أعمال نقدية للمؤلف | ينابيع الأشياء





ينابيع الأشياء

ينابيع الأشياء:

تَأَرْجُحُ المعنى بين جنون الجسد ولهاث الروح

(دراسة نقدية لرواية هدى حواس)

 

 

-       البحثُ عن الذات وعن معنى الوجود يتطلّب شرطيْن: (1) حضور الوعي للذات وللعالم الخارجي لدى شخصيّة ٍما في الرواية؛ (2) حدوث أزمة في حياة هذه الشخصية تستنفر قواها الواعية وتدفع بها إلى رحلة البحث عن خصائص ذاتها أو طبيعتها البشرية، عن معنى علاقتها بالآخر، وعن المغزى من وجودها أصلاً في هذا العالم. هذه الثلاثية موضوع رحلة البحث يمكن تسميتـُـها بالحقيقة ذات الأوجه المتعددة. وهذه الرحلة، رحلة البحث عن الحقيقة، كانت ولا تزال الهاجسَ الإنساني الأكثر إلحاحاً والأكثر دراميةً في تاريخ الآداب.

-       إنّ غيابَ أو انتفاءَ الكليّات المطلقة واليقينيّات كمرجعيّات ٍفكرية يمكن للإنسان الإتكاءُ عليها حينما تداهمه الأزماتُ، لعلها تقدّم له الحلول َوتواسيه بالأجوبة عن تساؤلاته – إنّ هذا الغيابَ قد أدّى إلى اللجوء إلى تقنية "تعدّديّة الأصوات" في فنّ الرواية والإستغناءعن أحاديّة ِ السرد، ليتشظّى بذلك صوتُ الراوي العارف بكل شيء إلى أصوات تختلف سرديّتُها للتجربة الإنسانية بإختلاف رؤية كلّ ٍ منها على حدة. النسبيةُ في الرؤية احتلّتْ مكانَ الرؤية الكلية اليقينيّة. هذه الإستراتيجية تتحكّم حتماً وقصداً بالبنيويّة الإبداعية لرواية "ينابيع الأشياء".

-       إذن تبدأ هذه الروايةُ بغياب المرجعيات اليقينية وتظلّ شخصياتُها تلهث خلف ثلاثية الأنا والآخر والمعنى، الثلاثية العصيّة على الإمساك، لتنتهي بها رحلةُ البحث إلى مزيد ٍمن الحيرة أو مزيد ٍمن التشبّث بالمضيّ بمغامرة الترحال التي قد لا تُكْسِبُ أصحابَها إلاّ يقيناً واحداً لعله يقينُ الألم كشرط لإقتناص لحظة أو لحظتين من السعادة. إنّ غيابَ المرجعيّات اليقينية في مطلع ِالرواية، كما في خاتمتها، لهو الظاهرةُ التي تمنح هذا العملَ تماسكَه الداخلي ووحدته الموضوعية، إذ تكتمل بتكرار هذا الغياب الدائرةُ التي تدور في فلكها أهمُّ وأقدمُ تجاربنا الإنسانية. بكلمات أخرى، يظلّ عاملُ النسبية في قيمة ِ رؤية ِالفرد ِلنفسه وللآخر ِوللوجود ِهو السمة َ المهيمنةَ على تجربة الإنسان المعاصر في هذه الرواية. وذلك بالضبط هو ما يوحّد ما بين الأصوات المتشظيّة ليقدّم نصّاً سرديّاً مفتوحاً على باقة من الإحتمالات، بما في ذلك احتمالات الخلاص واحتمالات المعاني. ولعل هذه الاحتمالات تترجمها الروايةُ في تعدّد الاستنتاجات التي تستخلصها الشخصياتُ من تجاربها وفي تباين القرارات التي تتخذها كمنطلقات ٍجديدة لما تبقّى لها من رحلة العمر.

-       وهنا لابدّ من الحديث عن التقنية الأهم التي اعتمدتْها مؤلفةُ الرواية في تصويرها للشخصيّات وذلك لأهميتها في تظهير التجربة الإنسانية وصياغة معناها، أو على الأقل الإيحاء به، أو حتى ربما إرباك القاريء بفهمه. بناءُ الشخصية أو رَسْمُها وتطويرُها، في هذه الرواية، يتبنّى منهجَ المداورة بين ما تقوله الشخصيّة عن نَفْسها وما تقوله عنها الشخصيّاتُ الأخرى. فشخصيّةُ "وميض"، مثلاً، لا يتمّ اكتمالُ صورتها أو معالم ِ تجربتها إلاّ بعمليّة المقارنة المستمرّة بين تصوّرِها هي لنفسها ولأشواقها وإحباطاتها وتصوّر ِكلّ ٍمن زوجها "شاكر" وصديقتها "نور" لها ولأشواقها وإحباطاتها، فنحن مع تدفق الآراء والتحليلات المختلفة مضطرون إلى الإستمرار في تعديل صورة "وميض" في خيالنا وإعادة النظر في فهمنا لتجربتها. وقد تستمر عمليةُ التعديل وإعادة النظر حتى الصفحات الأخيرة من الرواية. ما ينطبق على بناء شخصية "وميض" ينطبق كذلك على بناء شخصية "نور" و"شاكر" و"أكرم". تقنيةُ المداورة هذه هي إحدى التقنيات التي أدخلها وليم فوكنر إلى فن الرواية في القرن العشرين. ولا شك أنها التقنية التي منحتْ روايةَ "ينابيع الأشياء" مسحةً دراميّةً قِوامُها عنصرا التشويق والتأرجح بين حالتيْ اليقين واللايقين.

-       ورغم كل ذلك، فالرواية تؤلف بين شخصيّاتها بجعلها تتقاسم جملةً من الهواجس الإنسانية التي تصطبغ بها تجاربُها، وخاصة هاجس الجسد والروح وعلاقة هذه الثنائية بمعنى التجربة وبالمغزى من هذا الوجود.

-       "وميض" وزوجُها "شاكر"، "نور" وزوجُها "هشام"، وكذلك المحامي أكرم، خمستُهم يكابدون وَعْياً شرساً لأجسادهم وأجساد بعضهم البعض، وخمستُهم يكابدون اللذة بعد اللذة والإحباط بعد الإحباط. الخسارات المتكرّرة لكلّ منهم تحفّز فيهم احترافَ السؤال المتكرّر عن طبيعة علاقة الرجل بالمرأة والعلاقة بين جسديّة العلاقات من جهة والأرواح التي تسكن تلكم الأجساد من جهة أخرى. رحلة البحث التي تخوضها هذه الشخصيات تتمحور حول مساريْن: الجسد باحثاً عن التجربة والروح لاهثةً خلف المعنى. إن صحّ ذلك فالفرضية تميل إلى أن هذه الشخصيات تتمتع بإحساس عميق مُقْلِق ٍ بالثنائية التي تمزّق كياناتها وتصرّ عليها أن تجد رابطاً ما يوحّد شطريْها في كلّ ٍ واحد. ذلك هو الشوق الإنساني إلى إِكْسَاب ِالتجربة الجسدية بُعْداً ميتافيزيقياً إرتقائياً به تتناغم في كلّ ٍواحد ٍثنائيّةُ الروح والجسد.

-       تطالعنا الرواية بوميض وقد أُخِذَتْ من ثديها عيّنةٌ للتأكد من عدم وجود خلايا سرطانية

فيها. الخطر المحدق بالجسد يوقظ في وميض وفي القاريء إحساساً بهشاشة وجودنا المادّي. وتمضي بهذه الشخصيّة رحلةُ العذاب، تأخذها حيناً إلى الغد المجهول، وأحياناً إلى محطّات من الماضي خَبِرَتْ فيها جنونَ الجسد وعشقَهُ، كما أشواقَهُ وإحباطاتِه. رحلة إسترجاع الذكريات هذه إنما هي إستدراجٌ للتجربة لتقييمها وفهمها فلعل ذلك يفضي بهذه الشخصية إلى اكتشاف المغزى من تجاربها التي هي الوجود بعينه. إستدراجُها لتفاصيل ِجسدِها والسحر ِالذي مارستْه تلك التفاصيلُ على باقة ٍمن الرجال إنما له صبغةٌ احتفاليةٌ بروعة هذا الجسد الأنثوي، والذي كمالُهُ الآن يترصّده خَطَرُ التشويه. إحتفاليةُ وميض بجسدها يتجلّى أكثر ما يتجلّى في رقصتها المجنونة التي ترتجلها داخل المستشفى وهي في طريقها مع الممرضات صوب غرفة العمليات. هذا الصخب الاحتفالي يتكرر مرة أخرى ليلة تدعوها "نور" إلى منزلها لتناول طعام العشاء. تلك الليلة تنطلق المرأتان "في رقصة تدعو مسرّة الحياة، منافسة مغْرية بين النهود الشامخة والخصور المتغنّجة." وكما تُحدّثنا نور: "أطلقنا جسديْنا لجنون النغم فجنّت فيهما رغبة للفرح... تتشابك الأيدي مرّةً في اتحاد جسديْن يتوقان إلى التحليق... فلعل في تقارب الأرواح ما يخلق تآلف الأجساد..." نور، ههنا، تهجس بسرّ ٍمُضْمَر ٍ لعلاقة الجسد بالروح. صديقتها وميض تكابد الهاجس عينه في أماكن ومناسبات أخرى. أيام خضوعها للعلاج الكيميائي نسمعها تحدث نفسها بهذه الكلمات: "كنتُ أشعر في كلّ حصّة علاج أنّ شيئاً من روحي يتلف قبل أن تتلف هذه الخلايا السرطانية." ثم لا تلبث أن تنادي: "إعزفي أيتها الروح لحنك الفريد. وتخلصّي من أوتار الجسد." ثم تقرر أن تخضع لعملية ترميم للثدي "الذي ترك فراغاً في جسدي وثقب الروح بالأوجاع والآلام." وفي الرسالة التي تتركها لنور قبيل انتحارها تقول: "خرجتُ من معقل الجسد أبحث عن معنى الوجود وأخلّص نفسي من براثنها." هذه الكلمات لها أصداء في قول صديقتها نور في الربع الأول من الرواية: "ما زلتُ أصرّ على أنّ الانسان الحقيقي طائر من عالم الروح وأنّ الجسد هيكل ترابي زائل... فما نظنّه كنزاً هو معقلنا في الحياة."

-       يتسلّط الجسدُ الأنثوي على خيال "شاكر" منذ بلوغه الثالثة عشرة. "سليمة" الغائبُ زوجُها بداعي السفر، تؤهلّه "للاكتشاف الحقيقي للجسد" وتعلّمه الدرس الأول "في فن الجسد". وفي مذكّرة من مذكراته تقرأ زوجتُه "وميض" أيضاً صفحات عن ولعه بفتاة عراقيّة إِسمها "رَوْشَنْ". عينا "رَوْشَنْ" الخضراوان تنفذان إلى كلّ كيانه. يعترف أن "نظرة واحدة ترمي بك إلى الموت وتحرّك فيك رغبة الفنان واشتهاء الجسد بعنف". ويسرف في اعترافه فيكتب: "لم أنهض من مكاني ولم أعانقها كما تمنّيت. ولكن روحي ضمّتها بشدّة وبدأت عناقها قبل أن ألمس جسدها". الرسّام في "شاكر" يؤكد انتباهه لروعة قوامها، "فجسدها منحوت بعناية رسام بارع". وفي خلوتهما السكرى قبل الفراق يصف كيف "مددتُ يدي لأحيط خصرها ... وأرتوي من شفتيها ..." تعلّق "وميض" عقب قراءتها لتلك المذكّرة لتؤكد اكتشافها أن "أغلب ما يرسمه كان متعلّقاً بالجسد". كما تتذكّر هي، "وميض" الزوجة، كيف كان يعشق في جسدها الشبهَ الذي بينه وبين جسد الممثلة أنجيلينا جولي. كان "يعشق شفتيها كما يعشق جسدها". وتتذكر أيضاً ولعه بجسدها هي: "لم يعشق مني غير هذا الجسد." وتتألّم لاحتمال تشوّه هذا الجسد إذا كان لا بد من استئصال أحد ثدييْه. كيف لا وشاكر كان قد كتب لها مرّة: "وجسدُكِ معبري / إلى جنونكِ الصارخ"؟ حتى عندما يكتشف "شاكر" انتحار "وميض" في الصفحات الأخيرة من الرواية يظل صريع هواجسه بالجسد: "أمسكتُ جسدها وهززتُه ... توسلتُ إلى جسدها لعله يسمع تضرّعي فيعود إليّ مرة أخيرة".

-       ولأكرم أيضاً رحلتُهُ الشيّقة مع جسد الأنثى. فاتحةُ التجربة كانت مع بنت خاله: "بطعم الأنوثة بدأتُ رحلتي معها وأنا ما زلتُ غضّاً صغيراً". ويسترسل فيقول: "كانت أول فتاة تتعرّى أمامي. أجمل نهديْن تغوص فيهما شفتاي". ثم يتابع رحلته فيتزوج من "نادية" باحثاً فيهاعن أمه. تطلّقه نادية وتمضي. يكابد شهوراً من الشحّ العاطفي قبل أن يتعرّف بنور. خلال تلك الشهور، يحدث نفسه، "أفرغتُ الجسد من كل شيء حتى كدت أن أنسى أن هناك في مكان خفيّ من هذا الجسد روحاً تتوق دائماً إلى الحياة". وعن تواصله على الفايسبوك مع نور يقول: "كانت حواراتنا تكشف عن تقارب روحين تتوقان إلى العشق..." أمّا لقاؤهما الأول "فكان محرّكاً لكل حواسي". وسرعان ما بهره "جسد مصقول كتمثال من الرخام الخالص..."

-       من الملفت حقاً أنّ شخصية الأديب المتمثّلة بنور هي ذاتها التي تختصّها مؤلفةُ الرواية بالصوت  الأكثر هجساً بثنائية الروح والجسد. إنها الصوت المسافر خلف الأشياء، تسعى بشغف الشعراء إلى اقتناصها وأسرها بلغة التشبيه. أوّل مثال لذلك الشغف هو إصرارها على "أنّ الانسان الحقيقي طائر من عالم الروح وأن الجسد هيكل ترابي زائل"، لتستنتج أنّ الجسد هو معقلنا في الحياة".

وهذه الثنائية في الطبيعة البشرية تلح على وعي"نور" وخيالها إلحاحاً يبلغ حدّ الهوس."أن تحبّ يعني أن تكون قادراً على كسر الحواجز والجدران التي بداخل روحك...". وَجَعُ صديقتها "وميض" "سينغرز في روحها الرهيفة..." حياتها مع زوجها هشام يختصرها "جسدان منفصلان وروحان لا تلتقيان في نقطة واحدة". تعترف أنها خلال سنوات زواجها نسيت أنّ لها قلباً "حاكت عليه العنكبوت نسيجها بإتقان " فأمسى وقد "نسي الثرثرة والركض في ميادين الروح..."

-       نور كذلك هي المرأة المحتفلة بالجمال الأنثوي. عاشت طفولتها في بيت خالتها "نعيمة" وَلَفَتَها منها على وجه الخصوص "بشرتها البيضاء وجسدها الممشوق المثير". أمّا أنوثة صديقتها "وميض" فهي الجمال الذي يؤدي إلى "زلزلة هذا الكون". خصلاتُ شعرها، جذعُها، نهداها، خصرُها الغَنِجُ، كلُّ هذه التفاصيل تهيمن على خيال "نور" وتؤهّلها للإحساس بحجم الكارثة التي ستكابدها صديقتها إذا ما حكم عليها السرطانُ بخسارة ثديها الأيمن. تكتب لها قصيدة فلعل الكلمات أن تخفّف عنها توترها بعد الخبر الذي هزّ كيانها. تقول لها في القصيدة: "رقصْتِ على أطراف الورد.../شاهدتُ عند أخمص قدميْكِ /قبساً جلجلتْ له عواطفي/ أين أخبّئكِ في متاهات الروح؟" هذه اللغة التي تلامس حدّ العشق تترجمها تعابيرُ أخرى في لغة "نور": "لعل "وميض" هي قدري في هذه الحياة". فمنذ طفولتها وهي ترى في وميض الملاذ والأخت والصديقة. "البحث عن معنى الصاحب الذي اعتقدتُ أنني وجدتُهُ في وميض" يستمر ساعة تصلها على الإنترنت رسالةٌ حميمة من "أكرم" تجعلها، كما تقول" "أعيد البحث عن ذاتي". قَدَرُ "نور" أن تتنازع روحَها عاطفتان، واحدة تشدّها إلى "وميض" والأخرى جهةَ "أكرم". وما قولها لأكرم ْ بعد إنتحار "وميض" وقراءتها للرسالة التي بعثتْ بها إليها أنْ "لا روح تجاور روحي بعد اليوم" إلاّ تأكيد لهذا التنازع المشتِّت لكيان "نور".

-       تجهد مؤلفةُ الرواية في حَبْكِ هذه العلاقة الحميمة بين المرأتين، فنور بعضٌ من وميض، ووميض بعضٌ من نور. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ. كلاهما تعانيان من تشوّهات الجسد والروح: وميض بخسارتها لثديها وبتوالي خيباتها العاطفية؛ نور بمعاناتها الشحّ العاطفي خلال سنوات زواجها وبتعرّضها للإغتصاب الذي يمارسه عليها زوجها هشام. ولكي تنضج المأساة في حياتيهما تحاولان التمرد على تشوّهات الروح والجسد فتقعان في حبّ أكرم، الذي يقضي بالفشل على سعيهما للخلاص عبر الحبّ. هو يجهد حتى لا يقع في فتنة الجمال الوميضيّ فيفرّ منها إلى نور، وهذه تلفظه من حياتها، متهمةً إيّاه بأنّه السبب في انتحار وميض.

-       رحلة البحث عن الذات وعلاقتها بالآخر وبمعنى الوجود في هذا العالم تنتهي بقراريْن متنافريْن. خسارةُ وميض لثديها وخسارتُها لإحتمال استعادتها لوهج أنوثتها من خلال علاقة حب عاصفة تعيشها مع أكرم، بالإضافة إلى إحساسها بأنها خانت نور، أقرب الناس إليها – يدفع بها كلُّ ذلك إلى أن تضع حدّاً لحياتها. وحتى في اتخاذها لهذا القرار يظلّ خيالُها متأرجحاً بين هواجس الروح والجسد والمعنى. تخبر نور في رسالتها إليها أنه "كان  عليّ أن أجاور روحكِ كحقيقة ساطعة ولكنني لم أستطع أن أكون غير زيف". ولذا "خرجتُ من معقل الجسد أبحث عن معنى الوجود...". نور تتّخذ قرار الإحتمال الآخر. تحمل معها أوجاع خسارتها للزوج والأمومة والحبّ والصداقة، مقنعةً نفسها أنها باستكمالها كتابة الرواية التي كانت بدأتْها منذ شهور ستكمل رحلتها في البحث عن الحقيقة بكل أبعادها. 

-       في تجربة "نور"، ينابيعُ الأشياء – الجسد، الروح، الحب، الوجع، الخواء، القلق، الحكمة— تحوّلها جميعَها إرادةُ الحياة إلى كلمات، إلى مشروع رواية، في محاولةٍ للإرتقاء بالواقع المُعاش ِ/المعيوش، بالتجربة كلّها، إلى المُتَخَيَّل الفنّي، ميدان ِالروح، إلى التجربة البديلة، في رحلة ٍتطارد فيها الإرادةُ طيفَ الخلاص، تستجدي شبح َالمعنى المتأرجح أبداً في ظلال الإحتمالات.

-       الظلالُ تربك اليقين َ، تزحزحه عن عرشه، وترمي بالوجود كلّه وبمعناه في متاهة الاحتمال. هي ذي إحدى وظائف "موتيف الظلال" التي تزخر بها صفحاتُ الرواية. وهو ذا جوهرُ التباين ِبين القرار الذي تتخذه "وميض" وذلك الذي تتبنّاه "نور" في تعاطيهما مع الخسارات المتراكمة والعذابات التي تشرف بهما على بوابة الجحيم.

-       وأخيراً مـَـن يدري؟ فلعلّ الروايةَ التي تطلب "وميض" من "نور" أن تكتبها عن تجربتها هي وآلامها هي، والتي تقرّر "نور" استكمالـَـها، ليست إلاّ ظلاًّ من ظلال "وميض"، الظلّ الذي تختار "نور"ألاّ تتخلّى عنه ليبقى لها رفيقَ الدرب في غيابِ الأصل ِ، غياب ِاليقين. "أكتبُ على شوك الفكرة ومسامير الكلمات كمن يُصْلَبُ من أجل تحقيق النجاة أو استمرار الحياة". وإذن أفليست حتميّةُ معاشرتنا للظلال الكوّة َالتي ننسرب منها إلى سراب الخلاص؟

صلاح الدين الحريري

January 3, 2019

لا يوجد تعليقات
نرحب بآرائكم النقدية