النص الكامل //echo $btitle;?>
"سفر اللعنة والتوبة"
(رباعية روائية)
"وعد شباط" : الجزء الأوّل (1994)
"على قارعة الغيب" : الجزء الثاني (2002)
"صلصلة الرّعد" : الجزء الثالث (2003)
"الرحلة نحو الفجر" : الجزء الرابع (2005)
يُحَظّر إعـادة طبع هذا الكتـاب أو أي جزء منه، كما يُحَظَّر تصويره أو تصوير أي جزء منه، إلكترونياً أو ميكانيكياً، أو بواسطة آلات الفوتوكوبي، كما يُحَظَّر تسجيله صوتياً، إلاّ بإذن خطّي مسبق من المؤلف.
شخصيات هذه الرواية وأحداثها كلها من نسج الخيال، وأي تشابه بينها وبين الناس وما يعرض للناس من أمور الحياة إنما هو محض مصادفة.
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى- كانون الثاني 2005
شخصيّات الرواية
I- أبو العلاء المعرّي: صاحب "رسالة الغفران"
دانتي: صاحب "الكوميديا الإلهية"
II- جهّار الجُمَري: صاحب مطعم الجُمَري
سميحة الجُمَري: زوجة جهّار
سميّة الجُمَري: إبنتهما
كسّاب الجُمَري: إبنهما الأول
عديّ الجُمَري: إبنهما الثاني
وسيم الجُمَري: إبنهما الثالث
طارق الجُمَري: إبنهما الرابع
عديّ الجُمَري: إبنهما الخامس
سامح الجُمَري: إبنهما السادس
لؤيّ الجُمَري: إبن عديّ
نينا الجُمَري: إبنة سامح
زكيّة الجُمَري: والدة جهّار
إسماعيل: إبن أخت جهّار
أبو الوليد: صديق جهّار
عَبَدْ البَرْبُوشْ: إبن بستانيّ من سقي صيدا
أبو طاهر: مواطن صيداوي
حسن القبرصلي: مواطن صيداوي
نزيه القبرصلي: إبنه
جودت الديماسي: مواطن صيداوي
عادل الديماسي: إبنه
الكابتن مَارْدكُوشْ: مواطن صيداوي، إسمه الحقيقي عَرَّابْ الهَشيمْ
المختار: مختار حيّ مكسر العبد
الطاحِشْ بْنُ عُتَيْبْ
أبو سليم: صاحب سيارة دفن الموتى
رنده الحيفاوي: فلسطينية من مخيّم عين الحلوة
III- أمّ إسحاق الديّارْ: زوجة عَازَرْ الديّارْ
إدجارْ عِضاهْ الرّوحْ
الخوري حنّا
هَتونْ
دامو: إبنة فيثاغورَسْ
عَشْقاءْ
ماريّا
صِلّو الأشموني
IV- ديفيدْ مُرْدَخايْ: ضابط إسرائيلي
آيينْ شارونْ: ضابط إسرائيلي
شيمونْ أَزَرا: ضابط إسرائيلي
يهوذا
الفصل الأول
أبو العلاء
" مَنْ كان في هذه أعمى فهو في الآخرةِ أعمى !"
وإذن فكيف أكون بُعِثْتُ مبصراً والآيةُ تقول ما تقوله وسبحانه وتعالى حَكَمَ بأنه لا يُبَدَّلُ لديه القولُ ؟ ناظرٌ ها أنا ! مبصرٌ ها أنا ! فلعل للآية دلالاتٍ لا يعرف كُنْهَها إلا الجَبْرُ الذي نُسِبَ إليه جَبْرئيل ، والإبصارُ الذي أنا عليه الآن إِنْ هو إذن إلاّ حالةٌ أرحب من سرحة الموت وأوغل مدى من انسراحة الحياة ، بل هو البصيرةُ المقرونةُ بالقيامة ، حَمَاطَةُ النور ، إن يكن للنور من حماطة .
ها أنا ، ها أنذا ، على غبشة الفجر ، ناظرٌ مبصرٌ ، أوّلُ مَنْ تشقّق عنه قبرٌ ، أو لعلني ، وأوّلُ مَنْ لَبَّتْ ذرّاتُهُ الفانيةُ نداءَ النفخة الأولى في الصّور ، نفخها إسرافيلُ ، مؤذِّنُ البعث والقيامة ، نفخها وأمسك ، ليمهلني والمبعوثين الأُخَرَ أربعين سنة قبل أن ينفخ النفخة الثانية إيذاناً ببدء الحساب .
الحافيتانِ قدمايَ تتحسسان تحتهما رملاً نديّاً ، والجسدُ الذي حملني وحملتُه في العمر الأول ولم أرَه ولا هو في أغلب الظن رآني تتحسس أطرافَه أطرافُ أصابعي ، حملني وحملتُهُ ولم يرني لأنّ المُطْفَأَتَيْنِ، عينيّ ، هما كذلك عيناه ، أُفرِغتا من يقين التلقّي وحُشِيَتْ دائرتاهما بلهفة الظن ، غاشياتٍ مُغَشَّياتٍ يَلُكْنَ المسافة التي بين بين .
أرفع قدمي اليسرى وأنتظر لحظة ، لحظتين ، ثلاث لحظات ، ولا شيء مما أخافه يحدث لي ، لا جسدي يهوي على الرمل لفقداني التوازنَ ولا الرملُ النديُّ تغور به إلى باطن الأرض رخاوةُ الشاطىء البليل. الندى المنـزَّلُ من السماء والبلالةُ الصاعدة من خلل الرمل كلاهما يذكّراني بالآية التي يلتقي ماؤها على أمرٍ قد قُدِر. على أمرٍ قد قُدِر لو كان الطوفان زَمَنُهُ لم يُوَلِّ ، فأمّا وقد بقي لنا منه الذِّكْرُ والهاجسُ والحكايةُ ، فلأمرٍ آخر أُراني بُعثتُ على رمل هذا الشاطىء ، بين الجزيرة التي إلى الغرب مني والمدينة التي استعارت ربما من صيدِ السمك اسْماً لها ، فصيدون الفينيقية هي ، تحدّثني نفسي ، تمتد خلفي شرقاً وجنوباً.
النفخةُ الأولى في الصّورِ على غبشةِ الفجر فَبَعْثي للتوّ أذانٌ لي لأطّلع على أن البعث ميقاتُهُ غبشةُ الفجر وليس أوان تطلع الشمس من مغربها ، كما في الحكاية ، وهدوءٌ ، هذا الهدوءُ ، أهدأُ من سكنةِ الغفلةِ ، يلفُّ الفجر ويلفّني ويلفّ الشاطىء الذي تلتفّ الموجاتُ المتهافتاتُ على رمله وكأنما بلا هشّةٍ ولا خشّةٍ ولا هسّةٍ ولا رشاشٍ لزبدٍ ولا تحريكٍ لهواء .
بحّةٌ لنداءٍ ساربٍ إلى أذنيّ من الشرق ، بل من عطفة الجنوب ، بل من الجنوب الشرقيّ ، تحدد مصدره الآن لعينيّ ، وقد امتدتا في الفضاء تستفسران ، هالةٌ من النور المغرورق بغبشة الفجر حول شيء تحدثني نفسي بأنه تمثال السيدة العذراء ، منتصباً على قمة تلّة أو جبل ، بحّةٌ هي لنداءٍ له فِعْلُ الوحي فكأني بكل ما في جسدي يفارق جسدي ، سارياً إلى هالة النور ، تجتذبه إليها كما يجتذبُ الفراشاتِ وهجُ مصباح . ويضطرب خاطري بشيء كالذكرى فأدفعه بالتعوّذ فيلحّ عليّ وينهار على ناظريّ ورقاتٍ مسطورةً بالسواد الفاحم ، فتقتحمني خطاياي التي أعجلني الموتُ في الفانية عن التوبة عنها . إذن مقضيٌّ عليّ بها ، مقضيٌّ عليّ ، إلاّ أن يُسقطها عني بالتغاضي عنها مالكُ الغيب الذي لا تُقبل لديه التوبة عن الذنوب بعد النفخ في الصّور . ربما، ربما، فذاكرتي ليست على يقينٍ إن كانت تصحّ التوبة في الفسحة التي بين النفختين، وإذن فما على الخائف الطامع بالغفران إلاّ أن يشتطّ في أمانيه ، وإذن ، فهالةُ النور حول السيدة العذراء، إلى الجنوب الشرقيّ مني ، ربما هي إشارةٌ خفيّةٌ من الغيب لي ، وللمبعوثين الأخر الذين لم أرهم بعد، لنسري بكل وجداناتنا صوبها ، صوب التي أرادها مرةً بارئُها أن تكون وابنها آيةً للناس ، نستجدي لديها الشفاعة التي هي أوّل الأمل وآخر الرجاء ، نستجدي الشفاعة لديها ، هي التي فضّلها بارئُها على نساء العالمين.
هسّةٌ تلو هسّةٍ تلو هسّةٍ للموج المتهافت على رمل الشاطىء . تنصت بلهفةٍ وعجبٍ أذناي. الصوتُ كأنـّما أُفْرِجَ عنه من مزاج الغيب . تتحرك نسمةٌ تتلوها نسمةٌ فنسمات . يرغرغ الفضاء ويغرورق بالصوت والحركة . من قلب البحر ، في نقطة بعينها بين الجزيرة والشطّ ، كأنما يرتفع الموجُ في غبشة الفجر ، كأنما ينبثق ، ها هو اللحظةَ ينبثق ، من حماطة الموج ، شيءٌ على هيئة إنسان ، يطفو الرأسُ منه والوجهُ والعنقُ ، أوّلاً بأوّل ، وتنهض بعد ذا الكتفان فرحابةُ الصدر فالفخذان فالساقان ، فها هما ، ها هما قدماه تتنقلان على قمم الموج المندفع بهما ، وبه كله ، نحو الشاطىء ، نحوي أنا ، أنا المبعوث الأوّل من هــجعة التراب ، أو لعلني ، أنا الذي لأمرٍ قُدِرَ عليه بُعِثَ في غير أرضه ، على هذا
الشاطىء البليل ، ليلاقي ذلك الذي كُتِبَ عليه أن يكون مبعثه من الماء ، ربما أوّل مبعوث من الماء. الغبشةُ يرقّقها طاريءٌ من هسهسةِ الموجِ وحركةِ النسمات . من فوقي ومن تحتي ، من ورائي ومن أمامي ، عن يميني وعن شمالي، يفحُّ عليّ الصوتُ الذي وكأنما سرى ويسري من كلّ فجّ عميق أَنْ " لقد كنتَ في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنكَ غطاءَكَ فبصرُكَ اليوم حديد . "
أم تُرى قُصِدَ بي ، على نيّة مكر الليل والنهار ، ما قُصِدَ بسواي أَنْ " إنها لا تعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور " ؟
دانـْـتي
أخيراً يشقّ الماءَ رأسي صُعُداً صُعُداً . أعبّ الهواءَ كلّه . أحشره في صدري نَفَساً واحداً . أجهد لاستبقائه في رئتيّ هنيهةً أطولَ مما تحتمله رئتاي . ينهض فوق تبلبل الموج بدني . يغور مني الصدرُ والبطنُ إذ تندفق من فمي إلى الفضاء هسّةٌ ممدودةٌ ممطوطة . أحسبها تشتطّ في اندفاقها حتى لتبلغ الشاطىء الذي إلى الشرق مني . على رمله ، كأنما تكاد تُريني عيناي ، يقف على قدمين اثنتين شيءٌ على هيئة إنسان . لا أجزم أن يكون مثلي مبعثه من الماء . لا أجزم أن يكون مثلي متدثّراً بالعري الذي بُرِيءَ عليه في الغيب كلانا من أوّل ما كان الغيب . أنفاسي تستردّ شهيقها وزفيرها المألوفين في العيش الأول . اليقين حليفي أنني خرجتُ معافى من قبضة العدم . خرجتُ خلافاً لتصوّري كيف يكون الخروج ، فمن قلب الموج كانت رحلتي إلى السطح . لعلّ بعثي من الماء آخر معمودية لي قبل بدء الحساب . أم أنه بدأ الحساب ، فالرحلة من قلب الموج إِنْ هي إلاّ المطهر الذي تصوّرتُ وصوّرتُ في كتابي سواه ؟ ولستُ المسيحَ أنا فأنـّى لقدميّ ثم أنـّى لهما أن تتنقلا على رؤوس الموج ، مندفعتين بي صوب الشاطىء الذي على رمله تقف على قدمين اثنتين هيئةُ إنسان ؟ أنـّى ثم أنـّى ؟
الغابةُ التي في خريف العمر دخلتُها فضيّعتْني وسحبتْ قدميّ المذهولتين إلى العالم السفلي ، ضيّعتُها. وفيرْجيلْ الذي قادني في الرحلة المجنونة ، فطمأن قلبي بشجاعة فلسفته وحثّني على المضيّ إلى أعمق أعماق الجحيم بريادته الشعرية والجسدية ، ضيّعتُه كذلك. والقاسيةُ بِياتْريسْ انسحبتْ مع وصيفاتها إلى حيث لا أدري . تُرى في أي طورٍ من أطوار القيامة أنا ؟ ولماذا ترى كُتِبَ عليّ أن أُبعث في الأرض الغريبة ، غريباً يندفع به الموج ليلاقي على شاطىء الغربة مثله غريباً ؟
أو لعله هو من أبناء المدينة الممتدة خلفه شرقاً فجنوباً . وراءه مباشرة على مسافةِ همسةٍ القبّةُ الخضراءُ والمئذنةُ تغيّبان احتمالَ الكنيسة ، فلا جرسَ يدقّ لصلاةٍ ولا برجَ يتسامى بجرس . مدينةُ الملّة الأخرى هي إذن هذه الممتدةُ خلفه شرقاً فجنوباً . جنوباً جنوباً تنسرح في الغبشة عيناي . ومن منعطف الفضاء صوب الشرقِ الهالةُ المهفهفةُ الحانيةُ من كل الجهات على السيدة العذراء تسحب إليها النورَ من عينيّ . بعثي من الماء معموديتي الأخيرة ، مطهري المسوّف لي في الغيب ، نَقْلَتي إلى العذرية التي أحسب أنني في الفانية صنتُ بخيالي نقاءَها لولا زَلّةٌ زَللتُها وكبوةٌ كبوتُها ولولا أن أضلّتْني غفلةُ الموت عن التوبة عنهما بالاعتراف بهما لاستحقاق الغفران . أعترف بهما الآن لنفسي على الأقل ، أفلا يصحّ بهذا استدراجُ التوبة؟ الهالةُ التي إلى الجنوب الشرقي من الشاطىء الذي تهبط على رماله قدماي يعبق داخلُها بنور متلوّن لا يستقر على صبغة واحدة . تنشرق روحي إلى تلكم التلة ويرغرغ قلبي بأنْ تلك شفيعتك اليوم فلا يَنَلْ منكَ على نفسك حزنٌ أو أسى .
الرملُ تحت قدميّ نديٌّ بليل . أنظر إليه ولا أقترب منه . عريُه يذكّرني بعريي فأفرّ منه إليّ ثم منّي إلى الرمل ثم من الرمل إلى الفضاء ثم أعود إليه رغماً عني ، أراه ولا أتقدّم إليه . وهو أحسبه يراني ويلزم حطّةَ قدميه . ثم ما هي إلاّ الغفلةُ حتى تنشدّ على نفسها المسافةُ التي بيننا فَيَضْمُرَ الفراغُ وكأنما ابتلع نفسه ، وإذ بنا الوجه بالوجه ، نسترق إلى بعضنا النظرات استراقاً وكأننا نرتكب في كل مرة خطيئةً نُدْفَعُ إليها دفعاً . تتلاقى عيوننا ، وقد رقّت الغبشة شيئاً قليلاً ، تتلاقى على أمرٍ قد قُدِر . على أمرٍ قد قُدِر ! أتطاردني لا تزال حتى بعد الموت ، حتى في زمن البعث ، لغةُ الملّة الأخرى ؟ تُسِرّ عينٌ إلى أخرى بنيّة التغاضي عن رؤية العري في بدني وبدنه وفي كل كائن قد يطرأ أمامي وأمامه. حِلْفُ العيون بيننا له رائحةُ الصابون العربي الذي تضمّختْ به حمّاماتُ إيطاليا في وسيط العصور وطارت له شهرة في آداب أوروبا كما في حياة الأوروبيين ، مئات من السنين ، مئات لا ينقضين . حلف العيون له رائحة الصابون العربي، مهما غُلِّفَتْ مربعاته ومستطيلاته ومدوّراته بخشونة الكتّان وخشب الخوابي فعطرُه انسلالُ السرِّ من الصدر في الغفلة التي هي كل الزمن لأنها كلّها عمر الصابون . نتراضى على النيّة وترتفع إليّ عيناه وإليه عيناي . هذا الوجه ، يا مريمُ يا شفيعتي ، حميمٌ إلى ذاكرتي ، فأين تراني التقيتُهُ من قبل ؟ أم تراني عرفتُه آنذاك آنذاك ولم ألقه لألتقيه الآن بغير الذي به عرفتُه ؟ عرفتُه بماذا ، يا مريم ، وماذا كانت رسالته إليّ ؟ أجل ، أجل ، ذاكرتي تهجس بشيء كالرسالة ، ولكن رسالة ماذا ، ولماذا يكون كتب إليّ وليس بيننا كان سابق معرفة وهو من شرق الشرق وأنا من غرب الغرب ؟
" حماطةُ قلبه في عينيه"، يحدثني قلبي بما تفيض به عيناه الغارقتان في عينيّ . إذن اكتشف سرّ قلبي في عينيّ ! الكلمات بين جفونه ترتعش بها جفوني فينكشف لي قلبه فيردد صوتي في داخلي أَنْ نعم نعم ، حماطةُ قلبه هو كذلك في عينيه .
نتبسم بالرضا ، فهو كل الكلام .
ثم أراه يدور حولي ، ولا أعجب ، لأنني مثله أدور حوله ، ولا أدري لماذا ، لا يسألني ولا أسأله ويظل الصمت حديثنا حتى يتمطى الهواء حولنا ويتموّج ويلاحق بعضه بعضاً ، فأحدّق لأرى طيفين أحدس أنهما قرينه وقريني بُعِثا للتوّ ، ولكنني يعجزني اكتشافُ ما يجري بينهما . يوحي هو إليّ بعينيه ألاّ أتطيّر ويغضي عنهما وكأنما ليصرفني عن الإهتمام بهما . ربما وراء تغاضيه نيّة . أحدّق بهما من جديد وأطاردهما في الفضاء كله . ينكز الواحد الآخر ويصفع الواحد الآخر على قفاه ويتلاسنان بغضب وعصبية، ولا أفهم لماذا هما في خصومة ومشاحنة وأنا وهو من لحظةٍ تبسّمْنا بالرضا ، فهو بيننا كل الكلام .
فجأة يرسو الطيْفان في الهواء وجهاً لوجه ، ويرفع أحدهما أصابع كفه اليمنى فيمسّ بأطرافها جبينَه ثم وسط صدره ثم شمال الصدر ثم يمينه، وشفتاه تغمغمان بكلمات أعرفها أعرفها ، وجيّداً أفهمها، لأنها لغة طفولتي وشبابي وعمري كله . الطيفُ الآخر تتصلّب إبهامُ يده اليمنى ، وشفتاه تغمغمان بما أفهم أنه أَحَدٌ أَحَدٌ ، أَحَدٌ أَحَدٌ ، لغةُ الملة الأخرى .
تذكّرتُ الآن أين التقيتُكَ أول مرة ، يبغتُه صوتي الطالع من حنجرتي الأوروبية ، صوتاً حقيقياً لا شك فيه . أذكّره بكتابه الذي عن البعث والقيامة ، قرأتُه ، أقول له ، في جملة ما قرأتُ من الكتب العربية التي تسرّبتْ إليّ من إسبانيا في أغلب الظن . رسالةُ الغفرانِ كانت هو هو بالنسبة إليّ ، هو هو بكل ما فيه من خيالٍ كاسرٍ للزمنِ قافزٍ فوق المكان ، وكلِّ ما فيه من معرفةٍ بأسرار اللغة والشعر ، وكلِّ ما في أسلوبه من شيطنة اللسان وعبث الجنان ومماحكة الغيب . يطرب وترعبه سكرةُ الطرب . ويعجب العجب كله من كلام أبثّه فيه من الأسرار سرّاً كنتُ كتمتُه عن الناس فكان كتماني له خطيئةً فاتني ربما أن أتوب عنها قبل وفاتي . كتابُه كان النَّفَسَ الذي جرى به قلمي وهو يخطّ ، مستلهماً أثره ، كوميدياي الإلهية التي شهقتْ بسمعتي إلى سدّة الخلود . حديثي إليه أشبه شيءٍ بالاعتراف المستدرِجِ للتوبة فالصفحِ فالغفران . يطمئنني بصفحه عن خطيئتي ويَعِدُني أن يشفع لي بين يديْ بارئه ليتوب عني إذا أُدرجتْ في حسابي الخطيئةُ وإذا أُذِنَ له ، هو الخاطىء الآخر ، كما يقول ، أن يكون للحظةٍ من شفعاء القيامة .
يربّتُ على كتفي وأربّتُ على كتفه ونحدس في لحظة واحدة أنّ لقاءنا على هذا الشاطىء في أول يوم من أيام القيامة لَهُوَ اللقاء الذي على أمرٍ نجهله قد قُدِرَ . لا تزال تعشّش في ذاكرتي لغةُ الملّة الأخرى. أنفضُ رأسي في الهواء مرتين ، عبثاً عبثاً . نلتفت معاً صوبَ المدينة التي يخبرني أنها الفينيقية صيدون ونخطو، على هَدْيِهِ ، بحماسٍ تلقاء الجبّانة القديمة للمدينة لنشهد مظاهرَ من القيامة التي كان كلانا حلم بها وتصوّرها وخطّ فيها بديع بيانه . على أمرٍ قد قُدِر. على أمرٍ قد قُدِر . تراه البارىء في عليائه يكافئنا اليوم على انشغالنا في الفانية بوعده الذي وَعَدَ أنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور؟ لغةُ الملّة الأخرى ، لا فكاك .
القريـنان يستأنفان خصومتهما ومشاحنتهما فوقنا وخلفنا وأمامنا وعن يمينٍ وعن شمال ، بالنكز واللكز والوخز وما لا نستبين .
كسّــاب الجُمَري
الجبّانةُ قجّةُ البعث، وغيري اليوم عدّادُ القبور . حُفَرٌ منبوشة حول حفر ، جنبَ كل حفرةٍ تلّةٌ من التراب ، وكل واحدة منها تذكّرني بالتلّة التي ارتفعت حذاء القبر الذي حفره الحفّارُ لأمي في ذلك الشّباط الذي فيه دفنّاها في مقبرة سينيق ، بعيداً بعيداً عن قبر أبي وأخي وعمي وجدتي. وليس في سينيق ولا في الجبّانة القديمة كان دفني، بل كان، كما هو الآن بعثي، في هذه المقبرة الفسيحة التي فوق مستشفى الهمشري إلى الشرق من مدرسة الأميركان ، والتي كان اشتراها وتبرّع بها لأهل المدينة الثريُّ الجمريُّ العائد من السعودية ، مؤمّناً بذلك للأموات رحرحةً لم ينعم بمثلها أهلُ الجبّانات الأخرى .
اليوم عليّ بنفسي ، والفرصة مواتية لأنصرف عن الأهل والأقارب المنشغل بعضهم ببعض في الجبّانات الأخرى، وقد بَهَتَهُمْ وبهتهنّ اللقاءُ المباغتُ ، لأتفقد حالي وأحصي المكاسب والخسارات التي جنيتُها بين آن الموت وأوان القيامة . اليدان اثنتان ، تماماً كما عرفتُهما في العيش الأول ، والأصابعُ في كلٍ منهما خمسٌ، وكذاك الرِّجْلان وأصابعهما، وكذلك فتحاتُ بدني ، من فوق ومن تحت ، ومن أمام ومن وراء ، هي هي ، لم تتبدل عدداً ولا صورةً ، وإذن فبعثي تامٌّ كما كانت ولادتي من بطن أمي وإذن فلم أزد ولم أنقص ، وكفى بالغيب حسيباً رقيباً .
هارجةً مارجةً بزحمة الأبدان وتلاحم الأصوات تحاصرني الجبّاناتُ الثلاثُ.
حنجرةُ أبي من خلفي طيفٌ لنداءٍ متهدّجٍ كما لم يتهدّج لجهّار في العيش الأول صوتٌ . أستدير بأناةِ المتحسِّبِ لكل المفاجآت فتسبح عيناي من طيف عينيه في بركتين حمراوين من الدمع السخين. "سامحتَني أم لا تزالُ واجداً عليّ ، يا كسّاب ؟" يستجديني الطيفُ الحزين . أنصت وأتذكّر . "إن كنتُ أهملتُكَ فلا تهملني اليوم . قُلْها قبل فوات الأوان . قل سامحتُك على ضربك لي وطمرك لي ، على مرأى من الزبائن ومسمع ، تحت كراسي المطعم وطاولاته . قل سامحتُك قبل فوات الأوان . قبل بدء الحساب. قُلْها قُلْها يا كسّاب." أنظرُ وأُنصتُ وأتذكّر .
أبو طاهـر
" لا تدري نَفْسٌ ماذا تكسب غداً ولا تدري نَفْسٌ بأي أرضٍ تموت . "
ولذلك لم يفاجئني ملكُ الموت باستلاله الروح مني وأنا أقاتل في ظلّ القبّةِ ، قبّةِ المسجد الأقصى عصرَ دخولنا القدس لنعلنها عاصمةً لفلسطين ، لم يفاجئني لأنه استلّها برداً وسلاماً من أطرافي وصدري وحلقومي ، فغرغرةٌ هتّانةٌ هي انسربتْ كرغرغةٍ تهتانة . بثيابي دفنوني ، وثلّةٌ من الملائكة غسلتْني بشيء أرقّ من الماء ، ظلّ يهطل عليّ طوال مسيرتهم بي إلى حيث ألحدوني الأرض ، ولا هو يبلّلني فتلتصق بجلدي ثيابي ولا هو يجفّ عليّ من حرارة الجو ، يلفّني ويلتفّ بي ، بَرَدَ السكينة والطُمأنينة ، الكفنَ اللهيفَ لثيابي وجسدي ، يتنعّم به الترابُ الذي تحتي وتهشّ إليه البلاطاتُ الثلاث التي مدّدوها فوقي ونثروا عليها التراب خفيفاً لطيفاً ، هفيفاً هنيّاً .
واليومَ اليومَ على النفخة الأولى في الصّور تشقّق القبرُ عني وانزاحت من فوقي البلاطاتُ انزياحَ ثلاثٍ من الغلالات احتملتْها ، كأنما إلى الجو عن قضبان السرير ، النَّسَمُ ، لينهض من براءة الهجعة الطفلُ الذي وُلِدَ فيّ فأنا أبو طاهر الصغير ، أتلفّتُ حولي وتنبش عينايَ ذاكرتي والمكانَ الذي بُعثتُ فيه فليس إلاّ القبّة على مدى البصر وليس على مدى السمع إلاّ النداءاتُ الخفيّة تعبرُ إليّ الدرب الذي كنتُ في العيش الأوّل عبرتُه ورجالَ صيدون ، مدججين بأسلحة الغيب ، تنادينا القبّةُ المذهّبةُ وتستعجلُ منّا الخطى ، خُطانا الخفّاقةَ بقلوبنا ونوايانا ، وتنسلُّ بنا إلى أرض الرؤيا القديمة أنْ ولسوف تُسألون ، ولسوف تُسألون ، ولسوف تُسألون ، نراها ونشهد انعتاقها من قبضة الوعد لتصير الإيفاءَ بالوعد يقيناً ، أتلفّتُ حولي وتنبش عيناي ذاكرتي والمكانَ الذي فيه بُعثتُ ، فتستفزّني ذكرى لأربعةِ الشبّانِ الذين مساجدُ صيدون خَتَمَ حصيرُها وسجّادُها جباههم بسيماهم ، وبنعالهم ترقّقت بلاطاتُ مداخلها وساحاتها ومتوضّآتها ، أتذكّرهم، وخَفْقُ نعليَّ يستجلي لي المسافةَ التي هي دربُ الجنوب إلى نفسه وإلى مصدر الصوت الذي أنا رَجْعُ صداه، فأمضي شطر صيدون على رائحة المآذن العتيقة نداءاتُها ، فتستردني وتُلَهِّفني على التظلّل بشجراتها الجبّانةُ التي هي المدينةُ مقلوبةً على الوجه الآخر للأرض .
الأربعةُ الشبّانُ عيونُهم في أربعِ الحفر التي تصدّع عنها الغيبُ ، يتملّونها ، لا كما يتملّى فجائعَ الحفر الملتفّةِ بحفرهم المُنْسَلون منها سراعاً سراعاً وقد دَهَتْهم عن أنفسهم وعمّا حولهم شراهةُ الرؤيا التي كانوا مُدِّدوا في ترابها منذ لَعَقَتْهُمْ ملائكةُ الموت ، شداداً غلاظاً ، كلاّ وألفَ مرّة كلاّ ، بل يتملّونَها بدهشة الأطفال يكتشفون للمرة الأولى مهودَهم التي اكتنفتْهم كانت في إغفاءةٍ لا يتذكرون من طولها إلا هناءةَ ذكراها .
اللهفةُ اللهيفةُ من حنجرتي تبغتُ الدهشةَ الطفوليةَ في عيونهم . تتهجّى حروفُ أسمائهم على ورقات الشجر, أحمد ونزيه وعادل وسليم . أربعتهم تجهش بإسمي حناجرُهم ، وحولي سرعان ما تتحلّق أقدامهم وقاماتهم . في شيء من الألفة الحييّة تتحسس أطرافُهم أطرافي ، كما المؤمنُ لا ينفكّ يتحرّى في صدره لهفاتِ اليقين .
أقول لهم حلاوةُ الشهادةِ العسلُ المصفّى، بل ما العسلُ المصفّى وأنفاسُنا يتلاهفُ فيها المرجان والياسمين ؟ يقولون بل هي قصبُ السكّر الذي عُقَدُ قضبانه تقطع على الماصّ حلاوةَ مصِّه . أفهم تلميحهم ، فأعمارهم الطريّة لا تني تهجس بالذنوب الطريّة العمر ، نُسِيَتْ فنسيتْها التوبةُ ، فبُعثتْ على غرارنا ، على نيّة البرق ، فخوفٌ مجلوٌّ بطمعٍ وطمعٌ بخوف .
أَشَفُّهم القبرصلي ، نزيهُ ، وأصغرُ الأربعةِ ، كما لا يزال يخبّرني كلُّ شيء فيه . وهو لذلك يوقظ في قلبي الذنبَ الأصغرَ والذنبَ الذي أصغر منه ، واللذيْن أحسُّ بهما يتلطّيان بأضلع الصدر مني فلا هما ينجليان لي عن هيئةٍ وطبيعةٍ فأتعرّفهما وأسجدُ لبارىء البعث أستغفره وأتوبُ إليه منهما ، ولا هما تُسْقِطهما عني حلاوةُ الشهادة فأُراحُ وأرتاح ، وهو الأشفُّ وأصغرُ الأربعةِ تتماوج عيناه وشفتاه بـِ "لا تزر وازرةٌ وزر أخرى" و "الحسنات يذهبن السيئات" و "يتوب الله على من يشاء" و "أو يتوب عليهم أو يعذّبهم" و "ما من شفيع إلا من بعد إذنه" و "ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع" ، وكأنما انكشف له غيبُ قلبي ، فمُعَرّىً هو قلبي لعينيه، ووجيبٌ مُسْتَلْهَفٌ بوجيب .
ذَنْبايَ ! ذَنْبايَ! ذَنْباي!
ثم تعبق تلةٌ من جهة سينيق بهالة من النور الملوَّن ، ملهوفاً ملهِّفاً ، أغربَ من غريب .
جودت الديماسي
خضّةٌ كالجنون كانت انتزعتْني من الحفرة وأرسلتْ قدميّ كالريح فوق سور الجبّانة فَعَبْرَ سوق الخضار فعلى طول شارع فخر الدين ، فالتفافاً إلى الشرق ليرميني شارعُ المطران في وسط ساحة النجمة، فأنبش فيها الهواء والغبشة والصمت ، وعادل ابني لا ينـزل من بوسطة صيدا- بيروت ولا من مرسيدس كاراج حبلي ، ولا يتوقف ويستوقفني ليسأل عن حالي عابرٌ من أهل القبور وقد أدركهم البعثُ فداروا ودوّخوا الشوارع بحثاً عن أبنائهم الذين جابوا في العيش الأول مساحةَ المدينة ومساربها واختفوا شلعاً في الهواء أو سقطوا بطيران الاجتياح أو بغدر الميليشيات التي اجتاحتِ الحجرَ والبشرَ بعد انسحاب اليهود إلى الشريط الحدودي ، خضّةٌ كالجنون كانت انتزعتْني وانتزعتْهم من التراب وأرسلتْ أقدامنا كالريح تبحث ، لا في حاضر البعث الذي طرأ عليها ، بل في ذكرياتها وذكرياتنا من العمر الأول.
ثم نسقط في اللحظة التي منها خرجنا وتتشبث عيوننُا وأقدامُنا بالحفر المصدَّعَةِ عنها لحودُها وشواهدُها ، فيا واعداً بالرحمةِ وَعَدَ ، تُريني هنالك طيفَهُ ، أم هو هو، طفلي عادل، يولد الولادة الثانية ؟ تطرف جفوني عن رفاقه ، ويا ربِّ ، عن أبي طاهر ، الذي كانت له مع المساجد حكايةٌ ومعهم ، فخمستُهم يستديرون إليَّ وقد استشفّوا اقترابي منهم . تنبسط في الهواء والغبشة والإنتظار رحابةُ كفيَّ وساعديَّ وزنديَّ ، ويهطل عليها ويسري فيها حضورُهم الممتنعُ على الإحتواء . من خلفي آهُ العذابِ القديم ِتعتذر عن ضحالةِ الصبرِ القديمِ ، فألتفت إليه ، إلى القبرصلي ، حسن ، وتنداح من ذاكرتي ، وأنا أراه يأخذه بيديه وعينيه وقلبه ابنُهُ نزيه ، تنداح أمامي صباحاتُهُ وظهريّاتُه ومساءاتُه وبعد منتصف لياليه ، يدقّ في إسفلتها وبلاط أرصفتها جبروتَ الثُّكْلِ الذي نزل عليه باستشهاد نزيه فأذهل رأسه وعينيه ، وحنى كتفيه ، فنهضتْ به فوق أكتافها ورؤوسها المدينةُ يوم خرجتْ تودّعه في جنازةٍ سَكَّرَتْ سيرةَ الجنائز بعده .
ديفيدْ مُرْدَخايْ
كيف أكون بُعِثْتُ في صيدون، وفي أغلب الظنّ هم دفنوني في أرض جدودي ؟ هذه الساحة أذكرها وأذكر ذلك الجامع الذي صوتُ أذانه مثل نداءٍ لصوتِ جدّي الذي ما إنْ كنتُ أشتاق إليه حتى تسري في أذنيَّ كلماتُه وضحكاتُه وكأنه لم يغب عني أبداً أبداً . هذه الساحة أذكرها الآن أكثر ، فالحائطُ النازل إليها من الجانب الخلفي للجامع والمدرسة الملاصقة له في آن معاً ، تحته تماماً كانت آخِرُ معاركي وتحته تماماً حَدَثَ المشهدُ الأخير بين شيمونْ أَزَرا وبيني ، رسمناه بألوان مختلفة استنـزفناها من جروحنا وجروح الآخرين ومن ألوان تربيتنا وثقافتنا التي لم تكن كلُّ منابعها لكلينا منهلاً . شقائقُ الحكمةِ والقوّةِ صَبَغَتْنا في اللحظة الأخيرة بريشتها القانية الواحدة .
ذاكرتي تُدَوِّرُ عينيَّ في حفافي الساحة وتتوانى بهما في قلبها ، ثم ترسم دواليبَ الجيبّ وتركّز المَقْعَدَيْن الأماميين في سِكّتَيْهما ، ثم تستدرج إلى خلف المقود مُرافقي في رحلة العودة من بيروت إلى تلّ أَبيبْ ، زمنَ حصارنا لبيـروت ، تستدرجه فينصاع مرغماً ويجلس تستجلي عيناه المسافةَ التي خلف المسافة ، فإذا هو لا يزال كما عهدتُه في اليوم الأخير لنا من العيش الأول ، بمنظره ومخبره ، شيمونْ أَزَرا، بعيداً قريباً ، حاضراً غائباً ، يراني كأنما ولا ينظر إليّ .
أنفض في الغبشة عني غلالاتِ ذاكرتي ، فتشتدّ عليّ الغبشةُ هنيهةً تنفرج لي بعدها عنه هو وعني أنا ، مثلما كنّا في لحظاتنا الأخيرة ، تحت وابل الرصاص من تلة رجال الأربعين ورشقات الرشاشات من صوب القلعة البحرية ، نواجه الإنتحاريَّـيْنِ يطلعان علينا من قلب الموج بالصرخات الموجوعة والطلقات المقطَّعةِ الأنفاسِ ، وها هما ها هما يوفّر عليهما رصاصُنا المسافةَ التي بينهم وبيننا فيشلّ اندفاعَهما نحونا ويطرحهما على سواد الإسفلت الذي لا يمتصّ من شقائقهما قطرةً قانية واحدة .
أنفض المشهدَ إلى أحلكِ حلكةٍ للغبشة فتهزأ بسرّي وسريرتي الغبشةُ وتنفرج لي ثانيةً عنه وعنّي ، مسدسي محشوٌّ بِذُلِّ فراغه من الرصاص ورشّاشُه هو يرتفع من قدميَّ إلى مستوى البطن مني فالصدر ، ثم تنصرخ به صرختي ألاّ يفعل ، ألاّ ينفّذ بي إرادة آيينْ شارونْ ، معرّضاً روحَه للهلاك الأبدي ، ثم ينذرني الصوتُ في داخلي أنه سَيُجْهِزُ عليَّ ويُؤْسَرُ ، بإرادته وتخطيطه يُؤْسَرُ، قبل أن تستنـزف جراحُهُ البقيّةَ الباقية من دمه . وها مثل زخِّ المطرِ عليَّ وعليه هَطْلُ الرصاص ، وها أنذا ينطوي على بعضه جسدي ثم أنهار ، متقلّباً من جنب إلى جنب ، دمي يمتزج أمام عينيَّ بدم الشابّيْن الممدّديْن مني على مسافة زهيدة ، وهو يأخذه بعيداً عني صراخُهُ فأنينُهُ فنهضاتٌ منه محروقةٌ بشهقاتٍ تعاتب الجسدَ ، جسدَه ، على تركه دَمَهُ يسيل على سواد الإسفلت كأنه الماء شُطِفَتْ به أوّلَ الصبح ساحةُ البيت .
صرخةٌ بِاسْمي تهدر من أين لا أعرف ، ولكنها تقلّب الغبشة في موجاتٍ بعضُها فوق بعض ، تنسحب بعيداً عن الساحة والجامع والمدرسة وتتركني وحيداً في بعثٍ جديد ، أترقّب ظهوراً ولا أراه ، فأرهفُ أذنيَّ وعينيَّ وقلبي ، وإذ هي قامةٌ تنتصب ملء عينيّ ، قامةٌ ملء نفسها ، وإذ بالصوت منها يخاطبني بأنْ ها أنتَ تلقاني بعد طول عناء ، فهل عرفتَني الآن يا مُرْدَخايْ ؟
أبو طاهر إذن صاحب الصوت ! وإذن فوجيبُ قلبي دليلٌ على صحّة رؤيايَ القديمة أنّ موعدنا القيامة.
كابتن مارْدَكوشْ
أنفض عن بدني ما لصق ببدني من التراب الرطيب وألتفت إلى الحفرة التي انفتحتْ من دقائق ونفضتْني واقفاً على قدميّ كأنها مَلَّتْ صحبتي . النفخةُ في الصّور ، بدا لي ، نفختْ جيراني من أهل الحفر بعيداً عني بعيداً ، وها هم في اندفاعهم تتعثّر أقدامهم بما لست أراه . مثلي لا يصدّقون أنهم مكثوا فيها طويلاً. ومثلي ، لعلهم من حشريّة البعث ، يبتغون تأمُّلَ المستطيلاتِ المنبوشةِ ليستعيدوا ما جرى لهم فيها وليكتشفوا إنْ ترك ما جرى لهم أثراً في فسحة القبر أو على أربعة جوانبه . مرةً واحدةً إلى حفرتي التفتُّ، وكان ما طالعني أَخْجَلَ قلبي فزويتُ بناظريَّ بعيداً لأنسى مشهدَ الرصاصات تخترق بدني والدمَ يفزّ من عروقي وخروقي وصوتَه المُطْلَقَ عليّ من رشّاشه صارخاً بي أنْ هكذا هكذا قتلتَ نفساً بغير نفس لتستأثر بزوجته لنفسك بعدما عصمتْ نفسها منك وألهمك رفقتُك خطّةَ خلاصك فانتفخ في يديك الرشّاشُ الذي كنتَ تُهَوّي بوزَه في الهواء وفَجَأْتَ العائدَ إلى بيته على مدخل بيته هكذا هكذا هكذا هكذا حتى فرغ المشطُ وفرغ من الروح بدنُه .
مرةً واحدةً تلفّتُّ طارت بعدها عينايَ تستنبشان الغبشةَ في امتداداتها في طول الجبّانة وعرضها . أصدّق أم أكذّب عينيّ ؟ أغريمي أرى ، ذلك الذي كيّعني التفتيش عنه في الجوامع والحمامات وبيوت العقْد التي لا يعرف الداخل إليها مطلع الشمس من مغربها ، فهو خارج زمن الأرض ؟ أَهُوَ حقاً هو الغريمُ الذي لمحتُهُ آخر مرة يختفي في مدخل مبنى البلدية ويتبخّر من غرفها إلى اللهُ وحده يعلم أين ؟ أطريدي الذي أراه أم ليس هو، أبو طاهر نفسه الذي دفع لي ضبّاطُ الجيش الاسرائيلي ثمناً سخيّاً لأسره وتسليمه إليهم ، الثمنَ الذي لم يكن بعملة الشيكلْ أو الدولار ، ولكن كان بعملة الوعد أن يجعلوني حاكم صيدون بلا منازع من المسلمين ولا مناكف من مثل جوزيف الديّار وجماعته من المسيحيين؟
أبو طاهر هو ، فيا أبا طاهر يا أبا طاهر ، أخيراً ألقاك وأخيراً تلقاني ، يجمعنا الوعدُ الحقُّ، بعدما كنتَ كيّعتَ قدميَّ وأقدام رجالي وذوّبتَ دواليبَ جيبّي مرةً ومرة . لو كنتُ أذكى لحزرتُ أنني لن ألقاك إلاّ اليوم وإلاّ هنا ، ولكنتُ ارتحتُ وأرحتُ . ولكنها فتنةُ الدنيا أدركتْني ، كما أدركتْني بعدها الخطيئةُ التي تستقطب كلَّ الخطايا ، ابْتُليتُ بها ، يا رفيق الدراسة ، يا ابن المقاصد ، يا جار جامع الكبير ، ابتُليتُ بها المرأةُ الفتنةُ ، جنّنني الحبُّ ، وعلى جانبي الرشّاشُ وتحتي الجيبُّ ، فقتلتُه لآخذها فأخذتْ بالسكّين نَفْسَها مني ورمتْ بي على أبواب الجوامع أستجدي حُصَرَها وسجّادها شفاعةَ السجود لتوبتي ، ولا من سميع ولا من شفيع ، حتى خرج الخنجرُ من صدري ، وقد طُعِنْتُ في الظهر، إذ طالتْ سجدتي الأخيرة من صلاة العشاء . تأمّلتُه ، رأسَ الخنجرِ يا أبا طاهر ، يخرجُ من ثيابي ، بعينيَّ المقلوبتيْن بالسجدة تأمّلتُه ، لحظة ، لحظتين ، قبل أن أغيب عن الوعي . وكان آخر ما فاضت به نفسي أنْ لماذا لم يفطن طاعِني إلى نيّة التوبة في سجودي وأنْ أليس مقتلي في السجود تطاولاً على إرادة الله لي بالسجود ، الذي لعلّه معبري الوحيد إلى التتويب فالغفران ؟ أنت ، أنت ، يا مالىء الجوامع بوعظك، عِظْني ، ترفّعْ عن حسدي لك في الفانية ، وتغاضَ ، وإنّك لقادر ، عن ذكرى ملاحقتي لك ولشبّانك ، فخيانتي لأهلي وملّتي ومدينتي لم أزل أدفع ثمنها في ديمومة القبر الذي لا يفارقني طلقاتٍ وطعناتٍ ينافسُ بعضُها عليّ بعضاً ووعيداً بأكثر من هذا وذاك .
يهزّني أبو طاهر من كتفيّ ويصرخ بي أنْ أَفِقْ من هلوستك ، فأمرك متروك إلى الله ، إن شاء يقبل من التوبة حتى النيّة بالتوبة ، وإذا لم يشأ فأنت على شفا جُرُفٍ هارٍ ، فأرفع يديّ أغطّي بهما وجهي ، فيلين صوتُهُ إشفاقاً عليّ ويقول حسبك أن تعرف الآن أنني ما حقدتُ عليك يوماً لأنني حسبتُك في جملة من ضلّ من الصيداويين زمن الإجتياح . وكنتُ أحصّن نفسي ، خشيةَ الكراهية لك ، بأن أدعو لك الله ، جلّ وعلا ، في سرّي وعلانيتي ، أن يهديك .
أنْ يهديَني فحسب؟ أعاتبُه وتتمسّك به عيناي. لا أتبلّغ بشيء من الطمأنينة حتى يربّت على كتفي تربيتَ المشفق الذي ليس بيده شيء . تتلاقى أنظارنا ثم تلفّنا من الغبشةِ موجةٌ تضيّعه مني وتضيّعني منه .
سميحة الجُمَري
إنْ كنتُ أَرَحْـتُهم وارتحتُ منهم بالموت فليس على كراهيةٍ أو عتب ، ولكنها ذاكرتي أخذتْ إجازةَ الأمومة التي كانت تتباهى سميّةُ بالحديث عنها ، وقد عرفتْها من امرأةِ ابنِ عمّتها إسماعيل ، معلّمةِ المدرسة ، التي حينما ولدت طفلها الأول أعطتها الحكومة ستين يوماً لتستعيد صحّتها المنهوكة بالحمل والولادة وترضّع طفلها من صدرها هي لأن حليب الأم لا شيء مثله للصغير ، ولا يحلّ محلّه حليب المرضعات ولا حليب البقر ولا حليب الماعز ولا حتى حليب الضأن ، عرفتْها سميّةُ من امرأة ابن عمّتها وردّدتْها عليّ وردّدتْ كأنما لتعذّبني بأنّ إجازة الأمومة لم تكن من حظّها هي ، فتطرف جفوني وشيءٌ في صدري يوسوس لي أنها لن تأخذها أبداً ، فأدعو لها بأن يرميَها الله بأبناء الحلال ، يكونون لها عوضاً في كِبَرِها وفي شيخوخة زوجها ممّا لم يُرْزَقا به فتريحني من همّها وترتاح .
ولا هي ارتاحت من همّ الحياة من بعدي ، في أغلب الظن ، ولا ارتحتُ أنا ، فذاكرتي وحدها وحدها استفادت من إجازة الأمومة ، وأمّا روحي فلقد انسلّتْ من دائرة الطيف المحوِّم فوق قبري وأخذتْ إجازتها مني على غير ما رغبةٍ مني ، أخذتْها حتى بدون مشورتي لأنها هي الروح من أمر ربي ، تأتي على ذوقها وتروح حتى يجمعنا النافخُ في الصّور جَمْعَةً لا نتفرق بعدها أبداً ، انسلّتْ من فوق قبري وزارت جبّانةَ المدينة القديمة والجبّانةَ الجديدة التي أنشأوها من بعدي على تلةٍ لم أكن عرفتُها في العيش الأول ، زارت في الجبّانتيْن روحي كلَّ الذين لن أذكر أسماءهم لنفسي حتى لا أبكي من الذكرى ، فكلّهم كلّهم كانوا في حالةٍ لا أحب استرجاعها ، فَلَيْتَها الزيارةَ ما كانت ولَيْتَني بقيتُ في الحياة ، على همّ الحياة ، حتى تحلّ عليّ القيامةُ فلا أعرف عنهم بعد فوات الأوان كلَّ الذي عرفتُ .
ولكنني متُّ على ما يبدو فَأَرَحْـتُهم على الأقل من خدمتي في شيخوختي التي أذلّني فيها العجزُ وتراكمتْ فيها عليَّ الأدويةُ السبعةُ ، آخذها قبل الطعام وبعده وخلاله وعلى الرّيق وفي المساء وحتى بعد النوم ، ففي أحلام النوم كنتُ أبلع الحبّة بعد الحبّة ولا أطلبُ منهم شربة ماء تنـزِّلها في حلقومي حتى لا تَنْبُرَ بي أصواتُهم . ولقد نفخ النافخُ الآن في الصّور فبُعثنا في أغلب الظن في كل الجبّانات ، ولا أعرف إن كان من الحكمة أن أذهب إليهم أفتّش عنهم أو أصبر نفسي على أمرها وأنتظرهم هنا على مرأى من السيدة العذراء ومسمع ، وهي فوقي هنالك في أعلى التلة، واقفةً لا تتحرك من مكانها وكأنما تنتظر مجيء الذي تنتظر مجيئه، من بعيد بعيد .
ترنو عيناي إلى الشاهد الذي فوق قبر أختي ، يتشقّق الآن وينهار فوق الباطون المتشقّق تحته والذي ينفرج حفنةً حفنةً عن قدميْها فيديْها فبقيّة بدنها ، وها هو رأسها ينهض بها من الحفرة ، وها عيناها تتأملاني ، ولكن في شيء من العتب . لماذا لم تحضري مأتمي يا سميحة ، يشتدّ في معاتبتها لي صوتُها الحميمُ فأعجبُ من سؤالها وأشرح لها أنّ حضوري مأتمها كان من المستحيل لأنني قبلها متُّ . ثم أتذكر شيئاً حدث بيني وبين سميّة فأعجّل عليها بالسؤال ولكنْ خبّريني ألم تتسلّمي من سميّة ثيابي التي أوصيتُ لكِ بها بعد موتي ؟ يروح بها الصمتُ والذهولُ أيَّ رواحٍ ثم تأخذ تنقّل عينيها بين حفرتها وحفرتي وكأنها ، مثلهم في العيش الأول ، اختلط عليها ، كما عليهم اختلط ، أيـّهما قبرها هي وأيـّهما أنا قبري .
ماما ! من خلفنا ربما ، من جهة الجسر الذي فوق النهر الصغير، يتردد الصوتُ ، من قلب البساتين ربما ، فتخفق بنا كِلَيْنا الجهاتُ الأربع وتدوّرنا وتدور بنا حتى تثبّت آذانَنا على مصدر الصوت المغبّش في مدى الغبشة ، وما هي إلا لهفةٌ وخفقةٌ حتى نصرخ بصوت واحد للذي يطلع علينا من بين الأشجار ، ابناً لي أو ابناً لها ، نصرخ بصوتٍ واحد ، هنا هنا ، هنا أنا ، يا ولدي .
أبو الوليد
عزاءُ الخاطيء بالخاطيء مَعْتَبَةٌ للعذاب ، فَأَدْرِكْ نديمكَ المعتّق يا جهّار . البعثُ للتوّ بلبلني فتذكّرتُكَ للتوّ كما يتذكّر قشّةَ النجاةِ المشرفُ على الغرقِ فيبحبش وينبّش عنها الماءَ والهواءَ ليتمسّك بها، فهي، القشّةُ، عزاؤه الوحيد حتى وإنْ تكنْ وهماً من أوهام الخلاص. بحميّا الكأس التي سقتْني منها آخر مرة أختُ جانْ قضيتُ، وعليها بُعِثْتُ . والهلعُ الذي انتابني لحظة الخروج فانتابني الضحكُ الذي يشقّ القلبَ قبل الحنجرة لم يكونا هَلَعَ وضَحِكَ الجنون . ولأنني بكامل وعيي رحتُ أبحث عنكَ حتى لا أجدكَ فلقد تراءى لي أنني رأيتُك في مَيَعَانِ مجونك ، تقول الحُزَّيْرَةَ الخفيّة لي ، بالهمس المبهور تقولها ، تقولُها وتعيدها عيناك المعلّقتان بفستانِ واقفةٍ منهنّ هنا أو بفستانِ عابرةٍ منهنّ هناك ، من مِثْلِ التي من أجلكَ هجرتْ زوجها في بيروت وسكنتْ قرب مطعمك في البساتين ، ومن مِثْلِ أخت جانْ التي كان لي معها ما كان والتي كانت خطواتُها خطوات حزم ، كما تخطو الفَرَسُ ، لا خطوات امرأةٍ ينهدل على جسمها الفستانُ انهدالَ الرذاذ .
كلُّ الذي قيل قيل ، يا جهّار ، وكل الذي كان كان ، ولم يبق لي إلاّ أن أجتهد في البحث عنك لأنك أرحم الناس لزللي وأقبلهم لعللي ، تحبني كما أحبك بغير عتاب . في الغبشة ها أنا أبحث عنك، هنا، في مقبرة أهلي في إقليم الخرّوب ، ويقيني يقينٌ أنهم دفنوك في مقبرة صيدون .
بكامل وعيي أبحث عنكَ حتى لا أجدكَ ، وإذا وجدتُكَ فسنبدأ بالعدّ ، خطيئةٌ منك تمحو خطيئةً مني ، وذنبٌ منك يُسْقِطُ ذنباً عني ، وكبيرةٌ وصغيرةٌ منك تلغي كبيرةً وصغيرةً مني ، وهكذا هكذا ، حتى نغتسل من سيرة العيش الأول . جهّارُ ، جهّارُ ، ينشقّ قلبي من الضحك وأنا أراني وأراك نحمل صينيّةً مدوّرةً فوق رأسيْنا ، وعليها ذنوبُنا ، تحدّث عنّا وعن ضعفنا المبهورِ بالجمالِ الذي لا يُصْبَرُ عنه إلاّ بعزاء الخمرةِ فيه ، فشفيعاتُنا الوحيداتُ خطايانا . أبحث عنك في مقبرة أهلي ، وحتى أجدك سأظل أذكّرك بأنّ عزاءَ الخاطيء بالخاطيء معتبةٌ للعذاب .
بكامل وعيي أبحث عنكَ حتى لا أجدكَ .
دانـْـتي
غريبٌ أمرك اليوم ، يا أبا العلاء ، تعيبُ على المسكين غرامه بالخمرة والمرأة ، ينهض من قبره مَسْكوراً بهما كما كان عهده بهما في عيشه الأول ، وأنت في رسالتك الغفرانية تكاد أحياناً تستدرج الغيب لِيُحِلَّ على خُطاةِ البشر الصفحَ الجميلَ جميلاً ؟ بالطبع أنت لا تقولها جهاراً نهاراً ، ولكنك تقولها على أي حال ، تقولها بالإيحاء وبالإيماء ، بالفكاهة ، بالتعابث ، ولقد سحرتْني براعتُك بالاحتفال بالشيء وأنت تستهجنه وتصبّ عليه لعناتك . المرأةُ كان لها من خيالك الغفرانيّ نصيبٌ قد لا تُحسد عليه . ومعذورٌ في ذلك أنت لأنه حيلَ بين بصرك وبينها ، فلم تتملاّها عيناك ولم تكتشف سرّاً من أسرار خالقها مقلتاك . أما الخمرةُ فَلَها في كتابك صفحات طروبات ، تبسط فيها من ذاكرتك المفتونة ما يفتن عينَ القارىء ، حواسَّه ، قلبَه ، ويهلهل خيالَه ، أباريقَ أباريقَ تعشّقها الشعراءُ الذين تعشّقوا شرابَ الفانية ، فَرِقَابُها " رقابُ بناتِ الماءِ أفزعها الرعدُ " ، أو " مثل أعناق طير الماء قد جيبَ فوقهنّ خنيفُ "، أباريقَ كأنها بين الندامى " إوزٌّ على الطفّ عوجُ الحناجر"ِ ، منهنّ إبريقٌ كأنه " ظبيٌ برابيةٍ مجلّلٌ بِسَبَا الكتّانِ مفدومُ " . وما بال ذلك الذي أفنى مالَه " قرعُ القواقيزِ أفواهَ الأباريقِ " ؟ بل ما بال الآخر الذي استجاب لعتاب عاذلاته في غَلَسِ الصبح " ودعا بالصّـبوح يوماً فجاءتْ قينةٌ في يمينها إبريقُ "؟ أباريقُ، أباريقُ ، أباريقُ ، فما الذي ، بيني وبينك الآن ، فعلتْ بخيالك تلك الأباريقُ ؟ عمّن ثم عمّن كنتَ تظن أنك تخفي حقيقة قلبك ؟ ومَنْ سواك صدّقَ تفضيلَكَ لأباريق " الراح الدائمة " ، كما تحلو لك تسميتُها ، على أباريق شعرائك الذين يصلح افتتانُك بأشعارهم أن يكون شفيع هذا المسكين المتخبّط في بلبلة البعث ، يبحث عن خاطيءٍ مثله يتعزّى بخطيئته، فلعله بعزائه به يحرج العذابَ الذي ينتظرهما في الغيب ، مَنْ سواك تمرُّ عليه خدعتُكَ الفنّـيّةُ ، إذا هي مرّت، مَنْ سواك سواك؟
أبو العلاء
كأنكَ ، أيها السيّد، راويةٌ من رواة الشعر العربي وحافظٌ من حَفَظَتِهِ ، وما كنتُ أحسبني ، وأنا أُمْلي على كاتبي رسالةَ الغفران التي ذكرتَ ، أن أُبعث في هذه المدينة وغريباً عني وعن لغتي ينشدني بالفصحى أشطرَ الأبيات التي تداعتْ بها ذاكرتي ، لا احتفالاً بالخمرة وآلائها ، ولا إشهاداً للّغة على براعة شعرائنا في وصفهم كؤوسَها وأباريقَها ، وإنما لأنّ ذاكرتي ، يا سيدي ، وقد بلغك ما بلغك من قلّة حيلتي في بصري ، هي سلوتي ، بل جليسي الذي لا يملّني ، وإن مللتُه ، ولا يبخل عليّ ، وإن سَدَّ عليّ مجرى أنفاسي كرمُه ، بل هي أكثرُ أكثرُ مما يطيقه الكلامُ لأنها حركتي في سكوني ورحلتي في قعودي ، أفنيتُ فيها الزمن الذي أفناني لأُبعث ههنا وغريباً كأنه راويةٌ من رواة الشعر ، ينشدني ليعرّي غيبَ رسالتي ، أو بالأحرى ليبطّن نهجَها بغير فطرةِ كاتبها ومزاجِه ورؤاه . أنت ، يا سيدي ، والمعنى في كبد الشاعر ، لزومُ ما لا يلزم في هذا اليوم الذي ينبغي على كل مبعوثٍ فيه أن يصرف همّه إلى همّ نفسه دون سواه .
ومن ممرٍّ ضيّقٍ إلى ممرٍّ أضيق منه لا نزال نسير في الجبّانة ، نشهد ما تتيحه لنا الغبشةُ من صور البعث ، ونقارن في صمت بين تصوّراتنا لها في كتبنا وما نراه يجري الآن أمام عيوننا . الصرخةُ الصرخةُ العتيّةُ من تحت الأرض يتصدّع لها قبرٌ بين قدميه وقدميّ فتذهلنا البغتةُ عن متابعة المسير . دانتي مدهوش العينين وكأنما خياله الفنيّ الصارم ، كما وصفه لي ونحن نعبر مدخل الجبّانة منذ قليل ، لا تلائم منهجَه فُجَاءاتُ البعث التي ربما تبدو له أكثر شرقيةً مما كان يتوقع ، فهو حائر في تصوّر بنيويّتها ، وبنيويّة البعث برمّته ، حيرتي أنا بغياب مَنْ أشهدتُهم الحسابَ في كتابي، غيابِهم عن دروب المدينةِ هذه والممرات الضيّقة بين القبور . دانتي يتراجع خطوتين إلى الوراء حتى لا يصطدم به الناهضُ من حفرته ، وكلانا نعجب له يمرّر أصابعَ يديه على رأسه ، والدهشةُ في عينيه تتّسع حتى تغطي كل ملامح وجهه . مشغول بنفسه هو عنّا، لا يرانا ولا يحسّ بنا ، حتى إذا ما صعدت قامتُه كلها خارج الحفرة أخذ يتمتم بشيء لنفسه ، وها هو يعلو حسُّهُ شيئاً قليلاً ، فننصتُ إليه ونسمعه يقول ها هنا أُبعث الآن بصلعتي لينكشف لي للمرة الأولى أنني قضّيتُ العمر الأول أحمّم رأسي بالشامبو الذي يقتل الرأسَ في القشرة وليس القشرة في الرأس حتى غدتْ زحلوطةً لعيون الناس جمجمتي . ولكن لا بأس في ذلك الآن ، لا بأس ، فلو جُعِلَتْ صلعتي ميزاناً لحسابي لزحطتْ عنها كلُّ ذنوبي فوقفتُ خفيفاً نظيفاً ، كما خلقتني يا ربّ ، ولكنتُ أُعفيتُ للتوّ من حرجِ الحساب .
دانتي وأنا تتبادل عيوننا شيئاً قد لا تحسن وصفَه اللغةُ ، فما سمعناه لم نكن سمعنا بمثله من قبل .
سميّة الجُمَري
حتى في القيامة أُبعثُ وحدي ، مقطوعةً من شجرةٍ ، لا أمّ ولا أب ولا زوج ولا ولد . أقولها لا بالعتب الذي كنتُ أعتبه على الدنيا زمن الدنيا ، فلقد عوّضني الله في أواخر عمري بابنة سامح، تقيسُ لي الضغطَ الذي ورثتُهُ عن جدّتها ، فهو يطلع أكثر مما ينـزل ، عوّضني بها الله من إخوتي أجمل العِوَضِ، كما عوّضني من الأولاد بأقفاص العصافير . وبقيتَ أنتَ وحدَك لا تُعَوَّضُ ، يا زهيـر ، ذكرى تطول لعمر الزوجية القصير ، فلا أنت تترك مكاناً لسواك في البيت ولا أنت تستعجلني إليك بالرحيل .وهنا الآن ، ههنا، أُبعثُ أنا في وحدتي في الجبّانة الغريبة، وليس في الحفرة أثر لسوايَ أنزلوني عليه أو أنزلوه عليّ ، فإليكَ، إليكَ ، في جبّانة المدينة القديمة ، سأغذّ الخطى ، لأَفُكَّ بك وحدتي ولأحكي لك ما جرى لسميّة بعدك وللبيت ، حكايةً لو كانت تكتب سميّةُ لألّفتْ لك منها روايات وروايات .
رندة الحيفاوي
لا في مخيّم صبرا ولا في مخيّم شاتيلا تدركني القيامةُ ، ولكن هنا في المخيّم الذي شهد ولادتي ويفاعتي وشبابي ، في عين الحلوة التي تركناها ومضينا لاسترجاع مسجد القبّة المذهّبة ولإعلان القدس عاصمة لفلسطين ، تركناها ولم تتركنا، فها نحن وإياها يُبْعَثُ في أحدنا الآخرُ ، وها بنا القيامةُ وبها نحن ، صيدون بجوامعها وكنائسها من خلفنا ، ومن أمامنا ، شرقاً فجنوباً ، التلّةُ التي كان يقصف على المخيّم منها اللبنانيون الكارهون لتوسّع هيمنتا في ذلك الزمن ، والإسرائيليون سنةَ اجتياحهم للبنان ، التلّةُ التلّةُ ، الآن ، تعبق بها هالةٌ من النور الملوّنِ العابقةِ به السيدةُ العذراءُ ، التي صوب تمثالها تنهلّ عيونُ المُنْسَلين من حفرهم، وكأنهم انبثقوا من بيت الشعر القديم :
حفاةٌ عراةٌ ما اغتذوْا خبزَ مَلَّةٍ ولا عَرَفوا للبُرِّ مذ خُلقوا طَعْما
فجوعُهُم ليس للخبز اليوم ولكنه الجوع إلى شفاعتها لهم ، وهم في طريقهم نحو الفجر ، وعريُهم استرآفٌ لما في قلبها لهم من دُثُرِ الرحمةِ ، التلّةُ التلّةُ ، تسحبني تلقاءها أنفاسي التي لا تنتظرني ، فهي خطواتي في غبشة الهواء إلى الفجر الذي كان يوسوسُ لي صدري أنه لا يطلع إلاّ من القُبّة المذهّبة .
التلّةُ التلّةُ ، والغبشةُ الغبشةُ ،والهالةُ المعبّقةُ بالنور الملوّن ، فأيّ بعثٍ بُعثناهُ ويُبعثُه سوانا لا يزال ، يا منشيء الحياة والموت ، كُلاًّ مرتين، ويا مُنبتَ الشعراء المتسللين إلى الضباب ورمادية الغيوم ، ماذا كان يقول في هذا المشهدِ الأميركيُّ الشاعرُ وولَسْ سْتيفَنْـزْ لو كان رآه ، وهو الذي في قصيدته Two Figures In Dense Violet Night تتمنى على المفتون بها فاتنتُهُ أنْ يحدّثها عن الضباب في كاليفورنيا ، حالمةً برماديته تتسلل إليهما وتحيلُ اللقاء إلى عبقٍ معبّقٍ من غلالات الشوق والنشوة لا تتشهّاه إلاّ المرأة التي عرفتْهُ مرةً فتعوّذتْ به أبداً من رتابة النور الوضّاح ؟ وهل كان إلاّ ليسعد بصنعكَ ، أيـّها الخلاّق العظيم، وتمثالُ العذراء على التلّة يجتذبُ إليه من كلّ صوبٍ كلَّ الأشياء ، تماماً كما الإناءُ في قصيدته A Jar In Tennessee يرتفع إليه على التلّة كلُّ ما حول التلّة من أشياء ؟ ربّاه ، ربّاه، هو البعث ما نشهدُهُ أم رؤية فنّان استحالت إلى واقعٍ حُلُميّ ٍ انبثق كأنما من الـ Collective Unconscious ، الوعي الجَمْعيّ للبشرية ، كما يسمّيه كارلْ يونغْ ؟
بيروت تنسلّ إليّ ، مثلما يولد الشعرُ من إيحاء ضبابه ، على همسِ سامح الجمري أنْ رندةُ انظري إلى اللّتيْن أتيتُ إليكِ بهما ، وقد ضلّتا في زحمة المقابر السبيلَ إليكِ .
تندفع إليّ بعفويةِ عائشيّتها عائشةُ ، ومن خلفها يتّسع بابتسامة الغبطة وجهُ الراهبة جريسْ.
عَبَدْ البَرْبوشْ
أحسُّ بأنني من خفاف الأثقال التي تتنفّسها حفرتي ، فترابُ البساتين أَلّفَ بيني وبين كل تراب. النهرُ تغيّر فيه شيءٌ وشجراتُ الكينا بعضُها جذوعٌ مرّت عليها فؤوسٌ . الترابُ الموصولةُ حبّاتُه من مجرى النهر إلى جذور الشجرات يتنفّس الهوينا تحت قدميّ . هو لا ينكر عليّ انبعاثي في هذه الأرض التي حملتُها معي في ذاكرتي وأحببتُ أن تكون أول ما تقع عليه عيناي يوم القيامة . أشدّ بقامتي إلى أعلى لأطال أَوْطَأَ غصنٍ مني وأقطف ورقتيْ كينا فأقصفهما وأفركهما في باطن كفّيّ ثم أغمر وجهي بالرائحة التي اشتقتُ إليها أكثر من كثير .
شلّةُ رفقتي كلّها حولي يعجب بعضهم من لقاء بعض، ويمرون بي هكذا وهكذا ولا يرونني ، حسن الوروارْ ، محمود الدندولْ ، الهَنْسْ بَنَلْتي وعمر السّمّاك . حتى ساربْ الهيّوبْ لا يراني ! ألحق به وألولح له بيديّ فتتنفس عيناه في وجهه ، كما هو عهدي بهما كلما كان هو على وشك الوقوع في جنون هواه . أركض حتى أجوزه وأفتل فتلةً كاملة ليكون وجهي في وجهه ، فلا يطرف له جفن ولا يتوقف عن مشيه بين شجرات الكينا . في العيش الأوّل تعودت عليه وعلى فنونه ، ولكن اليوم حالُنا غير تلك الحال . أهزّه بيديّ هزّاً عنيفاً فتنتفض كتفاه من قبضتي وتتنفس بسرعة هذه المرة عيناه . لعله الآن يتذكرني ، أنا الذي احتملتُ من أعاجيب مزاجه وخيالاته ما لم يكن حتى جدّي ليصبر عليه. تضيق المسافةُ بين حاجبيه فأحسبها لحظة الفرج . تتسع حدقتاه على مدى وجهه ، فعلى مدى المسافة التي بيننا، فعلى مدى الفسحة التي حولنا من الشجرات ، فها هو يلتفّ على نفسه ويطلق قدميه إلى أبعد من أرض الكوزينا . سورُ البستان على الطرف الجنوبي للطريق يبدو الآن هدفه . وإذ ينهض به الفضاءُ لا أعرف كيف ، تلتفّ ساقُه على حجر السّور وتلحق بها ساقُه الأخرى ويهبط كلّه على أرض البستان وراء السور حيث لا أعود أراه . ماريّا! ماريّا! ماريّا! تشقّ غبشةَ الفجر نداءاتُهُ القديمةُ الشقيّةُ فتفوح رائحةُ العجين ملفوحةً بحرارة الفرن الطيني ، ويرغرغ الغيْمُ فوقي بشيء فأرفع عينيّ لأرى القمرَ رغيفاً من خَبْزَةِ الفجر تسرقُهُ مني الغيمةُ المغبّشةُ بشيءٍ من رماد .من جبّانة المدينة القديمة يسري إليّ في الهواء صوتُ محمود ينشقّ عنه التراب .
مسافةَ الطريق إليكَ ، يا ولدي ، مسافةَ الطريق !
أمّ إسحاق الديّار
للبعث جيرتُهُ اليوم كما كانت لنا جيرتُنا في العيش الأوّل ، وأمّ ميلاد وأمّ ماريّا جارتاي، وإن كنتُ لم أرهما من قبل إلاّ لماماً . ترفعان أقدامهما من الحفرة التي خرجتْ منها من لحظاتٍ امرأةٌ لم أتبيّن ملامحها ومضت على غير هدى في كل اتجاه ، ترفعان أقدامهما وتتبادلان صمتَ الدهشة ، ثم تدورُ في الغبشة عيونُهما فترياني. أمّ ميلاد وأمّ ماريّا ! فيا لنكهة البعث بحرقة الأولى من عشقها المحزون لجهّار وبذكرى ولعِ المختار بِابْـنَةِ الثانيةِ، فهو مـا لفـظ أنفاسه الأخيرة إلاّ محمومةً بِاسْمِ ماريّا! ماريّا! تتململ نظراتهما وهما تريان على وجهي شيئاً لا أراه . أعرّفهما بنفسي فيتململ شيءٌ كالحرج أو كالحياء يكثّف الغبشة التي بيننا . أعمّق أنفاسي ليطول مدى زفراتي في الهواء . تترحرح الغبشة حتى لكأنـّها غلالة طيف . صمتُهما تُراكمه اللحظات ، ويُسْقَط في يدي فلا أعرف ماذا أفعل أو أقول .
بُعِثَ تراه أم ليس بعد زوجكِ عازر الديّار ؟ يتخلل الغبشةَ صوتُ أمّ ميلاد إليَّ .
أحسّه في الدروب التي لستُ أراها ، أخبّرها وأندم .
أندم لأن الدروب قد تسبقني إليها هي المشهودُ لها في حكايات البساتين بالسير التائه ، الليلَ والنهارَ ، تناجي جهّارَها الذي أخذتْهُ الضفّةُ الأخرى من النهر وتركتْها لحرقتها التي لا يُطفئها الماء، من بحرٍ طلع عليها أو من نهر .
قولي لعازر ألاّ يبحث عنّا فزمن الدنيا مضى بمكره وابتزازه وجبروته ، يجرّح صوتُها الغبشةَ المرقَّقَةَ بزفراتي .
وتختفيان .
صِلّو الأشموني
بين الطريقِ فالجبلِ الصاعدِ صوبَ السماء جنوباً ، والبستانِ الممتدّ شمالاً حتى ضفّة النهر ، هنا ، ههنا ، في الحفرة العميقة المدوّرة في قلب التراب ، حيث حيّاتُ معبد أشمونْ يخلعْنَ جلودهنّ القديمة لينبتَ لهنّ جديدٌ من اللمعان والملاسة ، هنا ، ههنا ، أفيق من النومة التي يسمّيها أهلُ الملّة الأخرى نومةَ أهل الكهف ، وأنهض وكأنما بهمّة أشمونْ ، إله الصحّة ، لأقف على الممرّ الحجري المطلّ بي من عَلِ على المنفسح المقطّع تحتي تقطيعاً هندسياً يحدّث بنفسه عن وظائف نفسه . عن يميني يونس ، الإبن الأصغر لعازر الديّار ، وعن يساري إبنه الأكبر ، إسحق ، يتمسكان بي ويسألاني إن تسلّمتُ لهما أوامرَ جديدة من حزب السرايا. أقول لهما حربُ اللبنانيين انتهت بقيام القيامة ، فيلحّان عليّ أنْ لا بدّ أن يكون لحزب السرايا رأيٌ في مسيرة أحداث القيامة . أشرح لهما أنّ القيامة اليوم ليست شعار قيامة لبنان الذي شاع في تسعينيات القرن العشرين ، وإنما هي البعث الذي حدّثتْ به كتُبُ الديانات الساميّة. يعجبان أن تكون قيامةُ الدنيا ألغتْ قيامةَ لبنان . أنتزع نفسي منهما وأنطّ حجراً حجراً على طول الممر المفتوح على الشمس والهواء ، في الزمن الأول ، حيث كان يحلو لمحزّبات السرايا التمدّدُ في الليل ، زمنَ الحرب وسنةَ عَبَرَ إلينا الجيشُ الإسرائيلي الحدودَ ليساعدنا في قهر المخرّبين الذين تطاولتْ سلطةُ مخيّماتهم على مدننا وقرانا والحدود الشمالية لإسرائيل .
اللاعباتُ المُلَعَّباتُ ، الأشمونياتُ الراقصاتُ على ضوءِ القمر احتفالاً بصحّة أشمونْ وصحتهنّ ، هَجَرْنَ المعبدَ في أغلب الظن وهُرِعَ بهنّ إلى معبدِ إلهٍ آخر من آلهة الفينيقيين ، وإلاّ فأين هنّ مختبآتٌ مني ، وهنّ الملقِّباتي بِصِلّو الأشموني ، مِنْ ودّهنّ لصحّتي التي هي البهجةُ لصحتهنّ ؟ أينما كُنَّ فمحميّاتٌ هنّ الأشمونياتُ بأرواح المعبد الساكناتِ في نَبْتِ الهندباءِ والشّومرِ والزعترِ والقصعينِ والقُرْصْعَنّي وأخرى غيرها من النباتات والزهرات التي رضيَ عنها أشمونْ ورضيَ بها للناس غذاءً وشفاءً ورُقىً .
آخرُ حجرٍ في المعبر يرميني وجهاً لوجه مع الصليب المنحوت على الجزء المقطوع من ذلك العمود الروماني ، في أغلب الظن ، فأتذكر شيئاً وأصلّب على صدري . الرجفةُ تعروني فجأةً وقد تمثّلتْ لي دوريةُ اليهود تترك لدينا أسرى من الصيداويين والفلسطينيين وتمضي دون أن تقول لنا ماذا نفعل بهم فنفعل بهم كل ما لا يقولونه . الرجفةُ تشتد عليّ فكأنما الزلزال فيّ ، والبعثُ نهايةُ كل الدروب ، فإلى أين ، أين ، المفرّ ؟
دانـْـتي
غريباً لا يزال أمرك ، يا أبا العلاء ، تعجب من مشاهد البعث أيّما عجب ، وفي رسالتك الغفرانية من الطُّرَفِ ما لا ينساهُ القارىءُ الأريب فلا ينفكّ يطّوّف في مدار لغزك الذي يشي به انحرافُ مزاجك نحو الشيء وضده فهو مؤرجحٌ أبداً كرقّاص الساعة بين معابثتك للغيب ووهمِ احتجاجكَ على الضعف البشري الذي لولاه لما كان في ديوان العرب في الخمرة والمرأة ما أَسَرَ لُبَّـكَ وأذهل ذاكرتَكَ فأنت للشعر الذي بسببه تَسْقُطُ شخصياتُ كتابك في النار أو تنجو منها عبدٌ طـيّعٌ ، تنقاد لبيانه وموسيقاه وبالأخص لتشابيهه الحسية التي أحسبها سمةً لازمةً من سمات المزاج الساميّ لشعراء العرب . لا أعترض على عبوديتك ولكني أعجب من استنكارك على الطالعين من أجداثهم قصورَهم عن فهم طبيعة القيامة وتقصيرَهُم في التمثّل بسلوك المبعوثين كما تصوّره لنا الكتبُ المقدّسة . سميّة الجمري ، التي في الجبّانة الأخرى مَبْعَثُها، تعاتبها على عتابها للغيب المقدِّرِ لها الوحدةَ الذميمةَ في العيش والقبر ويوم الخروج. رندة الحيفاوي ، تقول ، تتلهّى عن موجبات الساعة باسترجاع قصف اللبنانيين والإسرائيليين لمخيّمها ، فلا تتخلّى ، حتى يوم تتخلّى كلُّ مرضعة عمّا أرضعت ، عن فلسطينيتها وكأنّ بها خلاصها في الدنيا والآخرة . ولا تكتفي بهذا فتلذعك الغيرةُ من قدرتها على الاستشهاد بشعر شاعر ليس بعربي لم تسمع به من قبل أنت. والبربوش كأنّك تتغاضى عنه ، ربما لولاء ذاكرته للمجانين من شبّان الدنيا وصباياها ، ولاءً ربما يحرّك فيك من خفايا لغزك ما لا تحبّ أن أطّلع عليه . ويتبرّأ سَمْعُكَ للتوّ من حديث الإفك الذي توجزه بالتلميح أمُّ ميلاد فتشعل في قلب أمّ إسحاق من نار الغيرة ما لا يطفئه الماء، من بحر طلع عليها أو من نهر . والأشموني ، صِلّو ، لا تكاد تطيق صوتَه يتباهى بمجونه مع الأشمونيات وبصحبته لليهود الغزاة وبفعله الفعلةَ الشنيعةَ بالأسرى الصيداويين والغالين على قلوبهم من الفلسطينيين .
غريبٌ غريبٌ ، بل ليس بغريب غريب ، تقلّبُك اليوم ، يا أبا العلاء . طبيعةُ القيامة التي تحتجّ لها، ظنّاً منك أنك الأدرى بها ، لم يتجرّأ على قوانينها وسننها أحدٌ أكثر من جراءتك عليها ، عابثاً ، مستعبثاً، متعابثاً ، معبِّثاً إلى حدّ الاستخفاف بأولويات الغيب ، خفيفاً إلى نقض العهد بينك وبين التراث الذي غُذيتَهُ صغيراً ونَمَتْ عليه ثقافتك . سأخفض صوتي ، الآن، فَاطْمَئِنَّ إلى كتماني سرَّك، ولكن خبّرْني ما بال تلك الإوزّة التي تُتَشَهّى شواءً ثم كباباً ثم معمولةً بسمّاق ثم معمولةً بلبن وخلّ ، فتصيرُ كلَّ ذلك ويُقضى منها الوطرُ ، ثم لا تلبث أن ينبثق منها ، في صفحة أخرى ، امرأةٌ تحسن الغناء ، بل ما بال تلك السفرجلة، يكسرها كاسرُها فتخرج منها جاريةٌ حوراءُ تَبْرَقُ لحسنها حورياتُ الجنان ، فيخطر له أنها على حسنها نحيفةٌ ضاويةٌ ، فَيُجاب إلى شهوته على الفور ويراها وقد صار لها من ورائها رِدْفٌ يضاهي المشهور من كثبان الرمال ، فيهالُهُ المنظر ، فيحمد ويشكر ويتمنى على الغيب ، الذي في رأيه زَوَّدَها عليه، أن يوجز من رحابة رِدْفِها فيقصره على ميلٍ فميل ، خبّرْني ، أليس في ظرفك أو تظرّفك هذا في حضرة القيامة استهتارٌ بحقّ الغيب أن يُرْهَبَ ويُهْلَعَ منه وله ؟
لغزك يحيّرني ، يا أبا العلاء ، ولكنني أسرّ إليك ، ونحن نتساير في مسيرة الأربعين سنة بين النفختيْن، كما كنتَ زعمتَ لي ، أسرّ إليك بخلجة ما زالت تختلج فيّ منذ الليلة التي قرأتُ فيها كتابك أوّل مرة . ضريبةُ الإبداعِ المعرفةُ ، اختلجتْ بصدري الكلماتُ ليلتها . رضيتُ بها عزاءً لي لقصور معرفتي آنذاك عمّا يتطلبه الخروجُ على المألوف من معرفةٍ بالدين والدنيا وتمرّسٍ بأصول السّبك للعبارة الشعرية ، فعلى الشعر عُقِدَتْ نيـّتي في مقارعة رسالتك الغفرانية بتصوّر الملّة الأخرى ، ملّتي ، لقيام القيامة في ثلاثةٍ من الكتب ، أوّلها الجحيم ، وأوسطها المطهر ، وثالثها الفردوس ، الفردوس الذي يجنح فيه خيالُك ، في الرسالة ، إلى حدّ العبث والتعابث . أنتَ كانت وراءك قصّةُ الإسراء والمعراج وما انسرح عنها من أحاديث نبوية فأحاديث للرواة فانسراحات للخيال الصحراوي سَرَّحَكَ من حلكة مقلتيْك وسأم بدنك من القعود في البيت فانسرحتْ بك رسالةُ الغفران ، ليُغفر لك بكتابتها ربما ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ، أو ربما لتغفر أنت في سرّك استهتارَ الغيب ببصرك ، غفراناً تَصَالُحِيّاً ظاهرُهُ، عِتَابِيَّاً باطنُهُ.
الخلجةُ تلك الليلة كانت سرّي وظلّت رسالةُ غفرانك لغزاً للغزي .
أمّا لغزك ، أنتَ ، فإنه لغزك ثم لغزك ثم لغزك ، يا أبا العلاء .
أبو العلاء
بالحدْسِ المُلَقّّاهُ لحظةَ النورُ فتـّحَ عينيّ لأنهض بوجهي إلى حيث يشرق الحقُّ، كما في الحكاية التراثيّة ، بعد النفخة الثانية في الصّور ، بالحدس الذي لُقّيتُهُ قبل الغريب الطالع عليّ من قلب الموج ، لَهَفْتُ ما يدور في رأسه من الخواطر والمعابثات ، لَهْفاً ، أقول ، لهفتُ عباراتـِه قبل أن يصوغها أصواتاً لسانُه وشفتاه ، واللَّهْفُ ليس من اللهفة بل هو مقاربةٌ حدسيّةٌ لكلمة الإلتهام ، أجل أجل كلَّها كلَّها التهمتُها لَهْفاً ولَهَفْـتُها التهاماً وتلهاماً، والصمتُ حليفي ، وصرفتُ أذنيَّ إلى تلك الراهبة التي بُعِثَتْ بثياب الرهبنة استثناءً لأنها راهبة تُعفى ربما من سنن القيامة ، أو لأُمْـنَحَ أنا فرصتي الأولى للتعرّف بالمرأة، عيناً بعين ، وهي في أطهر صورها وأنقى حالاتها ، عيناً بعين ، عيناً بعين .
دانتي لا يتنبه إلى أنّ نيـّتي الآن ألاّ أسمع صوته تحجب صوته عني فيسرف في حديثه إليّ ، كما تنبئني حركاتُ شفتيْه ويديْه ، ويبدو فمُه كفمِ نائمٍ أبكم يحلم في نومه بالقول فيقول بلا صوت ولا كلمات . المرأةُ الراهبةُ إجاصيّةُ الوجهِ ، يبادرني الشاب الذي إلى قربها ، وكأنما حَدَسَ حيرتي وأنا أقلّب قواميس ذاكرتي لأجد الكلمة الأنسب أو التشبيه الأدقّ لأصف به أول وجه نسائي يصادفه بصري . شيءٌ في عينيه هو وملامح وجهه هو يقول لي بأنه هو الآخر شاعر وأنه لا ريب عرفني من معرفته بشعري . ما يجري بيننا غريب حقاً ، لأنني أحس بأنفاسه تخالط أنفاسي ، وهو يبعد عني خطوات ، والوجهُ الإجاصيّ بيننا ، تتنقّل فيه بيني وبينه العينان اللّتان صفاؤهما بصفاءِ عينِ الديكِ ، عينِ الديكِ يقولها هو وكأنما يتمتم فكرتي بكلماته . هو إذن من عشّاق الشعر ، فعينُ الديك هذه من تشابيه عديّ بن زيد في وصف الخمرة وأباريقها وكؤوسها . ولكن لماذا يلحّ حضورُه عليّ هذا الإلحاح ؟ جْريسْ إِسْمُها ، وإسمي سامح الجمري ، يملي عليَّ صوتُهُ إرتباطَ الإسم بالإسم . أعاشقٌ هو لها يحملُ معه عشقه إلى القيامة وتستفزّه الغيرةُ لمصادفةِ وجودي على مقربةٍ منها ؟ حُلُمٌ لعله من هوامش رسالة الغفران ! أم تراني أكتشف الدنيا الجديدة يُنْبِتُها من أجل خاطري الوجهُ الإجاصيُّ والعينان اللّتان صفاؤهما بصفاء عين الديك ؟
أصرف من جديد أذنيّ إليها فلعلها تبادرني بكلمة تضع حدّاً لتوفّز الملهوف عليها من شبابهما الأول وتعفيني من التردد في أمر مخاطبتي لها أوّلاً ، نافيةً بذاك من المشهد احتمالَ تفوّهي بشيء لم تألفه أنوثتُها المحجّبة بثوب الرهبنة . عليّ ألاّ أرتكب ما يرتكبه نزقُ الشباب من رمي الكلام على عواهنه فأبدو لعينيها كالمغفّل الذي تنقصه الدِّربة . عليّ ألاّ وعليّ ألاّ . وهو لا يحوّل عني حضورَهُ لحظةً واحدةً فكأنما يعين عليّ دانتي المحاصِرَني بشفتيه ويديه . كلٌّ يعظّم دينَهُ ، يا ليت شعري ما الصحيح ، يرنّم الكلماتِ صوتُها ترنيماً فيغشاني شيءٌ لم يكن يغشاني في الدنيا ، يخيفني وأخاف عليه أن يتلاشى . أرهف عينيّ وأحدّق بأذنيّ ولكنها لا تعقّب بشيء . لماذا لا يتدخّل الغيبُ فيعطيها طلاقةَ دانتي ويعطيه صمتَها فأنطرب وأرتاح ؟ وما الصحيح في رأيكَ كان وما الصحيح في رأيكَ الآن ؟ تجبهني بسجعة النون فتأخذني على حين غرّة شفتاها . هذا الفتحُ والإغلاقُ والشّقُّ والإنطباقُ ومسُّ ورقةِ الوردِ بورقةِ وردٍ ، أليس من شفتيها هو السحر الحلال الذي يستحيل على شفتيَّ إلى بُهْرٍ حلالٍ فلا أحيرُ جواباً عن سؤال ؟
يضرب الأرض بقدميه دانتي ويهزّني من كتفيّ هزّاً يكاد يقتلعهما من جسدي . هو الآخر مُسْتَثارٌ في قلبه شيءٌ لا أظنه الإعجابَ بها ولا أحسبهُ غيرةَ الشاعر من شاعر يهزّه حضورُ امرأةٍ هِزّةً تحرّك فيه الشعرَ الذي لن يقوله إلاّ لنفسه وإلاّ لها إذا قُدِّرَتْ لهما خلوةٌ في ستر غبشةٍ من الغبشات . لا هذه ولا تلك . حدسي يبرقُ لي باليقين فأدرك أنّ دانتي مغلوبٌ على أمره مرّتين ، مرةً لأنّ الراهبة من بنات ملّته ومرةً لأنها تصغرني بعمرٍ لا أجيد حسابه . أتبلبل من رأسي إلى قدميّ وأكاد أقذف الغيب بجارحٍ من العتب أَنْ حَطَّني في هذا المأزق ، فكأنه أخذ مني بصيرتي حينما ردّ عليّ بصري . أجرّ قدميّ بعيداً عنها وعنه وعن الشاب الذي لا يزحزحه شيء ، وحينما أهمّ بالإسراع أكثر فأكثر أظنني أسمع الصوتَ الفتيَّ يعاتبني عتابَ تعابثٍ يجيده الشعراءُ فينشدني ويعيد عليّ أنْ :
خَفِّفِ الوطءَ ما أظنّ أديمَ الأرض إلاّ من هذه الأجسادِ
العَدْوَ ما كنتُ أعرفه في العيش الأوّل إلاّ لغةً ، والآن ها أنذا تكاد تطير بي قدماي. بعد هنيهةٍ من الهنيهات آخذُ أتمهّل فيعابثني الصوتُ من جديد:
وتلفّتتْ عيني فمذ خفيَتْ عنيّ الديارُ تلفّتَ القلبُ !
نينا الجُمَـري
إن كان حقاً ما كان يقوله أبي من أنّ الذي يموت يُبعثُ يوم القيامة في أحبّ الأماكن إليه ، فسأجدهُ حتماً على شاطىء البحر غربيّ المطعم حيث في صباه الأول كان يتمشى ويحدّث الموج ويعاشر الرمل والحصى، هناك هناك سيكون الآن ينتظرني ، إن كان أفاق قبلي على النفخة في الصّور ، كما كنّا تواعدنا في العيش الأول . ولكنني أعرفه وأعرف أنه لو كان استيقظ قبلي لكان نَفَدَ صبرُهُ فكسر موعدَنا وراح يفتل ويبرم عليّ في كل مكان وعيناه تشيلاني وتحطّاني في كل قرنةٍ وكل وهدةٍ وكل حفرةٍ وكلِّ عطفةِ دربٍ ، وفي كل مرة لا يجدني فيها تَنْشَدُّ مقلتاه في محجريْه هنيهة وكأنه انسحب إلى داخل نفسه ، ليعود بغتةً إلى لفّه ودورانه وسؤاله عنّي كلَّ مَنْ طلعتْ به عليه الدروبُ . هكذا هكذا كان يفعل إذا تأخرتُ دقائق عن موعد عودتي من المدرسة ، أيّام بيروت وأيّام صيدون ، ولكم روى الجيرانُ لي عن قلّة صبره قصصاً أحسبه سيعيشها ويعيّشنيها اليوم مرةً بعد مرة .
أترك حفرتي ورائي وأنزل التلّة على مهلي ، على مهلي لكثرة ِ الحفر المرتّبة صفوفاً طويلةً ولزحمةِ الغبشة بالوجوه والأيدي والأقدام ، كلّها في حركة دائبة ، تتلفّتُ وتلولحُ وتنهض وتحطّ ، خفيفةً هنا وثقيلةً هناك . إمّا لأنـّها الزحمةُ وإمّا لأنّ النور بدّل رأيه فلم يطلّ من الفجر ليكسر من حولي الغبشةَ ، أراني لا أرى أحداً وأقول إنني عرفتُه أو رأيتُه من قبل . أتابع نزولي التلّةَ غرباً غرباً ولا أجدني إلاّ أعبر مدرسة الأميركان التي كنتُ تخرّجتُ منها في العيش الأول وأترك ورائي مبانيها وأشجارها وأختزل المسافةَ حتى مستديرة فرن العربي فمسافةَ شارع الزهور حتى مقبرة الشهداء ، أختزل زمنها ، زمنَ المسافة، بنيّتي ، فإذا أنا ، ها أنا أحطّ قدمي اليمنى على شارع رياض الصلح وأنعطف شمالاً لأتمّ مسيري إلى مطعم جدّي خارج المدينة فلعلني وأبي نلتقي في بعض الطريق . من خطواتٍ خلفي يناديني صوتُها انتظريني يا جدّتي، فأعلم أنها جدّتي لأنها هكذا كانت تناديني في العيش الأول . تضمّني وتتراجع عني خطوتين وتروح تتأملني من رأسي إلى قدميّ ومن قدميّ إلى رأسي وتهزّ رأسها وتقول كَبُرْتِ كثيراً بعدي يا جدّتي . آخذُ يدَها بيدي وننطلق شمالاً شمالاً ، تخبّرني وأخبّرها ، وقلبي وقلبُها يتسابقان أمامنا على الطريق ، هي لتفكّ وحدتَها بلقاء جدّي في الجبّانة القديمة وأنا لأفي بوعدي لأبي أن ألتقيه يوم القيامة لنكمل الحديث الذي كنّا مرةً بدأناه .
الخوري حَنّـا
أنتَ لا تحمدُ الموتَ حتى تموت ، فحفرتي كانت صومعتي، وفنائي كان إجازةً لي من الأشرفية وممّا جناه المستهترون من أبنائها، بعضِ أبنائها، على سمعة البيئة المسيحية بخروج قلوبهم عن طاعة المسيح التي هي طاعة للمحبة والتسامح والغفران . أنقّب التربة كلّها عنهم ، فهم ، وإنْ نبذوني في الدنيا زمن الحرب ، أحوجُ إليّ اليوم من أي وقت مضى . الحفرةُ صومعتي ودورها انتهى الآن ، فالمسيحيةُ جهادٌ لخلاص العالم ، وأنا الآن في أحلك الظروف أنقّب عنهم لأدلّهم على طريق الربّ فلعل وعسى ثم لعل وعسى . المساكين لم يعرفوا أنهم كانوا يتخلّون عن أنفسهم حينما تخلّوا عنه فشرّعوا نواياهم للسبت الأسود في قلب بيروت ولمخيّميْ صبرا وشاتيلا صيف الإجتياح . أنا لا أقول أن الأَشْرَفيّين وحدهم طعنوا وذبحوا وأطلقوا النار ، ولكنّ معرفتي بأولاد رعيّتي يوجب عليّ أنْ أتابع حياتهم من حيث لا يدرون ، أنْ أستدرجهم إلى طريق الربّ الذي في بعض محطّاته تكون توبتُهم من ذنوبهم إليه وتوبتُه عنهم بشفاعة التي لا يُرَدُّ لها طلب لأنها الأم العذراء ، اصطفاها وباركها لتكون سيّدةً لأمهات البشر . وهي تناديني من الجنوب ، من هناك على التلّة المغبّشة بغبش الفجر ، وإن لم أكنْ بأذنيّ أسمعها ، تناديني نداء استجداء لأسرع إليها والخطاةَ من أولاد رعيّتي ، فبابُ التوبة ، في أغلب الظن ، لم يُغْلَقْ بعد .
الخوري حَنّا أنا ، أُطَمْئِنُ الشابَّ الناهضَ من حفرته ، المفرفكَ عينيه كأنـّه لا يصدّق ما تُرِيانِهِ. أين أنا ، أبانا الذي في الأرض ، خبّرْني ، أين أنا ، وكم مضى عليّ في هذه النومة التي أتعبتْ خاصرتيَّ من طول تمددي ؟ ولا يتمّ كلامه لأن عينيه تتحولان مرة ثانية إلى قلب الحفرة . الموت انتهى فَاهْدَإِ الآن وسأخبرك بكل ما تهيّء لي ذاكرتي أنْ أسترجعه مما جرى لك ولنا ولهم . ليلةَ الزجاجةُ صعدتْ إلى رأسك من شدّة حنقك على تجربة أخيك إدجارْ في تحويل موسيقى بيتهوفن إلى أداة ترويع وتشنيع في الحرب ، ليلتها ، يا ابني ميشيل ، زعقتْ في نزلة وزارة الخارجية الموتوسيكلْ وظلّتْ تزعق حتى ارتطمتْ بحائط البناية التي تحت المدرسة بقليل ، ونقلوكَ أنتَ إلى المستشفى فبقيتَ في العناية الفائقة شهوراً ، في غيبوبة تامّة وشلل في أطرافك أرى أنـّك اليوم شُفيتَ منه ومنها . عِناسْ قامت بخدمتك فكنتَ لها الإبن الذي أنجبتْه لها الحربُ . ولكن أين أنا ، أين أنا ، تلحّ عليّ نظراتُه . في مقبرة العائلة في الأشرفية ، أقول له ، فيدور على نفسه دورات وتجتاح تلاّتِ الترابِ على جانب الحفرِ عيناه المشرقطتان بالخوف والشوق، بحثاً عنهم ، تنبيشاً عن أثرٍ لهم يدلُّه على أين كانوا وإلى أين عساهم توجّهوا بعد النهوض .
لعلهم سبقونا إلى التلّة التي منها النداءُ الذي أسمعه ولكن ليس بأذنيّ . أجمع كفّيه بكفيّ وأشيرُ له برأسي أن يتبعني فيطأطىء بوجهه إلى الأرض . أذهب معكما أنا ، فلقد ضللتُ الطريق ، يأتينا الصوتُ وكأنه طالع لتوّه من بطن الأرض . موريسْ السّْلَيْلاتي ، مسلوبَ اللونِ والماويّةِ ، يستجدينا أن نأخذه معنا كلُّ شيءٍ فيه . من أولاد رعيّتي هو الآخر . هالةٌ من النور الملوّن ترتفع إلى أوج السماء الجنوبية فأشجّعهما بابتسامة تُخزي القلقَ في كيانيْهما فتنطلق بنا أقدامُنا فنعبر حديقةَ الموت سراعاً إلى الحياة الجديدة التي تنتظرنا على طول وعرض ذيّاك الطريق .
- أفقتُ من غيبوبتي إذن !
- تُراني أين نسيتُ زجاجة الكولونيا التي أهدتْها إليّ جيزيلْ ؟
- أُتْرُكا الدنيا وراءكما !
ميشيلْ وموريسْ وأنا أصواتٌ ثلاثةٌ تهجس في صدورٍ ثلاثةٍ وقد أخذتْ تسيل تسيل بأقدامنا الطريق.
إسماعيل
هلمّي إليّ ، هلمّي ، تتنادى ذرّاتُ التراب على نفخة إسرافيل في الصّور النفخة الأولى ، تتهاوى وتتنادى ، هُوِيُّها من غيابة الحفر إلى سطح التربة ، صعداً صعداً ، ولا عجب لا عجب ، فللقيامة شرعةٌ ومنهاجٌ غير شرعة ومنهاج القوانين الفيزيائية التي تحكم الخَلْقَ الأوّل في العيش الأول . وإذ تلتئم ذرّاتُ ترابي فَأُنْشَأُ ، بإذن الله ، النشأةَ الأخرى ، أحصّل نفسي من الحفرة ، فيحصّل نفسه فوقي الجسدُ الأثيريُّ، ونستوي ، هو في الجوّ وأنا على الأرض ، كلٌّ على قدميْه ، وكلٌّ وجهُهُ مشرَّعٌ إلى حيث يشرق الحقّ حين حين يشاء . أغمض عينيّ إغماضةَ الشكر أنْ منحتْني الهدايةُ نعمةَ التصديق فصدّقتُ .
أُهُريقَ الزمانُ كلُّهُ وأُهُريقَ المكانُ ، فالحدسُ الموعدُ الموعدُ ، يا إسماعيل ، والحدسُ التنادي ، اليومَ، اللغةُ التي لا زمانَ ولا مكان .
ملتفّةً بعباءةِ الياسمين تطفو إلى حافّة حفرتها أمُّ إسماعيل وتحصّل نفسَها قياماً قياماً ، شفتاها مخضلّتان بالحمد والشكر ، وعيناها هائمتان بجبل الرحمة ، عرفاتِ الحجاز ، حيث كان عامُ حجّها عامَ رحيلها فدفنها الحجيجُ في البقعةِ التي كانت تتمناها لنفسها مُستراحاً ومدفناً ، تبرّكاًَ بأقدس التراب وتوسّلاً إلى جيرة المصطفى ، تطفو وتحصّل نفسها ، وفوقها يطفو ويحصّل نفسَه الجسدُ الأثيريّ ، وأراها وأراهُ من حيث لا تراهما العينُ ، فتعظم حيرتي وتجهر بالدعاء شفتايَ وكفّاي أَنْ أَلْهِمْها يا بارىء البعث أنْ تستفيق من عبق الذِّكْرِ والحمد والصلاة على الأمين المصطفى وتتلفّتَ إلينا ههنا ونحن نستيقظ على عبق الشوقِ إليها .
أُغمض عينيّ إغماضةَ الشكر وأتهيّأُ لملاقاةِ أبي وإخوتي وأخواتي وزوجتي الرفيقة بي آنَ غيرةِ شبابي عليها وأوانَ وساوسِ الصحّةِ التي انتابت شيخوختي ، لملاقاتهم أتهيّأ ولملاقاتها بالمحبة وهي تلاقي معي أولادنا وبناتنا وحفيداتنا وأحفادنا ، يسبّحون ويسبّحْنَ من حولنا على سنّة إبراهيم الذي سمّانا جميعنا المسلمين .
عجيجٌ وضجيجٌ من ورائي ، فلفتةٌ من أذنيّ وعينيّ ، فها هم ، ها هم ، لا يزالون على ما كانوا عليه في العيش الأول ، تهيّج رؤيةُ أحدهم الآخرَ حكايةَ المطعم الذي ورثوه عن أمّهم وما ورثوه ، لأنّ ولأنّ ولأنّ ولأنّ . رحلتُ عن الدنيا وكان لمّا يرحلْ بعدُ عنهم الأخذُ والردُّ واللّفُّ والدورانُ وتجريحُ النوايا بنوايا أَحَدَّ منها وأشرسَ فتركتُهم في جحيمٍ من الأرض لألقاهم اليوم يثيرون رمادَها المسكونَ باللّفْحِ والفَحِّ والفرقعةِ التي كأنـّها رذاذ النار . يُهرعون إليّ ، كما كانوا يُهرعون في الزمن القديم ، ويتشبّثون بي من كلِّ صوب ، ليعيدوا عليّ الحكايةَ ، كلٌّ من وجهة نظره ، كلٌّ يأمل أن أدلي برأيٍ يستنصر به في خصومته مع إخوته ، وكلّهم كلّهم ، يا الله ، أبناء خالي . أتلفّتُ أبحث عنه في كل الأرجاء ولستُ أراه . جهّارُ ، جهّارُ ، لا حاجة بك اليوم إلى أن ترفع كفّك إلى فمي لتمنعني أن أُتمّ لك وصفَ القيامة ، فالقيامة لم تَعُدْ وصفاً بالكلمات ، القيامةُ قامت ، قامت وإن لم ينتصب بعدُ الميزان ، فهلمَّ إلينا ، هلمّ ، يا خالُ ، لنبحثَ سويّاً عمّن وعمّن يأذن له الله بالشفاعة اليوم ، فذنوبنا ، صغرتْ أم كبرتْ، ستتحرّك بها كفّةُ الميزان .
هَـتُـونْ
هسيسُ الماء على ضفّة النهر لا يزالُ هسيساً ، ومنّي الأصابعُ تنفلتُ من بين أصابعه ، كأنها الآن تنفلتُ ليسحبني النهرُ في مجراه صوبَ البحر الذي يبلغني هو ولا أبلغه أنا لأنني بُعْثِرْتُ عن جسدي وَأُغْشِيَ عليّ فلا أستفيق إلاّ اللحظةَ ههنا على ضفّة النهر ، لا نهر الدامور الذي بجيرته رُبّيتُ ، بل النهر الذي لجهّار ، نهر الأوّلي الذي شجراتُ البرتقالِ المطلّةُ على ضفّته شاهدةٌ على طفوةِ جسدي في الفضاء ما فوق كتفيْ جهّار، مِلْءَ كفّيْه الحالمتيْن بعجوةِ جسدي التي قال لي إنها أكثر من عَجْوَةِ الـتَّمْرِ ، يقولُها كأنـّه الآن ، فأقلّب عينيَّ في لَهَفِ الغبشةِ ولستُ أراه ، ومني الأصابعُ لا تزال تنفلت من بين أصابعه وتنفلتُ إلى آخر آخر النهر .
ماريّــا
ترقّق عنّي الترابَ أنفاسُهُ الحرّى فتنفُضُهُ على جانبيْ حفرتي ، حبّةً حبّةً ، حفنةً حفنةً ، وتنسلّ تحت ضلوعي طيوفٌ ممدودةٌ ليديه فيتقلّص عمقُ التراب ولا أراني إلاّ واقفة على قدميّ أتحسّس بهما ما تحتهما وأسعد باليقين أنني آمنتُ بالبعث فَبُعِثْتُ ، وعلى غـير ما رغبةٍ مني بأنفاسه الحرّى وطيوفٍ ممدودةٍ ليديه أُنْهِضْتُ ، ذلك المختار الذي حلم بي ربما ، وتمنّى ربما على الغيب أَنْ أُبْعَثَ تحت هذه الجمّيزة قرب مطعم الجمري ، فجاراه الغيبُ المعتوبُ عليه ، من إشفاقٍ عليه جاراه ربّما ، مثلما نوريّةُ العربِ بَصّرَتْ لي مرة وضحكتْ تحذّرني أنني مرصودةٌ للعشق ، مَنْ تمنّاني في الأرض كنتُ له في الأرض كيف تمنّى ومَنْ تمنّاني في الآخرة كان نهوضي من القبر بيديه حيث تمنّى . أدورُ حولَ شجرة الجمّيز لألقى رَصَدي فيدورُ حولها أسرعَ منيّ فلستُ أراه .
زكيّة الجُمَري
كْري كْري كْري ، وتطنّ في أذنيّ قأقأةُ الدجاجات خلف غرفتي حيث كنتُ أتحمّم وأحمّم يحيى وجهّار وصفيّة وهديّة ومحاسن وأولادَهما وأولادَهنّ بعد ذلك ، كْري كْري كْري يطلع الصوت من فمي وأنا لا أزال أنهض من حفرتي وكأنني لم أنم إلاّ ليلةًََ حلمتُ فيها أنني أنخّ وأنفخ في العيدان والحَطَبات بين حجريْ موقدي لأسخّن الماء في الدست وأسلق القمح فأفاجئهم برائحة القُلّبِهْ، يفتحون عيونَهم وأنوفَهم من النوم عليها ويدورون حول الدست يتشمّمون بخارَ القمح ، والدجاجاتُ حولهم وحولهنّ وحول صغارهم وصغارهنّ يقأقئن وكأنما عاتباتٍ عليّ أنْ لم أنثر الحَبَّ عليهنّ من التفافةِ فستاني على هيئة الحُرْجِ ، عاتباتٍ عيونُهنّ ومناقيرُهنّ ، والدِّيَكَةُ تنقر الهواء بين الدجاجات ، صياحُها أوطأُ من قأقآتهنّ ، وكأنما الخجلُ من عجزها عن نجدتهنّ أصابَ حناجرها بشيء، كْري كْري كْري ، وأدور حول الحفرة التي فوقها العريشةُ ، مخضرّةَ الورقِ والأغصانِ ، شقراءَ العناقيد ، أميّزها في غبشة الفجر التي هي سِتْري وقد نسيتُ ثيابي على فرشتي ، من زحمة الحلم الذي دخل عليه الحلمُ الآخرُ بالبدوي، زوجي أنا، يعود إلينا من حرب السَّفَرْبَرْلِكْ فيخلع عباءته الخضراء وينشرها علينا فيفوح الهواء بسياج الورد وتميل طرابينه على الطرابين ويختبىء الشّوك في العيدان في زحمة الورقات ، والبدوي كفّاه حلمسةٌ على الصغار والصغيرات ونظراتُهُ عليّ عليّ وكأنـّه جمّعَ لي فيهما الأحاديثَ التي لا يقولها اللسانُ لأنه لا يزال صغيراً عليها اللسان.ُ
على استجداء الصوت المغبّش عن يميني أفيق لتوّي من الحلم الذي في الحلم وأقع في القيامة التي كانت في العيش الأول خيالاتٍ خيالاتٍ ، وإذ هي أمام عينيّ كشيء قيل له كُنِِِ الآن فكان .
طارق الجُمَري
تطلّ الكنيسةُ من خلف السّور على مستديرة القناية التي ينشقّ ترابهُا عني وكأنني فيه دُفنتُ يومَ دفنوني . لا أذكر أنهم غسلوني قبل لفـّي بالكفن فجسمي يزلزله الرَّعَيَانُ الذي انتابني في آخر العمر ، ولا أنفكّ أنفض بقايا التراب عني وأمسح أطرافي بالغبشة وأَرُضُّ الأرضَ بقدميّ لأتيقن من أن قيامتي تامة ونظيفة وكأنني على وشك ملاقاة صاحب البستان المهجور لأطبّقه أن يبيعني كلَّه أو بعضَه لأنشيء حلمي بالطابقيْن اللذيْن يطلّ أعلاهما على المنسرح الحشيشي للساحة ومن خلفِ زجاج نوافذه تسرح العيونُ المتواعدةُ بالعيون الواعدة ، شابّاتٍ وشباباً ، فلا يكون مثلها كافيتيريا في المدينة وتكون أوّل فتحٍ لي في عالم الشهرة والسؤدد ، وتمرّ سميّة من تحت النوافذ وتتمنّى لو تطلع وتجلس ساعة من ساعات قبل الظهر تتسلّى فيها وتعبّيء وقتها الضائع بفنجان قهوة وبمراقبة الزبائن من طاولتها وباستراقِ السمع إلى نتفٍ من الأحاديث الدائرة على خفض فتتعذّب أذناها بإرهافِ السمع الذي لا يجدي مئةً بالمئة فتظلّ الأشياءُ مقطّعةً في خيالها ، كما هي الأشياء دائماً في حياتها، نتفاً نتفاً ، تتمنى لو تطلع وتجلس ساعة من نهار ، ولا تتجرّأ لأنّ ابتسامتي الباهتة في وجهها تغنيني وتغنيها عن أي كلام .
حلمي ! حلمي ! قَتَلَني في الحياة ويطاردني في البعث الذي ما كنتُ أحسب أنـّه يكون بعد فناء، قتلني ويطاردني ، ولا أعرف ماذا أفعل الآن في هذا السكون وهذه الغبشة وهذا الفراغ الملتفّ على الساحة وعليّ وعلى الحفرة ، فلا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت ولا زوجة ولا ولد ، مقطوعاً ، مثلما سميّةُ كانت في العيش الأول ، من شجرةٍ ، أيـّما شجرة . تَذَكُّري لهم يضاعف من عدد ذنوبي ، وإلاّ فما هو هذا العبء الذي أحسّه يتثاقل على كتفي اليسرى ؟ فسحة التوبة ، سمعتهم يقولون ، قد أتركها خلفي، والشمسُ لم أرها تطلع من مغربها ، كما علّمونا في المدرسة ، وقلبي بارد كأنه قطعة ثلج بين ضلوعي ، فإلى أيّ جهات الأرض أتوجه الآن لأكسر عني حدّة السكون الذي لا أعرف له سبباً ؟
تدور الألوانُ المدوّرةُ في دوائر مغبّشة فلا أدري ما الذي يجري هنالك إلى الجنوب مني ، على تلّة ربّما هي التلّة التي دفنّا ميّتاً لنا تحتها في الزمن الأول . أحدّق النظر لحظات ولا أفهم ، فكلّ ما أعرفه للحظتي هو أنّ الثلج الذي بين ضلوعي له قرقعة محمومة في الضلوع.
أبو سليم
في الجبّانةِ القديمةِ الدفينُ على بقايا الدفين ، وفي جبّانة الشهداء في سينيق الشهداءُ أَدْرَى ، أمّا هنا في المقبرة المرحرحةِ قبورُها فلكلّ واحد حفرتُه ، لا ينـزل على أحد ولا يُنْزَلُ عليه أحد . هكذا شاءها الثريُّ الذي فتح الله عليه في السعودية فترحرحتْ أوضاعُه وأحبّ أنْ ينتفع بمالِهِ من أهل المدينة الأحياءُ والأمواتُ على حدّ سواء . مئاتٍ نقلتُهم إليها في سيارة الدفن قبل أن ينقلوني إليها ، فليتني للحظة واحدة ينكشف لي الغيبُ فكلُّ الذين نقلتُهم إلى الجبّانات الثلاث يظهرون لي لأتأكّد من أنهم جميعاً كانوا فعلاً قد ماتوا حينما دفنّاهم ، وخاصةًً امرأة جهّار الجُمَري التي من أوّل ما حملناها ونزلنا بها من الطابق السابع إلى مدخل البناية حيث التابوت ينتظرها ، إلى أنْ رفعناها منه في جبّانة سينيق وأنزلناها في الحفرة، من أول الرحلة إلى آخرها وشيءٌ فيَّ لا أذكره الآن بالضبط ظلّ يوسوس لي أنّ بها بقيّةً من حياة. دفنّاها وحملتُ الوسوسةَََ معي حتى دفنوني وتأكّدتُ أنني كنتُ ميّتاً بالفعل وأنـهم دفنوني بعد طلوع الروح مني ، وهي المسكينةُ لم تطاردني روحُها لتعاقبني على سكوتي عن شكّي بموتها ، فنمتُ في حفرتي نومةَ أهل الكهف ، لأستيقظ في هذا الفجر وتستيقظ معي الوسوسةُ فكأنها لم تنم أبداً وظلّت عليّ رصداً .
ليتكَ جئتَ بسيارتك معك ، يهتف بي من قلب الغبشة صوتٌ ليس بالغريب على أذنيّ . سيارتي ليست لبعث الموتى بل لدفنهم ، أجيبه وأندم، خشيةَ أنْ يؤخَذَ عليّ ذلك مأخذ الهزل في ساعة الجدّ . يطمئنني الوجهُ الذي له الصوتُ وإسمه على طرف لساني . يمسك بيدي ويقول الآن خُذْني إلى جبّانة سينيقْ التي دفنتَ فيها في العيش الأول أمي . أحدّق فيه الآن أكثر فأكثر . هو ابن الجُمَري ، ولكن ربّاه، ربّاه ، أيـّهم ، أيـّهم ، يكون، يكون ؟ بسيارتك أو بدون سيارتك الآن الآن خُذْني ، وتشير يده الأخرى إلى جهة سينيقْ. أفتح في الغبشة الطريقَ بأنفاسي وأرفع عن الأرض قدمي وأحطّها ، فأنا ، وإنْ لم أتذكّر اسمه الأول، فهالةُ النور الملوّن حول تمثال السيدة العذراء تقول لي بأنني أعرف لماذا إلى هناك نسير .
الطاحِشُ بْنُ عُتَيْبْ
أوّلُ التوبةِ ناديتُ عليها في العيش الأول ، طفتُ مدنكم وقراكم أنادي عليها وأحثّ الغافلَ والضجرانَ والمستهترَ والعابدَ الله على حرفٍ، طفتُ وطوّفتُ عقديْن من الزمان في خراباتِ حروبكم التي أضحت معابدَ قلوبكم ، هياكلَ ذكرياتكم وأمانيّكم ، حيطاناً في الهواء معرّاةً من وَرَقَةِ الترابةِ ، مخشوشنةً كأنْ لم تُمَلِّسْ عليها بِمَالَجِ التطيينِ يدُ البنّاءِ مرّة ومرّة ومرّة ، فاغرةَ مربعاتِ النوافذِ ومستطيلاتِ الأبواب ، كأشداقٍ نُسيتْ مفتوحةً على دهشةِ الليل والنهار ، طوّفتُ وناديتُ على أوّل التوبة وذكرتُ لكم وذكّرتُكم بشفاعةِ أنبيائكم ، أنْ أسرفتم على أنفسكم وعلى سواكم من الناس فلا تقنطوا من رحمة الله لأنّ الشفاعةَ من نعمه التي خصّ بها أنبياءه ورسلَه ، فاخْطوا الخطوةَ الأولى إلى النجاة بالتوبة من قتلكم بعضكم بعضاً بغيرحقّ ليتوبَ عليكم بارئكم ، طفتُ وطوّفتُ وناديتُ وحثثتُ، فشرّدتْ بكم نواياكم أيـّما مُشَرَّدٍ وأيـّما تشريد ، فبقلوبكم تابعتم الحرب بعد أنْ فُرِضَتْ عليكم السِّلْمُ فَرْضَ القادر على المقدور عليه ، بقلوبكم تلك التي أُبعثُ الآن لأناديها ، فهي المخاطَبُ من قبل ومن بعد وحتى يحلّ علينا الحساب . أربعون سنة بين النفختين في الصّور ، فلا تضيّعوا الفرصة الأخيرة عليكم ، وقد حلمتُ بها من أجلكم في آخر لحظات هجعتي في التراب ، حلمتُ أنني أنهض من حفرتي مبشّراً أهل البعث أنْ تعالوْا إلى توبة نعلنها جَمْعَاً وجماعةً ونجرّبُ هذه المرة تحصين توبتنا بشفاعةِ التي يحبّها ويجلّها المسلمُ والمسيحيُّ وليس على مكانتها في الإنجيل والقرآن خلاف ، أيّ خلاف ، نقطةََ انطلاق لحوار الديانات الذي لم نحاوِرْ فيه ولم نحاوَرْ ، فإنْ تمّ لنا التلاقي على هذا الخير وتَصَافَتْ قلوبُنا ونوايانا على طُهر السيدة العذراء يذهبْ بعد ذا كلٌّ إلى شفيع ملّته ليزداد بشفاعته تحصيناً لتوبته التي ، وإنْ تأتِ اليوم وكأنـّما فات أوانها ، فهي آخر مغامراتكم قبل بدء الحساب ، فالخلاص الخلاص بعيد عنكم ما أنتم بعدتم عنه .
يطوّح بالغبشة الهَرَجُ والمَرَجُ والهسهسةُ والصّفيرُ والصرخةُ من هنا والقهقهةُ من هناك فأغمض عينيَّ حتى لا أرى الوجوه المستنفَرَةَ تهجم عليّ من بين الوجوه المستبشِرَةِ ، أغمضهما ويتحرّك قلبي وشفتاي بالصلاةِ ، صلاةِ الشكر أنْ أُريتُ فصدّقتُ الرؤيا .
التلّةُ فوق سينيق تشهد العجيبةَ ، فالألوانُ المدوّرةُ في الهالة تستحيل قطرات قطرات كأنها دمعات دمعات ، بهذا وبسرٍّ غيرِهِ يُسِرُّ إليّ الهواءُ .
آيينْ شارونْ
الترابُ الترابُ الترابُ يرتدّ عني إلى فوق ، وحفرتي تنبع بالتراب من تحتي وعن جانبيّ ، فأتذكّر منطقة " الرمل العالي" قرب مطار بيروت صيفَ اجتياحنا للبنان ، أتذكّره بالمساحة الرحيبة والسّماكة التي لا تخترقها الأطنانُ المكثّفةُ من القذائف ، هطّالةً عليها من طائرات الرعب التي استبحنا بها سماءهم وأرضهم ، نرسم بها وبه خرائطَ جديدة أُبيح لنا رسمُها وإعادةُ توضيبها لأننا خلفاء داوود وسليمان وكلّ الأنبياء والملوك الذين جَهِدَ كِتابُ المسلمين لاستعارتهم من عهدنا القديم ليذرّ التراب في عيوننا فعسى أن نميل إليه ونؤمن به ونتّبعه سبيلاً جديداً ، الترابُ الترابُ الترابُ ينقص مرةً ويزداد ثلاثاً ، وأنا على نيّة النهوض ولا أنهض ، فالبعثُ قائمٌ بسواي الذين أحسّ وقْعَ أقدامهم فوقي، وممدّدٌ أنا ، يسبقني هذه المرّة الحَدَثُ ،فلستُ صانعه كما كان ينبغي أن أكون .
أشدّ على نيّتي بالنهوض ليفهم الترابُ أنّ إرادة آيينْ هي إرثه المنسلِكُ إليه من ظَهْرِ أوّل يهودي وطئتْ قدماه الأرض ، مُنْسَلِكٌ إليه بِسِلْكِ الأجيال المتعاقبة بلا فاصلٍ بينها ، فهو الإرث الذي تنتظره القيامةُ، ينتهي إليها ، لا لينتهي بها ، ولكن ليفعل فيها ما كان فاته أن يفعله في الأرض في العيش الأول . أشدّ ثانيةً على نيّتي بالنهوض فيتململ صدري وينكشح عنه القليلُ من العبء الرازح فوقه . أعبّيء صدري بنيّتي وأزفر الزفرة التي يزفرها التنين في القصص فتتناثر حفنات التراب وينـزاح عن المدى بيني وبين السطح العبءُ كلّه والانتظارُ كلّه فأنفض نفسي خارج الحفرة وأنتصب فوقها فاسخاً بين قدميّ فكلٌّ منهما على طرفٍ ، وأبصق في الحفرة أَنِ انتهى أسرُكِ لي وأنْ بنيّتي قادرٌ أنا على ترسيخ الإرثِ الذي إليّ أُوكِلَ به من ليلةِ سقطتْ في أيديهم القدسُ وأُعلنتْ عاصمةً لغير إسرائيل .
المقبرة ليست مقبرة آبائي ، فهل القبر إذن ليس قبري ، وإذن فهل أنا لستُ أنا ؟ من حولي تهسهسُ أصواتٌ وتتمايل أطيافٌ تمايلَ مَنْ تعتعه السُّكْرُ أو نال من عقله وحواسّه الخَبَلُ . تهسهس وتتمايل وتتحرّك الأطيافُ كأنها تتحلق حولي ولكنها لا تتقدم ، فكأنها تهمّ بالشيء ولا تهمّ، مذبذبةً بين النيّة والفعل . أقفز من فوق الحفرة وأرفع يديّ في الغبشة ليراهما كلُّ متردد مخبوء خلفَ طيفه .
في قانا اليوم مَبْعَثُكَ يا آيينْ ، فهل لا زلتَ تذكر قانا ؟ الأصواتُ تخلّتْ عن هسهستها . الأصواتُ الآن فحيحُ الريحِ في أوراق الخريف ، أذكرها لأنني طالما كرهتُها وكرهتُ من الأصوات الشاحبَ والناحبَ وما لا يصدر عن حنجرة مصلصلة بالرعد مشحونة بدويّ طبول الحرب . كرهتُها وأكرهها .
قانا ! قانا! قانا! لماذا في قانا ولستُ الآمِرَ بقصف الطائرات لها ؟ ذلك كان بعد انسحابنا من بيروت والطريق الساحلي وصيدا والجنوب ، إلاّ الشريط الحدودي . عناقيدَ الغضبِ كان اسمُ العملية يومذاك ، إن لم تكن ذاكرتي اختلط عليها الأمر لمرور الزمن ولكثرة العمليات . لماذا أنا ولا أحد سواي من جيش إسرائيل يختارني البعثُ لأكون شاهداً على هذه الطيوف الهاربة من مجزرة ذلك اليوم ، هاربةً لا تزال حتى من الذكرى، حَذَرَ هطول الرعب عليها ثانية من السماء المستباحة بطائراتنا ونوايانا ؟ إن كان عقاباً لي بعثي هنا فلقد أخطأ في حسابه الغيبُ ، لأنني سأرسم لغيبِ القيامةِ ما لم يكن يخطر للقيامة على بال . الآن الآن بنيّتي سأرسمها ، خريطةً لَحَدثٍ سيهنّئني عليه داوود وسليمان حينما ألتقي بهما هنا أو هناك أو هنالك في درب من دروب القيامة .
القدسُ سنسترجعها في مهلة الأربعين سنة ، وعاصمةً لإسرائيل سنعلنها ولو بعد فوات الأوان ، ولكنّ الذي لن يسامحني عليه الإرثُ الذي وصل إليّ وبه أُوكلتُ هو إخفاقي ، إذا أنا أخفقتُ، في النهوض إلى المسيح حينما يهبط علينا من نوايا الغيب، إذا ما صدقتْ تلكُمُ الكتبُ، إِنْ في زيارةٍ له لأمه التي تنتظره منذ ذيّاك الزمن أو لدعوتنا إلى التوبة ، نحن الذين مَكَرْنا مَكْرَنا فصلبناهُ وفي الكهف دفنّاه فَمَكَرَ مَكْرَهُ هو وهرب بجثته منّا ليظهر لبعض تلاميذه ويطلقهم بعده أحراراً في الأرض يبشّرون بالخلاص به هو ، لا باليهودية التي سبقتْه وبقيتْ بعده وستطارده قبل بدء الحساب لتصفّي حسابها معه حتى لا يُقال إنه كان بمقدور أحد أن يُفلت من هيمنة نوايانا ، إنْ في زمن النشأة الأولى أو في زمن النشأة الأخرى ، سواء بسواء.
قانا ! قانا! قانا! الآن فهمتُ لماذا الآن ، ولماذا هنا ، ولماذا أنا ، فهمتُ فهمتُ فهمتُ الآن .
الفصل الثانـي
أبو العلاء
طـيفاً علـى الفجـر الشفيفِ حسبتُه لمـّا رأيـتُـهْ
مِنْ قَبلُ لا لَـمْ ألْـقَـهُ فبـأوّلِ البعثِ الْتقيتُـهْ
لامستُ، عفوَ أريجهِ، الطّيـبَ المُبـاحَ وما لمسـتُـهْ
وسُقيتُـهُ، والكأسُ خـاطرةٌ، فليتَ بـها سَقَيْـتُـهْ
هاج الحديثُ ولم تَقُـلْ عينـايَ إلاّ ما كتمتُـهْ
أهو الحيـاءُ أم المشيـبُ أم الذي سـَفَهاً حسِبْـتُـهْ
عِلـَلُ الهوى لأبي العَلاَ لَهَفَتْـهُ لمّـا أنْ لَهَفْتُـهْ
عمرُ المراهقةِ المسـوَّفُ لم أَعِشْـهُ، اليـومَ عِشـتُـهْ
طِيباً يبـرّح مُجـتـنيهِ فليتني الطّـِيبَ اجْـتَنَيْـتُـهْ
كَسَبَ الهوى ما قد خَسرتُ، وما خسرتُ وقد كسبتُهْ
أبقَـيـتُـهُ طيفاً يعـذّبني فعـذّبـني وحُـطْـتُـهْ
يا ليت أ نّـي ثـوبَـها المترهِّبَ المسكونَ كُنْـتُـهْ
فيـسومَني مـا لستُ أدريـه ولا يـومـاً عرفـتُهْ
عَـبَـقُ الحبيبِ لَوَ اْنـَّـهُ التعـذيبُ ثوباً لارتديتُهْ
إستغشيْتُ بالغبشة وبانكتام الصوت مني فأفلَتُّ من عينيْ دانتي وأذنيْه، وها ميلي سابغٌ إلى اليقين أنه لم يستشفّ الذي انطوى عليه صدري من ميوعةِ حلمي بها، لا ولا ميوعةِ الشِّعْرِ التي تنهض بقلبي وتحطّه وتتخلّل به ضلوعي فتحيله إلى مثل الريشة التي في مهبّ الريح، لا تستقرّ على حالٍ من القلقِ، كما وصفها في شعره المتنبي، أو تجعله أشبه بغرفةٍ وصفها بعدي بقرونٍ شاعرٌ مثلي من سوريا، تنكشف لي اللحظةَ بالحدس كلماتُهُ التي تقول:
لي غرفةٌ في دروبِ الغيمِ عائمةٌ على شريطِ نَدىً تطفو وتنـزلقُ
ولكن تباً تباً لسذاجتي وتباً تباً لشيطنة هذا الدانتي، فالابتسامة التي تعي كل شيء وتغفر كل شيء تعود وترتسم من جديد على شفتيه. تُراهُ حَدَس الأبيات التي في السرِّ والصمتِ نُظِمَتْ في خاطري على غير إرادة مني؟ وهل أخذه الإشفاقُ على ما آلت إليه حالةُ شاعرِ رسالةِ الغفرانِ واللزوميات وحالةُ الرجل الذي في الشاعر؟ أيّ سقوط هو ذا ! أي سقوط!
لغةُ المراهقَةِ المُـهَلِّـلَتي تُـهَـدِّمُ ما بنيتُهْ
من جَزْلِ شعرٍ طائرٍ في الجوِّ للمجدِ ارْتقيتُهْ
يا بؤسَ مهزلتي بهذا الشعر في بعثي نظمتُهْ
والإشفاقُ عليّ لا يأتيني الآن منه، هذا الذي كان من الموج بعثُـهُ، بل من تلك الشابّة الغريبة الجمال التي مرت كالطيف، فارتمى خلفها كالملهوف ينادي بالصوت الجريح: بياتريسْ! بياتريسْ!
دانـْـتي
بياتريسْ! بياتريسْ! يتلهّف صوتي خلفها ويترقرق في ثنيّات الغبشة قلبٌ لي كان تجمّد فهجع في ثلوج انتظاره لها، منذ توارت ووصيفاتها عني وتَرَكْنَني في فراغ الفردوس التي بدونها هي لا تُداس. لا تلتفت القاسيةُ إليّ وتمضي في سبيلها وكأنّ لخطواتها إرادةً خارجةً عن إرادة سمعها. بياتريسْ! بياتريسْ! يتلهّف خلفها صوتي عاتباً في غير استنكار، فذلك ممّا لم تكن تحبه هي ولا ممّا تستسيغه، إن لم تخني الذاكرة، نساءُ أوفيدْ في كتابه "فنّ الهوى"، فوحده الإلحاحُ الشجيُّ للعاشق مباحٌ مستباحٌ، وما نبرةُ الصوت في مناجاة المعشوقة إلا الوَتَرُ بهِ تُقاس اللهفةُ التي هي دليل القلب إلى القلب.
الهالةُ المعبّقةُ بالنور الملوّن تبدو وكأنها ترتقي عن سطح التلة قَدْرَ تلة. إشارة هي لي من الغيب، تهجس بي نفسي، ليكتمل في خاطري الإيحاءُ بما عليَّ فعلُـهُ ليظل دانتي دانتي ولتظل بياتريسْ بياتريسْ.
أصابع يدي تسبقني إليها، تتحسس الفراغ الذي لا يزال بيننا، تقلّصه لهفةً لهفةً، فليس هو أبداً من حساب المسافةِ. أصابعُ يدي تسبقني إليها، بل تكاد تكاد، بل هي لا تتحسس طرفَ ردائــها ولا تتمسّح بمسحة كتفيها. تكاد ولا تكاد. والوَتَرُ الذي به تقاس اللهفةُ شجيّاً لا يزال، لهيفاً لا يزال، كما لم يعرف اللهفةَ في عمره الأول أبو العلاء، اللهفةَ التي الآن يُكشف له عن مذاقاتها في رهبانية الثوب الخافق بساكنته. أصابع يدي تكاد وتكاد وتكاد.
ويصمت جسدُها عن المسير، فيصمت جسدي، ويستدير إليَّ منها وجهٌ كأنّه الوجهُ الذي خلفه يتلهّف صوتي وأنفاسي وأصابعُ كفيّ. من الوجه الذي كأنه، يخاطبني فمٌ مشغوفٌ بالشفقة، لا عاتباً ولا مستنكراً، أنْ أخطأتَ ضالّتـَكَ أيها الحالمُ الهائمُ، فما أنا إلاّ الجميلةُ دامو، كما كان يحلو لأبي فيثاغورَسْ أن يناديني في الزمن الأول. دامو أنتِ؟ يستجديها الحقيقةَ مُنْخَذِلُ الصوتِ مني. الجميل العجيبُ الجمال، رأسُها، يهزّ بالحقيقة إليّ. العجيبةُ التي كان يُحْدِثُها القديسون تحدث اللحظةَ لي، لي أنا، فارتعاشةٌ لا تنتهي هو جسدي، ارْتعاشةٌ لا سواها، فلا عضلَ ولا عِرْقَ ولا لحمَ ولا شحمَ ولا عصبَ، ارتعاشةٌ حدسيّةٌ أَنْ إِِِنْ هذه الدامو إلاّ المرأةُ الحجابُ، وأنْ خلف الحجابِ المرأةُ التي هي ضالّتي، مختبئةً مني، مستترةً عني، بهذه اليونانية التي قرأتُ مرةً أنّ أباها كان أرسلها إلى صيدون لتلقّي المعرفة في معاهدها والتمرّس بفنون العيش الذي ابتدعه لهم إلـهُ الصحة الفينيقي أشمونْ. ينصرخ من إرتعاشتي الصوتُ الذي لا أفهم كلماته ويرتجّ جسدي وهو يعود إليّ فأخور على ركبتيّ وأرفع إليها يديّ أستجدي منها الجمالَ أن ينخلع عن الجمال الذي خلفه لتظهر القاسيةُ الحبيبةُ بياتريسْ فيعود لفردوسي طعْمُ الفردوس.
المختار
خلفها خلفها أدور حول الجمّيزة، أدور أنا هذه المرة، أبحث عن رصدي الذي تمنّيتُ في العيش الأوّل بَعْثَهُ تحت الشجرة التي كنتُ حفرتُ في جذعها مخبئاً لي ولها من أعين الجيرة وأعين الملة الأخرى، أدور حتى يرقِّقَ جسدي الدورانُ فيشفَّ ويخفَّ وأحسّني أطفو في الهواء المغبّش وأطفو، فالجاذبيةُ ليست إلى التراب تجذبني، فلعلها، ها لعلها استبدلتْ مركزيَّـتَها بأخرى واستعاضت عن مسارها بآخر، فَـأُفُقِيّاً أحسّني أنجذب، وجنوباً جنوباً، على طول شارع رياض الصلح، تنسرح بيَ المسافةُ، تهفهفني نحو صيدون هفهفهةً هي الآن الحركةُ الوحيدة لجسدي المحرَّمِ عليه إرادةُ الوطءِ أو الوقوفِ أو حتى التمسّكِ بهدبةٍ من هدب الغلالة التي تتغلّل بها الطافيةُ في الهواء أمامي أمامي، الرّصدُ الذي هو ماريّا ماريّا ماريّا.
تجوز، وأجوز خلفها، مطعمَ الجمري، وجهّارُ لم يُبعث مثلنا في أرض الجيرة فليس من أثر له ولا لبنيه، والطاولات والكراسي مفرودةٌ تحت شجرات البلح، على كل طاولة شرشفٌ مربعاتُهُ حُمْرٌ أو خُضْرٌ، ولا شيء لا شيء إلاّ الذكريات تطوف في أرجاء المطعم كأن العيش الأول لم يندثر بفعل الفناء بل تغيّر وتطيّف فصار أشياءَ أشياءَ مثل صدى الأطياف، لا مثل الأطياف، لأنها، الأطيافَ، أغزرُ كثافةً من صداها، ثم تجوز ماريّا، وأجوز خلفها، مطعم وملهى الكازانوفا عند نقطة التقاء الشارع بزاروب الشيخ مراد الذي في أوله محل البقالة لكسّاب ابن جهّار، وكسّاب هو الآخر لم يُبعث في أرض الجيرة فليس من أثر له ولا لبنيه، ثم في انجذابةٍ أسرع من فعل السحر نعبر البنايات والمحلات المصفوفة على جانبيْ الشارع في أول المدينة، ثم ما هي إلاّ الخطفةُ حتى يصبح خلفنا جامع الشمعون وجامع الزعتري وساحة النجمة، وعند الشارع المتفرّع من الشارع الرئيسي للمدينة، غرباً غرباً نطفو في الهواء الذي تزداد غبشتُهُ كلما اقترب بنا طَفْوُنا من بوابة الجبّانة القديمة، ثم إذا بي وبها في ممرات الجبّانة، لا يفصلني عنها غير مدى نَفَسٍ مُجْهَدٍ، ثم تحوّم مرة ومرة حول حفرة من الحفر وتحطّ قدماها على تلة التراب القريبة، مطأطأةَ الرأسِ طأطأةَ الخيبةِ وتلبث في مكانها هنيهةً كأنها الدهر فأحسب أنها نسيتْني فأعجب، لا من نسيانها لي، بل من معنى المسافة التي عبرناها على غير ما نيّة واضحة ومن معنى الحفرةِ المجهولةِ الساكن، مجهولةِ الساكن لي على الأقل. الغبشة تلفّ وتدور فأعرف أنّ الغيب يهيّئني لكشفٍ غريبٍٍ عليّ غرابةَ البعث الذي لا أعرف مبتدؤهُ من منتهاه. ثم تنفرج شفتاها عن السرّ الذي كنتُ أتمنى لو كانتْ نسيتْـهُ هي ونسيتُه أنا، تنفرج شفتاها بأَنِ احْتجتُ إليكَ أنتَ، أنتَ بالذات، في رحلتي إلى الجبانة القديمة، لأنك مختار جيرتنا، لتكون لي عوناً في بحثي عن الذي اختبأتُ معه مرةً في بيتك بعد زواجنا خطيفةً في العيش الأول. سارِبْ الهيُّوبْ تعنين؟ أسألها متظاهراً بالنسيان. تتغلغل في ثنيّات الغبشة والمسافة، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، عيناها المحيَّرتان في تطوافِ المشغوفِ المروَّعِ الملتاعِ .
جهّار الجُمَري
أنـّـةٌ ليست من حنجرةٍ شاخت أو حتى اكتهلت، نديّةٌ كآهةٍ منشنشةٍ بالعِتْقِ، عتقِ الدمع الذي لا يأخذ مسارَ الجفون ومُنْزَلَقَ الخدودِ، بل الذي يداري نداوته بنداوته فيحتفظ لِذاته بكل خصائص ذاته، فيظل دمعاً لا يسقط ولا ينـزلق ولا يذوب، أنـّـةٌ أَبسط من أن تثير فاجعةً ولكنها تلفتني إلى مصدرها، فإذا هي نداءُ مشغوفةِ الشَّعْرِ لشابٍّ يلتفت إليها وتحدّق فيها عيناه الصريحتان بإنكار معرفةٍ أو بشراسةِ نسيان. كم من المرات حُدِّثْتُ عنكَ في العيش الأول، يستجدي الشابَّ نداؤها، وما صَدّقَتْ أذناي ما تؤمن به اليوم عيناي، أيها الساربْ الهَـيُّوبْ، الهيّوبْ الساربْ، الذي ربما سمع بِاسْمِ هَتونْ مرة ولم يَلْقَها ليتذكر اليوم صوتها أو حتى من ملامحها ملمحاً. سُقِيَ شبابُك من نهر الكوثَر ! ووداعاً وداعاً، فعلى اسْمِ جهّار الجُمَري سحبتْني أصابعُ نهرِ الأوّلي فجرَ سحبتْني، وعلى اسمه بُعِثْتُ لأنه هكذا تمناني، وعنه الآن أبحث لأبغتَهُ بهتونيّةِ شبابي وأنظر إلى عينيهِ تستحيلان إلى بركتين من دم هو أغلى عليَّ من دمي، ولعلهُ، إذ يراني أراه وأحبّ فيه ما أراه، يأخذني من الأرض، يرشقني في الهواء، وبجهروتهِ يرفعني، ممددةً كالأفق، كفٌّ له مملوءةٌ مني بعجوةِ كتفيَّ والكفُّ الأخرى مملوءةٌ مني بعجوة القمرِ. هكذا كان يقولها لي. هكذا. هيّوبَـتُـهُ الهتونيّةُ أنا، فاذهبْ، أيها الساربْ، إلى ضالّتكَ، فلعلها تبحث عنك في مكان آخر الهيّوبةُ الأخرى التي تعشّقتْ مرة، أو تتعشّق الآن، هيّوبيّتك.
الظنون المجنونة تفلت من صدري وتنسرح عني في أرجاء الجبّانة القديمة. راكعاً أظل في مخبئي خلف جذع الشجرة القريبة من حفرتي، حتى إذا ما خطواتُها أخذتْها أبعد من مسافة الخطوات، أشهق شهقة المختنق لأملأ بالهواء رئتيَّ، فأغلب الظن أنني لهنيهةِ المشهدِ، أو لهنيهتين، كنتُ نسيتُ شهيقي والزفير.
سأجدها! يجهر الصوتُ مني بغضب وعتاب، سأجدها مهما بعثرتْها عني هواجسُ الظن والوسوسات.
أبو العلاء
كاسيـَةُ الجسمِ عاريةُ الصوتِ العابـرةُ بي
تحـدّث عينيهِ بلسـانـهـا وشـفتيها
وبخمسـةِ أضـلـعِ حبّـةِ اليـاسـمينْ
تحدّث أصـابـعُ يـدِهـا أصـابعَ يدِهِ
وهو على يسارها سياجٌ من غضب الشوكِ
هكذا فاض بالشعر خاطري من لحظات، يقول لي الشاعرُ الفتى، فوصفتُهما في أقل الكلمات، وحينما غابا عني تمام الغياب عتب عليَّ خاطري أن أكون انتبهتُ منهما إلى حركة الصوت والأصابع كفعلٍ حَدَثيٍّ أساسٍ وغَضَضْتُ الطرف عن الحيّز المكانيّ والحيّز الزمانيّ اللذيْن، لو اكتنفا في أثناء القصيدة حواريّةَ الصوت والأصابع، َلأَعارا الحواريّةَ من ثراء حضورهما بُعْداً ليس الآن فيهما، فإطارُ المكان والزمان، يصرّ الفتى على الشرح لي، يعرّي المشهدَ من طفوةِ المفرداتِ فيجذّر للقصيدة دلالاتٍ في تراب المكان وفي حركية الزمن في التراب.
أحسّ بجبيني تتزاحم عليه التجعداتُ وبحاجبيّ تضيق بينهما المسافةُ، فيرى الفتى ما أحسّ ويرتبك. أبسط له البشاشةَ التي تحسبها العربُ أوّلَ الضيافة وأنزهَ القِرى، أبسطها له كما لو كان واحداً من شبّانِ العمر الأول الوافدين عليَّ ليأخذوا عنّي العلم الذي به اشتهرتُ فـي زماني. يحاول الشعرَ الفتى ولا يَزِنُ ولا يقفّي، ولكنه يحاول بفرحة الذي يكتشف سِحْرَ السَّـبْكِ وضبِّ الكلمات على بعضها، على طريقة أهل عصره، في أغلب الظن. أأضرب صفحاً عن طريقته الغريبةِ على أذنيّ أم ألفتُه إلى ضرورة الأخذ بالوزن والقافية؟ عمود الشعر لم يكسره الفناءُ في خاطري، ففي القيامة قام معي، تامَّ التفعيلات في الأوزان كلها. أألفتُهُ إلى ضرورة الإلتزام بما التزم به أهلُ عصري فأجرّه إلى الإعتراف بالتقصير أم أتركه على هواه؟ شيءٌ فيّ يعطفني إلى انتظامه ونفسي ببشاشة العرب لتكون البشاشة، حتى في البعث، أوّلَ الضيافة وأنزهَ القِرى.
لَمْ تتفضّلْ عليَّ برأيكَ بعد، يا أبا العلاء، يستحثّني وينتظر.
شِعْرُكَ، أيها الشاعر الفتى، أخاطبه ولا أتم، ففي مثل انسياب الطيوف تنساب أمامنا عاريةُ الصوتِ وسياجُ الغضبِ، عن يمينها هو هذه المرة.
تـرحالـُكِ عني معه حـِلٌّ فـيَّ
فليتَهُ فيكِ حِلٌّ ترحالي عنكِ يا صبيّهْ
يرتجلها، الكلماتِ، لتوّه، فيخفق قلبي بالراهبة التي إليها إليها، حين عنها رحلتُ، كان الرحيلُ. عنّي تأخذه خطاهُ بعيداً، لا في إثرهما كما كنتُ أتمنى، ولكن في المسار المعاكس، وكأنما ليلزم نفسه بخاطرةِ الترحال عنها.
أعجب لهذه العلاقة الغريبة بين المشهد والشاعر واللغة وأكاد أن أكمل حديثي لنفسي. أقول أكاد، لأنّ دانتي يسرع إليَّ صوتُهُ ممزوجاً بضحكاتِ امرأةٍ أكاد أقول، بلغة الشاعر الفتى، أنها عاريةُ الصوتِ حتى قبل أن ألتفت إليهما لأراها.
دامو
الطبيعةُ التي كوّنتْ على نَسَقٍ واحدٍ دامو وبِياتْريسْ شاءت لدانتي أن يلهو خيالُهُ بتصوّري قناعاً تلبسه اليوم حبيبتُه كما لو أنها ممثّلٌ يؤدّي على مسرح الإغريق دوراً لشخصيّة من شخصيات سوفوكليسْ أو أَرِسْتوفَنيسْ. تُضحكني فكرةُ أن أكون قناعاً لإمرأةٍ أخرى، أنا التي عَـرَّتْـها الطبيعةُ من زيف الأقنعةِ التي كانت تتزيّا بها المقهوراتُ اللواتي حظّهنّ من التربية لم يكن مثل حظّي. بثقافةِ أبي ريضَ عقلي، وحبُّه لي حملني إلى الشاطئ الصيدوني لأتلقّى في معاهد المدينة الفينيقية بقيّةَ ثقافة العصر، لأُثْرِيَ شبابي، على غرار الصيداويات من عمري، بنهجٍ للحياة انتهجه لهنّ إلهُ الصحة أشمونْ، ذلك الرافعُ معبدَه على ضفّة النهر، في الوادي الذي بساتينُهُ معاهدُهُ، وأشجارُهُ ونباتاتُهُ وعُشُباتُهُ فلاسفتُهُ وشعراؤهُ، وهمسُ الموج من نهره آناً وهديرُهُ آناً، وجوقةُ الريح والنَّسَمِ، والزقزقاتُ السابحاتُ في جداول الريح والنَّسَمِ، كلّها كلّها الدروسُ التي بها كانت تُسْتَهَلُّ فصولُ المعاهد، بها وبها وبها، لأنّ أشمونْ سنَّ لهنَّ السُّنَنَ ولأنّ صيدونهنّ كانتْ لها فرادةُ المدينة التي كان ملوكُها شعراء.
لو كان رآني دانتي أسبح وزميلاتي في ذلك الزمان لتصوّر صفاء النهر غلالةً نقنّع بها عُرْيَنا. ومن يدري، فلعل كلَّ الناهضات من حفر التراب سيراهُنَّ اليوم أقنعةً لبياتريسْ وسيلحق بهنّ مستجدياً منهنّ الجمالَ أن يخلع نفسه عن جمال التي خلفه لتظهر له هي بذاتها، بياتريسْ، التي، يقول لي، تركتْهُ ووصيفاتها خلسةً في كتاب الفردوس، فهو في الحياة والموت والبعث المتجدّد إمّا ينتظر إيابهنَّ وإمّا يبحث عنها وعنهنّ في عرائس البعث المتجدّد اللواتي منهنّ أنا. أشفق عليه وأماشيه خطوات إثر خطوات، أخفّف عنه هَيْجَةَ الولع وأقول لعله يلتقي بها فجأة فيريحني ويرتاح. أشفق عليه، ومن نفسي أضحك، ففي مثل هذه المواقف أتذكر أَرِسْتوفَنيسْ الذي علّمني الضحك، وما ضحكتي التي تهدهدني ولا تتوقّف إلاّ لَذّتي بأنني أشعلتُ في العاشق حنينَه إلى أخرى وأنني، عرف ذلك هو أم لم يعرفه، أَجْـتَني من المتعة ما تجتنيه النساءُ عادةً وهنَّ يغازلهنّ رجالُهنّ الحالمون بأطياف الأخريات الأخريات.
ضحكتي تهدهدني وتلفتُ إليَّ ذلك الرجلَ الذي يخاطبه الآن دانتي. أنظر في عينيه المخضلّتيْن، هو الآخر، بنداوة الحلم وأشهق، لا من الهلع لما أراه، ولكنْ خشيةَ أن أصير لعينيه القناعَ الذي به تتحجّب عنه التي ملء قلبه وملء خياله. تكرّر نفسَها الطبيعةُ التي أنبتتنا، ولا عجب، فالعجب كلّه أنه لا يشيل عينيه عنّي وكأنه يرى امرأةً لأول مـرة في حياته، ودانتي يكـاد يفقد صوابه كلّما نـادى: أبا العلاء! أبا العلاء! ولا يلتفت إليه الرجلُ وكأنه بُعِثَ بلا أذنيْن.
جئتُ بها إليكَ لتحلّ ليَ اللّغزَ الذي أصلُهُ في الحجابِ، لا لتتملاّها وتنساني، يصرخ دانتي بأبي العلاء. أوميء بعينيّ ورأسي لأبي العلاء أن يحوّل عينيه إلى دانتي فترفّ جفونُهُ ويلتفتُ إليه. جئتُ بها إليك لتحلّّ ليَ اللّغز الذي أصلُهُ في الحجاب، يصرخ به الأوّلُ. أيَّ حجابٍ تعني، بربّك، أيَّ حجابٍ؟ يسأله أبو العلاء. تسألني أيَّ حجابٍ، ورسالتُكَ الغفرانية هي الحجابُ الفنيُّ الذي لم يُسْبَقْ في ثقافتكم إلاّ بحجاب؟ يرفع صوته دانتي باستنكار.
- رسالتي سُبِقَتْ بحجاب! أيّ هراء إيطالي هو هذا الهراء؟
- نسيتَ حجاب المرأة الذي سبقَ رسالتك الحجابيّة وما جـرّه على الفقهاء وعليكم مـن خصومات؟ مَنْ سواكم، بربك خبرّني، مَنْ سواكم يفهم قصص الحجاب وألغاز الحجاب؟
- عن قصة حجاب المرأة لا تَسَلْني، فلقد مضى عمري الأوّلُ في حجاب العمى الذي هو أدهى حجاب.
- تأمَّلْها لحظة، لحظتين، وعلِّمْني كيف أنزع عن بياتريسْ الحجابَ الذي هو دامو الواقفة أمامك وفي عينيك.
أنسلّ في ثنيّات الغبشة بعيداً عـن حوارهما، فمن الحواريّات يكفيني مسـرحُ الإغريـق! حدائق صيدون وبساتينها ملء ذاكرتي. تناديني الأرضُ القديمةُ والنهرُ فتحثّني خطاي إلى وادي أشمونْ، ومَنْ يدري فلعلني ألتقيه على الضفّة تحت أغصان شجرة، ذلك الشاعر الذي كان تمدّد لي وتمدّدتُ له على المعبر الحجريّ في ضوء القمر.
جهّار الجُمَري
ليس باليقين وحده يحيا الإنسان، ولذاك أغذّ الخطى خلفه، على غير ما تَيَقُّظٍ منه لملاحقتي له، فعيناي عليه تارةً وتارةً في إثرها هي الذائبة في شفيف الغبشة وثخينها، فلمحاتٍ لمحاتٍ تختفي ولمحةً تطلّ، أو تكاد، كما القمر في ليالي القمر يتلطّى بغيمة داكنة حتى يوئسك من ظهوره، فإذا يئستَ خالجك طيفٌ له من خلف سحابة أرقّ من الطيف، فأنت أبداً أبداً محمومٌ بتنازع الشك واليقين فيك وتنازع اليأس والأمل. ليس باليقين وحده يحيا الإنسان، أعيدها على نفسي وأقرص فخذي بإصبعيَّ ليقول جسدي لنفسي أنني معها في حالة عتاب. أجل أجل تعاتبني نفسي على حملي معي من العيش الأول إلى القيامة أفانينَ الظن والشك بإخلاص المرأة للرجل وبولائها الأنثوي له وله وحده، وأجبهها لا أزال بجهروت عنادي أنّ المرأة كائن حائر تستدرجه كلُّ النداءات، فهي تسبغ على غير رَجُلِها جسدَها إذا شاءت، وإذا عَفَّتْ لا تنكر على مستدرِجِها اقتناصَه اللََّمَمَ من مفاتنها. وأين، أين، أجده اليوم، عازر الديّار، لأذكّره بما كان يتمتم به، كلما أخذ عليه الشرابُ، من أنّ المرأة مشتتة النوايا، نوازعُها على عدد أعضاء جسدها، وكل عضو فيها تهفّ إليه وتطير به ريحٌ من هنا وريحٌ من هناك وأرياحٌ مجنونة من كل مكان. وعلى أخْذَةِ الشراب عليه في خلوات شرابنا، كانت تبوح عيناه المُجَمّرتان بما لا تكاد توضحه شفتاه من أنّ من أحاييل المرأة، إن لم تنل ما تتشهى في الحياة، أن تتمنّى على نوازعها النسوية أن تنيلها متشهياتها في القبر قبل أن يحلّ عليها الفجرُ، وذلك بدخول حفّار القبور عليها أو عاشقٍ لها انْـهَوَسَ بها كان في الزمن الأول، كما في الحكايات التي ترويها الأجيال للأجيال.
ولكن فات أوان ذلك الآن، فالقبور نبشتْها القيامةُ والتراب ذرذرتْهُ اندهاشاتُ اللحظةِ بها، والموتُ انتهى زمنه، ولم يبق لنا إلاّ الأربعون سنة ما بين النفختين في الصّور، ربما لتطول في ذاكرتنا مذاقاتُ العيش الأول قبل حلول ساعة الحساب، وربما لِنُفْتَنَ بالشك في نوايا الغيب، في احتمالات الجنة والنار والخلود هنا أو هناك. الشك والشك والشك، أليس هو من مكر الليل والنهار الذي كنّا خبرناه؟ وهل للقيامة يا ترى مكرها هي الأخرى؟
أطرح أفكاري على التراب وأدوس عليها، ثم أمرّغها به وأغمسها فيه حتى لا تلاحقني من جديد، أغمسها وأنعطف خلفه، ذلك السارب أمامي، وقد تباطأتْ خطواتي حتى لا يحسّ بقـربي منه وانحسـرتْ مني أنفاسي حتى لا تحملها إليه نسمةٌ أو هبّةُ هواء أو إلتواءةُ غبشة. خطتي بالإختباء من هَتونْ خلف جذع شجرة قريبة من حفرتي نجحتْ ومَسَّكَتْني بطرف اليقين، ولكنه يقين ملفوظٌ بكلمـات ومحفـوفٌ بحوارٍ مع هذا الهيّوب السارب أمامي لا أدري إلى أين. نِسْوَتي ونِسَوِيَّاتي علّمتني أن الكلمات بين اثنين قد لا تكون إلا حجاباً لسرٍّ بينهما ليس على يقين منه ثالثٌ لهما أو رابع. فَمَنْ إذن، بحقّ باريء الغيب والقيامة، مَنْ يخبّرني إن لم تكن هَتونْ والهيّوبْ استسرّتا في ثنيات حوارهما موعداً للقاء في مكان لا يفصح عنه ملفوظُ الكلمات؟
يتمهل في سيره ثم يكاد ينعطف أو يستدير وكأنما ليعود أدراجه إلى حيث كان استوقفهما من قبلُ الحوارُ. أهمّ بالإستدارة لأعطيه ظهري فتندفع به قدماه من جديد، هذه المرة في مدى متعرّجٍ وكأنما ليضلّلني. ولكنّ مثلي لا يَضِلّ ولا يُضَلَّـلُ، بعد ذيّاك العمر الأوّل. ألتفت إلى حيث أظن اتجهتْ هَتونْ، وما من أثر لها ولا من وعدٍ لأثر. ألتفت إلى المدى المتعرّج فإذا الهيّوب انسرب انسراباً غيابيّاً إلى حيث لا يدركه تحديقُ عين ولا تشي بمنسربه شفيفةٌ من غبش.
ديفيدْ مُرْدَخَايْ
في أغرب الملامح وأشدّها قسوة كنتُ تخيّلتُهُ زمن اجتياحنا للبنان. ولكم هُيِّئَ لي أنني لمحتُه في مشاهد مخفيّة عن أعين جندنا النابشين كل الحارات القديمة بحثاً عنه وعن شبّانه، يعطيهم كلمة السرّ، نظرةَ عين أو خلجةَ جفْن أو فقشةَ إصبعيْن، ويغور من لحظته في سرداب من السراديب الفينيقية التي تصل باطنَ المدينة المسوّرة بمنسرحات البساتين الممتدة شرقاً حتى تلال القرى، وشمالاً حتى معبد أشمونْ على ضفة نهر الأولي، وجنوباً حتى أطراف سينيق المظلّلةِ بتمثال السيدة العذراء، يغور وكأنما ابتلعتْه الأرض، ويذوب شبّانُه وكأنما في حيطان البيوت لينقذفوا منها رُسُلَ الموت على دورياتنا في الأزقّة التي لا تعرفها أشعة الشمس في صيف أو في شتاء، وشهوراً أطول من كل الشهور المتعاملون معنا من أهل المدينة ضيّعونا بتخيلاتهم التي كانت دائماً تستدرجنا إلى غرفٍ خاوية في بيوت نخرة وإلى حمّامات لا أثر فيها إلاّ لرائحة الصابون. حتى الكابتن ماردكوشْ لعبوا به حتى أنهكوه، بل هم زادوا فطرشوا الحيطان برسومٍ له مُذِلَّةٍ كالتي جعلوا فيها رأسه رأسَ فأر وجسمَه جسمَ كلب والرشّاشَ ربطوه بالذّنَبِ، فكان المسكين لا يطالعه حائط بصورته الكاريكاتورية إلاّ ويطرشه برصاص رشّاشه، فيتناثر الذين يرونه من المارّة في كل اتجاه طلباً للنجاة من رصاصه وجنونه.
كل ذلك وأبو طاهر كالهاجس الساكن أرجاء المدينة، حاضراً غائباً، لا تنشقّ عنه أرض ولا ينفتق عنه حائط ولا يهبط به سقف، وهو فيها كلها، لأنها كلها تختلج بملامحه التي ظلّت تشتد قساوة في خاطري حتى تمنّيتُ لو أننا لم ندخل المدينة فاتحين ولم نحرّك في رماد تاريخها الجمرَ الذي أحرقتْ به نفسها في الزمن القديم مرتين. أبو طاهر صار الجمرة التي تحت الرماد، وخطرُ الجمرة لم يكن ليخيفنا لولا أننا فقدنا حاسّة اللون في مدينة خلعت عنها كل ألوانها وتلفّعت بالرماد.
أنفض كل خواطري عن عينيّ وألتفتُ إلى الحيث الذي أظنّ منه جاءني صوتُه صارخاً باسمي، فإذا هو القامة التي ملء نفسها وإذا الصوت من القامة يخاطبني بأنْ ها أنتَ تلقاني بعد طول عناء، فهل عرفتَني الآن يا مردخاي؟ عرفتُكَ! عرفتُكَ! يا أبا طاهر، تكاد حنجرتي بالكلمات تبوح. ملامح وجهه ليست بحجم الصرخة التي بها نوديتُ، فهل الصرخة من احتمالات الأوهام المولودة في العيش الأول؟ في وجهه ابتسامةُ العارفِ بكل شيء، الغافرِ لكل شيء، وإذن فأغرب الملامح وأشدها قسوة لم تكن إلاّ، كالصرخة، من صنع الخيال. وإذن فهو البعث الذي عجائبُ يقينه أغربُ من كلّ عجائب الدنيا التي خَبِرْناها وخبرتْـنا في الزمن الأول.
لو كنتُ بُعثتُ في مقبرة جدي لاستذكرتُ معه أحاديثَ لنا عن البعث والقيامة ولكنتُ آنستْني منه إشراقةُ العقل، كما اللحظةَ، على الرغم مني، تكاد تؤنس فيَّ شيئاً خفيّاً هذه النورانيّةُ اللطيفةُ، تطوف بوجه أبي طاهر أم منه تشعّ لا أعلم علم اليقين، فعيناي إليه تخفّان وعنه ترتدان فلا أحوط منه إلاّ هذا الحضور المنادي، بل أنا أنا المَحُوطُ بهذا الحضور المنادي المنادي، بماذا لا أعرف، ولكنْ في صدري تتحرك أشواق مبهمة وتنهض بالقلب مني إلى حنجرتي، تحرّقها ولكن لا تمنعها الهواءَ الهابط فيّ الصاعدَ مني أنفاساً رقّتْ بالتحرّق حتى لم تعد كعهدي بأنفاسي، فكل شيء يخفّ فيّ وحولي وتكاد قدماي لا تطآن التراب تحتهما، مثلما في أيام الشباب حينما نتبارى في ركض المسافات الطويلة حتى إذا ما انتهينا إلى نقطة النهاية تظل أقدامُنا تنهض بنا وتحطّ وكأنما تناثرت أوزاننُا عنّا أو انعدمت من تحتنا جاذبيةُ الأرض.
القيامةُ الموعدُ، يقولها ويسكت، بل شفتاه وحدهما تسكتان، فعيناه تسبلان على المعنى العام لعبارته خصوصيّةَ لقائنا اليوم في القيامة اللقاءَ المسوَّفَ منذ غَلَبَتِهِ هو وشبّانه علينا في لعبة الخفاء والتجلّي، في ذلك الزمن السحيق، زمن الأرض الذي والذي والذي.
القيامة موعدنا أجل، أقولها أخيراً وأسكت. وحين أهمّ بقول الشيء الذي بقي في خاطري، يخرج، وكأنما من فمي، صوتُ جدي كما عهدتُه في الزمن الأول أنْ لا مفرّ لا مفرّ، فالموعد الذي ضربتْه النبوّاتُ الساميّةُ لأهل الأرض حلّ علينا بالبعث الذي بُعِثْناه ساعةَ انكسرتْ عقاربُ ساعاتنا وبُعثرَ الزمنُ إلاّ من لحظة الحقيقة، فوحدها وحدها الزمنُ كله، لا هي حاضره مُفْرَداً ولا هي ماضيه ولا مستقبله.
يظل فمي مشدوهاً بالصوت الذي يخرج منه حتى يطلع علينا من قلب الغبشة شيءٌ على هيئة جدي، فأكاد أظن الظنون، ثم لا تلبث أن تنداح الظنون، فأنا في شبه يقين، بل إنه إنه، وإذن فلعله مصدر الصوت الذي ظننتُهُ خرج ولم يخرج من فمي، ولا أحسّني إلاّ أندفع إليه بأشواقي المبهمة وقد خفّ فيّ وحولي كلُّ شيء فقدماي لا تكادان تطآن التراب.
آيينْ شارونْ
ليس بالبعث هذا، وهذه ليست حفر الموتى انزاح منها وعنها الترابُ المشبّع منها برائحة الفناء، بل هي عيون الجحيم تنفتح عليّ من حولي، ومنها تطلع الأشباحُ والأرواحُ وكأنما أنا في قلب أسطورة من أساطير الزمن القديم. لا مكان انبعاثي اخترتُه ولا هذه الألسن النيرانيّة، تُنْفَثُ في عينيّ تهيُّوآتٍِ متلوِّياتٍ منتصباتٍ، مبعوجاتٍ مملَّساتٍ، مطويّاتٍ منتشراتٍ، نافثاتٍ منفوثاتٍ، ملتفّاتٍ على نفسها دوائرَ ومربّعاتٍ ومثلّثاتٍ، وتُغير عليها الألوانُ فتحتدّ وتنخطف انخطافاً إلى عيون الجحيم المنفتحة عليّ لتنقذف منها وتعود في الفضاء سيرتها الأولى، فأنا في مشهد أفظع من فظائع العهد القديم. لا المكان اخترتُه لخروجي ولا اخترتُ هذه الجيرة من أشباح وأرواح قانا، فَإِنِ الغيبُ لا يزال يصرّ على استنباش الخوف من حفر الرعب وعلى رشقي بمستفظعاته ومباغتاته، فلغيري هذا الهول، ولي فصل القول، وللغيب أن يكون الشاهدَ على نيّتي بالوعد والمُشَاهِدَ لوفائي به، وليس له غير ذاك وذاك.
أنفث نيّتي على أشباح وأرواح قانا فتنصاع إرادتُها وتُلْتَهَمُ أشكالُها وألوانُها وكأنما بعصا موسى. تصول وتجول في المكان عيناي، لا تعيقهما غبشةٌ ولا يعجزهما امتدادٌ. وها أنذا، وحيداً، أسير في كل الإتجاهات، في كل الإتجاهات في آن معاً لأنها أُلغيتْ بنيّتي مشارقُ الأرض ومغاربُها وشماليّاتُها وجنوبيّاتُها ولم يعد من وجود للمكان إلاّ ما تَطَؤهُ قدماي، فأنا، المُسْتَثْنى من إرادة البعث وإرادة مكان الخروج وإرادة الجيرة التي تتشهاها سلالةُ شارونْ، أنا أنا، اللحظةَ، المُحَاوِرُ للغيب في مسيرة القيامة ومسارها، أنا الذي ما عهدتْني الدنيا إلاّ مُسْتَثْنِياً لسواي، كما دأبي زمن حصارنا لبيروت، زمن زحزحتُ من طريقي إلى مخيّميْ صبرا وشاتيلا إرادةَ ديفيد مردخاي ومرّغتُ رؤاه السياسية والعسكرية بدماء الذبائح الفلسطينية.
ثلاثةٌ يدورون حولي كالزوبعة، انقذفوا عليّ من حيث لا أعلم، أصواتُهم بلغاتٍ ثلاث، تتمازج لكناتُهم وكلماتُهم التي بعضُها غير الجمل والعبارات التي ألفتْها في الزمن الأول أذناي. أنفث عليهم نيّتي فيخفّ رويداً رويداً دورانُ الزوبعة، وحينما تهدأ الريحُ ينبثق من الغبشة شيمونْ أزَرا وإدجارْ عِضاهْ الرّوحْ ويهوذا، يهوذا نفسه، قاماتٍ ثلاثاً بعيون ستٍّ تلتمع في دوائرها خيوطٌ نيرانيّةٌ لحبكةِ الخطّة التي سيهنّـئني عليها داوود وسليمان حينما، ذات يوم، أو ذات شهر، أو ذات عام، ألتقيهما في درب من دروب القيامة.
نبيُّ البعث الذي لم يُبَشَّرْ به أنا، إرادتي نيّتي وكلماتي الرؤى.
دامو
النهر مجراه لم يتغير عمّا كان عليه أيام دراستي في الفينيقيّةِ صيدون إلاّ في اتساعه التدريجي كلما اقترب من مصبه في البحر. الذي تغيّر أكثر هو ما على الضفتين، فشجرات الكينا كانت أوفر عدداً، والواحدة منها كانت أقرب إلى جاراتها وأعتى جذوعاً وأنضر غصوناً وأوراقاً مما تراه الآن عيناي. أمّا الجذوع المُسْوَدَّةُ المفحَّمةُ بعضُ جوانبها فأغربُ المتغيرات التي طرأت على هذه الأرض الطيبة. المفحَّماتُ، بلا ريب، من آثار الحرائق الصغيرة التي افتعلها المستهترون السكارى طلباً للدفء أو لاستخدامها كمواقد لشواء ما يصطادونه من أسماك النهر. فإن صَدَقَ الظنُّ منيّ، فالذين سكنوا هذه المنطقة، أو عبروا بها من الأجيال التي سبقت القيامة، هم بكل تأكيد أسوأ من المستهترين السكارى أيام فينيقيا، أو على الأقل من الذين عاشرتُهم منهم في معاهدها الثقافية وأنديتها الإجتماعية. كنتُ محظوظة تلك الأيام بصداقة الصبيات والشباب وكان لشجرات الكينا على هذه الضفة من النهر قدسيّةُ النهر ذاتها، خلعها عليها جميعاً إلهُ الصحة أشمونْ، العاقدُ الحلفَ بين الطبيعة والإنسان لضمان سلامة الإثنين.
أرمي بنظري إلى الضفة الأخرى، ويا لجمال ما أرى. البرتقال شجراته تمتد على طول الضفة، مطلّةً عليها من علوّ أمتار قليلة، من خلف ما يشبه السّدّ الرشيق من نبات القصب الممشوق في الهواء. شرقاً شرقاً تأخذني المسافةُ على هذه الطريق التي لم تكن من قبل ولا كان السورُ الحجري الذي يحدّها عن يميني. شرقاً شرقاً، تطلع الطريق والسور وأنا معهما، مسحوبةً بخيوط الذكريات، تتمايل بيَ الرياحُ الخفيفةُ، فأنا كطيّارة الورق السابحة في فضاء نهريٍّ نسي أن يجعل لنفسه ضفّتين. جسر الحديد والخشب الساقطُ منتصفُهُ في منتصف المجرى يأخذ عينيّ إلى بناء من طابقين، تحفّ بشرفاته العليا ونوافذه شجراتُ البلح. ليتني أقطع النهر لأعرف ما الذي يجري في ذلك البناء، فظُرْفُـهُ وظُرف إطلالته على النهر من الضفة الأخرى يحدّثني أحاديثَ تعيدني إلى أيام دراستي فأتنفس عبقَ لياليها المخمَّر برطوبة الماء المكثّفةِ بشذى الحشائش والأعشاب الطيّبة وغيرها من النباتات التي تزدحم الآن بأسمائها ذاكرتي.
هذا الفجر الغبشيّ ليته التقطه شعراءُ الإغريق فسرى في ملاحمهم وأساطيرهم سريان الأنهار في عالمهم الأرضي وعالمهم السفليّ، ما تخيّلوه منها ولم يكن، وما صار كائناً لأنهم تخيّلوه، الأنهارُ الأنهارُ، التي غبشةُ فجرِها غيرُ الضباب الذي سُحِرَ به الإغريق، تنادي فيّ ما كان فيّ نائماً طوال الهجعة التي هجّعتْني فيها الطبيعةُ وفكّكتْ عن بعضها ذرات جسدي وأعادتْني إلى التراب لتهيّئني إلى بعث جديد متجدّد أبداً أبداً في دورات الفصول. ليتهم التقطوه هذا الفجر الغبشي الذي يرتفع بقدميّ إلى حافة القاعدة الحجرية للجسر ويومئ لكفيَّ أن تتمسكا بلوح من الألواح الخشبيّة الممدّدة بين خطّيْه الحديديّـيْن، فتتمسّك باللوح كفّاي، وتشدّان، وها، ها هما ساقاي تلتفّان على خط الحديد فتلتف إثرهما فخذاي، وها صدري، بل ها أنا، كل أنا، ممددة على طولي فوق الجسر، والنداء لا ينفكّ ينادي ويستحثّ، فلا أراني إلاّ واقفة ولا أحسّني إلاّ مسحوبةً نزولاً نزولاً على الجسر الساقط منتصفُهُ في منتصف المجرى، ثم أُسحب على طول النصف الآخر للجسر، الصاعدِ الآن بي ليحطّني على قاعدته الحجرية المغروسة في الضفة الأخرى.
شجراتُ البلح الآن أكبر وأسنانُ جذوعها مثل درجات السلّم. شيءٌ فيَّ يكاد يغري قدميّ بتسلّق درجات شجرة من هذه الشجرات، ربما لتقصر المسافةُ بين الأرض والشرفات التي تتمسح بأطرافها سعفاتُ البلح، فتنسرب عبر زجاج النوافذ عيناي وتخبّراني بسرّ الأحاديث التي هَجَسَها بداخلي هذا البناءُ المشرفُ على الضفتين والمجرى، وحيداً وحيداً، منفرداً منفرداً، على هذه التلة التي تؤخّرني لا تزال عن إتمام رحلتي إلى معبد أشمونْ، حيث لعلّني ولعلّه ولعلّنا.
غوايةٌ غير غواية سلّم البلح تنقل خطواتي بلاطةً فبلاطةً أعلى فثالثةً توطّئني مصطبةً من الأشكال الهندسية الفَرِحَةِ الألوان، والتي لو أنّ الفجر ينقضي فجأةً، لو أنه، لكانت تسقط عليها الشمسُ وتثير منها في الجوّ عبقَ الأحمر والأصفر والأزرق، شعاعاتٍ يضيء بعضُها بعضاً، كعهدي بألوان الأرض في معبد أشمونْ في ذلك الزمن الذي جئتُ اليوم أبحث عنه فأرجأتْ وصولي إليه فِتَنُ الرحلة، فما أشبهني بأبطال ملاحم الإغريق ومسرحياتهم، تتصدى لهم في ترحالات البحث عن الحقيقة عقباتٌ موئساتٌ ومُتَعٌ ملهياتٌ فتنضاف فصولٌ إلى فصول الرحلة التي في البدء كانت النيّةَ والهاجسَ والمسافةَ والمنتهى. ينشقّ بابٌ أمامي شيئاً فشيئاً، فأدرك لتوّي أنني في داخل المبنى، ولولا سعفةٌ من سعفات البلح تتمسح بحائط الشرفة لحسبتُ أنني لا أزال في الطابق الأول منه. الباب لا يزال ينشقّ أمامي وكأنما بيد خفيّة. لا رأس يطلّ ولا كتف تملأ الفراغ. وإذن فرأسي الذي سوف، وإذن فكتفي التي سوف، ولا أراني إلاّ أمام سرير عريض، ممدّدةً عليه في مثل استرخاءة الغيبوبة فتاةٌ ملامحها تذكّرني بفتيات الغَجَرِ، هفيفةَ الصّبا، دون الخامسةَ عَشَرَةَ، وإلى جانبها، ممدّداً على طوله، كذلك في مثل استرخاءة الغيبوبة، جسدٌ لرجل لا أتبيّن ملامحه لإنعطاف وجهه صوب وجهها. آهُ الجحيم تأتي من خلفي لا من تحت عينيّ، فألتفت لأرى في لحظة السحر، أراه بقامته ووجهه، ذلك الذي كان تمدّد لي وتمددتُ له على المعبر الحجري تحت ضوء القمر، أراه وأسمع الآهَ تصّعّد من أعماقه فتخالجني ظنونٌ وأردّد عينيّ بينه وبين الممدّديْن فوق السرير العريض. صبيّةُ الغَجَرِ نسيها البعث! نسيها فلم تنهض بعد من هجعة الموت! فلماذا، إله العرش العظيم، لماذا؟ ينوح صوتُه في أرجاء الغرفة، ولا أظنّه إلاّ يكلّم نفسه. أقترب منه ليميّزني ولكنه لا يراني. دامو الإغريقية أنا! دامو التي بجمالها هِمْتَ ولها كتبتَ الشعر وغنّيتَهُ! أقول له وأعيد القول فتنهرني عيناه بإنكارهما معرفتي. أعاتبه أنْ إِنْ كنتَ تلعب بعواطفي لأنك ابن الملك الصيدوني، ولا أتمّ عتابي، لأنه يزعم أنه سامح الجمري وأنْ في زمانه لم يكن لصيدون ملوك ولا ملكات. أهو حجابُ الذي جئتُ أبحث عنه؟ أم أنه يمازحني وحسب؟ أحدّث نفسي، ولكنّ ظنوني سرعان ما تتّقد كنيران الجحيم حينما يتحرك الممدّدان على طولهما في السرير وقد أدركهما البعثُ فيشهق حبيبـي الذي يزعم أنه سامح الجمري ويرتمي على قدميها، هي الغجرية التي في السرير، يقبّلهما ويبكي مثل طفل صغير.
سميحة الجُمَري
الجبّانة القديمة التي لم أدخلها في الحياة الأولى لفكّ وحدته ولا حتى لزيارته، ثم دفنوني في سواها، أقف الآن ببوابتها التي وصفتْها لي سميّة ألف مرة ومرة فظلّتْ عالقة في خيالي أتمثّلها كلما جَهْجَهَ صبحٌ عليّ أو نزل عليّ ليلٌ في مدى سنوات الذلّ الذي جرّعنيه العجزُ والكِبَرُ بعده، بعدما رحل عني ولم ينتظر حتى أسبقه إلى جوار ربي. بالبوابة الآن أقف وأغمض عينيّ ليعود إليَّ صوتُ سميّة يشرح لي كيف أَدْخُلُ وأيّ ممرّ آخذ ومتى أنعطف نحو الشجرات التي تحتها قبرُه، أغمض عينيّ وأستجدي صوتها أن يعود، فصوتها ذاكرتي ودليلي. على هَدْيِهِ أنقل خطواتي عبر المدخل العريض وأجوز قاعة التعزية التي عن يميني. على هديه أعدّ القبور التي صارت حفراً مفتوحة وأغضّ الطرف عن الرائحين والرائحات والغادين والغاديات والمتنادين والمتناديات وأغضّ السمع ما استطعتُ عن الأصوات التي لا أميّزها لأميّز صوته هو، إذا هو رآني ونادى. أعدّ وأغضُّ وأتمنى لو يكون على رأسي المنديل الأبيض، عابقاً بعبق الياسمين، لحظةَ ألقاه ويلقاني، فينطرح على رأسي وكتفيّ بياضُ الياسمين، حريراً حريراً، بل أشفّ من الحرير، ومن أين يأتي المنديل وكيف يعبق العبقُ، وحده وحده باريءُ البعثِ يعلم.
خطواتي الآن هفهفاتٌ على الأرض التي لا أحسّ بها تحت قدميّ. الكثيفاتُ الورقِ من الشجرات تومئ إليّ أن أنعطف نحوها، بارتجافة الورق على أغصانها تومئ إليّ، فأنثني يمنةً وأعبر بشواهد القبور مرميّةً على تلاّت التراب بين الحفر، وأحدّق فيها ولا أميّز الكلمات التي عليها. وإسمه، إسمه، على واحدة من الشواهد، فإنْ كنتُ رأيتُه أو أنا الآن أنظر إليه فما يدريني أنه اسمه هو، جهّار الجمري، والحروف كلّها عفّى عليها الزمنُ والفناءُ؟ صوتُ سميّة ذاكرتي ودليلي، ولكنه لا يعود قويّاً، أو حتى محشرجاً من أثر التدخين، بل ما إِنْ يطنّ في أذنيّ حتى يأخذ يتلاشى، ربما بسبب الغبشة، وربما لأن مبعثها في غير هذا المكان.
أخيراً وجدتِ الطريقَ إليّ! أخيراً أخيراً أخيراً! صوتُهُ العتابُ كلّه، يبغتني جفافُهُ وكأنه لم يطلع من حنجرة بشر. ألتفت إلى مصدر الصوت فإذا القامة قامته والوجه وجهه، فيرتبك على رأسي وكتفيَّ المنديلُ الأبيضُ وأرسو في مكاني خشيةَ أن تزيد من عتابه جراءةُ شوقي إليه. الستون سنة التي كانت جمعتْنا في الدنيا تقول لي أن أسعى لاسترضائه بأحبّ شيء إليه. أحني رأسي لأتّقي العتاب في عينيه وأسعى إليه خطوة خطوة ولا أراني إلاّ أنحني على قدميه أحوطهما بكفيّ وأفركهما وكأنني أغسلهما له في طشت الماء الفاتر، كما كان دأبي في العيش الأول.
لم تردّي عليّ وهم يعبرون بنعشكِ شارع رياض الصلح واستسلمتِ لمشيئتهم، لا لمشيئتي! تحتدّ في صوته نبرةُ العتاب وكأننا لسنا في زمن القيامة. أظل أفرك له قدميه وأعتذر إليه أنْ لم يكن لي من الأمر شيء، فهم حملوني وهم دفنوني في الجبّانة الأخرى ولم أنتبه إلى حقيقة موتي إلاّ حينما مدّدوني في حفرتي وصار يغيب عني ضوءُ النهار من رأسي حتى قدميّ وإلاّ حينما انفتحتْ أذناي على صـوت التراب فوق الحجارة المسطّحة فوقي، انهمارةً فانهمارةً فانهمارة. أقول له وأمدّ في القول، ولا أرفع عينيّ لملاقاة عينيه حتى يتنحنح، آذِناً للكلمات أن تموت هنيهة في حنجرتي وحنجرته.
بمن التقيتِ منهم قبل وصولكِ إليَّ؟ يسألني الشكُّ في صوته، فأعرف أنه يفكر بأولادنا دون أن يسميّهم، وبأهلي، فأسرع إلى طمأنته أنني لم ألتقِ منهم أحداً وأنني منذ لحظةِ انبعاثي وأنا أفتش عنه هو لأطمئنّ إلى أحواله بعد هذا الفراق الطويل. يلعب الشك في عينيه ويظل يحدّق في عينيّ. حتى القيامة نفسها لم تنسف غيرته القديمة من أهلي ومن أبنائه، من الذين حملتُ بهم من صلبه، كلما رآني أهشّ إلى واحد منهم أو أحدب عليه في تعب أو مرض. أطمئنه إلى أنني بُعِثْتُ من أجله هو، فيلوح على شفتيه شيٌ كأنه احتمال ابتسامة. أبتسم له وأنتظر. وحينما يأخذني من كتفيّ ويساعدني في النهوض إليه، أعرف أنه يتمنى في قلبه لو أسامحه على العذاب الذي كان يجرّعنيه كلما استبدت به غيرتُه العمياء، فأسامحه وأطيل النظر إليه لتعبر بيني وبينه، حتى في هذه الغبشة، سرائرُ أيامنا الخاليات، ولتنكشف لنا جميعاً نجيّاتُ القلوب.
سميّة الجُمَري
أبي وزوجي الموتُ جمعهما في الجبّانة القديمة، وإنْ بين قبريْهما تمتدّ المسافةُ طويلةً وتتعرّج بين الممراتِ الضيّقة والممراتِ الأضيق منها. أتسمّر في مكاني وأنا أشهد انهياراً مفاجئاً لجانبٍ من سور الجبّانة المواجه للكنيسة البيضاء، أتسمّر إنما لطرفة عين، فرصيف الشارع تحت قدميّ يروح ويجيء، فأروح وأجيء مرة ومرة وأكاد أفقد توازني فأهبط على الرصيف وأبسط كفّيَّ على اتساعهما حتى لا ترميني الهزّةُ على طولي فأكسر عنقي أو تنعطب سنسلةُ الظهر منّي أو حتى ينفكش كاحِلُ رِجْلي، فأبقى في مكاني إلى موعد النفخة الثانية في الصّور، لا إبن لي أناديه لِـيُنْهِضَني من وقعتي ولا بنت تمسح الدم عن الجرح فيما لو قُدِّرَ لي أن أنجرح في مكان من جسمي لا تطاله أصابعُ يديّ. أفكاري أطول من ديمومة الهزّة، فالسكون ساد الرصيفَ وهَدَّأني فكأنّ ما مرّ أشبه بخاطرة الهزة مرّت ببالي، لولا أنّ عينيّ تؤكدان لي من جديد انهيار ذلك الجانب من سور الجبّانة فاتحاً لي الطريق الأقرب إلى قبر زهير. أنهض لتوّي وأسرع إلى حيث الناهضون من حفرهم لعلهم ينتظرون مجيئنا إليهم بدل أن يفتّشوا هم عنّا في كل مكان. العتابُ ليس وقته الآن، وإن كان لا بدّ منه فليكن بعد اللقاء لا قبله. الآن وقت البحث عنه قبل أن ينتبه إلى أنه بُعِثَ بين أبناء المدينة ويأخذ يبربس على الغيب الذي جمعه بهم بعد أن كان في العيش الأول باع بيتنا الذي بين جامع الكيخيا وجامع الكبير ليبتعد عنهم واشترينا بدلاً منه بيتاً جديداً في عبرا وبعد أن كان يحلف بأنه سيستغني عن الجنة إذا كان سيشاركه فيها أبناء المدينة. لا بدّ أن أجده قبل أن يرتكب الحماقة الكبرى ويعاتب الغيب على أنّ الغيب لم يجعل له بعثاً خاصاً به لا يشاركه فيه أحد.
خطواتي في الغبشة تأخذني إلى حفرته، وحفرتُه تبوح لي بالفراغ الذي تركه غيابُه عنها، ولا شيء أكثر. متى نهض منها وفي أيّ اتجاهٍ ذهب لن تخبرني الحفرُ الأخرُ ولا الشجراتُ التي تظلّلها، حتى في هذا البعث، حتى في هذا الفجر الغبشيّ. أعبر الإتجاهات كلـها وأدوس علـى تلاّت التراب ولا أبالي. في العيش الأوّل كنتُ أبالي كلما نقلتْني قدماي خطوةً على التراب الذي بعَرْضِ شبرٍ بين قبر وقبر لشدة الزحمة التي اشتهرتْ بها جبّانـتُنا القديمة. في ذلك الزمان كان يطاردني الخوف من أن أكون قد ارتكبتُ خطيئة لا تُغتفر لو حدث ووطئتُ باسكربينتي، حتى ولو كانت واطية الكعب، طرفَ قبر، أو حففتُ بجانبه حَفّاً. اليوم أظن الأمرَ تغيّر وحسابَ الخطايا انتهى، فالأموات قامت قيامتهم، وبانتظارهم لانتصاب الميزان فَقَدَ الموتُ سطوتَهُ والمقابرُ هيبتَها. الخلود في الجنة أو الخلود في النار أصبح الهاجس الأول والأخير لأهل البعث. أهل الدنيا، أوّلاً، أهل القبور، ثانياً، أهل البعث، ثالثاً، هذه كانت رحلتنا، وسرعان ما ستنتهي، رابعاً، بخلود أو بخلود.
الإتجاهاتِ كلَّها أعبرها وزفيري أزفره بالطالع والنازل، أطاحش به الغبشة لعل الصبح يطلع فأرى زهير أو زهير يراني فنتنادى ويهرع إليّ أو أهرع إليه أنا لأفكّ به وحدتي في الدنيا والآخرة مرة واحدة وفي لحظة واحدة، ولأضمن أن يظل لي زوجاً قبل أن تلقاه إحداهنّ وتعرف منه أنه كان في الدنيا ممرّضاً يضرب الإبر فتتمارض وتتمنى عليه أن يضربها إبرة، على إثرها تطلب من الغيب أن يديم عليها مرضها ليظل يضربها الإبر حتى يتعلّقها وتكون هذه نهايتكِ الثانية يا سميّة ويصبح بعثُكِ هو موتكِ الثاني والأخير. ولكن ذلك لن يحدث على الأرجح إلاّ في خيالي، فلقد حملتُ معي إلى القيامَةِ هواجسَ الدنيا التي انقضى زمنُها وانتفتْ مبرّراتُها، ولحظةَ أراه ويراني سيكون لِلَّحظةِ طعمٌ غير طعم التي سبقتْها ومذاقٌ غير مذاق الهواجس التي من العيش الأول. وقتها سأنسى المسوَّفَ من عتابي له على تردده في نقل ملكيّة البيت من اسمه إلى اسمي حينما ألحّتْ عليه خضّاتُ القلب وألحّتْ. وقتها سأنسى كلَّ ما يجب أن أنساه لأتذكر وأقصّ عليه قصة ذلك اليوم الذي ذهبتُ فيه قرابة الظهر بصحبة سامح لزيارته في المستشفى الحكومي لأتطمن على نتائج فحوصات دمه وتخطيطات قلبه، حاملةً إليه في طنجرة صغيرة شوربا الدجاج بالخضار لوجبة الغداء، وكيف على مدخل المستشفى فاجأنا وجهُ أبي الذي ضاع منه بياضُه فصار بلون الهمّ والقلق واليأس وبَغَتَنا صوتُه بأنْ عُدْ بها يا سامح إلى البيت وَابْقَ معها بقيّة النهار، وكيف أدركتُ أن نهايته اقتربت وأنه ربما كان في حالة النـزع الأخير وهم يدفعوني إلى داخل السيارة دفعاً وأنا أصرخ بهم أن يتركوني لأدخل غرفته وأودّعه وأقول له إن حياتي بعده ستكون أكثر من الغربة وأعقم من اليتم، وأنِ انتظرني فلقاؤنا في البعث قريب قريب. سأقصّ عليه القصة من أولها إلى آخرها، لو أنه فقط يرحمني ويظهر هنا أو هناك. تنفرج الغبشة لي عن هيئة رجل على شيء من السُّمرة فأحسبه هو، على غير يقين، ولكنْ لحظةَ أتعرّف إلى وجه المرأة التي تسير إلى جانبه، تنـزل على رأسي شبكةٌ من النمل ويرتفع ضغطي إلى ما فوق العشرين. إذ ذاك إذ ذاك يأتيني اليقينُ أنّ صاحب السُّمرة هو بعينه زهير وأنّ التي تراوده الآن عن نفسه هي نفسها التي في الدنيا راودتْه عن نفسه شهوراً طويلة قبل أن تخبّرني بأمرهما التي خبّرتْني.
أمّ إسحاقْ الديَّارْ
منذ رَمَتَاني بالشكّ وأنا أسير على امتدادٍ من الشّوْكِ، لا من تراب الحُفَرِ، أبحث عنه في الدروب التي أحسّه يعبرها ولا أراها، مثلما أخبرتُ أمَّ ميلاد حينما سألتْني، أخبرتُها وحلّ عليَّ الندمُ، فلعلها الآن مثلي تسوح في طرق مقبرتنا وممرّاتها، تستنبشها خطواتِ عازرْ وتستعطف مثلي حتى صداها. مكرٌ كلُّها الرسالةُ التي حمّلتْنيها إليه أنْ لا يبحث عنهما في البعث، هي وجارتي الأخرى أمّ ماريّا، مكرٌ وسُمٌّ، أحدهما للآخر مزاجُهُ وخَلْطَتُهُ، وصوتُها الجارحُ المجرِّحُ يحوّم لا يزال ويدور ويلتفّ كما تحوم وتحوّم حول الزجاجة صحونُ مازةِ العرق، وهو على كرسيّه من جانب الطاولة يقطّع الليل في منادمة جهّار المهندَمِ على كرسيه في الجانب الآخر، يتسامران بالصوت الممتلىء والضحكة المترجرجة، وبين الفينة والفينة بالخفض والهمس حتى لا أطّلع من حديثهما على ما أخـمّنه يدور بينهما تخميناً، شأن المتسامرات من النساء إذا ما دنا منهنّ قريبٌ أو غريب من الرجال.
على امتدادٍ من الشّوْكِ أسير، لا من تراب الحُفَرِ، وفي رأسي، يروح ويجيء، شيءٌ كمكنسة البلاّنِ التي تروح وتجيء في يد صبيّة من أهل البساتين على مصطبة البيت والمراح الذي خلفه، مجدولةَ الشّوْكِ، لا تبقي على شيء تمر عليه ولا تذر. بالخفض والهمس، حينما يرياني، كانا يتسامران، وأنا الغاضَّةُ العينَ واللسانَ عن معاني الإيماءات والحركات وأطياف الإبتسامات والخلجات التي ينوء بها جوُّ الغرفة، وبها ينوء ليس لأنها من الأسرار المكنونة في صدريْهما ولكنْ لأنها ممّا أعرفه عنهما وأغفره لهما بسبب حسن سترهما لها، والتي لا تخرج في العادة عن مدار فستانِ امرأةٍ إلاّ لتدخل في مدارِ تنورةِ فتاةٍ من فتيات العائلات التي تلبس على الدارج وتتسابق على الموضة وعلى عرضها في الأماكن العامة مثل مطعم الجمري. خَفْضُهما وهَمْسُهما كان لا يفضح سرائرَهُ إلاّ جلجلةُ الضحكة من فم نديمهما الثالث، أبي الوليد، أحيانَ ينضم إليهما راجعاً من زيارة عَشْقَاءْ، أخت جان، في إقليم الخرّوب، أو من التحويم حول بيتها في زمن تنائيها عنه لشيء، يقولون، في نفسها، دون أن يكتشف أحد سرَّ ذلك الشيء. داريتُ وتجاهلتُ وطنّشتُ وتعاميتُ، على طريقة جدي الذي كان بكيس الراحة الذي يناولني إياه على طريقنا إلى الكنيسة كل أحد، كان به يتعالى فوق مشاكل أمي وأبي وملاطشاتهما بسببٍ بيّنٍ وبلا سبب، فهو يرى ويسمع ويعي ثم يلولح لي بكيس الراحة طامساً في طراوتها والسكّرِ الناعمِ العالقِ بها إِبَرَ الشّوْكِ التي كانت غالباً ما تَخِزُني ما بين الإثنين والسبت. والآن في هذا البعث، تبعثر الزمن الأول، تبعثرتْ كل أيامه، فليس من صبيحة أحدٍ أنتظرها لألقى فيها جدي وليس من كيسٍ أتشمّم منه قبل أن أفتحه الرائحةَ التي تنتزع من رأسي مكنسةَ البلاّن قبل عثوري عليه، زوجي وحبيـبي، في سباقي المجنون إليه مع تلك التي جُنَّتْ في الدنيا بجهّار الجمري، ولم تَحْظَ منه إلاّ بضفّة النهر وجلول البساتين تتيه بينها كلها إلى آخر العمر، وجُنَّتِ اليوم بزوجي، ربما ربما لتستدرج إليها بتقرّبها منه صديقَه المُخْلَصَ جهّار، وربما ربما لسرّ بينها وبين عازر لم يؤكده لي بعد يقينُ الغيب.
على امتدادٍ لا ينتهي من الشّوْكِ، لا من تراب الحُفَرِ.
هَتونْ
كيف اعترفتُ له، لساربْ الهيّوبْ، بسماعي به في الدنيا، وأنا سحبتْني من الدنيا أصابعُ النهر قبل نزوله هو على حفافي جيرتنا ضيفاً؟ لعل سماعي به كان بعد الموت، حديثاً حدّثتْهُ الأرواحُ التي حوّمتْ فوق قبور أصحابها، حدّثتْ عنه بعد دفني وساربْ الهيّوبْ سمّـتْه، فنامت صورتُه معي في خيالي لنستيقظ معاً في هذا البعث على الحقيقة التي أعجب من الخيال. وأنا على اسم جهّار بُعثتُ، لأنه هكذا تمنى أن أكون له في القيامة، وهكذا أنا تمنيتُ، فهل أكون أحدثتُ من الذنب ذنباً بندائي الرجلَ الآخر وحديثي إليه وكأنني مأخوذةٌ بالحسن، حسنه هو، ملهوفةٌ على اللقاء، لقائه هو، أأكونُ أكون من حيث لا أدري أحدثتُ من الذنب ذنباً، ووحدها البغتةُ الذنبُ كله لأنها بغتتْني ووحدها الدهشةُ الذنبُ كله لأنها أدهشتْني، أأكون فعلاً؟ أأكون؟
تُرَهِّفُ أذنيَّ هسهسةٌ لمياه النهر الذي لا أراه، فأملأ الحُفَرَ بعينيّ وأفرغها منهما بحثاً عنه، ولا بلالة ولا رقرقة ولا شيء إلاّ الهسهسة التي تطفو على السمع ثم تغوص فيه، فتقلّبه بين الشك واليقين، فتغصّ الشرايينُ منّي بنبضات شوقي إليه وخوفي عليه من أن يكون نزل يسبح في نهر من الأنهار الأربعة التي في سِفْرِ التكوين من ذيّاك العهد القديم، في الفردوس الذي هُجِّرَ منه بالخطيئة آدم وحوّاء، كما نحن هُجرّنا بغير خطيئة الإثم من سهل الدامور إلى سهل صيدون ومن ضفّتيْ ذلك النهر إلى ضفّتيْ هذا، ليجمعني به مساءً، بجهّار، قنديلُهُ الذي سِرْنا على هديه فعبرنا سياجَ الورد المعبّقة طرابينُه في خاطري لا تزال، ومضخّةَ الماء تتدلّى فوقها أغصانُ شجرة الياسمين مُلَوَّناً بياضُ حبّاتِها بحمرة حبّات المرجان، وبيتاً ثم بيتاً وسياجاً ثم سياجاً حتى بَلَّغَنا بيتَ قريبنا إسحيّا، وتركنا هناك على المصطبة وعاد وحده في الليل على ضوء القنديل، وحده في الليل، فترقرقت خلفه على الدرب روحي، لا هي تسألني ولا أنا أسألها.
على ضفّةٍ ربما من ضفاف الأنهار الأربعة ينتظرني الآن لأنّ أصابعي من أصابعه انفلتتْ على ضفّة نهر، فَبَعْثي، فـي ظنّه، لا يكـون إلاّ علـى هيئة موتي، ولعل التيار الذي أخذني مرةً يعيدني اليوم إليه. جهّار! جهّار! على أيّة ضفّة من الضفاف ألقاكَ، وشكّي معذِّبٌ ليقيني أنكَ تنتظرني على نهر الكوثر الذي وعدتَ أن تسقيني منه، وأن تسبّحني فيه، إذا أُذِنَ لنا بذلك، فأجبْني، أجبْني، أو اظْهر عليّ من حيث لا أحتسب.
ومن حيث لا أحتسب يغمرني حضورُهُ من كل صوب وتحتدّ من كل صوب هسهسةٌ لمياهِ نهرٍ أحسّه ولا أراه. صوته وصوت النهر يتلاحمان، فهما في أذنيّ وحولي العاصفةُ التي لا تماثلها الريح. الخَدَرُ المغبِّشُ لعينيّ وكلّ حواسّي يتسلل كالهسهسة إليَّ. يتراخى جسدي وتتلقّاه تلةٌ من تراب. لا أعرف كيف أُغمضتْ عيناي وغلب عليَّ النعاسُ، فأنا في قبضة الحلم الآن، أحلم وأعرف أنني أحلم، أحلم به على ظهر فرس بيضاء تصهل في مشيتها الراقصةِ نحوي، فتارة هو على الفرس جهّار وتارة هو الرجل الآخر، حتى إذا ما ترجّل ودنا ومَدَّ إليّ بكفّيْـن تتحسّسان عجوة التمر منيّ عرفتُ بأنه سيسقيني من مياه النهر ويسبّحني فيه طويلاً، إذا ما أذن لنا بذلك الغيبُ.
ماريّا
تحت جـمّيزته كان تمنى أن أُبعث له يوم القيامة، فواساه الغيبُ وأتمّ له نعمة التمني فنهضتُ من قلب التراب وحُـمْتُ حول الشجرة، أبحث عنه وأستحثّ الخطى لألقاه وأعرف ذاك الذي عشتُ في صدره عمراً، على غفلةٍ مني، وكنتُ لخياله سكناً فلم يخرج مني ولم أخرج منه حتى أَحْرَجَتْ أمنيتُهُ الملائكةَ فسوّغتْ لنفسها أن تجمع ما بيننا، ربما من شفقة فيها عليه وربما لتكتشف لنفسها بنفسها إذا المحبوبةُ الغافلةُ سترضى لحياتها الثانية بذلك قَدَراً، قبل بدء الحساب وبعد الدخول في خلود الجنة أو خلود النار. الجمّـيزةُ الحُلُمُ دَوّخَني دوراني حولها وأنا أتتبّع خطواته الأسرع من خطواتي وكأنّما يسرّعها عمداً ليطيل لحظات الشوق إلى اللقاء وليمدّ في عمر الذكرى التي حملها معه من العيش الأول قبل أن يحيلها ظهوري عليه إلى واقع ويقين. الحلم له وحده، ألمحتْ إليه بذلك نظرةٌ من عينيّ مستغرِبَةٌ في غير استهجان وهزّةُ الرأس منيّ يميناً ويساراً هزّاتٍ أقرب إلى الإيماء الرقيق منها إلى النفي المجرِّح بالقطيعة. ولذلك كان سهلاً عليّ أن أبادر إلى تتبّع حلمي أنا، مستنجدةً بحميّةِ حضوره ودالّةِ الذكرى التي حملناها معنا إلى القيامة أنْ كان هو المختار لحيّنا وأَنْ كنتُ ابنةَ ذلك الحيّ الذي لم يفصل بيتي فيه عن بيته إلاّ سياجُ بستانٍ ونباحُ كلبٍ على ديكٍ يصيح على النائمين كلّ فجرٍ بنبأ الفجر، كان سهلاً عليّ تتبّعُ حلمي لقبوله مصاحبتي في المشوار الغبشي إلى جبّانة المدينة القديمة، جبّانة ملّته وملّة الذي جئتُ أبحث عنه لأنه نسي أن يتمنى مثل نيّة المختار فضيّعني وضيّعتُه منذ هجعة موتي وموته.
وجودي في جبّانتهم القديمة إذن هو لغةٌ في العتاب ارتجلتْها ليَ القيامةُ التي كنتُ في الزمن الأول أحسبها لا تجيد إلاّ لغة الصفح والغفران. فهل العتابُ للذي نسي أن يتمنّى، أم هو عتابٌ للقيامة التي ارتجلتْ لأجلي لغةً للعتاب، أم أنّ وجودي في جبّانتهم القديمة عتابٌ له هو، باريء البعثِ والقيامةِ والعتابِ المحجَّبِ باحتمال رجاء؟ الرغيف من خبزة الفجر في فرن أمي، وصليـبـي الذي أودعتُه قلب الرغيف، إبريقُ الفخّار الذي ناولـتُه إياه في عزّ النهار وظلّ مرتفعاً بيننا في الهواء وكأنما سيبقى هناك إلى الأبد، هبوطي إليه من نافذة غرفتي لأذهب معه خطيفةً في ذلك الليل الذي قادنا آخر الأمر إلى بيت المختار، كل ذلك كله لم يُثْنِهِ حتى اللحظة عن ولائه لإسمه، فهو في العيش الأول ساربٌ ساربٌ في النهار، وفي هذا البعث ساربٌ ساربٌ في الفجر الذي لا ينبثق منه الصبحُ ولا هو يرتدّ إلى جوف الليل.
عَشْقَاءْ
مُفَلَّعَةً مشطورةً بُعِثْتُ بين مقبرة النصارى وجبّانة المدينة القديمة، ففي واحدةٍ أهلي وفي الأخرى الذين، من الملّة الأخرى، سدّوا عليّ بعشقهم لي منافذَ الشرق والغرب والشمال والجنوب، فضيعتي في إقليم الخرّوب جعلوها حدود العالم الأرضي الذي كان للمرأة فيَّ حصاراً فحصاراً من لحظةِ همستْ في أذني أمّي أنّ الرمّانَ على صدري زهّر وامتلأ قبل أوانه وأن كَفِلَيَّ استدارتا، فحذار حذار من الوثب والنطّ والنطنطة في حضور الرجال. ولكنني وثبتُ ونَطَطْتُ ونَطْنَطْتُ فأسقطوا عني اسم جانيت، ومن جهلهم سمّوني عشقاءْ عشقاءْ، متمنّين لي ألاّ أكون عاشقةً أبداً، فعشقاءْ عشقاءْ كلمةٌ مجرّدةٌ من إيحاء الحركة التي أفنيتُ عمري أحاول أن أتحركها من داخلي أنا، من صميمي، في اتجاه الدنيا المعجوقة بي بحركتها هي في اتجاهي، دائماً، أبداً، دائماً، أبداً، لا تترك لي خيارَ أنْ أكونَ المتحرِّكةَ المتوجِّهةَ، المُسْتَحْلِيَةَ، المغربلَةَ الرجالَ لأحظى بالذي أصبّ عليه العشقَ، عشقي أنا، أحرقه به لأنني اخترتُ ذلك أنا، إذ ما الذي ينفع امرأةً مثلي أن يتعشّقها الرجالُ ويُظَنّ أنه يكفيها من الأمر أن تتعشّق تعشّقَهم لها، ولا شيء غير ذلك، لا شيء، لا شيء، سمّوني فكان اسمي لعنةً عليَّ، عشقاءْ عشقاءْ، اسماً معرّى من إرادة الوجود، مسلوباً نعمة القدرة على العشق الذي به حاصروني ولم أحاصر به واحداً أحداً.
لو كان ظَلَّ معي أخي جان إلى اليوم لتسليتُ عن خواطري بخواطره التي لم يكن باح لي بها كلها في الزمن الأول، فلقاؤنا في الأمس لم يدم إلاّ سوانح من الفجر، وأحاديثنا لم تكن تفتح بيننا باباً إلاّ وتطرطق من حولنا درفاتٌ لأبواب أخر، ونوافذ ذكرياتنا ما كانت تملؤها إلاّ لِـتُخْليها وجوهُ رجال ووجوهُ نساء، فليس إلى استبقائها أو الاستئثار ببعضها من سبيل. لو كان ظَلَّ معي إلى اليوم لتجرأتُ بصحبته على التعرض إلى تلكم المنبِّشات على رجالهنّ، وقد رمتهنّ دروبهنّ في دروبي، على روحةٍ وإياب، يوماً إثر يوم إثر يوم، في عيونهنّ الوَلَهُ الذي أشتهيه لنفسي ولا أجده، وفي خطواتهنّ الحنينُ الذي ينقلهنّ وكأنما الأرض لا تحسّ بوطئهنّ، خطوات لا تذكّر الناظرَ إليهنّ بمشية الفَرَسِ التي كان يحبّها فيَّ الطاحشُ عليَّ من كل صوب، ذلك الأبو الوليد الذي أتمنى، أو كأنني، أن يكون نسيني في هجعة الموت. المنبِّشاتُ على رجالهنّ ها هنّ ثلاثتهنّ تتداخل دروبهنّ بدربي، وها هنّ الحنينُ في خطواتهن يقربهنّ مني، بل ها أنا، ها أنذا أقطع الطريق عليهنّ بـِ حَدِّثْـنَني بربّكنّ كيف كيف تحسّ المرأةُ العاشقةُ؟ ثلاثتهن يتبادلن نظراتٍ أغرب من إلحاف السؤال، ثم يتشاورن فـي أمـري بغيـر كلام، ثم يعرّفْنَني بأنفسهن: هتونْ وماريّا والغريبة اللكنة دامو.
أبو العلاء
جنوبيّ المدينة في خليج "صخور أبي روحْ " الطحالبُ الخضراء على صخور الشاطئ إنْ هي إلاّ الكناية الحسّـيّة عن هذا المنبسط المائيّ الذي يسمّونه البحر، ولعلها أن تكون، بل أكثر من لعلها، بل إنها إنها حماطةُ اللدونةِ الإنزلاقيةِ لهذا الكائنِ المنسرِبِ من عَدَمٍ صُوَرِيٍّ إلى حَدَثٍ صلصاليٍّ إلى عدمٍ مُلَحَّدٍ إلى انبعاثٍ غبشيٍّ، فانتظارٍ صراطُهُ أربعون سنة قبل أن يشرق الحقُّ علينا وعليه لبدء الحساب، طحالبَ طحالبَ طحالبَ، مهما تبدّلت ألوانها، وطحالبَ طحالبَ طحالبَ تظلّ، هي هي، الكنايةَ الحسّـيّةَ عن شاعرية هذا الوجود.
تنـزلق بي تأملاتي على طحالب صخرات الخليج انزلاقاًَ هادئاً صوب الشاطئ الرمليّ فالمدينةِ القابعةِ في الغبشة إلى الشمال مني وكأنما نداءٌ خفيٌّ هجس بالفضاء أن يلفتني عن انسراحة الأزرق إلى ضبابيّة الرائحين والغادين من أهل البعث وإلى سرابيّة الأصداء لتناديات وتأوهات وتساؤلات وابتهالات، تتقارب وتتباعد ويتسلّل البعضُ منها إلى بعضٍ ويَنْسُلُ من بعضها البعضُ، كما الخيالاتُ في الزمن الأول كانت تراود الليل في مقلتيَّ، مختلطاتٍ عليه، مبعثراتٍ على حفافيه، شادّاتٍ آناً، مسترخياتٍ آناءً، دائراتٍ مدوَّراتٍ، لا رائحاتٍ عنّي ولا للّيلِ في مقلتيَّ مُرَيِّحاتٍ، ولا مقبلاتٍ هنّ عليَّ متجلّياتٍ، هكذا هكذا إلى أنْ، إلى أنْ، وحتى، حتى.
قدمايَ تنفضان عنهما غبرةَ الزمن الأول الذي لا خلاص لي فيه كان. قدمايَ في طريق العودة إلى الجبّانة القديمة الآن. فلعلني، لعلني هناك أصادفها ثانيةً، تلك التي طالعتْني بها القيامةُ حوريّةَ الرهبنةِ قبل أن ألتقي بحورِ العين. جْريسْ! أيا جْريسْ! أيا جْريسْ!
أَقِلّي الغيـابَ وحُـثّي الإيابا فلولاكِ كان وجودي عتابا
عتاباً على خالقي أنْ حبـاني ضياءً بعينيّ يجلـو الضبابا
وأنْ ألهمَ الحُسْنَ فيكِ اهتزازاً فلمّا اهتززتُ تولّـى وغابا
وغاب كأنْ لم أكنْ قد بُعثتُ لتلقاه عيناي نوراً مُـذابا
دانـْـتي
التي قالت لي إنها دامو مُنْكِرَةً عليّ قولي أنْ إنْ هي إلاّ حجاب بياتريسْ قد قالت ما قالت وأنكرتْ ما أنكرتْ وانسلّتْ، ليس جنوباً صوب التلة التي فوق سينيق، التلة التي تعبق فوقها هالةٌ من النور الملوّن، تماماً حول تمثال السيدة العذراء التي لا يزال نداؤها الصامت لنا يستعجلنا بالتوجه نحوها والعروج إليها ليكون وصولنا إليها بمثابة عودة ابنها الذي لا تزال تقطع في انتظار إيابه الدهور دهوراً، لا ليس صوبَ تلك التلة انسلّتْ دامو، بل شمالاً شمالاً في قلب البساتين حيث شجرات الكينا العتيقات على ضفة النهر وحيث أراها لا أزال بعين خيالي المشبّع بالرؤى الشعرية التي زاد في اتّقادها فيَّ انبعاثي المفاجئُ في أرض غير أرضي، والمُحْدِثُ لي لقاءً قدريّاً بشاعر رسالة الغفران الذي كنت أُولعتُ برحلته الخيالية إلى أرض القيامة التي لم يحدّد إلهُ الساميّين مكانها وإلى زمن القيامة الذي لم يكن قد انبثق حقاً ويقيناً بَعْدُ من نيّة الغيب. بعين خيالي أراها الآن، في قلب البساتين حيث شجراتُ الكينا العتيقات على ضفّة النهر، أراها وأراها وأراها.
إذن لم يكن حدسي الشعريُّ في الزمن الأول خرافةً، لا ولم يكن ضربةَ حظٍّ مرهونة بالمكان الذي عشتُ فيه ولا بالزمن الذي كان زماني، لا ثم لا ثم لا ،فلا الفناءُ أفنى ولا طولُ هجعة الموت أنسى، فحدسي لا يزال ذاته بذاته, خفيّةً عليّ أسرارُ قدراته، عصيّةً عليَّ اختراقاتُه لحجب المسافة التي تفصلني عنها وهي تلتفّ حولها من الحسان ثلاثٌ يسألْنَها عن أبيها فيثاغورَسْ ويتحرّشْنَ بغوامض بعثها في الأرض التي ليست امتداداً لأرض الإغريق، ويسرفْنَ في معابثتها إسرافَ اللِّدَاتِ فكأنهن أربعتهنّ من جيل واحد ومن إقليم واحد تسمّيه لهنّ التي اسمها عشقاءْ إقليمَ الخرّوب، وتحدّد أكثر فالضيعة هي مَجْدَلونا، التي لعلها مزيج من لغتين يعني مجد القمر، يَلْتَفِفْنَ حولها وكأنّ براعة حضورها إشعاعُ الجاذبية من روحها، من روح بياتريسْ المحجّبة بها، من التي بُعثتُ في الماء مغسولاً معمّداً لأكون جديراً ببراعة ذيّاك الحضور الذي لها والذي الآن لا يزال يتدثر بحضور المرأة الأخرى. فلماذا لماذا أُمنح النعمة وأُحرم منها في آن معاً؟ ولماذا لماذا حدسي الشعريّ يخترق الحجب كلها إلاّ هذا الحجاب؟ لإطالة انتظاري ربما، فالغيب آرْكِتايْبْ كل الشعراء والمسرحيين والروائيين، وقدرتُه على الإطالة والتسويف والتأجيل إنْ هي إلاّ خصلة من خصاله الدرامية، بل لعله لعله يذيقني الآن طعم التسويف الذي كنتُ أذقـتُه قرّاءَ الكوميديا الإلهية، التائقين أبداً إلى ظهور بياتريسْ، فطيفُها هاجسٌ أبداً أبداً في النصوص، وحضورها غائبٌ حتى آذن لنفسي أن ألتقيها فيلتقيها معي هناك لأول مرة قرّائي الذين كَلَّتْ من اشرأْبابها أعناقُهم وأعناقهنّ.
التي قالت لي إنها دامو، والتي اسمها عشقاءْ، وماريّا، وهتونْ، التي هي أصغرهنّ، يتساررْنَ كلّهنّ، هجسةً هجسةً، في أمر شيءٍ أشبه ما يكون بمباراة في السباحة، يخوضها رجالُ البعث من رمل الشاطئ حتى الجزيرة التي في قلب البحر ويعودون ليجني كلٌّ منهم حصّته من النعيم الذي هو هنّ في أغلب الظن، همسةً همسةً يتساررْنَ، ويغلب عليهنّ الضحكُ، لا من مكرٍ سيّءٍ يمكُرْنَهُ، فهو الضحك الذي فيه قهقهةُ القلب في براءة عبثيّاته الأنثوية، صبغةَ العمر الغضّ، عبثيّاتٍ لا مجون فيها ولا نيّةَ شرّ، كلُّ ذا كلُّ ذا أسمعه بحدس الشاعر فيَّ، وتفتّحاتُ شفاههنّ وانطباقاتُها وتمايلُ أعناقهنّ هكذا وهكذا وانسدالُ شعورهنّ على انحناءات أكتافهنّ من غَشْيَةِ الضحك، كلّها تنبثق كأنما من خيالي فكأنّ مشهدهنّ فيَّ، لا على تلك الأرض في إقليم الخرّوب الذي لم تطأه مني قدمان لا في الزمن الأول ولا في زمن الآن. أراهنّ وأسمعهنّ، ولا هنّ يَرَيْنَني ولا هنّ يَسْمَعْنَني، فما أشبهني بما كان عليه أبو العلاء في عيشه الأول، يُقرأ عليه الشعرُ العربيّ فَـتُصَوَّرُ له المرأةُ بلونِ بشرتها وبحركاتها وسكناتها وبملبسها وعريٍ من عريها لا غضاضة عليه منه، فتستحيل أبياتُ الشعر في ليل عينيه إلى غلالاتٍ من الرؤى مغبّشاتٍ، كلما حدّق الشوقُ في مقلتيه المطفأتيْن لاجتلاء الرؤى تلك يقيناً بصريّاً، تداعت وتهافتت وتغشّى بعضُها بعضاً الغلالاتُ المغبّشاتُ، مضلِّلاتٍ مشكِّكاتٍ، فلا يبقى له، لأبي العلاء، من دنيا المرأة إلاّ المرأةُ لغةً، ولغةً فحسب. مثله الآن أنا، بعيدٌ عنهنّ الأربعَ قريبٌ، وبعيداتٌ هنّ عني قريباتٌ، واليقينُ اليقينُ احتمالٌ حدسيّ من نِعَمِ القيامة، لا أكثر من ذلك ولا أقل.
أبو العلاء
تعطيلُ شوقي إليها بمشاغلَ طارئاتٍ كتعطيل صلة الرّحم بتعلاّتٍ مستحدثاتٍ، وفي كلٍّ شرٌّ، ودانتي على حاله لا يزال يلحّ عليّ بالإشارة والنحنحة والنَّفَسِ العميق ليحرز منّي التفاتةً إليه تصرفني إلى ما في قلبه وما بين شفتيه انصراف المتبتّل المعصوم من توزّع خاطر وتشتّت بال. أماطل إلحاحه فيغضي عن نيّتي إغضاء المتجاهل لنيّتي ويتشبّث بحضوره حتى تنخذل إرادتي من حياء وحتى تعاتبني نفسي على انتقاصي من واجبات الضيافة ومن إخلالي بأدبيّات إكرام الضيف الغريب، تنخذل إرادتي ولا أراني إلا أهشّ إليه، هو، دانتي، والذكرى تعود إليّ حميمةً لحديثٍ لنا حميمٍ عن رسالة الغفران وإقراره بتأثره بروحها، وها أنت، أيها الشاعر الإيطالي، تنفرج عن هفواتٍ صوتيةٍ شفتاك وكأنك لم تعد تطيق على الصمت صبراً ولا عن الحديث اصطباراً.
يجهش بالبوح صوتُه أَنْ تخلّيتَ عن صحبتي، يا أبا العلاء، فسرحتَ وحيداً وحيداً جنوبيّ المدينة، منتبذاً لنفسك مكاناً قصيّاً على صخورٍ هنالك طالعاتٍ من قلب البحر، تستجلي مِنْ على حفافيها ما وراء الموج من أخبار شارداتٍ ربما، أو ربما تبثّها أنت لذعاتِ أشواقك الخفيّاتِ، هنالك بعيداً وحيداً تقف وتتملّى، وقد نسيتَني، كأنْ لم تكن التقيتَني والتقيتُك في أول البعث، وكأنْ لم نكن غريبيْن من أمّتين ولغتين جمعتْهما غربةُ الأرض ههنا في صيدون، وكأنك نسيتَ، أو كأنك أنستْكَ المترهّبة جْريسْ ذلك القول الذي به تحتفل كلُّ تصنيفاتكم الشعرية: وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ!
عتابه لي يستدرج منّي ابتسامةً أحسّها على شفتيّ وفي عينيّ ولا أراها.
دانـْـتي
من عَتَبِهِ على عتابي له لا أعجب، فعتبه ابتسامةٌ يتستر فيها الحياءُ من النفس برقّة الحدْب على المشاعر التي انبرتْ له مني، تذكّره بذاك وذاك لتستنقذه هنيهةً من الشيء المثيل الذي لا أجد من يستنقذني منه إلاّ محادثتي إياه وإلاّ مساررة روحي لروحه. المحمومُ خيالي يهجم عليه آخر الأمر بأكثر من المساررة، ففيضُ الحلم هو، أو شيءٌ من هذا القبيل، فأقول له، ولا أعرف كيف أقول، إنّ نيّتي معقودة على ملء ما تبقّى لنا من الأربعين سنة ما بين النفختين في الصّور بمعاشرة الإغريقية دامو معاشرة الزوج لزوجته، لا انشغافاً بها وطمعاً بجمالها، ولكن ضمانةً لبقائي على أقرب مسافة من بياتريسْ المتستّرةِ بها والراضيةِ بها لنفسها حجاباً، القاسيةِ القلب، القاسية ! حَدْبَةُ عينيه عليّ بنظرة إشفاق لهيف تتحدثان بالنيابة عن شفتيه.
أبا العلاء! أبا العلاء! يهجم عليه صوتي ثانية بأكثر مـن المساررة، ببحّةٍ تتهدج بالرجـاء، أَنْ، أبا العلاء، أبا العلاء، أيها المستردّ إلى عينيكَ النعمةَ التي لسرٍّ في الغيب حجبتْها عنهما نيّةُ الغيب في الزمن الأول، نعمةَ معاشرة الضوء من أيّة ناحيةٍ انسربَ إليهما، شعاعاً من هنا وشعاعاً من هناك وأشعةً من كل صوب، تتزاحم وتتلاحم، فهي الهودجُ، هودجُ النورِ، يسعى إليك، حاملاً إلى مقلتيكَ النساءَ كلَّهنَّ، قاماتٍ تنهض وتتمايل وتخفّ وتتثاقل، فتحدّثك أخبارَها، ووجوهاً تفيض بعينين وشفتين وحاجبين وخدّين، عن يمينٍ بهدبيْن وعن شمالٍ بهدبيْن، وبنظراتٍ وابتساماتٍ هي الشِّعْـرُ كله واليقينُ كله بعد زمانك الأول الذي تظلّلتَ فيه غلالاتِ الشك، فجرى على لسانك البيتُ الذي أحرج محبّيك ومريديك بعدك:
أمّـا اليقينُ فـلا يقينَ وإنما أقصى اجتهادي أن أظنّ وأَحْدُسا!
بالله عليك، ثم بالله عليك، دعني أوّلاً أفرغ في سمعك صدري ثم قل لي بعد ذلك ما بدا لك أن تقول. بالله عليك، ثم بالله عليك، ظُنَّ بيَ الظنون إذا شئتَ أو اتهمْني بالحكمة إن أراحك أن تتهمني، ولكن احْذُ حذوي وتفيّأْ بعد غلالات الشك ظلالَ اليقين، يقينِ وجودها معكَ في فسحة البعث على امتداد الأربعين سنة ما بين النفختيْن، احْذُ حذوي واعْقِدِ النيّةَ على معاشرة فاتنتك جْريسْ بالحلال على طريقة ملّتكم، واعلمْ أنّ رَهْبَنَتَها سقطتْ بقيام القيامة، عاشِرْها ليكون ذلك بمثابة التأهيل لك في مجال فهم المرأة فهمَ الممتلئةِ عيناه بالنور، اللامسِ لمفاتنها لَمْسَ الممَيِّزِ لكل ما تمرّ عليه أناملُه وأصابعُه وباطنُ كفيّه وغيرُ هذا وذاك وذيّاك، فالأمر كله أن تتهيّأ لما بعد الحساب، لحظّك من الثواب بعد العقاب، لحصّتك المكتوبة لك في الغيب من الحور العِين، فهنّ هنّ الغاية والمنتهى من كل ثواب، بعد الرضى والرضوان، كما هو حديث ملّتكم، يا أبا العلاء. هيّا، هيّا، اعْقِدْ نيّتكَ عليها قبل أن يتبدد زمنُ القيامة وتهبط عليك الحورُ العِين فيكتشفْنَ قلّة حيلتك وضحالة دربتك في معاشرة النساء. هيّا، هيّا، ولنملأ انتظارَنا لبدء الحساب بصحبة حليلتيْنا المقدّرتيْن لنا في البعث، فهما بعيداً عنّا قد تعارفتا بلا ريب، وحدسي يكاد ينبئني أنهما تساررتا واجتمعتا، مع الأخريات الأخريات، على أمرٍ لعله، ثم لعله، قد قُدِر.
أبو العلاء
أمّـا اليقينُ فـلا يقينَ وإنما أقصى اجتهادي أن أظنّ وأَحْدُسَا!
في الزمن الأول قلتُهُ هذا البيت، ودانتي يذكّرني به الآن ظانّاً بأن الموت والفناء بعثرا ذاكرتي فأنسياني "لزوميّاتي" وغرّباني عن الجوهر من طباعي، وقد تجلّى، أكثر ما تجلّى، في البيت الذي نسي المحمومُ الإيطالي أن يذكّرني به:
كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساءِ!
بارعاتُ الظنِّ والحدسِ واليقينِ والعقلِ، كلها كلها من بارعات الخلاّق العظيم، على عهدي بها كما في العيش الأول لا تزال، ولكنها اليوم بارعات عذابي، فحُجُبُ الغيب حتى اللحظة عصيّةٌ على بصري وبصيرتي، وقد كنتُ أحسب في أول البعث أن الآية "فبصرك اليوم حديد" إشارة إلى انهتاك السُّتُرِ نهائياً بين الرائي واللامرئيات، بين الحدثـيّات والنوايا، من لحظة الموت إلى هنيهة مساءلة القبر إلى النفخة الأولى في الصّور فبعثرةِ القبور فانسلالِنا من قلب التراب إلى ظاهر التراب في خلق جديد جديد، كنتُ هكذا أحسب مضمون الآية، فلم أرني إلاّ تتناهبني العواطف والرغبات ويتنازعني من الأشواق إليهن، متجسداتٍ كما هنّ، كلّهنّ، في المترهّبة جْريسْ، ما لا عهد لقلبي وحواسي به قبل القيامة.
أقول له استدراجٌ للغيب أمانيُّكَ اليوم، يا رفيق القيامة، فكأني بك لم يعد يرضيك من الإبداع أنك كتبتَ كوميدياك الإلهية في تصوراتك للبعث فأنت تصرّ الآن على أن تعيش البعث الحقيقي وكأنه كوميديا أخرى تلعب فيها أنتَ دور العاشق الذي تلبّسه عندنا عروةُ بن حزام، فهو لا يشفيه من حبيبته عمرُ حبّهما في الدنيا فيصرخ بالغيب:
وإني لأهوى الحشر إذْ قيل إنني وعفراءَ يوم الحشر مُلتقيانِ
وإنْ يكن لقاؤك ببياتريسْ غير لقائه بعفراء، فعفراء لا تلبس امرأةً أخرى لتعذّب عروة بمثل هذا الحجاب، ومحبوبتك يوهمك الشوقُ إليها أنها احتجبتْ عنك باليونانية دامو فوقعتَ في شِرْكِ خيالك الشعري الذي هو ضرب مـن ضروب الظنّ والحدس، وما الظنّ والحدس في لغة اليقين إلاّ لغة في الإحتمال. أمانيُّك، يا رفيق القيامة، تبلبل قلبي، فبعضه يستطيبها، ويحذّرني بعضه الآخر أنها بدعة من تلابيس إبليس.
أحبس أنفاسي حتى لا تطير إلى الهواء مع زفراتي لواعجُ شوقي إليها، تلك المترهّبة التي تَفَتَّحَ النورُ في عينيَّ عليها هي، فعن ملامحها هي لا يصرف مقلتيَّ صارفٌ وعن استرجاع صوتها لا يلهيني من الأصوات تالدٌ أو طريفٌ، أحبس أنفاسي حتى لا يطّلع على ضعفي المحمومُ الهاجمُ عليَّ بعلاجٍ للشوق الذي نصطلي بجمراته معاً، والذي يوشك جنونُه أن يستبد بإرادتي فيلويها مـن لعل وربما وعسى إلى نعمْ نعمْ، وأوشك أنا أن أهتف به أنْ هيّا بنا، أنا وأنت، يا رفيق القيامة، هيّا بنا نستنبط الوسيلةَ للاقتران بفاتنتيْنا قبل أن تستنفد القيامةُ زمنَها ونقع، مع بدء الحساب، في غيبٍ جديدٍ لم نتهيّأ له تهيّؤَ العارف لما هو مقبل عليه. أحبس أنفاسي عن الهواء وأحبس عن عينيه نظراتي، ويظل عميقاً إحساسي بأنني مُعَرّى القلب والحواسّ، كلُّ عيون البعث عليّ، تحاصرني من حيث لا أحتسب.
ومن حيث لا أحتسب يأتي نحونا خلف دانتي، محموماً بالبغتة والدهشة، صوتٌ يُختلط عليَّ انتسابُهُ إلى عمر الرجولة أو عمر الشباب، فأنصتُ مستتبعاً مدّاته وخطفاته، فتلوذ بأذنيَّ منه نغنغةٌ وكأنما من عتاب قديم، وما أن تتبين لنا من صاحب الصوت ملامحُ وجهه وتتوسط المسافةَ التي بيننا قامةٌ له فارهةٌ حتى ينبئني حدسي بأنه واحد من المعجبين بأدبي الذي تركتُه للناس من بعدي. ولا يخطئني الظنّ، فها هو يقول ويعيد القول، وها أنذا أستمع وأرهف السمع، فأعرف منه أنه اطّلع على رسالة الغفران وهو بعد في الخامسةَ عشرةَ وافتتن بها افتتاناً عظيماً فراوده من أحلام الكتابة ما راوده، ولكم تخيّل نفسه متفيّئاً ظل شجرة وارفة، وحوله شجر اللوز والتوت والرمّان والبرتقال، مزهّراً مزهوّاً بزهره، وقدماه تستريحان على بساط من الحشائش، خضراء خضراء، وفي يسراه دفتر وفي يمناه قلم، والسطور على الورقات تنهلّ انهلالاً من خياله الراحل بعدي في رحلة مثل رحلتي إلى زمن القيامة، من قبل أن تقوم القيامة، فتتم صفحاتُ الرحلة ويهبّ عليها نسيمٌ لا يزال يهزّها ويهتز بها حتى يطيِّرها وتأخذها منه الرياحُ الأربع، يقول ويعيد القول، وأستمع ويستبد بأذنيّ العجب العجاب، فأسأله عن اسمه، فيقول ما همّ أن يكون أو لا يكون له اسم، فألحّ عليه فيشترط عليَّ أن أستمع إلى أبيات من شعره فأحكم له أو عليه، ثم يفصح لي عمّنْ يكون، ولا ينتظرني لأقول لا أو نعم، فيسرّح عينيه أوّلاً في الفضاء، ثم ينشد بصوت لم أسمع مثله من قبل، صوتٍ أشبه ما يكون بشيء بين حمحمة الخيل وهديل الحمام:
إذا متُّ والإنسـانُ لا بدّ ميّتٌ فـلا تجعلِ القبرَ السحيقَ مكانيا
فإني لأخشى الليلَ والليلُ مظلمٌ فكيف إذا ضـمّ الظلامُ عظاميا
ألا واجْعَلَنّي يـوم أصبح جثّةً على ربوةٍ عند الشواطئ ساجيا
تصول عليّ الريـحُ كلّ عشيّةٍ وتلمس هبّاتُ النسيمِ تـرابيا
لعل ظلالَ الـروحِ ترجع مرةً فتؤنسَ مـن بعد الفراق رفاتيا
ويخطف الصمتُ عينيه وصوته، فتأخذني عليه الشفقةُ وأنا أتذكر تأملاتي في الحياة والموت ويجري صامتاً على شفتيّ بيتٌ من الشعر لي قديم:
غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي نوحُ باكٍ ولا ترنّمُ شادِ
وسرعان ما أراني أسأله إذا كان قد نظم هذه الأبيات في خريف العمر، فيبدو وكأنه يستفيق من سرحة لا قبل لي بها ويجيبني بطيف ابتسامة وبأنه كتبها وهو دون العشرين. أفغرُ فاهي عجباً وأعجّل في طمأنته أنها من الغنائيات الصافيات، لا تكلُّفَ في لفظها أو عاطفتها، طفوةٌ من طفوات الروح في تأملاتها أمورَ الحياة والموت. وقبل أن أسأله أن يفي بوعده لي لقاءَ وفائي بوعدي له فيكشف لي عن اسمه الذي أصبح شيئاً كالسرّ الواقف بيننا، تنسرح به عيناه جنوباً جنوباً إلى علٍ، إلى علٍ، فأستدير استدارةَ عينيه فتمتلئ السماء فوق تلة سينيق بدوائر من الألوان طيّ دوائر. اللحظةُ التاليةُ تكشف لي أنّ الشاعر الذي نسي أن يفي بوعده لي أخذتْه عنّا قدماه مسافةً من المسافات.
دانـْـتي
أكـاد بنظـمِ الشعرِ أُغْوى وإنما علـيَّ اللحاقُ بالـذي كـان بيننا
فَمِنْ مثله قد يُرْتجى النصحُ خالصاً عسـاهُ لـه رأيٌ يـوافـق رأيَنا
نلـحّ عليه بالسـؤال ونرتضي بحكم الهوى إن كان في العشق مثلَنا
وأفتح فمي خلفه، لا بالشعر الذي جرى به خاطري، ولكن باستجدائه أن يكفّ عن المسير لحظةً، لحظتين، ثلاث لحظات، ريثما ألتقط أنفاسي وأبيّن له سببَ لحاقي به، فتحدّثني خطواتُهُ الشارداتُ أنه إمّا لا يسمعني وإمّا أنه يسمع ولكن يستجيب إلى نداءٍ آخرَ آتيهِ من دوّامة الألوان التي هنالك تتسع وتتسع حول تمثال السيدة العذراء فوق تلة سينيق. أمزّق الغبشة بصوتي أَنْ بربّكَ لا تتركْني أتهالك على الأرض خلفك وأنت منّي في العمر بمنـزلة الإبن أو الأخ الصغير، فتتباطأ في المسير قدماه ثم لا أراني إلاّ وقد دنوتُ منه خطوة فخطوة أخرى حتى حاذيـتُهُ، وهو لا يلتفت إليَّ. الآن أحطّ عينيّ في عينيه وأعاجله بالسؤال عن اسمه الذي لم يصرّح به لأبي العلاء حتى أعرف مَنْ أخاطب وحتى أخاطبه حسبما تقتضي لباقةُ محادثةِ الغريب للغريب. وما هَمَّ أن يكون اسمي سامح الجمري أو أي اسم سواه، فالقيامة قامت ونحن بانتظار أن ينتصب الميزان؟ ما هَمَّ الآن، ما هَمَّ؟ تجري هكذا الكلمات على شفتيه، والنظرةُ في عينيه كأنها عبرتْني وجرتْ تسوح لا فيَّ ولا في أي مكان. أحكّ أذني بأصابع يدٍ وأمرّر أصابعَ الأخرى على شعر رأسي مرة بعد مرة، وألتفت يمنة ويسرة، وآتي بما لا أحصي من الحركات، وهمّي أن أسترعي انتباهه وأسترجعه إلى اللحظة والحيّز اللذين أنا فيهما الآن.
من أين تعرف أبا العلاء، وهيئتُك لا تدلّ على أنك من أهل هذه البلاد؟ يسألني بلا ممهّدات. وأنت تعرف أبا العلاء وتجهلني أنا؟ أسأله وقد غاظني أنني نكرةٌ في هذه البلاد. يبدو أنه أحسّ بما تعتمل به نفسي فها هو يرسم على شفتيه ابتسامة وديعة، ربما ليمسح بها عني بعض غربتي. أقول له مَنْ أنا وكيف كان بعثي خطأً في هذه الأرض ومِنَ الماء بدلاً من التراب التراب. تنفتح عيناه على وسعهما كمن تذكّر شيئاً وتنفتح بيني وبينه ذراعاه الرحبتان، انفتاحةَ العجب والدهشة والترحاب، فهي للحظةٍ بيننا كلُّ الكلام. تعرفني إذن كما تعرفه؟ أسأله، مشيراً بيدي إلى أبي العلاء الذي اكتشفتُ لتوّي أنه يقترب منّا صامتاً، وفي صمته ما تضيق به الفسحةُ التي بيننا من خواطر ظنّه وبغتات حدسه. يفتح الذي اسمه سامح فمه ويقول بأنه درس كوميدياي الإلهية في الجامعة وأنه افتتن بها افتتانه برسالة الغفران، على ما بينهما من اختلافات تربو على المتشابهات، ويعترف بأنه لسنوات لا تُحصى ظلّ يحلم بنظم كتاب عن القيامة يجمعني فيه بأبي العلاء. أيهذر هذا الرجل في وجهي أم أنه يرتجل لتوّه حلماً لم يكن حلم به في الزمن الأول، ولكنْ حَلَتْ له اللحظةُ وحَلاَ له اجتماعُنا، أبي العلاء وأنا، على هذه الأرض التي يبدو كأنه ليس غريباً عنها، فحبكتْ له فطرةُ خياله الشعري ما حبَكتْ وحوّلتْنا في عينيه إلى شخصيتين من شخصيات روايته التي لم يكتبها بعد؟ تصطخب في بالي الخواطر فألجمها قدر ما أستطيع حتى لا تفضح ما وراءها في رأسي من الظنّ أنّ به جِنَّةً أو أنه لبسه من شياطين الشعر شيطان.
أبو العلاء لا يزال ينقّل عينيه بيني وبين الشاعر الذي لم يَفِ له بوعده بعد، فأحلّ له اللغز بمخاطبة الآخر أَنْ أستميحك عذراً أيها السامح الجمري، فلقد استوقفتُكَ ولم أسألك رأيك في مسألتي ومسألة أبي العلاء. ولن أطيل عليك، فقل لي، بل قل لنا، هل في زمانك الذي كان بعد زماننا، هل جرى على ألسن الفقهاء أو في صفحات كتبهم حديثٌ يتناول الأربعين سنة الفاصلة بين النفختين في الصّور وكيف على أهل البعث، من أهل الكتب السماوية الثلاثة، أن يسلكوا في تلك الأربعينات ليصلوا إلى لحظة الحساب وذنوبُهم المحمولة معهم من زمن الأرض لم تزدد مقدار حبّة خردل؟ هل قالوا أو كتبوا في ذلك شيئاً؟ السامح الجمري يبتسم ويقول أنْ إني لأعجب من أمركما أيها الشاعران اللذان سبق خيالُكُما إلى القيامة كلَّ أهل الأرض، تسألاني سؤالاً لم تحسنا صياغته، أنتما المشهود لكما ببراعة التركيب البنيويّ الذي اصطبغ بصبغته كتاباكما، تسألاني سؤالاً له صيغة السؤال ولكن فيه أيضاً إخفاءٌ متعمّد لسؤال آخر متحجِّبٍ في السؤال المطروح. تصطخب الضحكة في صدري فألتفت إلى أبي العلاء أَنْ أرأيت كيف أنتم، أهل المشرق، أكثر خلق الله وسوسةً بمسألة الحجاب؟ أسمعتَ كيف شاعرك الصيداوي هذا أَوَّلَ سؤالي فلم يَرَ فيه إلاّ صورةً شعريةً للحجاب؟ يجبهني بصوته أبو العلاء أنْ وكيف تؤوّل أنت سؤالك الذي لم تذكر فيه مسألتنا بتحديد دقيق يوفّر علينا ثلاثتنا الزمن الضائع من عمر القيامة في كل لحظةٍ لحظةً؟ صوتي يسبقني إليه أنْ نحن أهل الغرب نفضّل طرح المشكلة في إطارها العام أوّلاً ثم تستدرجنا اللغةُ مفردةً مفردةً حتى تستنطقنا الوسواسَ الأخصَّ والفكرةَ الأدقَّ، وبكلمات أخرى، نبدأ من محيط الدائرة وننـزل السلّم شعاعاً شعاعاً حتى نبلغ نقطتها المركزية. تلك على كل حال واحدة من طرائقنا، وقد نفعل العكس لنصل إلى النتائج عينها. الصوتُ الثالث يأخذ عنّا الكلام أنِ السؤالَ حَدِّدا أو عنّي ارْتَدّا، فالنداءُ الصريح إليّ من على تلكم التلة في سينيق يلحف في إلحاحه عليَّ أَنْ أُسْرِعَ لارتقاء التلّة وتوسُّلِ العذراء الأمّ أن تطهّرني من رجس خطاياي وتعطّر سجلّ ذنوبي فيكون إشفاقُها عليّ شفاعةً لي، بإذن الله، لحظةَ ينتصب الميزان ويتردد في الفضاء أنْ كفى بكتابك اليوم عليك حسيباً.
هَجْسُهُ بالخطايا أعظمُ خطاياه لو كان يدري، أو هكذا يهجس بيَ الظنُّ الذي انتقل إليَّ كالعدوى من أبي العلاء، بحكم العشرة الجديدة على ما يبدو. ولعله قرأ الجمريُّ في عينيّ ما يدور في خلدي، فوجهه تسيل به الابتسامةُ الوديعة الرحبة، وشفتاه تخضلاّن بنيّة الكلمة الطيبة التي أكاد أرى ملامحها ولستُ أراها.
هاجس الخطيئة حَمَلْـتُه معي من أوّل العمر الأوّل، من الحبّ ورثْـتُهُ ومن الشهوة ورثْـتُهُ، كما ورثْـتُهُ من الشك بيقيني ومن يقيني بشكوكي، وورثْـتُهُ، كما أذكر، من الشر والخير اللذيْن فَتَّتا عمري في تناوبهما على الأخذ بإرادتي، ولعلني كذلك ورثْـتُهُ، ولكن لا يتم، بل ينفض في الهواء يديه وفي الجوّ ضحكتَهُ التي هي شيءٌ من التعابث وشيءٌ من لجم الذات، من معاتبتها ربما على أن أسرفتْ في الإفصاح عن سرائر كان ينبغي أن تظل مع سواها في جيرة المكنونات. أقتنص هنيهةَ انشغاله بلجم الذات ويهجم عليه صوتي باعتراضه أنّ القيامة مرهونةٌ بالخطايا وإلاّ فَسَدَ رهانُ الغيبِ المُعَلِّقِنا بين احتمال فردوس واحتمال جحيم، يهجم عليه صوتي بسرّه هذا ويضيف أَنّ هَجْسَنا بالخطايا من عجين العجنة التي عُجِنَّاها في الخلق الأول، فهو، بهذا المعنى، طبعٌ من طبائعنا التي علينا الإرتقاء فوقَها، وقد ارتقتْ بنا القيامةُ درجات سابغات صوب العرش وقرّبتْنا من لحظة الكشف الإلهي أزمنةً ضوئيةً تؤهّلنا لمواجهة العرش بطهرٍ من الخطايا التي العرشُ جديرٌ أن يمسَحها عنّا قبل لقائنا به لنكون أهلاً لذيّاك اللقاء. هكذا هكذا القولُ ينهلّ مني، وكأنما بالرغم عني، فأتلفّتُ حواليَّ لأعرف الذي جرى لي وفَلَّتَ من صدري الذي لم أكن أعرف أنه ساكنٌ صدري، ثم تنخطف مني عيناي جنوباً جنوباً، تستعطفان التي على تلة سينيق، تستجديانها أن تترفّق بجراءتي على الغيب وأن تستنـزل عليّ بشفاعتها من ذي العرش غفراناً. لغة الملة الأخرى. السامح الجمري وأبو العلاء يدنيهما مني حتى يكادا يلتصقان بي لهفةٌ في عيونهما غير لهفة الشوق أو لهفة السؤال، شيءٌ هو، في لغة السرائر، أدنى ما يكون إلى الحدب عليّ والرأفة بي، لخشيةٍ يحسّانها ربّما من شيءٍ مبهمٍ قد يحدث لي أو لأنّ شيئاً بالفعل قد حدث لي ورأياه.
العربيّان هذان كلُّ جيرتي اليوم في حبكة هذا الغيب الجديد عليّ، والحبكةُ ها أنذا أرى سياقها في اكتمال، فها هو السامح الجمري تَكْنَهُ ما تَكْنَهُ براعتُهُ الحدسيّةُ فيبوح لنا بقصتي وقصة أبي العلاء مع فاتِنَتَيْنا ويشير علينا أن نصطحبه لنبحث وإياه عن العلاّمة الشيعيّ الذي كان عرفه واستفتاه مرة في الزمن الأول، ففتوى من قلبه الرّحب، يؤكد الجمري لنا ويغالي في توكيده، تستدرج الحلَّ لنا من حيث لا يُرتجى الحَلُّ، ومباركةٌ منه لحلمنا جلاّبةٌ للسّعد من حيث لا يُرتجى السّعدُ. أبو العلاء وأنا نطبق عليه بالشكر والعناق، ولا تلبث أن تتهدهد بنا أقدامُنا على هَدْيِ صوتِ الشاعرِ القرآنُهُ يخاطبه بأنّ الشعراء يتّبعهم الغاوون وأنهم يقولون ما لا يفعلون، تتهدهد بنا خطواتُنا قدماً قدماً، والغبشةُ ترقّ وتكثف من حولنا، فنخترقها آناً وتخترقنا كمن يعبر من يقين إلى شك ومن شك إلى يقين.
ديفيدْ مُرْدَخَايْ
أندفع إليه بأشواقي المبهمة وقد خفّ فيَّ وحولي كلُّ شيء فقدماي لا تكادان تطآن التراب، أخفّ إليه ويخفّ إليّ جدّي ويأخذنا العناقُ قبل أن ندركه وقبل أن ندرك أنّ الخطوة أخطوها صوبه أنا ويخطوها هو صوبي إنْ هي إلاّ خطوتان اثنتان تلفّان المسافةَ على بعضها وتفرغان من نفسه الفراغَ الذي بيننا، فنحن في لهفةِ اندفاعنا لقاءٌ قبل أن يكون اللقاء. الساكنُ فيَّ الآن يلقاني وألقاه، فكأنما لتوّه خرج منيّ ليصل إليّ وكأني في انتظاري له كنتُ أكتمه عن اللحظة التي كانت تنتظرنا لتمتليء بنا، لحظةِ الآنِ والآنِ والآن.
يقول خرجتُ من التراب ولم أجدك أمامي فانهالت في عينيَّ الإتجاهاتُ الأربعةُ حاملةً إليهما ملامحَ كلّ مَنْ كنتُ أعرف وكلّ مَنْ كنتُ لا أعرف، ظلالاً ليست من ظلال ملامحك أنتَ، فكنتُ أصرخ بها أنِ ارْتَدّي إلى مدافنك عني وغوري عن عينيّ إلى أبعد من ذلك، إلى الزمن الذي سبق القيامة والموت الذي قبل القيامة كان، غوري ثم غوري، وهي تنهال في عينيّ متلوّياتٍ من الظلال التي هي أصداءُ الملامحِ، ملامحِ الذين كانوا ثم لم يكونوا ثم اسْتُحْضِروا بلفظة كونوا فكانوا خلقاً في البعث جديداً، وأنتَ غيابُكَ عن عينيّ صرخةُ النفي والخطابُ المفحِمُ للجلبة والتأوّه والاستغفار والابتهال والتنادي والتّتاهم والتعاتب والتناوح أنكِ كلّكِ كلّكِ لا تؤكدين البعث ما لم تَعُدِ الحياةُ بحفيدي الذي ربيّتُهُ أنا، بديفيد، الذي لو كنا يوم ولادته لا نزال في زمن النبوّات لما كان أحد أقرب منه إليها، فهو العمرُ الأول، عمري، وهو الوحشةُ في زمن الموت، وحشتي، والقيامةُ لا تكون إلاّ به، قيامتي أنا وقيامةُ أنقى ما في اليهودية من صبغةِ حكمةٍ وصبغةِ قوّة.
يقول كل ذلك من دون أن يفتح فَمَهُ جدّي، فعناقُنا المعنى الذي يسبق الكلمات، فهي حثيثاً تبحث عنه، حتى إذا ما وجدتْهُ ألفتْ أن الحديثَ انتهى وأن الأفكار والخلجات انتقلتْ بأصحابها إلى سواه سواه.
الآن يخرج منه صوتُه هو هو، صافياً رائقاً، وقد انتهت بيننا هنيهةُ العناق، كما في الزمن الأول يخرج لا من حنجرته صوتُهُ ولا من بين شفتيْه، بل من ذلك الفجّ العميق من فجاج القلب حيث لا زمن إلاّ نبوّاتُنا ولا أرض إلاّ خرائط نوايانا وحيث الآتي مضى والحاضرُ الصدى والحدسُ المنتهى المنتهى، يخرج صوتُهُ منه، صافياً رائقاً، أنْ ثم لاح لي عبر حدود شماليّ إسرائيل هالةٌ من النور المصفّى، من على تلةٍ في جنوبيّ لبنان يقال لها تلّة سينيق، لاح ليَ النورُ الذي انداحتْ منه ألوانُهُ نداءً خفيّاً أنْ أسْرِ إليَّ فأنا نجمةُ اهتدائك إلى حفيدك وصَدِّقْ بالبعث الذي أنتَ فيه، فصدّقتُ، أستعجل اللقاء بكَ، وارتحلتْ بي قدماي في تعرجات الشاطىء وامتداداته وتلوياته شمالاً شمالاً حتى انسربتْ بي إليك الغبشةُ انسرابةَ الخاطر من ترجرج شكٍّ إلى استتباب يقين.
أبو طاهر يحوّطنا بلدونة نورانيّته فيتماوج حضورُهُ وحضورُ جدّي وكأنّما شيءٌ فيهما انبثق من عين النبع الذي منه شَرِبا في طفولتهما، على ما بين بلديْ ولادتهما من وحشةِ مسافةٍ وما بين عمريْهما من وحشةِ سنواتٍ مديدات، شيءٌ فيهما كأنما انصهر وصهرهما في غفلة المكان والزمان عنهما، وربما في غفلة القيامة عن انتسابهما إلى شرعتين متناحرتين من شرعات الزمن الأول، يحوّطنا أبو طاهر ويترقرق في الغبشة إلينا صوتُهُ الذي هو أكثر من صوتٍ، مخاطباً جدّي أنّكَ تذكّرني أيها السيّد بجدّي الذي مات عني في الدنيا وأنا بعدُ صبي صغير، وأني لا أحسبكما التقيتما أبداً أبداً، غير أني تهادنني ظنوني على أنكما لو التقيتما كنتما في الأولى لكنتما أَحْسَنَ أحدُكما جوارَ الآخر ولكان انبعاثكما من القرب بمقدار ما كنتما عليه من المودة، فيبتسم جدّي ويترقرق شيءٌ في عينيه أشبه بالذكرى، أم أنّ عينيّ تُرِياني ما تحبّان أن ترياه؟ لن أكرر على نفسي السؤال، فلم تعد التساؤلات تعنيني ولا الأسباب تهيّج فضولي في هذه اللحظة التي تستفرد نفسها من لحظات القيامة بخصوصية حضورهما المشعّ عليّ بذكرى جهّار الجمري يرفع يده إليَّ بتحية الوداع، هنالك في الزمن الأول، زمن اجتياحنا للبنان، وقامتُهُ شاهقةٌ به تحت شاهقةٍ من شجرات البلح في المنبسَط الخلفيّ لمطعمه في الفينيقيّةِ صيدون.
وفي الفينيقيّةِ صيدون جميعنا نحن الآن، يتغلغل في حضورنا صوتٌ في عربيّته لكنةٌ غريبة أشبه بلكنتي ولكنةِ جدّي، فنلتفت إلى مصدر الصوت فإذا الوجه غريبةٌ عن الساميّةِ ملامحُ الأنفِ فيه وعَظْمُ الخدّين، فلعله أن يكون، بل هو يذكّرني، بل إنها إنها ملامح دانتي الذي رَسْمُهُ على غلاف كوميدياه الإلهية. يسبقني إليه صوتي أنْ ألستَ الشاعر الإيطالي الذي كتب، ولا أتم السؤال لأن ضحكته كل الجواب. نتأمله جميعنا، وفي سرّي أعجب أن يكون اليوم الشاعر الذي اشتهر بجحيمه في فردوسٍ من الفرح وكأنه خارج حيّز القيامة. من خلفه ينبثق رجل كأنه سرّه، وإن يكن في ملامح وجهه ما يقيم بيننا وبينه نسباً وقرابة. يعرّفنا به دانتي فإذا هو الذي أفاض من نور عماه على اللغة العربية غفراناً من رسالته التي وصل بها الأرض بالسماء والنشأة الأولى بالنشأة الأخرى فأقام القيامة ونصب الميزان قبل أن تكون قيامة ويكون ميزان وقبل أن يخطر من ذلك شيءٌ على بال الإيطالي الذي لم يكن قد أبصر النور بعد.
أبو العلاء ودانتي وجدّي وأنا أربعةُ ضيوفٍ غرباء، وعلى غير ما اتفاق نزلْنا على ابن المدينةِ، أبي طاهر، ذلك الذي لا تزال نورانيّتُه تحوّطنا وكأنما هي، كما في تراث العرب، البشاشةُ التي هي أوّل القِرى.
فوق تلة سينيق، جنوباً جنوباً، تشعشع هالةُ النور ويضيء في وجه السيدة العذراء، أو هكذا يُخيّل إليَّ، شيءٌ كأنه ابتسامة تبحث لنفسها عن مسارٍ في الفضاء.
آيينْ شارونْ
أقربُ الثلاثة إليّ يهوذا وأضمنُهم تبعيّةً لي شيمونْ أَزَرا وأكثرُهم تهافتاً عليّ إدجارْ عضاهْ الرّوحْ، فكيفما سقطوا عـليّ من قلب الزوبعة يظل إحساسي بهم المُصَنِّفَ لهم جملةً جملةً وتفصيلاً تفصيلاً. أُسْقِطُ من حسابي نوايا القيامة التي زَوْبَعَتْهُمْ إلى مكان انبعاثي في قانا وأرسم عليهم بنيّتي خارطةَ تسييري لهم فيما تبقّى لنا من الزمن قبل النفخة الثانية في الصّور، أُسقط ما أشاء وأرسم ما أشاء، فلغيري قبولُ القيامة على سجيّة القيامة. اليوم أستثني من بين الخلق نفسي لأعلن نفسي شريكاً بالنيّة في صياغة الأحداث وتلوين مساراتها، وها همُ الثلاثة، ها هم يدنون منّي حدقةً حدقةً وكأنما حَدَسَتْ عيونُهم أدوارَهم التي ارتسمت لهم معانيها في عينيّ، فأحبّوا ما رأوا فحدقاتُهم الستُّ لا تنفكّ تضيّقُ عليَّ الدائرةَ التي استثنيتُ بها نفسي من الخلق أجمعين.
شيمونْ أَزَرَا
بين حالة ميلٍ وحالة عزوفٍ ظلّ يؤرجحني قَدَري الذي لم يكن من إرادتي، فهذه كنتُ منها خُلْوَاً في حضورهما أو حضور أحدهما، وبين كفّتيْ ميزان مَرَّ العمرُ الذي انقضى لحظةَ وجّهتُ فوهةَ رشّاشي صوب ديفيدْ مردخاي في صيدون القديمة، زمن اجتياحنا للبنان، وجّهتُها صوبه لأحرمهم من أسره وربما لأفيَ بوعدٍ كنتُ قطعتُه لآيينْ شارونْ، دونما كلام منه لي أو له مني، أنْ لا أَدَعَ الأوّلَ يُتِمُّ عبوره أرض لبنان إلى إسرائيل بنيّة إفشاء السرّ، سِرِّ ما جرى في مخيّميْ صبرا وشاتيلا، اللحظةُ تلك هي اللحظة التي اختلط فيها رصاصي برصاص مطاردينا من شبّان أبي طاهر، فأنا إلى اليوم لستُ على يقين من أنني أنا الذي قتلتُ المردخاي، كما أنني يكاد يطاوعني الجزمُ بأنّ رصاصهم ربما كان حصدني قبل انحصاده.
لحظةُ الآنِ، الآنَ، غيرُ تلك اللحظة التي طُويتْ بها في الزمن الأول حياةٌ وحياة، والمكان الذي نحن فيه غيرُ ذيّاك المكان، فقانا التي استباحها طيرانُنا بعد موتي وموته تجمعنا اليوم إليها لتستبيح كياناتنا استباحة المعقود على أمرٍ أَمْرُهُ، فنفسه نفسه آيينْ شارونْ، الواقفُ وقفةَ العارف أنْ لا شيء واقف بيننا، تتسلل إلى خواطرنا خواطرُهُ تسلُّلَ الأشباح الملثّمةِ بشبحيّتها، وصوتُهُ المعصومُ من الصدى، لغياب المسافة بين شفتيه وآذاننا، صوتُه الملحِفُ الملحاحُ يشجّ خيالاتنا بحركاتٍ لنا لا نتحركها الآن ولكن نتمثّلها فتصبح كلَّ وعينا لأنفسنا، فلا أرانا إلاّ ودربٌ تمتد أمامنا ونسلكها فهي تتعرّج بنا شمالاً فشرقاً فإذا نحن، آيينْ وأنا وإدجارْ ويهوذا، نتسلق قمّةً كنتُ رأيتُها من قبل، ويتخذ كلٌّ منّا عند حافةٍ من حفافيها مغرسَ قدم له، وفوقنا، على مسافة يسيرة، تمثالُ السيدة العذراء، وتحت عيوننا المنحدَرَاتُ إلى مقبرة تحفّ بها البساتينُ التي تحفّ بها من كل صوبٍ تلالٌ وتلال. هنالك ننتظر، ولا يبوح لنا آيينْ بِاسْمِ الذي ننتظره، فعيوننا على كل شيء تترصد ظهورَ الذي لن نعرفه حتى تحين اللحظة التي يُقال لنا فيها إننا الآن نراه نراه. صوت آيينْ وشفتاه وعيناه وحتى خواطره، كلها تصمت عن الإسم المرصود فكأنما تتفكك حروفُهُ بنيّةِ نَاوٍ نَوَى وتتبعثر فوق مُغَبَّشٍ منفيٍّ من المنحدَرَات.
إدجارْ عِضاهْ الرّوحْ
حدسُ آيينْ يخبّر آيينْ بأنني أكثر الثلاثة تهافتاً عليه، فألتقط بحدسي الموسيقيّ الخبرَ مُنَغَّماً كالصوت الساريةِ به نغميَّـتُهُ مسافةَ الكشف عنه، لا هي تتعداها ولا هي تنكفئ دونها، مسافةَ الكشف، لأنّ المسافةَ جسدُ النغمة، كلاهما مُكْـتَـنِـهٌ للآخر، مُكْـتَـنَـهٌ فيه، تماماً كما، في لغة النقد، الشعرُ معناه مبناه ومبناه معناه، لا يتعدى أحدهما الآخر ولا هو ينكفئ دونه. هكذا هكذا كانت ستقولها بالنيابة عني شقيقتي عِناسْ، لو أنها بُعثتْ عِناسْ حيث أنا بُعثتُ، ولو أنها زوبعتْها القيامةُ كانت إلى حيث زوبعتْني، لو أنها، لو أنها.
وجه آيينْ يقول بأن آيينْ لا يزال مأخوذاً بعجيبةِ انبعاثه في غير الأرض التي هي أرض آبائه وأجداده، أم تُرى الدهشة في عينيه يولّدها اكتشافُه بأنّ مبعثه في قانا الشاهدةِ قديماً على أعاجيب المسيح، إنما هو مبعث العودةِ، وإِنْ بعد فوات الأوان، إلى جزء من الأرض ينتمي بروحانية ذكراه إلى الشعب اليهودي الذي منه الناصريُّ، تُراها تُراها الدهشةُ في عينيه انشداهُ الطفولة في لحظة الكشف أم العيُّ عن بيان وتبيين استنكار القلب على القيامة إكراهَها له، هو آيينْ، على النهوض من هجعة التراب في أرضٍ توالفت عليها أعاجيبُ الخير والشرّ والحياة والموت فَغَدَتِ البَرَدوكْسْ الذي هو الشيء وضدّه، تُراها، تُراها، أم أنها تُراها؟
الناصريّ لم تشهد عيناه خرابَ قانا زَمَنَ استباحتْها طائراتُ الأفْ 16، كما لم يشهد خرابَها آيينْ، فَعِلْمُهُ بذلك لا ريب كان بعد حلول الموت عليه وسقوط الحجب المسدولة بين المرئيات واللامرئيات وبين الماضي والحاضر وذلك الذي هو آت. آيينْ والناصريُّ وقانا، ونحن الثلاثة الهابطون من قلب الزوبعة، تُرانا جمعتْنا القيامةُ لنيّةٍ نَوَتْها فحجبتْها عنّا حين أقحمتْنا فيها، ووقفتْ تتفرّج علينا نتقلّب بين الدهشة والإستفسار، بين الخوف من الشيء والتمني لسواه، تتفرّج علينا وتقيس خلجاتنا ببرودة قلب؟ والغائب عن قانا زمنَ خرابها وزمنَ اللحظة التي الآن فيها نحن، الغائبُ الناصريُّ لماذا شديدٌ حضورُ ذِكْرِهِ في خواطرنا، مَكينٌ متينٌ ملحاحٌ ملحافٌ حتى لكأنه أكثر من كائنٍ بيننا، حتى لكأنه فينا، في كلٍّ منّا، أقرب إلينا من ميعة الدفء السارية في عروقنا وشراييننا ومن مسرى الإشارات في أعصابنا، بين أدمغتنا وسائر ما لنا من أجسادنا، مكينٌ متينٌ ملحاحٌ ملحافٌ فَذِكْرُهُ حضورُهُ المستبيحُ لحضورنا، المُسْتَبَاحُ لوعينا له، خاطرةً، خلجةً، أمنيّةً، خَوْفَةً خيفةً، لهفةً، جزعةً، فرحةً، هلعةً، كلها معاً معاً، تتهافت علينا من خواطر آيينْ فنأخذه بعيوننا التي تأخذها عيناه شمالاً فشرقاً، فإذا الهالة تغرورق بألوانها هنالك على تلة سينيق حول السيدة العذراء، تغرورق بألوانها، سمفونيةً للغيب، فيغرورق معها، فيها، وحولها، بألوانه الزمنُ، فقانا وتلة سينيق الماضي والحاضرُ وذلك الشيءُ الذي هو آت.
يهوذا
آلةَ الغيبِ كُنْـتُها في الزمن الأوّل، كُنْـتُها آلةَ الغيب، فهكذا تخيّلتْني العقودُ الأخيرةُ من القرن العشرين وأوّلُ عقود الواحد والعشرين، في الأفلام السينمائية صوّروني وربّما من على منابر الفاتيكان أعلنوني، آلةً لا إرادة لها إلاّ إرادة الغيب، مُفْرَغَةً من الحبّ كما من الكراهية، من الولاء كما من التخلّي، من الأثرةِ كما من الإيثار، معرّاةً من لعنة النوايا كما من نعمة الأمنيّات، وظيفةً تُؤدّى ووعداً يُنْجَزُ من علِ، لتتم آياتُ الكتب وتصدق نبوءاتُ الأنبياء وتتحقق رؤى القديسين، كنتُ ذاك ذاك ولم أكن غير ذاك. أم أنني كنتُ غير ما تخيّلوني وطال عليَّ الزمنُ فلم أعدْ أذكر أيّ يهوذا في الحقيقة كنتُ؟ كنتُ لعلني، ولعلني ما كنتُ، وإذن فأيَّ المشيئاتِ القيامةُ تشاؤني الآن وأيَّ الكينوناتِ تُراني أكون؟
قُبْلَتي لَعْنَتي، فيا ليته أدار ليَ الخدَّ الآخر لأقبّله عليه القبلةَ التي بها كنتُ محوتُ القبلةَ الأولى، فَلَكَانَ إذن تغشّى الجندَ اختلاطٌ عليهم للأمر فكانوا كمن رأى وما رأى، ولكان نجا الذي أدانوه ومِنْ قتلِ نفسي نجوتُ أنا، قُبْلَتي اللعنةُ التي أفرغتْ مـن الحب شفتيّ وأحالتْ بعدي قُبَلَ الدنيا إلى شقائقِ ريب، إلى حمرة الدم الذي نفسَه خان، أم أني، أم أني أنا المختلطُ عليه الأمرُ، فلا قبلةً في الحقيقة قبّلتُ ولا جسداً لغيري أسلمتُ، فالأمر كله لا يعدو أن يكون استفاقةً عنكبوتيةً من حلم بغيض؟
آيينْ، المحرَّفُ اسْمُهُ من قايينْ، ينقل عينيه بيني وبين إدجارْ وشيمونْ أَزَرا، ثم يحطّهما عليّ، في عينيّ، فتغبَرُّ الرؤيةُ في عينيّ رمشاتٍ معدوداتٍ، ثم الصفاءُ الصفاءُ يتجلىّ، وإذ بثماني عيوننا في أربعةِ وجوهنا تنهض إلى علِ وتنسرح شمالاً فشرقاً لتغرورق بهالةِ النور المغرورقةِ بألوانها، تحفّ وترفّ بالسيدة العذراء، هنالك على تلةٍ كانوا في الزمن الأول يسمّونها تلة سينيق.
ثم يفتح فمَه آيينْ ليقول.
الخوري حنّا
لا رسالة الغفران لمعرّينا ولا الكوميديا الإلهية لدانتيهم قاربتْ في وصفها للقيامة الاحتمالَ الثالث لحقيقة القيامة، احتمالَ الأربعين سنة بين النفختين في الصّور، كما في لغة الملّة الأخرى، أربعين كأنها تتمّة لزمن العيش الأول، نتمّ فيه ما كنا بدأناه، أو أننا نحاول على أقل تقدير. أهل رعيتي كنتُ أدعوهم إلى طريق الربّ، وها أنذا في مسيرتي من مقابر الأشرفية إلى تلة سينيق أتمّ ما كنتُ بدأتـُه في الزمن الأول، فعن يميني ميشيلْ وعن يساري موريسْ، ووَطْءُ الخطى، تزدحم بها خلفنا الأرضُ، أسمعه لا كدقات النّعال على صفحات التراب بل كَهَفَّاتِ أجنحة الفراشات، تضرب النسائمَ فلا تخدشها، هفّاتٍ هفّاتٍ، محمولةً إلى علِ وكأنما بأشواقٍ خفيّةٍ.
التلة من بعيد تنادينا لا تزال، نداؤها مصبوغٌ بتلافيف النور، تنادينا لا تزال، وقلوبنا تسمع وتلبّي، فتخفّ لرجع الصدى خطواتُنا، فالجنوبُ الجنوبُ طريقٌ للربّ، كما كان دأبه في العيش الأول، وها هي تدنو بنا الطريقُ من عطفة الدرب التي تشقّ البساتين شرقاً فشرقاً صوب التلة.
أبانا الذي في الأرض، ماذا على الطريق أرى؟ ألتفتُ إلى مصدر الصوت ثم أرمي بعينيّ أمامي، إلى أبعد من عطفة الدرب شيئاً قليلاً. شيءٌ كزوبعةِ الغبار يعشي بصري، أو لعلني أغمض للتوّ عينيّ حتى لا أكون على يقين مما أرى.
تتوقّف بي قدماي أو أتوقّف بهما. تنخطف من صدري أنفاسي أو أنخطف بها أنا. لحظةٌ هي ولا كلّ اللحظات، أغربُ حتى من أغرب ما عرفتُه من عمر الهلع الذي عشتُه في الأشرفية زمن الحرب، هلعي لا من القذائف منّا أو القذائف علينا، ولكن من خروج العُمْيِ من شباب رعيّتي من قلب المسيح، وقلبُ المسيح يتدحرج خلفهم بالنور، يحاور عيونَهم به فتتأبـّى القلوبُ ويحاور به قلوبَهم فتتجافى العيونُ، وأنا يُعييني تهافتُ الليل والنهار في قدميّ الهائمتين من شارع إلى شارع ومن ساحة إلى أخرى، ويجفّ قلبي من النبض الصارخ بهم أن يرأفوا بوجع الناصريّ الذي شهدتْ بركاتِهِ قانا بلادِنا، فلا تضيء عينٌ بنـور ولا ينبض قلبٌ بشهادة، فأتمنى الموت، لا مـن عقيدةٍ، وأشتهي الفناء، لا مـن طمعٍ براحة. الهلعُ المستحيلُ إلى الحزنِ المستحيلِ بدوره إلى هلع اليأسِ من احتمال خلاص العالم، وحده كان الغربةَ والغرابةَ التي أغربُ منهما لحظةُ الآن، تتجلى، كما في بغتة الحدس، رؤيا تمامُها القافلةُ المقبلةُ علينا من جهة الجنوب، جهة قانا، مقبلةً بغبارٍ مغبَّشٍ بنوايا لن أذكرها حتى لا أصدّقها، قافلةً ثالوثـيّةَ النذرِ، أشباحُها آيينْ وإدجارْ وشيمونْ أَزَرا، مقبلةً نحونا نحونا حتى لنكاد نصطدم بها أيّان جميعُنا تنعطف بنا أقدامُنا شرقاً شرقاً صوب تلة سينيق.
ثلاثةٌ قافلتُهم، أقول؟ وإذن إذن مَنْ يكون الرابع المتخفّي بقاماتهم، إن لم يكن صاحب القُبْلَةِ التي أحالت قُبَلَ الدنيا بعده إلى شقائق ريب؟
أبو العلاء
هذه المدينة لو كنتُ عرفتُها في الزمن الأول وتسقّطتُ أخبارَ أهلها أو تلقّفتُ بأذنيّ أحاديثَهم الممطوطةَ اللكنةِ لكنتُ احْتَلْتُ في أدبي حيلةً ورويتُ لقراء رسالة الغفران حكايةَ ذلك المُشَبْشَلِ الصيداوي، المرخيّ الحنكِ، المُشَقْشَطِ البنطلون، كما في لغة الحيّ الذي مررتُ فيه صباح اليوم، كيف من لحظة البعث قام يطوف بالمقابر والبيوت والشوارع والساحات والأزقة بحثاً عن امرأته، معلمة اللغة العربية في مدرسة الصغار، فلا يجدها، فيعجب ويعجب لأمره الناسُ حتى اجتمعوا عليه آخر الأمر، محيطين به من كلّ صوب، ليشرح لهم سبب لفّه ودورانه السنة بعد السنة، لا يكلّ في البحث عنها ولا يسأم، فصرّح لهم بالسبب الأوّل ثم ثنّى، فألحّوا فثلّثَ لهم وربّع، ثم فاض واستفاض حتى أهلك الذين كانوا يستدرجونه إلى الحميم من القول عن الحميم من الفعل ممّا كان يجري بينه وبينها فجعله حتى اليوم لا نسياً ينساها ولا سلوى يسلوها، وما هي حتى حشره إلى حائط بيته مربوعٌ آخر من الصيداويين، مرخيُّ الحنكِ مثله، مُشَقْشَطُ البنطلون، وحلف أنْ سيعلّقه من بيضتيْه إنْ لم يبح لهم بسرّه معها، فأرغى المسكين وأزبد تم تطامن وتطأطأ تحت ضغط الأيدي والعيون، ثم تأتأ ورأرأ، ثم فُتِحَ عليه بالبيان فأرخى لسانه وخبّر كيف كانت تحتال عليه بعد كل وجبة سمك محشوٍّ بالحرّ وبلحم الصّلادْعيِنْ فتأتي إليه في فراشه ببكرج الشاي فتسقيه منه الكوب بعد الكوب، محلّى بالعسل، وتفرك له كتفيه وظهره حتى يتحرك فيه شيءٌ، فتهمّ به ويهمّ بها ويظلاّن هكذا حتى يذهب عنه رَوْعُ السمكِ والصّلادْعيِنْ والعسل فتغطيه بغطائه وتنحني عليه تقبّله وتقول: أَدَّيْتَ قِسْطَكَ للعُلى فَنَمِ، والناس حوله في ضجيج من الضحك وعجيج.
وضجيجٌ، بلا ضحكٍ، أو كأنه، وعجيجٌ مثله، أو كأنه، تتعثّر بهما غبشةُ القيامة. من أي الجهات يأتياني لا أدري. أتلفّت في كل المسافات، فإذا هي التسويفُ لما أنتظره ولا يأتي. يتراخى إحساسي بالمكان وكأنه ينفلت من هشاشة وعيي، ويتراخى كذلك إحساسي بالزمان. السكينة كأنما تهبط عليّ، ولكن ليس من فوق، تتسلل إليّ كالسرّ، تغشاني كما يغشى النعاسُ الرأس والعينين والأطراف في لحظةٍ معاً. ثم لا أحسّني إلاّ وقد انبثق عليّ من الغبشة شيء لم أكن رأيتُه من قبل، لا في عمى الزمن الأول ولا في إبصار زمن القيامة. شيءٌ مفلطحٌ مستديرٌ يدبّ نحوي على قوائم دقيقة، أربعَ من ناحية وأربعَ من ناحية، وفي مقدمته يدان، كلّ واحدة بإصبعين، تنضمّان على بعضهما وكأنما تهمّان بالإطباق على شيء ثم تنفرجان على وسعهما، وهكذا هكذا يدبّ الكائنُ الغريب نحوي بتؤدة وإصرار حتى يصبح مني على مسافة يسيرة. ضحكة دانتي تشقّ الغبشة إليّ فيتوقف الدبيب ليطلّ وجهه هو من على يمين الكائن المفلطح، مزهوّاً بأنه يعرف وأنني لا أعرف. هو الصّلطعون، يا أبا العلاء، من الكائنات البرمائية، وقد استقلّيتُ وسامحَ الجمري ظهرَه المفلطحَ فجرى بنا في الماء، على طول الشاطئ من صيدون إلى ضاحية بيروت الجنوبية، حيث اجتمعنا بالعلاّمة الشيعي الذي هَشّ لنا وبَشّ ووعد بموافاتنا برّاً عند الجامع الأخضر، معتذراً عن ركوب البحر بحجة أن سير الإنسان على قدميه من الفطرة وبأنه لو كان أُريدَ له أن يتنقل في الدنيا بواسطة الماء لكان خلقه الله سمكة.
مزاجي يستطرف القصة، ولكنّ تراخي وعيي بالزمان وبالمكان يرخي عليّ بظلٍّ من الشك، فما أراه وأسمعه ليس أكثر من حلم تسرّب من غفلة. هو الصّلطعون، يا أبا العلاء، حُرِّمَ عليه في القيامة ما كـان حِلاَّ له قبلها، وهو مجتهد في تأدية الخدمات لأهل القيامة لتُحسب له ساعةَ الحساب صدقات. ومن يدري، فلعل الصّلطعون من ملّتكم، يا أبا العلاء. يقولها ويضحك، وليس بين شفتيه صفرةُ الخبث ولا في عينيه جَلَفُ الإستعلاء، فضحكتُهُ أشبه شيءٍ بدعابةِ مَنِ استخفّهُ الطرب. فهل استخفّ الطربُ دانتي ليقينه باقتراب حالة السعد، يُحِلُّنا فيها أو يحلّها علينا العلاّمةُ الشيعيُّ الساعي إلينا بالفطرة على قدميْن؟
ولا تكاد تطرف عيني اليمنى حتى تتعثر ببعضها الخواطرُ في خلدي. الضجيجُ، بلا ضحكٍ، أو كأنه، والعجيجُ الذي مثله، أو كأنه، يتسللان في الغبشة من جديد، ومن جديد لا تجيب المسافات عن التساؤلات إلاّ بمزيد من التسويف لما أنتظره ولا يأتي. والذي أنتظره ولا يأتي هَشَّ في وعيي هشاشةَ وعيي بالمكان وبالزمان، فيقيني بالأشياء يقينُ الذي فـي الحلم أنه مكتوب عليه ألاّ يستفيق مـن النوم وألاّ يخرج من اليقظة التي في الحلم. ولولا طرافة المشهد لشبّهتُ حالتي بحالة الذي لا يموت فيها ولا يحيا، على لغة القرآن، ولكنْ هيهات هيهات، فما أنا فيه لا بدّ أنني خارج منه لحظةَ يُقْبِلُ علينا الذي وعد بموافاتنا عند الجامع الأخضر. ولأن الشوقَ ابتهالٌ والرجاءَ دعاءٌ يستجاب لهما بقدرة الذي يعلم السرّ وأخفى، تنشقّ الغبشة فجأة عن سامح الجمري ورجلٍ إلى جانبه، نورانيّ الملامح، وجهه يشعشع تحت العمامة السوداء.
الوجه المشعشع تحت العمامة السوداء تنداح حوله كلما اقترب هالةٌ من النور الأصفر المشرب بخضرة العشب، اندياحاً لا تحدّه مسافة، مسرفةً في استدارتها حتى لتملأ الفضاء الذي فوقها وحتى لتتسلل في حبيبات التراب إلى باطن الأرض، لتظل الإستدارةُ تامّةَ النّسقِ موفورةَ الرحابة. تنهض العينان في الوجه المشعشع فننهض بعيوننا معهما صوب التلة التي من أول البعث لا تزال الهالةُ فوقها تَطَّوَّفُ حول السيدة العذراء وتلحّ في تطوافها كنداءٍ تستجيب لنورانيّته قلوبٌ وآذانٌ وعيونٌ، منجذبةً إليه فوق التلة كما ينجذب كيانُ المؤمنين إلى صوت الأذان. هالةٌ من هنا وهالةٌ من هناك، والغبشة تتعثر في غبشيّتها وتتحلل شيئاً فشيئاً فإذا المشهد كله بِرْكَةُ نور. ومن أين تتسلل صورة البركة إلى خاطري لو لم يعشّش في ذاكرتي وصفُ البحتري لبركة المتوكل التي بدت له تحت نجوم الليل وكأن سماءً رُكِّبَتْ فيها؟
تهافتُ خواطري يقطعه سامحُ الجمري بهتافه لنا أنْ ها هو العلاّمة الذي حدّثْـتكما عنه في وقت مضى. حماسةُ الجمري تستفزّ الحياءَ في قلب الشيخ فيعطف وجهه عنّا في كل اتجاه، فأعجب لرقّتِهِ ورهافة سريرته، ويزداد عجبي وأنا أتذكر من أحاديث سامح لنا عنه حديثَ إعلانه نفسَه مرجعاً إفتائيّاً في العيش الأول، متجاهلاً تَمَلْمُلَ مَنْ تململ من أبناء ملّتِهِ، منـزِّهاً فمه عن الردّ على اتهامات خصومه له بالخروج عن الإسلام، ماضياً في المجاهرة بفتاوى قسمت الناس حوله فئتين، فراضٍ وغاضبٌ، كما هو دَأَبُ الناس. دانتي يخفّ إليه ويحيّيه بطرب العاشق الذي لم يتخلّ عنه حُلُمُهُ. الثلاثة أمامي أفواهٌ تسأل وتجيب. أرهف أذنيّ فلا أسمع إلاّ صوت سامح الجمري من ذاكرتي يعيد رواية قصته مع الشيخ يوم ذهب إليه يستفتيه فأفتى له ولامرأةٍ معه بقرانٍ لا يعقده لهما شيخ ولا كاتب بالعدل، ولا يكون حضور شاهديْن عدليْن شرطاً لصحته وتمامه، قرانِ بالغيْن مستكفييْن عن سواهما برشدهما، مستغنييْن عن الجهارة المُلْفِتَةِ بالصمت الحميم، راضييْن به، وحده الله، شاهداً وعاقداً ومحلّلاً سَكَنَ المسكونِ لساكنه تحليلاً سمحاً جميلاً.
الأفواه التي تسأل أمامي وتجيب تحلّ محلّها في الحوار الأعينُ الستُّ، فالنورُ المذوِّبُ للغبشة يتأوّد الآن فيه طيفان يحدثني قلبي أنهما لليونانية دامو واللبنانية المترهّبة، جْريسْ. دانتي وأنا نهتف في آن معاً أَنِ افْتِ لنا أيها العلاّمة ولفاتنتيْنا بمثل ما أفتيتَ به لسامح الجمري في العيش الأول. الوجه المشعشع تستبيح ملامحَهُ تقبّضاتُ الحرجِ الرماديةُ، ولا نفهم سريرةَ اللون حتى يغشانا الصوتُ الحييُّ بأنْ ربما لا إفتاءَ في القيامة، ربما، وبأنْ ربما المرجعيّةُ في الأرض خيارٌ لزمن الأرض الذي خرجنا منه بالموت إلى زمن القيامة. ربما، ربما. الهالةُ من هنا والهالةُ من هناك يترجرج النور فيهما قَلِقاً، فتترجرج بالصّلطعان قوائمُهُ المتراجعةُ به عنّا إلى غبشيّة الغبشة التي أخذت تستردّ على الأرض سلطانَها من جديد.
الضجيجُ الذي بلا ضحك، أو كأنه، والعجيجُ الذي مثله، أو كأنه، تسويفٌ للبعيد الذي أنتظره ولا يأتي.
سميحة الجُمَري
لو كان الموتُ يُنسي لارتحتُ كنتُ من العيش الأول، فكيفما تلفّتتْ عيناي وأينما اتجهتْ قدماي الطيوفُ كلها تعود إليّ بالجنون عينه الذي تَلَـبَّسَهم وتلبّسوه والذي طالت عشرتُهم له في الدنيا حتى صار لهم الجيرةَ التي لا جيرة لهم سواها، الطيوفُ الصارخُ بعضها ببعض من جفاء، والمحملقُ بعضها ببعض من غضب، تنبع حتى من الغبشة وتطلع حتى من التراب فتزحم أنفاسي وتنحشر في مقلتيّ وتدور حولي وتلفّ فَمُحَوَّطَةٌ أنا من كل صوب في حالةٍ أشبه بالحصار الذي يذكّرني بمثيلٍ له كنتُ عشتُه وجهّار في الزمن الأول، أيام تمادى بنا العمرُ فتمادتْ علينا من أولادنا حتى نوايا الشرّ، فَصَدَقَنا اللهُ وعدَه أنْ إنّ أموالكم وأولادكم شرّ لكم فاتقوهم، وأنـّى لنا اتقاؤهم ثم أنـّى، وهم صغارُنا في كل أوان، ننتظرهم في فصول الحياة والموت والبعث، وعنهم تفتّش قلوبُنا لنغفر لهم قبل بدء الحساب ما فعلوه بنا في الدنيا وما أوشكوا أن يفعلوه، ولنستدرجهم إلى التوبة المسوَّفة لهم في الغيب، إن يكن إلى ذلك من سبيل، ولنضمن لهم شفاعة العذراء التي لا ينفكّ نداؤها من تلة سينيق يدغدغ آذاننا بالأمل في النجاة من النار، فليتَه، ثم ليتَه الموتَ كان يُنْسي، وإذن لكنتُ ارتحتُ اليوم من زحمة الطيوف التي تعود إليّ، مُهَوِّلَـةً، ممرورةً، تنسج الحزن والغضب والخيبة والعقم وأشياءَ لا أتمنى للغيب أن يلحظها حتى لا يتعجب مما كان كتبه لنا في غيبه الغيبُ.
أمسحُ وجهي بكفّيّ لتنـزاح عن مقلتيّ الطيوفُ فلا ينتبه لها جهّارُ، الغارقُ أصلاً من أول البعث في هواجسه التي حملها معه من العيش الأول، أمسح وجهي ثم أنفض رأسي نفضتيْن اثنتيْن لأطمئنّ إلى أنّ شيئاً لم يَبْقَ عالقاً في خصلات شعري من خيوط الحزن والغضب والخيبة والعقم. جهّار تحاصرني عيناه بغتةً وكأنهما تتّهماني بمعصيةٍ ارتكبتُها لتوّي. حتى من الطيوف يغار، حتى مما يخطر ببالي من الخواطر ولا أطلعه عليه. والكتمانُ من ناحيتي يحسبه العصيانَ والنشوزَ، بل التمرّدَ الأشبه بالخيانة، فبأي شيء أوحي لعينيه لتفكّا عنيّ هذا الحصار؟ أرخي إلى التراب عينيّ، وفي سرّي أدعو له بالطمأنينة تنـزل عليه فتغسل قلبه من الغيرة وتطهّره من الظنّ الذي بعضُه إثمٌ، فلعله يريحني في ما تبقّى لنا من زمن القيامة ويرتاح.
من الغبشة يطلّ علينا عازر الديّار فيحيّي من بعيد ويومئ لجهّار أن يلحق به، إلى أين لا أدري، ويستدير على عجلٍ فتنساب به خطواته إلى خلف تلة من تلاّت التراب. ينظر جهّار في عينيّ نظرةَ أنِ انتظري هنا حتى أعود ويستدير على عجلٍ هو الآخر، لتتسارع به بعيداً عنيّ قدماه. تلحق بهما عيناي وهاجسٌ قديمٌ كنتُ رعيتُه ورعاني في زمن الأرض.
طيوفٌ غريبةٌ لنسوةٍ أغرب منها تلوح بين الغبشة والغبشة، وغريبةٌ هي لا لأنها عصيّةٌ على ذاكرتي بل لأن عشرتي لها في الدنيا علّمتْني أن أُحْسِنَ التمييزَ بين العجيب والأعجب منه والغريب والأغرب منه، وهنَّ الثلاثُ النّسوةُ كنّ لي في الدنيا بعد رحيل جهّار الحصارَ الذي كان آخر الدنيا، وإن لم يكن أوّل الآخرة، والذي استفردتْني فيه كلٌّ منهنّ، مستقويةً عليَّ بضعفي، ومستهينةً بي لطمع زوجها، الذي هو ابني، بالأرض التي ورثـتُها كنتُ عن أبي فبنى عليها جهّار المطعم الذي وَرَّثَ أولادي الحسدَ والحقدَ والطمعَ والخيانةَ والطعنَ بالسكين والسكنَ في الجحيم من قبل أن نبصر الجحيم يقيناً يقيناً.
ولأنني كنتُ وقد نكّسني العمرُ في بدني، فقد أخرجوني من بيتي متعلّلين بأنّ جهّار في المستشفى يعالجه الأطباء من أثر الوقعة التي وقعها على سطيحة البيت ومُطَمْئنين لي أنني سأكون في حال أفضل في بيت ابني عُدَيّ ريثما يتعافى جهّار ويعود إلى بيتنا فأعود أنا إليه ونشرب قهوة الصباح على رائحة الياسمين تهفّ علينا من شجرة الياسمين التي نعرف أنها هناك ولا نراها، كذبوا عليَّ وأخرجوني من بيتي ذلك الصباح ليأتوا به من المستشفى جثّةً هامدةً فيمددوه على سريره حتى الظهر فيغسلوه ويكفّنوه ويحملوه إلى الجامع للصلاة عليه ثم ليسيروا به إلى الجبّانة، وأنا لستُ هناك لأودّعه ولأبكي عليه ليعرف أن الستين سنة التي قضيناها معاً، على الحلو والمرّ، كانت عمري وعمره، كذبوا عليَّ وأخرجوني من بيتي وشرّدوني عن جيرة الياسمين.
وامرأةُ عُدَيّ كانت بانتظاري على باب بيتها ذلك الصباح، بالكلمة الطيبة استقبلتْني، كما استقبلني أولادُها بالعنـاق وبأهلاً بكِ يا جدّتي فمنذ زمن بعيد لم تأتي لزيارتنا ونحن اشتقنا إليكِ كثيراً يا جدّتي، فقلتُ لعلّ الله أراد أن يلطف بي فأتى بي إلى بيتهم في هذه المحنة. ومحنةً أنستْني كلَّ المِحَنِ كان مجيئي إليهم ذلك الصباح، كما كان مقدَّراً لي أن أكتشف في غضون أيام، فقد عادوا إلى لغة الحصار التي بها حاصروني من قبل وجهّارَ لنكتب لهم المطعم دون سائر أولادنا حتى صار الذي أظنه صار.
وها هو طيفها يتقدم نحوي، كلما دَنَتْ بها المسافةُ منيّ نَأَتْ بي غربتي عن المكان وعنها، فأنا هنا ولستُ هنا، أتشبّث بحضوري حتى لا أضيّع جهّار بعدما أعادتْه إليَّ القيامةُ، وأفرّ منها أفرّ، هي التي كان جهّار في زمن الحصار القديم يسمّيها، سامحه الله، عاهرةَ الروحِ والنَّفْسِ، هكذا هكذا كان يقول، ووحده خوفي من الله يغلق ذاكرتي على تتمّةِ ما كان يقول وهو يبصق بصقَةَ القرف من الشبّاك العريض.
أسمعها لا أزال تنهرني بصوتها الذي كحدّ السكّينِ أَنِ اكْتبي لابني لؤيّ المطعمَ كله ونحن نُبقيكِ عندنا فنطعمكِ ونسقيكِ ونعطيكِ الدواء شريطةَ ألاّ يدخلَ بيتَنا أحدٌ من أولادك الأخر، أسمعها ولا أصدّق أذنيَّ، فتعيد عليّ وتُلحّ وتفصّل لي نواياها ببرودة قلب لا أحسب أنه وُجِدَ في قلب أمّ، فتأتيني الهمَّةُ ذات مساء، من أين لا أدري، ولكنها تأتيني فأنتصب على قدميَّ المرتجفتيْن من الضعف والغضب وأركض إلى آخر الغرفة فأفتح باب البراندة وأطوي نفسي على حافّتها وأشدّ أشدّ لأطير في عتمة الليل إلى الجحيم التي تنتظرني لأنني تعمّدتُ قتل نفسي، الجحيمِ التي كانت أهون عليّ من الذلّ الذي كنتُ فيه. ولقد سحبوني من على حافة البراندة وأعادوني إلى الغرفة فسريري، لا بنيّةِ إنقاذي من الموت ولكنْ لأنني إذا متُّ فلن يكتب لهم المطعمَ أحدٌ من بعدي. كانت حالةً من حالات الجنون في ساعة من ساعات اليأس البغيض، فعسى أن يغفر لي الله جنوني وعسى أن يتغاضى عن خروجي عن الصبر الذي يقدمّه هو حتى على الصلاة. إستعينوا بالصبر والصلاة، يقول القادرُ الغافرُ، فكانت الآيةُ تزحم الهواءَ عليَّ حتى آخر العمر.
وها طيفُ امرأةِ كسّاب يقترب مني، على حذرٍ وتؤدةٍ يقترب وكأنما يقيس المسافة بيني وبينه خطوةً خطوةً، فيرجع إلى أذنيَّ صوتُ المرأةِ التي عرفتُها في الدنيا، وما عرفتُها حتى انتقلتُ إلى بيتها وصرتُ تحت رحمتها، يرجع صوتُها بالشماتةِ أنْ ها نحن جمعتْنا الدنيا، يا امرأة عمّي، جمعتْنا تحت سقف بيتنا نحن، أنا وكسّاب، وأنتِ تفلقيننا كلّ صبح ومساء بِذِكْرِ أولادكِ، فعلام تشتاقين إليهم كل يوم، وهم في الشارع رَمَوْكِ، ولولاي ولولا كسّاب لكنتِ الآن تجرّكِ الكلابُ من بعد جهّار، تشتاقين إليهم لأنهم نبذوكِ وتنسيننا نحن لأننا ضَبَبْناكِ في هذا البيت، نطعمكِ ونسقيكِ ونعطيكِ الأدويةَ السبعةَ كُلاًّ في حينه، حتى صار لليوم من أيامنا روزنامةٌ خاصةٌ مقسّمةٌ على مواقيت أَخْذِكِ للأدوية السبعة، ففي الصبح دواءٌ وعند الظهر دواءٌ وقبل الأكل دواءٌ وفي منتصف الأكل دواءٌ وبعد الأكل بربع ساعة دواءٌ، فَتحوّل بيتُنا إلى مستشفى بسببكِ أنتِ، يا سميحة، يا امرأةَ عمّي، عمّي الذي نسي فضلَ كساب على المطعم في مسايرته للزبائن واجتذابهم إليه حتى صارت للمطعم شهرةٌ في كل لبنان، نسي فضلَه وتآمر عليه مع أولاده الأخر الذين طردوه بلا تعويض ولا تسوية ولا ترضية، تقول كل ذلك وترمي لي بصحن الأكل على طرف الصوفا التي عليها أنام وأقوم وأصلّي وأصبر وأعدّ الأيام.
الطيوفُ الغريبةُ للنسوةِ الأغربِ منها يتداخل بعضها في بعض، تتلوّى وتَتَطوّى، تتمدد حتى لا مسافةَ وتتقلّص حتى لا حضورَ، ثم يُنْسَلُ أحدُها من الآخر وتعود ثلاثتُها سيرتها الأولى. طيفُ امرأةِ وسيم يخوض الغبشة إليَّ خوضاً، على طريقتها التي كانت تُقبل بها عليّ في الدنيا حينما كانت تأتي لزيارتنا، تقبل عليّ لا برشاقة العيّوقةِ الخفيفةِ المنظرِ والمحضرِ ولكن بتكلّفِ الممتلئةِ التي لم ينفع معها رِجيمْ وقتلتْها الغيرةُ من خِفَّةِ سِلْفَتَيْها وطلاقة مشيتهما، يخوض الغبشةَ إليَّ طيفُها خوضاً فأتّقيه، كما كنتُ أتّقيها هي في العيش الأول، بالبسمةِ أديمها على شفتيَّ ريثما تطمئنّ إلى أن حضورها ليس شيئاً ثقيلاً. طيفُها، المسكينة، يعاتبني على إلحاحي على سميّة أن تأخذني من بيت وسيم إلى بيتها لأقضي عندها بقية عمري، يعاتبني الطيفُ وكأنما يتناسى في أيّ وعاء كانت وجباتُ الطعام يُؤْتى بها إليّ، أنا التي كُتبتْ عليَّ الهجرةُ بعد جهّار من غربة إلى غربة أوجع منها. أغلق ذاكرتي حتى لا تكدّرني الذكرى، ويبدو وكأن البسمة انحسرتْ من على شفتيّ، فالطيفُ من ارتباكٍ وقلقٍ تضطرب الأطرافُ منه فيلتفُّ على نفسه ويدور وسرعان ما تنأى به عني المسافةُ، لقلقه وارتباكه ربما، أو ربما لأنّ جهّار لاح له من جانب تلةٍ من تلات التراب ينقل الخطى، خطاه الحثيثة، نحونا، وقد تغَضَّنَتْ ملامحُ وجهه بِهَمٍّ عظيم.
أبو طاهر
ولقد أَفْلَتَ البعثُ من قبضة الوعد فصار الإيفاءَ بالوعد يقيناً يقيناً، ونهضْنا، كما وُعِدْنا، من التراب فكنّا خلقاً جديداً جديداً، والسنين التي أمضينا من عمر القيامة أمضيناها نتلاقى ونتذكّر ونتلهّف، لا على شيءٍ انقضى ولكن على شيءٍ وُعِدْناه كنّا في زمن الدنيا ولم تزل بيننا وبينه الحجبُ ظلالاً تشفّ ولا تنهتك، فإلى متى، اللهم، إلى متى، يطول انتظارُنا إشراقَ وجهك وصوتك، وكلَّ سنة من أصل الأربعين تتمطّى أربعين مثلها، ومتى، آهِ، ثم متى يفلت الاحتمالُ المسوَّفُ من قبضة الوعد ليصير الإيفاء بالوعد يقيناً يقنياً؟ فنَِيَ الصبرُ وأفنى، فإن يَبْدُ شوقي إليكَ عتباً عليك فاغفرْ ليَ الضعف الذي منه خلقتَني، يا الله، وإن يكن استعجالي مشيئتك بالظهور خطيئةَ إلحافٍ فَمِنْ عَجَلٍ برأتـَني، من عَجَل.
من ابتهالي وتأملي الأصواتُ التي لم تعد غريبة عني تستدرجني مرة ثانية إلى أرض القيامة على تراب صيدون، فأرى مرة ثانية وأسمع، والمشاهدُ أمامي تنبني وتتلاشى، والناسُ تجتمع وتتفرّق ومَنْ كان ملتقياً بهذا فهو بعد هنيهة يتحدث إلى ذاك، ومن كان في طرفٍ من المدينة فهو فجأة في طرف آخر، ولربما الواحدُ حاضرٌ في مشهدين أو ثلاثة أو أكثر في وقت معاً، صِبْغَةَ القيامةِ التي نشهدها ولا نفهم منها إلاّ ما أُذِنَ لنا بفهمه. ولطول أُلفتي لهذه المشاهد لم يَعُدْ يحيّرني منها إلاّ منظر أبي العلاء ودانتي يشدّان خطاهما في إثر ذلك العلامة الشيعيّ الساربِ أمامهما سَرَباً فلا هما يبلغانه ولا هو يتوانى ليحاذياه، وبينه وبينهما الصيداويُّ سامح الجمري، لا ينظر أمامه ولا خلفه وإنما في أوراق بين يديه يقلّبها ويقرأ وكأنما في شغف عجيب، والشاعران يلهجان برجائهما أَنْ أيها العلاّمةُ، يا فضلَ اللهِ علينا، أَفْتِنا فتوى تُنَوِّلُنا فاتنتيْنا قبل انقضاء زمن القيامة، فليس إلاّ الحلالُ سبيلاً لنا إليهما وليس إلاّك اليوم من مُفْتٍ يفتي لنا في جيرة الغيب.
ثم يضمحلّ المشهدُ وتترقرق المسافةُ بهالاتٍ من النور المصفّى، فينفتح قلبي للوافدين عليّ من زمن الشهادة وأهتف بهم أن هلمّوا إليّ هلمّوا، فيحوّطني نورُهم من كل صوب، وإذا هم في عـزّ الشباب، نزيه القبرصلي، عادل الديماسي، أحمد المرسي، وسليم الحبّال، يسلّمون عليّ ولا يشبعون وأسلّم عليهم ولا أشبع، وكما في كل مرة نلتقي فيها في درب من دروب القيامة، أشواقُنا الآن تتوهّج أكثر من ذي قبل وأحسّ، ولا أحسبهم إلاّ يحسّون معي، بأنّ الغيب سيجمعني بهم ويجمعهم بي على أمرٍ لنا قد قُدِرَ، هنالك ربما على تلة سينيق لنؤدي شيئاً كأنه واجبنا الأخير قُبَيْلَ بدء الحساب.
ولكنّ اللحظةَ تلحّ عليّ بهواجسها، فأسألهم إن كانوا التقوا بأهليهم بعد المرة الأولى وطَمْأَنوهم المرة بعد المرة أنّ الشهداء ربما حسابُهم انتهى قبل بدء الحساب وأنّ هالات النور التي تحوّطهم قَبَسٌ من الجنّة التي بها وُعِدوا، فترتاح اللحظةُ لإجاباتهم وأرتاح. وما هي حتى يطلع علينا من وراء هالات النور صوتُ سامح الجمري أنْ خَبِّروني وصديقتي، أيها الأبرار، كيف تَمَّ لنا فتحُ القدسِ وإعلانُها عاصمةً لفلسطين، فأنتم الشهداء لا ريب شهِدتْ أرواحُكم الحَدَثَ وربما شاركتْ فيه، فحَدَّثونا، بربّكم حَدِّثونا قبل أن تنسرب بكم هالاتُكم إلى مسارب أخرى من أرض القيامة.
إذن هي رنده الحيفاوي، التي إلى جانب الجمري، رنده التي عرفتُها في مخيم عين الحلوة زمن الاجتياح والتي كانت تهرّب لنا السلاح من المخيم ونهرّب معها خططنا للعمليات الاستشهادية ضد جيش اليهود، فتنسّق لنا مع المقاومة الفلسطينية لنفاجئ دوريات العدوّ من داخل المدينة وخارجها في آن معاً، رنده التي جنّدتْ تلميذاتها في مدرسة الأنروا لخدمة المقاومة فكنّ الممرّضات الساهرات على الجرحى، الطابخات الطعامَ للجوعى من المسنّين والمسنّات. كيف نَجَتْ من مذابح صبرا وشاتيلا وتسلّلتْ سرّاً من بلدة إلى بلدة ومن قرية إلى قرية، ساحلاً وجبلاً، لتصل إلى مخيم عين الحلوة ظَلَّ كله سرّاً من جملة الأسرار التي وُلِدَتْ في الحرب وكُتِمَتْ عن زمن السّلْم وبُعِثَتْ في غيبٍ من الكتمان.
هالاتُ النور تنسحب بعيداً عنّا وكأنما نوديتْ من مكان بعيد. سامح الجمري ورنده الحيفاوي يتبادلان نظرة استفهام عن سبب إحجام الشهداء عن إخبارهما قصة فتح القدس وإعلانها عاصمة لفلسطين. أَهُمُّ بإخبارهما بالقصة التي عشتُها مثل بقيّة الشهداء لعلّني أوفِّر عليهما عذابَ اللهفة التي فيها يتقلّبان منذ نهوضهما من هجعة التراب، أهمّ ولا أفعل، فللغيب ربما مشيئة غير مشيئة البشر. في صوت رنده الآن عتابٌ وفي صوت سامح نغمةُ المراضاة. يتخافتان الحديثَ فأرهف أذنيّ فإذا به يلحّ عليها أن تقرأ له شيئاً وهي تسوّف وتسوّف بحجّة أنه لم يقرأ لها بَعْدُ الحميمَ الحميمَ من شعره الذي لم ينشره في حياته لسبب هو أدرى به، على حدّ قولها، فيتلفتُ ذات اليمين وذات الشمال وكأنما خشيةَ أن يسمع حوارَهما أحدٌ ثم يهمس في أذنها همساً فتهزّ رأسها ويعود إلى صوتها العتابُ أنْ زمنُ الدنيا انقضى ولا سبيل اليوم إلى مَحْوِ ما كنّا كتبناه، سواء رضي عنه أهلُ الدنيا أو استنكروه، وأنْ لا شرّ اليوم في استذكارنا خلجات قلوبنا وعقولنا فهي أفعالنا الخفيّة التي ستُضاف إلى أفعالنا الأخرى في ميزان الحساب. يلحّ عليها من جديد أن تقرأ له هي أوّلاً فتنبش من جَيْبٍ لها كثافةً من الأوراق وتأخذ تقرأ له وكأنها تفلش أسرارها في مدى عينيه المتّسعتين. أفهم الآن أنّ الأوراق رواية لها كانت كتبتْها بعد عودتها إلى عين الحلوة من حصار بيروت، ولشدّ ما يزداد عجبي وأنا أسمعها تروي قصة شابة فلسطينية ابتدعتْ لنفسها، صيفَ حصار بيروت، عقدَ زواجٍ نضاليٍّ لا يكتبه كاتبٌ ولا يشهد عليه شاهدان ولا يوقّعه قاضٍ. كيف تتم الرواية يبقى سرَّها هي وسرَّ المصغي إليها، فشيءٌ ليس بالريح ولا بالنسيم يخفّ بهما بعيداً عني، فيرغرغ في داخلي الصوتُ أنْ صبراً على ما فاتكَ ثم صبراً، فالتشويقُ حِرْفَةٌ من حِرَفِ الغيب.
هالةُ النور الملوّن من على تلة سينيق هي الأخرى لغةٌ في التشويق المُحَجَّبِ بنداء.
دامو
كأننا اليومَ في اليوم الأوّل من السنة الأربعين لقيام القيامة، تقول المرأةُ التي اسمها أمّ شريف للمرأة التي اسمها أمّ ميلاد، فترفع الأخيرةُ عينيْن ساهمتيْن ويديْن مرتعشتيْن إلى السماء ويتهدج صوتُها أَنِ ارحمي صبري في انتظاري له، أيتها الأم العذراء التي في انتظارِها عودةَ المصلوبِ إليها من زمن الصّلبِ الأوّلِ جعلتْ من نفسها شفيعةَ كل المنتظِراتِ الملهوفات، تقول ذلك في خشوعٍ من الإيمان والعشق لا أعرف أيّهما في قلبها أشدّ وأعتى. كنتُ سمعتُ في حيّ مَكْسَرِ العَبَدْ القريب من النهر حكايتَهما في حُبّ جهّار وكيف خسرتاه معاً حينما عبر إلى الضفة الأخرى من النهر، جهّارُ جهّارُ أَبُ الشاعر الذي يصرّ على أنه سامح الجمري وعلى أنه من زمنٍ غير زمن ملوك صيدون وأمرائها ليوهمني أنه الرجلُ الحجابُ للحبيب الذي، زَمَنَ دراستي في فينيقيا، تمدّد لي وتمدّدتُ له على المعبر الحجري في معبد أشمونْ على ضوء القمر. أمّ شريف وأمّ ميلاد، كما عرفتُ من جيرة مَكْسَرِ العَبَدْ، ضَرَبا لهما موعداً مع الغيب للقاء جهّار ولاستجداء خالقه وقت الحساب أن يَهَبَهُ لهذه منهما أو لتلك أو لكليهما معاً، إذ مَكروهٌ لديهما خلودٌ في جنّةٍ أو خلودٌ في نار إن لم يكن ملءَ العينين والقلب معشوقُهما جهّار.
لا أدخل بينهما في الحديث، وأنتظر اللحظةَ الألطفَ لأنسلّ إلى قلبيهما فأستميل خيالَهما إلى خطّتي التي منذ زمن بعيد أداريها في صدري ولا أُطلع عليها اللواتي تجمعني بهنّ دروبُ القيامة، إلاّ ما كان من ذلك إيحاءً وإلاّ ما كان تلميحاً. هما أشقى مَنْ عرفتُ من العاشقات وهما الأَوْلى أن تستجيبا لحلم الخلاص الذي سأبثّه في قلوب النساء والرجال في فسحة الزمن التي يظنها أهلُ هذه الأرض الفسحةَ التي تسبق حساب إلههم الساميّ لهم إناثاً وذكوراً، والتي أحسبها، أنا الإغريقية، شيئاًً كأحلامِ شاعر اختلطتْ عليه رؤاه فاستدرجَنا إلى سطور كتابه من شتى أنحاء الأرض ومن شتى أطوار الزمن وليس يدري الآن ما هو فاعلٌ بنا في خاتمة كتابه، أو لعلها لعلها حقبةٌ جديدة هي من تاريخ الفصول لم نكتشف طبيعتها بعد.
هتونْ وماريّا وعَشْقاءْ أحسنتُ عشرتهنّ وأَحْسَنَّ عشـرتي فأُلْهِمْتُ بهنّ حلـم الخلاص، وهنّ، ها هنّ، منهمكاتٍ بشرائط شعورهنّ التي أَتَيْنَ بها لا أعرف من أين ولا متى، فألوانُ رؤوسهنّ تفضح سريرةَ الغبشة فتنكمش هذه على نفسها وتبدو وكأن المسافة خلفهنّ تمتصّها في ثوان. هنّ المشهد الآن، ورتابةُ الأيام تتحسّر على نفسها مـن جراءتهنّ، فهنّ النّبضُ في الزمن وألوانُ شرائطهنّ شرايينُ الحياة. أين هو العدم الذي تتحدث عنه الفلسفات، وهنّ النسوةُ العاشقاتُ والمعشوقاتُ، الساعياتُ والمُسْعَى إليهنّ، هنّ هنّ الفصولُ كلها، وهنّ هنّ الحركةُ في الفصول، فأين يكون، أين يكون ذلك العدم الذي لم يكن في الأصل وجوداً ليكون؟
من ناحية الجسر العتيق على النهر تسعى إليّ المفتِّشةُ عن أولادها لا تزال من أول مرة صادفتُها في القيامة، تفتّش عنهم لا واحداً واحداً بل كلّهم معاً ليكونوا معاً ملء عينيها وقلبها، وكأنها حملتْ معها من الزمن الأول الحلمَ الذي لم يحقّقه لعينيها وقلبها الزمنُ الأوّلُ. زوجةُ جهّار التي أثنى ويُثْني على صبرها كلُّ منْ عَرَّفَني بنفسه من حيّ مكسر العبد لا تطيق عن فلذاتها اليوم صبراً ولا تحسب انتظارَها لهم في هَدْأَةِ مبعثها في سينيق من فضائل الأمومة. خلاصهم قبل بدء الحساب هَمُّها، ولذا فهي الحقيقةُ أن تصغي باهتمام عظيم إلى خطّتي التي سأجمع بها كلّ الرجال على شاطئ المدينة. وسميّةُ، ابنتُها التي تسير إلى جنبها، شاكيةً لها أمر زوجها زهير الذي لا تزال تراوده عن نفسه في القيامة التي راودتْه كانت عن نفسه في الزمن الأوّل، هي الأخرى ستعيرني أذنيْها حينما أبسط لأهل القيامة حلمَ خلاصهم وخلاصهنّ.
مَكْسَرِ العَبَدْ هو الحيُّ الأقرب إلى معبد أشمونْ، وأَهْلُهُ اليوم أكثف في عينيّ من غبشة كل يوم، فها هو يسعى إليَّ موكبٌ من النسوة، نسوةِ الحيّ، يلولحن بمناديلَ بيضٍ لا أعرف من أين بها أتيْنَ، ملتفّاتٍ كهالةِ الفرح حول امرأةٍ يلفّ رأسَها منديلٌ مطرّز بزهر المرجان وفتحةُ أنفها اليمنى محشوّةٌ بحبّات الياسمين وعنقُها مسيّجٌ بهالةٍ من الورد الأحمر، ومنها، من كل أطرافها، يفوح العبقُ شعاعاتٍ من النور تستجيب لها هالةُ النور الملوّن من على تلة سينيق بشعاعاتٍ ترسلها شمالاً نحونا، ونحونا أقول لأنّ الموكب اخترق المسافة التي بيننا فأنا والمرأةُ المسيَّجَةُ بمناديل النسوةِ البيضِ الوجهُ بالوجه، أتأملها وتتأملني وما هي حتى تهجم عليّ بأنّها تحسّني غريبة عن هذه الأرض فأعترف لها بأنني من بلاد الإغريق فتسألني إنْ كنتُ مررتُ باليمن على طريقي من وطني إلى صيدون وإن كنتُ صادفتُ البدوي زوجَها عائداً من حرب السَّفَرْبَرْلِكْ، فأشفق عليها من شوقها الذي حملتْه معها من الزمن الأول، فكأنما الموت نسي أن يمحو الغائبَ عنها من ذاكرتها، الغائبَ الحبيبَ الذي طالما تحدّثتْ عنه وعنها نساءُ الحيّ بتهدّجِ أصواتٍ يكاد يقطر منها البكاءُ. هي الحميمةُ إليهنّ إذن لأنّ شيئاً فيها ربما يذكّرهنَّ بأنفسهنّ، بالزوجةِ والأمِّ والجارةِ وأكثر ربما من كل ذلك. أحسّ بذلك كلّه ويذهب بي خيالي إلى ذلك الزمن الذي رأَيْـنَها فيه يشمخ بها فوقهنّ العُمُرُ الذي كانت سيّجتْه بسياج الورد وعبق الياسمين ودخان الموقد، مُسْتَلْزَماتِ العيش التي عنها حَدَّثْـنَني سنين طويلة قبل أن تجمعني بها اللحظةُ الآن، هي ذاتها التي رَسَمَها لي بأبيات شعره سامحُ الجمري، فهي ليست جدَّتَه فحسب وإنما الجدّةُ التي تسكن خيالَ الدنيا والتي بدونها الدنيا لا تـكـون. أمّ يحيى وجهّار لم تُبْعَثْ ليطوف بها أرضَ القيامة نسوةُ الحيّ وحدهنّ، فها هي عاصفةُ دجاجاتها وصيصانها تخترق هالةَ النسوة التي حولها، بُعِثْنَ لعلهنّ معها يقأقـئن وينهضن بمناقيرهن الفاغرة إليها وكأنما يحسبْنَها على وشك أن تلقي لهنّ بالحَبِّ الذي كانت تلقي لهنّ به في الزمن الأول. حلمي لها بلقاء غائبها أُوحي إليها به إيحاءً لأُطَمْئِنَها أنّ البدوي سيكون ملء عينيها وقلبها عمّا قريب قريب.
الخفيفاتُ الوطءِ الهفيفاتُ على الدربِ، الهيّناتُ نَقْلاتُهُنَّ، الأربعُ النسوةُ المنساباتُ بأنوثتهنّ، كالمهرجان هنّ، أقول لهنّ وهنّ يتهدهدن نحوي، فَيَقُلْنَ بل كالمظاهرةِ نحن، وينقلبن إلى الوراء بالضحك، فأهجم عليهنّ بأنْ خَبِّرْنَني سِرّكنّ أخبّرْكنّ سرّي الذي هو اليوم خلاصكنّ، وثلاثٌ منكنّ غريباتٌ عن هذه الأرض والرابعةُ أعرفها لأنني التقيتُها مرّاتٍ في دروب مختلفاتٍ بين المخيّم والمدينة وفي ساحات عن بعضها متباينات، هيّا خبّرْنَني سرّ المظاهرة التي أغلى عندكنّ من المهرجان. رنده الحيفاوي أنا، تقول السمراءُ التي أعرفها منهنّ، وهؤلاء الراهبةُ جْريسْ والرسّامةُ إيميهْ رِزْقْ وعاشقةُ ال ambience الشبابيّ برناديتْ النَّانّو، مشيرةً إليهنّ واحدة واحدة. أسألهنّ الثلاث من أيّ المدن هنّ فيقلن من بيروت فأستفسر إنْ كنّ مثلي بُعِثْنَ هنا في صيدون فيقلنَ أنْ لا وأنْ قد أَجْمَعْنَ أمرهنّ على زيارة صديق صيداوي لهن قبل بدء الحساب لجلاء حقيقةِ مَنْ منهنّ الأربع كان يحبّها أكثر في زمن الدنيا. هنّ إذن متنافساتٌ في أمر رجل، أحدّث نفسي، وشيءٌ فيَّ يلهمني أنهنّ عازماتٌ على استعطاف إلههنّ ساعةَ الحساب أنْ يحسم الأمر بينهنّ ويَهَبَهُ للتي كان يحبّها منهنّ أكثر، فأطمئنّ إلى قبولهنّ لخطّتي حينما أُعلنها عمّا قريب.
المظاهرةُ جمعتْنا مرّةً في انتخابات لجان الطلاب، تقول الراهبة جْريسْ، وكنّا يومها نظن أننا في حالة عداء، فلما فَارَ الدمُ في عروق ملّتنا والملّة الأخرى وتناوشت السكاكين والبونيات في أيدي الشباب إكتشفنا نحن البنات أنْ لا شيء يستأهل الحقـد والضـرب والطعن وكلّ ما يقود الناس إلى الحرب، وأنْ إنْ ليس من الحرب بدٌّ فليكنْ تنافُسنا في الحبّ هو الحرب التي نخوضها نحن راضياتٍ مرضيّات. المظاهرة في ذلك اليوم من الزمن الأول في بيروت كانت المهرجان الذي عرّى لنا الوجود من كل زيف المهرجانات. والآن في زمن القيامة حربُنا في الحبّ لن تُحسم إلاّ بكلمة الفصل من بارئنا الذي وحده عليمٌ بذات القلوب.
أمسحورةٌ أنا في حلم الشاعر الذي أحسبه اختلطت عليه رؤاه فاستدرَجَنا إلى سطور كتابه من شتى أنحاء الأرض ومن شتى أطوار الزمن، أم أني أنا الحالمةُ بكل مَنْ عرفتُ وصادفتُ على هذه الأرض ولم أفقْ بعد من حلمي الذي منه خطّتي لخلاص أهل الشوق والتّوق والعتاب والندم والحسرة والألم ممّن أنبتتْ هذه الأرضُ وإلى ترابها استردّتْ ولم تزل تبدئ وتعيد سيرتها في تعاقب الفصول، أم إلهةٌ من آلهة الإغريق أنا محجّبةٌ بابنةِ الإغريقيّ الفيلسوف فيثاغورَسْ، وهكذا هكذا أظل حتى ألتقي بحبيـبي فأتمدّد له ويتمدّد لي، شأن العشّاق من بني البشر، أتمدّد له ويتمدّد لي على المعبر الحجري في معبد أشمونْ على ضوء القمر إلى أنْ، إلى أنْ، ثم أستردّ طبيعتي الإلهية وأنحو نَحْوَ سيرتي الأولى؟ أم أنّ الأمر غير هذا وذاك وذيّاك؟ ليته، ليته كان أبي معي الآن ليحلّ ليَ اللغز الذي لا أعرف إن كنتُ جزءاً منه أو كان جزءاً مني، اللغزَ الذي والذي والذي.
تفوح، أو كأنما تفوح، في الهواء رائحةُ النساء، فيهتاج الجوُّ فجأةً والفضاءُ بالرائحةِ ويموج بها الرجالُ مَوْجاً فَهُمُ انسيابٌ إليها انسيابَ المسحور إلى ساحره. يخطفني من تأملاتي المشهدُ فأنا الجميلةُ الجميلةُ دامو في مهرجانٍ من أشواق النساء وهواجسهنّ، ولقد دقّت ساعة الخلاص لي ولهنّ ولهذه السيول الهاجمة علينا من لهفةِ الرجال وتلاطُمِ خيالاتهم لمِا عرفوه منّا ولِما يجنحون اليوم وغداً إلى التَّـنَهْـنُهِ فيه حتى الثمالةِ، حتى الثمالةِ أقول وكأنما اللحظةُ تقذف بنا جميعاً إلى احتفالاتٍ دَيونايْسِيَّهْ كتلك التي عرفها الإغريق قديماً. ولكنّ ذلك لن يكون اليوم ولا غداً على هذه الأرض التي دياناتُها الساميّةُ توجز امرأةً لرجلٍ ورجلاً لامرأةٍ، إلاّ ما كان فوق ذلك للرجال اضطراراً. رأسي تضج فيه أفكارُهم التي عرفتُها منهنّ ومنهم وأنا أتجوّل في أطراف وقلب هذه المدينة التي يناديها في شعره سامحُ الجمري بِيَا سَفْرَةَ العصورِ في مدينهْ.
أعتلي المعبر الحجريّ في معبد أشمونْ وأطلّ عليهنّ وعليهم، وكأنما أنا في حلم، وما هي حتى يكاد ينجرف الصوتُ منّي ببشارة الخلاص وقد ترقّق الصمتُ بالسكوتِ وتهلهل الانتظارُ بالأمل. أفتح فمي وأتذكّر ديموسْتينَِسْ، أَخْطَبَ خطباء الإغريق، فتعتريني رعشةُ الخوف من أنْ أقولَ فلا أُفْصِحَ أو أسترسلَ فلا تتركَ الأثرَ العميقَ في القلوب كلماتي، أو أنْ يقبض العِيُّ صوتي أو يستولي عليّ البُهْرُ، فيفوتني ويفوتهنّ ويفوتهم بيانُ حُلُمي الذي قد يحوّل عَتَبَهم الصامتَ على الغيب وعَتَبَهنّ إلى فسحةٍ ظليلةٍ من رجاء.
لا في الزمن القديم كنتُ غريبةً عن هذه الأرض ولا في زمنِ الآن الذي تسمّونه القيامة وأسمّيه أنا البعث المتجدّد في توالي الفصول، والذي انقضى علينا منه تسعةٌ وثلاثون عاماً، وها نحن اليوم في اليوم الأوّل من العام الأخير قبل بدء الحساب، كما ذكرتْ فذكّرتْنا أمُّ شريف، لا في زمن أشمونْ نبذتْني جيرتُكم، أيها الصيداويون والصيداويات، ولا في زمن قيامتكم المستمرة حتى اللحظة، ونعمةُ الجيرة أحفظها لكم في حميميّة قلبي، فَاسْمَحْنَ لي واسمحوا لي أن أخاطبكم، يا نساء ورجال كلّ العصور التي عبرتْ هذه المدينة، كما أخاطب لداتي وأهلي وبعضاً منيّ كان اسْتَلَّهُ من حناياي أميرٌ من أمراء صيدونكم كان ابناً لملكٍ من ملوكها، فلا أزال أتلمّسه في وجوه الرجال ولا أحسّه يعود إليّ إلاّ في حجابِ آَخَرَ عاش في زمن آخر. صحيحٌ أنّ المسرح الإغريقي ابتدع حجاب الأقنعة المسرحية، إلاّ أنكم ابتدعتم حجاباً أعمّ وأشمل ساد في بلادكم بعد زمن أشمونْ فأقصيتم عنّي الحبيبَ الذي لم يعرف المعبدُ ولا نهرُ المعبد ولا نَبَتاتُهُ ولا شجراتُ كيناهْ حجاباً بيني وبينه إلاّ الهواءَ الذي كان يشتعل بأشواقنا وتلاقياتنا نوراً وناراً، فارتكبتم بحقّ الطبيعة وحقّي وحقّ الغائب عنّي خطيئةَ الحُجُبِ التي تتشوّقون إلى هَتْكها جميعها في صمتكم الإنسانيّ، ولا سيّما تلك التي تحجب عنكم الغيبَ الذي تسمّونه مشيئة إلهكم الساميّ. عَتَبي عليكم من حبّي لكم : أفليس حبيـبـي وأميري واحداً من سلالاتكم؟ عَتَبي عليكم، أقولها ثانيةً، من حبّي لكم، ولقد غفرتُ لأنني أعرف طيبتكم ولأنّ قَصْدَ الإساءة إليّ لم يكن نيّةً من نواياكم. ولكنّ تَوْقَنا، أنا وأنتم، إلى الخلاص لن يكون إلاّ باستدراج الغيب إلى تنويلنا الحميمَ الحميمَ من أمنيّاتنا، ولن نستدرجه إلاّ ونحن في حالةٍ من الطُّهْرِ أَضْمَنُها لكم ولَكُنَّ إذا أجمعتم أَمْرَكم على تلبّس حلمي الذي سأبوح به لكم وإذا ضمنتم لي صمتَكم وإصغاءَكم هنيهةً أو هنيهتيْن، ولا أحسبكم إلاّ فاعلين.
دانتي، الواقف بين أبي العلاء والعلاّمة الشيعي اللذيْن ما فَـتِـئَا يلاحقانه في كل دروب القيامة، يهتف بي أنه لن يصمت ولن يصغي، لا هو ولا أبو العلاء، لأنهما غير مَشْمولَيْن بكلماتي الموجّهة إلى أهل المدينة فحسب، فأعتذر له ولصديقه، وأذكّرهما أنني مثلهما لستُ في الأصل من هذه الأرض. العلاّمة الشيعي يهمس شيئاً في أذن أبي العلاء فيعلن أبو العلاء تعجّبه من تدخّلي في شؤون الغيب ويسألني إن كنتُ سمعتُ في دروب القيامة بكتابه المسمّى رسالة الغفران. وقبل أن أهمّ بالكلام يعلو صوتُ دانتي شارحاً لي أنّ صديقه ضَمَّنَ رسالته رحلةً خيالية إلى زمن القيامة، وأنه هو الآخر ألّف ثلاثية شعرية في هاجس الإنسانية ذاته، وأنّ ذلك كله كان بعد زمني وزمن أشمونْ وملوك وأمراء صيدون، ثم يسترسل دانتي فيؤكد لي تفهّمه لما أحاول فعله من أجل خلاصنا جميعاً قبل بدء الحساب، وإن يكنْ تصوّري للأمر غير ما صوّره هو في كُتُبِهِ وتكنْ دربي إلى الخلاص غير دربه هو وغير الدرب التي سلكها إلى الغيب في حلمه الغفرانيّ صديقُه أبو العلاء.
حلم خلاصنا كان أَلْهَمَنيه في تجوالاتي الصبيّاتُ من هذه الأرض الخفيفاتُ الوطء الهفيفاتُ على الدربِ الهَيِّناتُ نَقْلاتُهنّ المنساباتُ بأنوثتهنّ كالمهرجان، هتونْ وماريّا وعشقاءْ وجريسْ وإيميهْ وبرناديتْ ورنده، وها أنذا أبثّكم إيَّاه حلماً بالصيغة الإغريقية، طقساً من طقوس الرياضة والعبادةِ، فاستعدّوا، أيها الحالمون بفاتناتكم من زمن الدنيا ومن هذا الزمن، إستعدّوا لسباقِ الشوقِ عَدْواً عَدْواً من باحة هذا المعبد حتى الشاطئ الممتدّ من مصبّ النهر إلى القلعة البحرية لتبدأ المرحلةُ الثانيةُ من السباق باقتحامكم البحرَ عَوْماً عَوْماً حتى الجزيرة التي تعرفونها فتدورون حولها مرّةً ثم تضربون الماءَ صوب الشاطئ حيث ننتظركم نحن النّسوة لتقتسمونا جوائزَ بينكم، فيختار الفائزُ الأوّلُ المرأةَ التي يشاء فتكون رفيقةَ دربه إلى تلة سينيق ورفيقةَ عمره الثاني، في جنّةِ خُلْدٍ كان ذلك أو في دورةٍ من دورات الفصول، ثم بعد الأوّل يختار الثاني فالثالثُ فالرابعُ وهكذا هكذا حتى يكون لكل حالمٍ فاتنةٌ، فَهَيّا انطلقوا عدّائين أشدّاءَ فعسى كلّكم أن يكون الأوَّلَ في سباق الشوق إلينا، انطلقوا هيّا، رجالَ صيدون، واجرفوا معكم، في البر وفي البحر، كلَّ ضيوف القيامة.
للحظةٍ تُختلطُ عليَّ الأزمنةُ، فعلى المعبر الحجريّ أحسّني فجأةً وكأنّما يقف عن يميني التراجيديُّ سوفوكْليسْ وعن شمالي الكوميديُّ أَرِسْتُفَنيسْ، تحدّق فيَّ عيونُهما وكأنّما تبثّني خواطرَ الرّجليْن حول تتمّة المشهد الذي يبدو وكأنّهما يظنّانه فصلاً من مسرحيةٍ كانا حَلِما بها في زمنهما ولـم يكتباها فقمتُ أرتجلها أنا لهما في مملكة صيدون. في عينيّ تضطرب خواطرُهما وتتلاطم فتضطرب قدماي على المعبر الحجريّ. هنيهةٌ وهنيهةٌ أخرى، وأكاد أن أطأ الهواء الذي لا عن يمينٍ ولا عن شمالٍ لولا أن ينهض إليّ من الجمع المضطرم بكلماتي صوتُ دانتي جليّاً كالبرق أنْ لا فُضَّ فوكِ يا ابنة فيثاغورَسْ فلقد جِئْتِنا بحلم اليقينِ بالخلاصِ بعد أن استفتيْنا علاّمةَ هذه الأرض فلم يُفْتِنا، فانطلقي بنا ننطلقْ وراءكِ أيتها المَهْدِيَّةُ في شؤون العشق والشوق، وما العَدْوُ والعَوْمُ اللذان تَدْعيننا إليهما إلاّ فتوى الصراطِ الذي سيعبره كلُّ البشر.
يقول ذلك وتنتهب عيناه وجوهَ النسوةِ وكأنّما يفتّش في ملامحهنّ عن ضالّته، حتى إذا ما أخذ عليه مجامعَ قلبه مَلْمَحٌ يقرّبُه من خلاصه مَلْمَحاً يهتف كالمجنون أنْ بياتريسْ! بياتريسْ! أيتها القاسيةُ القلبِ المحجَّبةُ بسواها انتظريني انتظري، فعمّا قريبٍ مرةً ثانيةً سأُبعث على هذا الشاطئ، فأنهض إليكِ وماءُ المعمودية ينهلّ من على أطرافي لأجلكِ زخّاتٍ زخّاتٍ من النار والنور.
على بعد خطوات من دانتي ألمح من ابنِ الملكِ الصيدونيّ رأسَه وكتفيه، فأكاد من لهفتي إليه أن أطأ الهواء الذي لا عن يمينٍ ولا عن شمال. وقبل أن أهتدي إلى الوسيلة التي تمكّنني من الهبوط عن المعبر الحجريّ لأصل إليه يحجبه عن ناظريّ من رجلٍ آخرَ رأسٌ وكتفانِ لا أذكر أنني رأيتُ صاحبهما من قبل.
واحد، إثنان، ثلاثة، يهدر الصوتُ من الجمع المضطرم بكلماتي، فينبسط أمام عينيّ وفيهما، على مدى انسراحةِ مجرى النهر إلى مصبّهِ غرباً غرباً، سهلٌ كأنما هو سهلُ الماراثونْ الرحيب.
الفصل الثالث
أبو العلاء
لا السباحةَ عرفتُها في الزمن الأوّل ولا هي عرفتْني، ومن العَوْمِ والغوْصِ ما جرّبتُ إلاّ التلفُّظَ بهما، وحينما انتجعتْ قدماي في أوّل البعث بلالةَ الشاطئ اتَّهَمَ قلبي عينيّ بإشهادهما إيّاه منظراً عجباً، ذلك الطالعَ من قلب الماء تطفو به على حفافي الموج قدماه، فطفوةً طفوةً حتى انتصب قبالتي على بلالة الرمل بشراً سويّاً، يتأملني وأتأمله ويدور حولي وأدور حوله حتى أفصح عن اسمه، فإذا هو الشاعر الإيطالي دانتي الذي كان زمنه بعد زمني، فغلب عليَّ اليقينُ أنّ القيامة وافتْني أخيراً بالنور الذي كان سوّفه على مقلتيّ الغيبُ من أوّلِ الزمنِ الأوّلِ. ولقد كان من أعجب العجب أن أستجيب لنداءِ العاريةِ الصوتِ، اليونانيةِ دامو، فأخوض البحر مع الخائضين وأضرب بيديّ الموج وتعين يديّ على السَّرَبِ في الماء قدماي، فأنا في حماطة السابحين أوّل الأمر، ثم في المتقدمين، ثم في نُدْرةِ المتنافسين البارعين، ثم أنا أوّلُ اللاّفّين حول الجزيرة، ثم كأنني الوحيد الأوحد في رحلة العودة نحو الشاطئ، على زغرداتهنّ المتموّجات من فوقي وعلى شيءٍ كأنه استجداءات دانتي من خلفي أنْ تمهّلْ ! تمهّلْ ! أبا العلاء، فأنا، لا أنت، المبعوثُ الأوّلُ من الماء، وفي الماء معموديتي وخلاصي، فكيف تتقدّمني وتكاد تفوِّت عليّ حظّي بالفوز بدامو التي سأخلعها عن المحجَّبة بها فتعود إليّ بياتريسْ ويعود لفردوسي طعمُ الفردوس، على زغرداتهنّ المتموّجات من فوقي واستجداءاتِهِ من ورائي خُضْتُ اللدونةَ والملاسةَ والميعةَ والسلاسةَ، وأعجزني القبضُ عليها كلها حينما أعجزني، فعبثاً عبثاً تلهّفتْ للإحاطة بها الحواسُّ الخمسُ، كلّ ذا كلّ ذا والمترهّبةُ كأنما تغوص في مقلتيّ وتطفو.
والآن، ها أنا الآن، على بلالة الرمل، تتعثّر بي قدماي أو هما تكادان، لزحمة المزغرِداتِ من حولي بما اسْتَبَحْنَني به من زغاريدهنّ، المتأوّداتِ على نغماتِ أصواتهنّ، المتراصّاتِ المتدافعاتِ، من محبّةٍ لي أَجْمَعْنَ هنّ عليها أو تنافسٍ عليّ ابْـتُلينَ به للحظتهنّ.
أيها الآتي بما لم تستطعه الأوائلُ، إِيتِ بي إليك الآن من زحمة النسوة واضممني بأنفاسك التي أمليتَ بها سطور رسالتك الغفرانية وأبيات لزوميّاتكَ في زمنٍ كان حُجِبَ فيه النورُ عن عينيك لينبثق شعاعاتِ بيانٍ من بين شفتيك، إلْتَفَّ عليّ بأنفاسك التفافَ اليقين على الشك والحدس اللذْين حَيَّرَاكَ أمداً طويلاً، واسحبني، كما الشعرة من العجينة، بل اسْتلّني، أيها القادر بغيره، كما تصف نفسك، اسْتلَّني استلالَ المخيَّرِ بإرادتك أو بإرادتي إياك أن تكون رفيقي في دروب القيامة، أو ما تبقّى لنا منها قبل بدء الحساب، وأليفي في خلد الجنة أو خلد النار، هيّا انتشلني، أبا العلاء، من تزاحم الأضداد، أكتافاً مصقولةً كانت أو أذرعَ ملداءَ أو صدوراً مترعةً أو أوراكاً ملتفّةً أو أكفالاً مترجرجات. هكذا الصوت يستحثني منها، تلك المُبْـتَلاة بي للحظتها والناهض بها ابتلاؤها فوق الرؤوس والأكتاف وفوق ما يتلاطم من زغرودات وتأوهات، هي التي نكهةُ صوتها تنبئني بأنها من أرض الكنانة، فأهجس وأظن، متوخّياً معرفة أمرها، فتجيبني عن السؤال الذي هَجَسَتْه لها عيناي أَنْ أنا المرأة التي أنفقتْ شبابها تحقّق نصّ رسالةِ الغفران وتقابل بين النسخ القابعة في المكتبات المصرية والتركية والأوروبية لتخرجها إلى النور نصّاً موثّقاً أقرب ما يكون إلى الحالة التي بها كنتَ أمليتَه أنت على كاتبك، أنا أنا التي عاشرتْ نصوصَكَ حتى أصبحتْ لها الماء والهواء والأهل والجيرة وأخرجتْها، بإذن الله، من ضجعة الموت، التي هي رقدةٌ يستريح الجسمُ فيها، على حدّ قولك، إلى الإنتصاب على رفوف المكتبات، تتناهبها العيون والأنامل والجيوب، أنا، أنا بنت الشاطئ، عائشة عبد الرحمن، وقد سمعتُ بمبعثك في هذه الأرض فَاحْتلتُ في المجيء إليك حتى وصلتُ في ساعة الرهان التي حدّثتْني عنها النسوةُ المتأوّدات على رمل هذا الشاطئ ينتظرْنَ العائدَ إليهنّ أَوَّلَ من قلب الموج ليختار من بينهنّ رفيقةَ رحلته إلى سينيق وأليفةَ حظه من الخلد. من بينهن جميعاً أستحقك أنا، يا أبا العلاء، ومن بينهم جميعاً تستحقني أنت.
تَرْجُمُ صوتَها الأصواتُ المتلاحمةُ وتقطّع ابتهالاتها مِزَقاً، ولولا دربتي الطويلة في التنصّت والاستماع اللذيْن استعضتُ بهما عن نور عينيّ في العيش الأول لما كان قُدِّرَ لي أن ألملم المِزَقَ الصوتية وأسلكها جُمَلاً تامة النسق تامة المعنى. على الشاطيء هنا في صيدون إذن تلقاني بنت الشاطيء، وقد حلمتْ بهذا اللقاء فسحةً من حياتها وأمداً من آماد الموت. فكيف، بإرادة الحرّ، أكافـئها على حسن جيرتها لرسالتي وقد اشترطتْ عليّ شرطاً قيّدتْ به لساني وشفتيّ؟ بل كيف أضع عيني في عين جريسْ إذا ارتضيتُ بهذا القيد جائزةً لي عن وصولي أَوَّلَ في مباراة سباحة الرجال؟ وإذا الذي يحول بين المرء وقلبه حال بيني وبين قلبي الآن، فما الضمانة ألاّ تتكرر القصة مرة بعد مرة فأقضّي العام الأربعين من زمن القيامة وما يتلوه من زمن الخلد مشرذَمَ الولاء مشعَّبَ الهوى، ما إن تحطّ في قلبي امرأةٌ حتى تزجرها أخرى، فمسكونٌ مهجورٌ قلبي في آنٍ معاً وقد انقلب نورُ عينيّ عليه رصداً فحوّل له نعمة الحسن ناراً يتقلب عليها مؤصدة؟
أيها الخافقُ المعذَّبُ يا قلبُ، يطلع عليّ من بين التلاطمات صوتُ سامح الجمري فآخذ بعينيّ كلَّ العيون ولا أراه. أيها الخافقُ المعذَّبُ يا قلبُ، يعيدها ولستُ أراه. خُذْ بنت الشاطيء إليك، فإنها بك أولى، واترك لنا، نحن الأنضر منك عمراً، الأنضرَ منها فتوّةً وفتنةً وشباباً. بل إنك لن تأخذها مهما تلهّفتْ عليك وبابتهالاتها سيّجتْكَ وبسلسلة العرفان بالجميل قيَّدتْكَ، سلسلةٍ قَـدْرُها سبعون ذراعاً، أبداً لن تأخذها لأنك في هذه القيامة تتحرّك وكأنما أنت في حلمي الذي حلمتُه في العيش الأوّل ورسمتُ لك فيه لقاءَكَ الغريب مع الإيطالي دانتي لتتحاورا في أمور البعث والحساب والثواب والعقاب وتتبادلا الآراء في فهمكما للجنّة والنار والتوبة والغفران، وقد قدّرتُ لكما أن تتيها وراء الفاتنات من المبعوثات عَدَدَ السنين التي تاهها الشعب اليهودي في صحراء سيناء. تُهْ، كما أنت تائهٌ من بدء القيامة، وليسرفْ معك في تيهه دانتي، فحكايتي عن البعث غير حكايتيْكما، وقَدَرُكُما مع النساء لن يكون غير الذي أبصرتُه لكما في حلمي.
تشكّكني في حقيقة البعث هنيهةً، أو تكاد، نكهةُ الحلم في صوت سامح الجمري، فأتحرّى بعينيّ حشدَ النسوة فإذا الحشدُ عيونٌ تستعطف شفتيّ فلعلّهما تهمّان بتهجئة اسْمِ التي منهنّ ستكون حصّةَ قلبي وعينيّ ورفيقةَ خطواتي نحو تلة سينيق التي لا تزال فوقها هالةُ النورِ نداءً لقلوبنا خفيّاً خفيّاً. شيءٌ من الحقيقة هذه الحدقاتُ والرموشُ والنظراتُ الماحياتُ للمسافة بيني وبينهن، فكيف تزلزل هذه الحقيقةَ إشارةٌ لفظيةٌ من شاعر هذه المدينة إلى حلمٍ له قديمٍ بصياغة رحلة جـديدة إلى أرض القيامـة؟ إليهنّ، إلى أصواتهن، أصبو، ولكنّ نكهة الحلم في صوته هو لا تفتأ تؤرجحني بين حلم رسالة الغفران وهذا المشهد الذي أحسبه أكثر من حلمٍ لشاعرٍ حَلاَ له أن يجمعنا ههنا على شاطيء مدينته ليعبث بنا في سطور يسطّرها على صفحات رواية. رسالة الغفران كانت مجرّد حلم، حلمي أنا، وأنا مطفأ العينين، أمّا المشهد الذي يشملني ويشملهنّ الآن، والنورُ ملء عينيّ، فلا ريب أنه القيامة حقاً حقاً، وقد خرج الحدثُ عن مزاجية حلمي واتخذ لنفسه مساراً غير مسار رسالة الغفران. أم تُراها تُراها الحقيقةُ غير هذا وذاك ؟
لا حقيقةَ، اليومَ، إلاّ حقيقةُ الحلمِ، سواءٌ أكانت هي رسالتَكَ الغفرانيةَ أو كوميديايَ الإلهيةَ أو الحلمَ الجمريَّ الذي لم يُكتب لصاحبه أن يصوغه كتـابةً، كمـا تسنّى لي ولك أن نصوغ في كتبنا حلميْنا. ثم أليست القيامة في كتاب ملّتنا وكتاب ملّتكم، يا أبا العلاء، الحلمَ الذي أبدعه للساميّين الخلاّقُ العظيم؟ لا حقيقةَ اليوم إلا حقيقة الحلم.
لا أصدّق أن الكلمات المزمـجَرَةَ في وجه خواطري هي كلمات دانتي، وإن يكن الصوت صوته هو، يشرئبّ فوق تلاطم التنهدات منهنّ والتأوهات والاستجداءات وفوق الصرخات الطالعة من حلوق الرجال، تستعجلني كلّها لأحسم أمري فأعلن اسْمَ التي هي جائزتي من بين النساء ليختار من بعدي جائزتَه الثاني فالثالثُ فالرابعُ، إلى آخر هذا الحشد من السابحين على نيّة الفوز بالفتنة التي تسبق فِتَنَ الحور العين. للحظةٍ أظنه خرج من مسيحيته دانتي. للحظة أحسبه ضاق ذرعاً بالإحتمالات. بل لعله يُؤْثِرُ اللحظة الحاضرة لأنها مرهونة بالفاتنة الإغريقية، وقد تحجّبتْ بها بياتريسْ، فهو، من ولعه بدامو، لا يدرك أن المرأة التي خلف الحجاب إِنْ هي إلاّ حُجَّـتُهُ الفنّـيّةُ للمرأة الحجاب.
تشقّ المترهّبةُ جريسْ الجمعَ النسويّ إليّ وتشقّه خلفها اليونانيةُ دامو فيعتريني للحظة ما يعتري دانتي من بلبلة فلا أدرك، مثله، إِنِ الحقيقةُ الحلمُ أم الحلمُ الحجابُ. ولكنّ جراءتهما وهما تتقدمان نحوي تُسقط البلبلةَ من عينيّ وفكري، فكلٌّ منهما بذاتها حقيقةٌ تستقلّ عن الأخرى بقامتها ومشيتها وملامح وجهها، وها صوتاهما يعزّزان الفصل بين هويّتيهما، فليست إحداهما للأخرى حجاباً وليست تغني في عينيّ وأذنيّ عن إحداهما الأخرى. رباه! رباه! رباه! منذ متى أخذتْ عاريةُ الصوت دامو بالتغلغل فيَّ، وكيف الحبيبةُ جريسْ تركتْها تنسلّ إليّ، وهي الآخذةُ عليَّ عقلي وحواسّي منذ فتّح البعثُ عينيّ بالنور عليها؟ كأنني أستفيق على عشقي للمرأتين في آنٍ معاً، فأيّ بلاء ابتلتْني به نعمةُ النظر، وقد كنتُ في العيش الأوّل مطمئنَّ العمى، على ما في العمى من بلاء.
المُغْوِيتان لعينيّ تتحسس يداً لي يدُ أولاهما وتتحسس يدُ ثانيهما يديَ الأخرى فيصيبني ما أصاب الشاعر الذي قال:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستُها وينبت في أطرافها الورقُ النَّضْرُ
أَهُمُّ بسحب يديَّ من يديْهما فتتراخى نيّتي وقد وقع بإرادتي من الخَدَرِ ما كان يقع لشعراء الغزل في الزمن الذي قبل زمني. أغمض عينيّ لأنفيَ حضورَهما عنيّ فإذا بي كالنعامة التي تسلّم للصيَّاد نفسها لحظةَ تدسّ رأسها في التراب. بطنُ راحتيَّ عابقٌ بالندى، والورقُ النَّضْرُ أصابعي كلها. أهكذا هكذا فُعِلَ بآدم قبلي فسقط من الجنة لاستمتاعه بالجنة؟ أفتح عينيّ على جنون الخاطرة التي خطرت ببالي فكادت, لو استقرّت في فكري، أن تُلْحِقَ بي تهمة التجديف وتكبّدني، على ذنوبي الجمّة، ذنباً جديداً. أفتح عينيّ وأنفخ بنيّتي على راحتيّ لأجفّف الندى عنهما فتتمسّك اليدان المغويتان بيديّ وتشدّني كلٌّ في اتجاه، فأميل مرةً ذات اليمين ومرةً ذات اليسار حتى ليكاد ينشطر بينهما جسدي لهفتيْن.
خُذْ إليكَ أيَّهما شئتَ وامْضِ عنّا، فسواك من الرجال تستعجلهم عيونُهم إلينا، يستحثني من أصوات النسوة أشدُّها عتباً عليَّ، فتضحك المغوياتُ من كل صوب، حتى إذا ما استهوى إحداهنّ منظري تَمَاجَنَ صوتُها أَنِ اتْرُكْـنَهُ يتراقص ذات اليمين وذات اليسار فَإنْ هي إلاّ رقصتُهُ الصوفيّةُ التي تنتهي بالدُّوار. أحسب المرأة تعرفنْي، فهي لعلها تتفكه بالتلميح إلى قولي في أهل الصوفية:
أقـال الله حـين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي؟
وأين مِنْ رقص المجاذيب هذا التنازعُ الذي تتنازعني إياه جريسْ ودامو؟ تستلّني من خواطري القيامةُ التي حقاً قامت، فها هي أمواج الرجال تنصبّ علينا ويتكسّر بعضها على بعض فيغشاني من تكسّرها رذاذٌ غاضب الرطوبة، وها هو يهوّل عليّ بيديه دانتي ويصرخ بي أن أنتزع يدي من يد دامو فأتركها له لأن بياتريسْ ضاقت ذرعاً بهذا الحجاب فهي تستجير به أن يخلع عنها اليونانيةَ لتسترد هويّتها الإيطالية، فلقد تطاول عليها زمنُ المِطْهَرِ حتى لا احتمال. جنّ المجنون، أقول لنفسي، ولكنّ شيئاً في داخلي يهتز مؤنباً فيهتز كياني من رأسي حتى قدميّ. دانتي وكل الرجال حوله وخلفه يحرّقهم الشوقُ إلى دامـو، فلماذا لا تبتلعني الغبشةُ فتحرّرني منها ومنهنّ ومنهم جميعاً وتريحني من عتاب الصوت الذي في داخلي ومن وخز التأنيب؟ وهَبْني ابتلعتْني الغبشةُ فلمن ستكون دامو بعـدي وقـد حاصـرتْها العيونُ والنوايا والأنفاسُ؟ لا ضمانة اليوم لدانتي بالفوز، ولا ضمانة لأحد سواه، حتى لو تخلّيتُ عن حقي الذي اكتسبتُه بوصولي أوَّلَ في مباراة السباحة والعوم. لا ضمانة اليوم لأحد، وإذن فكيف يُجترح العدلُ، يا الله، في الزمن الذي لم يبدأ بعد فيه الحساب؟ لعل المتنبي قبلي شغلتْه مسألةُ العدل واللاعدل في جنون الحب والشوق فهو الذي قال:
فليت هوى الأحبّةِ كان عدلاً فحمّل كلّ قلبٍ ما أطاقا
وليته، ثم يا ليته أضاف: فليت جمالَ الأحبّةِ كان عدلاً، لو كان فقط يستقيم له الوزنُ، وإذن لكان أنصفني وهوّن عليّ الذي أنا فيه. صحيحٌ أنّ العدل في الجمال هو العدل في الخَلْقِ، إلاّ أنّ البارئ الذي خلقكَ فسوّاكَ فعدلكَ، قدّر لمخلوقاته لكلٍّ منها نصيبَه ونصيبَها من الحسن، فكان في تقديره التفاوتُ الذي لا يزال عصيّاً على عقولنا الفانية إدراكُ الحكمة منه. لا اعتراض على مشيئتك، يا الله، ولكنّ قلبي يتفطّر على كل هؤلاء الرجال وقد شُغِفوا بدامو حبّاً، فسقطت الأخرياتُ في ذل الإنتظار. هوانُ رجالٍ في هوانِ نساء، وأنا تؤرجحني لا تزال اليدان المغويتان ذات اليمين وذات اليسار. أغمض عينيّ لأتصوّر كلَّ امرأةٍ في هذا الجمع المشحون بالهوان وقد استعارت قامةَ دامو وملامِحَها وصوتَها، فكلُّ امرأة هي دامو، وإذن فلكلّ رجل منهن مثلُ الذي لدانتي من الحظ، وإذن فكلّهم فائزٌ لأنّهم كلّهم وصلوا أوَّلَ في هذا السباق، وإذن لا، ثم لا، ثم لا. يستقيم جسدي في الهواء وتتسمّر في الأرض قدماي، ثم تنتفض يداي من يديْ مُغْوِيَتَيَّ، وما إن يستحيل الورقُ النَّضْرُ في أصابعي إلى شجرات يظلّل اخْضرارُهُنّ الحائرين والحائرات حتى يسبقني إليهم وإليهن قلبي بالصرخةِ أَنْ لا خيار لأبي العلاء اليوم، ولا غداً، ولا بعد غد، حتى يتحقق الحلم الذي فيه أقول:
فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا !
القيامة قامت حقاً حقاً، فها هم وها هنّ يموج بعضهم في بعضهنّ وقد غلب عليهم وعليهنّ الشوقُ إلى حلاوة الظفر بما كانت في معبد أشمونْ قد وعدتْ به دامو المضرّجين بالحلم والمضرّجات. الحلم الآن ضرامٌ من الهرج والمرج، والأصواتُ ضجيجٌ اختنقت فيه ملامحُ الكلمات. أهو خياري ألاّ أختار كان ما فَتَنَ عن مهابته الإنتظارَ فَـبُلْبِلَتْ في بابلِ القيامةِ الألسنةُ ودارت بأهلها المتلعثمين الدارُ ؟ بغتةً، بغتةً، كأنما الغبشةُ يسري في ثنيّاتها البرقُ فيغشى الأرضَ ومَنْ عليها ما يغشى من لهفة الرؤيا التي تأخذ العيونَ مضمومةً كلّها والقلوبَ تلقاء الهالة التي فوق تلة سينيق تنداح ملء فضاء السماوات نداءً خفيّاً خفيّاً أَنِ الآنَ لحظةُ الزحف إلى التلّةِ، الآنَ، وقد أَذِنَ الغيبُ للمنتَظَرِ الوحيد أن يرحل إلى أمّه، في مجيئه الثاني، فغذّوا إليه، إليها، إليَّ المسيرَ المسيرَ.
في ذهولِ العاشقِ المسحورِ بالشوقِ لذيّاكَ المزارْ
ها بنا تنسابُ صيدونُ جنوباً
وجنوباً لمعاتُ البرقِ نيرانٌ يندّيها اخْضرارْ
أبو طاهر
فتنةً يونانيةً فُتِنّاها، وما كنّا لنحسب أنَّ للقيامة فِتَناً كان قدّرها عليها الغيبُ وعلينا، فَسَبَحْنا كما المتبارون من أهل المدينة ومن الوافدين عليها، شبّاناً ورجالاً وكهولاً سَبَحْنا حول الجزيرة وصوب الشاطىء المكتظّ بالزغردات، أكفُّنا وسواعدُنا وأرجلُنا المجاذيفُ الغائصةُ في لدونة الماء التي كبشرة الحور العين، لا كما لو أننا عرفنا الحور العين يقيناً يقيناً، ولكن كما صار يحلو لنا أن نحلم بهنّ وقد استنهضتْهنّ من سرائرنا اليونانيةُ دامو، وقد كنّ في أحاديثنا في الزمن الأوّل الحلمَ المغشّى بأدب الغضّ من أبصارنا وأصواتنا إذا ما عَفْوَ ألسنتنا أُتِيَ على ذكرهنّ، هنّ اللواتي في خواطرنا الوعدُ المقرونُ بالجنات تجري من تحتها الأنهار. فتنةُ الفردوس الأوّل حوّاءُُ حوّاءُ، وفتنةُ البعث دامو، فجفّفْ عُرْيَنا البشري من الضعف الذي برأتَنا عليه، يا الله، فبإمتثالنا لإرادة الحلم اليوم لا ندري أشرٌّ أُريدَ بنا أم أراد بنا ربُّنا رَشَداً.
من الفتنة التي بها سقطنا ننهض الآن على إيماءةِ الهالةِ النورانية من سينيق، نداءً لنا خفيّاً خفيّاً، أنِ انْفُضوا من حدقاتكم البقيّةَ العالقةَ بها من غبش الدنيا، انفضوها وخُفّوا إليّ، فمن على هذه التلّة تُرجى أوّلُ الشفاعةِ المسوّفةِ لكم في الغيب من أوّل ما كان الغيب، هلمّوا إليّ هلمّوا.
الهالةُ النورانيةُ تلحّ بإيماءاتها فتنشدّ عيونُنا إليها، مؤتلفةً وكأنها العين الواحدة، هنيهةً تنشدّ، ثم تتراجع إلى هذا الجمع الزاحف لتتهافت متفرّقةً، كلُّ اثنتين منها تبحثان عن ضالّتهما في الوجوه الأخرى. العيون الشوارد لا تستقرّ على مبتغىً ولا هي تسأم من تقلّبها بين الملامح المتعاقبة والمتداخل بعضها في بعض فأشتاتٌ سحناتُ الوجوه في أشتات. النور من التلّة يربك الفتنة فينا ولكنه لا يستحوذ على لهبات الشوق واللهفة استحواذاً يلغي حضورها، فحلمُ الجسدِ القديمُ لا يفتأ يقارع حلمَ الروحِ القديمَ، وسجالٌ أبديٌ هي الحرب بينهما. هكذا هكذا الزحف يندفع بنا جنوباً جنوباً، وما للذَّكَرِ في أنثى من سكنٍ يطمئنّ إليه وما للأنثى في ذَكَرٍ من سَكَن.
الزحف جنوباً جنوباً يستوقد في البال خاطرةَ الزحف الذي صيدون زحفتْه في العيش الأوّل صبيحةَ خرجتْ تودّعنا، نحن رجالها وشبّانها، وقد أجمعنا أمرنا على الحجِّ إلى بيت المقدس مدججين بأسلحة الحرب التي كانت زوّدتْنا بها المخيّماتُ الفلسطينية، من عين الحلوة في صيدون إلى البصّ في صور إلى الرشيدية فسواها وسواها. الخاطرةُ في البال تنسرح بي وبهم من أزقّة المدينة القديمة إلى شارع الشاكرية فشارع المطران فشارع الأوقاف فساحة النجمة، فجنوباً جنوباً، على طول شارع رياض الصلح، صوب سينما هيلتون فسينما شهرزاد فساحة البوابة الفوقا فشارع معروف سعد الذي إلى الشرق منه مقبرةُ شهداء الإجتياح وإلى الغرب منه مدرسةُ الراهبات. المدينة الزاحفة جنوباً يومها كانت يومها أصواتاً أشبه بالزغردات لنا، نحن المهاجرين بنيّة الشهادة إلى القدس حيث على نيّة الوعد سنلتقي هنالك بالمهاجرين إليها من شعاب الأرض الفلسطينية التي كان استردّها لشعبه قبل استشهاده ياسر عرفات، فتلتحم الإرادة بالإرادة وتنخضّ الأرضُ من تحتنا وترفضّ من فوقنا السماءُ، ونحن ندكّ تحصينات الذعر اليهودي ونجوزها بأجنحة النصر لنرفع فوق القبّةِ المذهّبة عَلَمَ فلسطين ونحقق الحُلمَ لكل من آمن بذيّاك الحُلم ونصرخ بتراب المسجد أنْ تَشَقَّقِ الآن ليرى جثمانُ عرفات حلمَ عرفات يتحقق ولو بعد حين بإعلاننا القدس عاصمةً لفلسطين. ولقد عبرنا الحدودَ ودمرّنا السدودَ وأيقظنا من قبورهم اليهودَ وأحلْنا ديارَ أحيائهم إلى مثل ديار عادٍ وثمود. الزحف الذي كان يومها كان، وزحفُ الآنِ الآنَ، والموعدُ التلّةُ.
من هدرة الزحف والزاحفين تتسلل إليّ في إصرارٍ قَدَريٍّ اللهجةُ الصيداويةُ الأليفةُ لأذنيّ من صوت نزيه القبرصلي، تتسلل ولا تتسلل معها إلى عينيّ ملامحُ الوجه الذي أحنّ إليه وإلى وجوه رفاقه الذين من لحظة انبعاثي من تراب المسجد الأقصى انطلقتُ إلى مقابرهم في صيدون لأََشْهَدَ بعثهم وأُشْهِدَهم بعثي وأروي لهم حكاية أرواحهم التي خرجتْ ترفرف فوق مسيرتنا حتى إذا ما بلغنا مشارف القدس انحدرتْ إلينا وانخرطتْ في صفوفنا واندفعتْ وقاتلتْ وأبلتْ في جهادها حتى تمّ لنا النصر وارتفع فوق القبّة المذهّبة عَلَمُ فلسطين، رفعتْها أرواحُهم المجنّحةُ ودارت حول القبّة دورات الفرح ثم اندفعت صعداً صعداً لتتلاشى في الفضاء الذي قدّره لها المهيمنُ المتعال.
الآن الآن أرى وجوهَ الأربعة، نزيه القبرصلي وسليم الحبّال وعادل الديماسي وأحمد المرسي، تبرق منها العيونُ، والصوتُ من الأفواه الأربعة واحدٌ أحدٌ أنْ نبّأْتَنا في الدنيا برؤياكَ التي سبحتْ فيها روحُكَ فوق القبّة وحسحس إلى أذنيك من القبّة الصوتُ أنْ ولسوف تُسألون ولسوف تُسألون، نبّأتَنا فصدّقناك وبشّرتَنا فاستبشرنا بك وبالرؤيا، ولقد جمعنا اللهُ بميعادٍ على غير معرفة لنا بالميعاد وفرّقنا بمثل ما جمعنا به ليجمعنا اليوم من جديد في الرحلة نحو سينيق المندفعِ فيها هذا الخلقُ الطامعُ بالشفاعةِ التي بها يُستدرج الغفرانُ، أو لعله، فنبّئْنا إن كان اعتراكَ في هذا البعث من الرؤى الحميمة رؤيا نستبشرْ بها ونصدّقْ كما كنّا وكان دأبنا في الدنيا. يصفّق في الضلوع دمٌ ولحمٌ فأهتف بهم أنِ القلبُ الدليلُ لنا اليوم وفي غدٍ وبعد غدٍ، ولا أحسبه اللحظةَ إلاّ يلهمني بأنّ استشهادنا جميعنا في العيش الأوّل لم يكن آخر مهماتنا في الجهاد، فشيءٌ أمامنا لا يزال ينتظرنا، فإن لم ننجزه في أوانه فستعمّ الخلقَ الزاحفَ إلى التلّة النقمةُ، ظلاماً غاشياًَ يمنع قلوبَنا وأرواحَنا من شهود الحقّ حينما الحقُّ يهبط علينا من ظلل الغمام. قلْ لنا ما الذي ينتظرنا ننجزْه الآن، تتوسل أفواهُهم في صوت واحدٍ أحدٍ. أقول لهم الغيبُ سَوَّفَ الرؤيا عن القلب، وإن يكن قد ألهمه الصبرَ في انتظارها، فانتظروا، إني معكم من المنتظرين.
وما يكاد الأربعةُ تلفتُهم عنّي زحمةُ الزحف حتى ينبري إليّ أربعةٌ غيرهم، بل خمسة، لا بل ستة أو يزيد. الملامحُ والسَّحَناتُ غريبةٌ عنّي فَمُحْرَجَةٌ بها كلها ذاكرتي. تُلَطِّفُ من ارتباكي ابتساماتُهم الواشيةُ لي بحسن معرفتهم بي، فأبتسم وأُعْمِلُ فيهم ذاكرتي من جديد. وحدها لهجتُهم الصيداويّة تعرّفني بهم، فأهلاً بكم يا أهل بلدي. ولكنّ صوتي لا يبلغهم، كما تشي بذلك نظراتهم، فأهّم ثانية بأهلاً بكم يا شباب بلدي، فيقطع عليّ نيّتي تأكيدُ أحدِهم لي أنهم عرفوني وهم بعد صغارٌ في أزقّة المدينة وأنهم ما تكشّفتْ لهم أفكاري التي كنتُ أسررتُ بها إلى الجيل الذي سبق جيلهم إلاّ بعد رحيلي إلى القدس مجاهداً وإلاّ بعد جهرِ المجاهرين وهمسِ الهامسين ونجوى المتناجين، في صبحيّات المساجد وأمسياتها، بما كنتُ أتمناه للفتية من بعدي من رَصْدٍ لقوافل السيّاح الإسرائيليين لحظة وصولها إلى ساحة النجمة، في باصات أو فانات أو تكسيّات، للإنقضاض عليها في عمليات إستشهاديّة لخلايا لا تربو الواحدة منها على ثلاثة شبّان، ولايكون لها ارتباط بخليّة أخرى، فموتٌ للثلاثة أو سجنٌ للثلاثة، على ما يقدّره الغيب لكل خليّة. وإذن فلقد انتشرت نواياي في المساجد وكان جهادي بفتيانها بعدي استمراراً لمشيئة الله في عباده المخلَصين، وإذن فلقد صَدَقَتِ الرؤيا القديمةُ فهيمنتْ على الشرق العربيّ الإرادةُ الأميركيةُ وفرضت على الحكومات الصُّلْحَ المزعوم بين العرب واسرائيل، والذي كان يلوح لنا في مقولة العولمة ومقولة قبول الآخر اللتين استوردتْهما وسائلُ الإعلام عندنا ووزاراتُ التربية من ايحاءات البيت الأبيض والعواصم الأوروبية المنجرفة في التيار العنيد، طوعاً أو كرهاً، وكرهاً أكثر منها طوعاً، على ما كان يبدو لجيلنا في الأفق البعيد القريب.
أنت قد لا تذكر طفولتي وصباي الأوّل، يا أبا طاهر، ولكنّ أهلي كانوا في جيرة الحيّ الذي كنتَ فيه، وكنتَ محشوراً في أحاديث أمي وأبي وإخوتي وأخواتي وعمّاتي وأعمامي وكل من كان يمرّ عليهم ويمرّون عليه فكأنك الهواء الذي لا غنى لهم عنهُ أو الماء الذي تتبلّل به حناجرُهم، بل لعلك كنتَ الوليمةَ التي تجتمع عليها أفئدتُهم، فأنت في حياتهم جميعاً وفي حياتي أنا، لا بمثابة الزائر الملحف في زياراته كنتَ بل بمثابة المقيم فينا وبيننا، فمرورُك في زاروب حيّنا، داخلاً أو خارجاً، وغيابُك المفاجئ وحضورُك الأكثر فجائيّةً منه، وتوحّدُك في المسير أو التفافُك بعباءةٍ من الشباب، يغدون معك ويروحون، ويغيبون لا نعلم أين ويرجعون لا نعلم كيف، كل ذا كله كان العمر الذي لا أذكر سواه من عمري وعمر أهلي وأهل الحيّ، حتى لكأنك كنتَ شرطاً من شروط وجودنا، لا نكون إلاّ بك ولا تكون إلاّ بنا فإنك إنّا وإنّا إنك ونَسَغُ العيشِ الحلولُ. صوتُه دَفْقُ السحرِ هذا الفتى، فهل بُعِثَ فتىً على الهيئةِ التي مات عليها، بل استشهدَ عليها ذات صبح أو ذات مساء مستلهماً الجيل الذي قبله من فتية المدينة وشبابها؟ أهجم عليه بدفق الأسئلة أنْ كيف ومتى ولِمَ وفي صحبة مَنْ؟ تبرق عيناه في صوته المجيب أنْ أبشرْ، أبا طاهر، بالخبر اليقين، فبعد استشهاد ياسر عرفات في حصار اليهود له في رام الله وحصارِ السّموم، وبعد استكمال الجيش الأميركي لإحتلاله للعراق وإخضاعه للسّنّة والشيعة وتطاوله على المساجد والمآذن والعتبات المقدسة، أجل أجل بعدما جدّد أحفادُ كولومبس لجورج بوش ولايةً ثانيةً في البيت الأبيض باركتْها الصهيونيةُ العالميّةُ وباركها إرهابيّ العهد القديم آرييلْ شارونْ في إسرائيل، بعد كل الخزي الذي أنجزه لنا رؤساءُ العرب وملوكهم، وبعدما تورّمتْ أقفيتُهم من جزمات شعوب القارة الأميركية والقارة الأوروبية ومن جزمات المعتمرين للقبعة اليهودية من سلالة داوود وسليمان، بعدما تلوّث الهواء بأنفاس الخُضَّعِ والتُّـبَّعِ والراكبين لموجة العولمة المستثمرين لبضائع مراكبها، بعد كل الذي كان وكان اجْتَرَأْنا بسيرتك على ريب الزمان، ومثلك هبطتْ علينا الرؤى في منامنا وفي صحونا، نادباتٍ، عاتباتٍ، منذراتٍ أنْ ولسوف تُسألون ولسوف تُسألون. أبشرْ بنا، أبا طاهر، فرائحة البُسُطِ والسجاد والبلاط ورائحة المآذن والأذان ورائحة المصاحف العتيقة في مكتبات المساجد ورائحة كل ما أحببتَ في مدينتك التي أضحتْ إرثنا بعدك، كلُّه الإرثُ كلُّه غشّى عيوننا وأمطر قلوبنا بمطر نواياك ووصاياك، فثلاثةً ثلاثةً انقسم الفتيةُ من جيلنا والفتياتُ، من مدرسة المقاصد ومن ثانوية الصبيان وثانوية البنات ومن التكميليات الرسمية، ولا تعجبنّ قليلاً أو كثيراً إذا جاهرتُ لك بالحقيقة اليوم أنّه كان معنا في كلّ أوقاتنا ريّسُ المدينة الذي عاش في زمنك ولم يعرفه جيلُنا لأن سلطات ال 75 اغتالت نضاله فكان، بعد رياض الصلح، الشهيد الثاني لصيدون التي كُتِبَ عليها الجهادُ من أوّل ما كانت صيدون، صدِّقْنا صدِّقْ، أبا طاهر، أنّ الشباب الفينيقي الذي كان غلّق أبواب المدينة على أهلها وأحرقها زمن حصار الفُرْسِ لها آنستْنا بالزيارة أرواحُهم ولم تفعل أكثر من أنْ تبسّمت لنا ورقصت لنا في حلقاتٍ، بل هالاتٍ، من النور مثل تلك الهالة التي تنطرب لنا فوق تلّة سينيق بنورانيتها التي تزداد فرحاً بنا كلما نَحَوْنَا نحوها خطوةً، خطوتين، خطوات. رويدك قلبي ! ومهلك، مهلاً، أيها الفتى ! يرغرغ صوتي متهدّجاً بين شفتيّ، ثم أبلع الغصّةَ، غصّةَ الفرح بانهمار الزمن عليّ بأخبار المدينة بعدي وقد شهدتْ حيطانُ أزقّتها والحجارةُ المرصوصةُ في طرقاتها كيف النورُ يشعشع ناراً تحرق البلادةَ وتستأصل جذور الزمن الضائع. يرى الفتى في عينيّ ما أراه أنا في عينيه فيهتف بي أنِ انعتقتْ بعدك الرؤى من قبضة الوعد، يا أبا طاهر، وصارت الإيفاءَ بالوعد يقيناً حينما النارُ، نارُنا، أحرقتْ بضائع اسرائيل في دكاكيننا ودكّت على أصحابها سقوفَ الدكاكين وقد أغراهم الجشعُ، بعد الصّلح المزعوم، باللامبالاة فعادوا إلى التجارة المحرّمة وعُدْنا لهم بالجحيم نفتح منها عليهم من كل بابٍ جحيماً.
البابُ الآن يُفتح علينا من تلّة سينيق فَحَبَبُ النورِ حدقاتٌ تشعشع في حدقات.
ديفيدْ مُرْدَخَايْ
بالصوت المكتومِ المزمومِ يضحك جدّي، فالضحكة انتفاخٌ في خدّيه وبريقٌ مبلَّلٌ في عينيه. إبهامُ يمناه تشير إليّ أن أنظر معه إلى النسوةِ المحمومةِ منهنّ العيونُ وهي تغربل الجمع في دأبٍ لا تكسر ديمومتَه إلاّ هنيهةً عابرةً حبيباتُ النور المشعشعةُ فوق رؤوس الحشد، منهلّةً فوقه من الهالة المعبّقة فوق التلّة بدوائر اللون واللون واللون. سينيق لا تزال بعيدة عنّا، وخلفنا الشاطيء ينأى عن عيوننا التي لا تزال تنخطف إليه بالتفاتةٍ والتفاتةٍ، وكأنما الحلمُ الذي ابتدعتْه لأهل البعث الهفيفةُ دامو ظلّ هنالك على الرمال يستأنس بالبلالة ويضحك منّا جميعاً لاستجابتنا إلى سحر الساحرة التي استهزأتْ بأعمارنا وثقافاتنا والحكمةِ التي كنّا نحسب أننا اجْتنيناها من ذيّاك العمر المديد. غربلةُ النسوة للجمع والتفاتاتُنا إلى الخلف، يحدّثني جدّي، هما الضعف البشري الذي هو أقوى قوانا، عينَ الكلمات التي كان يُسِرُّ بها إليّ وأنا أسير إلى جانبه، أوَّلَ نشأتي، في أرض أجدادنا حيث هنالك البيت العتيق. الضعف البشري هو أقوى قوانا! لعل ذلك ما يُضْحِكُهُ الآن وهو يصرّ عليّ من جديد أن أستطلع معه وجوه النسوة اللاتي لم يوئِسْهُنَّ إغلاقُ أبي العلاء في وجوههنّ بوّابةَ الحلم الذي حملْنَهُ معهنّ من العيش الأوّل، والذي يطاردْنَهُ الآن في وجوه الرجال، وسيتشبَّثْنَ به حتى ولو قضى الغيبُ عليهنّ أن يتقلَّبْنَ بعد الحساب عمراً يتطهَّرْنَ فيه بالعذاب في أصول الجحيم. أهجس وكأنما بخواطره، ولكي أهدّيء بالي وباله أقول له السباحةَ سبحناها والخيبةَ جنيناها، فَحَسْبُنا من الضعف البشري هذا وذاك عذاباً، وإن كنّا نحجّب العذابَ بالضحك المكتوم المزموم ونحن نغذّ الخطى من جديد متشبّثين بالحلم الآخر الذي ولّدتْه لنا جميعنا القيامةُ على غير ما مشيئةٍ منّا، حلمِ خلاصِنا المستَدْرَجِ بشفاعة العذراء، عذرائهم، حلمِ نجاتِنا بالتوبة المسوَّفة إلى آخر السنة الأربعين من زمن القيامة، كما يؤكّد بعضُهم لبعضهم أهلُ صيدون. تمسك بيدي يدُ جدّي وتضغط عليها وكأنما لتهدّيء منّي الهواجس التي لا تهدأ هي الأخرى في خفقات صدره. يتطهَّرْنَ بالعذاب في أصول الجحيم! تردّد شفتاه ما كان مرّ ببالي في نبرة استنكار فكأنهما تعجبان من جَرَيَانِ الفكرةِ الغريـبةِ بينهما، غريبةٍ لجنوح جدّي، على ما في جدّي من يهوديّة الأقدمين، إلى الإيمان بأنّ الجحيم ربما كان من هواجس الناس لا من هواجس خالقهم. أسأل نفسي، وإذن فكيف يقوم الحساب إن لم يقم على مسألة نعيم وجحيم؟ عينا جدّي تتهدّل جفونُهما وأحسّ الحزن فيهما يمتزج برطوبة الدمع الأسير. اليهوديّةُ والمسيحيّةُ والإسلامُ في قبضةِ الحلمِ، الآنَ، والحلمِ المضادِّ، وهالةُ التلّةِ النداءُ الأخير.
دوائر اللون في الهالة التي فوق التلّة تذكّرني فجأة بهاجس الدوائر المدوّرة في الكوميديا الإلهية، وخاصة في كتاب الجحيم. والدوائر في الأصل حلقاتٌ مغلقة على ذواتها، لا يدخل فيها إلاّ من يستحقّ المكوث فيها، خالداً أو بعضَ حين، ولا يخرج منها إلاّ من تدخّلتْ العنايةُ الإلهية فرمتْ به في طرف من أطراف المطهر لقناعة السماء أنه صار مهيّئاً للصعود درجةً من درجات سلّم الخلاص. يضحك جدّي من أفكاري ويقول بأنني لم أقرأ دانتي جيداً لأُصاب بمثل الرعب الذي كان يُصاب به هو كلما عاد إلى مؤلفات دانتي، في شبابه وكهولته وشيخوخته، ليكتشف وَلََعَ الشاعر بتصوير شتى العذابات والتعذيبات التي ولّدتْها في خياله مسيحيّةُ العصور الوسطى، مأسورةً بالكلمات التي امتصّتْ منها الكنائسُ رحيقَ الطفولة فخنقتْ حلمَ المسيح بتطهير البشر بالمحبة وحدها ليدخلوا بها ملكوته السماوي في فرحةٍ هي لا شيء إلاّ فرحة المنعتِقِ من الذنب والخوف والندم واحتمال حلول العذاب. لذّةُ دانتي، يؤكد لي جدّي، هي لذّةُ الشاعر التراجيدي المفتون ببراعته الفنّيّة في تصوير آلام البشر. كلماتُه تلفت إلينا دوائرَ من عيون الرجال والنساء، متفرّقةً هنا ومؤتلفةً هناك. لعل هؤلاء قرأوا وقرأْنَ الكوميديا الإلهية قبل زمننا أو بعده ولهم ولهنّ في الكوميديا غيرُ رأي جدّي الذي صدر عنه بلهجة الفصل والحتم.
هذا الوجه الذي تتشقّق عنه باقةٌ من وجوه النسوة يعيد إلى ذاكرتي وجهَ جهّار الجمريّ الذي التقيتُ به أكثر من مرة في هذه القيامة، ولكنه بالتأكيد ليس وجه كسّاب أو وجه عُدَيّ، فلعله وجه ذلك الذي حدّثوني عنه وكان بقي في بيروت صيف حصارنا للمدينة. ولكنْ هبْني التقيتُه كنتُ في القيامة ونسيتُ، بل لا أحسبني إلاّ رأيتُه مرة يتحدث إلى أبي العلاء ودانتي وذلك العلاّمة الشيعي المعمّم بالعمامة السوداء. يتقدم نحوي حتى أراه يسير بمحاذاتي، ويده تشدّ بيد امرأة أحسب من ملامحها أنها فلسطينية المنشأ والأصل. يعلن عن نفسه أنْ إنني أعرفكَ وإنْ لم تكن تعرفني، فأبي صاحب المطعم الذي كنتَ تجلس فيه تحت شجرات البلح على مدخل صيدون، والتي إلى جانبي صديقةٌ من زمن الجامعة، وهي من المخيّم الفلسطيني الذي جنوبيّ صيدون، إذا كان لا بدّ من إرضاء الفضول اليهودي في عينيك. الجمريُّ الشاعرُ، كما كان يحلو لأبيه أن يصفه في سياق أحاديثنا، شاعريُّ الملامح بلا أدنى ريب، ولن أزيد على ذلك حرفاً، فلربما مخبره يكشف اليوم لي عن شيء آخر. الإبتسامة ترتسم كالطيف على أطراف شفتيه لتنذرني بقراءته الحدسية لخواطري، وإذن فهو الشاعرُ المُلْهَمُ بلا ريب. تنفرج ابتسامته عن كلمات. كلماتُ جدّك في لذّة دانتي ببراعته الفنّيّة في تصوير آلام البشر هي من نوع الآراء التي لها ما لها وعليها ما عليها. الفنّ يقتات بما تُيسّره له التجربة من مادة الحياة، فإن يسّرتْ عذاباً فعذابٌ وإن يسّرتْ فرحاً ففرحٌ، وإن يسّرتْ حبّاً فحبّ. وما فظاعة العذاب والتعذيب في جحيم دانتي إلاّ حجابٌ لعتابٍ له خفيٍّ على الغيب الذي قدّر عليه الحرمان من بياتريسْ في الحياة الدنيا وقدّر على فلورنسا السقوط في بشاعة أخلاق أهلها التي يغالي دانتي في تبرئة نفسه منها وكأنه روحٌ خالصٌ لم يولدْ مثلهم من دَنَس. جدّي يتلطّف بالقول أنْ رأيُكَ وجهٌ من وجوه الحقيقة لا أردّه عليك ولا أجادلك فيه، ولكن بما أنّكَ تسمح لنفسك باستعمال كلمة الحجاب في تفسيرك لفظاعة العذاب والتعذيب في جحيم دانتي، فَأْذَنْ لي أن أَلْفِتَكَ إلى أن كلماتي التي تعترض عليها أنتَ إنْ هي إلاّ الحجاب لعتبي على الشاعر الإيطالي أنْ لم تَـثُرْ شاعريتُهُ على المفهوم المادي للجحيم وعلى حتمية التعذيب ووسائله ودرجاته مما كان سائداً في مفاهيم كنائس العصور الوسطى. صحيح أنني يهودي المنشأ والمعتقد، ولكنّ معرفتي بالمسيح الذي يعتقد به المسيحيون، والذي أعتبره ظاهرةً إبداعيةً من ظواهر التاريخ البشري، تماماً كما هو في نظري محمّدُ المسلمين من بعده، أقول إن معرفتي بالمسيح تخوّلني أن أرى بوضوح خروج الكنيسة عن روح تعاليمه في زمن دانتي، أرى ذلك بعينِ الذي خارج السِّرْبِ، فَيُثارُ عتبي على الشاعر لبقائه في قلب السّرب وهو يزعم، في كتبه الثلاثة، أنه ناقدٌ له ثائرٌ عليه وحالمٌ من أجله بمجتمعٍ منعتقٍ من كل الموبقات البشرية التي يكرّس لها دوائرَ العذاب ومرتقيات التطهير في جحيمه ومطهره. أجل أجل، ظلّ في قلب السّرب دانتي لأنه قَبِلَ بمقولة الثواب والعقاب والجنّة والنار على حساب رحمة الله التي وسعتْ كل شيء، كما في لغة نبيّكم، نبيّ العرب. دانتي احتضن السّرب وهو يغرّد خارج السّرب، فأية حالةٍ من حالتيْه كانت للأخرى حجاباً؟ تلك هي المسألةُ المسألة.
يكفّ عن الكلام جدّي ويأخذ النفس العميق. الشاعر الجمريّ مأخوذٌ بما سمع فصمته صمت الذي يحاول سلك الكلمات وما وراءها في سمت مترابط يسهل عليه ضبطه وفهمه في خطفة فكر واحدة. صديقته الفلسطينيةُ تسأله عمّا دهاه حتى استولى عليه الصمت. يهزّ رأسه هزّات فجائية وكأنما ليخرج من دائرة السّحْر المطبقة عليه ويهمس بها أنْ صدّقيني، رندةُ، فكلمات المردخاي الجَدِّ تشوّش ذاكرتي فلا أعرف إنْ كان هذا المشهد بعضاً من الحلم الذي كنتُ حلمتُه في الزمن الأوّل وعقدتُ به النيّةَ على نظم كتابٍ في القيامة أجمع فيه أبا العلاء ودانتي لأكتشف، من وجهة نظر درامية، ما يمكن للخيال أن يتفجّر به من جمع هذين الحالميْن بالبعث قبل زمان القيامة، أو أنّ المشهد الذي نحن فيه هو القيامة التي خارج حلمي وخارج رسالة الغفران والكوميديا الإلهية. تأخذ الصديقةُ وجهه بين يديْها وتهزّه هزّاً عنيفاً وهي تؤنّبه أنْ عدتَ الآن إلى شرودك القديم وإلى خلطك الواقعَ بالخيال. أَفِقْ، قد أفاق الخلقُ كلهم من هجعة الموت، وهذا الزحف نحو تلّة سينيق لن يثنينا عنه تخبّطُكَ في ما أنت تتخبّط فيه، واحْذَرِ البلبلةَ فعمّا قليل ينفخ في الصّور إسرافيلُ النفخةَ الثانية فتهبط علينا الملائكةُ صفّاً صفّاً ويشرق الحقُّ من ظلل الغمام إيذاناً ببدء الحساب. جدّي لا يصبر ليسمع ردّ الجمريّ عليها، فيقطع عليهما تحاورَهما بأنْ عتبي على دانتي أنه قلّص المسيحَ إلى حجم أفكاره حينما صوّر لنا فيرجيلْ يذكر لدانتي أنّ المسيح هبط مرةً إلى الجحيم لينقذ منها آدم وقابيل وموسى وداوود وراحيل، تاركاً بقيّةَ المعذَّبين يتقلّبون في عذابهم وكأنّ المحبة التي بشّر بها أشبه بالمحبة الإنتقائية التي هي صبغة الضعفاء البشر. الآن تنقلب ابتسامة الجمريّ إلى قهقهة تختلط فرقعاتُها بحروف كلماته أنْ في هذا الأمر أنا أجاريك، وكيف لا أجاريك وقد حنى الإيطاليُّ رأسه لتصنيفات الكنيسة للناس فأجاز لشاعريته أن تضع نبيَّ العرب في حلقة من حلقات الجحيم مع سقراط وأرسطو وأفلاطون وهوميروس وابن سينا وابن رشد وصلاح الدين بحجّة أنهم لم ينالوا نعمة المعمودية، فضيّق الخلاصَ على البشر، حتى على الذين يقرّ بحكمتهم وبلائهم في تحسين الوضع الإنساني في أزمنتهم، بل هو يتمادى في غيّه الشعريّ فيجعلهم خالدين هنالك أبداً في حالةِ شوقٍ إلى الخلاص لا يحدوه أملٌ لهم أبداً بالخلاص. نرجسيٌّ مغالٍ في نرجسيته! فلورنسيٌّ يرتكب الحماقة الشعرية الأدهى من كل حماقات الفلورنسيين وموبقاتهم التي يجرّد عليها شراسةَ لسانه وقلبه وقلمه! هذا المنشَقُّ على نفسه بهذيانات نفسه، الحاسبُ نفسَهُ مُرْتَكَزَ الأرض والسماء، تبّاً له ثم تبّاً وتبّاً! يتنحنح جدّي. غريبٌ أمرك، أيها الجمريّ، فمنذ هنيهةٍ كنتَ تشرح لي من أسرار دانتي الفنّيّة ما تحسبه غاب عنّي، والآن تكاد تفقد طورك في الهجوم عليه. إكظمْ غيظك، حلّفتُكَ بالقيامة، حتى لا ترتكب جريمة العنف اللفظي التي يحذّر منها التراثُ الساميُّ، من العهد القديم إلى القرآن، سواء بسواء. يقولها ويضحك ضحكة هادئة ليلطّف من حماسة الجمريّ الذي يصرّ على القول، وإنْ في صوتٍ ذهبتْ عنه سورةُ الغضب، أنْ بَلِ الغريبُ هو أمر دانتي إذا ما قارنّا فعْلَتَهُ بالفلاسفة والمؤرخين والقادة الأطباء والأنبياء الذين فاتتْهم المعمودية بما اختاره أبو العلاء من فرص الخلاص من النار لبعض الشعراء الذين لم يدركوا نبيّ الإسلام وماتوا على غير دينه. فها هو القصر المنيف أُعِدَّ لزهير بن أبي سُلْمَى وقد غُفِرَ له ببيتيْن من الشعر قالهما في الجاهلية :
فلا تكتمنَّ الله ما في نفوسكـمْ ليخفى، ومهما يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
يؤخّرْ، فيوضعْ في كتابٍ، فَيُدّخرْ ليومِ الحسابِ، أو يُعجّلْ فَيُنْقَمِ
أتَرى كيف اغترف أبو العلاء من رحمة الله التي وسعتْ كلّ شيء لينقذ من العذاب رجلاً من غير المسلمين دعا قومه إلى الإيمان بالله وبيوم الحساب ؟ أما كان ينبغي لخيالٍ عبقريٍّ مثل خيال دانتي أن يغترف من رحمة المسيحِ، المسيحِ الذي دعا تابعيه إلى أن يشملوا بمحبتهم حتى أعداءهم، غَرْفَةً يبرّد بها قَدَرَ عباقرةٍ من غير ملّته، وبصورة خاصة قَدَرَ النبيّ العربيّ الذي أُنْزِلَ عليه القرآن مصدّقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل ؟ صحيحٌ، يا سيدي، أنّ لكلّ جوادٍ كبوة !
ولا يكــاد يخرج سمعي من دائرة هذا الحوار حتى يدخل نظري في دائرةٍ من الرجال حولنا، فأبو طاهر وأبو العلاء ودانتي والعلاّمة الشيعي وسواهم ممن صادفتُهم في دروب القيامة وظلّت معرفتي بهم تقتصر على رؤية العين، كلُّهم الآن حلقةٌ حولنا أتمنى ألاّ تتحوّل إلى واحدةٍ من حلقات الجحيم. تبادرهم الفلسطينيةُ بالقول أَنْ أهلاً بشلّة المناضلين في ميادين الشعر والفقه والجهاد. تقول ذلك، لا بلهجة المتحمّس للأخذ والردّ، ولكنْ بنيّة قطع الطريق على صديقها فلا يحرّك حضورُهم فيه شهيّةَ الخوض فيما قد لا تُحمد عقباه. ولكنّ شهيّته تتحرك من جديد فتتحرك شفتاه صوب أبي العلاء ودانتي بأنْ أمّا وقد أَثَرْتُما بكتابيْكما فتنةَ الحوار في محبّيكما منّا والعاتبين عليكما فصرفتْنا جميعَنا الفتنةُ عن التوجه بقلوبنا وعيوننا صوب التلّة التي تنتظرنا فوقها العذراءُ البتولُ، فتفضّلا وأنعما علينا بالشرح والتوضيح فلعلنا نرتاح من خصوماتنا في كتابيْكما ونريح.
الكلمات تنهلّ من فم أبي العلاء أنْ حينما كنتُ أُمْلي على كاتبي رسالةَ الغفران أَتَحْتُ لأهل القيامة حرّيّةً لم تكن تخطر لهم على بال في الدنيا الفانية، فلا المسافة تعيق وصولهم إلى حيث تُيَمِّمُهُمْ نواياهُم ولا الزمنُ بصارفٍ للّحظةِ المنصرمةِ عن اللّحظةِ القائمةِ عن اللّحظةِ المنتظَرَةِ، فقوانين المكان والزمان التي تخضع لمشيئتها حركاتُنا وسكناتُنا وتموضعاتُنا، سواء هي حركات الجسد أو حركات الفكر والخيال، كلُّها تفوّقتْ عليها إرادةُ أهل الجنّة من شخصيات رسالتي، فهي لها من كل شيء ما تشاؤه وتتمناه وتهجس به. حرّيّةُ الإنسياب صفةٌ من صفات الحلم، وكتابي كان الحلم الذي بالنيابة عن الخلق أجمعين حلمتُهُ أنا، أو هكذا كان شعوري وأنا أملي السطور والصفحات. وقتها كان الحلم ممكناً، وكَسْرُ النواميس كان من فِتَنِ الإبداع المحتَّمات. أمّا وقد فاجأتْنا القيامةُ بأعجب مما كنّا تصوّرناه، فلم أعُدْ أجد غريباً علينا أن نسمع حواركم حول مؤلَّفَيْنا ونحن على مسافة أميال منكم، وبيننا وبينكم الآلافُ المؤلّفة من الناس، بل لم يَعُدْ يعجزنا أن ننتقل إليكم في عين اللحظة التي يمّمنا فيها النيّةَ للمسير إليكم. وإذن فلنسألْ دانتي أوّلاً لأنّ كتابه كان سبب الفتنة التي استثارت فيكم شهوة الحوار.
يبدو جدّي وكأنما طربتْ عيناه وأذناه بما آل إليه المشهدُ الذي نحن فيه، فهو يكاد يلتهم الأنفاس التي تتردد في الهواء. يخاطب الجمعَ دانتي بلهجة المتَّهَمِ المتيقّنِ من براءته أنِ الشكرُ منّي لمن قرأني ووعى، والذي قرأني وأفسد بتفسيره كتبي، لنقصٍ في ثقافته أو خياله، فله منّي التجاوزُ والغفران. ويحك ماذا تقول! يقاطعه الجمريّ وقد أخذتْ ترتجف كفّاه. تضع نبيَّنا في الجحيم وتُبعث في أرضنا لتمنحنا الغفران؟ أيّ كبرٍ هذا وأيّ ادّعاء؟ جدّي يرسل ضحكته المتعابثة ويؤكد للجمري أنّ دانتي لا يزال منسجماً مع ذاته فهو أَذِنَ لنفسه أن يحشر رتلاً من بابوات روما في حلقات الجحيم، وإذنْ فهو القادر على كل شيء، وهو المتكبّر المتعالِ، طبعاً ضمن الأطرِ الفنّيّة لخياله الوثّاب. أبو العلاء يهمّ بالقول ولا يقول، فتنتزع الفلسطينيةُ من فمه إرادةَ الكلمات، أو هكذا يبدو لي، وتوجّهها إلى صديقها المحنق أنْ ألا تذكّرك كبرياءُ دانتي بكبرياء المتنبي والتي طالما تتجاوز حدود المألوف؟ وتأخذ تنشده بصوت تتصنّع فيه العجرفة والكِبْر:
.......................... أنا الطائرُ المحكيُّ والآخرُ الصدى!
ومـا أنـا إلاّ سمهريٌّ حملتَه فـزيّن معـروضاً وراعَ مُسَدَّداً !
مـا مقامي بـأرض نخلةَ إلاّ كمقـام المسيح بين اليهودِ !
........................... وبنفسي فخرتُ لا بجدودي!
أيّ محلٍّ أرتقي أيّ عظيمٍ أتّقي
وكلُّ ما خلق اللهُ وما لم يخلقِ
محتقَرٌ في همّتي كشعرةٍ في مفرقي!
سيعلم الجمعُ ممّن ضمّ مجلسُنا بأنني خيرُ مَنْ تسـعى به قَدَمُ!
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعتْ كلماتي من به صَمَمُ!
كلّ هذا التبجّح الشعري تحبه في شاعرك العربي وتعلّله بمقولةِ أنه يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره! ثم هل نسيتَ حبّكَ لبيت أبي العلاء :
وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانِهِ لآتٍ بما لـم تستطعه الأوائـلُ!
بل كيف لك أن تنكر إعجابك بقول أبي فراس :
سيذكرني قومي إذا جدّ جدُّهم وفـي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ!
............................ إذا متُّ ظمآناً فـلا نَزَلَ القَطْرُ !
ظللتَ عمرك تنشدنا الأبيات هذه ومثيلاتها وتنغّمها على أسماعنا تنغيماً، وتكاد، لولا نظراتنا المحذِّرة لك، أن تدندن لنا بشفتيك ولسانك المعزوفاتِ الموسيقية التي وَضَعْتَها لكلٍّ منها في خلواتك المجنونة. والآن، هل فهمت قصدي؟ دانتي هو واحد من الشعراء الذين يحقّ لهم ما لا يحقّ لغيرهم، فحسبك ما قلتَه له وكفى.
ولكنّ الجمريّ الذي صبر على تذكير الفلسطينية له بعنفوان الشعراء العرب وكبريائهم لم يكن صَبْرُهُ عليها إلاّ من باب الأدب، فبين البيت من الشعر والبيت الذي يليه كانت شفتاه تهمّان بشيء ثم تَنْشَدّان على بعضهما في حدّةٍ تذكّرني بالعنف الذي يمارسه ضدّ النفس الخَطَأَةُ الذين احتلّوا الدائرة الثانية من الحلقة السابعة في جحيم دانتي. صحيح أن الجمريّ لا يرتكب خطيئة الإنتحار، ولكنّ أذى النفس، مهما ضَؤُلَ، يظلّ مرتبطاً بهذا الباب. المهم أنه الآن ينفجر بالقول أنْ إنّ ما لا أفهمه من حقيقة هذا الإيطاليّ هو إصرارُهُ على أنّه المحبُّ العاشقُ المولَّهُ الذي أخذتْ عليه مجامعَ قلبه وعقله وحواسه الفاتنةُ بياتريسْ إلى درجةِ إلهامِها له بصَوْغِ رحلته الشعرية إلى يوم القيامة ليتيح لنفسه لقاءَها في أواخر كتاب المطهر وطوال الجزء الأكبر من كتاب الفردوس، حيث تدفع به صعداً صعداً من مرتبة إلى مرتبة حتى تؤهّله لشهود الحق آخر الأمر. كلّ ذلك أفهمه بالطبع، ولكنني أقول إنه لو كان دانتي قادراً على كلّ هذا الحبّ وكلّ هذا الإرتقاء، لكان الحبّ وحده غَيَّرَ مسار الكوميديا من حال إلى حال، فلو أنّ قطرة واحدة من حبّه لبياتريسْ سقطتْ على المعذبين في حلقات الجحيم لكانت أطفأتْ عذاباتهم وانتشلتْهم من ضراوة الغيب. يقول ذلك وعيناه تغرقان وتطفوان في عيون الناس، ثم يتوجّه بكل وجدانه صوب أبي العلاء أنْ عجباً عجباً لإسباغك صفة الغفران على رسالتك، وأنت في جانبٍ منها تتفكّه بعجائب الجنّة، وفي جانب آخر تتسلى بتصوير المتقلّبين في ألسنة النار، لبيتٍ من الشعر قيلَ أو لقدحٍ من الخمرةِ شُرِبَ أو لشهوةٍ للنسوةِ قُطِفَتْ أو لخطيئةٍ لا تستأهل البقاء حيث تتركهم في جحيمك إلى أبد الآبدين. رسالة الغفران هذياناتُ عقلك المطمئنّ تارةً في انغماسه في موروثات السّرْبِ، والمحيَّرِ في فهم الغيب وخياراته تارةً أخرى، ثم المماحِكِ المتفكِّهِ بما يمكن أن يحدث في الجنّة أو في النار، ثم المستَفَزِّ المشكِّكِ بعدالة السماء، فأنت داخل السّرب وخارجه وحول حفافيه، يا أبا العلاء، زئبقيُّ الغوْصِ والطفْوِ والتقلّبِ. ولقد أخفق دانتي حيث أنتَ نجحتَ، فحشر نفسه بطلاً لكوميدياه وتواريتَ أنتَ خلف صديقك ابن القارح فدفعتَ به إلى أرض القيامة ليرى ويسمع ويروي وكأنما بالنيابة عنك، فكان حجابَكَ الفنّيّ، تتذرَّع به لتقول ما يرضى السّربُ عنه وما لا يرضى.
تطاولتَ على الشرق والغرب أكثر مما يسمح به أدبُ الحوار، فَأْذَنْ لي، يا سيدي، أن أدلي بدلوي في أمر رسالة الغفران التي صرفتُ في تحقيقها ومقابلة نسخها المتناثرة شرقاً وغرباً عمراً خوّلني سَبْرَ أفكار صاحبها والتبصُّرَ في تقنياته الفنّيّة وقياسَ علاقتها بمزاجه النفسيّ العام، والذي يخوّلني الآن أن أردّ الأذى النقديّ عنه، وقد تجرّأتَ عليه بتسديد التّهم إليه دون أن تكلّف نفسك عناءَ تتبّعِ المنهج النقديّ المتعارف عليه، هكذا هكذا وكأنما مَتْنُ الرسالة ليس فيه ما يبطل دعواك. تقول كلماتها بهدوء العارف الواثق من معرفته وتردف هدوءَها بابتسامةِ المنتظِرِ من الآخَرِ أن يبوح بما لديه. الرجال حول الجمريّ يتهامسون باسمها فإذا هي الدكتورة بنت الشاطيء، من أرض الكنانة، وعلى ما يبدو لها باعٌ طويل في دراسة أدب أبي العلاء. الشاعر الجمريّ يبدو وكأنّ حضورها أربكه أوّل الأمر فتبادل نظرات قلقات مع صديقته الفلسطينية التي ها هي تشدّ بيدها على يده، تطمئنه ربما إلى أنّ لديه القدرة على المضيّ في الحوار. الفلسطينية الآن، لأمرٍ في نفسها، تخلّت عن محاولاتها السابقة للحؤول بين صديقها وبين الخوض في ميدان الأخذ والردّ. الجمريّ يتحلّى فجأة بلباقة بنت الشاطيء فيبتسم لها ويرحّب بها في وطنه ومدينته ويصمت لحظة ثم يبادرها بأنْ، سيّدتي، أتّفق معكِ أنّ مَتْنَ الرسالة هو الحَكَمُ بيننا، كما ينبغي لأي نصّ أن يكون، وإذنْ فدونكِ من حججي ما تستطيبه لكِ ذاكرتي من الرسالة. يتيح أبو العلاء للشاعرة الخنساء أن تطّلع إلى النار بحثاً عن أخيها صخر وقد اشتاقت لرؤيته، فلا تراه إلاّ كالجبل الشامخ والنار تضطرم في رأسه، فيراها هو ويقول أنْ لقد صحّ مَزْعَمُكِ فيّ، فأنا كما وصفتِني في شعرِكِ:
وإنّ صخراً لتأتمّ الهداةُ به كأنه عَلَمٌ في رأسه نارُ !
وكأنما الغيب استجاب لهذا البيت من شعرها فجعله قَدَرَ أخيها في الجحيم! فتصوّري أعاجيب الغيب، يا سيدتي. وها هو بشّار بن برد يغمّض عينيه حتى لا ينظر ما نزل به من أصناف العذاب، وقد أُعْطِيَ، بعد عمى الدنيا، عينين ليشهد بهما عذابه في الآخرة. شهوة الخمرة وشهوة النساء أعظم ذنوبه، وهما ذنبا امريء القيس قبله، والشاعران يصف لنا الراوي عذابهما ببرودةِ مَنْ لا تمسّه حرارةُ الشفقة على شقاء البشر. ثم ها هو الراوي فجأة يبادر عنترة بن شدّاد بأنْ لقد شقّ عليَّ دخولُ مثلك إلى الجحيم. فهل ذلك عتابٌ منه مبطّنٌ للغيب على اتخاذه مثل هذا القرار؟ وهل الدّيّانُ أقلّ معرفةً بحسنات عنترة وأقلّ رأفةً به من الراوي؟ بل قَلِّبي معي الصفحات، سيّدتي، ولنتوقّفْ عند قول النابغة الجعديّ لأبي بصير، وكلاهما في الجنّة، أنْ أُقْسِمُ أنّ دخولَكَ الجنّة من المنكرات وأنْ لو جاز الغلطُ على رب العزّة لقلتُ إنكَ غُلِطَ بكَ! أليس، في رأيكِ، أنّ أبا العلاء يهرّب إلى نصّ الرسالة على لسان الجعديّ ما كان يعتمل في نفسه هو من الشكّ في عدالة السماء، وهو يملي على كاتبه صفحات الرسالة ؟ بل هلمّي معي نلحق بتميم بن أُبَيّ وهو يدور في أرض القيامة من شفيع إلى شفيع ومعه صكٌّ بالتوبة التي تابها في زمن الأشعريّ، وكأنما الدّيّانُ يقاضي ويتقاضى بالصكوك التي تذكّرني بصكوك الغفران التي ابتدعها مبدعُ الإبتزاز الروحي من بابوات روما. والعجب العجاب، سيدتي، إنما هو في ذلك المشهد الذي يتماجن فيه خيالُ أبي العلاء فيجعل واحداً من شخصيات كتابه يتمنى على الغيب أن يقلّص رِدْفَيْ جاريته فيقصره على ميلٍ فميلٍ فيردّ الغيبُ عليه أنْ أنتَ مخيَّرٌ في تكوين هذه الجارية كما تشاء لأنك من أهل الجنّة! أرأيتِ الآن كيف هذا القليلُ من النصّ يُفصح معي عن زئبقيّة شاعرنا؟ ماكرٌ ماكرٌ فنُّ أبي العلاء، وإنْ يكن ولعي به الولعَ الغريب.
بنتُ الكنانة تصرّ على ابتسامتها الملطِّفة للجوّ المشحون بفضول الرجال وما تلبث أن تمسك من جديد بطرف الحوار أنْ إنّكَ شاعر المدينة، كما سمعتُهم يقولون، وبهذه الصفة أخاطبك لألفتك إلى أنّّ أجملَ الشعر أكذبه وأجملَ الأحلامِ ما يعجزنا الإلمامُ بكل طيوفه أو اقتناصُها والزّجُّ بها في أُطُرِ الأقفاص اللغوية التي تلغي انسيابَ النهرِ ومسرى الريحِ وتلاطمِ الموجِ وتهافتِ النّورِ وتدفّقِ المعنى في المعنى، كما تلغي سَرَيانَ كل مظاهر الحياة في آنٍ معاً حيث لا النهرُ حاجبٌ للريحِ ولا الموجُ مانعٌ للنورِ ولا المعنى صارفٌ للمعنى. أليس لحلِّ هذه المعضلة ابْتُدِعَتْ في الرواية تعدّديّةُ الأصوات وازدهر في الأدب المسرحيّ فنُّ الحوار وقيل بأنَّ لغة الشعر البَرَدوكْسْ ؟ بل أليس كل ذلك ينبثق من ثنائيّة الرجل والمرأة التي ما فتئتْ أن استحالت تعدّديّةً أباحتْ في الطبيعة تعدّديّةَ الحبّ والشهوة في حياة الفرد الواحد وفي آنٍ معاً ؟ إذا قبلنا بوجود الشيء وضدّه، وإذا قبلنا بالضدّ على أنه الإحتمال الآخر الذي لا بدّ منه، كما فكرةُ الشيطان في دياناتنا الساميّة، على حدّ قول البعض، إذا كان كل ذلك كذلك، أَفَمِنَ العدل أن نستهجن تعددية الأمزجة في الرجل الواحد فننكر على أبي العلاء، مثلاً، تقلّبه الفكري من خاطرة إلى خاطرة إلى خاطرة، في تذبذبٍ وتناقضٍ والتفاف ؟ وهل أبو العلاء، صوتاً أدبيّاً، إلاّ أصواتنا مجتمعةً ؟ كلٌّ منّا يلقى في الرسالة ظلَّه، ولو باهتاً، وكلٌّ منّا يسمع صدى صوته، ولو خفيضاً مهموساً. ولن أحيلك، يا سيدي، على ما كتبتُهُ أنا حول رسالة الغفران، ولكنني أذكّرك فقط بكتاب أستاذي طه حسين »مع أبي العلاء في سجنه«، ولا أحسبك إلاّ قرأتَه، فلعله يعيد عليك بعض ما يجول في خاطري في هذا اليوم الذي كان يجدر بكلٍّ منّا أن يكون له فيه شأنٌ يغنيهِ عن الكتب التي تستهويه. ولكنْ أنّى لنا أن نغالب جِبِلَّتَنا التي خُلِقَتْ من جَدَل؟
ما أجملَ القيامةَ لو أنها تستقرّ بنا على هذا المشهد فَيُقْتَصَرُ الحسابُ فيه على لغة الحوار ثواباً لنا وعقاباً. الفلسطينيةُ تلتقط بحدسها ذبذبةَ الأُمنيّة التي تمرّ ببالي وتهمس في أذن صديقها أنْ شيءٌ فيكَ كان مخبَّئاً في جلدك على مدى العمر الأوّل، ولولا الأربعون سنة بين النفختيْن من زمن القيامة لظللنا على جهلنا بخفاياك. خَبِّرْني، خَبِّرْ، لو كان أتيح لك في العيشِ الأوّل أن تصوغ حلمك بالقيامة في كتاب، هل كنتَ ستقول في أبي العلاء ما قلتَ فيه منذ لحظات؟ الجمريُّ تلتقي بعينيّ عيناه فيسرق سرَّه من الهواء الذي بيننا ويهرّبه إلى أذنها في همسٍ أشفّ من الهمس فلا أدرك منه إلاّ ما أظنّ أنه: وهل يكتب للناس ما يثير حفيظةَ الناس إلاّ مجنونٌ أو نبيّ ؟ وكأنما الأمر كلّه بمثابة النكتة القديمة بينهما، تدقّ رأسَها الصديقةُ في كتف الصديق ويتكركران. اللحظة مواتيةٌ، تحدثني نفسي، لاستئناف المسير صوب التلّة التي يهجس جدّي لا يزال بأنها أحجيةٌ من أحجيات الغيب. يقاطع نيّتي باستئناف المسير صوتُ رجلٍ أُدْرِكُ للتوّ أنه من أرض الكنانة. لن أطيل عليكم، يا سادتي، كما كنتُ أطيل في مقدمات الكتبِ التي ترجمتُها لدانتي عن الإيطالية. يقولها وينظر في العيون لعلّ أحداً ينبري فيقول له شيئاً لطيفاً عن مقدّماته للكتب، وإذ يدركه اليأسُ منّا يستدرك بالقول أنْ نصُّ الكوميديا الإلهية في العربية من وضعي أنا، فإن تكن صادفتْكم على رفوف المكتبات مجلّداتُهُ الثلاثةُ تكونوا رأيتم وقدّرتم الجهد الذي بذلتُه في التحقيق والتدقيق والشرح والتعليق لأسهّل على القاريء العربي فهم ما قد يُسْتَغْلَقُ عليه من شعر دانتي المثقل بالأسماء والرموز والإيحاءات والإيماءات. إسمي، لمن لم يعرفني بـعـد، هو حسن عثمان، من جامعة القاهرة. وبما أنّ الزميلة المصرية بنت الشاطيء قد أدلتْ بدلوها في أمر أبي العلاء، فكلمةٌ موجزة منّي في أمر دانتي لن تؤثّر البتّة في مسار القيامة. للمتحاورين في أدب دانتي أقول إنّ العقل الغربيّ الممنهَجَ المُرَيَّضَ المشغوفَ بالبنيوية المركّبة قد لا يستسيغه للوهلة الأولى العقلُ الشرقيُّ الممجِّدُ للإرتجال وللبيت من القصيدة مُجْتَزَأً من بناء القصيدة. الهمهماتُ من الجمع طَبَقٌ من الغبشة على طَبَقٍ، ولكنّ ذلك لا يوقف الدّفْقَ من فم حسن عثمان أنِ الأمرُ الثاني الذي أوقع المتحاورين في خطيئة التطاول على النصّ الدانتيّ مردّه إلى تجاهلهم للعلاقة بين مشهديّة المشهد ودلالاته، فبين القول والمعنى قد يختبيء القصدُ، قصدُ الشاعر الأريب، أعني. ولكنّ ما يعنيه ينطمر في سيل الهمهمات المعبّقة بأكثر من دلالات الغَبَش.
أبو العلاء ودانتي يتبادلان النظرات ولا ينبسان بكلمة. صوتٌ لا أميّزه من أصوات الرجال المتحلقين حولنا يتعابث بالنحنحة لحظة ثم يقول في لهجة التظرّفِ أنْ بعضُ الناس لا يقدرون على الكلام لأنّ أفواههم مملوءة بالماء، وهذا قَدَرُ الذي كان مبعثه من الماء، والبعض الآخر لا يقدر على الكلام لامتلاء فمه بلزوم ما لا يلزم. إستغرابٌ وتوجّسٌ في عيون الناس ثم استطرافٌ ثم بسماتٌ صامتات. أبو العلاء يخرج عن صمته بِطَرْفَةٍ تطرفها جفونُ عينيه. أحسبه لا يمانع أن تكون النكتةُ على حساب لزوميّاته إذا كان ذلك ينقذه من فتنة التحاور التي بسببها قُتِلَ في الأرض وصُلِبَ وأُحْرِقَ وسُمِّمَ رجالٌ ورجال. ولكن قد أكون على خطأ، فبين عينيه وعينيْ دانتي حديثٌ صامت ينتهي بوجهيهما يلتفتان معاً صوب التلّة التي فوقها تدور من الألوان دوائرُ النور.
العلاّمة الشيعيّ ينبثق رأسُهُ فجأةً من بين الرؤوس ويعلو فوقها شيئاً فشيئاً. يشيح بكفّه يمنةً ويسرةً فتنـزاح عن محمومِ الرؤوس حُمّى الجَدَل. لا هو يقول ولا نحن نسمع. وحده حضورُهُ السكينةُ للجمعِ، ووحدهما عيناه الإيماءةُ أنْ إنها اللحظة المواتية لاستئناف المسير. أبو طاهر وجدّي ودانتي وأبو العلاء والشاعر الجمريّ وصديقته، وحولهم الرجالُ، وحول الرجال النساءُ، حلقاتٍ حلقاتٍ، تسيل بهم الأرض جنوباً جنوباً.
كُلُّنا الآن في قبضة الحلمِ والحلمِ المضادِّ، وهالةُ التلّةِ النداءُ الأخير. أكتم الهجسةَ في خاطري وتنقلني من مطرحي قدماي.
شيمونْ أَزَرا
من أيّ بيوت قانا حصل على السكاكين الأربع، وفي أيّ ليل أو نهار، لا هو أخبرنا ولا نحن تجرّأنا عليه بالسؤال، فآيينْ شارونْ لم يعد الرجل الذي عرفناه ربيعَ استعدادنا لاجتياح لبنان. آنذاك كان يطلع علينا كلَّ يومٍ من صفحةٍ جديدةٍ من صفحات العهد القديم، على صهوةِ جوادٍ هائجِ الحافريْن الأماميّيْن، يضربهما في الهواء، فَهُمَا فوق مستوى الرأس من راكبه المدجّجِ بمثل السلاحِ الذي شُهِرَ به زمنُ داوود. آنذاك كان آيينْ كلهفةِ الشفقِ في عيون الجند، بل أكثر من لهفةِ الشفقِ كان، فقلبه كان ينبض في عينيه ويسيل على خدّيه شقائقَ دمٍ أحبَّ إلى العيون كلّها من حمرة الورد والخدّ والعنب. هكذا الكلُّ كان يرى وهكذا الكلُّ كان يقول. كما أنّه اليوم لم يعد مثلما كان زمن حصارنا لبيروت ومخيّماتها الفلسطينية، عيناً على الحرائق المشتعلة في أشجار الحرج وعيناً تنخطف وراء طائرات الأف 16 في عبورها الخاطف للأنفاس والقلوب، لا ولا صوتاً عتيّاً يتجاذبني وصوتَ دايفيدْ مردخايْ بين حكمةِ القوّةِ وقوّةِ الحكمةِ، حتى إذا ما انتبهنا في دهشة القيامة قيل بأنّه غِيضَ بالشقائقِ، فَامْتَصّتْها الغبشةُ من خدّيه ربما، وانسحبتْ إلى قرارة دائرتيْهما عيناه، فكأنما صار ينظر إلينا من وراء حجاب. واليومَ السكاكينُ الأربعُ في أيدينا تهجس بنوايا خفيتْ علينا كلّ هذه السنين في انتظارنا الطويل لذلك الشيء الذي ننتظره فلا هو يصل إلينا ولا مسيرتُنا إليه من قانا إلى سينيق تضيّقُ المسافةَ بيننا، فنحن الدائبون في رحلتنا شمالاًَ شمالاً، لا تلتهم أقدامُنا من المسافة إلاّ اليسيرَ اليسير.
إِدْجارْ عِضاهْ الرّوحْ
الغصنُ الأوطأُ إلى مطال اليد يغري آيينْ شارونْ بقصفه من الشجرة التي يقف الآن تحتها آيينْ، فيطبق عليه بأصابعه وباطن كفّه ويشدّ به إلى أسفل شدّة بعد أخرى، والغصنُ يلتوي مع كلّ شدّة، فلا هو يطقطق ولا هو ينكسر. يبدو وكأنّ آيينْ يدرك آخر الأمر أنّ الغصن لا يزال رطيباً فيهزّ رأسه مبيّتاً له النيّةَ الأعْتى. يطبق عليه مرةً أخرى، من طَرَفِهِ بيدٍ ومن وَسَطِهِ باليد الثانية، نازلاً به إلى أسفل، سَلْخاً سَلْخاً، واللِّحاءُ المنـزوعُ من أصل الجذع ينشرط له صوتٌ على طول المسافة حتى التراب، صوتٌ يذكّرني بالنغمة التي كنت أسمعها في محلّ الجزّار قرب بيتنا في الأشرفية وهو يسلخ اللحم عن العظم من العجل المتدلّي نصفُهُ المشطورُ نحونا من السقف. لم تكن بالضبط نغمةً، إلاّ إذا حسبنا نغمةً صوتَ الشَّرْطَةِ التي يُشْرَطُ بها القماشُ في يدِ بائع القماش. حركاتُ آيينْ تنتزعني من خواطري فتعفيني من تهافت النغمات الذكريات وتغسل الجوّ من التموّجاتِ الموسيقيةِ التي وضعها بيتهوفنْ لأغنية الفرحِ وأحلتُها أنا إلى رقصةٍ للموت في مخيّميْ صبرا وشاتيلا صيف الاجتياح.
يدفع بالغصن إليّ، آمراً بغير كلام، فأقلّب الغصن بين يديّ ثم أستلّ من الجيْب سكّيناً أفصل بشفرتها عنه اللحاءَ، ثم آخذ بالحزّ وبشطف الطبقة عن الطبقة حتى يستدقَّ رأسُ الغصن ويَتَرَوَّسَ مثل رأس الرمح، ثم أدفع به إلى آيينْ، الذي لم يكن صرف عينيه عنيّ، فيسحبه منيّ ويرفعه في الهواء ويصوّبه إلى شيءٍ أمامه، يراه هو ولا أراه أنا، عينَ الحركة التي يأتي بها كلّما أحدُنا هَـيَّأَ له من قصبةٍ أو من غصنِ شجرةٍ رمحاً، قصيراً أو متوسط الطول، رأسُهُ منه وفيه. يدفع آيينْ بالرمح الرطيب إلى يهوذا فيضمّه هذا إلى الحزمةِ المسنّنةِ الرؤوس والمدلاّةِ من خاصرته في جرابٍ جلديّ أُعِدَّ لذاك. يمتشق آيينْ قصبةً مسنّنةً ويبدو للحظةٍ كالمايسترو، يلاحق بيده ما يتسلسل في رأسه من النغمات. هو الأمرُ لنا بالمضيّ خلفه شمالاً بغير كلام. أرفع قدميَّ وأحطّهما على التراب. أستاذ الأدب العربي في الأشرفية يطلّ عليّ من الذاكرة ببيت المتنبي:
كلّما أنبتَ الزمانُ قنـاةً رَكَّبَ المرءُ في القناةِ سِنَانَا !
القناةُ، هذه المرة، سنانُها منها وفيها، أحدّث نفسي. غابةٌ من القصب تنتصب ضاريةً أمام عينيّ.
يهوذا
جرابي جعبةُ الهواجسِ، وقد اكتظّتْ بكلّ مسنَّنٍ ومُرَوَّسٍ، لا من شجر الأرض ونبته فحسب، بل كذلك من المفرَّخاتِ في الجمجمة المسكورة بالحمّى. آيينْ يملأ الجعبةَ اليوم فليس في الجعبةِ إلاّ آيينْ. من نومه الذي لا ينام فيه يفتح عينيه ويحسحس على التراب عن جانبيْه، وكأنما ليؤكّد على صلته بالتراب، ثم يعتمد كفيّه للنهوض فإذا الجسدُ، الذي لم يزده النومُ الذي لا ينام فيه إلاّ ضموراً، وقد انتصب في غبشة الفجر ليبدو لي أشبه شيءٍ بغصنٍ من الأغصان التي في جرابي. إلاّ أنّ جمجمةَ آيينْ في أعلى جسده ليست مسنّنةً، كما رؤوسُ الأغصانِ في جعبتي، بل هي كلّها، من شعر الرأس إلى استدارة الذقن، تستحيل، كما الأشياءُ تستحيل في الحلم، إلى صخرةٍ نحتتْها العناصرُ على هيئة الهرم بشفراتٍ حادّةٍ ثلاث. ثم يفتح فمَهُ آيينْ ليقول.
آيينْ شارونْ
أفتح فمي لأقولَ لهم ولستُ أقولُ، فتجري في رأسي الخواطرُ أنّ سلالة داوود وسليمان لا ينتهي بها الزمن إلى القيامة ولكنها الزمن الذي تنتهي به القيامةُ، وأنّها، سلالتَنا، السلكُ الذي تنسلك به الأجيالُ المتعاقبةُ من ظَهْرِ أوّل يهوديّ وطئتْ قدماه الأرض، وأنّ أنا، الذي لم أكنْ في زمن أنبياء العصورِ الأُوَلِ، أنا أنا نبيُّ البعث الذي لم يُبَشَّرْ به، إرادتي نيّتي وكلماتي الرؤى.
داوود وسليمان ينتظراني في دروب القيامة أو على ربوة من روابيها أو قمّة من قِممها ليشهدا كيف وارثُ الإرثِ العتيقِ مفتونٌ بحلم المجد الذي نَظَماه هما لبني إسرائيل، بالمزامير والأناشيد نَظَماه، كما بالجيوشِ المطرَّزَةِ رؤوسُها وصدورُها وأكفُّها بلبوس الحرب وأدواته، خوذاتٍ ودروعاً وسيوفاً ورماحاً مسنّنةَ الرؤوس. تجري الخواطرُ في رأسي كلماتٍ عن الغد الذي سيطوّع فيه الغيبَ غيبُنا نحن، كلماتٍ كلماتٍ تجري الخواطرُ في رأسي فأفتح فمي لأقولها لهم، للثلاثةِ الذين رَهْنُ نواياي، ولستُ أقول.
ثماني أقدامِنا تنهض بنا وتحطّ، ومن التلّةِ البعيدةِ توميء إلينا هالةُ النور بالنداء الغريب.
الخوري حنّا
لو أنّ وجودنا بدأ بورودنا القيامةَ ثم منها ارتددنا في الزمن لنحيا الحياة الدنيا، لكان الوعيُ منّا وُلِدَ في قلب اليقين وليس على حفافيه، ولَكُنّا وفّرْنا على أنفسنا التساؤلات والظنون ومعابثات العقل للقلب والقلب للعقل، في تذبذبهما وتقلّبهما واتّساعهما آناً وانحسارهما آناءً بآناء. لو أنّ وجودنا بدأ بالقيامة لَكُنّا شاركْنا الغيبَ في معرفة ما ينتظرنا في الأرض من خيرٍ وشرٍّ ولكان كثيرٌ من الناس صنع خياراته بنعمة يقين العقل والقلب وكلّ الحواسّ، وخاصةً حاسّة البصر. لو أنّ الأمنيّة كانت في الأصل الحقيقةَ لَكَانَ لِعَدْلِ السماء معنى يختلف ربما عن المعنى الذي ألفناه، ولَكَانَ انتفى عن مسيرتنا إلى الشفيعةِ العذراءِ رائحةُ الذلّ التي تعبق بها خطايانا، ولَكَانَ أبو العلاء ودانتي ما تكلّفا عناء كتابة رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، متقلّبيْن فيهما بين نعيم وجحيم، مع شخصيّاتهما المأسورةِ كلّها بتصوّراتٍ بشريّةٍ لا يلغي الحبُّ فيها الكراهيةَ ولا الثوابُ العقابَ ولا اليقينُ الشّكَّ ولا شيءٌ شيئاً من هجسات الحسّ والعقل والقلب.
لا أعرف لماذا بإلحاحٍ قدريٍّ تعود إليّ هذه الأفكار التي كنتُ قرأتُها في شبابي لكاتبٍ لم أعُدْ أذكر اسمه أو هويّته، بإلحاحٍ قدريٍّ تعود إليّ وتختلط بإيحاءات اللحظة فأتلمّس وجوهَ الناس من حولي لأطرد بها كلّ ما يمكن أن يستدرجني إلى حفافي الجحيم. فجأةً يطلّ عليّ من ذاكرتي وجهان ممهوران بحميميّةٍ من حميميّات الغرب والشـرق فتتلهّف نفسي إليهما وتهشّ كمـا يهشّ للأنيسِ الأنيسُ. جفْري تْشوسَرْ، وكنتُ قرأتُهُ في الترجمات الفرنسيّة، يقلّب الآن صفحات كتابه "قصص كانترْبري" ويشرح لي كيف يخفّف عن شخصيات كتابه عناءَ السَّفَر من لندن حاجّين إلى كانتربري بتسليتهم بالحكايات، يحكيها للمسافرين الواحدُ منهم بعد الآخر حتى تنتهي بهم الطريقُ إلى وجهتهم سالمين معافين، نفوساً وقلوباً وأجساداً. أبو العلاء يقلّب صفحات رسالة الغفران ويغمز إليّ أنْ أنا أقْدَمُ في حرفة التسلية القصصية من الرجل الغريب، فَانْظُرْ معي إلى المشهد من مشاهد القيامة حيث أؤلّف بين أهل الجنّة فأبتدع لهم جلسة من جلسات المؤانسة، يصطفي الراوي له فيها ندامى من أدباء الفردوس ويلحّ عليهم أنِ اجْعلوها ساعةَ منادمةٍ، فيتحلّقون حوله، فهو يستدرجهم إلى الحديث، وهم يفيضون فيه، والوقت يمضي، لا يحسّون بثقله، وكأنما نُزِعَ ما في صدورهم من غِلٍّ فهم إخوانٌ على سُرُرٍ متقابلون. الشاعران القصصيّان يغور وجهاهما في تلافيف الذاكرة وقد وَعَيْتُ القصد من حديثهما إليّ.
أقول لنفسي اسْتَعيري الحِرْفَةَ من أهل الحِرْفَةِ، فيهبُّ عليّ من داخلي شيءٌ كالعتب يؤاخذني على إهمال ذاكرتي فنَّ الحكاية والقصّ في العهد القديم وفي العهد الجديد. ألملم الذاكرة على بعضها وأبتسم لأقربِ الماشين معي من أبناء رعيّتي وأسألهم أن يستضيفوا إلى هذا الجانب من المسيرة فلاناً وفلاناً وفلاناً من الناس، فإذا الذين ذكرتُهم حولي، وكأنما حَدَسوا رغبتي فانتقلوا إليَّ في بغتة الحلم. نداماي بيضٌ كالنجومِ ! كما كان يقول طرفة بن العبد، وإن لم نكن في جلسة خمرٍ والقينةُ تروح علينا بالشراب وتغتدي. نداماي بيضٌ حتى في هذه الغبشة التي لا تزال ترافقنا من أوّل القيامة فهي لنا بمثابة المكان والزمان في آنٍ معاً. نداماي بيضٌ، وهاجسي الآنَ أن أطلق عليهم اسْمَ "ندامى الرَّوِيَّة".
العلاّمة الشيعيّ المعمّم بالسواد شهد مثلي حروب لبنان، ومثلي اكتوى بحرّها واستجار بالسموات من صقيعها، واليوم نشهد معاً من أقدارنا آخرَها ربما، في هذه القيامةِ الأربعينيةِ السنوات. أَقْرَبُ الندامى البيضِ هو إليّ. أحيّيه بحرارة الإنتماء إلى التراب الذي بنبته غُذِينا وفيه دُفِنّا ومنه قمنا مع القيامة فيردّ التحية بطلاوةِ أشواقنا إلى الربّ الذي تنازعتْه وتقاتلتْ فيه طائفتانا والطوائفُ الأُخَرُ وظلّ هو على عناده القديم يستدرجنا إليه جميعنا بالتأميل والتهويل وتأليف العقل والقلب منّا، والعقلُ والقلبُ في رَعِيَّتَيْنا في شُغُلٍ أحدُهما عن الآخر حتى دَهَمَنا الموتُ كليْنا وكان، كما في لغة كتابهم، أمراً مقضيّاً. فيا أيها السيّدُ العلاّمةُ، يا فضلَ اللهِ على تابعيك ومحبّيك، أَفْتِنا، إن كان يجوز لكَ الإفتاء في الآخرة بعد الفتاوى التي كنتَ أفتيتَها واختلفتْ فيها الدنيا حولك، أَفْتِنا في أمر إطلاقي على جَمْعَتِنا هذه اسْمَ "ندامى الرَّوِيَّة". هل في التسمية ما يفسد رفقتنا اليوم وثلّةَ الكلمةِ الطيبةِ والنيّةِ الحسنةِ من مثل الشيخ صبحي الصالح والشيخ حسن خالد والقاضي حليم تقي الدين والمونسنيور جْرِجْوارْ حدّاد ؟ يصلح العلاّمةُ من وضع عمامته على رأسه ويبسمل ثم يثني على الأربعة الذين ذكرتُهم، ويخصّني بالشكر لمبادرتي بدعوتهم جميعاً لتمضية الوقت الذي تستغرقه رحلتنا إلى تلّة العذراء في سينيق في استذكار ما كان جرى لنا من أمور الخير والشر في رحلة الحياة الدنيا. أفرح لما خصّني به من الشكر ويستولي عليّ الضعفُ البشري القديم فيتضاعف فرحي لكوني مسيحيّاً ولكون مسيحيّي لبنان السبّاقين في مبادرات الدنيا والآخـرة. وحينما يبغتني الحرجُ من نفسي لهذا الضعف أستعجل العلاّمةَ فتواه للإستئناسِ برويّةِ عقله. فضلُ اللهِ تسرح عيناه فـي لا مكان ويقولُ استبشرْ بوعد الله، أخانا حَنّا، فوعدُ الله حقٌّ، ولنطرحْ عنّا ألقابَنا التي عُرِفْنا بها في الدنيا فلقد سَوَّى الموتُ بيننا وبُعثنا بنعمة الله إخواناً. تُفرحني الكلمةُ الطيّبة من هذا الرجل وأظلّ أعجب من قدرة الكلمة على استدراج القلوب والعيون، فهي بغير أجنحةٍ تحوّم حوله وتتحسّس عباءته وأطراف عمامته. وها هو ذا يستأنف القول أنْ لا حاجة اليوم للناس بالفتوى، وأمّا المنادمةُ فأصلُها الجمعُ بين الناس في حميمٍ من اللقاء، وليست تختصّ بجلسات شراب الدنيا، حتى وإن غلبتْ عليها هذه الدلالةُ لذيوعِ الشعرِ في الخمرة وفي الساعين إلى حاناتها والعاكفين عليها في مجالس الخاصّة والعامّة. وإذا احتجّ علينا محتجٌّ بغير هذا الرأي فنحن له نقول انتهى زمنُ الدنيا وزمنُ بعضِ ما حُرِّمَ فيها على البشر، والخمرةُ ، بعد وقوع الحساب، هي الثوابُ الثالثُ لأهل الجنّة بعد الماء واللّبن، وهي في الفضل تسبق العسلَ الذي يأتي بعدها في الآية الكريمة، العسلَ الذي تصفه الآيةُ الأخرى بأنه شرابٌ مختلفٌ ألوانُهُ، فيه شفاءٌ للناس. فإذا لم يجد القرآنُ حرجاً من ذِكْرِ الخمرة في سياق ذكره للجنّة، بصرف النظر عن طبيعة خمرة الآخرة التي لم يذقها أحد بعد، فلماذا نجد حرجاً في تسمية أنفسنا ندامى القيامة أو ندامى الرّوِيّة ؟ ولعلكم مثلي ترون أنّ أبا العلاء جمح به خيالُهُ في رسالة الغفران حينما فَضَّلَ شراب الباقية على شراب الفانية وهو بعد لم يدخل الجنّة ولا ذاق شرابها، وإن كان حديثُ شعرائه في الجنّة مما نستطيب ونتذوّق لأننا إنما نأخذه كلَّه على محمل الحكاية والتمنّي.
الشاعر الذي اسمه سامح الجمريّ يحشر نفسه بيني وبين العلاّمة مستذكراً، بفرحة الصبيّ الذي لم يتجاوز صباه، كيف كان يحضّر مازة العرق لأبيه ونداماه، في المطعم الذي كان لأبيه، وكيف كان يقوم على خدمتهم كلّما التفّوا حول طاولة المساء على زجاجةٍ وكأسٍ وحديثٍ كثيراً ما كان يتسلسل من فستانٍ إلى تنّورةٍ إلى سردينةِ تشرين. يفلت عليه الكلام وكأنه لم يعرف في عمره الحرج، فتتبادل العيونُ النظراتِ المستظرِفَةَ والشفاهُ البسماتِ المشفِقات. لحظةٌ هي من لحظات ضعفه، تعرّيه من هيئة المحاوِرِ العنيد التي كان عليها وهو يحاور الجَدَّ المردخايْ وبنتَ الشاطيء حول أدب أبي العلاء ودانتي. أبو العلاء ودانتي ينضمّان خلسة إلى جَمْعَتِنا وكأنما مرورُهما بخاطري أتى بهما إلينا للتوّ، فالأمنيّةُ القدرةُ، اليومَ، وليس، اليومَ، أبداً من مستحيل. سامح لا يزال على هيئة المأسور في ذكريات صباه. يحلّفنا بخطايانا أنْ نصبر عليه حتى يُسمعنا من ولعه بفنّ المنادمة قصيدةً من خمريّات شبابه الأوّل فنحكم له أو عليه. وها هو ذا ينشدنا بحماسة الصبا والشباب:
هُبُّوا رفـاقي قَرِّبوا الموعِدا لا تسألوني أن أراكم غدا
هُبُّوا فهذا الليلُ مستوحشٌ لا تتركوني مثله أوحَـدا
نحن التقينا مـرّةً صدفـةً لا تأملوا أن نلتقي سَرْمَدا
دارتْ علينا والهوى واحدٌ بيضاءَ تحيي ليلنا بالهـدى
فمـا انتشينا ليلةً مثلها والليلُ يمضي مُتْعَباً مُجْهَـدا
في كلّ عينٍ نظرةُ المحتفي في كلّ ثغرٍ بسمةٌ كالنـدى
كلٌّ يداري خِلَّهُ جاهداً فمـا نـديـمٌ بيننـا سَيِّدا
وصاح منّا صائحٌ مترفٌ هاتوا لنا حسناءَ تُطفي الصّدى
ومالَ في رِفْقٍ على جارِهِ وقد بدا من سُكْرِهِ ما بـدا
صَبَبْتُ من كأسي له صبّةً وقلتُ للآخَـرِ: حَـرِّكْ يدا
فبعضهم مستغرقٌ ساهمٌ وبعضهم محدّقٌ فـي المدى
يا حبّذا العيشُ على سكرةٍ أظلُّ فـيـها بينهم مُخْلَدا
ما زلتُ أسقيهم ويسقونني حتى انطفـأْنا واحداً واحدا
أَعْجَبُ من أخلاق العلاّمة وصبره على مقاطعة الجمريّ له بقصيدته الخمرية، فأعجّل بالتمني عليه أن يعود فيأخذ طرف الحديث ويحكي لنا شيئاً من شؤون زمانه الأوّل وشجونه، فيوميء بالقبول وينهلّ القولُ منه أنْ، إخوةَ القيامةِ، لقد جُمِعَ الشرق والغرب من قَبْلُ في تَأَثُّرِ العربِ كتبَ اليونان ثم في تَأَثُّرِ الأوروبيين كتبَ العرب، زمن الأندلس، وهذا البعثُ، الذي قُدِّرَ علينا في صيدون، يجمع الشرق والغرب مجدّداً بتلاقي أبي العلاء ودانتي، هذه المرّة بالحضور الشخصيّ لكليهما لا بوساطة الكتب، فهما لا يزالان بيننا، ولا تزال مخضلّةً صحبتُهما منذ اليوم الأوّل لقيامتنا أجمعين. ولكنِ اْذَنوا لي أن أعود بكم إلى سياق القرن العشرين وأوائل الواحد والعشرين، فإنه الزمن الذي عشنا فيه، وفيه أُوذينا من قِبَلِ المغرب والمشرق. فها هي ذي فلسطين تهبها بريطانيا إلى اليهود فيعلنونها إسرائيلَ، ويدعمها الأوروبيون والأميركيون لتكون للغرب كلّه بمثابة القاعدة العسكرية، يشنّون منها وبواسطتها حروبهم على العرب والمسلمين، ثم تجتاح إسرائيلُ لبنانَ وتحاصر بيروت وضاحيتها الجنوبيّة، فنُقصف ونُستهدف بالسيارات المفخّخة، وتُقَدَّرُ ليَ النجاةُ فأنجو، إنما ليشعل الحربَ في وجهي أهلُ داري وملّتي وعشيرتي بسبب رغبتي في تحرير المسلمين من جمود الفكر وتحرير الفكر الإفتائيّ من مرجعيّاته السياسية، لبنانية أو غير لبنانية. ثم يشتدّ عليَّ الحصارُ حينما أفتي، بحجّة العقل وبروح الشريعة، الفتاوى التي تهيّج خيال الفقهاء وألسنتهم فيكادون يتهمونني بالخروج على الإسلام، ولعلهم يفعلون، ثم يقفلون المحاكم الشرعية في وجه الذين أفتي لهم من الرجال والنساء الفتاوى التي تُخْرِجُ حياتهم وحياتهنّ من الظلمات إلى النور.
الشاعر الجمريُّ يقاطع العلاّمة بأدبٍ جمٍّ هذه المرّة أنْ تلك الأحداثُ كانت خبزنا اليوميّ، يا سيدي، عشناها معك وتتبّعْنا تفاصيلها في الصحف، فَأَجْمِلْ لنا بعض فتاواك التي أقامت الدنيا وأقعدتها، فلقد خاض في أمرها الخائضون فبلبلوا أفكار الناس. يتبسّم العلاّمة تَبَسُّمَ الذي اكتشف النيّةَ التي وراء الكلمات، ثم يهمّ بالقول ولا يقول. الصمت يكسره الجمريُّ بأنْ، سيّدي، قد تكون وفرةُ قراءاتك وبحوثك ومؤلفاتك الأُخَرِ قد أرهقتْ ذاكرتك، فَاسْمَحْ لي أن أُلْمِحَ إلى الشيء إلماحاً فلعلّك تتذكره وترويه لنا على طريقتك. خُذْ، مثلاً، ما شاع من قصة ذلك الرجل الذي جاءك مرة بصحبة سيّدةٍ فباحا لك بعزمهما على الزواج مشافهةً، فلا يكون بينهما نصٌّ مكتوبٌ ولا يكون شاهداً على زواجهما أحدٌ إلاّ الله، جلّ وعلا، فأفتيتَ لهما بصحّة مثل هذا الزواج إذا تمّ بين راشديْن. وحينما اكتشف الناسُ أمرَهما قامت القيامة واتُّهمتَ أنتَ بأنك ترخّص للفوضى الإجتماعية بتقويضك لمفهوم الزواج كمؤسسة اجتماعية ترتبط بسجلاّت المحاكم ودوائر النفوس. وأصررتَ أنتَ على رأيك فاضطرمتْ عداوةُ المناوئين لك. فكيف تروي لنا القصة على طريقتك، يا سيّدي، وأنتَ الذي عشتَ تفاصيلها واطّلعتَ على أسرارها دون سائر الناس ؟ العلاّمةُ لم تغادر شفتيْه ابتسامتُهُ الرضيّةُ منذ بدأ الجمريُّ الكلام. وما الذي شاع غير هذه القصة، نَبِّئْنا، فإنك تبدو، يا سيدي، وكأنك شاهدٌ على عصرك. يقولها العلاّمة للجمريّ ويسكت. عبارةُ الشاهدِ على عصرك لا أعرف إذا كانت تلميحاً إلى شي أو تعريضاً بشيء يعرفه كلاهما. أترقّب بحذر ويترقّب معي المترقّبون. لعل ذاكرتي أراحها طولُ الموت، يقول الجمريُّ، فَبُعِثَتْ بصفاء عين الديك لتطفو على شبكتها الذكرياتُ جليّةً لها وللناظرين. خُذْ، يا سيدي، الآنَ قصّةَ الصبيّةِ التي تزوّجتْ من رجلٍ فَقَدَ قدرته على الإنعاظ ليلةَ الزفاف فلم يدخل بها لسبعةِ أشهرٍ ميلاديّةٍ، فَارْتَأَتِ الطلاقَ منه رفقاً به وبنفسها، فأتتْ تستشيرك فأفتيتَ بطلاقها على الفور. الزوجُ أبى وقضاةُ الشّرع رفضوا الأخذ بفتواك بحجة ضرورة الإنتظار سنة أو سنتين لأنّ الطبَّ يتطوّر بسرعة عجيبة والعلاجَ قد يصبح ممكناً، خاصةً وأنّ محامي الزوج أثبتَ، بشريط فيديو، قدرةَ الزوج على الإنعاظ في غياب زوجته. فإذا صحَّ كلُّ ذلك، يا سيدي، فكيف تروي لنا القصة هذه على طريقتك، وقد أصبحتَ مديناً لذاكرتي بقصّتين ؟ الإبتسامة الرضيّة لا تفارق وجه العلاّمة. ما شاع في الناس زَمَنَ الدنيا مُلْكٌ للناس ومُلْكٌ للدنيا ومُلْكٌ لمالك الغيب والحساب، يقول العلاّمة، ثم يضيف أنْ ولقد عرفتُ في زمني الغريبَ والأغربَ منه، ولكنْ أنىّ للذاكرة أن تصدق في كل شيء ؟ المهمّ أنّ حكايتي أَجْمَلْـتُها بكلماتٍ، وبكلماتٍ أختم فأقول إنّ غَرْبَ الإستكبار الداعم لإسرائيل والشرقَ المعتصم بالجهالة الجهلاء اجتمعا آخر الأمر على أذيّة هذا الشرق، معاً معاً، ولن أزيد على ذلك حرفاً.
كيف ومتى انضمّ إلى حلقتنا الشاعرُ سعيد عقل، لستُ أدري. فها هو يحيّي العلاّمة ويضيف أنْ أيّها السيّدُ إني لسعيدُ العقلِ بكَ، وإنني لمصارحك أننا أحببناك في الدنيا حبّاً جمّاً، نحن النصارى، لمزاياك الخلقيّة والإنسانية والفقهية، وأنني طرتُ فرحاً بكَ، على وجه الخصوص، لأنّكَ لَبْنَنْتَ الإفتاءَ في مِلَّتِكَ، بإعلانكَ نفسَكَ مرجعاً إفتائيّاً، فكنتَ بلبنان بَارّاً، وباستقلاله حفيّاً حفيّاً.
كنتُ موكَلاً بالإسلام، يا سيّدي، لا بما كان يشغل بالك ! يردّ عليه العلاّمةُ بنبرة الفصل التي توحي إليّ بضرورة الإنتقال إلى النديم الثاني من ندامى الرَّويَّة. المونسينيور جْرِجْوارْ حدّاد يبدو وكأنّه حَدَسَ خياري الصامت له، فابتسامةُ القبول على شفتيه تتَّسع شيئاً فشيئاً حتى لتضيء وجهَهُ كلَّه. وأنت، يا سيّدي، شاعتْ عنكَ بين الناس أشياءٌ غريبة في العيش الأوّل، فما الذي كان أغربها في نظرك ؟ وما إنْ أطرح عليه هذا السؤال حتى يحشر الجمريُّ نفسه بيني وبينه، وكأنما لينصّب نفسه وسيطاً بين ندامى القيامة والحشدِ الملتفّ بنا، تماماً كما كان فَعَلَ منذ قليل مع السيّد العلاّمة. يُسْقَطُ في يدي وأنا أرى الناس يستطرفون ويستظرفون حشريّةَ هذا الرجل، وكأنما طاب لهم ما جرى بينه وبين ضيفي الأوّل فهم يتمنّون أن يسمعوا ويروا منه المزيد، فألزمُ الصمت معتصماً بالرّويّة التي أطلقتُها صفةً على حلقة ندماي فَأَسَرْتُ بها نفسي فما عاد يليقُ بيَ الإعتراضُ كما لم أعد أجرؤ حتى على العتب. سأحتمل أيّ شيء حتى لا تعاودني الأفكارُ التي كادت تستدرجني اليوم إلى حفافي الجحيم. الجمريّ يبادر المونسينيور حدّاد بالقول أنْ أجلْ، يا سيّدي، كنتُ كذلك من معاصريك، ولقد قرأتُ في الصحف عنكَ وتلقّفتُ ما شاعَ من أحاديث المقاهي والمنتديات حولك، فما أفزعني شيءٌ أكثر مما أفزعني اتّهامُ البعض لك من أبناء ملّتك بالخروج على المسيحيّة لإصرارك على أنّ النبيّ العربيّ مُبَشَّرٌ به في الإنجيل المُخَبّأِ في روما. ولكم تردّدتْ هذه القصة في الأوساط الإسلامية من بيروت بفرحة كانت أشبه شيء بالزغردة. ولم أصدّق ما قيل عن عداوة البعض من أهل ملّتكَ لك حتى رأيتُكَ على شاشة التلفزيون يدفعك شاب غاضب بفظاظة بالغة لينتهي المشهد بجروحٍ في وجهك وجبهتك. فهل صحيحٌ كلُّ ما كُتِبَ عنك وكلّ ما شاع على ألسنة الناس ؟ بل ماذا حلّ بجهودك لتطرية أجواء الحوار الإسلامي – المسيحي لإنقاذ لبنان من مغبّة صراعاته الطائفية ؟ وكما اتّسعتْ ابتسامةُ العلاّمة من قبل تتّسع الآن ابتسامةُ المونسينيور كإلماحٍ بالشكر للجمريّ أنْ وَفَّرَ عليه الخوض في ذكريات كان يتمنى فناءَها فلا تُبعث معه يوم يُبْعَثُ أبداً. يفتح الجمريّ فمه ليقول شيئاً فيقاطعه الشيخ حسن خالد أنْ أيّها السيّدُ المكلِّفُ نفسَه لزومَ ما لا يلزمُ، إنْ صحّ المثل القائل إنّ للصبرِ حدوداً، فلعله يصحّ كذلك القولُ بأنّ للرّويّة حدوداً يعرفها أصحابُ الحدود. ندامى الرّويّة تنكمش وجوههم ارتباكاً وتكاد تفلتْ من بعض الأفواه كلماتٌ متردّدات متلعثمات. ولكنْ عفوك، يا صاحب الفضيلة، يقول الجمريّ بصوتٍ خفيض، لو كنتَ تَرَوَّيْتَ قليلاً لكنتَ أعفيْتَني من ضرورة تذكيرك بأنّ أهل زمانك لاموك حتى على استشهادك بالسيارة المفخّخة يوم ركبتَ حماستك وجريتَ مع اندفاعك فأطلقتَ صوتك على مدى لبنان وفي طول العالم العربيّ وعرضه، تطالب برفع الضيم عن عاصمتك بيروت. الغبشةُ، الغبشةُ وحدها ملامحُ كلِّ الوجوه. بل أظنني، يقول فضيلة الشيخ، كنتُ كذلك ضحيّةَ إصراري على المضيّ بالحوار الإسلاميّ _ المسيحيّ قدماً، ذلك الحوار الذي كان سيلغي دور المتطرّفين من كل الطوائف، ويقلّص امتيازاتهم السياسية. أردتُ إلغاءَ الذين استباحوا بيروت والذين حوّلوا الأديان السماوية إلى متاريس قتال، فألغوني، وكفى بالله شاهداً وحسيباً. وهَبْكَ كنتَ اعتصمتَ بالرّويّة، يا سيّدي، آنذاك، أفما كنتَ نجوتَ ؟ يسأله الجمريّ متمادياً في الحوار، ولكنْ مرّةً ثانيةً بصوت خفيض. رابعُ ندامى الرّويّة، الشيخ صبحي الصالح، ينبري صوتُه أنْ مهلكَ، مهلاً، يا سامحُ، فأنا أذكرك من زمن تدريسي لك فِقْهَ اللغة العربية في الجامعة. ولقد أَقَلَّيْتَني مرّة من كليّة الآداب في اليونسكو إلى منـزلي في منطقة الجامعة العربية في سيارتك الصغيرة الغولف الخضراء، وكان ذلك في عين الشهر الذي اغتالتْني فيه الرصاصاتُ التي لم تنقمْ مني إلاّ تعلّقي بحوار الديانات. الشيخ حسن خالد وأنا كنّا في القارب نفسه، وكذلك كان القاضي حليم تقيّ الدين، الذي أخبرنا، حينما جمعنا به زمنُ الشهادة، بقصّة تصفيته الجسدية على أيدي الأشباح البشرية. الخامسُ من ضيوفي، القاضي تقيّ الدين، يعجّل صوتُهُ بالشكر أنِ الحمد لله أنني أُعْفيتُ من سرد قصّتي بلساني في أجواء هذه الرحلة التي نيمّم فيها، بعيوننا ونوايانا، السيدةَ العذراءَ فلعلها تتوّج مساعينا المجهضة في الحياة الدنيا بخلاصنا أجمعين في الآخرة.
وما إنْ يتمّ القاضي كلماته حتى ترتعش من بعيد ألوانُ الهالة النورانية وترتسم على وجه العذراء ابتسامةٌ تضيءُ، من تألّقِ إشعاعاتها، تلّةُ سينيق. من الحشد كلّه، وحدهما أبو العلاء ودانتي يبدوان وكأنما لا شيء، لا شيء يطمئن قلبيْهما فقلباهما لا يكفّان عن الخفقان بهاجسِ المكر الذي قد يمكره الغيب قبل أن نستحقّ الشفاعةَ التي ستردّ عنّا هَوْلَ الحساب.
فجأةً يهيج الهواءُ بالشعر :
يا رجالَ الحديث، عفواً وعُذْرا فالأحـاديثُ لا تنوِّلُ وَطْـرا
إنْ صبرتمْ عـلى الكـلام فإنّا عن غِواكم لا نستطيعُنّ صَبْرا
فتعـالوْا إلـى الأنـوثةِ تَلقوْا بعد عُسْرِ الحديثِ ليناً ويُسْرا
تتلفّتُ وجوه الرجال على نغمة الشعر تنشده الأصواتُ الأنثويةُ، فتطالع العيونَ قامةُ دامو ووجهُ دامو وملامحُ دامو، وحولها وخلفها القاماتُ والملامحُ والوجوهُ والصرخةُ المدوّيةُ، الآنَ، أنْ لا ! لم نعد نطيق عن الحُسْنِ الذكوريّ صبراً، وقد انشغل الحُسْنُ عنّا بهواجس الدنيا والآخرة، عنّا نحن اللاتي كنّا في الدنيا لَكُمُ الحياةَ والموتَ والقيامةَ وما لا تذكرون !
قيامةٌ في القيامةِ ! أقول لنفسي وأبحلق فيهنّ .
دامو
التَلَهّي عنّي وعنكنَّ شرٌّ لا يوازيه فـي الشرورِ مثيلُ
غيرُ هذا السكوتِ منكنَّ فَاصْرُخْنَ بحشدِ الرجالِ حتى يميلوا
عن ضبابِ الحوارِ في الجنّةِ والنارِ والبعثِ والحسابِ العسيرِ
وكتابٍ أبو العَلاَ أملاهُ وكتـابٍ مُثَلَّـثِ التحبيرِ
في جحيمٍ ومطهرٍ وجنانٍ نَظْمَ دَنْـتي المتيَّمِ المَحْرورِ
إنْ سكتْنا فلن ننالَ مُنانا يا نسـاءَ المسـيرةِ المجنونَهْ
فَلْنقاتلْ بمكرنا مكرَ غيبٍ هو رؤيـا المدينةِ المسكينهْ
وتَيَقَّنَّ أنـني مثلكنَّ اليـومَ حتمـاً فتـّانـةٌ مفـتـونَهْ
بالتياعِ الشوقِ الذي لأربعين سنة شرّدني في هذه القيامة أصرخُ بالنساء المشتاقات لمثل ما كان لهنّ في زمن الأرض، وأصرخُ بِطُهْرِ الصبايا المسوِّفِ لاحتفال أجسادهنّ بامتلاء الحياةِ، أصرخُ بهنَّ أنْ مزِّقْنَ الغبشةَ التي تحجّب نوايانا عنهم ونواياهم عنّا، وأنْ تعالَيْنَ نعلنْ ولادة الفجر الذي لم نزل نرحل إليه ولم يزل يسوِّفُ انْصِداعَهُ لأربعينَ مُضِلَّةٍ من السنوات.
جريسْ، بلباس الراهبة، تهجم عليَّ بأنْ تَرَفَّقي بقلوب العذارى، فالعذارى قلوبُهُنَّ هواءُ، واللواتي عَرَفْنَ الرجالَ من النسوةِ فحقيقاتٌ هنّ أن تُليني لهنّ القولَ حتى لا تضيق الأجسادُ بالذكريات فتنفضَ النسوةُ عنهنّ غلالةَ الغبشةِ وغلالةَ الصبرِ ورجاءَ الشفاعةِ فيغيّبهنَّ الشوقُ والحنينُ واللهاثُ المرهِّفُ للشوقِ والحنينِ وكلِّ ما لا تسوِّغ معناه ولا دلالاتهِ الكلماتُ، هنّ هنّ الحقيقاتُ أن تُليني لهنّ القولَ، فعزباءُ دهرٍ، يقول المثلُ، ولا أرملُ شهرٍ، فكيف وهنّ مرّ عليهنّ بعد الفناء الأربعون من سنواتِ انتظارِ الخلاص؟
نواحُ اللواتي كنّ عَرَفْنَ الرجالَ يُدْهِشُ فتياتِ الطّهر فيتهامَسْنَ ثم تكبر عيونُهُنَّ ثم يلولحن أيديهنّ في صمتٍ هو أشقى من كلّ صوتِ نواح. أقول لعلهنّ الآن يتخيّلْنَ ما كان فاتهنَّ في زمن الأرض وطوالَ زمن القيامة ويأسفْنَ على أجسادهنّ التي أُبْدِعَتْ لغير حياةٍ وجُمِّلَتْ لغير انتهاكِ العيونِ والأناملِ والأفواه.
الراهبة جريسْ تلحّ عليَّ بأنْ ترفّقي بنساء البعث وصباياه فليس من العدل في شيء أن تسخّري سواكِ لبلبلة مسيرة الرجاء والشفاعة لتنالي ما لم تنوّلْكِ إيّاه القيامةُ. ثم لماذا لا تجرّبين حياة الرهبنة فتنعمي بمثل ما أنعم به أنا، لا من عتقي من الشهواتِ، بل من فرحي بارتقائي بها لتكون خادمةَ الجمال الذي خارج حدود جسدي، جمالِ الشغفِ بأنفاس الكائنات المفضي إلى الشغف بالكلِّ، اتّساعاً في اتّساعٍ، حتى لا تكون عبادةٌ خيراً من إبهاج الحياة ولا تكونَ حياةٌ إلاّ بتعقّبها مرتقيات الروح؟
وإذ تكاد تُفْتَنُ بحديثِ الروحِ امرأةٌ من هنا وشابةٌ من هناك وصبيّةٌ من هنالك، ألتفّ بصوتي على الآذانِ كلها بأنِ الكونُ لا يكون إلاّ بالجسدِ وأنِ العبورُ منه إلى سواه لا يكون إلاّ به، فالحواسُّ التي هي أدواتُهُ والعقلُ الذي هو مخزنُ انطباعاتها، كلُّها تنبتُ منه وفيه، وما الخيالُ الذي يحيل اللغةَ شعراً والحكايةَ مسرحاً والتاريخَ ملحمةً والرؤيا أسطورةً والصخرَ تمثالاً والألوانَ لوحةً والأصواتَ موسيقى وغناءً والحركةَ رقصاً، إلاّ القانونُ المهذِّبُ لظواهر الطبيعة التي هي أنا وأنتِ وأنتنَّ. العيونُ التي تروح وتجيء بيني وبين الراهبة تنذرني بأنّ كلماتي لم تَزِدِ النسوةَ إلاّ تحيّراً وارتباكاً. إبتسامةُ الراهبة يبدو أنها سكّنتْ شيئاً من الإنفعالات التي كنتُ جيّشْتُها في صدورهنّ. الراهبة تبغتني بالقولِ أنْ رفقاً بشبابكِ أيّتها الضّاجّةُ بشبابها، وتعاليْ حدِّثينا الحديث الذي هو أجمل حكاياتك نقطّعْ به الفترةَ الباقية لنا من زمن المسيرة. بل إنني أحثّ المتلهّفات على نفض ما في صدورهنّ أن يتهيّأْنَ للكلام بعدكِ، الواحدة إثر الأخرى، فحكايةٌ هي إثر حكايةٍ، نتطهّر بها جميعاً من فتنة الكتمان، فما نبلغ المنتهى من مسيرتنا حتى نكون في ناصعٍ من الصفاءِ الجديرةِ به السيدةُ العذراءُ المنتظرِةُ وصولنا إليها هنالك على قمة التلّةِ المغرورقةِ بداوئرِ النور.
بحديثِ الراهبةِ انْسحرتِ النسوةُ، فالرؤوسُ يموج بعضُها في بعضٍ والهمهماتُ المحبِّذَةُ تكشح عنّا طبقةً من طبقات الغبشة. لا سبيل إلى تجاهل ما أسمع وما أرى، ولأنني الغريبة عن مُسْتَحْدَثِ الطبائع والمعتقدات لأهل هذه الأرض بعد زمن أشمون، ولحرجِ هذه اللحظة بالذات، فمن الخير لي أن أتقرّب إليهنّ بسحر الخيال. أرتّب الكلمات في سرّي ثم أقول أنْ عنكنَّ لن أخفيَ قصتي التي عشتُها في مدينتكنّ زمنَ الصيادنة الشجعان، في ذلك العصر الفينيقيّ الذي كان ملوكه وأمراؤه شعراء، ولأنني أدين بذكريات شبابي لمدينتكنّ، فَأْذَنَّ لي، يا نساء وشابات وصبايا المملكة التي لم تعرفوها في زمنِ عزّها، إِئْذَنَّ لي أنْ أروي لكنّ أحلى الذي كان، والذي لأبحث عنه إنما بُعِثْتُ بينكنّ. على عتبةِ الفجر الصيفيّ لذلك اليوم من ذلك العام، رَسَتْ بنا المراكبُ في شطّ صيدون، فهبطتُ وَلِداتي من الإغريقيات على الرمل الساحر، فخلعنا أخفافَنا الرقيقات لتتحسّس أقدامُنا نكهةَ الأرض التي كانت حَبَّبَتْها إلينا الأخبارُ التي تحملها المراكبُ إلى شواطئنا، ولمّا طال استئناسُنا بهواجس الرمل حملتْنا نداءاتُ البحّارة إلى قلب المدينة فإذا نحن فجأة في ساحة من ساحاتها الموّاجَةِ بصبيّاتٍ يَرْفُلْنَ بغلالاتٍ أشفّ من الفجر ويَطُفْنَ في أرجاء المكان فيوقِظْنَ بهفهفاتهنَّ حتى الحجارةَ المرصوفةَ بها مواطيءُ أقدامهنّ، والرجالُ من أربابِ المِهَنِ، وحولهم الشبابُ والفتيةُ، ما إن تُفضي بهم إلى الساحة الأزقةُ والممراتُ الضيّقة حتى يخوضوا الحُسْنَ كلَّه في عبورهم إلى الأزقة والممرات الأخرى، وهكذا هكذا حتى طلع علينا موكبٌ لأميرٍ فانطلقتِ الساحراتُ الصبيّاتُ يؤدّينَ رقصةً وكأنما احتفالاً بالأمير الفتيّ وبموكبه. وقفنا نتفرّج فلاحتْ من الأمير التفاتةٌ نحونا، ولم أنتبه إلاّ والابتسامةُ يفيض بها كلُّ وجهه. عيناه حدّثتْ عينيّ، أو كأنهما، ولمّا تمشّى بتؤدةٍ صوبنا عرفتُ أنّ ثقافتي في صيدون ستبدأ على يديه هناك. وكان أميري شاعراً في كل شيء. ولقد انحاز إليه قلبي كلّه ساعةَ أخبرتْني الصيدونياتُ أنّه كان قد أصدر قراراً يوجب على كلّ صبيّة حسناء أن تظهر في ساحة من ساحات المدينة كل يوم لساعةٍ واحدة تبدأ بتباشير الفجر، لتكون الأنوثةُ أوّلَ ما يطالع عيونَ الرجال الماضين إلى مطارح أعمالهم ومراكز مهنهم، ففيضُ الأنوثةِ محرِّكٌ للخيالِ المولِّدِ للإبداعِ المحسِّنِ للإنتاجِ المطوِّرِ لإقتصادِ المملكة. ولقد كنتُ في الحُسْنِ من صادرات الأرض اليونانية يومها وكان شِعْرُهُ فيَّ من صادرات بلاده.
لا تتمّي الحكايةَ فحكايتي ألذّ وأقصر! تقاطعني هَتونْ بصوتٍ فيه إصرارُ مياه النهر على تتبّع مجراه. النسوةُ يستطرفْنَ حماسَ الصبيّةِ ويصغين إليها بعين الإهتمام الذي به كنتُ، أوّلَ معرفتي بها، أصغي إليها وهي تحكي لي كيف أخذتْها أصابعُ النهر من بين أصابع جهّار فَجْرَ ميلادها السادس عشر، يستطرفْنَ ويصغينَ وهي تفلش ذاكرتَها أنِ البساتينُ أسرارٌ وأنْ وراء كلّ جلٍّ من الجلولِ قصّةٌ لصبيّةٍ تحتفظ لها الذاكرةُ بنضارتها فكأنها حدثتْ للتوّ. والقصة في الحقيقة ليست قصتي، ولكنْ كانت ترويها لنا في الحيّ امرأةٌ تنسبها إلى أخرى فأخرى. ثم ينخفض صوتُ هتونْ وتأخذ تحدّثنا بأنْ في ليلةٍ من ليلاتِ مباغتةِ حبيبـي لي في الجلّ الذي خلف البيت، بغتني المجنونُ وأنا مقرفصةٌ عند جذع شجرة أقضي حاجةً طرأتْ لي من الحاجتيْن، وكان بيتُ خلائنا يشغله الذي يشغله من أهل البيت، فكان الهواءُ الطلقُ الخيارَ الذي لا خيار لي سواه. وكنتُ من استئناسي بنسيم الليل قد خلعتُ الحميمَ الذي لا يُسَمّى من الثياب وعَلَّقْتُهُ بأوطأ غصن في الشجرة. بَغَتَني المجنونُ واسْتَلّ الحميمَ المعلَّقَ بالغصن وحلف أنه لا يعيده إليّ أبداً. رجوتُهُ واستعطفتُهُ فما نفعني استعطافٌ أو رجاء، وظلّ على موقفه الماجنِ المتفكّهِ حتى سمعتُ صوتَ مَنْ يستعجلني الرجوعَ من الجلّ فأصابني الهلعُ فنهضتُ كالمجنونة ومددتُ يديَّ نحوه أستجديه أن يوفّر عليّ الفضيحة. وما إنْ أخذ بيديَّ ومرّرهما على رأسه حتى اكتشفتُ أنه لبس حميمي من فوق. أنا مَلِكٌ لا يخلع عن رأسه التاج! قالها المجنون واختفى في الليل. ليلتها عدتُ إلى البيت كاسيةً عارية.
وما إنْ تلفظ هتونْ الكلمةَ الأخيرة حتى تكون فرقعاتُ الضحكِ والهمهماتُ وشبهُ المكتوم من الصرخاتِ قد أذهلتِ الغبشةَ عن مزاجها، فَبَرْقَاتُ النجوم تشعّ وتختفي ليشعّ غيرُها وينطفيء، وكأنما لهنيهةٍ لها فرادةُ نفسها من الزمن اختلطت بمعالمِ الأرضِ معالـمُ السماء. كفٌّ لامرأةٍ محجّبةِ الوجهِ ينهار على وجه هتونْ. الطقّةُ لها صوتُ الموجةِ الضاريةِ لحظةَ ارتطامها بحائط الميناء. ولكنها ليست طرطشات الماء التي تغسل وجه هتون الآن، بل الدماء التي نَفَرَتْ من أنفها وتنفر لا تزال. أصرخ بالمحجّبة أن تلزم حدّها وإلاّ، فتصرخ بي أنْ إنّ في الحكاية ما يفسد أخلاق القيامة. الراهبةُ جْريسْ تقف بين هتونْ وبين صاحبة الكفّ المتطاولة. تؤنّبها بأنِ الحكايةُ إنما هي تسليةٌ للخيال وأنِ الخيالُ يمتدّ خارج دوائر الخير والشرّ، مجنَّحاً فوق شِباكِ الثواب والعقاب، وأنْ إنْ تكنْ هتونْ قد رَوَتِ الحكاية التي لا تستسيغها آذانُ البعض، فإنما العتبُ عليها يكون بالكلمة لا بالصفعة، وخاصةً إنْ أتت الصفعةُ من التي كتابُ ملّتها يدعوها إلى المجادلة بالتي هي أحسن ويحبّب إليها الكلمة الطيّبة كأداةِ تواصلٍ مع الناس. جوقةٌ من المحبِّذات لحكاية هتونْ يهلِّلْنَ بصوتٍ واحدٍ مُنَغَّمٍ أنْ لا خير في حبٍّ لا مجونَ فيه وأنْ لا تليقُ تيجانُ النساء إلاّ برؤوس عشّاقهنّ! المحجّبةُ ونصيراتُها من السافراتِ يهدّدْن بأيديهنّ. عشقاءْ وماريّا لا تزالان تمسحان الدّم عن وجه هتون وقد نجحتا في جعلها تميل برأسها إلى الوراء وتتكيء على يدٍ لهذه ويدٍ لتلك تشابكتا خلفها. صوتٌ في داخلي يحرّضني أن أرفع الصوت في وجه الجوارحِ المحجّبةِ بأقنعة السماء، فالسكوتُ على أذى الواحد من هذا الحشد سيجعل الحشد كلّه في مطال الأذى. صوتي يتمرد على توتّر حنجرتي فأصرخ بأنْ أَعِرْنَني آذانَكنّ أيّتها الحبيباتُ إليَّ الطيّباتُ لعشاقكنّ لأتمّ رواية قصتي لَكُنَّ عمّا كان جرى بيني وبين الأمير الذي كان مجد مدينتكنّ. ولقد أسرفتْ في انتهاك بَشَرتي عيناه وأسرفتْ في انتهاك أجوائه أنفاسي حتى اضطرب الشِّعْرُ في خاطره فكتب وأرسل إليّ مع رسولٍ من رسله قصيدةً كانت الأولى من فيضٍ لم يُقَدَّرْ له أن ينتهي حتى بعد عودتي إلى أبي في اليونان. آذانَكُنَّ، آذانَكُنَّ أيتها اللواتي للعشق خُلِقْتُنَّ، فدونكنّ أبياتِ القصيدة:
أميرٌ بصيدونَ غَنَّى الحَلاَ وكـلُّ أميرٍ بـه يُبْتَلَى
فجـاءتْ مـن البحرِ يومـاً ترومُ الثقافةَ حيـث العُلى يُجْتَنى
فتاةٌ أبوها هو الفيلسوفُ بأرضِ اليُنانِ، بلادِ العُلى
فَجُنَّ بدامو الأميرُ الفتيُّ وجُنَّتْ فَعَمَّ بـلاءُ الهوى
أدامو تعاليْ ففي مقلتيَّ أخبّئْكِ مـن نظراتِ المَلاَ
تعالـيْ، ذراعـايَ طَـوْقٌ لخصرِكِ إمّـا اسْتَـبَدَّ وإمّـا الْتَوَى
وثغري لثغرِكِ بَوْحُ الشقيقِ وفَـوْحُ النداءِ فَلَبّي النِّدا
وإنْ شئتِ حُبّي فلستُ الملبّي وإنْ شئتِ قَتْلي فيا حَبَّذا
فشهوةُ عمري على وجنتيْكِ ومن شفتيكِ تفوحُ الدِّمَا
وما الربُّ أشمونُ إلاّ الحياةُ وما دَيُنَيْسَسُ إلاّ الصّدى
وحولي الرجالُ على الشطِّ يـرغونَ بالشوقِ حتى اضطرامِ اللَّظَى
وهـذي بجنبكِ رُعْبـولَةٌ وهـِرْكَوْلَةٌ جنبَها تُفْتَدى
تعاليْ وهاتي الصّبايا الحسانَ فلم يُخْلَقِ الحسْنُ يوماً سُدى
وها أنتِ جئتِ وها هُنَّ جِئْنَ فأنتِ وأنتنَّ خـيرُ النِّـسَا
نسـاءٌ يُهَيِّجْنَ فينا الحيـاةَ ويبعثْنَ فينـا حميمَ الرِّضا
فَهُـنَّ مراكبُنا المُشْـرَعَاتُ ونحن المجاذيـفُ، هَيَّا بنا
نجذِّفْ، وفي الموج نَلْقَ الخلاصَ ولا من خلاصٍ ولا مُنْتَهى
إلى أنْ يُغـالِبَهُنَّ اللُّهَـاثُ وتُجْفِلَ صَرْخَاتُهُنَّ المَدى
تحلمين بالمجاذيف يا تبيعةَ دَيونايْسَسْ ويا حليفةَ أشمونْ؟ فُخُذي إذنْ من ركلة قدمي المجذافَ الذي لن تنسيْ طعمه حتى نهاية الزمان! وتركل أعلى فخذيَّ بقدمها المرأةُ الهائجةُ عليَّ، وحولها وخلفها، من المحجّباتِ والسافراتِ، الملوِّحاتُ بقبضاتهنّ، يرغين ويزبدْنَ بالغضب، ويزددْنَ وينقصْنَ بين اللحظة واللحظة، فأحسب أنني في قبضة حلمٍ من أبخرة الجحيم التي تتحدّث عنها الأساطيرُ القديمة، ثم أحدّق في المشهد من جديد فإذا بعشقاءْ يهدر صوتُها في الجوّ أنِ الآن دوْري لرواية قصتي، فإليَّ إليَّ، أيتها الغاضباتُ والراضياتُ، فأغربُ من غرائب الأرض والسماء الذي مِلْءَ ذاكرتي مـن جنون الرجـال. وإذ تتهافت إليها العيونُ أدرك حِذْقَها في لفت انتباههنَّ عنّي حتى لا يمعنَّ في أذيّتي فيقضين عليَّ.
لِمَنْ منكنّ لا تعرفني أقول بأنني عشقاءْ، عشقاءْ، وأنّ الذي في الزمن الأوّل لم يعرف عشقاءْ فَقَدَرُهُ ألاّ يعرف المرأةَ المرأةَ، وإن كان عرف النساءَ النساءَ. ولكل زمنٍ عَشْقاؤهُ وأنا عشقاءْ كلِّ الأزمنة.
النسوةُ مِرْجَلٌ يغلي بحمحمات الحنين إلى ذلك المجهولِ المسوَّفِ في أعمارهنّ، السابحِ أبداً أبداً في أشواقِهنَّ فشواطِئُهُنَّ لا تلقاه أبداً أبداً. ذلك ما يفعله بهنّ وبي صوتُ عشقاءْ الذي كنتُ أَلِفْتُ سحره لطول عشرتي له، والذي لا يزال يفاجئني منه انْدِلاقُهُ خارج ذاته.
كلّ رجال ضيعتي ورجال الضِّيَعِ التي حول ضيعتي لحقوني. وهم لحقوني من قبل أن تتدوّر الحميميّاتُ فيَّ لتملأ قمصانَ الصيف وكنـزاتِ الشتاء وبناطيلَ كلّ الفصول. لحقوني لأنني كنتُ كلَّ ما لم ينالوه من الأخريات، فأنا لهاثُ الحلمِ الذي يستمرّ بعد أن تخمدَ الجمراتُ وتنخذلَ الموجاتُ ويتقهقرَ كلُّ مستبدٍّ وعات. أنا المسوَّفاتُ الحاضراتُ لأنني اللذّةُ التي عبثاً يجهد العشّاقُ لاحتواء تفاصيلها كلّها في احتوائهم كلَّ تفاصيلِ أجسادِ معشوقاتهنّ في لحظةٍ واحدةٍ تكون البداية والنهاية والموت والحياة، فلا يفيقون إلاّ على اقتناصهم للمجتزءات من الجسد والنفس والروح، فعبثاً عبثاً كلُّ المحاولات. أنا النائلةُ لهم بفجيعة أشواقهم لي وهم المنوِّلون لي كلَّ الأشياء التي أشتاق في سواهم سواها، فعذابهم بي وعذابي بهم ضعفُ الحياةِ والموتِ والثوابِ والعقابِ والجنةِ والنارِ. أنا، أنا التي اسمها عشقاءْ، عشقاءْ.
أهمّ بالقول أنْ هذه أنتِ، فأين هي الحكاية التي عن جنون العشّاق، ولكنها تسبقني إلى القول أنْ إنْ كان يغويكنّ جنونُ الرجالِ فعندي لَكُنَّ منه ما يستجير منه الخيالُ. مرّةً، وكنتُ اكتملتْ فيَّ المغوِياتُ، عَلِقَني من الضّيعة التي فوق ضيعتي كهلٌ من الرجال فكان له وقعُ خطواتي على الأرض كدقّات الساعة يقيس بها صبحه ومساءه وما بقي له من فسحة العمر. ولكنه استفرد بي مرّةً وأنا على براندة البيت المطلّة على الطريق فحيّاني ووقف يحدّثني ويُضحكني حتى لِنْتُ له شيئاً فصارحني بخوفه من المجهول ووضع يده على قمّة رأسه. الصَّلَعُ، يا عشقاءْ، هو المجهول المخيف، ووحدكِ القادرة على إيقافه من غزو بقيّة رأسي. وكيف؟ قلتُ له، أأشتري لكَ شَعْراً من صالونات حلاّقي النساء؟ أبداً، أبداً، أجابني المسكين، فأنا أعقل من أن أطلب منكِ ذاك، ولذلك سأُقْصِرُ طلبي على بضع شعرات منكِ. قالها المسكينُ والحياء يقطر من عينيه. وماذا يقول الناسُ عنيّ لو نتفتُ لكَ من شعرات رأسي فرآها أهلُ الضيعة على رأسكَ وعرفوا أنها منيّ ؟ سألتُه من باب الملاطفة، فهتف كالمجنون أنْ إنَّ أحداً لن يعرف مصدر الشعرات لأنها ستكون من المَرْجِ الذي لا تطلع عليه الشمس.
شَعْرُ عشقاءْ صار في متناول الأيدي الهائجة عليها من ثلاثٍ من النسوة الغاضبات. شَدَّةٌ إلى اليمين وشَدَّةٌ إلى اليسار وشَدَّةٌ إلى الأمام، وصراخُ عشقاءْ كَسَحَبَاتِ شفراتِ السكاكين في قلب الغبشة. الراهبةُ جريسْ ترمي بيديها بين الأيدي لتمنعها من سلخ خصلات الشّعر من رأسِ الضحيّة، وصوتُها في السماء أنِ امْنعهنَّ من ارتكاب العنف، يا الله، فإنهنّ لا يدرينَ ماذا يفعلْنَ. الجوُّ الآنَ كلُّه تلاحُمُ أيْدٍ وأصوات. وما إنْ أصمّم على إنقاذها من براثنهنّ حتى يهدر صوتي بالنسوةِ أنْ إليكنّ بقيّةَ قصّتي، فالأميرُ الصيداويُّ استبدّ به الولعُ فلحقني إلى معبد أشمون وصار يرافقني إلى مقاعد الدراسة، رامياً في عرضِ النهر بابتسامات زميلاتي وزملائي وبالنظراتِ والهمساتِ والنّكاتِ التي تتسرّب من وراء ظهره وظهري حتى ملأ عليَّ السمعَ والبصرَ والزمانَ والمكانَ فَلِنْتُ له مرّةً ثم كان الذي كان. وما هي حتى ذاع صيتُنا في المعبد وبساتينه، وخاصة بعد أن أنشَدَ في احتفالٍ طلابيّ القصيدةَ التي فيها يقول:
نهدٌ يدعوكَ إلى اللَّعِبِ غضٌّ يهتزُّ من الطَرَبِ
طفلٌ في عهدِ براءَتِهِ ويحنُّ حنينَ المغترِبِ
هذي شفتايَ له وطنٌ فَلْيَأْتِ إليه فَلْيَؤُبِ
مَرْآهُ بعيداً يؤلمني فمتى مَرآهُ عن كَثَبِ
ويعذّبني ويعذّبهُ شوقٌ نلقاهُ كاللَّهَبِ
ويزيدُ لواعجَ لهفتنا هَيَمانٌ معلومُ الأَرَبِ
أنا ممّا القلبُ يكابدهُ أتقلّبُ في عَصْفٍ لَجِبِ
ظمآنُ النفسِ معذَّبُها مشتاقُ فؤادٍ مُرْتَغِبِ
كم كِدْتُ أعفُّ فلا طَلَبٌ واليوم سأمعنُ في الطَّلَبِ
أَسْكَرْتَ القلبَ فهام هوىً يا نهدُ وتاهَ ولم يَثُبِ
لَعِبٌ بلعبٍ كلُّها علاقةُ المرأة بالرجل عندكِ أنتِ، فَخُذي من قبضتي على صدرِكِ ما يليق بمطلع القصيدة! تقولها التي تقولها وأتلقّى الضربةَ وإثرها الضرباتِ التي تنهال عليَّ من كلّ صوب. خلف الأيدي الهائجة عليَّ أيدٍ أَطْرَبَ صاحباتِها الشِّعْرُ فهي تتمكنّ من شعور الرؤوس التي أمامها وتشدّ بها إلى الخلف لتمنع عنّي تمادي الأذى. خلفهنَّ جميعاً يبدو أن الهرج والمرج يقيم لنفسه حلقةً للرقص تتمايل فيها الأيدي والرؤوس والصدور والخصور، فيُنسيني ما أراه الذي أحسّه من الألم في ضلوعي وتعتريني من الأحاسيس الهبّاتُ الأشمونيّةُ التي كانت تعتريني أيام دراستي في معاهد صيدون الفينيقيّة. ماريّا، الملولحةُ لي بيديها من حلقة الرقص، تتسمّر فجأة في مكانها وتشير إلى النسوة فيكفّنَّ عن الهزّ والتمايل وتهدأ الضجّةُ شيئاً فشيئاً على ارتفاع صوت ماريّا شيئاً فشيئاً أنِ الآنَ دَوْري لأروي قصّتي لَكُنَّ، وما أعجبها في القصص من حقيقة. في أوّل تَفَتُّحِ المغوِياتِ التي وَلَّعَتْ منيّ الشبابَ والرجالَ والكهولَ، فهيّوبٌ من الهيّوبيّين ومختارٌ من المخاتير ورائحٌ وغادٍ في تلك البساتين من مسلّحي ثورةٍ وجندِ وضبّاطِ جيشٍ، من كلّ الملل والنِّحَلِ، حتى خطرتْ لي مرّةً، على عفّتي، وكنتُ قد تزوّجتُ الهيّوب لليالٍ قصيرة وفَرَّقَنا تفاهمُ الملّتيْن، أجل أجل، خطرتْ لي، على عفّتي، خاطرةٌ فنهضتُ ذات ليلة بعد منتصف الليل وفي نيّتي أن أُرْضي كلَّ الذين عشقوني وأزيد فلا يكون رجلٌ، من نهر الأوّلي إلى نهر سينيق، إلاّ وقد لَبَّيْتُ شيئاً من حنينه إليّ، سواءٌ عرفني أم لم يعرفني، قبل أن تنتهي به الحياةُ إلى القبر. ولقد أشهدتُ شَجَرَ البستان على نيّتي، كما شجراتِ الكينا ومجرى النهر الذي سِرْتُ بمحاذاة ضفّته حتى انتهتْ بي قدماي إلى المصبّ الذي يتوالف فيه الحلوُ والمالحُ من الماء والماء. هنالك نزلتُ على مهلي إلى أصْلِ الحياة حتى انغمر من جسدي إلى ما فوق خصري بقليل. ولا أدري كيف تذكّرتُ الحكاية التي ترويها نسوةُ كل البيوت لبناتهنّ اللواتي على أهبة الزواج، أعني حكاية الشي الذي على المرأة أن تسقيه لزوجها حتى يظلّ يتعشّقها دون النسوة الأخريات. أرخيتُ نفسي في الماء هنيهة حتى استرختْ منيّ كلُّ عضلةٍ ونَعِسَ منيّ كلُّ عصب. عيناي كانتا إلى الغرب حيث قوارب الصيد الليلية تبرق في الظلمة قناديلُها التي تعلو وتهبط فوق صدر الموج. الصيّادون يصطادون السمك وغداً في الصباح يبيعونه للمتشهّين وعند الظهر يتذوّقه المتذوّقون ويمصّون أصابعهم وشفاههم بعده. لا زلتُ أذكر كيف اتّسعتِ الإبتسامةُ على وجهي، أُحِسُّ بها ولستُ أراها، وكيف قلتُ في سرّي للّيل أنْ إنّ أحداً لن يعرف من أيّ ماءٍ شربَ السمكُ الذي أكله، وكيف تراخى، على مدى اتّساع ابتسامتي للفكرة، كلُّ شيءٍ في جسدي حتى دغدغتْني الدغدغاتُ التي عادةً ترافقُ تخلّي مثانتي عن كلّ ما فيها من المالح والحارّ.
لا تزيد كلمةً واحدةً ماريّا، فالنسوةُ اللواتي لهنَّ الحكاياتُ الطريفةُ معضلةٌ لا يحلّها إلاّ الكفُّ والقبضةُ والركلةُ يُطْبِقْنَ عليها مخترقاتٍ أيدي هتونْ وعشقاءْ والمحبِّذاتِ لكلّ الحكايات، المنطرباتِ بجوّ التشاكس الذي شَطَرَ النسوةَ فريقيْن متخاصميْن. ولولةُ ماريّا أكثرُ من مدّات الصوت بالنواح. قلبي يعاتبني أنِ الملهِماتُ لي بحلم السباحة قد وَرَّطْتُهُنَّ بالأذى الذي يلقيْنَهُ واحدة بعد الأخرى. إذنْ عليَّ أن أفعل شيئاً تجاههنّ به أريهنَّ أنني سأتحمّل مسؤولية الحلم من أوّله إلى آخره، ففي ظني أنّ الأوان لذلك لم يفت بعد. التراجعُ أمام الهائجات المعترضات على أشواق الحياة مستحيلٌ من المستحيلات، وإذن لم يبق لي من خيار سوى استفزازهنّ إلى أبعد مدى، وليأتِ بعد ذلك الخلاصُ أو الموت. أصفّق بيديّ حتى يهدأ الجوّ فأرفع صوتي بأنِ الأميرُ الصيدونيُّ لم يَرْضَ بنصحِ الناصحين له وعَتَبِ العاتبات عليه فأسرف في الجهارةِ بتعشّقه لي حتى خاض مباريات الشعر السنوية لمعاهد صيدون وفازت بالجائزة قصيدتُه التي شُغِفَ بها كهنةُ معبد أشمون، والتي فيها الأميرُ يقول:
إلهكِ كان يحبّ النبيذَ ويغزل طيفكِ في المعصرَهْ
بِفَيْضِ السلالِ هَمَسْنَ الجنى ولونِ الدلالِ الذي حيّرَهْ
تمادى عليهِ زمانُ القطافِ فحجَّبَ عنه الذي أضمرَهْ
فما هَمَّهُ فيكِ طولُ انتظارٍ ولا ساءَهُ الشوقُ أو ضجّرَهْ
إلهكِ كان يحبّ النبيذَ ويغزل طيفكِ في المعصرَهْ
إلهكِ كان يحبّ النبيذَ ويومَ التقينا على المعصرَهْ
ترقرقَ في مقلتيْهِ احْتِمالٌ لسرٍّ جهلتُ أنا مصدرَهْ
شَقَقْتِ عليه غلالَ الدموعِ فيا حُسْنَ حُسْنِ الذي أبصرَهْ
على وجنتيكِ اندلاعُ الشقيقِ وفـي شفتيكِ دمُ المجزرَهْ
تملّى ومـالَ ومـن دهشـةِ الخَلْـقِ غنّى وبـاحَ بمـا قدَّرَهْ :
خلقتُكَ من عنصرٍ طائشٍ يذوبُ إذا ما التقى عنصرَهْ
فَسَرِّحْ وجَرِّحْ به مقلتيكَ وسَبِّحْ بحمدِ الذي صَوّرَهْ
طفح الكيلُ، يا ابنةَ فيثاغورَسْ، فقصيدةُ أميرِكِ الفينيقيّ تَطَاوُلٌ على إله الساميين الذي يحرّم الخمرةَ في عقيدتنا ويحسب شِرْكاً لا يُغْتَفَرُ أيّةَ محاولةٍ لابنِ آدم لمساواة نفسه بخالقه أو لمشاركته في أداء فعل من الأفعال. تقولها واحدةٌ من المحجّبات بينا ينهال عليَّ الغضبُ الساطعُ من الأيدي والأقدام وحتى الرؤوس التي لارتطامها برأسي صوتٌ تسمعه لأوّل مرة أذناي. الراهبةُ تُعْوِلُ أنْ دَعْنَها، بحقّ إلهكنّ دَعْنَها، فالشِّعْرُ حكايةُ الخيال للخيال. المنتشياتُ بشِعْرِ الأمير يُحْكِمْنَ قبضاتهنّ على شعور النسوة الهائجات عليّ. الصراخُ الآن أكثف من الغبشة والأنفاسُ الحامياتُ تضيّق عليَّ الحلقةَ وتضيّقها حتّى لا مُتَنَفَّسَ لي إلاّ شهيق الملتحِمات بي وزفيرهنّ. الزفيرُ تعبق به الغبشةُ فيكثّف أحدُهما الآخرَ، فعيناي تبهت الصورةُ فيهما شيئاً فشيئاً، وأنفاسي يقصر مداها، ثم تتلاحق، ثم تتقطّع، ثم أسمع الصوتَ الذي فوقي يقول أنْ فَطِّسوها وصاحباتها بأيديكنّ وحُجُبِكُنَّ قبل أن يسمّمْنَ بأبخرة ذاكرتهنّ أجواءَ القيامة، ثم تحوّم حولي ولولاتٌ كأنها أصواتٌ لماريّا وعشقاءْ وهتونْ والراهبة، ثم كأنّي أفتح فمي لأقول لهنّ، ثم كأني أقول لهنّ، ثم كأني، كأني.
أبو العلاء
تحت غلالات السُّحُبِ التي أخذت تنتشر فوقنا وفوق طبقات الغبشة، ينحني دانتي عليَّ ويتوسّل إليّ أن أنعطف معه إلى حيث النسوةُ توقّفْنَ ليتقاتَلْنَ في سرٍّ من أسرار قلوبهنّ، فأشدّ على يده وأقول القيامةُ منحتْني مثل الذي منحتْكَ من الحَدْسِ بالشيء آنَ حدوثِهِ في أي طرف من أطراف الأرض ما بين نهر الأوّلي وتلة سينيق، ولذلك فلن ننعطف إلى أيّة جهة قد تحول دون وصولنا إلى التلة في الموعدِ الذي لعلّ الغيب رتّبه لنا مع التلة من أوّل ما كان الغيبُ. صوتُه المستجيرُ في أذني أنْ دامو وجريسْ وماريّا وهتونْ وعشقاءْ وصاحباتٌ لهنّ يَنالهنّ الأذى الآن ويكاد يُقْضَى عليهنّ، فبالذي منحكَ نعمةَ البصر لترى في المرأة أعجوبةَ الخلقِ تعالَ معي ننعطفْ إليهنّ فننقذْهُنَّ فلعلّ تلك هي آخر مهمّاتنا قبل طلب الشفاعة وبدء الحساب. الرجاءُ نصفُ صوتِهِ ونصفُهُ الآخرُ العَتَبُ، فلا أدري إلى أيّهما أستجيب. قلبي يتردّد في الحيرة التي تقرّبني من الشك المقدارَ الذي تقرّبنيهِ من اليقين. يعود إلى استفزاز خيالي بأنْ كيف نقابل اللهَ إذا تخلَّيْنا عن اللواتي اللهُ أبدعهنّ ليفتن بهنّ عيوننا وقلوبنا وعقولنا، فهنّ الإمتلاءُ الذي به تُلغى كلُّ فراغاتنا والمعاني التي تطرد العَدَمَ من كلماتنا ؟ بل كيف نقابل اللهَ، أقول له، إذا نحن لبَّيْنا نداء اللحظة وفُتِنَّا بها عن اللحظة التي تنتظرنا هنالك عند أوّل التلة ؟ وما يدرينا أيّ اللحظتيْن هي الأهمّ في حساب الغيب لنصرف همّنا عن سواها إليها ؟
ضجيجُ النسوةِ يعلو وإن كنّا لا نراهنّ. دامو، يصرخ دانتي، كأنما أُغْشِيَ عليها، فيا اللهُ، يا اللهُ، هل يُغشى كذلك على بياتريسْ، المتحجّبةِ بها، أم أنّ الأمر غير ما يراه خيالي ؟ أشدّ على يده لأطمئنه أنّ كليهما بخير وأنّ ما يجري بينهنّ وبينهنّ إنْ هو إلاّ الغيرةُ النسويّةُ التي تتخذ من الدِّين حجاباً ومن السياسةِ حجاباً ومن الثقافةِ حجاباً، كل ذلك حتى تطلق نفسها إلى العلن وتستنفد طاقتها فترتاح بذلك النفسُ وتستردّ اتّزانَها وتماسكَها. دانتي يعجب ممّا يدور في خاطري ويكاد يسألني أنْ متى أتاحت لكَ الدنيا أن تتعرّف إلى خفايا النّفْسِ النسويّة، يا أبا العلاء ؟ ولكنه لا يفعل. ويكاد أن يحاصرني بتهكّمه القديم أنْ أرأيتَ كيف أنكم، معشرَ المسلمين، يتجلى لخيالكم الحجابُ في كل شيء ؟ ولكنه كذلك لا يفعل. هو يعجب ويصمتُ وأنا أصمتُ ولا أعجب، لأنني أعرف علّةَ خواطري، فإنْ أنا الآن إلاّ المكابِرُ على نفسه لأنه سبق له وتخلّى عن حقّه في احتياز الجائزة الأولى من جوائز مباراة السباحة ما لم تَتَسَاوَ في الحُسْنِ كلُّ النساء فتكون كلُّ امرأةٍ الجائزةَ الأولى لكلٍّ من المتسابقين الرجال. أخاطب ذلك الذي فيَّ يشترط عَدْلَ المساواةِ لسواه أنِ الراهبةُ بحاجةٍ إليّ الآن، أفتجوز المكابرةُ على حساب المُحَبِّ، والمُحَبُّ هي التي اختصّ اللهُ بها عينيَّ فانفتحتا عليها وامتلأتا بها دون سائر نسوة الدنيا والآخرة ؟ وما الكبرياءُ، وضيفُ القيامة يتوسّل إليَّ ويكاد يتهافت بعضُهُ على بعض لأمضي معه لإنقاذ المتّقِدِ بها خيالُهُ ؟ المكابِرُ الذي فيَّ يشرح لي أنّ دانتي يختار ألاّ يذهب إليها بنفسه، وحيداً واحداً أحداً، ليخلّصها من الأذى اللاحق بها لأنه يخشى أن يثير حضورُه بين المتحجّبات ونصيراتهنّ الحساسياتِ الطائفيةَ والعرقيّةَ، والشرقيّةَ/ الغربيّةَ، وهنّ في الحالة التي هنّ فيها من الهيجان الأعمى، ويتمادى المكابِرُ فيشير عليَّ أن أعدل عن أية خطّة لا تعجّل بنا نحو تلة سينيق، فهنالك هنالك الفتنةُ الكبرى، فتنةُ الخلاصِ، التي تنتظر الحشد كله والتي قد تعطف رأيَ الغيب في آخر المطاف إلى الرأي المتمثّل في قولي:
فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا
إذا ما الحشدُ اجتاز المحنة ولم يسقط فيها كما سقط في مثيلاتها آباءٌ لنا وجدود. دانتي يلطم صدره كالمجنون والصرخةُ تشقّ قلبه وحنجرته أنْ أمكتوبٌ عليّ أن أظلّ في حيّز الحلم، فما إن أقترب منها حتى أضيّعها ؟ في كتاب الفردوس تركتْني واختفتْ لا أعرف أين، ومن أوّل القيامة تحجّبتْ عنّي بسواها لأظل ألحق بها ولا ألقاها، والآنَ مسافةُ الغضبِ تنأى بها عنّي، فمتى تنكسر من حولي دائرةُ الحلم، يا إله الساميّين، إنْ كان ما نحن فيه القيامةَ الموعودةَ حقّاً وليس حلماً يعيشُهُ خيالُ شاعرٍ، شأنَ الحلمِ الذي عاشه مرةً خيالي والحلمِ الذي عاشه قبلي خيالُ أبي العلاء ؟
قلبي لا تزيده فتنةُ الكلمات إلاّ حيرةً واضطراباً.
بين عدالةِ الرغبةِ التي نقطفها انفراداً والرغبةِ في عدالةٍ تقطف لنفسها كلَّ الكائنات التي لم تختر في أصل الوجود وجوداً لها أو عَدَماً، بين هذه وتلك أتشبّث بدانتي أن يقف معي، مرابطاً مثلي للغيب، رَصَداً مثلي عليه، فالمعارك التي خضناها كنّا في رسالتي وفي كوميدياه، التي كان شرحها لي وأسهب في مسيرة الأربعين سنة حتى لكأني قرأتُها مرّات ومرّات، المعاركُ الشعريةُ والنثريةُ تلك لم تكن إلاّ محاولاتٍ لنا في استكناه التجربة البشرية والانتفاضِ على نقائص الخَلْقِ فيها بجرِّ البعض إلى فنونٍ من التعذيب وكأنّ خضوعهم لها كان سيغيّر مسارَ الكون أو سيمنح فكرةَ الوجود معنى أوسع ممّا منحه إيّاه إلهُ الساميّين. شيءٌ فيَّ يحدّثني بأنّ الوجود بحدّ ذاته، إنْ لم يكنْ هفوةً من هفوات الغيب، فهو بكل نوازعه وتضارباته القيمةُ والمعنى اللذان خارجهما لا ينبغي أن تنبت فكرةٌ للعدلِ الذي يفتّتُ ويجزّيءُ ويصنّفُ ويقيّم وعلى أساس ذلك يعاقب ويثيب، وكأنّما الخاصّةُ من خصائص الوجود لها في الأصل قيمةٌ ومعنى خارج سياق التناقض والتضارب والتلاطم والتلاحم الذي يجعل منها كلّها كلاًّ حيّاً فريداً.
لم تعد غريبةً عني هذه الأفكار التي كانت تقضّ مضجعي كلّما خطرتْ لي في زمن التأملات الأرضية والتي كانت ظلالُها تتسرّب إلى شعري ونثري حتى مسحتْ أدبي كلَّه بتشنّجات العقل والروح والحواسّ الأربع وحجرتْ على كلماتي بين ضفّتيْ الشك واليقين أبداً أبداً أبداً، لم تعد غريبةً عنّي هذه الأفكار لأنّ نعمةَ البصر التي أَرَتْني على الوجوه والأجسام، لأربعين سنة، معالـمَ الآلامِ التي كنتُ أتخيّلها يعيشها الناسُ ولا أراها، أجل نعمةُ البصر التي أرتْني وحَّدتْني بالخلْقِ أكثر فأكثر وأسكنتْهم جوارحي، فكلُّهُمُ الآنَ أنا، وأنا الظاهرُ والباطنُ لكلّ ما بدا منهم وكلّ ما انطوى.
دانتي يتحرّى خواطري في ما أقول وفي ما أهجس به بلا قول، وسخطُهُ الصامتُ عليَّ لا تزال تؤجّجه في كل كيانه الأشواقُ التي تشدّه إلى حيث تعترك النسوةُ. إنْ كان حلماً ما نحن فيه، أقول له، فلا بأس علينا إن بقينا حيث نحن من المسيرة أو انعطفْنا إلى حيث هنّ، لأنّ دفع الأذى عنهنّ سيكون مادّةً من مواد الحلم، أي وهماً من أوهام الخيال، وإماطةَ الأذى اللاحقِ بهنّ بوهمِ استنقاذنا لهنّ لن يكون إلاّ إسرافاً في تعاطينا مع عبث الأشياء. يقول وإنْ كانَ ما نحن فيه القيامةَ الموعودةَ حقّاً فكيف نقعد عن نصرتهنّ ؟ أقول لن نقعد نحن في كلتا الحالتيْن، وإنما المسيرُ قَدَرُنا، فإن تكن هي القيامة فنصرتُنا للخلق كله سيشملهنّ في آخر المطاف. منطقي لا يروق له فيئنّ ويئنّ وقد تجنّب النظر إليّ. أتحرّى خواطره التي لا يبوح بها فإذا هي اتّهامٌ لي باتّخاذ منطق العقل حجاباً أخبّيء به عن الناس وعنّي السرَّ الذي وراء تجنّبي للقاء جريسْ، التي كانت أوَّلَ ولعٍ لي بالأنوثة في زمن القيامة، ودامو، التي افْتُتِنْتُ بها في غفلةٍ عن نفسي ساعةَ فزتُ عليهم بالسباحة وخُيِّرْتُ أيّ النساء آخذها جائزةً لنفسي. السرُّ، تلحّ عليه خواطرُهُ، هو الخوفُ الذي استجدَّ عليّ باكتسابي لنعمة البصر، فإنْ هو إلاّ الهوْلُ يتراءى لي كلّما تصوّرتُ نفسي أهمّ بمغازلة مَنْ قد ستكون منهنّ نصيبـي في الجنّة، فأنا أنظر إليها إذ أهمّ بها، وهي تنظر إليّ بعينين مفتّحتيْن وترى تعابير وجهي التي لا أعرفها وحركاتي التي قد لا تكون ممّا تتمناه المرأة في سلوك رجلها. خوفي من خوض التجربة بعينين مفتّحتيْن على اثنتيْن مثلهما مفتّحتيْن هو، في ظنّ دانتي، العلّة الخفيّة وراء تذرّعي بأفضليّة التوجّه نحو الفتنة التي تنتظر المسيرة كلها عند أوّل التلة وبضرورة يقظتنا الدائبة لكل ما يجري وما قد يجري هناك حتى لا نرسب في الامتحان الذي ربّما يدبّره لنا مكرُ الغيب قبل نهوضنا إلى السيدة العذراء لطلب الشفاعة. يُلْزِمُ نفسَه بالأنين دانتي وينجح، لا في لفتي عن غايتي، وقد وطّنتُ نفسي عليها ضارباً بخواطره عرض الغبشة التي فوقها لا تزال تنعقد غلالاتُ السُّحُبِ، بل في تذكيري بكتابي الذي بعنوان لزوم ما لا يلزم. بل أنينُهُ ينجح آخر الأمر بلفت الأنظار إلينا فيلتمّ علينا من أهل المسيرة كثيرون ممّن أعرف وممّن لا أعرف.
العيونُ المستفسرةُ عن سبب الأنين تنصرف عنّا حالما العلاّمةُ الشيعيُّ يرفع يده إلى ما فوق مستوى عمامته ثم يعطف كَفَّهُ يساراً لينعطف الحشدُ معه إلى يسار الطريق. فجأةً نحن الآن نصعّد شرقاً شرقاً في طريق فرعيّة تمتد أمامنا بين سياجيْ بستانيْن يقول صوتٌ ورائي باللهجة البلديّة إنهما من أشهر بساتين البرتقال والحامض في سقي صيدا. دانتي عقلُهُ في غير الشجر والثمر، ولكي أسحبه من نفسه أشير إليه أن يمدّ عينيه إلى آخر الطريق ثم يرفعهما إلى حيث الآن تبدو واضحةً معالمُ تمثال السيدة العذراء. أكرّر الإشارة إليه مرة إثر مرة حتى يستجيب. أقول لعل العذراء هي الكائن الوحيد الذي نجا من لوثة المشاحنات التي عصفتْ بالديانات الساميّة، لآلاف من السنوات، وأسوق له الدليلَ هذا الحشدَ الذي يمضي مسلموه ومسيحيّوهُ والقلّةُ اليهودية التي فيه، وكأنما في توافقٍ صامت، نحو تلّتها هي، التلّةِ التي وحّدت النوايا ونهضتْ، كما يبدو، قِبْلَةً جديدةً لكل العيون والقلوب التي كانت تنازعتْ ولاءَها مطارحُ متناثرةٌ من أطراف الأرض. يقول رؤياكَ جميلةٌ إن تكنْ هذه القيامةَ حقّاً. أضحك وأقول أصابتْكَ عدوى الشكّ منّي، ولكن حتى وإن كنّا في قبضةِ حلمٍ لشاعرٍ يصوغ لنا الأحداثَ على هواه، أفلا تظنّ أنه أسبغ على فكرة القيامة ملامحَ كانت فاتتْني وفاتتْكَ حينما أمليتُ رسالةَ الغفرانِ ونظمتَ الكوميديا الإلهيّة ؟ يقول مهلكَ، مهلكَ، يا أبا العلاء، لا تحدّثْني في ما فاتني وفاتكَ، فالحشد لمّا ينتهِ إلى مقصده بعد، ودونه ودون السيدة الفتنةُ التي ألفَ مرّةٍ أكّدتَ لنا أنها تنتظرنا عند أوّل التلة وسمّيتَها لنا الفتنةَ الكبرى وفتنةَ الخلاص. أرتاح لإستجابته إلى الحوار الذي استنقذه ولو إلى حين من هاجس دامو وبياتريسْ والنساء الأخر، ولكن يقلقني فجأةً تذكيرُه لي بالفتنة التي نتّجه الآن نحوها والتي لا نحن ندري طبيعتها ولا هي تُمَسِّكُنا بطرفها الأوّل أو بطرفها الأخير. نمضي إليها مسلّمين أمرنا إلى الحدس الذي هو جزءٌ من الغيب، فعسى ألاّ يمكر الغيبُ بنا فننتهي إلى التلّة انتهاءَ الظاميء إلى يقين السراب.
الحماسُ يستبدّ بالعيون فتمتد أمامنا إلى آخر الطريق الطالع بنا إلى جهة الشرق، وتستبدّ اللهفةُ بالقلوب فتنهض إلى وجه العذراء تتحرّى المسوَّفَ لها في تلكما العينين فلا تلقى فيهما سوى الإنتظار الذي لعله لوحيدها الغائب عنها أو لكل الخلق الوافدين عليها طلباً للشفاعة، أو له ولهم في آنٍ معاً أجمعين. العلاّمةُ الشيعيّ يهمس في أذن المونسينيور حدّاد شيئاً فيتبسّم الأخيرُ ويهزّ رأسه هزّةَ الموافق له، ثم يلتفت إلى دانتي ويقول بصوت خفيض أنْ أَحْرَجَنا في الدنيا ما فعلتَه بنبيّ المسلمين في كتاب الجحيم، وها هي ذكرى كتابكَ تحرجنا في القيامة فلا أدري ما أقول لمعارفي، من الملّة الأخرى، ممّن جاهدوا مثلي لمصالحة الكتب السماوية، أو بالأحرى لمصالحة تابعيها. يقول دانتي ولكنّ كتابي كان يصوّر ما كان شائعاً من تصوّرات الكنيسة في زمني لمصير الذين لم يفوزوا بنعمة المعمودية. المونسينيور حدّاد يهمس في أذن دانتي شيئاً فينتفض الأخير أنْ أبداً أبداً لا يجوز للشاعر أن يعتذر عن رؤياه الشعرية لأزمة الوجود الإنساني. المونسينيور يحاوره بأنْ من المستغرَبِ أنّ الرؤيا الشعرية لم تَتَّخِذْ موقفَ المحاوِرِ لرؤيا الكنيسة في تحديد مصير البشر. دانتي يصرّ على أنّ البنيوية اللاهوتية هي التي فرضتْ على كتابه بنيويةً تراتبيّةً لمصائر البشر وأنه لو اختار لكتابه الإنفلاتَ الإنسيابيَّ الذي انساق به خيالُ أبي العلاء وهو يملي على كاتبه صفحات رسالة الغفران لربما كان نجا من جحيمه كثيرٌ من الذين كانت حياتهم ومآثرهم قد أثارت في نفسه الإعجاب والتقدير. المونسينيور يتلطّف بالشرح أنّ مثل هذا الكلام يجوز في حوارية نقدية وليس في هذا المكان والزمان حيث المسلمون توحّدتْ قلوبُهم وقلوبُنا في توجّهنا جميعاً نحو السيدة العذراءِ، العذراءِ ذاتها التي تولّتْ رعايتَكَ، أيها العزيز دانتي، وأعانتكَ في ارتقائكَ الطبقات العليا من كتابك الفردوس بعدما اختفتْ بياتريسْ من حياتك، ربما إلى الأبد. إنّ محبة هؤلاء الناس للسيدة العذراء بعفوية ثقافتهم القرآنية، يتابع المونسينيور، هو موقف لاهوتيّ وإنسانيّ في آنٍ معاً، وهو بالذات ما يضاعف حَرَجَنا. كشاعرٍ لا أعتذر لأحد، يقول دانتي، ولكنْ طَمْئِنِ الذين أساء إليهم كتابي عن غير ما قصدٍ منّي أنّ إعجابي بالثقافة الإسلامية ونبيّها ومبدعيها من المفكرين والأدباء لا يرقى إليه الشك، وما الدليل على حريتي الفكرية إلاّ ولعي برسالة الغفران ومصاحبتي لأبي العلاء للأربعين سنة من زمن القيامة. أحشر نفسي بين دانتي والمونسينيور مؤكداً لهما أنّ الإلحاف فـي ما يخوضان فيه يكاد يبلغ حـدّ العبث. العلاّمة الشيعيّ يشير علينا بجدوى الحوار الذي تنتشر ذبذباتُهُ في أرجاء المسيرة ويؤكّد لنا أنّ طمأنةَ العامّة ضمانٌ لأمن القيامة قبل الحساب وبعده. نستمع إليه ونلزم الصمت، فمن أمامنا بخطوات يرتفع صوتُ الصيداوي أبي طاهر أنْ ها قد بلغنا الجسر الضيّق فوق نهر سينيق فترفّقوا في العبور عليه، وأنا دليلكم إلى المقبرة التي في أسفل التلّة. الناس، ربما كعادة الناس، لا يترفّقون بأنفسهم ولا بسواهم وهم يحشرون أقدامهم على المعبر وعنهم تندو الآهةُ والشهقةُ والصرخةُ وكأنّ كلَّ نقلةِ قدمٍ احتمالٌ لِهُوِيٍّ عن يمين أو لِهُوِيٍّ عن شمال في قلب النهر الزاخر بصوت الموج الذي أسمعه ولا أراه. أبو طاهر يتقدّمنا حتى يبلغ بنا الإنعطافةَ الأخيرة لمسيرتنا، على حدّ قوله، وهنالك يحدث شيءٌ ليس في حسبان أحد فترسو في مواطئها أقدامُنا وننظر إلى حيث ينظر، فإذا بحشدٍ يخرج علينا من خلف سور حجريّ لجهة الشمال ويسعى نحونا حثيثاً حثيثاً فيرفع أبو طاهر صوته أنْ أبشروا فهذا ياسر عرفات يخرج من مخيّم عين الحلوة بصحبة شهداء الثورة الفلسطينية. لم أسمع بهذا الرجل من قبل ولكنهم يخبرونني أنّه كان أوّل من رفع السلاح في وجه يهود إسرائيل وقاتلهم حتى استشهد. الله أكبر، الله أكبر، يرتفع هتافُ الهاتفين من كلّ صوب، وإذ بعرفات ترتفع به الأيدي إلى ما فوق الرؤوس. من جهة الجسر يدوّي هتافٌ آخر فنلتفتُ فإذا الحشد الذي نحن منه يرفع على الأكتاف رجلاً عَفِيَّ الجسم على شيء أشبه بالغناءِ البلديِّ أنْ رَيِّسْنا إِنْتي يا رَيِّسْ، والرَّيِّسْ وحدكْ يا رَيِّسْ. وهذا الرجل، يخبرونني، كذلك كان دافع عن فقراء صيدون واستشهد لصوْن كرامة المدينة. العلاّمةُ الشيعيُّ لأوّل مرّة يخونه هدوءُهُ فيرتقي بخفّةِ فتى سوراً حجريّاً للبستان الذي عن يميننا ويقف هناك صارخاً بالحشديْن من الناس أنْ تبّاً لكم ثم تبّاً، فلقد حملتُم معكم إلى زمن القيامة ما تعوّدتموه من احتفالات دنياكم. ثم ما تظنّون العذراء فاعلةً بكم حينما تنتهون إليها، وقد رأتكم، كما تراكم الآن، تستهينون بحقّ القيامة عليكم بالخشوع والورع ؟ أتحسبونها مُسْبِغَةً عليكم الشفاعةَ التي إليها تتلهّفون ؟
الرجلان المحمولان تتطأطأ قامتاهما ولا يلبثان أن يضيعا من عينيّ في زحمة الرجال. العلاّمة تساعده الأيدي الممدودة إليه فيهبط من على حافة سور البستان، ولا نرانا إلاّ نندفع صوب بوابة المقبرة، دليلُنا إليها يدُ أبي طاهر تحثّنا على المضيّ وراءه قدماً قدماً. حَشْرَتُنا على الجسر الضيّق أهون علينا من حشرةِ بوابة المقبرة. الآنَ الحشدُ أعظم. تحت شجرات الكينا المشرئبات على جانبيْ الممرّ الداخليّ ينطلق ياسر عرفات وصحبه ثم يميلون يميناً ويأخذ الشهداءُ كلٌّ يشير إلى الحفرة التي كانت له قبراً بين الشهادة والبعث، وعرفات يهزّ برأسه ويصافحهم ويقبّلهم بحرارة اللقاء بعد طول غياب. أبو طاهر ينعطف بنا يساراً فإذا نحن على بعدٍ يسيرٍ من القبور التي، يخبرنا أبو طاهر، كان تبرّع بها عرفات للصيداويين الذين كانوا التزموا بالخطّ الوطني أيام صراعه مع إسرائيل ومع الدولة اللبنانية. بعفويةِ العادةِ تنبسط الأكفُّ وتقرأ الأفواهُ سورةَ الفاتحة على أرواح الذين سكنوا هذه القبور والذين بعضُهم الآن بيننا، ومَنْ منهم يميّز قبره يتوقف عنده ويتأمله في مهابة غريبة ثم يقرأ الفاتحة من جديد على روحه وكأنه، هو بذاته، لا يزال هنالك في داخل القبر.
من هذا المشهد العجيب ينتشلنا صوتٌ كأنه هابطٌ علينا من السماء، وما إن تلتوي أعناقُنا إلى الوراء حتى يخطف أبصارَنا منظرٌ لكائنٍ على هيئة البشر، تحفّ به أجنحةٌ من النور المصفّى لكائناتٍ لا أحسبها إلاّ الملائكة. الموكبُ السماويُّ يهبط الآن شيئاً فشيئاً حتى يكاد يمسّ التراب، هنالك عند مربض التلّة، ثم فجأة ينتصب ملءَ العيون والقلوب ذلك الذي تهتف باسمه الحناجرُ والأفئدةُ أنْ إنّه المسيح بن مريم، حلّ بيننا في مجيئه الثاني، بشارةً للخلاص. الأجنحةُ النورانيةُ ترتفع في الفضاء وتغيب. وحده يقف هناك منقّلاً عينيه بين العذراء على قمة التلّة وبيننا، نحن الذين تتطاير أقدامُنا فوق حُفَرِ القبور المنبوشة وفوق تلاّت التراب في اندفاعنا المجنون نحوه. ثم تنهمر عليه من جانبيْن مَخْفِيَّيْن من جوانب التلّة عصبةٌ من الرجال أو الأشباح، مدجّجين برماحٍ من القصب وغصون الشجر، مُثَبَّتَةٍ في رؤوسها الأحجارُ المسنونةُ. المسافة بين الرماح وبينه تتضاءل، وتتضاءل كذلك المسافةُ التي بيننا وبينه. صوت أبي طاهر يهتف بأربعة أسماء فينخطف من الحشد شبّانٌ أربعة تحوّطهم هالاتُ النور، وفي أقلّ من طرفة العين إذا هم مثل الطوق حول السيد المسيح يتلقّون عنه الطعن والضرب وتسيل منهم الدماء فلا تختلط بتراب الأرض. إذن هي الفتنة التي هبطتْ علينا قبل أن نهبط عليها. العلاّمةُ ودانتي وأنا ننجرف بقوّة السيل البشريّ ونحيط بثالث أو رابع الدوائر التي تحيط بالمسيح، وما هي حتى تحيط بنا دائرةٌ من الرجال تحيط بها دائرةٌ فدائرةٌ فدائرةٌ، فكلُّ واحدة للأخرى سياجٌ من الأيدي والأكتاف والرؤوس والعيون. عصبةُ الشرّ اختفتْ عن ناظريّ. الكلماتُ المنسربةُ من قلب الدائرة الصغرى في الوسط توسوس لنا بأنّ أفراد العصبة أُسِروا واعترف قائدُهم آيينْ شارونْ بتدبير المكيدة للنيل من المسيح الذي كان هرب منهم بجسده في الزمن الأوّل بعدما صلبوه ودفنوه واعداً تابعيه بالمجيء الثاني لتخليصهم قبل بدء الحساب. الهمهماتُ كذلك تشي لنا بأنّ ديفيدْ مردخايْ، صديق السلاح لآيينْ شارونْ، رفض التوسّط له وصاح به أنِ النصرُ اليوم لقوّةِ الحكمةِ لا لحكمةِ القوّةِ، وتركه للأقدام تمرّغه في التراب رغم رجاء المسيح أن يصفحوا عنه لأنه بالشفقة أجدر. تتّضح الصورة كلها حينما تتقاذف الأفواهُ أسماءَ بقية أفراد العصبة، فيهوذا نفسه، وشيمون أَزَرا، من ضبّاط الجيش الإسرائيلي، وإدْجَارْ عِضاهْ الرّوحْ، من المسيحيين الذين خانوا أنفسهم، ثلاثتُهم عملوا تحت إمرة آيينْ الذي أخفى عنهم اسم ضالّتهم حتى ظهر لهم المسيحُ فأمرهم بالانقضاض عليه وقَتْلِهِ. اللحظة أعجب من أن تصفها الكلمات، ولكنّ فرحتي تعظم لمرأى الخوري حنّا والعلاّمة الشيعيّ ودانتي والطاحِشْ بن عُتَيْبْ وياسر عرفات وديفيدْ مردخايْ وجدّه وجابر عبيد الله والشيخ حسن خالد والشيخ صبحي الصالح والقاضي حليم تقي الدين وسعيد عقل، إذ كلٌّ منهم ثابتٌ في موقعه من الدائرة التي هو فيها، رَصَداً كلُّهم على الشرّ من أية ناحية أتى. هَلِّلويا ! يصرخ دانتي، لقد فزنا في فتنة الخلاص، يا أبا العلاء، وعمّا قريب ندخل الفردوس التي ستجمعني ببياتريسْ، محجَّبةً هذه المرة بلا أحد، فلا هي تفارقني ولا أنا أفارقها ما دام الخلدُ قائماً في بال الله. أكاد أمازحه بأنْ صدقْتَ إنْ لم يكن ما نحن فيه حلماً، ولكنّ كياني كله ينخطف مني وأنا أرى المسيح يرتقي التلّة لملاقاة أمّه والناسُ خلفه مهرجانٌ من القامات الوهّاجة بالفرح. أمشي في المهرجان، وشيءٌ في داخلي يوسوس لي أن أعجّل لألحق بالسيّد وهو في حضن أمه لا يزال فألحّ عليهما أن يعفياني من الشفاعة والغفران ما لم تعمّ النعمةُ كلَّ الخاطئين والتائبين والغافلين فلعلها تتحقّق بذلك الأمنيةُ التي جرتْ مرّةً على لساني أنْ :
فلا هَطَلَتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا
الزحمةُ تعيق سرعتي في الصعود إلى قمة التلّة لأصل قبل فوات الأوان، ولكنّ السُّحُبَ التي كانت قد تكثّفتْ فوق أطباق الغبشة تأذن للقطرات الهفيفات أن تجد طريقها إلى الرؤوسِ فالعيونِ فالخدودِ فالشفاهِ فالأنفاسِ التي كأنما تتبلّل ببلالة الرجاء.
الفصل الرابع
زكيّة الجُمَري
أجمل ما في القيامة أنها تجمع ما كانت فرّقتْه الحياةُ، وأجمل ما في الحياة كان حلمي بهذه القيامة التي أرجعتْ ليَ المسافرَ وأحضرتِ الغائبَ وقرّبتْ مني بناتي اللواتي كنّ نأَى الزواجُ بهنّ عني فهنّ إمّا في المدينة القديمة وإمّا في البساتين التي لا تحاذي البستان الذي قضّيتُ فيه كلّ عمري، كما جمعتْني بيحيى وجهّار، وقد سَكَنَ الشجارُ القديم بينهما، فهما من أوّل البعث في ألفةٍ كنتُ أتمناها لهما زمن الشباب. لأربعين سنة وأنا أبحث عن الخوف في قلبي فلا أجده، ولأربعين سنة وأنا أتعرّف على أحفادي وحفيداتي الذين واللواتي لم يكونوا ويكنّ في حياتي وأكنكن عليهم وعليهنّ وأَعِدُ الجميع بأنْ أسخّن الماء في الدست وأحمّمهم وأحمّمهنّ حينما يأذن الله لنا بدخول الجنة فلا ندخلها إلاّ بالطهارة لنصلّي لله ركعتيْ الشكرِ اللتين كنتُ حلمتُ بصلاتهما في الدنيا معهم ومعهنّ. لم يخب ظني بالقيامة لأنّ الله كان حلمي، ولقد كان تراءى لي، رغم خسارات الدنيا، أنه سيكون جميلاً وعطوفاً وغافراً ومُطَمْئِناً فوجدتُ كلَّ ذلك قبل أن ألقاه، فعجبي من الخوف والهلع والندم وما رأيتُه يطرأ على أهل البعث من مشاعر الوحشة والغربة والتخلّي، عجبي من كلّ ذلك لا ينقضي، فأشكر الله على نعمائه وأتوسل إليه أن تعمّ رأفته الخلقَ أجمعين.
الجُمَرِيّونَ آخرُ المسيرةِ اليومَ ولذلك فهم أَمِنوا شرَّ الزحمةِ والعجلة. ثم إنّ قلبي لم يطاوعني أن أتقدّمهم في صعودنا التلّةَ نحو السيدة العذراء فتركتُهم يتقدمونني، بل رغّبتُهم في ذلك بحجّة أنني أريد أن أعدّهم وأمرّن بهم وبهنّ ذاكرتي، وفي سرّي كنتُ أضمر أن أراقبهم يصعدون الواحد تلو الآخر، حتى إذا ما قصّر حفيدٌ لي منهم أو حفيدةٌ في الوصول إلى قمة التلة ولم يَفُزْ بشفاعة العذراء، أُمْسِكُ بيده أنا وأعينه على نقل خطواته حتى نصل معاً فأتضرّع للأمّ البتول أن تكون قد شملتْ بعطفها الخاطئين والتائبين والغافلين والمؤمنين من أبنائي وبناتي وأحفادي وحفيداتي فلا يُنْسى خارج سياج الرأفة من سلالتي أحدٌ قبل بدء الحساب. ولقد بَلَغَ منهم المنتهى مَنْ بَلَغَ، ومنْ تبقّى منهم فها أنذا أراهم مثل القافلة يلحق بعضهم ببعض، فإسماعيلُ أوّلُهم أمامي، وأمامه طارقٌ، وأمام طارق وسيمٌ، فلؤيٌّ، فعديٌّ، فكسّابٌ، فسميّةُ، فنينا، فسامحٌ، فسميحةٌ، فجهّارٌ، الذي أظنّه انتهتْ به قدماه إلى القمة، ولعله اللحظةَ يتهيّأ للتوسّل إلى السيّدة العذراء.
في تؤدةِ المطمئِنِّ أرفع قدميّ وأحطّهما، فالمشوارُ الأخير من مشاوير القيامة ابتدأ لينتهي عمّا قريب، وما رحرحةُ القلب إلاّ من يقيني أنني الآن سيّجْتُهم في أسفل التلة بأمومةِ جدّتهم لهم كما سيّجَتْهم في أعلى التلة البتولُ بأمومةِ الطّهْرِ التي بها فضّلها اللهُ على نساء العالمين. الأمومةُ الأمومةُ، إن لم تكن البركةَ والشفاعةَ مبذولتيْن بسخاء نهر الأوّلي الذي يصّب كلَّ مياهه في البحرِ المشغوف من أوّل الزمن بمياه الأنهار، فماذا ثم ماذا تُراها تكون ؟ والدنيا التي هي أمٌّ، هل عساها أن تكون في الآخرة غير ما كانت في الدنيا ؟ وهل البدايةُ التي هي الرَّحِمُ إلاّ النهايةُ التي هي القلبُ الذي هو رحمُ الرأفةِ والتغاضي والغفران ؟ ثم أليس كلّ ذلك من صفات الله الذي كان في الدنيا حلمي ؟ فالحمد لله أنني صَدَّقْتُ الحلمَ فَصَدَقَني وعدَهُ فقضيتُ الأربعين سنة من زمن القيامة أبحث في قلبي عن الخوف ولا أجده.
حينما تنتهي بي قدماي إلى قمة التلّة وتنتهي لهفةُ أمومتي إلى سابغ أمومتها سأذكر لها البستانَ الذي تزوّجتُ فيه البدوي وولدتُ فيه كل أولادنا والذي فيه أمضيتُ شيخوختي حتى أخذني الموتُ، فلعل قلبها يرقّ لذكرى موقدي ودستِ الماء الذي كنتُ أسخّن فيه الماء لأحمّم أولادي وأولاد أولادي بعدهم، بل إنه يرقّ الآن، فها هي تلمع قطراتُ الرأفةِ فيه كحبّات الندى، وها هي حولي تطوف الطيوفُ، فعاصفةُ الدجاجِ والصيصانِ تلفّني وتلتفّ بي وتملأ الجوَّ القأقآتُ ورفرفةُ الأجنحة، وها هي شتلاتُ الباذنجان والكوسا والبندورة تزيّن ألوانُها الغبشةَ، وتتلوّن الدنيا بالفرفحينة والبقدونس والنعنع والكزبراء والبقلة، ومن فوق رأسي تتدلدل عناقيدُ العنب الشقراء وكأنما من العريشة التي خلف البيت، وتضيء النارُ فجأة من قلب الدخان الطالع من موقدي، ويحاصرني من كلّ الجهات سياجُ الورد وأغصانُ الياسمينة التي فوق طلمبة الماء على البئر العتيقة، ويكاد يختنق الهواءُ برائحة الخبز المنتفخ في قلب الفرن الطينيّ وبفوحةِ القمح المسلوق في الدست وبهرج ومرج الصغار والصغيرات، فيرفّ قلبي هنيهةً أحسّ بعدها أنّ العذراء أدركتْ، بإذن الله، مرادي أنْ لا تحرمْني في الجنة، يا مجيب الدعوات، من الأشياء التي كانت في العيش الأوّل جيرتي فَبُعِثْتُ وبُعثتْ بها كلها ذاكرتي، وإذ بي يتراءى لعينيّ وقلبي أنّ قطرات الدمع من فوقي تنهال عليّ فتلتقي بدمع عينيّ فينغسل بها كلها وجهي فَيَثْلَجُ من حلاوة اللحظة صدري.
إسماعيل
بمثابةِ الصّراطِ العاموديّ هذه التلّةُ، ترتفع من سطح المقبرة في اتجاه السماء لتصلنا بتمثال السيّدة العذراءِ، شفيعةِ البعثِ التي اختارها الغيبُ ليمتحن بها المؤمنين والمؤمنات من أتباع الديانات الإبراهمية الثلاث، فإمّا القبولُ بشفاعتها تمهيداً لشفاعة الرسل والأنبياء والأئمة، باعتبارها أُمّاً بَتوليَّةَ الخلاص، ولأنّ الجنّة تحت أقدام الأمهات، وإمّا السقوطُ في محنة الغيب الذي مِحَنُهُ طفرةٌ من طفراتِ القضاءِ والقَدَرِ. الطاعةُ الامتحانُ اليومَ فمن سَلَّمَ سَلِمَ ومن سَلَكَ عاموديّةَ الصراطِ أُفْضِيَ به إلى الصّراطِ المستقيمِ، الصّراطِ المسطّحِ، الذي عبورُهُ أشبه شيء بالمشي على الحبالِ، فالوقوع عنه وقوعٌ إمّا في جنّةٍ وإمّا في نار. الطاعةُ المحنةُ اليومَ، وما لم يحقّقْه البشرُ في الدنيا من ائتلاف الديانات الثلاث في الدين الواحد ربما سيحققه الغيبُ فتصدق رؤياي القديمةُ في الكمون والإحتواء، فالمسيحيةُ مضمرَةٌ في اليهودية، والإسلامُ المُضْمَرُ في كليْهما انْضَمَرَ فيه كلاهما، فهو الموجةُ التي تنهض من اللّجّةِ، واللّجّةُ التي تنهض بالموجة، وإذنْ فما الكنيسُ، وبعده الكنيسةُ، إلاّ الجامعُ مُضْمَراً في موكب النور، وما أنتِ، أيتها السيدةُ العذراءُ، إلاّ السّلكُ الذي تنسلك به البدايةُ والنهايةُ.
طارق الجُمَري
مَضَتِ الدنيا، مضتْ، وها هي ذي تكاد تنتهي مُدَّةُ القيامةِ التي قبل بدء الحساب، ولم أحقّق حلمي بعد. الكافيتريا التي تمنيتُ إنشاءها على مستديرة كنيسة القناية، والتي كنتُ في الزمن الأوّل أسمّيها كنيسة قيّاعة، بقيتْ ظلاًّ في ذمّة الظلالِ، فلا مجد لي في الأرض ولا سؤدد ولا إسم لي يذكره الناس من بعدي. الذي كان في الدنيا كان، والإرثُ الذي لم أرثه أنا ولا ورثه من إخوتي أحدٌ وظلّتْ سميّةُ يشطّ ريقُها عليه، هو الإرثُ الذي لنا من سميحة وجهّار، وهو الظلُّ الذي بقي بعدنا في ذمّة الظلال.
كافيتريا الجنّة سأسمّي الكافيتريا التي سأنشئها للمؤمنين والمؤمنات، وسيكون لها ثمانيةُ فروعٍ، واحدٌ عند كل بوابةٍ من بوابات الجنّة. وحينما تمرّ سميّة، التي لم تورّثني بلاطةً واحدةً من بيتها، سأشيح بوجهي عنها ولن أدعوها لتناول فنجان قهوة معي صبحاً أو ظهراً أو عصراً أو مساءً، وسأتركها تقطّع أيام الأبديّة في دروب الأبديّة، تتشهّى الشيء ولا تناله كما كان دأبُها في الزمن الأوّل.
وهذه التلّة التي صعودي إلى قمّتها رهنٌ بوجودي بين إسماعيل، من تحتي، ووسيم، من فوقي، إنْ هي إلاّ رحلة العذاب بين الحالم بالطيوف الأثيرية والمختبئ خلف نظارتيه السوداوين، كما كان شأنُهما يوم وفاة سميحة. ومن كانت رحلتُه مثل رحلتي، فأنّى له الوصولُ إلى العذراء لطلب الشفاعة ؟ ثم هبني وصلتُ إليها، فعن أيٍّ من ذنوبي سأسألها أن تُغْضي إن لم يكن عن كوني أخاً لأحدهما وابْنَ خالٍ للآخر؟ فتبّاً ثم تبّاً ثم تبّاً !
وسيم الجُمَري
أصعد التلَّةَ خلف نظارتيَّ السوداويْن فأرى الذين فوقي كلَّهم ولا يرونني، وأختلس النظر إلى الذين تحتي، فإنِ انتبهوا إلى التفاتةِ رأسي إليهم فاتهم أن يميّزوني من سواي. هكذا كنتُ وهكذا الآن أرتاح، خاصةً بعد السنوات العشر التي ختمتُ بها عمري في الدنيا معتصماً بمنـزلي في قيّاعة، لا هرباً من البرغش الذي تجذبه مستوعبات الزبالة في الشوارع، ولكنْ تصميماً مني على اعتزال الناس أجمعين، بدءاً بالجيران وانتهاءً بأقارب زوجتي، وإنِ الإعتزالُ كان في الأصل على نيّة قطع الرَّحِمِ بسبب توافق الإخوة كلهم على التطنيش على قضية المطعم وكأنْ لا حَقَّ لنا بتوكيل محامٍ لإبطال التزوير الذي زَوَّرَهُ لؤيُّ وأبوه عديُّ فيأخذ كل واحد حصّته ونستطعم بطعمةِ الإرث الذي متنا ولم نرثه. كلُّهم سكتوا وكلُّهم طنّشوا فطنّشتُ عليهم جميعاً وهجرتُهم هجراً غير جميل، حتى أنني لم أفتح لأحدهم بابي ولا رددتُ على التلفون بصوتي حتى لا يفاجئني صوتٌ من أصواتهم. ولم يكتشفوا مدى اعتزالي لهم حتى مات كسَّابُ ولم أحضر دفنه ولا طلعتُ في جنازته ولا صلّيتُ عليه ولا تقبّلتُ معهم التعازي به، بل حتى أنني رشوتُ صبيّاً من صبية الحيّ فمزّق ورقَةَ النَّعْوَةِ التي ألصقوها على باب البناية حتى لا يعرف بموته جيراني.
الشيء الوحيد الذي كان سلوتي في آخر العمر هو طبليّةُ الحمّام، أجلس عليها في الصالون وعلى البراندة، وأتحمّم عليها وقت الحمّام لأسمع كَرْجَةَ الماء عليها وأتذكّر عيشةَ أهل البساتين. طبليّتي رفيقةُ عمري بعد غربتي عن البساتين والأهل وحتى الزوجة التي كادت تطلّقني مرّتين لإصراري على وضع الطبليّة فوق التلفزيون كلما جاءت لزيارتها صديقاتُها المسيحياتُ، رفيقةُ عمري الطبليّةُ، أجل، وكلُّ ما تبقّى لي من زمن الدنيا، ولن أجد حرجاً في استئذان السيدة العذراء بأخذها معي إلى الجنّة بعد حصول الشفاعة التي قد تلغي الحساب.
لؤيّ الجُمَري
أَصْلُ البلاء كلّه أمّي التي ليست من آل الجمري بل من آل عائلةٍ من عائلات القبائل الحجازية التي هاجرت وانتشرت في سوريا ولبنان ومصر، عائلةِ السُّكُّمّْ بالتحديد، والتي لم أحبّ منها جدّاً ولا جدّةً ولا خالاً ولا خالةً، لأنهم نبذوا أمّي وامتنعوا عن زيارتها وعصموا بيوتهم من زياراتها لهم ولأنني لم أعرف في أوّل نشأتي سرَّ الذنب الذي ارتكبتْه لتستحقّ مثل هذه المعاملة. وليتني أخذني الموت قبل أن أعرف.
بالكاد تصعد بي قدماي هذه التلّة لطلب الشفاعة، فليتها العذراء عرفتْ بأوجاع صدري وبهذه اللّهثةِ التي رافقتْني من زمن الدنيا ولم يعرف لها الأطباءُ طبّاً، وإذن لكانت أوحتْ لمحبّيها أن يشيّدوا تمثالها تحتنا في بستان من البساتين المحيطة بالمقبرة، فلا ينال الجهدُ منّي في صعودي إليها ولا يمزّق الألم ضلوعي كما كان يمزّقها في نوبات العُبُوقِ التي يعبق بها صدري. في أهلنا، من مَيْلَتَيْ أمي وأبي، لا ذِكْرَ إلاّ للضغط والسكّري ولشيءٍ طفيفٍ من أمراض القلب والمجاري البولية، فمن أين ورثتُ هذا العبوق الذي أَشَدُّ كثافةً من هذه الغبشة ؟ ولماذا أحمله معي إلى الآخرة وكأنه دَيْنٌ من تلك الديونِ التي تراكمتْ عليَّ ولم أستطع أن أوفّيها إلى أصحابها فظللتُ بقيّةَ العمر أسدّد الفوائد ليس إلاّ، الديونِ الديونِ الديونِ التي نخرتْ أيامي ولياليّ وأنا أرمّم المطعم وأجدّد أثاثه لأنّ المطاعم حولنا كثرتْ ولم نعد وحدنا في الميدان كما كان الأمر أيام جدّي. كل ذلك وأمّي تطلب وتلحّ وتصرف المال يميناً وشمالاً حتى أنها اشترتْ سيارة لها، على حسابي بالطبع، ليقول الناس إنّ المطعم يدرّ علينا أحلاماً من المال. ثم كان البيت الذي اشتريتُه بالديْن في منطقة عبرا، بالطالع قليلاً عن بيت عمّتي سميّة، وفرشتُه بالديْن فرشاً فتح أفواه الناس بالتعجب والحسد ولم يسكّرها أبداً. ثم كان الزواج الذي به انفتح عليَّ من المصاريف أضعافُ ما كنتُ أظنه يكفي لحياتي الجديدة. فكيف لا يشتدّ العُبُوق عُبُوقاً في صدري فأصرخ في المستشفى صراخاً أتمنى معه الموت، وقد انكسرتْ بالديون حياتي، كلُّ حياتي، فبعتُ البيت والأثاث والسيارة التي كنتُ أهديتُها لزوجتي ليلة زفافنا ليحسدها عليَّ القاصي والداني ؟
أمي المحرِّضةُ لأبي ثم لي على جدّي وجدّتي وأعمامي حتى يصبح المطعم لنا وتحقّق بذلك أحلامها، هي وحدها التي دَهْوَرَتْ أوضاعنا وجرّتنا إلى الخراب والديون، ولم أفهم سرَّ الذنب الذي ارتكبتْه في صباها لتستحقّ جفاء أهلها ونبذهم لها ولنا حتى أُدْخِلْتُ إلى المستشفى مرّةً بحالة طارئة وبقيتُ قيد المعالجة لأسبوع كامل، وكانت ابنةُ خالٍ من أخوالي رئيسة الممرضات في المستشفى آنذاك، فكانت تقضي بعض الوقت معي في المساء، بعد انتهاء وقت الزيارات، فصارحتْني بحكاية أمي مع أبي وكيف ضربتْ أمي عينها عليه وهي بعد تلميذة في المدرسة وهو ابن صاحب المطعم المعروف، وفي عزّ طيش شبابه، فراحت تحتال عليه حتى حصلتْ على رقم تليفون المطعم وظلّت تتّصل به حتى واعدتْه على لقائها في بستان من البساتين حيث سلّمتْه نفسها عمداً لِيُضّطرّ إلى التزوّج بها في أسرع وقت. وهكذا كان حتى تُجْهَضَ فضيحةُ أمي، أمي التي سرعان ما راحتْ تحشو أبي بالأفكار التي كبّرتْ رأسَه، فصار يحلم مثل أحلامها ويحمل السلاح ويطلق النار من فوق براندة بيتنا ليهابه الناس وتصل أخبار جنونه إلى أهله فيتجنبوه ويتركوا له أمر المطعم إلى ما شاء الله.
وورثتُ أنا ديونَ جنونها وجنونه في الدنيا والآخرة فصاحبتْني إلى آخر العمر اللَّهْثَةُ وعُبُوقُ الصَّدرِ والحرارةُ، اللعناتُ الثلاثُ التي وَرَّثْتُها لبناتي وأبنائي من بعدي، فكأنما كُتِبَ عليّ ألاّ أنسى الرِّجْسَ القديمَ وألاّ أتطهّر منه حتى في هذه اللحظة التي أجاهد فيها الجهادَ كلَّه لأرفع قدميَّ وأحطّهما لأدنو من السيدة العذراء لطلب الشفاعة، فلا ترتفع لي قدمٌ إلاّ لتهوي في مكانها ولا ترتفع عيناي إلى قمة التلّة حتى تخامر خواطري صُوَرُ القبور المفتّحة في أسفل التلّة وكأنما تنتظر الذين غادروها أن يرتدّوا إليها.
عُدَيّ الجُمَري
أرفع قدميّ وأحطّهما على تراب التلّة وأنحني فأمسح بكفّيّ الغبارَ المتراكمَ على فَرْدَتَيْ حذائي ليعود لجلدهما صَفْوُهُ ولمعانُه. عادةٌ هي متأصّلةٌ فيَّ، ولقد حملتُها معي إلى الآخرة، وكأنْ ليس في الآخرةِ ما يشغلني عن عادات الزمن الأوّل. أحصّل نفسي وأرفع عينيّ إلى فوق، وكسّابُ فوقي، ومثلما في كلّ مرةٍ أنظر فيها إلى قدميه تنهضان وتحطّان، يدور في خاطري أنه صبيحةَ البعثِ لا ريب تذكّر أين كان قد ترك آخرَ حذاء له يوم وفاته فنهض من الحفرة فنظر فوجده بانتظاره فانتعله ومشى به أربعين سنة، وبه يصعد التلّةَ الآن، ولا أحسبه نفخ عنه الغبار مرّةً أو مسحه حتى ولو بأصابع كفّه. في الآخرة كما في الدنيا، كسّاب هو كسّاب وعديّ هو عديّ، والظاهرُ أننا نحمل معنا عاداتنا أينما نذهب فكأنها أقدارنا التي لا خلاص لنا منها أبداً.
وما لا نحمله معنا يلحق هو بنا، فها هي لأربعين سنة تلاحقنا حكايةُ المطعم وكأنها لا تزال تطالبنا بالخاتمة التي لم يصل إليها أحدٌ من بعدي، كما أخبرني لؤيُّ في أول لقاء لنا من زمن القيامة. أقول الذي صار صار، ولقد خضنا بنوايانا الدنيا وبها جررنا الإثم بالإثم وأكلنْا المالَ الحرامَ وضِعْنا وضيّعْنا، أجل ضيّعْنا، فها هو تحتي لؤيُّ يجرّ قدميه في صعوده التلّةَ جرّاً وكأنما يحمل من الأوزار ما لا قبل له بحمله.
من أجله هو، سأقول للعذراء، حاصرتُ أبي وأمي الحصار الطويل ليكتبا له المطعم من بعدي، من بعدي أنا لأنّ كبدي كانت قد أجهدها العرقُ والويسكي، والطبيبُ كان يخوّفني من تشمّع الكبد ومن النهاية السريعة إن لم أترك الشراب وأدخل المستشفى للعلاج، وكأنما كان بمقدوري أن أتغلّب على العادة التي أصبحتْ كلّ وجودي.
لم أكن تجاوزتُ الخمسين حينما دُقَّ ناقوسُ الخطر فوق رأسي، والحربُ بيننا وبين قرى شرقيّ صيدا كانت تهدأ شهراً لتشتعل شهريْن، وأبي وأمي كانا يشيخان أكثر ويعجزان أكثر سنة بعد سنة، وإخوتي كان كلٌّ منهم يسعى وراء رزقه ويهتمّ بشؤون عائلته، وكانوا يغضّون النظر عن استيلائي على المطعم، كُرْهاً واضطراراً يغضّون النظر كانوا، لأنّ الميليشيا الصيداوية كانت تتعامل معي وأتعامل معها، فكنتُ أشتري ولاء بعض عناصرها المسلّحة بسندويشات الدجاج وقناني البيبسي، ليكون التفافُ السلاح من حولي رسالةً لأهلي أن يتركوني أتصرّف بالمطعم على هواي. وهكذا كان حتى اشتدت عليّ حالتي وأحسستُ بأنّ الموت سيفاجئني ذات ليلة أو ذات نهار وأنّ قناني العرق والويسكي التي بقيتْ لي مـن حصّتي في الدنيا أصبحتْ قليلة العدد. إذ ذاك كان لا بدّ من تشديد الحصار على سميحة وجهّار. وها هما قابعان في البيت، لا يجرؤ على زيارتهما قريب أو غريب، ولا ينالان من الطعام إلاّ ما أرسله أنا لهما مع لؤيّ، حتى جاء اليوم الذي سكرتُ فيه سكرتي العرمرميّة وشَكَلْتُ مسدسي في حزامي وصحبتُ بعض المسلحين فأتينا بالكاتب بالعدل رغماً عنه ومررنا على المحامي جوزيف الديّار وانطلقنا جميعنا إلى البيت فطلبتُ من جهّار أن يوقّع على ورقة إيجار للؤيّ تضمن له بعدي أن يستغلّ المطعم إلى ما شاء الله، وأشرتُ إلى سميحة أن تلزم الصمت. وحينما تردد جهّار في تنفيذ الأمر خَرْطَشَ الشبابُ أسلحتهم وأُغْمِيَ على سميحة وكان لي ما أردت.
لعل الخمرة فعلتْ بقلبي أكثر مما فعلتْ بكبدي، فلأربعين سنة لم أشعر بأنني أحبّ أحداً أو أكره أحداً، ولا انتابني إحساسٌ بالمرارة أو الندم على ما فعلتُه بحقّ إخوتي في الميراث، وخاصة بحقّ سميّة التي لم يكن لها زوج ولا ولد يعيلها ويكفيها مذلّة العوز والسؤال. كل ما أعرفه أنني سأحكي قصّتي للعذراء وأسكت، فحتى الشفاعة لم أعُدْ أحسّ بأنها ضمانتي للنجاة، ومن أين لي بالنجاة وأنا في الحالة التي لا أموت فيها ولا أحيا، والتي بمثلها ربما يبتديء الحساب ؟
أنظر إلى أسفل فأرى لؤيّ يلهث وكأنما ضاق صدرُه بأنفاسه ولم تعد قدماه قادرتيْن على النهوض به حتى ولو مسافة خطوات قصيرات.
كسّاب الجُمَري
تمثالُ العذراء قُجَّةُ الشفاعةِ، والشفاعةُ وُزِّعَتْ وتُوَزَّعُ على كل الصاعدين إلى قمّة التلّة، فمن يبذل بهذه الرحابة سوى التي تقبّلتْ قَدَرَ وحيدها في ملّة اليهود ببذل الصبر على أذاهم له وسوى التي ببذلِ الصبرِ تقبّلتْ قَدَرَها هي باحتمالها غيابه عنها منذ رفعه إليه اللهُ ؟ قجّةُ الشفاعةِ السيّدةُ اليومَ، كما كان قجّةَ الإرث لأبنائي وبناتي الدكّانُ الذي قضّيتُ عمري فيه وقِطَعُ البساتين التي اشتريتُها فوق خطّ السكّة وتحته وكذلك الشُّقَقُ التي تملَّكْتُها في السرّ حتى لا يطمع فيَّ القريبُ والغريبُ والجارُ المقيمُ وعابرُ السبيل. ثم إنّ الجنّةَ التي تنتظر الناجين هي قجّةُ الثوابِ، وجهنّمَ التي تنتظر الهالكين هي قجّةُ العقابِ، والمَلَكَ الذي على الكتف اليمنى قجّةُ الحسناتِ والذي على الكتف اليسرى قجّةُ السيئاتِ، وكتابَ الغيبِ الذي سُطِّرَ فيه كلُّ شيءٍ، من قبل أن يكون شيءٌ أو يحدث شيءٌ، هو قجّةُ القُجَجِ، فسبحان الذي تؤول إليه الأشياءُ كلُّها فَيَرِثُها عن بكرة أبيها ويتركنا نتساءل عن قجّة الرحمة، هل مملوءةٌ هي بما يكفي لخلاص الناس، وأين تُراهُ يكون خَبَّأها حاسوبُ الكونِ والوجودِ، تعالى عن كلِّ تشبيهٍ اللهُ ؟
ترابُ التلّة يسترعي انتباهي، فشيءٌ في لونه يذكّرني بتراب الأرض التي كان عليها الدكّانُ والبيتُ، فأعجب لهذا الشبه وأبطيء الصعود قليلاً ثم أتوقف وقد خطرتْ لي خاطرةٌ عجيبةٌ أنْ هل كان يصبر أبنائي وبناتي على عَدِّ حبّاتِ ترابِ قِطَعِ الأرضِ التي تركتُها لهم ولهنّ لو كنتُ اشترطتُ عليهم وعليهنّ عَدَّها حبّتيْن للذَّكَرِ وحبّةً للأنثى لتكون قسمةُ الإرث على ما يُرضي السماء ؟
لن أتطلّع إلى فوق ولن أتطلّع إلى تحت، فسميّةُ وعديُّ يُطْبِقانِ عليَّ مثل فكّيْ كمّاشة. ومن الآن حتى أصل إلى قمة التلّة سَأُبْقي عينيَّ ملصوقتيْن بالتراب.
سميّة الجُمَري
في رحلةِ القيامة زَوَّدَتْها أمّي، فهي لا تزال تلحق بأبي مثلَ ظلّه، ولو جاز القول لقلتُ كما يلحق ذلك الشيءُ بصاحبه، لطول العشرة وبحكم العادة. فيا ربّ سامحني على هذه الأفكار، سامحني حتى وإن يكن الكلب بطبعه أوفى من الإنسان الخؤون المتقلّب. سميحة أوفر منّي حظّاً على كلّ حال، فهي راضية بقسمتها في الدنيا والآخرة، وأنا لم تُرْضِني الدنيا التي غَبَنَتْني بإخوتي وأوحدتْني بموت زهير الذي بعده لم أنعم بألفة الرجل الحميم، لا ولا الآخرةُ ترضيني هي الأخرى، فالمرأةُ التي راودتْ زهير عن نفسه لا تزال عينُها عليه وخطواتُها في إثره، ونينا التي عُوِّضْتُ بها من إخوتي المتنكّرين لحريتي في عيشي ولحريتي في توريث بيتي وحصّتي في المطعم لمن أشاء، هي كذلك تركتْني من أول البعث لتبحث عن أبيها ولترافقه بقيّة زمن القيامة. أمي وأبي وإخوتي وأبناؤهم وبناتهم، ليس لي منهم أحد. أفيجوز بعد ذلك أن أخاف من الحساب ؟ بالطبع لا، فَهَوِّني عليكِ، يا سميةُ، هوّني، فأنتِ التي بالجمع والطّرْح ستبتدرين الغيب قبل أن يفتح الغيبُ فمه ويعدّد لكِ ذنوبكِ. وإذن فأنا التي سأذكّره أنّ كلّ نَفَسٍ تنفّستُه في الدنيا لم يكن من خياري ولذلك فهو دَيْنٌ لي عليه، وأنّ السنوات الخمس الأخيرة من عجز أمي، أنا، وحدي أنا التي تَحَمّلْتُها بكل عذابها وقهرها وعزلتها والضغط الذي ابتليتُ به والسكّري الذي زاد الطين بَلَّةً وجعلني مشغولةً بنفسي عن الدنيا ليل نهار. لا، لا، ما رضيتُ في الدنيا بقليلي ولا بقليلي سأرضى في الآخرة، ومن حجرات الجنّة سأطالب بأكثر من حجرات بيتي الستّ وباتّساعٍ أفسح من اتّساعها، كما سأطالب بقفصٍ واسع للعصافير التي كنتُ ربّيتُها في الدنيا وبها عُوِّضْتُ من البنات والصبيان الذين لم يهبهم اللهُ لي، فسبحانه على ما قَسَمَ وسبحانه على ما حَرَمَ.
رفرفةٌ عن يميني ورفرفةٌ عن شمالي، فأحسبها لأجنحة الملكيْن اللذيْن على كتفيَّ يحصيان ذنوبي وحسناتي. ألتفتُ لأرى كيف تكون صورة الملائكة فإذا الأجنحةُ أجنحةُ عصفوريَّ الحبيبين زِكّو وَلِلُّو، فيجهش باللهفة إليهما قلبي وأحسّ بأنّ الله رضيَ عنّي وغفر لي عتبي على الغيب وبأنه سينعم عليّ بمخبّآت وعده للصابرين، فما عصفوراي العائدان إليّ إلاّ بشارةٌ لي بالجنة التي إن استحقّها أحدٌ فسميّةُ في رأس مستحقّيها. إلهي، إغْفرْ لي نبرةَ الكبرياء في أفكاري، فإنْ هي إلاّ مرارةُ الزمن الأوّل حملتُها معي إلى الآخرة، ثم، إلهي، ما الغريب إذا أنا شاركتُ الغيب بمحاسبة نفسي، أفلم تقل، سبحانك، للإنسان: وكفى بنفسكَ اليوم عليكَ حسيباً ؟
تكاد تزحط في دعستها يُسْرى قدميَّ، فأنحني بسرعة وأبسط كفَّيَّ على تراب التلّة. كان ينقصكِ يا سميّة أن يتمرّغ وجهكِ في التراب ! أرفع رأسي قليلاً إلى أعلى لأرى إذا كانت نينا توقّفتْ عن الصعود ونزلتْ نحوي لتساعدني على الوقوف فتردّ لي بعض جميلي عليها أيام كنتُ أحضّر لها الكُبَّة المقليّة وأطبخ لها الرزّ بالدجاج واليخاني والمحاشي وصينية الكفتة بالبطاطا، على الغاز وليس في الفرن، لأنها على طريقتي هكذا أطيب، أرفع إليها رأسي فأراها تصعد في إثر خطواته هو، تماماً مثلما أمي تلحق بأبي مثل ظلّه، ولا حِسَّ ولا خَبَرَ لا للكبّة ولا للرزّ بالدجاج، وكأنكِ يا سميّة لا حضّرتِ ولا طبختِ ولا ضيّعتِ صباحاتك في المطبخ بين الطناجر والصحون والجاطات والملاعق. أهزّ برأسي وأقول العصافيرُ أَوفى منكِ يا نينا، فها هما زِكّو وَلِلّو يرفرفان عن يميني وشمالي ليخفّفا عني ما أحسّ به من هوان اللحظةِ، من هوانها وذلّها، فوجهي، وجهكِ يا سميّة، يكاد يتمرّغ في التراب.
مرارةُ التخلّي وحلاوةُ البشارةِ بالجنّة يعطياني العزم والقوة فأحصّل نفسي وأثبّت قدميَّ في التراب. نينا، فوقي، تلتفت إليّ الآن خلسةً ثم تردّ نظرها إلى أعلى وكأنّ شيئاً لم يكن، فَأُتْبِعُ نظري بنظرها وأرى سامح يصعد التلّة فأتخيّل عينيه السارحتيْن أمامه وكأنهما تنظران إلى أبعد من مسافة الأشياء التي تريانها، كما كان دأبه كلّ عمره في العيش الأوّل. وبمرارة تكاد تحجب عن خيالي بوّابات الجنّة أتذكّر كيف مرّةً في فترةٍ هدأتْ فيها الحربُ جاء يزورني فشرب نصف زجاجة العرق على الغداء، ودار بيني وبينه كلامٌ عن مشاكل الحرب وعمّا تعرّض له كثيرٌ من النساء والبنات من اعتداء أو خطف أو اختفاء إلى الأبد. وحين أكّدتُ له بنبرة الكبرياء أنني حافظتُ على نفسي فَصُنْتُ عِرْضَهُ وعِرْضَ إخوته ضحك حتى كادت تنقلب به الكرسي على أرض المطبخ وقال هَوِّني عليكِ، يا سميّة، فلا أحد في عائلتنا يهتم بالذي تتحدثين عنه، وإذا أردتِ معرفة رأيي، فأنا أحسب أنكِ ضيّعتِ عمركِ هباءً في صيانة العذريّة المسترَدَّة لكِ بوفاة زوجكِ زهير، هباءً بهباء بهباء، ولو أنكِ لم تجاهدي نفسكِ لما كنتِ عِشْتِ أيامكِ ولياليكِ على الحبوب المهدّئة للأعصاب. ليلتها لم أنم، وكيف تنام سميّةُ وقد جرَّدوها من كل حسناتها ؟ والأنكى من ذلك أنني حينما رحتُ أعاتبه صباح اليوم التالي على ما قاله تعجّب وأنكر أن يكون قال مثل هذا الكلام. حجّته كانت زجاجة العرق، ولكنني لا أزال أحسّ بالمرارة التي أحسستُ بها آنذاك.
ثم ماذا تُراها تقول العذراءُ التي حافظتْ على عذريّتها حتى بعد حملها بيسوع فظلّ الناس يسمّونها السيدة العذراء، ماذا كانت تقول لو قُدِّرَ لها أن تسمع الحديث المستخفّ لسامح عن العذريّة المسترَدَّة، وكأنما العذريّة تُستردّ متى فُقِدَتْ ؟ حنانيكِ، يا عذراء، فأنتِ أطهر منيّ ومنّا كلّنا، ووضعكِ غير وضعي، ثم إنّ الله اصطفاكِ أنتِ من بيننا وفضّلكِ على نساء العالمين، وما هذيانُ سامح إلاّ هذيانه، وما خواطري إلاّ المرارةُ التي لا أزال أحسّها حتى وأنا أقترب من حجرات الجنّة في صعودي إليكِ التلّةَ التي قَدَّرها علينا الغيبُ العجيبُ.
يُمْنى قدميَّ تكاد تنـزلق بي فأكفّ عن الصعود وأتأمل التراب بنظرة ريب. هل هذه إشارة جديدة إلى أنني قد لا أصل إلى قمة التلّة لأفوز بشفاعة العذراء ؟ وهل شيءٌ في الجوّ يُهَيِّئ لي في الخفاء الهُوِيَّ إلى أسفل التلّة لأعود فأصعدها من جديد مرّة ثانية، وربما مرّة ثالثة، وربما وربما، فينتهي زمنُ القيامة وأنا لم أفز بالشفاعة بعد ؟
ألتفت إلى كسّاب، أسفلَ مني، فإذا هو متوقّف يتأمل شيئاً في التلّة. لعله يحصي حبّات التراب. ألولح له يدي لينتبه ويصعد إليّ فيكون خلفي بخطوة واحدة أو خطوتين ليسندني بيديه إذا انزلقتْ قدمي من جديد. كسّاب لا يزال حيث هو وعيناه لا تزالان حيث هما في التراب. هو اليوم أيضاً لا ينوي أن يردّ لي الجميلَ الذي سَلَّفْتُهُ إياه، ليس بتحمّلي عنه وعن إخوته عبءَ الرعاية التي أحطتُ بها أميّ وأمّه وأمّهم في سنوات الشيخوخة والعجز، بل لسبب آخر له علاقة بوفاته. ذات مساء، وكان كسّاب قد بلغ الخامسة والسبعين، وكنّا في أوّل موسم الأكّدنيا، تلفنتْ لي امرأتُه وطلبتْ مني أن أمرّ عليها صباح اليوم التالي لأمر ضروري لم تشأ أن تشرحه لي على التلفون. ليلتَها لم أنم، وكيف تنام سميّةُ وقد خطر لها أنّ كسّاب قد يكون حدث له شيءٌ ويكون رحيله قبل رحيلها فينقطع عنها بابٌ من أبواب الرزق كان فتحه الله عليها منذ أكثر من عشر سنوات ؟ منذ أكثر من عشر سنوات وكسّاب يرسل إليَّ مع ابنه مبلغ الخمسين ألف ليرة، والذي كان يرتفع مع كلّ سنة شيئاً قليلاً حتى أصبح قرابةَ المئة ألف، فمن سيعطيني بعده هذا المبلغ إذا وقع عليه المحذورُ لا قدّر الله ؟ كنتُ عندهم أبكر من صياح الديك وتعلّلتُ بأنّ أمي جاءتْني في المنام وقالتْ زوري أخاك باكراً، يا سميّةُ، فالزيارة المبكّرة للبِكْرِ من الإخوة حلال وتساوي في الحسنات سبعة وعشرين ضعفاً. طبعاً لم يصدّقْ كسّاب حكايةَ المنام ولكنه هَزَّ رأسه الهزّةَ التي تعني أنني أعرف قصصكِ وأحاييلكِ. ولعله أحسّ بأنّ خطراً ما يداهم صحته فسأل امرأته إن كان الطبيب سيعود لزيارته ذلك اليوم فقالت بأنه سيكون بينهم بعد صلاة الظهر. ومنها بعد ذلك عرفتُ قصة مرضه. صبيحةَ وفاته وقفتُ فوق رأسه وقرأتُ على روحه الفاتحة ثم أتيتُ بكرسيّ وضعتُه قرب سريره. جلستُ ووضعتُ إصبعيَّ في أذنيّ وصرختُ الصرخةَ المُعْوِلَةَ وأُغْمِي عليّ. خبّروني أنهم حملوني ومدّدوني على الصوفا ورشّوا عليّ ماء الزهر وفَرَكوا كفَّيَّ وأصابعي حتى استعدتُ وعيي وأوشكتُ أن أصرخ ثانية لولا أنهم قالوا إنّ الصراخ فوق رأس الميّت حرام. صرختي، خبّروني بعد الدفن، كانت الصرخةَ التي فاقتْ كلَّ الصرخات، وهذا هو جميلي عليكَ، يا كسّاب، وأنتَ اليوم، أنتَ اليوم ساهٍ عني، عيناكَ في التلّة تحصيان حبّات التراب. وحيدةٌ أنتِ، يا سميّة، في هذه القيامة لولا زِكّو وَلِلّو اللذان تؤنس روحَكِ رفرفةُ أجنحتهما، عن يمين وعن شمال، ولولا أصواتُهما التي لا تفتأ تناديكِ زِيكْ، زِيكْ، زِيكْ، ولولا السيدة العذراء على قمة التلّة تنتظر بفارغ الصبر حتى تَصِلي إليها وتحكي لها قصتكِ التي أغرب من الخيال والتي عليها تستحقين الشفاعة سبعة وعشرين ضعفاً. ولسوف تكون أوسعُ حجرات الجنّة كلها لكِ، يا سميّة، إذا استطعتِ أن تقنعي العذراء أن تتغاضى عن السِّحْرِ الذي طلبتِ من ابنة أخيكِ زهير، مها التي لا سواها، أن تحضّره فحضّرتْه وأخفيتِهِ أنتِ في ثياب المرأة التي كان أخوكِ سامح على وشك الزواج بها بعد أن كنتِ تعوّدتِ على عزوبيّته وتكريس حياته لنينا وعلى الرزق الذي كان يغمر بيتكِ من جرّاء زياراتهما المتكررة لكِ.
أخفيتُ السِّحْرَ المعمولَ في ثنايا ثيابها ونفّذتُ كل وصايا العجوز التي لجأتْ إليها مها لتحضير السّحر، ففعلتِ الكتابةُ فعلها وطَفَشَتِ الدخيلةُ على حياة سامح، طفشتْ إلى غير رجعة، ونلتُ مرادي من الرزق أنا، خاصةً بعد رحيل كسّاب الذي لم يورّثني شيئاً من دكّانه وأراضيه، وكأنما عرف أنني لن أورّثه من بيتي شيئاً فعاملني بنيّتهِ على قدر نيّتي له. رفرفةُ الأجنحة عن يميني وشمالي توحي إليّ بأنني سأنجح اليوم في مهمتي، فيشعّ في الفضاء شيءٌ كأنه البناء الفسيح فتحدّثني نفسي أنّ ذلك هو مكاني من الجنّة.
نينا الجُمَري
لو كانت سهلاً كلُّها الحياةُ وكلُّها القيامةُ لما كان أحدٌ دُفِنَ في المقابر التي فوق سطح البحر، ولما كان أحدٌ صعد مثل هذه التلّة التي نصعدها الآن لنفوز بشفاعة العذراء، الشفاعة التي يقول أبي إنها حجابُ الخلاص. عيني على أبي، فوقي بخطوات، يرفع قدماً ويحطّ أخرى، وكتفاه ورأسه في انحناء إلى الأمام ليوازن نفسه فلا هو يطبّ على وجهه ويتمرّغ في التراب، ولا هو ينقلب إلى الوراء فيهبط عليَّ فنهبط كلانا على عمّتي سميّة ثم نهبط ثلاثتنا على عمّي كسّاب، ثم كلُّنا على كلِّنا، فإذا الرحلةُ صعوداً نحو العذراء هُوِيٌّ في المقبرة التي تحتنا والتي حُفَرُها مفتوحةٌ وكأنها تنتظر عودة أصحابها إليها. لو كانتِ الأرضُ سهلاً لكانت القيامةُ أسهل علينا، ولكنْ صَدَقَ أبي، فالحياة التي لم تكن أبداً بالنـزهة لا تفضي إلاّ إلى قيامةٍ ليست كذلك بالنـزهة. ولقد مرّ زمنُ القيامة، كلّه أو يكاد، ولا أحسّني كبرتُ ولو سنةً واحدة، فالزمن الآن متوقّفٌ وإن كان يمشي، وهذا السرّ يسمّيه أبي البَرَدوكْسْ الذي هو لغة الشعر. عيني على أبي، فوقي بخطوات، والعينُ الأخرى على عمّتي، تحتي بخطوات، تنحني في صعودها التلّةَ أكثر ممّا ينحني أبي، وحين تتوقف لحظةً لتستريح من حشرجة السعلة التي تطلع من زلعومها، تأخذ تفرك كفّاً بكفٍّ، على عادتها في الدنيا، وفمها تتحرك في داخله أفكارُها كلماتٍ تلوكها وتلوكها فيتحرّك خدّاها ويشتدّ جلدُها ويرخى ثم يشتدّ ويرخى. وها هي ترفع وجهها وترسل نظرها إلى أبعد من وجه العذراء، إلى آخر السماء، فلعلها تعاتب اللهَ، سامحها اللهُ، على الضغط الذي لحق بها إلى القيامة فلا يزال يطلع في شرايينها وينـزل، فيطلع معه خُلْقُها وينـزل، ويطلع نظرُها إلى السماء ولا يكاد ينـزل لولا جاذبية الأرض، مثلما كان يقول أبي حينما يكون في مزاجه الفَكِهِ. أبي وعمّتي هما هما، في الدنيا حصّتي وفي الآخرة حصّتي، فعينٌ لي عليه وعينٌ عليها، والموعدُ قمّةُ التلّة. وإذن فبأيّ الذنوب أبوح للعذراء، لحظة وصولي إليها، لأستحقّ الشفاعة التي هي حجاب الخلاص ؟ الكذباتُ التي كذبتُها على أبي، على أنها كذباتٌ بيضاء، هي الذنوب التي أقضّتْ مضجعي بعد رحيله، ولعلها في العدِّ عَدَدُ الرمال حول أبي الهول في بيت شوقي:
كأنّ الرمالَ على جانبيكَ إذا ما نظرتَ ذنوبُ البَشَرْ
الويل، كلُّ الويل للشِّعْرِ، فهو الذي أوقع بيني وبين أبي حينما كنتُ أبحث مرّةً في غرفته عن مبراةٍ أو ممحاةٍ أو ربما عن علبة العلكة التي كان من عادته أن يخفيها عني في أوراقه، فطارتْ إلى عينيّ قصيدةٌ من قصائده باللغة الإنكليزية مطبوعة على الدكتيلو، فاختلستُ نظرةً إلى الباب ثم اختلستُ القصيدةَ وأخفيتُها في داخل كنـزتي، وخرجتُ. في غرفتي قرأتُها مرات ومرات وقتلتْني الغيرةُ من تلك التي ألهمتْه الصّورَ الشعرية الدفّاقة وجعلتْه يركع على قدميها ليصفهما ويبدع في وصفه. أَنْ تجعل امرأةٌ، بل مجرّدُ قدميْن منها،، خيالَهُ يرقص فترقص في سطوره الموسيقى كان أخطر من أن أقبل به أو أغفره أو أنساه. أخفيتُها عنه وأنكرتُ أنني رأيتُها حينما راح كالمجنون يبحث عنها في كل زاوية من زوايا البيت ويقلّب أوراقه ودفاتره وصفحات الكتب في مكتبته حتى أصابه الذهولُ وكاد يعتريه الهرمُ في أيام معدودات. ذَنْبُ الكذبِ رماني في ذنب القسوةِ، فهل تتغاضى عن ذنبيَّ العذراءُ إذا أنشدتُها القصيدة لتعيدها هي إليه، فيعود إليه فرحُه، ولا يكتشف أنّ ابنته، من بين سائر الناس، كانت اللصّةَ في قلب البيت ؟ لا أظنّها تمانع، فانتظارُها وحيدَها المصلوبَ طوال ذلك العمر وطوال زمن القيامة لَيُفْشِي إليَّ برحابة الصدر ورقّة القلب، وهما وسيلتي إليها. أغمض عينيّ وأروح أتذكّر القصيدةَ سطراً سطراً وأنشدها في سرّي لأتمرّن عليها، سطراً سطراً، فأوانُ عودتها إليه قريبٌ قريب .
سامح الجُمَري
كأنني أرتقي من هذه التلّةِ مسافةَ الحلمِ الذي كان يتراءى لي عن القيامة والحسابِ، مسافةَ الحلمِ لا مسافةَ اليقينِ التي تفصلني عن السيدة العذراء، فالحانيتان عيناها تبدوان، في حيرةِ عينيَّ، وكأنهما لا تزالان تمتلئان بفسحة الغرب التي منها سيعود إليها في مجيئه الثاني ابْنُها الذي هو مسافةُ الخلاصِ لتابعيه، الخلاصِ الذي من أوّل الخلقِ الأوّلِ لا تزال تتنازعه الأرضُ والسماءُ. هذا إن لم يكن عاد بالفعل إليها قبل وصولنا المُسوَّفِ إلى هذه التلّة.
لو كنتُ صُغْتُ روايتي في العيش الأوّل وأنجزتُ اللقاءَ المسوَّفَ بين أبي العلاء ودانتي، لكانت هذه إذن أرضَ البعث والحساب يقيناً يقيناً، ولكنتُ ارتحتُ من وسوسة الحلم القديم، ولكانت بلغتْ بي قدماي قمّةَ التلّةِ، حيث الآن ينبغي أن أكون، ولستُ أكون، رافعاً يديّ وعينيّ بالإبتهال إليها أنْ أيتها المصطفاةُ المفضَّلةُ على نساء العالمين، مريمُ، يا أيتها البتولُ، جمّةٌ خطاياي، فبأيّها أبدأ، فتوحي إليّ أنْ بالخطيئةِ التي في الدنيا كانت تقضّ مضجعك أكثر من سواها، فعليها المعوَّلُ في استحقاق الشفاعة، فأغمضُ عينيّ حتى لا ترى حَرَجي وأنشدها في خفيضٍ من الصوت :
بجامحٍ من شهوةِ المعتدي أغتالُ خِلّي، وبالسلاحِ الرَّدي
أغتالها، فغـيرُها تغتدي وهّاجَةً كالجمْرِ فـي موقدي
ثـم بقلبي وَلَـعٌ مُطْلَقٌ بالحُسْنِ، يهـديني ولا أهتدي
لا شفاعةَ اليومَ لِمُلْغِزٍ، يا ابن جهّار، فأفصحْ ! تعاتبني بلهجةِ المستحثِّ المشفقِ. أغمغم وأهمهم أنْ ضيّعتُ صداقتي له بغواية امرأته، ثم ضيّعتُها هي بولَعي بسواها، ثم ضاع منّي في الولعِ المطلقِ الولعُ المفرَدُ. تقول أمّا وَلَعُكَ المطلقُ بالحُسْنِ فكان لك عقاباً من حيث لا تدري، وأمّا شَأنُكَ في خيانة الصديقِ فشأنُ مَنْ قَتَلَ الناس جميعاً بغير حقّ. أقول بشفاعتكِ طمعي، لا بعتبكِ، فتقول شفاعتي مُطلقةٌ كنيّتي، ولكنّ للربّ مشيئتَه وإرادتَه، فعسى أنْ ثم عسى أنْ. الغبشة لا تزال تحوّم حول عينيّ وقلبي، ولا أنتبه إلاّ وذاكرتي تستنبش من شعر المتنبي بيتاً ولا تكاد تظفر بسياق كلماته.
ثُلُثُ مسافةِ التلّةِ لأبلغ القمّةَ، ولا أبلغها، فأشدّ بالتصعيد قدميَّ فينتابني من الصِّبا القديمِ الحلمُ الذي كنتُ أرى فيه قَدَري كدولابٍ أمسكَ بطرفيْ محورِهِ وَلَدانِ فَارْتقى عن الأرض طرفةَ عينٍ يدورُ يدورُ لا تنطوي من تحته المسافاتُ ولا يمضي في إثرِِهِ الوَلَدانِ. ثُلُثُ مسافةِ التلّةِ لأبلغ القمّةَ، ولا أبلغها، فبعضُ القلبِ يرجو والبعضُ يتَّقي.
سميحة الجُمَري
من يومِ سجّوني في الحفرةِ وأنا في جيرةِ السيدةِ العذراءِ، فمن علٍ، من على قمة تلّتها أطلّتْ يومها عليّ تُطَمْئِنُني بعينيها الحانيتين وتذيب عن أطرافي الصقيعَ بعدما خُطاهُمْ سمعتْها أذناي تنأى بهم عنّي وعن القبر وكأنما كلّهم في سباقٍ نحو بوابة المقبرة، كلُّهم، كلُّ أولادي. ولقد صحبتْني السيدةُ العذراءُ وصحبتُها حتى نفخ النافخُ في الصّور فنهضتُ من غفلة التراب وحيّـيْـتُها ثم سرحتُ في الأرض أبحث عن جهّار وعنهم، ثم ها نحن، ها نحن، أيتها البتول، نعود كلّنا إليكِ كما يعود الأطفال إلى أمّهم في آخر النهار لتغسل عنهم الجوع والتعب وتستمع إلى حكاياتهم وشكاواهم، نعود إليكِ في حشد القيامة، نطمع بالشفاعة التي تحملينها في قلبكِ لكل الخاطئين والتائبين والغافلين.
خلفي يصعد التلّةَ، على بعد خطواتٍ أسفلَ منّي، فألتفتُ وأراه وأعلم من سرحةِ عينيه أنه سامح الذي صيفَ عاد إلينا من أميركا لم يَعُدْ لأنه بقي في بيروت ولأنّني سألتُه أين هي امرأتُكَ يا ولدي، فأجابني أنْ نسيتُها في المطار مع حقائب سفري.
أصعّد النظر في التلّة أمامي، فإذا جهّار قاب قوسين من القمّة أو هو أدنى، وفوقه السيدة العذراء تنتظر وصوله إليها، لا بنظرة الغضب التي كنتُ أخاف منها عليه، لكثرة ذنوبه، سامحه اللهُ، ولكنْ بابتسامة ترنو بها الأمُّ إلى ولدها لإطّلاعها من شيطنته على كل عجيب. مكتنـزاً لا يزال جهّار، عفيَّ الكتفين، وإن يكن بأعلى ظهره إنحناءٌ ليس بالإنحناء البغيض، فالعجزُ لم يكن من رفقة عمره، وإن تكن قدماه الآن لا تدقّان على تراب التلّةِ الدقّاتِ التي كانتا تدقّانها على الإسفلتْ في عتوّ شبابه.
أخطف النظرةَ على امتداد التلّة من أعلاها إلى أسفلها، فكلُّنا الآن رهنُ مسافةِ التلّةِ، الواحدُ منّا محاصَرٌ باثنين، واحدٍ أعلى منه، من أمامه، وواحدٍ تحته، من خلفه، فالحصارُ الحصارُ كأنما هو سُنَّةُ العيشِ الأوّلِ وسُنَّةُ القيامةِ، لا نرتاح من أحدهما حتى يحوّطنا الآخرُ.
تطيب لعينيَّ وقلبي صحبةُ العذراء، ولكنّ صحبةَ أولادي أحبّ إلى العين والقلب، فسامحني يا ربّ على هذه الأفكار، فَلَخَوْفي شديدٌ أن تتّهمني السيدةُ العذراءُ بنكراني لجيرتها وبتناسيَّ لصحبتها التي كانت أطول من صحبتي لأولادي، وأطول حتى من صحبتي لجهَّار. مرّةً ثانيةً أخطف النظرة على امتداد التلّة، أسفلَ مني، وآخذ كلَّ أولادي بعينيّ، وحفيداً لي وحفيدةً ووجوهاً تُضَيِّعُ ملامِحَها الغبشةُ والمسافةُ. تتوقّف قدماي عن الصعود. أتمنى لو أرفع يديَّ بالإبتهال إليها أنْ زَوِّديهم وزَوّديهنّ بالشفاعة، يا أطهرَ أمٍّ وأعفَّ امرأةٍ، فخطاياهم وخطاياهنّ كإبر الشَّوْكِ في بدني، وحبّذا حبّذا لو تتركيني أحملها عنهم وعنهنّ، فجحيمُ ما بعد الحسابِ لن تكون أفظع من جحيم الزمن الأوّل، صدّقيني، صدّقي ! تهمهم العذراءُ الأمُّ أنْ كفى، سميحةُ، كفى ! فأنصت ويتفجّر القلبُ منّي بالرفق والحبّ والشفقة والحنوّ وأحسّني أغفر لكل من أساء إليَّ، حتى نسوة أولادي اللواتي كنّ يكسرْنَ حبّةَ الدواء نصفين ويعطينني النصفَ بدل الحبّة في كل يوم، ويَقُلْنَ الدواءُ ما عاد ينفع سميحةَ فإنْ هو إلاّ العجزُ والكبرُ، وثمنُ الأدوية صار كالرزق الذي نرميه للريح بدايةَ كل شهر. أغفر لهم وأغفر لأولادي الذين كانوا يرون ويسمعون ثم يمضون وكأنهم لا رأوا ولا سمعوا.
شيءٌ يحدث في الجوّ فكأنّ زمن القيامة على آخره، أحسّ بذلك ولا أعرف ما الذي يجري. أنفض عنّي الأفكار التي استوقفتْني وأرمي بنظري إلى أعلى، فإذا بجهّار قد بلغ القمّة، وها هو ناهضٌ بكل وجهه إليها، وها هما يداه مبسوطتان فوق مستوى الرأس منه، وشفتاه لعلهما الآن تتحركان بالدعاء والإبتهال إليها لاستحقاق الشفاعة، فأغمض عينيَّ على دعاء شفتيَّ له بالنجاة، وأشهق في سرّي، فتنصتُ لشهقتي ولصوته أذناي.
جهّار الجُمَري
يا شفيعةَ كلِّ مَنْ حَمَلَتْ به امرأةٌ، مريمُ، يا أيتها الأمُّ البتولُ، اشْفعي لي بما ادّخرتُ لأمّي من الرعاية والحبّ، وتغاضَيْ عن الشبابِ فَنَـزَقاتُ الشباب عُتُوٌّ وغِوى، وعن ضلالِ الكهولةِ فَضَلالَتُها استباحةٌ لكلِّ حِمىً، اشْفعي لي، اشْفعي لي. أبتهل إليها بالْتِياعِ الرجاء فتهدهد القلبَ مني بأنْ أحسنِ الظنَّ بالربِّ يا عجيبَ الخطايا. أقول رحماكِ، فَمَنْ يكنْ، يا أمُّ، رَبُّهُ هواه فمشرِكٌ هو في ديننا، وربُّنا لا يغفر أن يُشْرَكَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فتقول الصبرَ الصبرَ، فألحّ بأنِْ الجسدُ الضعيفُ، جسدي، يئنّ بأوزار الروح والنفس والحواسّ، فَمَثَلي مَثَلُ الشاعر الذي يقول:
أأنا العاشقُ الوحيدُ لِتُلْقى تَبِعَاتُ الهوى على كتفيّا ؟
بل أنتَ واحدٌ مفردٌ من الهاوينَ الخَطَأةِ، تقولها لتهدّيء من روعي، ثم بابتسامةِ المشفقِ تهمس بي أنْ أنتَ لم تبح بَعْدُ لي بالتي كانت الأعتى من خطاياك، فهيّا وهَيّا، فَمِنَ المطارَدين بذنوبهم خلفك خلقٌ كثير. أقول رفيقةُ العمر، سميحةُ، زوجتي، كنتُ أغضب منها بلا سبب، فأتركها حتى تنام وأشرشر الماءَ الحارَّ الأصفرَ من جسدي على قُصَصِ الوردِ والفلِّ والحبقِ والياسمين فتذبل كلها، وتذبل على الصبح عينا سميحة فأعلم أنني أَغَظْتُها ونجحْتُ. تقول لا أحسب ذلك أدهى ما فعلتَ، فأقول على سُفْرةِ الطعام جمعتُ مرّةً كلَّ أولادي، وصغاراً كانوا، فصببتُ لكلِّ واحد كأساً من العرق وقلتُ اشربوا الكأسَ كلَّها لتكونوا أبناء جهّار، فشربوا، وما انتبهتُ إلاّ وسامح قد أخذ عليه العرقُ فهو يميل في مشيته يميناً ويساراً، فكانت كَفّي أسرع إلى خدّه من اكتمال نيّتي بصفعه، فجاشتْ بالدمع عيناه، ولكن، لكبريائه، لم يطلق صرخةَ ألمٍ بل راح يشدّ على أسنانه حتى لا ينفجر بالبكاء. تقاطعني بالهمس أنْ ثم رَدَّ لكَ الصفعةَ ذاتَ يومٍ من ذات شهرٍ من ذات عام ! تذكّرني بالرغم عنّي، فيتضاعف إحساسي بالإثم، فتشفق عليَّ من نفسي وتقول بأنْ هذه أيضاً ليست بأعتى خطاياكَ، يا جهّار، ولكنّي سأحمل بيدٍ بِرَّكَ بأمّكَ ورعايتك لها في عجزها وشيخوختها إذ تزوّدها بالدُّخَّانِ اللَّفِّ، بذلك التُّتُنِ، وبالبنِّ، على مدار السنة وعلى مدار السنوات، وفي أيام مرضها إذ تسعفها كل يوم بسطلِ اللّبن وبالكفتة المشوية في قلب الرغيف، بيدٍ سأحمل كل ذلك، وباليد الأخرى سأحمل مآثرَ منكراتك، وسأوازن بينهما حتى أجعلهما يتعادلان، فتلك شفاعتي لكَ، يا جهّار، وعسى الربّ أن يكون عَفُوّاً غفوراً.
شيءٌ كالنَّفَسِ الطويلِ ينساب نحو التلّة فتمتليء به أذناي، وما هي إلاّ الهجسةُ حتى يتحرَّك الهواءُ ويشتدّ ليصبح الريحَ، تعنفُ وتتلاطمُ، فأحسب أنْ إنّها النفخةُ الثانيةُ في الصّور، وأنظر فإذا السيدةُ العذراء وكأنما تهدّيء من هَيْجَةِ الريح، ومن فوقها، في أعالي السماء، يتراءى لعينيّ وهجٌ من النور لا يزال يهبط نحونا ويهبط حتى لكأني أتصفّح المشهدَ القرآنيَّ إذ تشرق الأرضُ بنور ربّها وإذِ الحقُّ في ظُلَلِ الغمامِ، والملائكةُ، فيخفق بالرجاء والخوف قلبي وينفتح فمي على ها أنتَ، ها أنتَ في ظُلَلِ الغمامِ، بل كأنكَ ها أنتَ، تشرق علينا بالحقِّ، يا حقُّ، بل كأنكَ، بل إنكَ، بل تكاد تكاد، بل ها أنتَ، ها أنتَ، يا باريء الوعدِ من أوّلِ الأزلِ، بَرَأْتَ من أوّلِ الأزلِ وعدَكَ أن تسبُقَ رحمتُكَ عدلَكَ، فمتى يُنْجَزُ الوعدُ، وعدُكَ يا الله، وعدُكَ يا الله، وعدُكَ يا الله، وعدُكَ يا الله، وعدُكَ يا الله، وعدُكَ يا الله، وعدُكَ يا الله، وعدُكَ يا الله ؟
تَمَّتْ
(من 27 تشرين الثاني 2003 إلى 18 كانون الثاني 2005)