عائشة إنها تسمع صوته فنتلفّت كلانا ولا نرى من السيل إلاّ السيل ، كتلةً متراصةً ممعنةً في اندلاقها إلى الأمام الأمام . رفيق السلاح صرختُه تدلّنا أين ننظر لنراه ، فنراه قريب المنال لو خطونا إليه خطوات ، طبيـبي وزوجي وحبيـبي ، وعائشة تلحّ عليّ أن أترك لها عمتها وألحق به لأودّعه إلى حيث ينتهي بالموكب زحفُ اليوم الأخير . قلبي ينبض في حنجرتي ولكنّ شيئاً فيه يكبح فيه نزوةَ الوثوب والاستسلام لحركة السيل ، فتنقبض أصابعُ قدميَّ وكأنما تتشبّث بعتبة الرصيف . ألولح له بيدٍ ويلولح لي بيديْن . يدي الأخرى تتثبّت من إحاطتها بكتف أم حسنين . ثم تلتف بي قدماي ثم نأخذ ثلاثتنا بصعود الطريق . شيبةُ همنغواي تلمع أمامنا في الشمس .
حتى الآن زَمَطَ من الأذى بدني لمحافظتي على طواعية الكرّ والفرّ بين رأس النبع وثكنة الحلو . عثمان الداعوق وتمّام العيتاني وعمر سلام وعماد الكبّي مزّقتْهم الشظايا فسمّوهم شهداء ودفنوهم دفنةً جماعية وبكى عليهم أهلهم وجيرانهم وحوّطوا صورهم بالشرائط السود وعَزَّتْ بهم الجيرةُ كلها ثم انفضّ العزاء ورجع كلٌّ إلى بيته أو ملجئه ، وحينما رُحِّلَ عرفات وقواته ، أحسّت العائلاتُ المفجوعة أن موت أعزّائها ربما راح سدى ، ولمّا بدأ شارون وبيغن يطالبان فيليب حبيب بترحيل المنظمات اليسارية مع الفلسطينيين ، وكذلك مقاتلي المرابطون والتيارات البيروتية الأخرى ، لم تجد الأحزاب ما تقوله لأهل الضحايا . الأحاسيسُ الإسلامية تتحرك في الجيرة من جديد وكلمةُ الشهيد على كل لسان والآيةُ التي تبشّر الناس أنّ الشهداء أحياء ، مضافاً إليها أنهم أسياد شباب الجنة ، لا تزال تتناجى بها الأفواه كما يدمن على أخذ الدواء المريضُ الموسوس . جدّنا الأكبر ، يقول عمي أبو مصطفى ، لو كان معنا اليوم ، كان سيفرح كثيراً ويستبشر كثيراً بتحرّك الألسنة بلغة القرآن بعد أن كانت بَعَّدَتِ الناسَ عنها كثيراً لغةُ الجرائد والإذاعات . عثمان وتمّام وعمر وعماد ارتاحوا من همّ الحياة ومن التوجّس مثلنا والتهوّس ليل نهار باحتمال اختراق الجيش الإسرائيلي وحلفائه من قوات التحرير بوابات العبور إلينا وإلى المخيمات ، خاصة بعد اغتيال الرئيس المنتخَب بشير الجميّل ووقوع البلاد في حالةٍ من غياب المرجعية السياسية الرسمية . أخبار الاذاعات كلها لا تطمئن والوقت يحشرنا الحشرة الأخيرة على ما يبدو . حتى الآن حظّي يفلق الصخر ، ومنذ الآن حتى تُنهي القوات الدولية مهمتها وتتسلم الشرعيةُ أمور البلاد سأقبع ههنا في مخبئي تحت الأرض حتى ولو غادره كل الذين يتلطّون به مثلي من فجاءات المجهول.
وكيف لي على كل حال أن أغادر هذا الملجأ وقد تعودتُ على القرفصة فوق بالوعة مرحاضه وقراءة ما تيسّر من الصحف التي صارت أكثر صفحاتها صوراً وصوراً وصوراً ، تنقل الأحداث والتحركات بدون تعليق ، أقرأ وأتفرّج على ضوء الشمعة وأنسى أحياناً أنني في وضع المتبرِّزِ ، نصفَ عارٍ ، فأقف وأفتح الباب وأهمّ بالخروج . اللغط يكثر خلف الباب . أطفىء الشمعة وأتنصّت . صبرا ، طريق الجديدة ، شاتيلا ، تتردد وتتردد بلهجة توكيدية . أربط بعض الكلمات ببعض فيتوقف نَفَسي . صوتٌ مبحوح يقترب حتى لكأنه يقف بالباب . لن يقدر على فتحه أحد إذا حاول فأنا حشرتُ المسافةَ بين الباب والحائط المواجه له بعارضةٍ خشبية مبرومة وعفيّة تمنع تَحَرُّكَ الباب إلى الداخل حتى ولو في محاولة اقتحام . صبرا ، طريق الجديدة ، شاتيلا ، وإذن لقد فعلها الخبثاء ودخلوا بيروت الغربية مموّهين بزيّ قريب من زيّ الجيش اللبناني ، هكذا الصوتُ المبحوح يحاول أن يقول . تعلو صرخات من آخر الملجأ تتبعها ولولاتٌ ويبدو أن صاحب الصوت المبحوح يبتعد عن الباب ليتلقّف ما وصل من الأخبار. صبرا ، طريق الجديدة ، شاتيلا ، وإذن شبحُ مذبحة دير ياسين يطوف بالمخيمات . شيء لا أفهمه يحدث في أطراف الملجأ فالناس كأنما يغضّون من أصواتهم أو كأنما هم يغادرون الملجأ سراعاً سراعاً . أرهف أذنيّ لأسمع ولو صدى لكلامهم ، ولا من كلام ولا من صدى . الصمت المهيمن يوسوس لي بما لا أحبّ . صَفْقَةُ الباب الحديد تدوّي دوّياً عميقاً آتياً كأنما من بعيد . رعشة باردة تسري في بدني وتنحلّ ركبتاي فأتكىء بجانبي على الحائط وأجلس على حافة البالوعة ، نصف مؤخّرتي في الفراغ ونصفها على البلاط. الرعشة الباردة تسري في بدني من جديد وشيءٌ يتحرك في داخلي ويقرقر فأحسب أنني سأتقيّأ عمّا قريب . أفتح فمي وأنتظر ، ولا أحسّ إلاّ بالقرقرة في داخلي تقرقع من تحتي وبشيءٍ ساخنٍ ينتشر على مدى البلاط ، جارفاً معه بَعراتٍ مثلَ حبّات الحمّص النّصف مسلوقات ، دافئاتٍ طريّات .
العذابُ الأصغرُ امرأةٌ لا تحبُّ فيكَ إلاّ حُبَّكَ لها
العذابُ الأكبرُ امرأةٌ تُسْكِنُكَ الشكَّ على أنه اليقينُ وحدَهْ
- كيف تتمّ توبتي إذا كانت خطيئتي امرأتي ؟
رفعت مِسْ بْريلْ يدها تتحسس فراءها الأليف اللطيف ، إذ لم يكن شيءٌ أحبَّ إليها من أن تلمسه ثانيةً ، أن تتحسسه من جديد . ولقد كانت استنبشتْه من الصندوق الخاص به بعد ظهر ذلك النهار فنفضت عنه بودرة العثّ وملّستْ عليه بالفرشاة وأعادت إلى عينيه الضئيلتين الغائمتين شيئاً من بريق الحياة .
وما معنى الذي يجري لي كلّه في هذا النهار ؟ قالت العينان الصغيرتان الحزينتان ، أو هكذا تراءى لمسْ بْريلْ . وما كان أجملهما عينين وهما ترمقانها ثانيةً من على لحافها الأحمر . أما الأنفُ المائلةُ سحنتُه إلى السواد فلاحظت مِسْ بْريلْ أنه لم يكن ثابتاً قوياً مستقراً . تُراه تعرّض إلى ضربةٍ أو كدمة ؟ لا يهمُّ ذلك الآن ، فحينما يصبح أمرُ إصلاحه حتماً محتوماً ، فإنّ مسحةً عليه من الشمع الأحمر ستفي بالغرض . ويا له ، ثم يا له من شقي صغير ! هكذا كانت تحب أن تتصوره : الشقيّ الصغير ملتفّاً حول عنقها ، عاضّاً بذيله على مقربةٍ من أذنها اليسرى . ومرّ ببالها أن تفكّ البُكْلَةَ وتأخذه من حول عنقها وتبسطه على حرجها وتملّس عليه ، ولكنها لم تفعل فلقد أحسّت بشيء كالتنميل يسري في يديها وساعديها ، عَزَتْهُ في سرّها إلى الإجهاد الذي أصابها من طول المسير . وحينما تنفست ، بدا وكأنما إحساس لطيف وحزين ، بل رقيقٌ رقيقٌ ، سرى في صدرها سرياناً خفيّاً .
الناس الذين كانوا يرتادون المنتزه ذلك الأحد كانوا أوفر عدداً مما كانوا عليه الأحد الذي سلف ، كما كان عزفُ الفرقة الموسيقية أكثر صخباً وأكثر مرحاً . كل شيءٍ كان وكأنما يحتفي بالموسم الجديد ، فقائد الفرقة كان يتشح بمعطف جديد ، جديد أجل ، وكان يشحط بقدمه على الأرض وينفض ذراعيه كما لو كان ديكاً على وشك أن يصيح ، بينما أعضاءُ الفرقة الجالسون في القاعة المُقَبَّبَةِ الخضراء كانت تنتفخ خدودُهم وتصدح موسيقاهم صدحاً فريداً . وترقرقت في أذنيْ مِسْ بْريلْ نغماتُ المزمارِ الذي بدا وكأنما استجاب لأمنيتها فترقرق لها من جديد بذات النغمات .
إثنان شاركاها مقعدها الأثير : رجلُ مُسِنٌّ هفيف يرتدي معطفاً مخملياً ويداه مطبقتان على عكّازه المنحوت ، وامرأةٌ مسنّة ضخمة جلست منتصبة أمامه وعلى مئزرها المطرّز كَبْكوبُ الصوف وبين أصابعها الصنّارةُ ، تحبكُ بها وتحبك . مِسْ بْريلْ كانت خيبة أملها كبيرة حينما أخلد الرجل والمرأة إلى الصمت ولم يخوضا في حديث ، أي حديث ، إذ فَوَّتَ ذلك عليها فرصة الإنصات دون أن يبدو عليها أنها تنصت ، فَحُرِمَتْ لذّة التمتع بخبرة اكتسبتها بطول مراس ، لَذّة الانخراط في حياة الناس لدقيقة واحدة وهم يتبادلون أطراف الحديث.
نظرت إليهما مرة بعد مرة من طرف خفيّ وقدّرت أنهما ربما يرحلان قريباً . لم يكن مؤنساً ذلك الأحد . والأحد الذي قبله لم يكن خيراً منه ، ففي ذلك اليوم التقت في الباركْ برجل إنكليزي وزوجته التي لم تفتأ تحدثه عن ضرورة لبسها للنظّارات وتصرّ في آن معاً على لا جدوى ابتياعها لها لأنها بالتأكيد ستنكسر . صبر عليها زوجها وصبر فأغراها بإطار مذهّب تختاره لنظاراتها كما أغراها بفتنٍ أخرى ، وهي تدفع الشيء بعد الشيء مصرّةً على شكواها أنّ النظارات ، رغم كل اقتراحاته القيّمة ستظل تنـزلق عن أنفها . مِسْ بْريلْ فقدت صبرها وأحست برغبة في أن تنهض وتهزّ الزوجة هزّة عنيفة غاضبة .
أما وقد جلس اليوم المسنّون على المقعد في سكون التماثيل فستقلّب هي ناظريها في زحمة الناس وتراقب كل حركة من حركاتهم . هنالك أمام جوقة الموسيقيين في القاعة المقبّبة الخضراء وعلى حفافي مساكب الأزهار يتمختر الشباب والشابات اثنين اثنين وثُلّةًَ ثُلّةً فيروحون ويجيئون في حركة دائبة ، ومنهم من يتوقف لتبادل أطراف الحديث أو لمجرد إلقاء التحية أو لشراء باقة من الزهور ، والأطفال بينهم يركضون هازجين ضاحكين ، وكذلك الأولاد الصغار المتشحون بالأنشوطات الحريرية البيضاء تحت ذقونهم والبنات الصغيرات المكسوّات بالمخمليّات والمخرّمات . الآخرون كانت المقاعد والكراسي الخضراء مكتظةً بهم وكانوا كأنما يتكرر بهم المشهدُ أحداً بعد أحد . الشيء الذي إليه لُفِتَ انتباهُ مِسْ بْريلْ هو أنّ هؤلاء جميعاً كانوا غريبـي الأطوار ، صامتين ، ومسنّين ، وكانوا يبدون لها كلما حدّقوا في شيء مثل كائنات هبطت عليها فجأة من حجراتٍ ، بل ربما من خزاناتٍ صغيرة ضيّقة معتمة .
كل شيء كان رائعاً ، كل شيء كان ممتعاً ، ولكن أحبّت مِسْ بْريلْ أن تجلس هنا وتراقب كل الأشياء . الأمر كان بمثابة عمل مسرحيٍّ يُؤَدَّى . وفي لحظة نادرة من لحظات الكشف تجلّت لها الحقيقة الرائعة : كلهم كلهم كانوا على خشبة المسرح ، ولم يكونوا من النظّارة فحسب . كلهم كانوا يمثّلون ، وحتى هي كان لها دور تؤديه كل أحد . وغيابها كان سيُلاحَظ بلا ريب لو أنها تخلّفت عن لعب دورها في الأداء العام للمسرحية . يا الله ! يا الله ! كيف لم تفهم الأمر على هذا النحو من قبل ؟ حسناً ، حسناً ، الآن أدركتْ معنى إصرارها على الإنطلاق من منـزلها في نفس الوقت من بعد ظهر كل أحد حتى لا تتخلّف عن المشاركة في أداء دورها ، والآن فقط أدركتْ لماذا كان يعتريها شعور غريب مفعم بالخجل كلما حدّثتْ تلميذاتها في صف اللغة الإنكليزية عن كيفية تمضيتها للوقت بعد الظهر من كل أحد .
طبعاً ، طبعاً ، على خشبة المسرح كانت هي . وعادت إليها ذكرى ذلك السيّد المُقْعَد الذي كانت تقرأ له الصحيفة أربع مرات في الأسبوع وهو مستلقٍ في الحديقة ، والذي حينما أدرك آخر الأمر أن الصحيفة كانت تقرؤها له ممثّلة ، نهض برأسه المسنّ عن مخدته القطنية والتمعت نقطتان من النور في عينيه وسألها بحماس عظيم : أصحيح أنكِ ممثلة ؟ . أجل أجل منذ زمن طويل وأنا ممثلة أجابت وهي تسوّي أوراق الصحيفة وكأنها تسوّي أوراق النصّ الذي فيه دَوْرُها .
كان العازفون قد أخذوا استراحة قصيرة ، والآن عادوا يستأنفون العزف من جديد . اللحن كان هذه المرة دافئاً ، مشرقاً ، تسري فيه رعشةٌ خافتة ، شيءٌ يحفّز فيك الرغبةَ في الغناء . وارتفع اللحن وتسامى وشعّ الضياء وخُيّل لمِسْ بْريلْ أنّ الناس كلهم ، أنّ أعضاء الفرقة المسرحية كافة، على وشك الشروع بالغناء : الصغارُ الضاحكون أولاً ، تتبعهم أصواتُ الرجال ، قوية جريئة ، ثم هي بذاتها، هي بذاتها ، والآخرون الجالسون على المقاعد تنساب أصواتُهم لترافق سائر الأصوات بشيء خفيض ، شيء مؤثّر جميل .... وفاضت عينا مِسْ بْريلْ بالدموع فغمزت بنظرتها وابتسامتها أعضاءَ الفرقة المسرحية كافة .
في اللحظة تلك ، وصل فتى وفتاة وجلسا في المكان الذي كان يشغله الرجل والمرأة المسنّان . ثيابُهما كانت جميلة وكانا مغرميْن . إذن لا ريب أنهما بطل وبطلة المسرحية ، نزلا لتوّهما من يخت والد الفتى . مِسْ بْريلْ تأهبت لتنصت إلى حديثهما وهي لا تزال تؤدّي غناءَها الصامت وتبتسم ابتسامتها المرتجفة .
كان من دأبها ، وهي في طريق العودة ، أن تمرّ بالمخبز وتشتري شريحة من الكعك المعسّل.كانت تلك متعتها كل أحد . وفي تلكم الآحاد التي كان يطلع لها فيها على شريحتها حبّةُ لوز ، كانت تهرع إلى بيتها وكأنها تحمل معها هدية صغيرة ، شيئاً أشبه بالمفاجأة، لتشعل النار تحت بكرج الشاي في حماس كبير . ولكنها اليوم جازت المخبز وصعدت الدرج ودخلت إلى حجرتها ، بل قُلْ خزانتِها الصغيرة المعتمة ، وجلست على اللحاف الأحمر فوق سريرها. لفترة طويلة طويلة جلست هناك. الصندوق الذي كان قد خرج منه الفراء كان لايزال فوق السرير . أسرعت بفكّ البُكْلَةِ وأخذت فراءها من حول عنقها ، وبدون أن تنظر إليه ، مدّدته في الصندوق . وحينما أطبقتِ الغطاءَ عليه ، تراءى لها أنها سمعت شيئاً أخذ فجأة بالبكاء .
لو كلهم كانوا رحلوا مع ياسر عرفات لما كانت وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا التي تقوم وتقعد الدنيا لتلبّسنا مسؤوليتَها نحن قوات التحرير ، وكأنما الإسرائيليون وحدهم لا يقدرون على هذا الشيء، وهم الذين سنّوا هذه السنّة في علاقتهم مع الفلسطينيين منذ مذبحة دار ياسين وما تلاها من المذابح التي استفزّت شيوخَهم ونساءَهم من الأرض فحملوا أطفالهم وساقوا أولادهم عبر حدودنا وانتشروا في أرضنا كما ينتشر الجرادُ الآكِلُ الأخضرَ واليابسَ والهابشُ في طريقه الميّتَ والحيَّ . صحيح أن البريطانيين في ال 48 أغروا زعاماتنا بالمساهمة في إفراغ فلسطين من الفلسطينيين تمهيداً لإعلان نشوء دولة إسرائيل، فرحّب فتى العروبة الأغرّ ، الحالمُ والموعودُ برئاسة الجمهورية ، أوّلُ المستهترين بنقاء العِرْقِ اللبناني ، رحّب بإقامة مخيمات اللاجئين من صور إلى النبطية فصيدا فبيروت فطرابلس ، صحيح كل هذا ، ولكن أن يمتزجوا بالملّة الأخرى وينصروها في ثورة ال 58 على زعامتنا ، زعامتنا التي نفسها كانت رحّبت بهم وسكتت عن تعكيرهم لبيئتنا بسوانح وروائح مخيماتهم ، ثم أن يستبيحوا الأمن اللبناني كله ويعلنوا الحرب على إسرائيل من جنوبنا وعبر حدودنا ، فذلك ما لا يقبله مَنْ في عروقه قطرةٌ مقطّرة من نقاء دمائنا . لو كلهم كانوا رحلوا مع منظمة التحرير لما كانت وقعت المجزرة ولما كان بكى ليله ونهاره الخوري حنّا وامتنع عن الأكل والشرب منقطعاً إلى صلاته في الليل والنهار ليعيدنا إلى قلب المسيح بعد أن هجرناه ، على حدّ قوله، مرّةً في السبت الأسود ومرّةً في مخيمي صبرا وشاتيلا ، هكذا هكذا يقول للشباب المذهولين حوله الخوري حنّا لأنه هكذا يريد أن يؤمن وهكذا يريد أن يبشّر ، يبشّر بمسيحية مبرّأةٍ ممّن ذبح وقتل وأعان على الذبح والقتل بالتهييج والتحريض والدسّ والتلبيس ، بالخمر والجنس والحشيشة والأفيون وحتى موسيقى بيتهوفن التي سخّرها إدجارْ عِضاهْ الرّوحْ في تجربةٍ لم يُسبق إليها في تاريخ الحروب ، وهكذا هكذا الخوري حنّا يصلّي ، وهكذا هكذا يقول ، حتى لقّبه البعض بيوحنا المعمدان الذي ينتظر على ضفاف نهر الأردن ليعمّد السيد المسيح في مجيئه الثاني ، تبشيراً بمسيحيةٍ جديدةٍ مبرّأةٍ من الأيدي والقلوب التي دنّست تعاليمَ مجيئه الأول ، هكذا هكذا حتى تبلبل ميشيل واضطربت أفكارُه وعواطفُه ، وهو أُذُنٌ له مع صوت الخوري حنّا وأُذُنٌ تتلقّى تهنئةَ المعارف والجيران بنجاح شقيقه إدجارْ في تجربته الموسيحربيّة ، فشرب ذات ليلة حتى طَزَّتْ وبَظَّتْ عيناه من حدقتيهما ثم ركب موتوسيكْلَهُ الذي جَعَرَ وجَعَرَ موتورُهُ في شارع الحيّ صعوداً فنـزولاً ونزولاً فصعوداً حتى سُمِعَ صوتُه يدوّي في الليل كهدرةٍ من هدرات الجنّ ، صوتاً أفاقت عليه حجرات مدرسة الثلاثة الأقمار وأبراجُ القصر السكوتلندي ، كما مكاتب وزارة الخارجية ، صوتاً ما لبث أن اغرورق بضجّةِ ارتطامٍ أخرستِ الأصواتَ السائلة وأعمتِ الأحداقَ الشاخصة وزحزحتِ الفجرَ عن شارعنا وحيّنا ليلة وليلتين وثلاث ليال .
يظهر أنها وصلت وفتحت أمي لها البابَ ، فدقّتُها التي لطقّتها على الخشب حشرجةٌ أميّزها من كل الدقات والطقطقات لم أسمعها ، ووحده صوت أمي يقترب من غرفتي شيئاً فشيئاً . الخمسُ الأصابعُ يخربشنَ على باب غرفتي وتنشقّ المسافةُ عن وجه أمي وصوتها يسلّماني عِنَاسْ الداخلة عليّ بعودٍ جفّ من هول ما حلّ بميشيل أخيها ووجهٍ نشّف ماءَ حَدقتيْه تواترُ دمعٍ لا بلالة فيه ولا نداوة ولا حتى ذكرى رطوبة . تهزّ برأسها بغير كلام وهزّةُ رأسها كلُّ الكلام ، فأتلطّف في الحديث حتى آخذ منها خبرَ الشلل الذي شُلَّهُ ميشيل بسبب الكسر في عظام سلسلته الفقرية وخبرَ الغيبوبة التي دخلها منذ ارتطم بالزجاجة والحائط والليل الذي لا أوّل له ولا آخر . مسكينة صديقتي عِنَاسْ ، فبعد تسريحه من المستشفى ستكون له الأمَّ ، ترعاه لا لينمو ويترعرع ، كما ترعى أطفالهَن الأمهاتُ ، ولكن لتنطفىء في عروقه الحياةُ ويجفّ عودُه بين يديها وعينيها ، فالأمومةُ التي كُتبت عليها كُتبت وكأنما بالحبر الناشف ، لا بلالةَ ولا نداوةَ ولا حتى رطوبةَ ذكرى لما كان يجب أن يكونه ، ولم يَكُنْهُ ، من ظهر رَجُلٍ ، ماءُ الحياة . مسكينة عِناسْ فإدجارْ هو الآخر من جملة خساراتها ، طلع به نجاحُ تجربته الموسيقية مباشرة من صبرا وشاتيلا إلى كل الشوارع والزواريب والأزقّة والأحياء والساحات والأوتوسترادات والتلال والمرتفعات والجبال والسهول والحقول والشواطىء فهو المستهدَفُ من كل العيون التي مشت على شاشات التلفزيون بين ممرٍّ وممرٍّ وبين عطفةِ بيت وعطفةِ بيت وبين باب حجرة وباب حجرة ، مشت على الجثث التي كان لاحقها الرصاصُ والموسيقى ، وربما السكاكين والخناجر ، فمن كل العيون هو المستهدَفُ اليوم وغداً وبعد غد ودائرةُ استهدافه مساحة لبنان .
خسارتُها خسارةٌ وإن كنّا رغم كل الخسارات ربحنا الحرب ، ربحناها بنعمة الثالوث الذي أوّلُه ترحيلُ مقاتلي منظمة التحرير إلى غير رجعة وثانيه كَسْرُ عظام الأحزاب اليسارية والميليشيات الإسلامية وثالثُه تَرَبُّعُ قائد قوات التحرير على عرش رئاسة الجمهورية ، العرش الذي سرعان ما تربّع عليه شقيقه عقب اغتياله.
لو فكّرتْ مثلي بنتائج الحرب لرأت خسارتَها شَطْرَ خسارة ليس إلاّ ، ولكنها لا تفكر الآن مثلي ، وإذاً فعليّ انتظارُها حتى تهدأ سعلتُها المباغتة الناشفة ، لأبسط أمامها دروبَ الحرية الرحبة التي تنتظرنا أنا وهي حينما نعود فنتقمّص في الجامعة سيرتَنا الأولى ونَشْطُرَ مصيرَ كلّ من اكتملتْ خِلقتُها وتفوّق حسنُها، كل مَنْ تنغنغ لها صوتٌ أو تهدّلت جفونٌ لها وشفتان . ذلك وحده، بل ذلك وسواه ، سيقذف بها إلى احتمالات الغد الرحبة الرحبة والتي ستقلّص من حجم خساراتها الأخرى . وبعد أن أحدّثها وأَعْمُرَ قلبها بالأمل الجديد فتمضي بغير العود والوجه اللذين دخلتْ بهما عليّ ، سأواجه مرآتي لأرى إنْ كانت ستجرؤ ، بعد انتصارنا في هذه الحرب ، على أن تردّني إلى عينيَّ ، كعادتها ، شَطْرَ امرأة .
كلُّ امرأةٍ مِحْنَةٌ لعاشقها ، ومحنةُ كلِّ جَنَّـةٍ امرأهْ
بين حاملات الدبابات على الطريق ذهاباً وشاحنات الجند على الطريق إياباً يحشرنا الجيبُّ الوطيءُ فننكمش ونتضاءل ونكاد أن نتلاشى لولا أن تخفّ بنا سرعتُنا إلى النور فتنفرج ملامحُنا وتلبسنا مقاساتُنا فنطمئن هنيهةً وهنيهةً إلى وجودنا من جديد . وتظلّ من خلفنا ومن أمامنا الحاملات والشاحنات تهدر بأنفاس محشرجة مكظومةٍ بدخان أشكموناتها ، موتورةٍ بعويل محركاتها ، من خلفنا ومن أمامنا تهدر حتى ليكاد صوت جدي يعاتب زمننا على أصوات زمننا الذي نسي غناء المزامير فلا ترتيل اليوم للكلماتِ والنّغماتِ ولا تأويب جبال . صوت جدّي ورّثني حبَّه للمدن القديمة وما أغرب ما ينتابني من أحاسيس ونحن نعبر منطقة الرميْلة لنطلّ من مسافة كيلومترات قليلة على العريقة بين مدن الساحل الفينيقي ، صيدون ، التي كان ملوكُها شعراءَ ومعاهدُها الثقافية كانت لشابات أوروبا وشبابها ما كانتْه أوروبا للأميركيين أواخر القرن الماضي والربع الأول من هذا القرن ، مزاراتِ العلم والفن وأدب العيش . تنتابني الأحاسيس الغريبة ، وغريبة هي لا لِنُدْرَتها في النفس ولكن لحميميّة حرارتها حتى في زمن الحرب الدائرة ، فأتحرك في مقعدي وأختلس نظرة من نظرات الودّ القديم إلى شيمونْ أَزَرا وأربّت على كتفه في صمت ، جانحاً بقلبي فوق الظنون التي حاكتْها فيه خلجاتُ الريبة تختلج بها عيناي في لحظات الصدام بيني وبين آيينْ شارونْ حول الأهداف السلمية للحرب ، أُرْسيها له أنا على حسن الجوار وينسف هو الحكمةَ بولاء الله لشعبه المختار ، ينسفه مستنهضاً من صفحات التوراة ملوكَ البطش والتوسّع والاستعلاء فتلبي نداءَه الفرسانُ والجندُ والخيلُ وتحتدم حوله صيحاتُ الغضب ودقاتُ الأقدام على الأرض وقرعُ الطبول وزَمْرُ المزامير التي لا يأوّب معها من زمننا إلاّ الطائرات المقاتلات والدبابات وإلا حاملات الدبابات وشاحنات الجند ، محركاتُها الآلاتُ المولّدةُ اليوم للنغمات التي لم تَزْمُرْ بها في زمن داوود مزاميرُ داوود . ويذكّرني هو في شَيْطَةِ هوسه بأنّ داوود غنىّ الحرب والقهر والنصر وإرادة الله في تأديب الشعوب على يد إسرائيل ويتهمني بتزوير الحقِّ كلما حدّثتُ بالسِّلْم ، فعنده أن السِّلْم وحسن الجوار لا تحتازهما إسرائيل إلاّ بالحرب والقهر والنصر وإنفاذ إرادة الله في تأديبنا للشعوب . يذكّرني لينهرني فأنهره بآخر الأصوات اليهودية المبشّرة بإله المحبة والتسامح والغفران وأستفزّه بالنبي العربي الذي لم يكن يهودياً ولكنه بساميّته الثقافية لَيَّنَ عقوبات التوراة بتسامح الإنجيل فأقام العدل بالرحمة ملطّفاً بالوعد الوعيدَ وبالتوبةِ القصاصَ ، مصدّقاً لما بين يديه من أنبيائنا ورسلنا وكتبنا ، مقيماً للدنيا مثالاًَ أعلى في حسن الجوار ، اعترفنا له بذلك أم أنكرناه . حسن الجوار ، حسن الجوار ، حسن الجوار ، أصرخ به وأستفزّه فينهرني وتكاد كلماتُه تشرف بصوته على حافة اتّهامي بالخيانة ، ولا أظنّ إلاّ أنها في قلبه مسوَّفَةٌ إلى حين .
بيروت لم أدخلها لأنّها كألفٍ من صيدون وصور وجبيل ، حقوقيّوها فرسانُ العصور ، يغارون عليها ، يومئون إليك أن تخفف الوطءَ حتى لا تعكّر صفاءَ أديمها بجلبتك ، وأن تغضّ من صوتك حتى لا تقطع عليها تأملها في الحكمة بنبراتك . هي ذي بيروت خيالي . ولم أدخلها ، على شغفي بتاريخها وتفاصيل عمرانها ، لأنّ لوحة نابليون في رواية تولستوي ، واقفاً على مشارف موسكو، مخطئاً في حساب الحرب والسّلْم ، يهوي في فراغ المدينة هُويّ الطير في وادٍ سحيق ، لأن اللوحة تلك نسجت خيوطَها على شبكة عينيّ فلا رؤية لهما إلاّ بها وإلاّ عبرها من قريب قريب أو بعيد بعيد . لآيينْ شارونْ ضدّ مسيرته الأخيرة لدخول بيروت خدعةً ، نصحتُ، وبالنصح له ، هدّدتُ بأن أرفع أمر نواياه إلى القيادة العليا والقيادة السياسية وحتى إلى القضاء لأن مستقبل إسرائيل في ميزان الإعلام ، فإنْ تمّ لأيينْ ما يضمره آيينْ فستصطبغ نجمة داوود بالدم ويرانا العالم أسوأ من الذين اجتحنا لبنان لمطاردتهم على أرضه . قلت له إنّ ترحيلهم من بيروت هدفنا الأمني وإنّ الدنيا كلها ترى رأيَنا وإنّ المخيمات مشكلة نتركها لأهل هذه الأرض الذين ليس من الحكمة أن نروّعهم بصور المجازر التي يلتهب بها خيالُه هو وخيالُ حلفائنا من قوات التحرير ، وخاصة ذلك المهووس بالرعب ، صديقه إدجارْ ، الذي درّب على الذبح والرشّ بالرصاص المئاتِ من رجاله وشبّانه ، فدخل بهم مخيميْ صبرا وشاتيلا بزيّ مموّه قريب من زيّ الجيش اللبناني ، وعلى موسيقى Ode to Joy من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن ، وبإشراف آيينْ شارونْ نفسه ، إنقضّ على الأكواخ وأشباه البيوت والمستشفيات والممرّات فغطّاها بالجثث التي غطّت شاشات التلفزيون والصفحات الأولى لصحف الأرض كلها ، أيام التاسع عشر والعشرين والواحد والعشرين من أيلولنا الأسود هذا ، على صرخات ريغن وميتران بجيشنا أن يكظم بربريته وينسحب من بيروت الغربية. ولكم كان مرعباً ومخزياً مشهدُ ذلك المقاتِل الذي اختتم المجزرةَ بتعرّيه من كلّ ثيابه على باب المخيم وغََسْلِهِ جسدَه بزجاجة كولونيا Christian Dior وهو يقهقه كما في روايات الجنّ وينادي جِيزيلْ ! جِيزيلْ ! زجاجتُكِ طهّرتْني طهّرتْني من جديد ، ويركض في الشارع كأنّه لا يرى أحداً ولا يراهُ أحد . كلّ الذي كان يرعبني احتمالُ حدوثه حدث ، وبدا وكأنما العالم كله ينهار من حولي ، وكأنْ لم يبقَ لي فجأة غير جدي ، صوتُه يحوّم حولي بلا كلمات .
نيتشه فهم التوراة والأناجيلَ أكثر منّا ووضع إصبعه على أشقى ما في تربيتنا الخلقيّة فهزىء بضراوةٍ من إحساسنا بالندم ، ووصف النادِمَ بالمدمن على العودة إلى خطيئته مرةً بعد مرة ، وقد كان حريّاً به ألاّ يندم أبداً ويكتفي بالإقلاع عما ارتكبه، لو أنّه فعلاً حَسُنَتْ نيّـتُه . ولإحساسه بالندم على تقصيره بالحؤول دون ما حدث في صبرا وشاتيلا ، تمرّد اليوم على ندمه ديفيد مردخاي ، تمرّد لا ليطهّر نفسه ويتصالح مع أحلام صباه وصوت جدّه ولكن ليتخطى هذه النفسَ المتأملةَ فيه وذلك بالشهادة على مدبّر المجازر ومنفّذها شهادةً تحفظ للضمير اليهودي فطرةَ التعادل فيه بين قوّة الحكمة وحكمة القوة . وهكذا رماني على طريق العودة إلى إسرائيل جنوحُ الحرب عن أهدافها فها أنذا بين حاملات الدبابات على الطريق ذهاباً وشاحنات الجندِ على الطريق إياباً ، أنكمش في حشرة الهدير وأتضاءل وأكاد أن أتلاشى لولا أن يناديني من على عتبة البيت العتيق صدىً للصوت الذي لا يفتأ اليوم يحوّم ويحوّم حولي بلا كلمات .
شيمونْ أَزَرَا أُحسُّ به خلف المقود بعيداً قريباً ، حاضراً غائباً ، يراني كأنما ولا ينظر إليّ ، وحيداً وحيداً مُنْسَلاً من عباءة الحيْث والكيف والمتى ، منسلخاً من حرارة الودّ القديم الذي به رَبَّتُّ على كتفه لدى دخولنا منطقة الرميْلة ، فعيناه كأنما سبقتاه إلى أبعد ممّا تتيحه لنا الرؤيةُ ، والكلماتُ التي التفتُّ لأطرحها عليه انْمَاعَتْ وابتلعتها حنجرتي مع الريق . شجرات البلح من بستان البلح ، عبر خط السكة الحديدي، يتهافَتْنَ في عيني فَيُطَيِّـبْنَ خاطري فها هو ذا يلينُ فيَّ الشيءُ الذي كنت أخشى على هدير المسافة التي قطعناها ألاّ يلين ، يتهافتن أقراطاً حمراءَ صفراءَ ، متهدّلات وكأنما من جنائن ملوكنا وأنبيائنا، فألهج بذكر جدي ليعيد عليّ صوتُهُ شيئاً من سيرة العصور ، فلعلني أعود معه لأسرحَ أستروحُ تحت غصون الشجر ، وأتمددَ أستريحُ تحت سنابل القمح ، وأنزلَ أتمشى في الهادىء من الماء، وأسبحَ أتقلبُ مع التيار وعكسه في اندفاعات الموج الذي لا يوقفه شيء ، وأغوصَ أستطلعُ منبت التيارات التي لم يكتشفها عشّاقُ الشطوط ، وأتمادى في الغوص وأتمادى ، يتهافتن أقراطاً من الصّفرة والحمرة ، وشيمونْ أَزَرَا خلف المقود إلى جانبي ، بعيداً قريباً ، حاضراً غائباً ، يراني كأنما ولا ينظر إليّ.
العشرُ الأواخرُ من أيلول قد لا تكون أفضل الأيام لجيشنا ، أقول له آخر الأمر وقد عزمتُ على استعارته من نفسه . ولعلها لن تكون أسوأها ، تقول لي ابتسامتُه الباهتة . بعد أحداث المخيمات، استدراجُه إلى نفق الهدير صار أشبه بالمعجزة ، وهو الذي في أصل تكوينه أَمْيَلُ للصمت منه إلى الصوت والخوض في ما يخوض الناس فيه نهاراً جَهَاراً كلما احتدمت الدنيا وهجمت علينا بالأمر الغريب . العشر الأواخر من أيلولنا خوفي أن يحوّلوها إلى العشر الأواخر من رمضانهم ، أقولها ولا أعرف لماذا أقولها ، وهو على حاله لا يستفسرني وتظل تسبقه عيناه إلى أبعد ممّا تتيحه لنا الرؤيةُ. تتلاحق في حنجرتي الكلماتُ ، لا أسمعها ، ولكنها تريني قيامَهُمُ الليلَ في المساجد ركّعاً سجّداً ، مسبّحين مقدّسين مستغفرين ، يرجون من ربّهم نصراً علينا ، فتحاً قريباً تُفتح به عليهم ليلةَ القدر السماواتُ العلى ، فينكمش أيلولُ ، أيلولُنا ، ويمسك بتلابيب تموز وتموزُ بتلابيب حزيران ويصرخ اللاحقُ بالسابق أنْ لولا الذي أحدثْـتَهُ قبلي من الأمر لما كنتُ اليوم في الذي أنا فيه . أهزّ شيمونْ أَزَرَا من كتفه هزّة يستدير معها إليّ ببغتةٍ وحذر فأرميه بالسؤال عن أخبار المساجد فيجيبني بأنّ أحداً لم يستطع أن يدلّ ضباطنا على مكان أبو طاهر رغم تأكيد الجميع على أنه في المساجد كلّها يُرى ، كلّ ليلة يُرى، وفي آن معاً .
صِرْفٌ بلاؤنا بِلُبَّاسِ الأكفان ، يا شيمونْ أَزَرَا ، أفكّرها ولا أقولها ، فيتراءى لقلبي ما كنتُ خُبِّرْتُهُ عن شبَّان المساجد ، يستحمّون وكأنّه الحمّام الأخير لهم ويتوضأون وكأنه الوضوء الأخير ويصلّون صلاة الموت لأنهم إليه خارجون كلما عُقِدَتِ النيّةُ على الخروج في طلب الشهادة التي جنودُنا وضبّاطنا وآلياتُنا المعبرُ لها ، أكفانُهم يلبسونها داخل أجسادهم فلا نراها لأنها بلون نواياهم المحجّبة عنّا ، وإن كنّا نرصدها ذبذباتٍ في الهواء الذي يلفّ ويدور وينهض ويسترخي في شوارع مدينتهم وساحاتها وأزقتها مُشْبَعاً بأنفاسهم المثقلة بخلجات الصدور .
يخفّف من سرعتنا الآن شيمونْ أَزَرَا وقد اقتربنا من مركزنا العسكري في معمل الثلج ، وعلى نظرات جند الحاجز يردّ بابتسامة الواثق ويعبر بنا على مهله صوب الجسر . عيناي تلتهمهما القضبانُ السوداء التي كانت قبل شهرين أشجارَ حرج الكزبرينا على الطرف الآخر للجسر ، سوداءَ هاجرت عنها الخضرةُ التي لا تستأنس بها عينا آيين شارون . أحرقها قبيلُهُ إذن . أمسح السواد عن عينيّ بشجرات الكينا شرقيّ الجسر . الكوزينا التي هي حدود النهرِ والمدينةِ لم يأخذها حريق ، وفي وسط المجرى الشحيح اعتلى العشبُ ما يشبه التلّةَ الترابية التي وكأنما انحرفت عن جانبيها سيولُ الشتاء والربيع ونسيتْها هناك فكأنها ليست شيئاً من المجرى . ويتراءى لي في مثل لمحة الحلم رفيفٌ من شبّان وبنات حارة اليهود يلهون جميعاً بين الضفة والضفة على ضحكاتٍ تطل ثم تختبىء في تلّة العشب ، فأنادي جدي أن يلحق بهم ، أن يتتبّعهم ، ليحكي لي بقية القصة القديمة حينما يلتقيني وألتقيه ، اليوم أو غداً ، على عتبة ذيّاك البيت العتيق .
الملعبَ البلديّ وفندقَ صيدون نجوزهما ، وعلىجهة البساتين الجمّيزةُ المعمّرةُ ، كما عُمّرَ على تنافر الفصول وتجاذبها جدّي ، تحرِّك في حلقومي شيئاً كأنه الأنّة ، لا أتبيّن مستقرّها ولا مرساها . نجوزها هي الأخرى ، وفي لحظةٍ جامحةٍ تؤكد لي ثنائيةَ البعد والقرب والحضور والغياب ، تَبْطُؤُ سرعةُ الجيبّ فألتفت إليه الذي بجانبي لأؤكد له أنه ساكنٌ نيّتي بل أنه أقرب إليّ من حبل الوريد ، فلا يلتفت هو إلي ّ وتظل عيناه فوق المقود تسبقانه إلى أبعد مما تتيحه لنا الرؤية ُ ، فألوي بوجهي كله تلقاء مطعم الجُمَري ، أبحث عن بسطة الجسم ورحابة الوجه فأراه هناك ، جهّار الجُمَري ، في جلسته المأثورة تحت شجرة من شجرات البلح . لا أظنه يراني ، وإن رآني فقد لا يعرفني ، فلقد مرّ على تحيتي له بالوداع وردّه التحية بتحيّتين زمنٌ من الهدير الذي ها هو ذا يحاصرني من جديد بين حاملات الدبابات على الطريق ذهاباً وشاحنات الجند على الطريق إياباً .
سوبرماركت إبن الجمري لا شكّ أنهم نسفوه لمتاجرته ببضائعنا ، فالحريق آثاره لا تزال على الحيطان . تعود إليّ من صفحات الجرائد صورُ المتاجر المنسوفة في النبطية ، وكأنها رسائل موجّهة إلى كل من يعنيهم الأمر . بعد أقل من شهر على عبورنا الحدود لطرد عدوٍّ لنا وعدوٍّ لهم من أرض الجنوب ، غلى في عروقهم التاريخُ الحسينيّ وصرنا لهم الوجهَ البشع للغزاة بعد ما كان لسوانا ذلك الوجه ، فتباً ثم تباً لمن ذكّرتُهُ بقول سليمان أنْ لا تكنْ حكيماً في عينيْ نفسك فردّ على سليمان قولَه وركب رأسه . حكمة القوة عندنا تقارعها حكمة القوة عندهم وبالساميّة تنهزم الساميّة ، تغلي في رأسي الكلماتُ ونحن نجوز جامع الشمعونْ ونقترب رويداً رويداً من جامع الزعتري ذي القبة الخضراء .
شيمونْ أَزَرَا يرى أن نتجنّب المرور في المدينة عبر شارع رياض الصلح ، ولا ينتظر لسماع رأيي ، فينعطف الجيبُّ بنا إلى جهة البحر وينطلق على الطريق القديمة ، فإذا القلعة البحرية إلى يميننا ، وأمامنا هنالك يتجوّل الناسُ في سوق السمك ، فأفتح فمي لأستفسره شيئاً ثم أتذكّر حكمة سليمان فأطبق شفتيَّ . نجوز السوقَ والناسَ وجنوداً من دورية لنا راجلة والطريقُ لا تفتأ تندفع بنا جنوباً جنوباً. مئذنة جامع الكبير تنتصب أمامنا في السماءِ ، والفضاءُ يموج منها بالأذان الحزين . قائلٌ قال مرة بأنّ الجامع كان كنيسة في زمن سحيق ، وعلى ذلك تشهد هندستُه والكُوى والنوافذُ في حيطانه . ولو كان بقي باقٍ من سلالة جدودنا في حيّ اليهود لكنتُ سألتُه إذا كانت الكنيسة في الزمن الأوغل سحقاً كنيساً لأهل الحيّ ولكنتُ ألححتُ في السؤال لتتكشّف لي حقيقةُ شيءٍ يوسوس به صدري من سيرة العصور.
في الأسبوع الأول من حزيران الماضي كان لقواربنا محاولاتُ إنزال على هذا الشاطىء . الأمواج الآن لا يعكّر تتابعَها شيء ، وأحسب أنه لولا صوت موتور الجيبّ لكنّا سمعنا انكسارها على الحصى والصخور ، أجل على الحصى اللامع في الشمس وعلى الصخور . نسيتُ أين وضعتُ خريطة صيدون القديمة ، ولكن أليس عجباً أنني أذكر تفاصيلها كلها هذه المدينة فكأنما عشتُ فيها زمناً طويلاً؟ المقود يدور بيديْ أَزَرَا في سرعة مجنونة وصوتُه يصرخ بي أَنْ أخفضَ رأسي وأتمسّك . دورةً كاملة يدورها الجيبّ ويَشُبُّ بنا عن الأرض شبّاً في الاتجاه المعاكس ، على أصوات طلقات رشاش كأنها آتية من خلف صخرة من الصخور. يفرمل الجيبَّ فجأة أَزَرَا تحت الحائط الطالع من حافة الطريق إلى مستوى الأرض التي يقوم عليها الجامع. يقفز من ناحيته وأقفز من ناحيتي ونركع لنحتمي من الرصاص بالدواليب . مسدسي ورشاشُه ينتظران . لو كنّا عَبَرْنا المدينة من شارع رياض الصلح لكانت أسعفتْنا دورياتُنا ودورياتُ حلفائنا من قوات التحرير ، فالكمين على هذه الطريق الفرعية هيّن على الكامنين. وسرعان ما يتبدى لي حسنُ اختيار أَزَرَا للتوقف بنا تحت الحائط العريض ، مبتعديْن ما استطعنا عن وسط الطريق حيث ينهلّ الرصاص غزيراً من فوقنا ، من ناحية مقهى رجال الأربعين . من جهة الشاطىء تقترب أصوات الرشاشات ، وثلاثةً أحسبها ، تتداول رشّ الجيبّ بانتظام لتغطي تقدّم الكامنين . ربما كان عليّ ألاّ أتسرّع في تمرّدي والتخلّي عن منصبي ورفضي لمواكبةٍ تؤمّن لي الوصول إلى داخل إسرائيل بالسلامة التي تتطلبها خطورةُ المعلومات التي تختزنها ذاكرتي . ولكن فات أوان الربّما، والحكمةُ الآن هي حكمةُ القوة، هي الطرفُ الآخر للثنائية السامية ، يهزأ بي لأنّ به وحده في هذه اللحظات خلاصي . إمتداد ذراعه يشقّ الهواء وتطير القنبلةُ اليدوية نحو صخور الشاطىء ويدوّي انفجارُها وتعلو في إثره صرخات . ثم ينهض ، وكأنما من موج البحر ، رأسان يقتربان شيئاً قليلاً بتصميم لا وجل فيه وينخفضان ثم ينسحبان إلى الوراء وكأنما يسحبان على الأرض من رفاقهما جريحاً أو قتيلاً . نزيه! نزيه! كأنهما صرختان بكلمة واحدة . الهدوء يقطع الأنفاس أو لعله انقطع الهواءُ أو رَسَا، يترقّب مثلنا اللحظةَ التالية . صرختانِ ورأسانِ ورشّاشانِ تعلو كلها فوق الموج المتتابع خلفها وتبدو وكأنها تطفو في الهواء وهي تندفع نحونا ، معرّاهً من الخوف والتردد ، تطفو في الهواء وتقترب منّا أكثر فأكثر وكأنما بلوغُها ناحيتنا بلوغُها أرضَ الحُلُم . تتحرك أصابع يدي وينشدّ الزناد مرة ومرة ومرة في وجه الجنون المنهلّ كالسّيْل نحونا نحونا ، وتشقّ صرخات الله أكبر الله أكبر الهواء وتمتزج بصوت رشّاش أَزَرَا ، ثم تهوي على مسافة أمتار قليلة منّا جثتان لشابّين ، ممزقتين برصاصنا ، ونأخذ نحن نسقط في الدهشة وراء الدواليب لأنّ دمنا الحارّ تصطبغ به الأرض تحتنا . مسدسي فرغ من كل رصاصه والرصاصُ من جهة قهوة رجال الأربعين يزداد على الطريق انهماراً ، ولا أثر من خلفنا ولا من أمامنا لدورية من دورياتنا تسعفنا في لحظاتنا الحاسمة . أَزَرَا ينظر إليّ نظرةَ أنّنا لن نستسلم . الكمين كأنما استدار علينا فمن جهة القلعة البحرية يبغتنا رشّاشٌ برشّاتٍ متقطّعة . أَزَرَا يقولها الآن بالكلمات ، لن نستسلم ، فأتحسس مسدسي الفارغ بغضب يائس مهين . الرشّاش في يديه تتحوّل فوهتُه نحوي . عيناي تبحثان في عينيه عن أفكاره التي أنّى لي أن أقرأها وعيناه تمتدان عبري إلى ما لستُ أراه . ستذهب قبلي وأذهب بعدك ، يهمس صوتُه بصعوبة جمّة . التوراة تحذّرنا من قتل أنفسنا يا أَزَرَا ، أهمس به صارخاً . لا بدّ أن نذهب قبل أن يَصِلوا فَأَسْرُكَ فضيحةٌ لجيشنا وسكوتي عنه خيانة ، يجبهني بحتم الكلمات . أصرخ به أنه ينفّذ لآيين شارون أمراً بعدم تمكيني من الوصول إلى حدود إسرائيل ، وأفكّر أنه سَيُجْهِزُ عليّ ويُؤْسَرُ . رشاشه يتململ في يديه . بعينيّ وقلبي أنظر إلى قلبه وعينيه نظرةً تتأرجح بين الشك واليقين ، ثم أشيح بوجهي نحو الشاطىء ، ثم أقطع نفَسي وأغمض عينيّ وأنتظر . من حولي تموت كل الأصوات وأفتقد منها بالذات ذلك الصوت الذي كان لي أبداً أُنْسَ الطريق ، في وحشة الطريق ، منذ أن عبرتْ قدماي بي إلى الدنيا عَتَبَةَ ذيّاك البيت العتيق .
أناشيدُ سليمانَ المَنْسِيَّهْ
وحدَها المرأةُ تختصرُ الفجرْ
ففي هُدْبَةٍ من طَرَفِ ردائها يهجعُ آخرُ الليلْ
وفي هُدْبَةٍ أخرى يصحو أوّلُ النهارْ
تمّتْ في 26 أيلول 2002