"تعريف برواية الرحلة نحو الفجر"
"تعريف برواية الرحلة نحو الفجر"
"الرحلة نحو الفجر" هي الجزء الرابع والأخير من "سفر اللعنة والتوبة". زمن الرواية الآن يتخطى زمن الأرض فينقلنا إلى زمن القيامة ، وإن تظل الرواية تتشبث بالإطار المكانيّ الذي تجري فيه أحداث الروايات الثلاث التي سبقتها. جغرافية مدينة صيدون تتوحد فيها ، على مستوى المكان ، بنيويةُ الرباعية بكاملها. وهذا الاختيار لصيدون كنقطة مركزية لحدث القيامة يفتح للذاكرة نوافذ شتّى على لقطات من الحياة الدنيا تشكّل الهواجسَ الرئيسية التي تحملها الشخصياتُ معها إلى زمن البعث. بالنسبة لاختيار الزمن الذي تستغرقه أحداث الرواية تبتدع الرواية مدة الأربعين سنة بين النفختين في الصور كإطار فنيّ تجري ضمنه الأحداثُ في رحلة الشخصيات من أمكنة انبعاثها نحو تلة سينيق حيث تمثالُ السيدة العذراء تحوّم حوله هالةٌ من النور تستدرج الناس إليها كنداء خفيّ. يمكن القول إن هذه الرحلة تمنح الحبكة بُعْدَها الحَرَكيَّ الأول، فمن كل حدب وصوب يندفع الطالعون من قبورهم والطالعات إلى تلة سينيق يحدوهم أمل واحد هو طمعهم بالخلاص. فلماذا تلة سينيق ؟ ولماذا السيدة العذراء ؟ تكاد تجمع الشخصيات على صوابية هذا الخيار. أبو العلاء المعري، أول المبعوثين، يفسر هالة النور حول السيدة العذراء على أنها "إشارة خفية من الغيب لي، وللمبعوثين الأخر... لنسري بكل وجداناتنا صوبها... نستجدي لديها الشفاعة التي هي أول الأمل وآخر الرجاء" (ص2). المبشّر الإسلامي، الطاحش بن عتيب، ينادي أهل البعث أن "تعالوْا إلى توبةٍ نعلنها جمْعاً وجماعةً ونجرّب هذه المرة تحصين توبتنا بشفاعة التي يحبها ويجلّها المسلم والمسيحي وليس على مكانتها في الإنجيل والقرآن خلاف... " ليذهب بعد ذا كل شخص "إلى شفيع ملّته ليزداد تحصيناً لتوبته..." (49). سامح الجمري يسرع "لإرتقاء التلة وتوسّل العذراء الأم أن تطهّرني من رجس خطاياي..." (103) قبل انتصاب الميزان. أما دانتي فيرى أن الرحلة إلى العذراء "تؤهلنا لمواجهة العرش بطهرٍ من الخطايا التي العرشُ جديرٌ أن يمسحها عنّا قبل لقائنا به لنكون أهلاً لذيّاك اللقاء" (104). القاضي تقي الدين يهجس بأجواء الرحلة "التي نيمّم فيها ، بعيوننا ونوايانا، السيدة العذراء فلعلّها تتوّج مساعينا المجهضةَ في الحياة الدنيا بخلاصنا أجمعين في الآخرة" (177). الخوري حنّا يتحدث عن ضرورة "أن نستحق الشفاعة التي ستردّ عنّا هول الحساب" (177). أبو العلاء يضيف أن العذراء لعلّها "الكائن الوحيد الذي نجا من لوثة المشاحنات التي عصفت بالديانات السامية" (195) ممّا يؤهلها لتوحيد نوايا الجميع في رحلة سعيهم للخلاص. وأخيراً، بالنسبة لإسماعيل، فالسيدة العذراء اختارها الغيبُ كشفيعة البعث "ليمتحن بها المؤمنين والمؤمنات من أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث" (206) فإما القبول بشفاعتها وإما السقوط في محنة الغيب.
باختصار، "الرحلة نحو الفجر" تحاول ، على مستوى الحلم، أن تحقق ما عجزتْ عن تحقيقه الإنسانيةُ في زمن الدنيا كما تصوّره الروايات الثلاث الأولى من "سفر اللعنة والتوبة". هذه الرحلة ربما هي الفرصة الأخيرة التي يجود بها الغيب على الساميين للتوبة عن ذنوبهم الشخصية والذنوب الكبرى التي ارتكبها أتباع كل دين بحق أتباع الدين الآخر. ولعلّها ، كما في لغة إسماعيل، الفرصة الأخيرة للخلاص، فما "لم يحققه البشرُ في الدنيا من إئتلاف الديانات الثلاث في الدين الواحد ربما سيحققه الغيب فتصدق رؤياي في الكمون والاحتواء ، فالمسيحية مضمرة في اليهودية ، والإسلام المضمر في كليهما انضمر فيه كلاهما..." (206). بل لعل الرحلة أن تكون مجرد حلمٍ لشاعرٍ يأبى عليه خيالُه إلا أن يتشبث باحتمال التئام جمع المسلمين والمسيحيين واليهود بعد خوضهم شتّى الخلافات الدينية والصراعات العسكرية التي لم تنتهِ بنصر فئة منهم على فئة نصراً نهائياً أبدياً، والمرشّحة إلى تكبيدهم مزيداً من الأحقاد والمعاناة ومزيداً من الأسى والدمار إن لم يتداركوا أمرهم قبل فوات الأوان وقيام القيامة وبدء الحساب.
وإن تكن الروايةُ كلها حلمَ شاعر، فما هي خلفية هذا الحلم ؟ وما هي دلالاته التي تجعل من الرواية الرابعة جزءاً لا يتجزأ من الرباعية كلها كعمل أدبي تنتظمه رؤية واعية ؟ سامح الجمري يعترف لأبي العلاء المعري بأنه "اطّلع على رسالة الغفران وهو بعد في الخامسة عشرة وإفتتن بها افتتاناً عظيماً فراوده من أحلام الكتابة ما راوده" (99). وهو يذكر لرندة الحيفاوي كيف أنه عقد النية مرة "على نظم كتاب في القيامة أجمعُ فيه أبا العلاء ودانتي لأكتشف، من وجهة نظر درامية، ما يمكن للخيال أن يتفجر به من جمع هذين الحالميْن بالبعث قبل زمان القيامة" (153). ولعل الجمع بين هذين الكاتبيْن هو محاولة لمصالحةِ الشرق الإسلامي والغرب المسيحي كجزء من مصالحة كونية شاملة. يخاطب الجمري أبا العلاء بالقول إنه حَلِمَ في زمن الأرض أن يجمعه بدانتي "لتتحاورا في أمور البعث والحساب والثواب والعقاب وتتبادلا الآراء في فهمكما للجنة والنار والتوبة والغفران ..." (139) – وهذه الهواجس يطالعنا بعضُها في رواية "وعد شباط" . ودانتي، الذي ضاق ذرعاً بطول زمن القيامة، يستجير بإله الساميين أن "متى تنكسر من حولي دائرة الحلم... إن كان ما نحن فيه القيامةَ الموعودةَ حقاً وليس حلماً يعيشه خيالُ شاعر، شأن الحلم الذي عاشه مرة خيالي والحلم الذي عاشه قبلي خيالُ أبو العلاء ؟ " (193).
إن أهمّ وظيفة للفصل الأخير من الرواية أنه يعيدنا مباشرة، وبشكل مكثّف مقصود ، إلى عائلة الجمري، النواة الأولى للرباعية، فتكتمل بذلك دائرة الرؤية البنيوية للعمل كلّه. وفي هذا الإطار لا بد من الإلماح إلى أن "الرحلة نحو الفجر" تبدو وكأنها إستجابة فعلية لتصورات إسماعيل الحُلُمِيَّة في "وعد شباط" حول القيامة إذ يتصوّر كيف"تتشقق رحمُ الأرض وتتنادى ذراتُ التراب أن هلمّي إليّ هلمّي" (165) ولإيمانه بأن الأحياء يسلمون أمواتهم إلى "الوعد باللقاء الأمثل، صبيحة البعث الذي هو أقرب إليها وإليك من حبل الوريد" (132). وفي رواية "على قارعة الغيب" ، يعود إسماعيل ليصوغ هذا الحلم الساميّ، أو هذه الرؤية الشمولية للعلاقة بين الحياة والموت والقيامة، بتفصيلٍ أدق، فهو يحدّث نفسه، لحظة مواراة أم يحي التراب، أنْ: "بخيطٍ لا مرئي من خيوط الغيب مشبوكٌ يومُ موتها هذا بيوم القيامة الذي لا يوم كمثله سواه. ومن يدري فلعل القيامة كالبحر الذي تنتهي إليه الأنهار والجداول والسواقي فتتحد به سلاماً في سلام. ولعل يوم الموت هذا، وكل يوم موت مثله، مصبوب في اليوم الذي ليس كمثله سواه. والأيام والأنهار والجداول و السواقي تسير، ونحن نسير، والموعدُ اللهُ" (27). إن هاجس العلاقة بين الحياة والموت والقيامة تشكّل ترداداتُهُ في كل الروايات أحدَ أهمّ العناصر التي توحّد بين الأجزاء الأربعة لهذه الرباعية لتجعل منها كائناً عضوياً متماسكاً من أوله إلى منتهاه.
الرواية تهيّء كل الظروف لاختبار أتباع الديانات السامية الثلاث وذلك عبر خوضهم محنة كبرى تتجلّى في محاولة بعض المتطرفين قتل السيد المسيح لحظة ظهوره على تلة سينيق لملاقاة أمه. آيين شارون ، إدغار عضاهْ الروحْ ، شيمون أزرا ، ويهوذا هم عصبة الشرّ التي يواجهها، في لحظة توافق عفوي، مسلمون ومسيحيون ويهود من عديد الشخصيات التي تزخر بها الرواية. الفرحة عامة باجتياز المحنة، والآن حظُّ الناس من كل الملل أوفر في الحصول على شفاعة السيدة العذراء.
حلم الساميين بالبعث يواجهه، في الرواية ، حلم من نوع آخر. دامو، ابنة فيثاغورس، المبعوثة كذلك في صيدون، المكان الذي كانت تلقّتْ فيه بعض ثقافتها زمن فينيقيا وأشمون، لا تحسب قيامَها من الموت قيامةً بالمفهوم الساميّ حيث الحساب والثواب والعقاب. هي تؤمن بفلسفة الطبيعة التي "تعيد سيرتها في تعاقب الفصول" (130) ، فمن حياة إلى موت إلى انبعاث متجدد إلى ما لا نهاية دونما حاجة إلى حساب يؤدي إلى خلود في جنة أو خلود في نار. قوانين الطبيعة المتحكمة في دورات الفصول يوازيها في هذه الفلسفة قوانين الطبيعة البشرية مثل "الشوق والتوق والعتاب والندم والحسرة والألم ..." (130) والاحتفال بالجسد احتفالاً يعطي للوجود البشري معناه الحقيقي مجرداً من أية أحلام ميتافيزيقية. وإذا كان الساميون يحلمون بالحور العين في جنات تجري من تحتها الأنهار، فدامو تحلم بلقاء أميرها الصيداوي في معبد أشمون على ضفة نهر الأولي "فأتمدد له ويتمدد لي، شأن العشاق من بني البشر، أتمدد له ويتمدد لي على المعبر الحجري في معبد أشمون على ضوء القمر..." (131). ولأنّ دامو ليست بحاجة إلى شفاعة أحد لتحظى بالخلاص الأبدي، فإنها تبتدع للطالعين من قبورهم والطالعات فرصةً لخلاصٍ من نوع آخر. خطّتُها تلبّي الأشواق الإنسانية التي خبرها الرجال والنساء ، بعيداً عن العِرْقِ والثقافة والدين. خطّتُها أن تؤجج الحماس البشري لخلق حالة احتفالية هي بمثابة الفردوس الممكن والمتجدد في إطار دورة الفصول. والنساء ، في رأيها ، "هنّ هنّ الفصولُ كلها، وهنّ هنّ الحركةُ في الفصول" (128). هي ترى نفسها "في مهرجان من أشواق النساء وهواجسهن، ولقد دقّت ساعة الخلاص لي ولهنّ ولهذه السيول الهاجمة علينا من لهفة الرجال وتلاطم خيالاتهم لما عرفوه منّا ولما يجنحون اليوم وغداً إلى التنهنه فيه حتى الثمالة" (131). تخاطب الجمع كله وتشرح لهم ولهن حلم الخلاص كما تراه هي، "طقساً من طقوس الرياضة والعبادة..." (133). الرجال مدعوون إلى الإستعداد "لسباق الشوق عدواً عدواً من باحة معبد أشمون حتى الشاطئ" (133) ومن ثم لاقتحام الموج عوماً عوماً والسباحة حول الجزيرة والعودة إلى الشاطيء "حيث ننتظركم نحن النسوة لتقتسمونا جوائزَ بينكم..." (ص 133). الكل يستجيب لها بحماس فطري، حتى أن دانتي يهتف بها أن "انطلقي بنا وراءكِ أيتها المهديّة في شؤون العشق والشوق..." (ص134). باختصار، إن وجود دامو لا يهدف إلى إحداث البلبلة في تجربة القيامة بقدر ما يهدف إلى إثراء الحبكة الروائية من جهة وإلى إطلاق الخيال ، من جهة أخرى، من فلك الدائرة السامية إلى احتمالات ورؤى إنسانية شتّى.
عنصر الفكاهة يطعّم الرواية بنكهة خاصة لا تكاد تفارق أحداثها المتنوعة. استرداد أبي العلاء المعري لحاسة البصر يوقعه في غرام الراهبة جْريسْ ثم يختلط عليه الأمر بين ولعه بها وانجذابه كذلك إلى اليونانية دامو. دانتيْ يطارد اليونانية دامو ظناً منه أن حبيبته بياتريس متحجّبة بها. صديقات دامو، بخبث نسائي ظريف، يحكين حكايات مفعمة بفجور جنسي بريء، فَيَسْتَثِرْنَ غضَب المحجبات اللاتي يَنْهَلْنَ عليهن باللطم والرفس. غراميات الشاعريْن وحكايات الصبايا المشربةُ بالمجونِ البريءِ تلطّف من رهبة القيامة وتؤنسن الحدث بصنوف من الضعف البشري حتى لكأننا ، بتعاطفنا مع هذه الشخصيات ، نتمنى لو أن الغيب يغضي عن ذنوبهم وذنوبهن أجمعين.
الفصل الرابع والأخير من الرواية يطرفنا كذلك ببعض اللقطات الفكاهية. ولكن لهذا الفصل، كما أُسْلِفَ القول وظيفة بنيوية هامة ، إذ يجتمع فيه أفراد عائلة الجمري كافة في غياب ملفت لكل الشخصيات الأخرى التي صادفناها من قبل. وكأنما الفصل هذا يعود بالذاكرة إلى الرواية الأولى – "وعد شباط" – والتي تتمحور أحداثها حول أفراد هذه العائلة بالذات. الرباعية تبدأ برحلتهم إلى مقبرة سينيق ليواروا جثة الأم التراب، وتنتهي بهم، زمنَ القيامة، في رحلة صعودهم التلة- فوق مقبرة سينيق- لطلب شفاعة العذراء. هواجسهم في البعث هي هواجسهم التي عرفناها وهم بعد في زمن الدنيا. هم بأمسّ الحاجة إلى التوبة والشفاعة والغفران لأنهم، كما يبدو، لا يزالون يحملون جحيمهم الدنيوي في داخلهم ... وإلى آخر يوم من أيام القيامة.