د. صلاح الدين الحريري

إرادة التغيير وشجاعة الحلم

إرادة التغيير وشجاعة الحلم

أليسّا ملكة قرطاج

إرادة التغيير وشجاعة الحلم

د. ناهدة سعد

تتجسّد أليسّا، ملكة قرطاج ، وتعود الى الحياة بحلّة جديدة في مسرحية صلاح الدين الحريري " أليسّا ملكة قرطاج"، تعود بجسد فذ وروح ذكية تتوقد فتنة وشوقاً: فتنة لكل من حولها من رجال، وشوقاً لقوة الحلم وقوة الإرادة وقوة العشق. وتكون الملكة الأنثى ،ملكة الحلم ، روحاً ثائرة على التقاليد والعادات البالية ، روحاً عاشقة للجمال ، عاشقة للحلم ، تتعالى به فوق كل الصعاب ، وتفضل الموت حرة ، كريمة، على العيش تحت وطأة الذل والأضطهاد . فتكون حالة وجودية فلسفية ، تحاكي معنى الوجود في عالم تجسد فيه الذكوريةُ منصّةً بديهية للتسلط والقهر والهيمنة.
يحاكي الحريري في مسرحيته هذه أليسّا جديدة ، عصرية وباهرة بقوة إرادتها ، شجاعتها ، ورجاحة عقلها. أليسّا ، هذه ، هي إبنة ملك صور ، المهاجرة إلى شمال إفريقيا بعد مقتل زوجها أشرباس على يد أخيها بيجماليون الذي تفرّد بالحكم بالرغم من إرادة والده بإشراك أخته بالحكم .أليسّا ، هذه، ليست الملكة الصورية ، كما جاء في كتاب "الإنيادة" لفرجيل ، أو تلك في "ديدو ملكة قرطاج" لكريستوفر مارلو. إنها ، في مسرحية الحريري ، إمرأة عصرية، واثقة، متحدية للطقوس والعادات في مجتمع تحكمه التبعية الدينية وتأسره طقوس وأفكار موروثة، ترفض أليسّا أن تجاريها أو تذعن لضغوطها. إنه التحدي الوجودي لكل ما هو قمع واستبداد في مجتمع ذكوري ، يرى في الملكة مجرد إمرأة أرملة بحاجة إلى رجل ليحميها من نفسها ونزواتها ويوثّق خطاها.
تتمحور المسرحية حول محاور ثلاثة: محور سياسي، محور ديني ومحور فكري. وتكون الحرية هي الهاجس الاكبر في المحاور الثلاثة. فالبعد الثوري لأليسّا يشكّل ثورة على التقاليد والشعائر الدينية وثورة على مفهوم صناعة القدر، حيث يحلّ البعد الوجودي محل البعد الغيبي والبعد التاريخي.
في المحور السياسي تتبلور مسألة صراع السلطات حيث تتداخل الحبكات الثلاث: السياسية والدينية والعسكرية. فأليسّا، ملكة قرطاج، في تحدٍ دائم مع القوى المتربصة بالمملكة: أولاً، في شخص إيرباس، ملك الداخل الإفريقي، الذي يمنّي نفسه بالزواج منها وضم مدينتها إلى مملكته،خاصة بعد إزدهار قرطاج وبروزها إقتصادياً وسياسياً وحضارياً؛ ثانياً ، في شخص الكاهن الأكبرالذي يمنّي نفسه بالزواج بالملكة أيضاً ، ليس فقط لإشباع عواطفه وغرائزه ، بل لوضع الملكة تحت سلطته الدينية، كونه الحارس الأكبر للتقاليد والطقوس والعادات التي تتصدى لها أليسّا بكل قوتها؛ وثالثاً أدون، قائد الجند ، الذي يضمر،كما الآخرون، الزواج بالملكة لكي يصبح الشخص الأول في قرطاج ،كما في حياة الملكة، بالرغم من تأرجحه بين شغفين:أليسّا وآنّا على حد سواء ، كما تتصور أليسّا.
تحت وطأة كل هذه التجاذبات والتحديات التي تحيط بالملكة بشكل خاص، وبالمملكة بشكل عام ، تكافح أليسّا للتصدي لكل ذلك والتفلّت من هيمنتها فتعلن لإيرباس أنها ستبقى وفيّةً لذكرى زوجها ولن تتخلى عن مدينتها مهما كانت الظروف. كما تتحدى أليسّا منطق الكاهن الأكبر بإعلانها ثورة على التقاليد الموروثة وطقوس الذبيحة والبغاء المقدس . وعندما يعلن الكاهن أنه لا يمكن تجاوز معتقدات الرعية أو الإستخفاف بها، كون الرعية في شوق دائم للمشاركة في طقوس الذبيحة ، تجيب أليسّا أنه يجب" علينا أن نرهّف شيئاً قليلاً من طبيعة طقوسنا ،فنطهّرها من رائحة الدم ونضفي عليها السابغ من عبق البخور وحرارة النبيذ." لكن الكاهن الأكبر يصرّ على أن الرعية لها أشواق لرؤية الدم لتجديد التواصل مع الآلهة ، كما يصرّعلى أنه هو الحافظ لقوانين التراث وأنه يرى أن إتحاد السلطة السياسية بالسلطة الدينية تؤمّن المملكة من شر الطامحين وشر ثورة العامة ضد الملكة ، كونه الوحيد القادر على سوس أفكارهم وأرواحهم.
لعلّ خطر الصراع بين الكاهن الأكبر وأليسّا على خلفية رفض الأخيرة لطقوس الذبيحة والبغاء المقدس ولتعلّقها بأنياس ، البطل الطروادي الشريد، يتفاقم حتى يصل إلى ذروته عندما تثور الرعية، بإيعاز من الكاهن الأكبر وبتحريض من أشرباس. ينقل الكاهن الأكبر للملكة مقولة حق الرعية بممارسة الطقوس المقدسة تحت وقع إحتجاجات وصراخ العامة . إلا أن أليسّا ترفض تلك المقولة بشكل قاطع إذ أن طقوس العبودية للموروثات القديمة لا تعزز إلا حرية المستبدين، وتقترح عليه تعديل الطقوس ، فبدل إحراق طفل بالنار وذبح صبية عذراء ، يُحرقُ البخور في المعابد وترتفع الصلوات التي هي جوهر تلك الطقوس. وأما البغاء المقدس ، فهو ، في نظر أليسّا ، إمتهان وإستغلال لجسد المرأة، فالمرأة الحرّة هي التي تنجب أحرار الرجال.
وكما ثورتها على الطقوس والعادات الموروثة، تشكل حواريات اليسّا الفكرية ثورة في مفهوم القدر وصناعته ومكان الإنسان منه ، فهي تعترف بأن قدرها هو الملاءمة بين الممارسات الروحية وحكم العقل . وتستفسر أليسّا عن غرابة أن تظلّ الالهة تحلم بالنيابة عن الإنسان ، بينما برأيها أن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره. وكذا تنبض تلك الحواريات بمعنى الحرية التي تحوّل الحلم الى حقيقة. فهكذا كان قدرها في خلق ذلك الحلم الذي حقق إرادتها في إنشاء مملكة قرطاج مع كل الذين شاركوها ذلك الحلم بإرادة قوية وثابتة. فالإرادة هي قدر الإنسان في تقدير أليسّا. ولعل في أسطورة أوديب خير مثال عن إنسان لا يقبل قدره فقط بل يتفوق عليه بقوة إرادته. فإستراتجية أوديب هي في مضمون التعارض الصامت بين إرادة الآلهة وإرادة الإنسان. وبناء على ذلك عندما يكتشف أوديب حقيقته وتحوّله الى لعنة على المدينة بعد قتله لأبيه وزواجه بأمه، لا يثور على أبولو، بل على العكس يتقبل مشيئته ويرتقي فوقها درجات. وهنا تتضح العبرة أن إرادة الإنسان هي قدره الذي يصنع شقاء الآخرين أو سعادتهم، بقدر ما يصنع شقاءه هو أو سعادته. ولعلّ قمة هذا المفهوم أو ذروته تتشكل عندما يصّر الكاهن على طلب الزواج من الملكة حتى لا يكون جسدها وقوداً للنار ، فيكون جواب الملكة بكل إصرار وتحدٍ أن ثمن خلاص جسدها يكمن في إرادة روحها.
وعندما تعي الملكة أنها قد سقطت في فخ الكاهن الأكبر وفخ إيرباس المتربصين بها وبالمدينة، وعندما تعي أن القوة العسكرية في قمع ثورة العامة ستشوه الحقائق ، وعندما تتيقن أيضاً من أن حبيبها أنياس الذي أفضت اليه وأفضى اليها، قد هجرها وذهب في إثر حلمه الطروادي الهكطوري، تقرر وضع الخاتمة لرحلتها ومسيرة وجودها من أجل حماية قرطاج. نهاية الملكة في مسرحية الحريري وإن جاءت مماثلة لنهاية الملكة في "الإنيادة" لفرجيل او "ديدو ملكة قرطاج" لكرستوفر مارلو،تتجذ بعداً إنسانياً وفلسفياً وجودياً آخر مختلفاً. فالتضحية بالحياة في هذه المسرحية ليست فقط من أثر الحزن والإكتئاب بل هي موقف واعٍٍ يهدف إلى حلّ لمشكلة ثقافة وحضارة ذكورية ذات مفاهيم ترفضها الملكة .إنها ثورة حتى الموت على التقاليد والمفاهيم البائدة ،كما أنها إنتصار بالموت لإرادة الحياة . بكلمات أخرى، لكي تنقذ قرطاج من العدائيّات التي استُنفرت ضدها من قبل الرجال المحوّمين حولها، تتخذ قرارها بتقديم نفسها قرباناً لخلاص المدينة وشعبها.

في آخر مونولوج لأليسّا تقول أن آخر رحلتها هي أول حماية قرطاج ، فهكذا تحدثها الفصول ،كما توسوس لها أن آخر الرحلة هي أول مراتب المصير حيث "الهويُّ ارتقاء". ومع تقدم الحلم بالرحيل تتعاظم الحالة الوجودية للملكة وهي تعلّق على مفهوم رحلتها بأن "خسارات الدنيا سُلّم الزمن العابر بنا الى ذواتنا ، ذواتنا التي كدنا أن نضيّعها في التفافات الدروب." وفي غمرة كل هذا الحنين يتبدى للملكة أن أليسّا ليست هيلينا ولا غزالة يختطفها العابرون ، إنها "القدر الآخر لأنثوية الأرض... هي المغتصبة لأزمنة الممكن والمستحيل"، هي"قرطاج العشق والحلم والذكرى ... إنها مخاض الحياة ، تماماً كما هي مخاض الموت الذي منه تتوالد أقدار المدن". وفي نهاية ذلك المونولوغ الوجودي تؤكد أليسّا أن آخر الرحلة هي "أول مراتب المصير"، حيث من "الخريف المبكر لأليسّا سيتوالد لقرطاج ربيع وربيع وربيع."

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية