د. صلاح الدين الحريري

صورةٌ شخصيَّةٌ للفنَّان في وعد شباط

صورةٌ شخصيَّةٌ للفنَّان في وعد شباط

A Portrait of the Artist

In

February`s Promise

By: Fadwa Murdaah

 

 

صورةٌ شخصيَّةٌ للفنَّان

في وعد شباط

 

 

ترجمة د. وجيه فانوس

 

            يمثّل سامِحُ الجُمَريّ صورةَ الفنَّانِ في وَعْدِ شُباط؛ وهيَ الرِّوايةُ المتعدِّدةُ الأصواتِ لصلاح الحريري. يُسَجِّل رسمُ الصُّورة الشَّخصيَّة لـسامح الجُمَريّ، في المقاطع المخصَّصة لها مِنْ هذه الرِّواية، في حُمَّى الابداع الفنِّيّ، هُويَّةً روائيَّةً فريدةً؛ إذ يُشَكِّلُ سامِح، ههنا، وفي محاولةٍ شديدةِ الإصرارِ من قِبَلِهِ للتَّسامي فوق وجودهِ، رحلةً إلى مخابيء المجهول. وتُسجِّلُ هذه الرَّحلةُ، بذاتِها، وَعْيَاً مُرَكَّزاً للفنَّانِ ولحَيْرَتِهِ الوجوديَّة التي سُرعان ما تَمْتَزِجُ بِدوافع عميقةِ الجذورِ يَنْهَضُ عليها العُمْقُ الدَّاخليُّ لكيانه.

       يؤكِّد آرترو فاليكو في  الفن والوجودية، أنْ لا شيئ يؤثّر في إطلاعِ المرءِ على الحقيقةِ المُشِعَّةِ للوجودِ أكثرَ مِنْ مواجهةِ القِيَمِ الأخلاقيَّة[1].  ولطالما انعكسَ وجودُ الإنسانِ عَبْرَ مُعضلةِ وجودهِ غير المُسَوَّغِ، وعبر مصيرِهِ غيرِ المؤكَّدِ، وكذلك عَبْرَ أخلاقيَّاته واحساسه بالوحدة.  أمَّا الموتُ، فهو ذلكَ النَّدُّ الوجوديُّ للإنسانِ، والذي طالما رَوَّعَّ الإنسانَ بعجزِهِ تجاهَه. إنها أمورٌ تَقِفُ، برُّمَّتها، لِتُذَكِّرَ هذا الإنسانَ بِنَقْصٍ ما في تَصْميمِ ذلكَ النَّسيجِ الغامضِ للوجود.  والفنَّانُ، أكثرَ مِنْ أيِّ إنسانٍ آخر، مُجْبَرٌ على الحركةِ بفعاليَّةٍ بواسطةِ ذلكَ الإحساسِ بالنَّقصِ في الوجودِ؛ كما وإنَّ وَعْيَ هذا الفنَّان لحقيقتِهِ الأساسيَّةِ الذَّاتيَّةِ يتيقَّظُ في مواجهةِ الموتِ والفراغِ مُتَوَثِّباً حتَّى أقصى ما عِنْدَ هذا الفنَّانِ من إحساسٍ بالتَّحرُّرِ مِنْ أَصفادِ الموت.

إنَّ الموتَ، في روايةِ وَعْدُ شُباط، هوَ السَّببُ الرَّئيسيُّ لمأزقِ سامحٍ في عيشِ الحياةِ؛ أمَّا شقيقته، سُمَيَّة، فتلحظُ أنَّه قَدْ فَرَّ مِنَ الموتِ منذُ الأزلِ، وأنه لن يَرْجِعَ مِنْ غربته إلاَّ إذا أُرْغِمَ على هذا الرُّجوعِ فَقَطْ لِيَكْتُبَ عن رِحْلَةِ المَوْتِ:

شرَّدته الأحلام وحبه الروايات والشعر لعالم الغرب فتلقَّى من فنّه ما استطاب. ثمَّ عاد من غير ما عودة وألزم نفسه النَّفي في مدينة بيروت. يقول هربت من أوَّل الزَّمان من الموت ولن أعود، إذا عدت، إلاَّ لأكتب رحلة الموت، وها هو عاد في الصباح على نبأ الموت.[2]

 

يعودُ سامحٌ، موفِياً بوعدِهِ، لِيَكْتُبَ عن رحلةِ الموتِ التي لا بُدَّ لَهُ مِنْ عَيْشِها قبلَ أنْ يَكْتُبَ عنها. وتتلازمُ الكتابةُ عنِ الموتِ، في ذِهْنِ سامحٍ، بالتَّسامي الذَّاتيِّ الذي يُشَكِّلُ الأُمْنِيَةَ المُتَجَذِّرةَ في قلبِ كُلِّ إنسانٍ حَيٍّ؛ وكَما يَشْرَحُ واين مُولر في كيف، بعد كل هذا، سنعيش؟، عندما نَفْرغُ مِنْ روايةِ الحكايةِ، يُمكِنُنا، آنذاكَ، تَرْكُها وراءَنا؛ وهذا الذي يَبْقى مِنَ الأمرِ، يَظَلُّ مُستَتِراً كاملاً وكُليَّاً وحيَّاً[3].

جَعَلَتِ الأُلفةُ، غيرُ المنطوقِ بها وغيرُ المُعَرَّفَةِ، بينَ الأمِّ وابنها، مِنْ وفاةِ سميحة جِسْراً للإبنِ/الفنَّانِ يعبرُ عليهِ إلى عيشٍ أشدَّ عًمْقاً وأكثرَ غنى. ومِنْ هُنا، يَأتي بَحْثُ الابنِ عَنِ الكمالِ السَّاكنِ في طبيعتِهِ؛ والذي يتشكَّلُ في رحلةٍ رُوحانيَّةٍ رُبَّما تكونُ الحديقةَ الخَصْبَةَ لروحِهِ، في ذلكَ الكُليِّ المَخْبُوءِ مِنْ وُجودِه.  وإلى جانبِ هذا المَنْحى، فإنَّ سامحاً سيكونُ، في فواصِلِ الموتِ التي تُتَوِّجُ تَشَظِيَّاتِ هذه الرِّحلةِ الرُّوحانيَّةِ، مُندفعاً نحوَ التخلُّصِ مِنْ كُلِّ ما يُشْغِلُ وَعْيَهُ؛ ذلكَ أنَّ العمليَّةَ التَّدريجيَّةَ للتَّطَهُّرِ تَسْتَتْبِعُ تصفيةً مِنْ جميعِ الميولِ المُتعارِضَةِ فيما بينها.

بِما أَنَّ كلَّ فنَّانٍ، وفاقاً لتعبيرِ سي. جي. يونغ، هوَ ثنائيَّةٌ أو تركيبةٌ منَ الاستعداداتِ المتناقضةِ فيما بينها[4]؛ فإنَّ حياةَ سامحٍ لا يُمكنُ لها إلاَّ أنْ تكونَ ملأى بالصِّراعات. ثمَّةَ قوَّتانِ تتصارعانِ في داخلِ سامحٍ؛ تُمَثِّلُ إحداهُما كَوْنَهُ إنساناً لهُ حياةٌ ذاتُ بُعْدٍ شخصيٍّ؛ فيما تُمَثَّلُ ثانيتهما كَوْنَهُ عمليَّةَ إِبْدَاعٍ تتجاوز ذاتيّته. إنَّهُ هذا الشَّغفُ العاصفُ إلى الإبداعِ الذي يتجاوزُ جميعَ رغباتِ سامحٍ الذَّاتية الأُخرى، الإبداع الذي يُعْلِنُهُ سامحٌ عَبْرَ هَيْمَنَةِ صفاتٍ للفنَّانِ فيهِ تَجْنَحُ نَحْوَ تدميرٍ مُتناقضٍ فيما بينها. إنَّ العزلةَ غير المُسَوَّغَةِ التي يَحتلُّها سامحٌ في دُنيا وَعْدِ شُباط، تَجِدُ أفضلَ توضيحٍ لها من خلالِ تحليلٍ مُعَمَّقٍ لعلاقاتِهِ مع باقي شَخْصِيَّاتِ الرِّواية.

إِنَّ محاولةَ سامحٍ التَّصرُّفَ، على مستوى الوَعيِ، مع عائلتِهِ ومحيطِهِ، تتماهى مع ارتباكِ عقولِ أشقَّائِهِ وشقيقتِه. ويتجسَّدُ هذا هذا الملمحُ من خلالِ الاعترافاتِ الذاتيَّةِ المتلاحقةِ لـكسَّابٍ وطارقٍ وسميَّة. فكسَّابٌ لا يمكنُهُ فَهْمُ حَمْلِ جُثمانِ الأُمِّ من جهةِ الرَّأسِ كما يَفْعَلُ سامحٌ المُشَتَّتُ الفِكْر:

إنَّ ما لا أحسن فهمه هو الأخذ برأسها أولاً كما فعل شارد الذِّهن هذا فقلب عاليها سافلها وانجرف على الدَّرجات أمامنا نزولاً نزولاً كأنَّما هو في سباق مع الحاملين. مهلك يا شارد الذِّهن ويا طويل الرجلين مهلك.. لعلَّ شرودك أنساك أنَّ اليوم يوم جمعة وأنَّ للخطيب كلمة ... ولتسرع فذلك الشَّارد نزولاً نزولاً لا يزال يشدّ بكتفها إلى كتفه كأنما يخشى هروبها منه...[5].

وكذلك، في ما يصفهُ بهِ طارِقٌ من كَوْنِهِ امرءاً مُشَتَّتاً، بلْ وضائعاً في عَالَمِ الرِّواياتِ والشِّعرِ والنِّساء:

أمَّا ذلك التَّائه الهائم الشَّارد في عالم الرِّوايات والشّعر فَبُعْداً له ثمَّ بُعداً. وانشغاله بهموم الأدب والنِّساء في بيروت إنَّما ختم على عينيه وقلبه فهو لا يرى حقيقة ما يجري في حياتها هنا[6].

وكما تُعَلِّقُ سُمَيَّة على تشتُّتِهِ واغترابِهِ:

وها هو عاد في الصَّباح على نبأ الموت، غريباً كما عهدناه في أوَّل العمر، مُشَرَّدُ العينين أبداً كأنَّه أبداً راحلٌ لا يعود[7].

      

تدفعُ شخصيَّةُ الأمِّ بمتلقِّي النَّصِّ الرِّوائيَّ، وسطَ هذهِ المواقفِ المُتعدِّدة، إلى الجانبِ الآخرِ من طبيعةِ سامحٍ؛ عبرَ إصرارِها على ديمومةِ استحضارِها لابنِها سامحٍ إلى ذاكرتها، مِنْ دونِ الآخرينَ مِنْ أولادِها. تتأمَّلُ الأمُّ في الزَّمنِ الذي سيأتي فيهِ سامحٌ إلى زيارتِها بعد الدفن، وهو تأمُّلٌ ما كانت لتقومَ بِهِ لولا أنَّ تأكُّدَها منهُ هوَ كَمِثْلِ تأكُّدِها من حقيقةِ لَحْمِها ودَمِها. ويتوضَّحُ استحواذُ الابنِ المفضَّلِ لدى الأم من خلالِ تردادِها لِذِكْرِ إسمِه:

فإن تكن تلك مشيئة الله، فلسوف يختلط عليك الأمر، يا سامح، سبعة أشهر لا تعرف خلالها أيهما قبري وأيهما قبر أختي. ولسوف تأتي تزورني، يا سامح ... سبعة أشهر ستمرُّ عليك.[8]

       فيما تسعى روحُ الفنَّانِ إلى التَّحليقِ بعيداً عن شِباكِ العائلةِ، تبرزُ ازدواجيَّةٌ لافتةٌ للنَّظرِ بشكلِ تناقضٍ بينَ طبيعةِ سامحٍ الرَّقيقةِ والحسَّاسةِ من جهةٍ، وميولِهِ القاسيَّةِ من جهةٍ أُخرى. إنَّ الأبَ والابنَ في سامح هُما بالكادِ واحدٌ. فَهُوَ في آن معاً الأبُّ الحازمُ والأبُ القادرُ على تقديمِ صورةٍ مُلَطَّفةٍ للموتِ إلى ابنتهِ الطِّفلةِ نِيْنَا التي يحبُّها؛ ولأنَّ تعابيرَ الطِّفلةِ مجرَّدُ اعترافاتٍ بريئةٍ، فإنَّ كلماتِها تتحدَّثُ عن ذاتِها. نِيْنَا خائفةٌ مِنْ أَنْ يُفَرِّقُ الموتُ بينَها وبينَ والدِها؛ ولذا فإنَّها تطلبُ مِنْهُ لَوْ يتمكَّن مِنْ انتظارِها إِلى أَنْ تَكْبُرَ حتَّى يموتا معاً. أمَّا سامحٌ المستترُ خَلْفَ بُكائِهِ، فإنَّهُ يَحْضُنُ طفلَتَهُ بحنانٍ ويَعِدُها بأنَّهُ سينتظرُها:

يأتي إليَّ صوته ضعيفاً كالهمس لا عليك يا حبيبتي سأنتظرُ حتَّى تكبري فنكبر معاً ثم يختبئ صوته مني وأحسُّ بصدره ينتفخ وبأنفاسه تعلو وتتسارع فأعرف أنَّه يحبني وأنه يخبئ حبه عني في الدَّمع الذي يلتمع في عينيه المختبئتين في شعري [9]

       يُقارنُ سامحٌ، في حالِ سبقتهُ ابنتُهُ إلى الوفاةِ، بينَ الموتِ وبينَ رحلةٍ يقومُ بِها إلى جنَّةِ اللهِ حيثُ سيحضِّر لإبنتِهِ كلَّ ما تحبُّه في هذا العالم:

ويقول لا تخافي من الموت يا حبيبتي فما هو إلاَّ مشوار نذهبه إلى الله، فإن قدَّر الله ومتُّ قبلك فلا تبكي ولا تحزني لأنني سأسبقك إلى الله لكي أهيّئ لك بيتاً جميلاً في حديقة الله وأجعل لك في الحديقة كل ما تحبين من الطَّير والنَّبات والحيوانات الصَّغيرة التي تقرئين عنها في الكتب ولا تجدينها في بيروت[10].

       لا يبدو سامحٌ، خارجَ حديقتِهِ هذه، مُسْتَبْعِداً لِوالِدهِ؛ رَغْمَ الموتِ الحقيقيِّ للرابِطِ الحميمِ بين الأبِ والابنِ في هذا العالم. فالعلاقةُ المتناقضةُ بينهما تجعلُ هذا العبءَ أكثرَ ثقلاً على ذاكرةِ الابنِ، كما تضعُ محاولتَهُ للتَّحرُّرِ الذَّاتيِّ في صعوبةٍ لا تُطاق. يوقظُ هذا التَّناقضُ تَذَكُّرَ جهَّارٍ لِمشهدٍ غيرِ ذي تفاصيلٍ أو تفسيرٍ حيثُ يصفع سامحٌ، وَسْطَ نوبةِ غضبٍ، والدَه. يبدو أنَّ الابنَ صفعَ والدَهُ على وجهِهِ، مُسبِّباً له نزفاً دافقاً من أنفِهِ، ينحَدِرُ إِلى خدَّيه ويملأُ فمَهُ بمذاقٍ مالح. ويظهرُ الأثرُ الذي تركَهُ التَّصرُّفُ الأخرقُ لسامحٍ على والدِهِ عبرَ اعترافِ جهَّار:

فهل تذكر الدَّم، يا سامح، الدَّم، يا سامح، الذي عبق به أنفي وروحي بعدما ارتدت عن وجهي راحة يدك، وسال كنهر الذُّلِّ على جانبي أنفي فغسل شفة وانزلق منها فبللت ملوحته ولزوجته لساني الذي غلَّه الهول من جراءة يدك التي ارتفعت وهوت وأذاقتني الطَّعم طعم دمي الذي في ذكرى فمي لا يزال أحدَّ من الذكرى، سخياً لا يزال؟[11].

       لايمكنُ للمرءِ أَنْ يُغفِلَ الرِّقةَ التي كانَ يَعترفُ بِها الوالدُ بأنَّ سامحاً هو الابنُ المفضَّلُ له ولزوجِهِ؛ وذلكَ لأسبابٍ يُبقيها النَّصُّ الرِّوائيُّ، مع سِواها من أسرارٍ أخرى للعائلةِ، في الخفاء.

وهو، وإن لم أقلها لك يوماً ولم تقوليها لي في الحياة أقرب أولادنا إليك وإليَّ، لسرٍّ فيه وفينا[12].

       تتكثَّفُ لامبالاةُ سامحٍ العدوانيَّةُ عبرَ استرجاعاتِ والده له، خاصَّةً عندما يتذكَّرُ الوالدُ غيابَ سامحٍ عَنْ مأتمِهِ هُوَ (جهَّار)؛ أمَّا النَّصُّ، فيتركُ المتلقِّيَ في العتمةِ حولَ سببِ فَشَلِ الإبنِ في الوفاءِ لواجبِ حضورِ المأتم. بيدَ أنَّ جهَّاراً كانَ قد سَبَقَ لهُ، ومنذُ زمنٍ، أنْ انتقمَ لذاتِهِ بِوَسْمِ دَمِ ابنهِ بلعنةٍ سوفَ تظلُّ مصدرَ قلقٍ للإبنِ وخَسْفٍ لوجوده؛ إنَّها لعنةُ الرَّغبةِ الشَّبقةِ في النِّساء:

وأنا ما دمتُ فيكَ فلستَ بالحر أنتَ، يا سامح، فها أنا ذا ورَّثتُك اللعنة التي في دمي وأودعتُ في عينيك أَسْرَ الحنين الذي في عينيّ، فكأنّما كتبتُ عليك مثل الذي كُتِبَ على أبيك من قبل، أن تظلَّ عيناك مملؤتين من شيء ِغيرِك[13].

       تحتلُّ الرَّغبةُ في النِّساءِ موقعاً مركزيَّاً في بحثِ سامحٍ عنِ الكمالِ المخبوء. النِّساءُ والحبُّ هما الرَّكيزتانِ اللتانِ يعتمدُ عليهما التَّحرُّرُ الرُّوحيُّ المحتملُ لسامحٍ، وكذلك وفاؤهُ المُحْتَمَلُ للوجود.[14] وكيفما دارَ الأمرُ، فإنَّ في مَوْتِ والدتِهِ وذكرياتِ تينكَ النَّسوةِ من قوةٍ ما يَرويَ عطشَ نيرانِ رُوحِهِ وشَغَفه إلى الإبداع. إنَّ نشوبَ الصِّراع بينَ سامحٍ الفنَّان وسامحٍ الإنسان، يأتي ضمنَ ما يُمكنُ اقتباسه عن توماس هاردي من أنّه الحربُ المُهلِكَة بين الجسدِ والرُّوح.

       وإلى أن يتمكَّن سامحٌ من تدبُّرِ حلٍّ ما للتَّأزُّمِ النَّاجمِ عن هذه التَّنوّعاتِ العاطفيَّةِ، فإنَّ متلقِّي النَّصّ الرِّوائيّ مدعوٌّ إلى رحلةٍ داخليَّةٍ في جهازِهِ النَّفسيِّ مسحاً لما فيهِ من انقِباضات وتمدُّدات؛ فمع كلِّ حركةٍ، يبدو أنَّ الموتَ، قاطِعُ الانقِباضات والتَّمدُّدات[15]، يتدخَّل.

       تُلازِمُ الأشكالُ الحسيَّةُ للنِّساءِ وعيَ سامحٍ؛ وتوفِّرُ لهُ إحباطاً تجاهَ ما يُعَرِّفُ بهِ هو كُلاًّ مِنَ الرَّجُلِ والفنَّانِ من ذاته. ترتبطُ النِّساءُ، عندهُ، بالموتِ والحبِّ والابداعِ وتالياً بالتَّعالي؛ وهذه الدَّلالاتُ تتداخلُ فيما بَيْنَها، فيما يَنْتَقِلُ ذِهْنُهُ بين الماضي والحاضر والآتي من الزَّمن. وبما أنَّ الطَّيرانَ الدَّاخليَّ للفنَّانِ يمكن أن يُوصَفَ، بأفضل تصويرٍ له، بمفاهيم هُجراتِ الطُّيورِ، فإنَّ هجرةَ الفنَّانِ تشملُ أنواعاً مختلفة من الطُّيور؛ وهذه الطُّيور تتطوَّرُ ضمنَ تعديلاتٍ خفيَّةٍ تنهضُ على تَراسُلٍ عاطفيٍّ يجري استحضارُهُ بوضعيَّة معيَّنة.

يقدِّمُ النَّصُّ، في بدايةِ الأمرِ، امرأةً مُتَوفَّاةً من دونِ ما هُوِيَّةٍ تُمَيِّزُها من سِواها. وأوَّلُ مشهدٍ تُطالِعُ بِهِ الرِّوايةُ مُتلقِّيها هو مشهدُ سامحٍ يَحْمِلُ رأسَ جُثْمانَ أُمِّهِ فوقَ راحةِ يَدِه، رابطاً بينَ رأسِها هذا ورأسِ طائرٍ نَسِيَ اسمَه. لقد كانَ سامحٌ مَأخوذاً بالمَوْتِ، لدرجةٍ باتت معها الأسماءُ وكأنَّها تتملَّصُ منه؛ بيد أنَّ هذا لَنْ يعنيَ أنَّ سامحاً سوفَ يتركُ أفكارَهُ في حالٍ من السَّكينةِ المُطْلَقَة.  إنَّه، بتَكراره للخاطرِ الذي تملَّكهُ، مُتحاشِياً جميعَ التَّعريفات، يَتْرُكُ المجال مفتوحاً، حتى آخر الرواية، للبحث عن هوية الطائر وإسمه:

رأسُها الآن على راحة يدي مثل رأس ذلك الطَّائر الذي...

 رأسُها الآن على راحة يدي مثل رأس ذلك الطَّائر الذي[16]

هذه النُّقطة النِّهائيَّة، التي تأتي إِثرَ ضميرٍ نسبيٍّ في نهايةِ الجُمْلَةِ، تَسْتدعيَ مَنْهَجَ ما يُعْرَفُ بمَلءِ الفَراغِ بالكلماتِ المُناسبة. وهيَ تُمَهِّدُ الدَّربَ، مِنَ النَّاحيَةِ العقليَّةِ، لِمجموعةٍ من الطُّيور المتنوِّعة.

       عندما يتمكَّن سامحٌ من التعرُّفِ على طَيْرٍ آخر، فإنَّ الصُّورةَ تبقى مُرْتبطةً بموتٍ وامرأة. الغُرابُ، طيرٌ مُعَرَّفٌ، يُضْحي صورةً مركزيَّة ووسيلة فضلى لإيقاظ جوَّ الموت. مقارنة النسوة الحزينات الواقفات على الشُّرفة  بالغربان[17].

الشرفة مطلية بسواد الغربان فيا ليتهنَّ يمسكن بيديها اللتين تلطم بهما صدرها ويجررنها إلى داخل البيت [18].

       رغمَ أنَّ المرأةَ مُرتبطةٌ، في ذِهنِ سامحٍ، مباشرةً بالموتِ، فإنَّها ما بَرِحَت تُمَثِّلُ له إمكانيَّةً مُعيَّنةً للخلاص؛ ويجري، في المقابلِ، ذِكْرُ طيورِ الحُبِّ وطائرِ النَّمنَمةِ. يتوخَّى سامحٌ، منجذباً إلى طالبة لهُ في الجامعةِ، دَرْباً للخلاصِ من عِبْءِ المَوْتِ الذي يُثْقِلُ كاهِلَ روحِه. يُلَمِّحُ إلى علاقة جسديَّة حميمةٍ مع الفتاةِ عبرَ تداعٍ ما مع طيورِ الحبِّ المرسومةِ على غلافِ دفترٍ لها.  وثمَّةَ فتاة أُخرى، لعلَّها تلميذة من مرحلةِ التعليمٍ الثانويِّ من أيَّامِ سامحٍ المُبكرةِ في صَيْدا. يُغَرِّدُ طائرُ النَّمنمنةِ عند شُرْفَتِها، داخلَ قفصٍ يتدلَّى من السَّقفِ كإشارةٍ إلى السَّماء؛ وهذا ما يُلْهِمُ سامِحاً بشِدَّةٍ ليَسْتعيدَ اسمَ الهُدْهُدِ، ذلك َالطَائرَ الذي يَصِيرُ وعداً بالحَلِّ الأخيرِ لصِراعِ سامحٍ الدَّاخلي. الحبُّ والأشواقُ الجسديَّةُ يُشَكِّلانِ، وَلَوْ إِلى حِيْنٍ، تعويضاً لدى سامحٍ عنِ الحُزنِ الذي اسْتَحْضَرَهُ الواقعُ المُدَمِّرِ الذي يُواجِهُه. وتَجِدُ هذهِ الرَّغباتُ صدىً لها في التَّصميمِ الحادِّ للمرأةِ، التي يَرْتَبِطُ جفناها بالصَّقرِ، لتعيشَ حياتَها كاملة:

فلينتظرْني في البيت حرّاسُ عمري فعمري لي أنا وها أنذا أعرِّيه لعينيكَ فَخُذْهُ ولفِّعْ به عُرْيَكَ يا عاشق الرِّوايات[19].

يملأُ المشهدُ الرَّاهنُ للموتِ النَّفسَ الدَّاخليَّة لسامحٍ بإنقباضاتٍ روحيَّةٍ. إنَّهُ يُحاوِلُ الفَرارَ مِنَ الموتِ بالتَّحليقِ بأجنِحَةِ الفنِّ، في فضاءِ الفكرِ والإلهام؛ في حين أنَّ في استغراقه الكُليّ في أعمالِ الرِّوائيّ الأميركيّ ويليم فوكنر ما يجعل مِنْ فوكنر المصدرَ الوحيدَ لإلهامِهِ الأدبيِّ وقُطْبَ خلاصِه:

عيون الصَّبايا تزدحم في عينيّ تسألني لماذا أقرأ لهنَّ بنهم العشَّاق من أدب ذلك المجنون الأميركي الذي لا يعرف أبطاله الوقت إلاَّ بقراءة الظِّلال؟ ولماذا تأخذني النَّشوة من عالم ضميرُهُ صيحةٌ ونبضُ أعصابِهِ غضب؟ ولماذا ألتهب بالحمَّى كلَّما تلوت عليهم قصَّة تلك الأم...[20].

يَسْتَذْكِرُ سامحٌ مشهداً من روايةِ حين اضطجعتُ بانتظار الموتلفوكنر، إذْ تجرُّ البغالُ العربةَ التي تحملُ جثمانَ الأمِّ المتوفَّاةِ، آدي باندرن. يُصْبِحُ هذا المشهدُ هاجساً في ذهنِ سامح. يُصْبِحُ إغلاقُهُ لعينيهِ وفَتْحُهُ لهما تصويراً دراماتيكيَّاً لمحاولتِهِ الهربَ من هواجِسِه[21]. وكيفما دارَ الأمرُ، فإنَّ الموتَ يَنْسَلُّ إلى عالمهِ مِنْ خلالِ سوادِ الغرابِ مصحوباً بالمشهدِ الرَّاهنِ للوفاة. وتدفعُ راهنيَّةُ الحالُ هذهِ بالفنَّانِ إلى درجةٍ تُضْحي بِها سيَّارةُ االدفن في الواقعِ تسْتَوْعِبُ عَرَبَةَ الدفن في الرّوَايَةِ:

العربة تلتفُّ يساراً مع التفاف المنعطف فتمتصُّها سيارة النَّعش رويداً رويدا. العربة والبغلان يغشيهم سواد الغراب فيتلاشيان[22].

وفي هذا التَّشابكُ بين ذكرياتِ الماضي والحالِ الرَّاهنِ، بينَ الموتِ الرِّوائيِّ وذلكَ الواقعيِّ، ما يأسرُ مُخَيِّلَةَ سامحٍ. هنا، يفتَحُ سامحٌ عينيهِ، لِيُغْلِقَ صفحاتِ روايةِ فوكنر، مأسوراً بالصَّفحاتِ التي لَمْ يَكْتبها بَعْدُ مِنَ الرِّواية:

أفتح عينيَّ لأغلق صفحات الرِّواية فيطالعني الموكبُ من جديد وأنا في وسطه، أسيرَ صفحات رواية لم تكتبها يَدٌ بعد[23].

       تُظُهِرُ العيونُ مجالاً آخرَ للتَّعبيرِ، وتُنْشِئُ جسراً في الفضاءِ والزَّمن. لغةُ العيونِ تجلبُ تعزيةً جديدة إلى نفسِ سامحٍ المُعَذَّبة؛ ولذا، فإنَّها لا تفتأ تجتاحُهُ ما إنْ يُغْمِض عينيه:

أطبق أهدابي من جديد.

عيون الصَّبايا تزدحم في عيني ...[24].

       رَغْمَ أنَّ سامحاً يُنعشُ رَغَبَاتِهِ الجِنْسِيَّةَ غير المُشْبَعَةِ لتَتَجَانَسَ مع خُبُراتِهِ، ويتسامى بها بالانكِفاءِ باتِّجاه ذكرياتٍ لهُ معَ نساءٍ مغويات، فإنَّه لا يَجِدُ طِلْبَتَهُ هذهِ إلاَّ في تألُّقِ فنِّ فوكنر. في أحدِ المشاهدِ يُحاولُ أَنْ يَسْتَجيبَ لأمنيةِ إحدى النِّساءِ بِأنْ يَتْلو شِعر سافو، بيد أنَّ عينيهِ تَتَسمَّرانِ فجأةً على موكبِ المَوْت؛ وسُرعانَ ما يُغْلِقُهما، ملتجئاً إلى روايةِ فوكنر:

أسدل أجفاني حتَّى لا أرى.

العربة التي يجرها البغلان تمزِّق صفحات الرواية من جديد[25].

تتسامى المرأةُ فوقَ اللحمِ والدَّمِ، باستمرارٍ، وسطَ هذه الانقِباضات في نفسيَّةِ سامح. تصبحُ رؤيةً شفَّافةً توازي تلكَ التَّصفيةَ للمياهِ التي تنزلقُ في الجِلْدِ المُتَشقَّقِ للأرض. المرأةُ هيَ إنجازُ الوعد[26]:

المرأة رَشْحُ القَطْرْ

ينسلّ في بشرة التربة المشققة من حرائق الانتظارْ

ينحلُّ لدونةً في مسامّها الفاغرةْ

المرأةُ رَشْحُ الوعدْ[27].

يَتَشوَّهُ الوَعْدُ مُجَدَّداً، ويَنغمِسُ سامحٌ في العالمِ المتناقضِ للمرأة:

كلمعة البرق التي تُطْمِعُ وتُخيف هي المرأةُ التي جسدُها لبؤةٌ وضحكة وجهها طفل صغير[28].

ولا شكَّ بأنَّ هذه التناقضات تحيلُ المرأةَ إلى مصدرِ جرحٍ لذيذٍ للفنَّان:

المرأةُ التي تعبرُ الطَّريقَ هي الجرحُ تمادى حتَّى حدود المسافة[29].

تبقى المرأةُ في وَعْيِ سامحٍ، طوالَ الرِّحلة، تجسيداً للتَّناقضات. إنَّ حقيقةَ مظهرها الجسديِّ الأُنثويِّ لا تتعارضُ مع بروزِ صورةٍ متساميةٍ لها؛ فهذهِ الصُّورةُ تُوَفِّرُ الرِّقةَ والحبَّ، وتُهذِّبُ الشغَّفَ كما تُغني الرُّوح. تُعَظَّمُ المرأةُ، بكلماتٍ لجويس، باعتبارِها كائناً شبهَ مُقدَّسٍ، ونوعاً فريداً من العذراءِ مريم التي تَمنحُ، بِنَفَسٍ قدسيٍّ، البركةَ والخلاصَ؛ كما أنَّ المرأةَ هي اتِّحادٌ مِنَ النُّور المُتسامي[30].  إنَّها تُهَيِّئ الدَّربَ لإنغماسِ سامحٍ في عوالمِ النَّماذجِ الأصليَّةِ، حيثُ قد يُقيمُ مُصالَحَةً ما بين العناصِرِ المُتناحِرَةِ في طبيعتِه[31].

لا يبدو أنَّ العذراءَ مريم تُشْبِعُ رغبةَ سامحٍ في التَّسامي؛ فصورتُها تتمزَّقُ جذريَّاً؛ إذ طالما تَعَارَضَ انتشارُ الرُّوحِ، عَبْرَ الاحتفالِ الرَّمزيِّ بِها، بالرَّغبةِ الجِنسيَّة.  والعذراءُ مريم، وَعْدُ الرَّحمةِ وعطيَّةُ الحبِّ الأمومِيِّ، استُبْدِلَت بصورةِ عشتروت. إنَّ تمثالَ العَذْراء مريم، المُنْتَصِبَ مِثْلَ فجرٍ فَوْقَ قمَّةِ الجبلِ، يَختنقُ بِعَبَقِ البرتقالِ، رمزِ النَّشاطِ الجِنْسيِّ:

هاهي السيِّدة العذراء تطلُّ كالفجر من على قمَّة الجبل ... إليها ... وهي على قمة الجبل، يرتفع البرتقالُ عبقاً وزهرُ البرتقال عقوداً من الهمس، إليها يرتفع الآن كما كان قبل بدء انتظارها في ذلك الزَّمان الآخر، يرتفع إلى عين القمَّة التي كانت آنذاك تحتفل في معبد عشتروت بعيد الأشواق تتبادع في أجساد حامليها وتلحُّ حتَّى يرتمين ويرتموا مغشيَّاً عليهم من عبق البرتقال[32].

ينطَلِقُ سامحٌ عبرَ دوافع جنسيَّةٍ شديدةٍ إلى عالمٍ من الخيال. وبما أنَّ كُلَّ تخيُّلٍ هُوَ، كما يَشْرَحُ فرويد، إشباعُ رغبةٍ معيَّنةٍ وتصويبُ واقعٍ احتياجيٍّ[33]، فإنَّ خيالات سامحٍ هيَ انعكاساتٌ لقلقهِ من الواقعِ المُحْبِطِ المتمثل بالموتِ ومن هَوَسِهِ الجِنْسيِّ، فتأخذُ المُخيَّلةُ القيادة في محاولاتِ سامحٍ للتَّسامي. ففوراً، وبعد الإشارةِ إلى العذراءِ مريم وعشتروت، تبدأُ عمليَّةُ مَسْخٍ في الجَوْفِ الأرضيِّ لمقبرةٍ ما في باريس؛ إِذْ العظامُ المُرَتَّبةُ للموتى تتجلَّلُ فوراً بالَّلحمِ ويفورُ فيها شَبَقُ الرَّغبةِ تلقائيَّاً؛ ومع حضورِ امرأةٍ بُعِثَتْ من الموتِ، فإنَّ المقبرةَ تنقلبُ إلى حياة:

من عبق البرتقال كان لوُن فستانها، وكانت أنفاسي كأمواج الصَّيف الناعسة تهجس بخواطر اللون وتنكسر كالهمس على شفتيّ وفي عينيّ ورئتيّ، وما زالت هي وما زلتُ أنا حتَّى تلفّتُ فجأة وقد انحسر الصَّمتُ والفناءُ فإذا هي تكتسي لتوِّها لحماً ويكتسي اللحمُ غاشياً من اللون مغشيَّاً عليه من عبق البرتقال[34].

يُمَثِّلُ فِعْلُ إحياءِ عظامِ الموتى، عبرَ الشَّهْوَةِ، دعوةً إِلى سامحٍ للتَّسامي الفَنِّيِّ ولكتابةِ ما نَهَدَ إلى كتابتهِ منذُ زمنٍ، وكذلكَ لِنَفْخِ الرُّوحِ في قِواه الابداعيَّةِ المرميَّةِ على عاتِقِهِ المُثْقَلِ بتجاربه الماضية.  

يُؤكد فاليكو أنَّهُ عندما يَتَّحَقَّقُ الإنسانُ الحيُّ  من أنَّهُ ما مِنْ جدوى لا مِنْ ذكرياتِ الماضي أو الحاضرِ في موضوعِ النِّساءِ، فإنَّ الحشريَّة تفتحُ شهيَّتهُ على اجتياحِ إحتمالٍ جديد[35]. يمكنُ للتَّشريعِ الجماليِّ أنَّ يكون حقَّاً فِعلاً تحريريَّاً. وبالفعِلِ، فإنَّ الكشفَ عن دلالاتٍ مُخَبَّأةٍ هوَ مهمَّةُ سامحٍ باعتبارِ الفنَّانِ كاهِنَ مخيَّلةٍ؛ وهي قُدْرَةٌ تحوِّلُ الإنسانَ إلى مخلوقٍ قُدْسيٍّ يشاركُ اللهَ في قوَّةِ الابداع؛ ومِنْ أجلِ هذا يُكافِحُ الفنَّانونَ لأنَّهم بِهَذا الأمرِ يُحَقِّقُون فِعْلَ السُّموِّ.

تبدأُ حياةُ التَّخيُّلِ والمجازِ الفنَّيِّ، وفاقاً لنورثروب فراي، بفعلِ تطابُقٍ، باعتبارِ أنَّ دورةَ الإنسانِ في الاستيقاظِ والحلمِ تتطابقُ كثيراً مع الدَّورةِ الطَّبيعيَّةِ للنُّورِ والظَّلام[36]. وهذا ما يُذَكِّرُ بفِعلِ سامحٍ في إغلاقهِ لعينيهِ وفتحهِ لهما. إنَّ سامحاً يكونُ، من جهةٍ أولى، في قوَّةِ الظلاَّمِ وهو في ضوءِ النَّهار؛ فريسةً للإحباطِ والضَّعفِ في مواجهةِ الموت. ومن جهةٍ ثانِيَةٍ، فإنَّ قوَّة النَّفسِ البطوليَّة القاهرة تستيقظُ في الظَّلام. ومشهدُ المقبرةِ، وهوَ شِبْهُ حلمِ يقظةٍ، ليسَ سوى أداةٍ تعبيريَّةٍ تَجْنَحُ إِلى إثباتِ بَعْثِ النَّفسِ الجبَّارةِ والدَّعوةِ إلى الخلاصِ؛ وهذا هوَ المسعى الأخيرُ لسامحٍ من أجلِ هذا الخلاص. يُشَكِّل فعلُ الابداعِ احتِياجاً أساسِيَّاً لدى سامحٍ؛ إذ، وكما يقولُ فراي، يبدو أنَّ حلَّ المتناقضاتِ هو الهدفُ الرَّئيسُ للفنِّ، وتحقيقُ عالَمٍ تكونُ فيهِ الرَّغبةُ الداخليَّةُ والمحيطُ الخارجيُّ مُتَطابِقين[37].  

تُلقي التَّمَاثُلاتُ المذهلةُ بينَ الفنِّ والحلمِ، الضَّوءَ على عِدَّةِ نقاطٍ متطابقةٍ فيما بينها. فالرَّغبةُ في الخلاصِ، تُشَكِّلُ القاسمَ المشتركَ بينَ الفنِّ والحلم. يُشاركُ الحلمُ العملَ الفنِّيَّ في أنَّهُ قوَّةٌ كامنةٌ لتَغييرِ الوجودِ وتَحويلِه من جذورِه؛ إنَّها قوَّةٌ ذاتُ روحٍ ثوريَّة[38]. إن المجازَ الفنِّيَّ لمشهدِ الابداعِ – كما هوَ الحالُ في مشهدِ المقبرةِ الباريسيَّة – يُوحي بصورةٍ موازيةٍ للولادةِ، لبزوغِ بنيةٍ حديثةِ الولادةِ في حياةٍ مُسْتَقِلَّة[39].

ويذهبُ فاليكو إلى ما هوَ أشدّ بُعداً في هذا المجالِ، إذ يَذْكُرُ أنَّهُ في الحلمِ، كما في الفنِّ، فإنَّ الحياةَ والعالمَ يشكِّلانِ مشاريعَ انبَنَتْ على تلقائيَّةٍ تحفظُ لهذه المشاريعِ وجودَها[40]. وقد يُمكِنُ للزَّمنِ، أو لَنْ يُمْكِنْهُ إطلاقاً، أَنْ يعودَ القهقرى؛ بَيْدَ أنَّ الحِيازةَ المكانيَّةَ لا يجري التَّقريرُ بشأنِها سوى بشعورٍ تلقائيٍّ ومقدرةٍ تخَيُّلِيَّة. وهذا ما يُسَوِّغُ انتقالَ سامحٍ مِنَ الوضعيَّةِ الرَّاهنةِ لمشهدِ الموتِ إلى حالٍ من الجمودِ الزَّمنيِّ؛ كما في المشهدِ الذي تقعُ فيه ساعةُ يدِهِ مُتَحَطِّمَةً تحتَ عجلاتِ السيَّارة:

وأنا عيناي تقتلعان الحجر إثر الحجر من جُدُرٍ لم تنتصب بعد لترجم بها عقربَ الثواني الذي سقط من ساعتي والتفَّ حول إحدى العجلات فدارتْ به ودار بها وظلَّتْ وظلَّ تدور ويدور ويدور[41].

وما يُسَوِّغُ هذهِ الميزةَ أيضاً هو ما يجري في مشهدِ المقبرةِ في باريس، فلغةُ الفنَّان هي بيئةُ تحوُّلِه.

       للغةِ سامحٍ فرادتُها وتوحُّدها في سيولةٍ بنائيَّةٍ تَعْكُسُ منهجهُ الفكريّ في التَّداعي والانتقال والتحوُّل[42].فالتَّكرارُ المتناوبُ للفظةِ برتقال، يقودُ إلى ولادةِ حافزٍ ابتدائيٍّ، إذْ في تشكُّلاتِ هذا التَّكرارِ ما يُوَحِّدُ المجموع. يَتداعى لَفْظُ البرتقال، أوَّلاً، مع مريم، إذ ينهضُ حقلُ البرتقالِ إليها. وتقطعُ عشتروت المشهدَ حيث أجسادُ العاشقينَ غارقةٌ في أريجِ البرتقال،محتفلةً بفرحِ اللقاءِ الجنسيّ؛ لِيرتبطَ شذا البرتقال برداءِ امرأةٍ من السوّاح في المقبرة الفرنسيَّة[43].

       إنَّ قطعةً من الكِتابةِ الابْدَاعِيّةِ، وفاقاً لما يُشيرُ إليهِ فرويد، هي مثلُ أيّ حلمٍ؛ إنَّها مُتَابَعَةٌ لِمَّا كانَ يُدعى مرَّةً بلعبةِ الطُّفولةِ، وبديلٌ منه في آن[44]. إنَّ تعبيراً صارخاً في الزَّمنِ الحاضِرِ، مثل موت شخص عزيز، يوقِظُ في الكاتبِ الابْدَاعِيّ، وهو سامحٌ ههنا، ذكرى لتجربة من زمنٍ مُبْكِرٍ من حيث تتأتَّى أمنيةٌ تَجِدُ تحقيقها في الكتابة الخلاَّقة. ومثل هذه التَّجربة الصَّارخة تخلق الآنَ حالاً مرتبطة بالزَّمن المقبِلِ حيث تجدُ تحقيقاً لذاتِها. فالماضي والحاضر، وكذلك المستقبَل، متعالِقون فيما بينهم على خَيْطٍ يجمعُهم من تلكَ الأمنيةِ؛ وأمَّا ما يَنْتُجُ عن هذهِ الوضعيَّةِ، فحلمُ  يقظةٍ؛ إِذْ مثلَ وعدٍ استُرْجِعَ من ذلكَ العُمْقِ في وجودِنا الغامِضِ، تَنْبَعُ ذاكرةُ الوجود. ولذا، فإنَّ تحليلاً للإنجاز الشِّعريِّ لسامحٍ يُضْحي أَساساً لِفَهْمِ مَساعيَ تَمَنِّيه هذه.

       يحتفي سامحٌ بخلاصهِ بالشِّعْرٍ؛ فالشِّعرُ هو تعبيره الكلاميُّ المُرَكَّز. وبكلمات فاليكو، فـالفنُّ يُبقي حواسَّنا حيَّةً بقدراتِها الكُلِيَّة؛ ويغذِّي الرُّوحَ بميزاتِها العميقة للذاكرةِ القدسيَّةِ، أي للوجودِ عينه[45]. ومن هنا، فإنَّ العناصر المتناحرةَ في طبيعةِ سامحٍ سرعان ما تأخذ شكلاً موحَّداً لها حالما يُصبحُ هو وسيطَ الشِّعر. تتعاظمُ رؤياهُ خلالَ حساسيتِهِ الشِّعريَّةِ في مزجٍ لبواعث ثقافيَّةٍ ودينيَّةٍ وشخصيَّةٍ ومضمونيَّة تتمثَّلُ في أغنية الهُدْهُد، في الفصل السَّابع[46].

       تُعتبرُ القصيدةُ في تجربةِ سامحٍ الشَّخصيَّةِ احتفاءً بخلاصِ الفنَّانِ من الصِّراعِ الأبديِّ بين ما هو روحانيٌّ وما هو جنسيٌّ. والتَّسامي الوحيد، الذي يبدو ههنا، يمكنُ تحقيقهُ في المستوى الفنِّيِّ فقط[47]. إنَّ دراسةً تحليليَّةً لِما في القصيدة تُظْهِرُ خلاصَ سامحٍ من أناه. لقد صار حقَّاً وسيطاً للشِّعرِ، أو صلةَ وصلٍ له؛ وبتعبير فاليكو، إنَّ الموضوع الحقيقيِّ يحتفي بانعتاقِهِ عبرَ الوَهْمِ[48]، طالما أنَّ الفنَّ وحدَهُ هو الصِّراعُ لتوحيدِ الوجودِ في العالمِ، وهو صراعٌ حرٌّ مبنيٌّ على  سطح مُتساوٍ من الإحساسِ بإمكانيَّةِ وجودِ حريَّةٍ مُتخَيِّلَةٍ صافية[49].

       يُعَبِّرُ الوعيُّ الجماليُّ لسامحٍ عَنْ شَوْقٍ إلى التَّأسيسِ والاستجابةِ التَّلقائيَّةِ الحُرَّة بعيداً عن كلِّ القيودِ، بما في ذلكَ قَيْدَ المَوْتِ بِحَدِّ ذاتِه. على حَسَاسِيَّتِهِ الجماليَّةِ أن تنشط عبر ذاكرة غارقةٍ في ما يُشبِهُ الحريَّة المطلقةَ التي تقفُ وراء ما هو ذاتها. إنَّها حريَّةٌ تمارِسُ فيها الإرادةُ ذاتها باستقلاليَّةٍ عن أي عامل مؤثِّر أيَّاً كان هذا العامل؛ إذ ليس لها في تحقيق ذاتِها سوى قوتها التلقائيَّة للتَّقرير. ويوضِّحُ فاليكو هذهِ المقولة إِذْ يَرى أنَّ جوهرَ موضوعِ الفنِّ جوهرٌ حُرٌّ انبث من الفِعلِ التِّلقَائيِّ للمبدع، بَلْ إنَّهُ وُلِدَ مِنْ رَحِمِ التَّلقائيَّةِ بِذاتِها[50].  ولذا، فإنَّ شِعْرِيَّةَ سامحٍ شاهِدٌ على الحضورِ التّلقائيِّ والحُرِّ وَسْطَ عَالَمٍ يُقاوِمُ هذا الحضور.

       إنَّ الأسطورة، بشكلٍ أساسيِّ، وهيَ مادَّةُ الرؤيةِ الإبداعيَّةِ لدى سامحٍ، تتأكَّدُ حضوراً عبرَ تجربةٍ شخصيَّةٍ ساطِعَةٍ؛ ولذا، فإنَّ الفنَّانَ يُصارِعُ مادَّته الفنيَّة ليتمكَّن من قَوْلِ كلماتِهِ منْ دونِ سِواها. لقد وُضِعت الكلمات لتكون في خدمةِ رؤيتهِ الجماليَّةِ بقدر تَنَاسُبِ الكلمات هذه مع سَعْيهِ إلى الانعتاق. إنَّ الأشياءَ ما وُجِدَت إلاَّ لتقولَ جديداً؛ بل جديداً مؤكَّداً في وجودِه. إنَّ التلقائيَّةَ الشَّخصيَّةَ لسامحٍ تنطلقُ من أعماقِها الذاتيَّةِ، واضعةً بَصَماتِها على أرضٍ أسطورِيَّةٍ. إنَّها قِصَّةُ سُلَيْمانَ وبَلْقِيسَ التي يتملَّكُها الفنَّانُ عَبْرَ رُؤيتِهِ للمُسْتَحيل. ويُسَخَّرُ المَجازُ الخَياليُّ، هَهُنا، لإستِحْضارِ الهُدهُد، الذي يبقى صورةَ الطَّائرِ المهيمن على لغة سامح[51]. ومن المناسِب الملاحظةُ أنَّ المحاولة الأخيرة لسامحٍ لِمصالحةِ الجسد معَ الرُّوحِ تحضرُ عَبْرَ هذهِ الحكايةِ التراثيةِ للطَّائرِ كما تجري حكايَتُها في قصيدة يُنْشِدُها سامح في مَشْهَدِ الدَّفْن.

       تتشكَّلُ حكاية سليمان وبلقيس، في قصيدةِ سامحٍ، عبر أسطورةٍ تشكّل عنصراً مهمّاً في تَخَمُّرِ تجربةِ سامحٍ الشِّعريَّة؛ وهذه الأسطورة تتناسَقُ والمزاجَ الشعريّ الذي هو وعاءٌ لكلِّ أنواعِ المشاعِرِ والخَيَال التي تبقى منتظرةً إلى حينِ اتِّحادِ جميعِ جزئيَّاتِها فيما بينها لتؤلِّف مُرَكَّبَاً جديداً تَجْتَمِعُ فِيه. والأسطورة التراثيّة تَسْمَحُ بإعادة جَمْعِ الجسد والرُّوحِ، والملكِ والملكةِ، والرَّجلِ والمرأةِ، عبر وساطة هذا الطائر؛ فما أن يأتي الهدهد لسليمانَ بأخبارِ بلقيس، حتَّى يكون هذا الطَّائرُ قد أنجزَ مهمَّتهُ التراثيّة:

لم يدركْ أحكمُ أهل الأرض الحكمةَ من مَسْراهْ

فالهدهدُ بذَّ بعلم الغيب سواهْ

وأتاه بقصَّةِ بلقيسَ المعتَّزةِ في سبأٍ وأتاهْ

بالوعدِ جراحاً تنزف شيئاً غيرَ دماهْ[52].

لكن، وكما يشرحُ فراي، فإنَّ كلَّ شاعرٍ يملكُ أسطورتَهُ الخاصَّةَ بهِ ونِطاقَ مِنْظارِهِ التَّحليليِّ أو التَّكوينِ الخاص بِرُمُوزِه[53]. تُسَجِّلُ قصيدةُ سامحٍ هذهِ، والتي تنجحُ في التقديم الدّراميِّ للمصالحةِ بين الملكِ والمكةِ، مصالحةً بين الإنسان في سليمان، الذي يمتلكُ شهوات سامحٍ، والمرأة في بلقيس، التي طالما انجذبَ سامحٌ إلى حضورها:

فالتفَّ سليمانٌ بالجرحِ وكان قضاءْ

خلعتْ عيناه رداءَ المُلْكِ إِذِ ابتهلتْ عيناهْ

عيناهُ القلبُ ورفُّ القلبِ على المرآةِ جداولُ آهْ

بلقيسُ الجرحُ الجرحُ وَلثْمُ الجرحِ شفاهْ[54].

       مادة الأسطورة هذه تتصل برؤيةِ سامحٍ الشَّخصيَّةِ. فقصيدتُهُ تحتفل بوحدةِ الملك والملكة، والرَّجلِ والمرأةِ، وبالتَّالي بالرَّحلة الدَّاخليَّةِ في وعدها له بالتَّحرُّر. لقد صارعَ سامحٌ طويلاً بقصيدتهِ لِيُحَقِّقَ الوحدانيَّةَ بها.  إنَّ الهدف الفنيَّ هو احتمالٌ أوَّلُ، وهو، كالوجودِ، حَدَثٌ خارجَ كلِّ مكانٍ، إذ يقفُ رمزاً لخلاصِ النَّفسِ من الوجودِ-- رمزاً لتَسامي حُرِيَّةِ سامحٍ الذَّاتيَّة.

       تُمَثِّلُ الوحدةُ، ضمن القصيدةِ، وحدةَ سامحٍ بقدر ما يتمكَّن من تحقيقِ سعيِهِ إلى حرِّيَّتِه الذَّاتيَّة؛ وهي تُشَكِّلُ في الوقتِ عينهِ كونَ سامح يُبْرِز الذات والتسامي في مسعىً تامٍّ لإنجاز الاتِّحادِ بين الذَّاتِ والعالم[55]. إنَّ فعلَ الإبداعِ لدى سامحٍ، كما هو لدى أيِّ فنَّانٍ، يَتَحَقَّقُ عبر تضحيةٍ متواصلةٍ فضلاً عن إضافةٍ للشَّخصِيَّة.

       من واجب الشَّاعرِ أن يُقَدِّم ولادةَ القصيدةِ لحظةَ تَرِدُ إلى تفكيرهِ؛ إنَّهُ مسؤولٌ، قَدْرَ استطاعتِهِ، عن توصيلها سليمةً. إذا ما كانت القصيدةُ حيَّةً، فإنَّها تصرخُ طالبةً الخلاص من كلِّ ما يربطها بالفنَّانِ من أمراسٍ ومن جميع ما يَشُدُّها إلى أَناه[56].  يُضحي الصَّوتُ الدَّاخِلِيُّ لسامحٍ، عند دمج الشَّخصيِّ بالثَّقافيِّ، مُغَيَّباً إذ تتحدَّثُ القصيدةُ عنهُ أو حتَّى من خِلالِه؛ فالقصيدة تصبحُ هُويَّتَهُ المُبْدَعَةَ حديثاً. إنَّ الهُوِيَّةَ، بتعبير ألن ويليس، ليست لِتُوجدَ، بل، بالأحرى، لِتُبْدَعَ وتتحقَّق[57].

       يشرحُ فراي، أنَّهُ بينَ ما في الدِّينِ مِنْ هذا هو وما في الشِّعرِ من لكنْ لنفترضْ أنَّه يكون، لا بدَّ مِنْ أنْ يكونَ باستمرارِ ثمَّةَ نوعٌ مِنَ التَّأَزُّم، إلى أنْ يلتقي المُمْكِنُ معَ الحقيقيِّ في اللانهاية[58]؛ أمَّا انفكاكُ هذا التَّأَزُّم فمرتبطٌ بالسِّرِّ المختبئِ وراءَ كلِّ فعلٍ إبداعيٍّ. يبني أسلوبُ سامحٍ الِشِّعريِّ شبكةً هي الأساس لبنيوية دوافِعِه.

       إنَّ الحافِزَ الذي يدفعُ بالكاتبِ إلى الكتابةِ يكونُ مترادِفاً مع الوسلة البِنائيَّةِ التي يضعُ فيها الكاتبُ الأحداثَ والقِيَمَ معاً[59]. وهذه الملاحظةُ النَّقديَّةُ، من قِبَلِ كينيث بورك، تلفتُ الانتباهَ إلى شعرِ سامحٍ القائم على تشكيلةٍ من المعادلاتِ الضّمْنِيَّةِ المتداعيَةِ فيما بينها. يتصوَّرُ سامح الشُّرفَةَ باعتبارِها موضوعاً جرى  طِلاؤهُ بسوادِ الغُرابِ؛ ويرى عربةَ الموتى كغرابِ ينعَق؛ وتفترضُ هاتان المعادلتانِ أنَّ كُلاً مِنَ الشُّرفَةِ وعربَةِ الموتى غُرابٌ. ولذا، فإنَّنا لا نستطيعُ أنْ نكشفَ عن هدفٍ موضوعيٍّ لإقتباساتهِ سوى بفحصِ التَّرابُطاتِ القائمة بين النماذج البنائيَّةِ لتصميم القصيدةِ. يقول بورك، في هذا الشَّأنِ، إنَّ هذه الأمورعينها هي دوافِعُه لأنَّها هي الحالُ التي هو فيها[60].

       إنَّ الشِّعرَ الذي يعرِّفهُ فرانك فنتريشيا بأنَّه فَرَحُ اللغَةِ، هو نِظامُ العلاقاتِ القائمةِ ضمنَ القصيدة[61]؛ وللمخيِّلَة مصدرها كذلكَ، ههنا، وهو أيضاً فَرَح اللغة. ولقد كانَ على سامحٍ، لكَيْ ينسجَ رداءً حريريَّاً من الدُّودِ، أنْ يُجَرِّدَ الحقيقةَ بتطبيقِ مِخيالِهِ عليها. أمَّا عمليَّةُ التَّجريدِ، هذهِ، فهيَ أسلوبُ الشَّاعِرِ في تحويلِ احتياجاتِهِ ورغباتِهِ إلى لغة.

         إنَّ التحويلَ والتَّجريدَ والتَّرميزَ وابتداعَ المَجازِ تتحوَّلُ جميعُها إلى ملامحَ مُمَيَّزة للغةِ سامحٍ. فالمجازُ، وهو الشكلُ المُنتَجُ منَ ابتداعِ المجازِ، يتحقَّقُ ويُفْرَضُ موضوعيَّا؛ كما إنَّ المجازَ يُؤثّر في النَّفسِ ويجعلُها سهلة الانقِياد. وذهنُ سامحٍ قادرٌ على أن يحوِّلَ الصُّوَرَ المشتركَةَ، باعتبارِها الوحيدةَ القادرةَ على حلِّ التَّأَزُّم، إلى مجازاتٍ.

       ثمَّةَ دراسةٌ ظهرت مؤخَّراً لِـوعد شباط، تُقارِبُ التَّحويلَ التَّخَيُّليَّ باعتبارِهِ البصمةَ الأسلوبيَّةَ التي تسمو باللغة الشِّعريّة لِسامحٍ. وفيها أُختيرتْ هجرةُ الطُّيورِ أنموذجاً لـللملامِحِ الطَّاغيَةِ على لغةِ سامحٍ[62].

       تُظْهِرُ الدِّراسةُ هذه أنَّ رأس الطَّائر غيرِ المُسَمَّى يتحوَّلَ إلى مَوْسِمٍ، ويتحوَّل هذا الأخيرُ إلى مكانٍ يتسامى على الدَّورةِ الطَّبيعِيَّةِ للفصول[63].

رأسُها الآن على راحةِ يدي مثل رأس ذلك الطَّائر الذي كنتُ في أوّل نشأتي مولعاً بحلوله كل عام وكأنَّه فصلٌ من الزَّمانِ انبثق من تراب غير تراب الفصولِ الأربعة[64].

ويتحول الهاتِفُ، لاحقاً، إلى غراب:

ترتفع سمّاعةُ الهاتف بأصابعي فيطلّ عليها من سوادها في غبش الفجر جناحا طائرِ القاقِ يزعق...[65].

ثمَّ يُصارُ، بعدَ ذلكَ، إلى نقلةٍ إلى طيورِ الحُبِّ، وبعدها إلى كَنارٍ؛ وهكذا تتطوَّرُ التَّشَكُّلاتِ التي تبلغُ ذروتَها في رمزٍ مرَكَّب.

       أمَّا الهدهد، رمزُ المعرفةِ والتنويرِ، فيُعْطَى هُوِيَّةً في الفصلِ الأخيرِ؛ حيثُ يُمْكن، عندذاكَ فقط، ملءُ الفراغِ الذي ظهرَ بدايةً في فِقْرَةِ افتِتاحِ الرِّواية. ففي النَّجوى الأخيرةِ لسامحٍ، في القصيدةِ عينِها، يتَحَوَّلُ الهدهدُ إلى زورقٍ بمجذافينِ يحلِّقانِ في بحرِ السماء:

للهدهدِ مجذافان وبحرُ الهدهدِ زرقةُ ماءِ البحرِ وليس الماءْ

والموجةُ تلوَ الموجةِ لَهْفُ نسيمِ الصبحِ ورفُّ ضياءْ[66].

 تندمجُ التَّوظيفاتُ الدِّينيَّةُ والثَّقافيَّةُ في صورةِ هذا الطَّائر بالذات. وفي المقطعِ الشِّعريِّ الخامسِ من القصيدة، فالصُّورةُ المهيمنةُ هي انسيابُ الماءِ؛ وهي، بعينِها، صورةٌ دلاليَّةٌ على جوهرِ ابتداعِ المَجاز:

ومرايا القصرِ تعومُ على أسرابِ مياهْ

حتى دخلتْ بلقيسُ عليه فكان العُرْيُ رداءْ

زنبقةٌ حَفَّتْ زنبقةٌ من تحت الماءْ[67].

وتتواصلُ عمليَّةُ التَّداعي لتَصِلَ إلى سميحة، الأم، المُعادِلةِ للطَّائر والصَّلاةِ والحُبِّ. وتنتهي القصيدةُ بصورةٍ ذُرْوَةٍ تحلُّ التَّأَزُّم وتنهيه. يتنفَّسُ الصُّبحُ رطباً بالمجذافِ المتحرِّكِ لجناحيْ الهدهد. ينزلِقُ الهدهدُ إلى الزُّرقةِ فيما يُصْبِحُ الضَّوءُ نَسَغاً يلتحِمُ بالنَّدى:

يتهدّج صوتُ سليمانَ المسحورُ وصوتُ العشقِ صلاةْ

يبتلّ نسيمُ الصبحِ بمجذافٍ ينسابْ

ينسلُّ الهدهد في الزرقةِ نوراً بضبابْ[68].

       الفنُّ رحلةٌ إلى المستورِ وغيرِ المعروفِ؛ ولأنَّ الكمالَ والوحدَةَ غيرُ مسموحٍ بهما في الوجودِ الواقعيِّ، فإنَّ هدفَ أيِّ قصيدةٍ يكمنُ في تَبْيَانِ مغزىً للتناسُقِ؛ بيدَ أنَّ  ذوبانَ الشَّاعِرِ ذاتِه في العناصِرِ الدَّاخِلِيَّةِ للقصيدةِ قد دُفِعَ ثمناً غالياً في سبيل موهبةِ الإبداعِ القدسيَّةِ. وهذا الأمرُ يُشَكِّلُ أقصى ما في تغييبِ الذَّاتِيَّةِ  في الفنِّ الذي لا يمكنُ الوصولُ إليهِ ما لَمْ يُسَلِّمِ الفنَّانُ مِراسَهُ إلى العملِ الذي يقومُ به. إنَّ العبءَ الوجوديَّ للفرادةِ والجَزَعَ من أنْ يكون المرءُ نَفْسَهُ يقودانِنا إلى منطقةٍ مريبةٍ من انعدامِ الذَّاتِيَّةِ والعمائيَّةِ، حيثُ لا أمرَ يقعُ بسببٍ مِنْ أنا شخصيَّةٍ، بل بسبب من هُم، أيْ من كلِّ أحدٍ ليس بأَحدٍ[69].

       تُقَدِّمُ القصيدةُ الحلَّ الشِّعريَّ، بواسطة الهدهدِ، عبرَ كشفِ القناعِ عن المستورِ وتحقيقِ الوعدِ الكامِنِ في الإمكانيَّةِ الجديدةِ. تبرزُ القصيدةُ تعبيراً صلباً عن روحِ سامحٍ، عندما يغرقُ صوتُهُ في صميمِ الفِعْلِ الابداعيِّ، مُتَحَرِّراً حتَّى أقصاه، حيَّاً، كُلِيَّاً وحرَّاً.

       تتحوَّلُ رحلةُ الموتِ، التي رَجِعَ سامحٌ من غربته لتسجيلِها عبر الرِّوايةِ، إلى احتفالٍ شِعْريٍّ بالحياةِ والإبداعِ. وهذه المفارقةُ، التي تستدعي مقولةَ الغموضِ الذي يسكنُ كلَّ فنَّانٍ وإبداعَهُ، ربما تؤكِّدُ النَّظريِّةَ القائلةَ بأنَّ الإنسانَ المُبْدِعَ هو لغزٌ علينا المحاولةُ الدَّائمةُ، وبمختلفِ الطُّرُقِ، لِحَلِّه ... وأنَّ الفعلَ الإبداعيَّ سوف يبقى يراوِغُ الفَهمَ الإنسانيَّ إلى الأبد[70].

_______________________________

 

 

[1] - Fallico, Arturo B. Art And Existentialism, p. 15

[2] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p. 52

[3] - Muller, Wayne, How, Then, Shall we live? P. 2

[4] - Jung, C. G., Twentieth Century Literary Criticism. Ed. David Dodge.

[5] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.14

[6] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.41

[7] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.52

[8] -  Hariri, Salahuddine. February Promise, p.167

[9] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.148

[10] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p148

[11] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p130

[12] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p130

[13] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.130

[14] -  Saad, Nahida. The Notion Of Probability As A Unifying Principle In Februarys Promise: Hariris February Promises . Experimentation in the Modern Arabic Novel. Ed. Nahida Saad and Lola Salibi. P. 36

[15] -Muller, Wayne. How, Then, Shall We Live?, p. 8

[16] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.13

[17]- Saadeddine, Carol. Februarys Promise: The Infinite Variety Of Language. Hariris Februarys Promise. Experimentation in the Modern Arabic Novel. Ed. Nahida Saad and Lola Salibi, p. 36

[18] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p21

[19] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p 42

[20]  - Hariri, Salahuddine. February Promise, p. 42

[21] - Kanaan, Suha. A Comparative Study Of Februarys Promise and As I lay Dying. Hariris Februarys Promise. Expermintation in the Modern Arabic Novel. Ed. Nahida Saad and Lola Salibi, p.p. 86-7

[22] - Hariri, Salahuddine. FebruaQry Promise, p. 42

[23] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p. 42

[24] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p. 42

[25] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.p. 42-43

[26] -  Saad, Nahida. The Notion Of Probability As A Unifying Principle In Februarys Promise: Hariris February Promises . Experimentation in the Modern Arabic Novel. Ed. Nahida Saad and Lola Salibi. P. 42

[27]- Hariri, Salahuddine. February Promise, p.p. 72-73  

[28] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.102

[29] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.102

[30] - Sucksmith, Harvey Peter, James Joyce: A Portrait Of The Artist As A Young Man, ed. David Daishes.

[31] -  Saad, Nahida. The Notion Of Probability As A Unifying Principle In Februarys Promise: Hariris February Promises . Experimentation in the Modern Arabic Novel. Ed. Nahida Saad and Lola Salibi. P. 42

[32]  - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.144

[33] - Freud, Sigmund. Creative Writer and Daydreaming: Twentieth Century Literary Criticism, ed. David Dodge.

[34]   - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.144

[35] - Fallico, Arturo B., Art And Existentialism, p. 131

[36] -Frye, Northrop. The Archetypes Of Literature, : Twentieth Century Literary Criticism. Ed. David Dodge.

[37] -Frye, Northrop. The Archetypes Of Literature, : Twentieth Century Literary Criticism. Ed. David Dodge.

[38] - Fallico, Arturo B. Art And Existentialism, p. 34

[39] -Frye, Northrop. Anatomy Of Criticism, p. 39

[40] - Fallico, Arturo B. Art And Existentialism, p. 34

[41] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.16

[42] - Saadeddine, Carol. Februarys Promise: The Infinite Variety Of Language. Hariris Februarys Promise. Experimentation in the Modern Arabic Novel. Ed. Nahida Saad and Lola Salibi, p. 176

[43] -- Hariri, Salahuddine. February Promise, p.144

[44] - Freud, Sigmund. Creative Writer and Daydreaming: Twentieth Century Literary Criticism, ed. David Dodge.

[45]- Fallico, Arturo B. Art And Existentialism, p.5

[46] -  Saad, Nahida. The Notion Of Probability As A Unifying Principle In Februarys Promise: Hariris February Promises . Experimentation in the Modern Arabic Novel. Ed. Nahida Saad and Lola Salibi. P. 39

[47]  - Saadeddine, Carol. Februarys Promise: The Infinite Variety Of Language. Hariris Februarys Promise. Experimentation in the Modern Arabic Novel. Ed. Nahida Saad and Lola Salibi, p. 171

[48] - Fallico, Arturo B. Art And Existentialism, p.164

[49]  - Ibid. p. 5

[50]  - Ibid. p. 5

[51]- Saadeddine, Carol. Februarys Promise: The Infinite Variety Of Language. Hariris Februarys Promise. Experimentation in the Modern Arabic Novel. Ed. Nahida Saad and Lola Salibi, p. 169

[52] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.157

[53] -Frye, Northrop. The Archetypes Of Literature, : Twentieth Century Literary Criticism. Ed. David Dodge.

[54] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p.164

[55] - Fallico, Arturo B. Art And Existentialism, p.29

[56]- Fallico, Arturo B. Art And Existentialism, p.98

[57] - Wheelis, Allen. The Quest For Identity, p. 205

[58]  -Frye, Northrop. Anatomy Of Criticism, p. 128

[59] -Burke, Kenneth. Anatomy Of Criticism, p. 20

[60] - Ibid. p.20

[61] - Fentricchia, Frank. The Gaiety Of Language, p. 131

[62] - Pano, Rima. Imagistic Transformation: A Complete Study Of Style In Songs Of Songs, Domination Of Black and February Promis: Hariris February Promise Experimentation In The Modern Arabic Novel, p. 181

[63] - Ibid.

[64]- Hariri, Salahuddine. February Promise, p. 13

[65] - Hariri, Salahuddine. February Promise, p. 66

[66] - Ibid. p.154

[67] - Ibid. p.164

[68] - Ibid. p.169

[69] - Fallico, Arturo B. Art And Existentialism, p. 79

[70] - Jung, C. G., Twentieth Century Literary Criticism. Ed. David Dodge.

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية