دراسة مقارنة بين رواية وعد شباط لصلاح الدين الحريري و رواية حين اضطجعتُ بانتظار الموت لوليم فولكنر
دراسة مقارنة بين رواية وعد شباط لصلاح الدين الحريري و رواية حين اضطجعتُ بانتظار الموت لوليم فولكنر بقلم سهى كنعان، و هذا نص الترجمة العربية:
وليم فوكنر، المولود عام 1897 في جنوب الولايات المتحدة الأميريكة، نسج أحداث معظم رواياته حول الحياة في تلك المنطقة لا بنظرة سوسيولوجية بحتة، بل باهتمام عظيم بالإنسان كفرد، كقيمة وحضارة متعلقة بالوجود والنفس واللغة. وروايتاه المشهورتان حين اضطجعتُ بانتظار الموت و صخب وغضب فعلتا فعلهما في أجيال متلاحقة من الروائيين في أربع نواحي الأرض. ان الدارسين للأدب الأميركي باللغة الأم من أدباء العربية، لا ريب تأثروا تأثراً بالغاً بالتقنية الإبداعية، على المستوى البنيوي والمستوى الأسلوبي اللذين تميزت بهما أعمال فولكنر. من هؤلاء الأدباء كان الدكتور صلاح الدين الحريري، أستاذ الأدب الأميركي الحديث في الجامعة اللبنانية (الفرع الأول). الحريري، مثل فولكنر، يأتي من جنوب وطنه، بالتحديد مدينة صيدا. وهو حائز: على درجة ماجستير في الأدب الإنكليزي من الجامعة الأميركية في بيروت، ودرجة Ph.D. في الأدب الأميركي من جامعة ايلنيوي الجنوبية في أميركا. تأثره بفولكنر، اذن، كان من وحي دراسته واختصاصه.
منذ مطلع الثمانينات بدأ الحريري ينشر باللغة الإنكليزية أعمالاً شعرية ومسرحية مثل the city that lost its temper و A Nightmare و A Transient Bargain و The Night of New Jersey ، وكلها ترسم دراما الوضع الانساني في لبنان والاجتياح الاسرائيلي للبنان وحصار بيروت بالتحديد عام 1982. ولعل العمل الأدبي الأول الذي يتضح فيه تأثر الحريري بفولكنر هو Event Against Eventuality.
وعد شباط (1994)
وعد شباط هي الرواية المنعطف في حياة الأديب اللبناني حيث أعلن نهاية غربته اللغوية وعودته إلى العربية ليقتحم من جديد أسرار بيانها ويجمع في خلق شخصياته الروائية بين ولعه بتقنية فولكنر، تركيباً وأسلوباً، مستعيراً إياها استعارة واعية، استعارة منتقاة، وبين ولعه بخوض تجربة فريدة من نوعها في تاريخ الرواية العربية الحديثة، ألا وهي تطويع اللغة بخاصيتها الشعرية للإنبناء على مستويات عدة بحيث يتطور لكل شخصية في الرواية أسلوب خاص به، سياق لغوي يتميز به ويميزه عن الشخصيات الأخرى.
إن قدرة الحريري على تغييب صوته من الرواية ساعده على اطلاق أصوات شخصياته لتخلق نفسها بواسطة المستويات اللغوية أولاً، والهواجس والنزعات التي تؤنسن الشخصية كفرد ثانياً، والرؤى المتناقضة للوجود والموت والبعث والخلود ضمن التواجد الاجتماعي للمسلمين والمسيحيين في بيئة جغرافية واحدة ثالثاً.
هذه الوسائط التي رويداً رويداً تفتح علينا باب الرواية بشجى كأنه قطرة دمع سرعان ما تتحول إلى جدول يظل يكبر به انسيابُهُ حتى يتفجر نهراً من التناقضات، فيأتي الفعل الدرامي الخفي متطوراً، ومرتبطاً في تطوره بانبناء كل شخصية انبناء تدريجياً وبانفساح العالم الحسي، كذلك شيئاً فشيئاً، حيث يدور الحدث الرئيسي الظاهري – موكب الجنازة من المنزل إلى المقبرة – والأحداث العائدة إلى وعي الشخصيات على شكل ذكريات من الماضي أو تصورات من احتمالات المستقبل.
المقارنة مع فولكنر
إن إنشاء دراسة مقارنة لرواية وعد شباط ورواية حين اضطجعت بانتظار الموت هو عمل شاق وذلك لتوافر الدراسات النقدية حول عمل الأديب الأميركي وتأثره هو الآخر بتقنيات مارسيل بروست وجيمس جويس في حين لا تتوافر حول رواية الأديب اللبناني الدراسات النقدية الجادة التي تصلح أن تكون مرجعاً نقدياً يمكن العودة إليه والوثوق به. لذا فإن هذه المقالة تهدف أولاً إلى الإلماح السريع إلى المتشابهات بين العملين الأدبيين وثانياً إلى التركيز على دراسة التمايزات بينهما وذلك لتبيان أوجه الإبداع من وعد شباط التي تجعل منها رواية رائدة وربما يتيمة في تاريخ الرواية العربية الحديثة.
موجز عن الروايتين:
حين اضطجعت بانتظار الموت: رواية حول رحلة أو مغامرة تتم لتكشف عن مفاجآت وخيبات. حينما تدخل آدي باندرن – شخصية الأم في الرواية – حالة النزع الأخير يكون ابنها النجار منكبّاً على عمله يجهّز لها الصندوق الخشبي – التابوت. تلمحه آدي الأم من شبّاك غرفتها، لتسلم بعد ذلك الروح وتجرّها عربة خاصة عبر مقاطعة يوكنا باتوفا، إحدى المقاطعات الوهمية التي ابتكرها فولكنر في جغرافية رواياته. تبذل العائلة كل جهدها لتنفيذ رغبة آدي الأم لنقلها ودفنها في بلدة جيفرسون. كون أفراد العائلة غير صادقين في نواياهم يجعل الرحلة موازية لحياتهم نفسها: رحلة مهدورة ومغلوطة. وبالرغم من اندفاعهم لتنفيذ وصية الفقيدة، كلاًّ كاتماً لحوافزه الخاصة، فإنهم يتخطون جميعاً المصاعب المضحكة – المبكية : نار أو طوفان، لهيب أو غمر : الرحلة يجب أن تتم. وحين يصلون إلى البلدة ويدفنون الجثة المهترئة، ندرك أن الابنة قد فشلت في الوصول إلى طبيب يؤمّن لها إجهاض جنينها اللاشرعي، وأن الابن البكر، كاش، قد أصيب بجروح عميقة، وأن دارلْ قد أصيب بالجنون. وفي النهاية، بشطحة كوميدية قاسية، يقدم الوالد على الزواج مرة ثانية مباشرة بعد دفن زوجته آدي.
لا ريب أن هذه الرواية تركت أثراً بالغاً في خيال الدكتور حريري الإبداعي، إلى حد أنه استخدم التقنية نفسها في وعد شباط، الجزء الأول من رباعيته سِفْرُ اللعنة والتوبة.
إن الحدث الرئيسي في وعد شباط، أي «الرحلة» من منزل الفقيدة إلى الجامع ثم المثوى الأخير، لهو البرهان الأكيد على تأثر المؤلف بفولكنر حيث انه استخدم عين الرحلة كاستراتيجية أساسية في البناء العام للرواية وكرمز لما تحمله من ايحاءات البحث عن الهوية وعن معنى الوجود. ولأن الرمز الاستراتيجي في الروايتين هو الرحلة إلى المثوى الأخير، فكلتا الروايتين تهجسان بهاجس الموت. الفقيدة هي الأم في كلتا الروايتين. وخلال الزمن الذي تستنفذه الرحلة تنشغل الشخصيات بحياكة المكائد بعضها للبعض الآخر: الكل مشغول فكره بما سيحدث بعد الدفن، الكل يهجس بالإرث، خاصة المطعم الذي تركته لهم الأم، بالاضافة إلى منزل «سمية»، الأخت الوحيدة.
إن تجربة هذه العائلة تعتبر تمثيلاً رمزياً لتفكك المجتمع / العائلة في البيئة الاسلامية: فتواجد أبناء العائلة الواحدة في موسم الوفاة لا يمنع الأصوات أن تحيا كلاًّ في عزلة صارمة حتى نهاية الرحلة. بكلمات أخرى، إن تبعثر الشخصيات في سيارات متعددة في موكب الجنازة هو الرمز الموازي للعزلة النفسية لكل شخصية. كما ان تقسيم الرواية الى مقاطع صوتية منعزل بعضها عن البعض الآخر يؤكد هذا التفسخ العائلي.
تقنيات السرد
وبما أن تقنية كل من الروايتين «خارجة عن المألوف» على حد تعبير سارتر في نقده لرواية صخب وغضب لفولكنر، وبما أن كلمة تقنية تستوجب تعريفاً محدداً للإحاطة بمدلولاتها والاستفادة منها في مقارنة العملين الأدبيين، فلا بد من التوقف عند آراء بعض النقاد حول هذا المفهوم. إن مارك شورَرْ، مثلاً في مقاله «التقنية كاكتشاف» يعتبر التقنية «الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها الكاتب عما يريده. انها الطريقة الوحيدة التي يملكها لسبر غور عمله ولاكتشافه وتطويره». على ضوء ذلك يُلاحَظ أن تقنية السرد في الروايتين «حين اضطجعت بانتظار الموت» و«وعد شباط» متشابهة من حيث هي رؤيا ومن حيث هي تطبيق. فولكنر يستخدم في رواياته تقنية خط سير الوعي (stream of consciousness) التي تعتمد على الفكرة التالية: ان الوعي الانساني يتألف من أفكار ومحسوسات غير ثابتة بل متحركة كالنهر. فولكنر يفتح باب المواجهة بين القارئ والشخصية دون تدخّل أو توجيه مباشر من لدنه توخياً للموضوعية ولإضفاء البعد الحميمي على التجربة الإنسانية. المعادلة نفسها كامنة في استراتيجية الحريري.
وبالنسبة الى هذه التقنية، يجمع النقاد على تأثر فولكنر بجيمس جويس المعروف بريادته في استخدام تقنية سير الوعي في الرواية المعاصرة. الناقد مايسون يعتقد أن جويس هو مكتشف عمل اللاوعي في كل شخصية من شخصيات رواياته، ويؤكد أن جويس اختار النهج الدراماتيكي ومقومات الاخراج المسرحي الذي يشمل مشاركة فعالة من الهواجس التي تخزنها الذاكرة والحواس لكي يصور ذلك العالم الغريب في داخل الانسان. أما الناقد سيدني بولت فيوضح أن جويس جدد طريقة السرد القديمة والتي تعتمد على شخصيات الرواية بدلاً من اعتمادها على المؤلف. وهو يضيف: «ان جويس يرتبط فكره مع فكرة بروست حول الفن كونه محاولة للكشف عن حقيقة التجربة من خلال الذاكرة والتذكر».
نقاد آخرون يشيرون الى تأثر فولكنر بمارسيل بروست مؤلف «البحث عن الزمن الضائع»، الرواية التي تدور حول حياة عازب هاو للفن فاقد للذة العيش حتى يكتشف ذات يوم ان ذكريات حياته تشكل مادة لرواية مهمة لتمسي حياته منذ ذلك اليوم مادة خصبة تنسج العالم الخيالي للرواية. ولقد استخدم بروست الذاكرة كموضوع أساسي، الذاكرة التي تعتمد العالم الخارجي كخلفية لعمل الدماغ. وهو يعتبر أن الذاكرة تشكل اللحظة المميزة في الزمان والمكان: ولكن الذكريات بالنسبة إليه ليست استعادة للواقع، فالذاكرة تضفي أهمية خاصة على ما نتذكره. وهذا المبدأ أثّر في فولكنر فاعتمده بشكل فعال في رواياته. وكذلك بالنسبة الى بروست فكلّ منا يعيش في عالم مخيف ومعزول عن الآخرين، والانسان هو ذلك المخلوق الذي يعرف الآخرين من خلال نفسه. إن فكرته هذه ونظرته الى الانسان لاقت هوى في نفس فولكنر فاستخدمها كذلك في رواياته وركز على التجربة الذاتية الخاصة لكل انسان في عزلته عن الآخرين.
بروست يفهم الوجود الانساني بطريقته الخاصة فهو يشبهه بالرحلة الى التجربة البدائية المتشتتة والمتشرذمة والمفتتة، الى لحظات حسية في عودة الى جوانية النفس، فتعود التجارب واللحظات هذه الى الماضي: التمدد في الفهم والفكرة. وهو يؤمن كذلك بأن الفهم والذكاء هما اعادة الخلق وان كل الفكر هو اعادة واستعادة للذة والفهم، لأن اللحظة الحاضرة معلقة بحاضر الماضي الذي هو نبض التذكر. وفولكنر يستخدم عين النظرة الى الانسان وعلاقته بالعالم حوله.
تماثلات بين وعد شباط و حين اضطجعتُ بانتظار الموت
يستخدم فولكنر خط سير الوعي ليمكّن القارئَ من الإحاطة بجوانب مختلفة من الحدث، وليسمح له بالتوقف أمام ذكريات كل شخصية، فالتجربة الانسانية بالنسبة لفولكنر تجربة مدارها الذكريات. والذكريات هذه المنسوجة بين الشخصيات تسمح لكل صوت بسرد ومضاته الخاصة وبتجربته الذاتية. أضف إلى ذلك أن كل مقطع من مقاطع الرواية مخصص لشخصية مختلفة تقدم خلاله صوتها وذكرياتها كما تلقي الضوء على جانب من شخصية الآخر. الناقد لكينيت بروكس يعتبر أن تقنية تعدد الأصوات هذه تميز القوة والصلابة في رواية فولكنر. المعادلة نفسها تتكرر في وعد شباط حيث التقنية السردية ترتب «وجهات النظر» أو الزوايا التي تندفق إلينا من أجزاء الرواية لتدلل على نظرة المؤلف الى دور الوعي كنهر مستمر الدفق لأفكار تنساب داخل كل شخصية على حدة، نابعة من محيطها الخاص لتنتقل بحرية من مستوى فكري ما الى مستوى آخر.
إن الترابط والتواصل بين الشخصيات المختلفة حاصل رغم التشرذم والانكماش والعزلة، فكل شخصية تقدم نفسها من خلال أفكارها ومن خلال انعكاسها في أفكار الآخرين. ان استخدام «تعدد وجهات النظر» سمحت لفولكنر وللحريري بالغوص الى أعماق كل شخصية للكشف عن خفايا مشاعرها، وعن أفكارها وتصوراتها، وعن ردّات فعلها تجاه العالم الذي يحيط بها.
بالإضافة إلى خط سير الوعي، هناك نقطة ثانية مشتركة بين الروايتين هي فكرة الموت. حين اضطجعت بانتظار الموت تعالج الأيام الأخيرة من حياة مسز باندرن الأم، ولكنها في الوقت نفسه تكشف عن جوهر حياتها، حياتها التي كانت دائماً تعتبرها تحضيراً للموت واستعداداً مستمراً للقائه. الفكرة الرئيسية في رواية فولكنر هي الموت الذي يشكّل الحياة. الحدث الخارجي، كما يقول إرفينغ هاوِ، هو الرحلة في العربة نحو المقبرة في جيفرسون، أما الحدث الداخلي فهو محاولة كل فرد من أفراد عائلة باندرن إعادة البحث عن هويته لحظة تتفكك العائلة كلها بموت الأم. إن تاريخ هذه العائلة يكشف عن خفايا الروابط بين أفرادها وعن علاقة العائلة بالأم التي تشرّبت سلبية والدها الذي علّمها أن «السبب الذي يبرر الحياة هو كونها استعداداً للموت».
الفكرة الرئيسية في وعد شباط هي كذلك الموت. الحدث الخارجي هو الرحلة لجثة الأم من المنزل إلى المثوى الأخير، بينما الحدث الداخلي هو الدراما التي تعتمل داخل كل شخصية وتعصف كذلك بالعلاقات المتشنجة بين كافة الشخصيات مما يجعل من موكب الموت «موكباً للنوايا».
ومع أن كل الشخصيات تهجس بالموت فإن لكل منها وجهة نظر خاصة وموقفاً مختلفاً تواجه به الموت كحقيقة. سامح، الشخصية الأثيرة في الرواية، مهووس بفكرة الموت بحيث أنه في كل مرة يغمض فيها عينيه ليهرب من موكب والدته الفقيدة تصفعه الذاكرة ويعود اليه من رواية فولكنر مشهدُ «العربة التي يجرّها البغلان». إن تأثره بالأدب الغربي وبأدب فولكنر على وجه الخصوص يجعل لزاماً عليه أن يظل يتذكر موكب الموت ويظل يهجس بالانتقال، كما الموكب، من مشهد إلى آخر. هذا المشهد يصبح نقطة الثقل في تفكير سامح وخياله. ومحاولته إغماض عينيه وفتحهما هي الفعل الموازي لدرامية الهروب من هذا الهاجس. إلا أنّ الموت، في الحصيلة النهائية، يظل مسيطراً على عقل سامح ووعيه ويدفع به الى إبتكار دراما الهروب عبر استعادته في الذاكرة مشاهد مختلفة من مغامراته العاطفية والجنسية، مشاهد تمثل الحياة في حضرة الموت.
طارق كذلك مهووس بالموت. يتوضح ذلك من تخطيطه المستمر لما سيفعله بعد الدفن. يخطط للزواج من ابنة السادسة عشرة، ولبناء كافتيريا، وللاستفادة من الإرث بعقل رجل أعمال وبميكانيكية تفكير هادف للربح والكسب السريع. ومع أن طارق واحد من الأصوات الثائرة والشرسة، فإحساسه بحقيقة الموت يخوّله أن يصف القبر «بدمّلٍ جاهَرَ به جسدُ الأرض». ثورته الشرسة تظل الصفة الغالبة عليه، وصوتُه، حين يُسمع لآخر مرة، ينفي فكرة الحياة بعد الموت ويجرّد حياة أمه من كل معنى: «كأنكِ كنتِ العمرَ كلّه وما تكونين».
بالإضافة إلى هاجس الموت الذي يمثل تقاطعاً متشابهاً بين الروايتين، فإن تجزّوء الوعي يشكّل بُعْداً آخر لتماثل العملين. وكما أشرت سابقاً، إن تجزوء الوعي ومزج الأزمنة في رواية فولكنر يُظهران تأثير الماضي على الحاضر. الناقد والروائي فورسترز يعتبر أن تجزئة الوعي عند فولكنر تجسد شيئاً كالأحلام. ويضيف: «الأحلام هي قطع فسيفساء إمّا منطقية، أو نتف صغيرة منسوجة من الماضي أو المستقبل تعمل بدور محدد لتبرز ناحية خاصة من الشخصية خلال اليقظة».
الناقد ريموند وليمز يقول: «نحن نخلق العالم الذي نراه ونحسه، وهذا الخلق الانساني أو اعادة اكتشافنا لحياتنا المعاشة في العالم المادي هو بالضرورة حيوي ومتحرك دائماً». فولكنر تبنّى هذه الرؤية واستخدم النمط السردي الملائم لها فهو يمزج الأزمنة توخياً لدرامية الملاحظة والكشف، فالجسم يحيا ضمن الوقت الزمني المتسلسل، لكن عمل العقل لا يتماشى مع الأطر المفروضة على الجسم. العقل يمزج الماضي والحاضر والمستقبل. وكل فرد من عائلة باندرن، مثلاً، يقوم بتلك الرحلة منعزلاً عن سواه. ضرورة العزلة الفكرية قضت بتقسيم الرواية إلى أصوات مختلفة ووعي مختلف لكل شخصية.
ما يجمع أفراد عائلة باندرن في موكب الجنازة هو الأم – الفقيدة – كعبء ثقيل – ويتناقض ذلك بسخرية لاذعة مع نواياهم المتنافرة والتي تفرّقهم وتمنعهم من التوحّد العائلي.
في وعد شباط يستخدم المؤلف تجزوء الوعي (point of view) في تآلفٍ وتناغمٍ مع التجزؤ في بناء الرواية والتجزؤ في مستويات الأسلوب. كل شخصية تلقي الضوء على جانب خاص من الشخصية الأخرى مؤكدة في الوقت نفسه عزلتها والعزلة المفروضة على كل فكر وكل صوت من أصوات الشخصيات. ومن ناحية الأسلوب، تعيش هذه الشخصيات عزلتها وتعبر عن أفكارها عبر مستويات لغوية مختلفة تؤكد عمق هذه العزلة. إلاّ أنّ دراسة مستويات اللغة بحاجة إلى إفراد حيّز خاص لتحديد خصائص كل مستوى وفهم وظيفته في خلق الشخصيات المتباينة الأهواء والأفكار والنوايا.
التمايزات
الاختلافات بين وعد شباط و حين اضطجعت بانتظار الموت متعددة الجوانب، وهذا القسم من مقالتي يقوم فقط بدراسة أولية لاستعمالات كل من فولكنر والحريري للغة واستخدامهما تقنيات توحّد النصّ توحيداً عضوياً. في ما يتعلق باللغة، يستعمل كل من المؤلفين مستوى مختلفاً من اللغة إذ لكل منهما مفهومه الخاص لفن الأسلوب. في حين اضطجعت بانتظار الموت معظم الشخصيات غير مثقفة، وهي تتكلم الأميركية العامية، فيما عدا السيدة باندرن والقسيس فهما يستعملان لغة مصقولة. وتكشف هذه الرواية عن حساسية فولكنر لامكانات اللغة والمستويات العديدة التي تعمل فيها. تشير آدي باندرن، مثلاً، إلى أن الكلمات والأفعال كينونتان منفصلتان تماماً. ويوازي ذلك الرأي وعيُ المؤلف أن جلاء الشخصية من خلال الأفكار والكلام يرتبط منطقياً بتجربة الشخصية الذاتية ويرتكز على مقارنة أقوالها بأفعالها.
بالإضافة إلى ذلك، تكشف رواية فولكنر عن ثلاثة مستويات من اللغة وهي: المستوى المحكي، المستوى غير المحكي، والمستوى غير المعبّر عنه بالألفاظ. فالمستوى المحكي هو الذي يفسر نفسه بنفسه ويتألف من كلمات تنطق بها الشخصية. والمستوى غير المحكي هو عندما تفكر الشخصية وتستعمل في تفكيرها لغة بسيطة عامية لتعبر عن هذه الأفكار، وفي هذا المستوى ننفذ إلى أفكار الشخصيات، إلى عوالمها المنفصلة بعضها عن البعض الآخر، ونندفع نحن معها الى تصورات أحداث مضت. المستوى الثالث من اللغة يمثل كتابة فولكنر عن أفكار الشخصية وتصوراتها. ويعبر فولكنر عن هذه الأشياء بكلمات بالنيابة عن الشخصية، معطياً الفرصة للقارئ للنفاذ إلى أعمق مستويات عقل الشخصية، مستويات لا تعمل فيها الشخصية نفسها بالكلمات بل بالمشاعر والتخيل... ولا تنفصل هذه المستويات الثلاثة على نحو صارم، لأنه إذا كان الشعور الإنساني يجري مثل جدول، فإن الشخصية يجب أن تُرى وهي تتحرك بيسر بين المستويات: المحكي وغير المحكي وغير المعبّر عنه بالألفاظ، متتبعة تسلسل الأفكار أو سلسلة من تداعيات الأفكار إما إلى الأسفل، إلى الأعماق التي لم يُعَبَّرْ عنها لفظاً، أو إلى الأعلى، إلى الكلمة المنطوقة.
علاوة على ذلك، يوفر «الدّين» لبعض الشخصيات في الرواية نوعاً من اللغة يمكّنها من التعبير عن أفكارها التي لا تنطق بها في أحاديثها اليومية. كورا و وتفيلد يستعملان هذه اللغة التي تمنحهما الطمأنينة، مع أنها تفتقد إلى أي معنى مبني على خبرة فعلية. عندما تفكر كورا في الله تستعمل اللغة التي يستعملها الكاهن، مثل: «الخلاص الأبدي». كورا تبشّر بالعقيدة التي تقبلها هي قبولاً أعمى: إن كل شيء جزء من خطة سماوية، وإن دور الإنسان هو أن يتقبّلها ببساطة شاكراً ومن دون أي تساؤل. تجد كورا الحياة أسهل كثيراً مما تجدها آدي، غير أن طمأنينتها مبنية على رفض مواجهة التجربة مباشرة. «إن أهم نقطة هي أن أفكار كورا عن نفسها وعن الحياة تبدو للقارئ كمظاهر جوفاء»، فهي تفضل أن تعيش في عالم تسلّم أنه منسجم من داخل فتكرر عبارات الابتهال الفارغة، بينما تختار آدي أن تعيش التجربة الفعلية حتى بأكثر أشكالها تطرفاً!.
وهذا التطرف إنما يتجلى في إرتكاب آدي لفعل الخطيئة مع كاهن الرب. جويلْ، إبنها منه، يذكّرها أبداً بتلك الخطيئة. يوم وفاة آدي يخرج وتفيلد إلى مزرعة آل باندرن بروح من الشهامة – كما يحلو له أن يخادع نفسه – ليعترف بخطيئته أمام عائلة آدي. والحقيقة أن ما يقلق وتفيلد هو أن آدي قد تعترف، قد تقول الحقيقة عن علاقتها به، قبل أن تتاح له هو الفرصة ليعترف وليبدو رجلاً فاضلاً، لعله بذلك ينقذ شيئاً من سمعته. ولكن ما إن يصل حتى يجدها قد فارقت الحياة ويجد ان الاعتراف – كما يقنع نفسه – لم يعد ضرورياً فيأخذ الأمر على أنه إشارة من الله ليبقي الأمر سراً، فيتناسى على نحو مفاجئ حماسته المتّقدة الناشئة، إفتراضاً، عن رغبته الأخلاقية في الاعتراف والخلاص.
إن وتفيلد هو المغنّي المحترف لأغنية الخلاص عبر الاعتراف. يخاطب الله قائلاً: «لقد ارتكبتُ إثماً، يا إلهي، أنت تعلم مدى ندمي وإرادة روحي ... المجد لك». عبارات الندم التي يرفعها إلى الله هي أسلوب المؤسسة الدينية الذي لا ينبع من التجربة الذاتية للإنسان. إن طلب الخلاص من الله بإخفاء الحقيقة عن الآخرين هو أسلوب الخاطئ الذي يرجو محو الخطيئة المادية والمعنوية بكلمات لا تقدّم ولا تؤخر في مجرى حياة الذين بحقهم ارتُكِبت تلك الخطيئة.
باختصار، يستعمل فولكنر اللغة الأميركية العامية عبر شخصياته المتعددة. والعامية، في هذه الرواية، على حد قول وارن بك، «هي فن متماسك» إلى حد بعيد. في الوقت نفسه، يستعمل فولكنر اللغة المصقولة عبر شخصية الكاهن وشخصية آدي، وهي معلمة مدرسة يفترض بها أن تكون مثقفة، تميز بين الكلمات والأفعال، بين التعبير التجريدي وواقع الأفعال. هذا بالطبع ليس كل شيء، فإن لغة دارلْ ولغة فارْدمانْ تتطلبان دراسة معمّقة ليتضح بذلك مدى ولع فولكنر بخلق مستويات متعددة من الأساليب تتناسب مع تنوّع شخصياته.
اللغة في وعد شباط
جميع الشخصيات فيوعد شباط تتكلم لغة مصقولة. إن «وعي» كل شخصية يتمثل قيمة معينة أو ثقافة مركبة. ولذا ينبغي قراءة وعد شباط في ضوء هذه الثقافة. كما يمكن للقارئ ملاحظة المستويات المختلفة للغة التي تستعملها الشخصيات المختلفة والمعزول بعضها عن البعض الآخر بسبب اختلاف ميولها الطبيعية والنفسية. فلغة كسّاب، مثلاً، تظهر أي نوع من الأشخاص هو. وقوله «سبعة منعطفات من سلّم هذا المبنى... هل كان لزاماً على الموت أن يأخذها في الطابق السابع؟» يدل على عقله الحاسب ويظهر المادية الغالبة عليه. إن أنانيته الحسابية تغطّي على العاطفة المرتبطة بحادث الموت، فتَعاطيه مع الموت ليس كما نتوقع أن نرى لدى فرد من أفراد العائلة التي فقدت أمها للتو. فهو مثلاً يتصور رأس الأم الميتة صندوقاً أو قجّة، لأنه يفكر دائماً بالمال.
من الطرائف اللغوية في هذه الرواية أن رأس الأم المتوفاة تنظر إليه شخصياتٌ ثلاث بطرق ثلاث مختلفة، فبالنسبة إلى كسّاب، كما لاحظنا، يرتبط رأس المتوفاة بصندوق أو قجّة، فيما يربطه سامح بطائر – نكتشف فيما بعد أنه هدهد سليمان – وهذا الربط يعكس طريقة تفكير سامح فهو يتمتع بخيال شاعري يمكّنه من الربط بين الصور التي تبدو لأوّل وهلة وكأنها متنافرة لا علاقة جوهرية فيما بينها. يقارن سامح كذلك بين الأم في رواية فولكنر وأمه هو، ويجد أن الأم في الرواية تختار مكان دفنها، بينما ليس لأمه مثل هذا الخيار: «... موكب الأم التي اختارت لجثتها مرقداً» وموكب «الأم التي اختار لها الغيب ألا تختار». يفكر سامح بالموكبين كما لو كانا موكباً واحداً مع أن الأول مكتوب والثاني لم يكتب بعد. ولما كان سامح تحت تأثير رواية فولكنر، فهو يخطط أن يكتب رواية محاكية لها.
إلا أن كتابة روايته تعتمد على إذا ما كانوا سيجتازون الجسر المؤدي إلى المقبرة بسلام، وهذا يرتبط بمبدأ «الاحتمال» الذي، كما سيبدو لاحقاً، يظل فكرة مهيمنة في الرواية. وبالاضافة إلى قدرة سامح على الربط بين الصور الحسية فإن لديه المقدرة على تجريد الأشياء، فكلٌّ من الجسر والموت يصبح في خياله وسيلةَ عبور من مكان إلى آخر: كلاهما لغة في العبور.
تختلف لغة سامح عن لغة الشخصيات الأخرى، فرهافته الشعرية تتكشف في الصور التي يخلقها. لغة الشخصيات الأخرى تعتمد على إدراكها الخاص للأشياء حولها. ولكل منها إدراكها للحياة ولما يقع فيها من أحداث. ترى سميّة، مثلاً، رأس أمها المتوفاة في صورة فراشة لأن لغتها لغة تحرّر، فالفراشة تمثّل الحرية التي تتوق سميّة إليها. وعندما تتذكر طفولتها ترقّ لغتها وتنبض بالسعادة والفرح والحرية: «كأنني الآن في ذلك البستان الذي خلف النهر، حيث نشأتُ وقضيت أحلى سنوات عمري». في هذه الفقرة لغة سميّة بعيدة عن المرارة والثأر، فالرحلة إلى الطفولة هي لحظة ارتجاع تحاول خلالها أن تستعيد ثانية صفاء براءتها وعفويتها.
وإلى ذلك، يحتوي الكتاب على مقطع بعنوان «صدى لصوت»، معقّد التركيب لأنه مبنيّ على غرابة فكرة الموت والإنحلال. يُشَخَّصُ الموتُ هنا بإلباسه صفات إنسانية كالشعور والنوم: «... وتسيل السماء بالهطل فيسقسق الماءُ من خلل التراب عليها وهي طيّ التراب سقسقةً تنعش الموتَ من غفلة الموت فيهبّ لأخذها ثانية فيلوّح له بالفناءِ الفناءُ». إن عنوان المقطع «صدى لصوت» يثير صوتاً لا ينتمي لأية شخصية معينة. إنه مقطع مستقل وكأنه صوت الحياة نفسها. خاتمة القول إن وعد شباط تحتوي على مستويات مختلفة من اللغة بالرغم من أن الشخصيات كلها تتكلم لغة بيانية مصقولة. (للتوسع في دراسة الأساليب المتنوعة في وعد شباط يُرجى الرجوع إلى مقالة كارول سعد الدين ومقالة ريما بانو).
رواية فولكنر ومبدأ التهكّم
الروايتان تختلفان أيضاً في أمر آخر. حين اضطجعت بانتظار الموت ينتظمها ويوحّد بنيتَها مبدأُ التهكّم (irony). بينما وعد شباطينتظم أجزاءَها مبدأُ الإحتمال. رواية فولكنر يمكن أن تُفَسَّر على أنها قصة رمزية لرحلة الإنسان عبر الحياة، رحلة يتلف هو فيها أثناء تحركه باتجاه هدفه الذي اختاره والذي يحتمل أن يكتشف في النهاية أنه عود على بدء.
من ناحية ثانية، إنّ في هذه الرواية معالم قد توحي بتفسير آخر. الرحلة، نفسها، وهي «غنية بالتهكم»، قد تؤخذ ظاهرياً على أنها إيماءة بالحب والاحترام لإمرأة ميتة، بينما هي في الواقع تجربة تحرّكها نزعاتٌ أقلّ نبلاً، مثل الرغبة في الحصول على طقم أسنانٍ اصطناعية أو الحاجة لإجراء عملية إجهاض.
إن الهوة بين الدوافع الظاهرية والدوافع الحقيقية غير المعلنة غنيّة بإمكانات هزلية. في نهاية الكتاب، المرأة المتوفاة تُستبدل بأخرى بسرعة خاطفة. نهاية القصة تحدث صدمة لدى القارئ. وبدلاً من أن تكون الرحلة انتقاماً لآدي من زوجها «آنس»، كما كان يبدو طوال الرواية، فالرحلة تبدو فجأة وكأنها انتقام «آنس» من «آدي». لقد أصرّ هو على جرّ جثتها في العربة صعوداً وهبوطاً على شاطئ النهر بالرغم من معرفته أن الجسور كلها مقطوعة. كما أنه أصرّ على إيقاف العربة في وسط بلدتيْ موفتستاون وجيفرسون بالرغم من رائحة إهتراء الجثة المتسربة من الكفن والتابوت.
بالنسبة لآدي، فلطالما تَلاعَبَ زوجُها بها بكلمة «حب»، فبعد زواجها به أدركتْ أن ما يدعوه هو حبّاً وجدتْه هي كلمة جوفاء: «ثم اعتقدتُ اني سأقتل آنس فكان كأنما خدعني، وقد اختبأ داخل كلمة كحجاب من ورق وطعنني في الظهر من خلاله». لهذا ترى أنها خُدِعَتْ بالحمل: «وعندما علمتُ أنني رُزقت بكاش عرفتُ أن الحياة كانت فظيعة». لهذا السبب ثارت آدي ضد الكلمات: كانت تتطلع إلى تجربة فعلية عندما تزوجت بآنس، ولقد خاب ظنها حينما أخفق في كسر عزلتها الإنسانية.
في بداية المقطع المخصص لها في الرواية تعبّر آدي عن حاجتها إلى الإنفراد والعزلة، وبمجرد أن تنهي عملها تتذكر أحداث حياتها، وتختار الذهاب إلى الينبوع بدلاً من الذهاب إلى البيت. يكشف هذا عن رغبتها في أن تكون بمفردها بمنأى عن كل الناس وعن أولادها تحديداً، فيما بعد. ومما يدعو إلى السخرية في هذا المقطع أن آدي تعبّر عن كرهها أطفالها / تلامذتها في فصل الربيع بالذات: «ليتني أهبط التلة إلى الينبوع حيث يمكنني أن أهدأ وأكرههم... خصوصاً عند بداية الربيع». مشاعرها في هذا الفصل تكون في أسوأ أحوالها.
الربيع هو رمز الانبعاث، هو بداية حياة جديدة إلاّ أنّ آدي تحاول أن تكره الأولاد في هذا الفصل بالذات، مما يدعو إلى الإستغراب فهي دائما «تهتم فقط بإعداد نفسها للموت، بغضّ النظر عما تكبّده هذه الاستعدادات من حولها من ضريبة». لقد ورثتْ عن والدها فكرةَ أنّ الحياة ما هي إلا استعداد للموت، وهي لا تبذل جهداً لتنقل الإرث إلى أبنائها بصورة أفضل. الناقد ل.فولب الذي تنبه إلى عنصر السخرية في إرث كهذا يفسره على أنه «الإستعداد للبقاء ميتاً». مثال آخر على السخرية كعنصر استراتيجي في تطوير الرواية هو ثقة آدي بجويلْ ثقة مطلقة: «إنه صليبي وسيكون كذلك خلاصي. سيخلّصني من الماء ومن النار. ومع أني ضحيتُ بحياتي فإنه سينقذني.» جويلْ، الذي هو ثمرة خطيئة آدي، سيكون نفسه خلاصَها!
ومن السخرية أيضاً أن المقطع الأول الذي يعرّف بكورا يخدع القارئ الذي يكتشف لاحقاً أنها جاهلة بحقيقة الحياة الداخلية لكل من الشخصيات الأخرى. وحيث أن كورا لا تستطيع أن تفهم تجربة آدي – وخاصة علاقتها بواعظ الرب – فردّة فعلها هي الصلاة من أجل خلاص روح آدي الضالّة والضائعة، وذلك بكلمات فقدت، لدى آدي، أي معنى حقيقي لها.
رواية الحريري ومبدأ الإحتمال
وفي حين يوحّد مبدأُ السخرية ((irony روايةَ فولكنر وينتظمها كعمل متكامل داخلياً فإن وعد شباط ينتظمها ويوحّدها مبدأُ «الاحتمال» (probability). في هذه الرواية، حالة التوقع هي القاعدة الموحِّدة المستخدمة كاستراتيجية رئيسية في بناء العمل ككل. تبدأ الرواية بهذه القاعدة التوحيدية: «وهل غذاؤنا إلاّ الوعد، نحن ساكني الاحتمال». الوعد مصدر الأمل للإنسان، وإمعان النظر في الاحتمال يتطلب أن يعيش الإنسان في المستقبل أكثر مما يعيش في اللحظة الراهنة. من ناحية ثانية، معظم الأشياء التي تدور في وعي هذه الشخصيات لا تحدث حقيقة في الواقع. وكل ما يُفَكَّرُ فيه يُتْرَكُ في حالة معلقة حيث أن المجهول يبقينا عادةً في حالة كهذه. هذه الحالة المعلقة هي مبدأ من مبادئ توحيد أجزاء الرواية وانتظامها في كلّ متكامل.
إن أحد أبرز الأمثلة على استخدام المؤلف هذه القاعدة الموحِّدة نجدها في الفصل الثاني حيث استطاع طارق أن يرتجل في خياله مشهداً يستبق به ما يمكن أن يحصل في الواقع. مقابلته للمحامي هي محض تصوّر لما يمكن أن يحدث في اليوم التالي: «أجل بعد الدفن أتسلل خفيةً من منزل سميّة وأهبط إلى الطابق الذي يقطن هو فيه. أدق بابه دقة واحدة...« (ص 35) في هذه الفقرة يرتجل طارق مشهداً يقابل فيه المحامي ويحاول أن يوضح له مسألة الإرث. وخطته هذه تتعلق بالاحتمال وما يمكن أن يحدث بعد الدفن مباشرة.
شخصية أخرى، إسماعيل، تنشغل أبداً بفكرة البعث: ماذا يمكن أن يحصل للجسم بعد أن يتلف. ومع أن هذا الحدث لم يقع بعد، فإن تفكيره ينتقل من الحالة الحاضرة إلى المستقبل. وبالتأكيد فإن الانبعاث مرتبط بقاعدة الاحتمال. وإسماعيل أيضاً يفكّر بلغة احتمال الإتحاد الديني. وهو يريد أن يرى المسلمين والمسيحيين متحدين في ثقافة ساميّة: «ما الكنيسةُ إلاّ الجامعُ مُضْمَراً في موكب النور». إلاّ إن اتحاداً كهذا يُتْرَكُ للمجهول.
يرتبط بهذا كله حقيقةُ أنّ المرء في الثقافة الساميّة لا يتأكد أبداً إن كان الميت يعي ما يدور حوله أم لا. وهكذا فإن وعي سميحة (المتوفاة) يُسْتَغَلُّ فنياً لتصوير هذا الاحتمال بصورة مسرحية. أحد المقاطع الخاصة بها (116-118) مقسوم إلى قسمين: في الأول منهما نطّلع على وصفها لما يدور حولها وعلى ما تفكر فيه عندما تتذكر إبنتها سميّة، وكذلك بقية أولادها، وحتى زوجها. في القسم الثاني، هناك نقل دقيق لخطبة الجمعة نتلقفه عبر وعيها. وهذا الجزء مبني على تأرجح مستمر بين الخاص الذاتي والعام الوعظي. وكلما نقل وَعْـيُها مقطعاً من العظة، فإن العبارات تُكْتَبُ وكأنها جملة واحدة بدون فواصل. اللغة هنا، لغة الثقافة، قرآنية تقريباً. وخطيب الجمعة يستعمل كذلك لغة قرآنية مرتبطة بالمجهول أو المحتمل: الثقافة الساميّة تبشّر بأن هناك انبعاثاً بعد الموت، تُعْطَى بموجبه الأجسامُ الميتةُ الحياةَ مرة ثانية. وهكذا، فإن الخطيب يربط الدين والسياسة بخلق رؤيا دينية – سياسية: احتمال تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي كفعل انبعاث.
خطيب الجمعة مُحبط بسبب الوضع الراهن لدرجة أنه يلجأ إلى خلق رؤية سعيدة للمستقبل. وهذه الرؤية بالذات هي التي توحّد بين الخطيب وأبي طاهر، الذي يشعر، هو الآخر، بالإحباط بسبب الحالة الدينية والسياسية المتردية في لبنان. كلتا الشخصيتين، إذن، تخلقان رؤية للمستقبل، وبهذا تؤكدان على فكرة الاحتمال.
سميّة كذلك تفكّر في وضعها في المستقبل بعد الدفن لأنها تعي الاستغلال المادي الذي يمارسه إخوتها عليها. وخطّتُها لحرمان إخوتها من حقهم في أن يرثوا بيتها هي الرؤية الخاصة بها للإنتقام منهم. إن التعبير عن هذه الدوافع الإنسانية يرتبط بفكرة الاحتمال، إذ أن سميّة، في الواقع، تتصور مشهداً أو حدثاً قد يحصل في المستقبل كأنْ تهب بيتها للكنيسة المارونية في صيدا. ومثال آخر على قاعدة الاحتمال هو نافذة السيارة، في مقطع من مقاطع سامح (61)، والتي تفاجئنا بإحتمالات لا نهاية لها.
إن كلمة إحتمال كما هي مستعملة في النص توحي بعدد لا نهاية له من المشاهد والحوادث. وفي الواقع، إن كل واحد من الشخصيات يحاول أن يصنع قَدَرَهُ على مستوى نظري / احتمالي. لذلك فإن الحدث الرئيسي في هذه الرواية يهتم بالمستقبل، أي بالمحتمل، وليس باللحظة الراهنة. (لدراسة تفصيلية لإستخدام الحريري لمبدأ الإحتمال في وعد شباط، يرجى الرجوع إلى مقالة د. ناهدة سعد).
خلاصة
في هذه الدراسة حاولتُ أن أعرض أوجه التماثل والاختلاف بين حين اضطجعت بانتظار الموت و وعد شباط ملقيةً الضوء على النقاط التي وجدتُها تستحق المناقشة الجادة. وقد قسمتُ مقالتي إلى قسمين : القسم الأول يتتبع تأثير فولكنر على د.حريري من خلال دراستي للنقاط المتشابهة بين روايتيهما. فكما تأثر فولكنر بجويس وبروست تأثر د.حريري بدوره بفولكنر، ليس فقط لجهة استخدام سيل من البراعة الفنية الواعية – خاصة تجزؤ الوعي بين الرواة – بل كذلك لجهة اختيار الموت كفكرة رئيسية. والحريري مثل فولكنر يتغلغل عميقاً في حوادث الرواية، متيحاً للقارئ أن يغوص عميقاً في أذهان الشخصيات.
يهتم القسم الثاني بالإختلافات بين الروايتين ويلقي الضوء على استعمال المستويات اللغوية المختلفة وعلى استخدام مبادئ موحِّدة لبناء العمل الأدبي. في ما يتعلق بفولكنر فهو يستعمل ثلاثة مستويات للغة، وفيها تتحرك الشخصيات متتبعة سلسلة من الترابطات. والبارز في روايته أن معظم شخصياته غير مثقفة، تتكلم في الأغلب لغة أميركية دارجة.
الحالة تختلف في وعد شباط، فجميع الشخصيات تتكلم لغة مصقولة تعكس غنى الثقافة التي تنتمي إليها، ولكنها، أي اللغة، بالرغم من ذلك، تظلّ تتمايز بين حالة وأخرى. فلغة كسّاب مثلاً تعكس عقله الحاسب، فحيثما كان ومهما كانت حالته فهو يربط الأشياء التي يعيها بالأشياء ذات العلاقة بالمال. أما لغة سامح فهي لغة الشاعرية المرهفة، لغة التحولات – ميتامورفوسس. وبين الماديّ والشعريّ تنسرح لغات الشخصيات الأخرى.
وبينما تنتظم السخريةُ رواية فولكنر، ينتظم روايةَ الحريري مبدأُ الاحتمال. الرواية الأولى مليئة بالسخرية فهي تقدم الشخصيات بطريقة هزلية جداً كما في حالة آنس، الذي بدأ رحلته على أساس دفن زوجته في جيفرسون، وانتهى باتخاذ زوجة جديدة له وبالحصول على طقم أسنان اصطناعية. وعلى الرغم من محاولة آدي الثأر لنفسها من آنس خلال الرحلة، يبدو أن «آنس» هو الذي هزمها في النهاية. رواية الحريري، من ناحية أخرى، تكشف حالة الشخصيات وكأنها تُرِكَتْ في حالة ترقّب. الكلّ يتوقع حدوث ما يتمناه في المستقبل – بعد دفن الأم – لكننا لا نعرف ان كان ذلك سيحدث بصورة مؤكدة. المجهول، بصورة الاحتمال، يحكم مسار الرواية.) (إنتهت مقالة سهى كنعان).