فَـنِّـيَّـةُ الشـِّــعْــرِيِّ في مسرحيَّة «ليلة نيوجرسي»
لا يمكن لعبقريَّة الفنّان أن تظهر جليّة إلا بقدرته على تحويل الواقع الحي، بكلّ ما فيه من قضايا وإشكاليات وكلّ ما قد يعتوره من تشوّهات وقباحة، إلى لوحة جمالية، ولعلّ من هذا القبيل ما يجعل المتلقّي منجذباً إلى «حذاء الفلّاح» في اللوحة المشهورة لفان كوخ، وليس إلى الحذاء الواقعي الذي استلهمه فان كوخ موضوعاً للوحته إيّاها. ومن هذا القبيل يمكن الحديث عن التجربة التي عاناها صلاح الدين الحريري وعاينّاها في مسرحيته " ليلة نيوجرسي".
ما من أحد إلاَّ ويؤكّد أن القتال الدّامي الذي عصف بلبنان وناسه طيلة سبع عشرة سنة منذ 1974، هو من أبشع ما عرفته حياة النّاس وأقساها وأكثرها تعقيداً وتشابكاً لدرجة يكاد المرء يفقد معها القدرة على تلمّس الحقيقة المجرّدة أو الإحساس بها. واقع الحال، ثمَّة من قد يرى أن لا حقيقة مجرّدة في كل هذا الجنون - اللؤم - العبث - الضياع - البحث الذي عمّ لبنان ومن فيه طيلة تلك السنوات. ولعل من هنا صعوبة كتابة تاريخ حقيقي أو واقعي لكل تلك المرحلة. لكن، ولئن عجز المؤرخ أو المحلّل السياسي عن القيام بهذه المهمة لكشف الحقيقة أو إدراك كنهها، فإن الفنّان الأصيل لا يمكن له أن يعجز. إنّ الفنان قادر على اختراق كل تلك الحجب المُغيّبة للحقيقة، وهتك ما تضمّه جنباتها من تهويمات وتمويهات، والوصول عبر رؤاه في صياغة الجمال إلى التملّي من نورها والسير بمتلقّيه في هدي أشعة ضيائها. هذا هو التّحدي الأكبر الذي تصدّى الحريري لمواجهته في مسرحية "ليلة نيوجرسي".
تجري أحداث المسرحية في الليلة التي كانت فيها البارجة الحربية الأميركية "نيوجرسي" تقصف المناطق اللبنانية إبان واحدة من أشرس مراحل القتال في لبنان. مجموعة من النّاس تهرع إلى واحد من ملاجئ البنايات في بيروت، وتعيش أحداث تلك الليلة. المثير في هذه الأحداث أنّها قلّما تتعلّق بذلك القصف الهادر الصادر من نيوجرسي، وكأن نيوجرسي وقذائفها لم تكن سوى مفتاحٍ اختارته فنيّة المؤلّف للدخول إلى أعماقِ ناس ذلك الملجأ عبر معاناة كلّ واحد منهم لعيشه في تلك الحرب.
تبرز الذات الفردية إلى جانب الجمعية، وتتوضّح خلفيات كثيرة لناس كُثر، وتبرز عناصر أحداث وعوامل فاعلة فيها بوضوح حاد إلى درجة الذَّبح العاري إلاّ من حدّ السكين الممعن في صدقه. الجو جو عري كامل للذات الإنسانية التي عاشها اللبنانيون في تلك السنوات من الاقتتال الدامي. حوّل الحريري كل شخصية إلى ملفّ لذاتها تفتحه بذاتها على ذاتها وعلى الآخرين، كل واحد كان يمعن في توضيح جوّانيته أمام متلقّي المسرحية، كل شخصية كانت تتفاعل مع الأخرى لا لتتماهى بها بل لتظهر وضوحها الذاتي عبر ما تلقيه الأخرى عليها من ظلال. لم يبقَ جانب من جوانب التشكّل الإنساني للناس في ذلك الاقتتال اللبناني إلاّ وأظهره الحريري: الطائفيون ظهروا في صراعهم مع اللاطائفيين، الوطنيون تجلّوا في نزعاتهم الوطنية مع غير الوطنيين، الاستشهاديون كان لهم حضور بارز عبر تقنية نوعية تمظهرت في نصوص من الشعر الممسرح. لم يترك الحريري جانباً مظلماً إلاّ وأطلق دفقات من النور عليه، لم يترك تمويهاً ما إلاّ وفضح عتماته ودجله. لم يترك جدلاً إلاّ وأوضحه. لم تكن المسرحية مجرّد لعبة كشف فني، بقدر ما كانت حقيقة كشف عبر الفن. تحوّل الحريري بمسرحيته هذه من الفن اللعبة إلى الفنّ الكاشف والموجّه لرسالة لكن من غير ما خيانة لأيّ من شروط اللعبة الفنية وجلال وجودها. حيوية الفن كشفت ما لم تقدر أقلام المؤرّخين وتحاليل الباحثين على فضح أسراره. وبذا يقف الحريري فذّا في هذا المجال.
لم يُدَاجِ مؤلّف مسرحية « ليلة نيوجرسي » ولم يخادع. لم يقل الأشياء إلاّ بأسمائها، ومع هذا فلم يخرج أبداً عن مهابة الفن وجماليته. شخصياته عبقت بالفن والواقع معاً. فكانت في جمال أخّاذ. من هنا بات المتلقّي مقبلاً على الشخصيات متفهّماً لها على ما في بينها من تناقض مبدئي. من هنا يُقبِلُ المتلقّي، على سبيل المثال وليس الحصر، على القسّ لمتريوس في عدوانيته الطائفية، كما يقبل على طارق المناضل الاستشهادي. وبمثل هذا الجذب الفني يتقبَّل المتلقّي سالي وكريستابل في عبثيتهما وضياعهما الذاتي كما يسعى إلى التفاعل الملتزم مع واقع نينا الباحثة عن حقيقة الواقع وجدوى المصير.
الأهم في مسرحية « ليلة نيوجرسي » أنها مسرحية ذات نص مفتوح. تجربة الحريري دائماً، في نصوصه المسرحية والروائية، أن الكتابة عنده فعل انفتاح وليست وجود قيد. متلقّي "ليلة نيوجرسي" يمكن أن يكون في قاعة المسرح، حيث للمخرج المسرحي أن يقدّم نصّه عن "ليلة نيوجرسي" ولكن للمتلقّي أن يكون هو المخرج ويقدّم نصّه عن المسرحية لذاته إذا ما قرأها. « ليلة نيوجرسي » نص مسرحس يتحقّق على خشبة مسرح إذا ما تلقّاه المرء عبر الأداء التمثيلي والإخراج المسرحي، كما يتحقّق في مخيلة القارئ وهو يتلقّاه عبر أحرف النَّص. ولا يقف النَّص سدّاً في وجه متلقّيه، بل يبقى احتمالاً لكثير مما يستطيع القارئ أو يقدر على الوصول إليه، ذلكم هو النَّص الفني الذكي القابل للعيش باستمرار. ولذا، فلئن انتهت سنوات الاقتتال الدامي في لبنان، فإنّ نص مسرحية « ليلة نيوجرسي » عن تلك السنوات لا يفتأ يبدأ كلما باشر المرء قراءةً فيه أو مشاهدةً لإخراجه.
ولا يكتفي الحريري بالتقنية الراقية يعزز بها صياغته للمسرحية بل يعمد إلى النَّص يؤكِّد به الفعل الانفتاحي والإيحائي الغني للعمل. يدخل الحريري في تضاعيف المسرحية نصوصاً شعرية ذات بنية عضوية مع سير الأحداث وتفاعلها فيما بينها. لا يعود النَّص الشعري إلصاقياً ضمن بناية المسرحية، بل يصبح وجوداً أساسياً فيها لا بدّ له من الظهور وإلاّ اعتور الأداء التعبيري نقص. وهذا الزواج بين النص الشعري والحوار المسرحي لا يأتي غريباً، فالشعري هو الجوهر الفني الذي ينتظم عمل الحريري. وإذا ما أمكن القول أن ثمة فرقاً مبدئياً بين الشعر والشعري، وأن غاية الشعر الوصول إلى الشعري، فإن الشعري متحقّق في المسرحية عبر أمرين أولهما شعرية الحوار المسرحي وثانيهما شعرية الشعر الذي تضمّنته تضاعيف العمل. ويمكن التأكيد ههنا على أن الحريري استخدم الحوار المسرحي لتأدية حقيقة شعرية بإمكانها أن تؤمّن لعمله هذا حيوية الاستمرار الأدبي. فكل ما في المسرحية شعري، الحوار، والأشخاص، والأمكنة، وحتى التعليقات التوضيحية. كل ما في فضاء العمل يقود إلى رؤى شعرية تتضافر فيما بينها لتقدّم ألقاً من تجلّي الحقيقة المرّة التي عاشها اللبنانيون جميعاً في تلك السنوات المُريعة من الاقتتال.
يبقى أن الحريري لم يكتفِ بالتقنية الفنية الراقية والبُعد الشعري لعمله المسرحي هذا، بل إنه شفع هذا كلّه برسالة وطنية ورؤية حضارية إنسانية انتظمت العمل برمّته وأوضحت مغزى حضور شخصيات العمل وأحداثه بما فيها تلك الثانوية. لا بدّ من وجود رؤية تنتظم عيش النَّاس، ولا بدّ من وجود هادٍ إلى هذه الرؤية، ولا بدّ من استمرار للمستقبل. ولم يكتفِ المؤلّف بهذه التعميمات، بل كان حادّاً وواضحاً وجريئاً في تحديد أُطُر هذه الرؤية: النضال الاستشهادي، ممثلاً بطارق، والبحث عن المستقبل، ممثلاً بنينا.
ما فتئ الكلام عن « ليلة نيوجرسي » لصلاح الدين الحريري طفلاً، فالعمل أكبر بكثير من أن يُستوعَب بمقالٍ تمهيدي، وأهم من أن يُشار إليه بدراسة عجلى. هذا نتاج أدبي مميّز يُضاهي كثيراً من النتاج الأدبي العالمي في مجاله بل يبزه. لقد تمكّن الحريري بغرفه من صميمية الواقع المحلّي أن يصل إلى أقصى رحاب العالمية في التصوير الإنساني. وممّا لا شك به أنّ الثقافة المعمّقة للحريري في الكتابة الأدبية، والمسرحية منها بوجه خاص، قد ساهمت في إثراء هذا العمل بمزايا كبرى، وأثبتت، كما في كل مرة، أن الشعرية والأبعاد المسرحية الإنسانية الحقيقية والصياغة الجمالية الأدبية هي جميعها إبنة الوعي الثقافي والمعرفة العلمية بأصول الفن والإلتزام الإنساني والرؤية الوطنية.
الدكتور وجيه فانوس
أستاذ النقد الأدبي في قسم الدراسات العليا في كلية الآداب
والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية