تجربة عبر الأساليب الرِّوائيَّة لفوكنر
وعدُ شباط لصلاح الحريري:
تجربة عبر الأساليب الرِّوائيَّة لفوكنر
بقلم : ريما بانو
ترجمة: د. وجيه فانوس
لايكتملُ أيُّ نقاشٍ حَوْلَ تَأْثِيرِ فوكنر عَلَى الرِّوَايَةِ العَرَبِيَّةِ مِنْ دُونِ الرُّجُوعِ إِلى رِوايَةِ وعد شباط لِصلاحِ الدِّينِ الحريريّ، الصَّادرةِ سَنَةِ 1994؛ والتي تؤسِّسُ لِتَوَجُّهٍ ومَفْهُومٍ جَدِيدَيْنِ لأساليبِ فوكنر؛ والتي يُمْكِنُ، كذلكَ، أن تُقْرَأَ باعتبارِها بَيَانَاً بارِزاً للتَّأثيرِ الكَبيرِ لفوكنر على الرِّوائيينَ العرب. وكَيْفَما دارَ الأمرُ، فإنَّ تَطْبيقات الحريريِّ هذهِ، لأساليبِ فوكنر، لاتجعلُ منَ الحريريِّ مُجَرَّدَ مُقَلِّدٍ أَعْمى لِلْكاتبِ الأميركيِّ؛ بَلْ إنَّ الحريريَّ، وبِأُسْلُوبِهِ الخاصِّ، مُبْدِعٌ حقَّاً في مَجَالِ الكِتابَةِ الرِّوائيَّةِ في اللغةِ العربيَّة. لقد ثارَ الحريريُّ، مِثْلُهُ في هذا مِثل نَدِّهِ الأميركيِّ، ضدَّ القواعدِ التَّقليديَّةِ للرِّوايةِ؛ وأسَّسَ لذاتِهِ، عبرَ استخدامِ أساليبٍ حديثةٍ، أشكالاً وحكاياتٍ جديدةً ذات غِنَىً في المضامينِ النَّفسيَّةِ والحواراتِ الدَّاخليَّةِ بين الشَّخصيَّاتِ، ناهيكَ بِتنويعاتٍ ذاتِ عوالمَ انطباعِيَّةٍ نابضةٍ بالحياةِ في تشكُّلات كتابيَّة مِنَ الإدراكِ الواعي وغَيْرِالواعي للتَّجاربِ المُشْتَرَكَةِ. ويُؤمِنُ الحريريُّ، مثلَ جويس وولف وفوكنر، بأنَّ الوَعْيَ لَيْسَ إدراكاً سلبِيَّاً لِدوافعِ العالَمِ الخارجيِّ، بَلْ هوَ إبداعٌ مَقْصودٌ يَسْتَدعي حيويَّةً نَشِطَةً في صَوْغِ حقيقةِ المعنى والبناء[1].
إنَّ صدورَ كتابِ Hariris Februarys Promise: Experimentation In The Modern Arabic Novel سنة 1998، مِنْ تَحْرِيرِ ناهِدة سَعْد ولوْلا صليبي، يُسَجِّلُ بِدايَةَ حِقْبَةٍ جَدِيْدَةٍ من التّطوُّرِ النَّقديِّ والتَّقْييمِ الأدبيِّ لأعمالِ فوكنر؛ إذ هُوَ وسيلةٌ جديدةً كُلِّيَّاً لِمُتَابَعَةِ التَّراثِ الفوكنري وتَأْثِيرِهِ على الأَدبِ العَرَبِيِّ الحَدِيثِ. ويَفْتَحُ هذا الكِتَابُ سَبيلاً واسِعَاً لِتَقْدِيرِ النَّوعِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ لأعمالِ فوكنر ولِتَقْييمِ كَفاءَةِ إبْدَاعاتِهِ في الصَّوتُ والغَضَب وحين اضطجعتُ بانتظار الموت. ويُقَدِّمُ الكِتَابُ، فَضْلاً عَنْ هَذا، لِمَدى تَأْثِيرِ هَذَيْنِ العَمَلَيْنِ عَلى كَاتِبِ وعد شباط؛ خاصَّةً فِي مَجَالِ نِقَاطِ التَّلاقي والتَّبايُنِ بَيْنَ الكَاتِبَيْنِ. ويَضُمُّ الكِتابُ سَبْعَ دِراسَاتٍ؛ تَتَناوَلُ ثَلاثٌ مِنْها، بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ، تَأْثِيْرَ فوكنر على الحَريريِّ فِي وعد شباط.
تُسَلِّمُ سُهى كنعان، فِي عَمَلِها الَّذي يَحْملُ عُنْوانَ دِرَاسَةٌ مُقارنةٌ بَيْنَ حين اضطجعتُ بانتظار الموت لفوكنر ووعد شباط للحَريريِّ، مَدْيُونِيَّةَ الحَريريِّ لفوكنر فِي مَجَالِ مُسْتَويَاتِ اسْتِخْدامِ اللغَةِ الخَاصَّةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الشَّخْصِيَّاتِ المُخْتَلِفَةِ؛ وخَاصَّةً حِيْنَ تَأْخُذُ هَذِهِ اللغَةُ مَنْحَىً مَجازِيَّاً. وتَكْشُفُ هَذِهِ الدِّرَاسَةُ عَنِ المَبَادئِ المُوَحَّدةِ المُتَبَنَّاةِ مِنْ قِبَلِ الكَاتِبَيْنِ، كَمَا تُقَدِّمُ تَقْييماً لِجُهُودِ كُلٍّ مِنْهُما فِي بِنَاءِ عَمَلِهِ. وتَتَنَاوَلُ الدَّرَاسَةُ، كَذَلِكَ، البَحْثَ في نِقاطٍ مَرْكَزِيَّةٍ أُخْرى، مِثْلَ أَسَالِيبِ تيَّارِ الوَعْيِّ وفِكْرَةِ المَوْتِ نَاهِيْكَ بـتَشَظِّيَ الذِّهْنِ الإنْسَانِيِّ؛ كَمَا تُظْهِرُ دِراسَةُ كنعان كَيْفَ أَنَّ الرِّحْلَةَ إِلى المَقْبَرَةِ هِيَ رَمْزٌ أَسَاسِيٌّ[2]. وتَمْضي البَاحِثَةُ قُدُماً في عَمَلِها على وعد شباط، إِذْ تُبَيِّنُ كَيْفَ أنَّ العَائِلَةَ تَتَحَوَّلُ إِلى تَعْبِيرٍ مَجَازِيٍّ عَنْ تَفَكُّكِ المَجْمُوعَةِ الإِسْلامِيَّةِ[3]، فِي حِيْنِ أنَّ الفَضَاءَ المُخَصَّصَ لِلرِّحْلَةِ يُؤَسِّسُ للشَّخْصِيَّاتِ المُتَنَوِّعَةِ مَعِ الخُطَطِ التي تَبْقَى مَخْفيَّةً في قُلوبِ كُلٍّ مِنْها وأَفْكَارِهِ. ويَظْهَرُ تَفَكُّكُ العَائِلَةِ، بِكُلِّ جَلاءٍ، عَبْرَ العُزْلَتَيْنِ المَادِيِّةِ كَما النَّفسيِّةِ لِكلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَخْصِيَّاتِها الرِّوَائِيَّةِ. ثَمَّةَ تَمَاثلٌ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَفْهُومِ المَوْتِ؛ إِذْ تَتَكَرَّرُ فِي كِلا الرِّوَايَتَيْنِ، وفِي الأَحْدَاثِ الدَّاخِلِيَّةِ فِي كُلٍّ مِنْهُما، مُحَاوَلَةُ كُلِّ عاِئِلَةٍ تَقْديمَ أَفْرَادهَا فِي الْوَقْتِ الَّذي تَكُونُ فيهِ العائلةُ بِرُمَّتِها في حالِ اضْمِحْلال[4].
يُسْتَخْدَمُ تيَّارُ الوَعْيِّ أُسْلُوبَاً، فِي رِوَايَتَيْ حين اضطجعتُ بانتظار الموت ووعد شباط، لَيْسَ بِاعْتِبَارِهِ مُجَرَّدَ تَشْكِيْلٍ لِلإعْلانِ عَنْ مَفاهِيْمَ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ أَوْ ثَابِتَةٍ؛ ولَكِنْ لِتَقْدِيمِ هَذِهِ المَفاهِمِ، كَذَلِكَ، عَبْرَ انْسِيَابِيَّةِ تيَّارٍ مُتَحَرِّك. يَنْسَحِبُ كُلٌّ مِنْ فوكنر والحريريِّ مِنَ المَشْهَدِ، تَارِكَيْنِ الشَّخْصِيَّاتِ الرِّوائيَّةَ والقارئَ مِنْ دُوْنِ تَدَخُّلٍ أَوْ تَوْجِيْهٍ، مَانِحَيْنِ عَمَلَيْهِمَا مِقْيَاسَاً مِنَ الحَقِيقَةِ المَوْضُوعِيَّةِ. فالعَلاقاتُ المُتبَادَلَةُ بَيْنَ الشَّخْصِيَّاتِ الرِّوائيَّةِ المُتَنوِّعةِ تَسْمَحُ لِلكاتِبِ، عَبْرَ أَصْواتِها الخَاصَّة وتَعَدُّدِ الأَصْواتِ الأُخرى في الرِّوايةِ، بالدُّخولِ إلى أعْمَاقِ قُلوبِ هَذهِ الشَّخصِيَّاتِ والكَشْفِ عَنْ غَوامِض مَا لمْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بالكَلِماتِ مِنْ أَفْكَارِ الشَّخصِيَّاتِ ورُدودِ أفعالِهِا تجاهَ العَالَم. فـسُمَيَّة، في وعد شباط، كَما آدي بَنْدْرَنْ، في حين اضطجعتُ بانتظار الموت، تَحْضُرُ مِنْ خِلالِ صَوْتِها الشَّخْصِيِّ وأَصْواتِ الشَّخْصِيَّاتِ الأُخرى مِنْ أَفْرادِ عائلَتِها. وتُمَثِّلُ سميَّةُ، هَهُنا، يَقظةَ الأُنْثَى التي تُسائِلُ أَوْضاعَ النِّساء فِي الثَّقافةِ والمُجْتَمَعِ الإسْلامِيَّيْنِ. إنَّها تُخَطِّطُ، بِعِنايةٍ، لانتِقامِها ضِدَّ إخْوَتِها وضُدَّ المَدينَةِ التي تُمَثِّلُ ثقافتَهُم. إنَّها تَتَطَلَّعُ إِلى مَغْزَىً مِنَ الحُرِيَّةِ التي تُمَثِّلُ خَرْقاً لِمَجمُوعِ الثَّقافةِ التَّقليديَّةِ للمَدِيْنَةِ؛ عَبْرَ نَقْلِ صُوْرَةِ الاحْتِجَاجِ الَّذي بَدأَ يرتفعُ طليقاً في الفضاءِ ... جَامِعَاً فِيْ حَيِّزِهِ كُلَّ مَا فِيْ الرِّيْحِ والشَّمْسِ والبَرْدِ والحَرِّ وأَشْيَاءَ مِنْ جَمِيْعِ الفُصُولِ الدَّائِمَةِ العُبُوْرِ[5]؛ بَلْ إِنَّ سُمَيَّةَ تَتَحَدَّى سُلْطَةَ التَّقْلِيْدِ بِأَنْ تَتْبَعَ مَوْكِبَ الجَنَازَةِ إِلى المَقْبَرَةِ، مُعْلِنَةً بِصُوْرَةٍ نِهَائِيَّةٍ انْتِصَارَهَا بِقَوْلِها: فأنا العُرْفُ حين أشاء، يا لابساتِ السواد، وأنا اليومَ، رغم الرجالِ، المدينة[6]. لَكِنَّ سُمَيَّةَ، بِنَظَرِ شَقِيْقِهَا وسيم، يَجِبُ أَنْ تُعَاقَبَ لِغَطْرَسَتِها بِأَنْ تُتْرَكَ وَحِيْدَةً فِيْ المَنْزِلِ تَبْتَلِعُ وحدَتَها مَعْ كُلِّ صَبَاحٍ ... كُلَّمَا فَتَحَت عَيْنَيْها عَلى لا أَحَدٍ وفِيْ الليْلِ إِذْ تُغْلِقُهُمَا عَلَى لا شَيْئ.
إنَّ تَشَظِّيَ نِظَامَ التَّسَلْسُلِ الزَّمَنَيِّ وازْدِواجِيَّةَ قصَصِ الماضي مَع قصصِ الحَاضِرِ لإِظْهارِ أَثَرَ الأوَّلِ على الآخرِ، مَا هُوَ سِوى عَنَاصِرَ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الرِّوايَتَيْنِ. ومِنَ الواضِحِ أَنَّ فوكنر اتَّبَعَ أُسْلُوْبَ التَّشَظِّيَ هَذا عَبْرَ تَعَمُّدِ كَسْرِ التَّسَلْسُلَ الزَّمَنِيِّ لِرِوَايَتِهِ للإظْهَارِ الدِّرَامِيِّ لإقرارِهِ بأنَّهُ وإِنْ كانَ لا بدَّ من أن يوجَدَ الجَسَدُ الإنْسانِيُّ في الزَّمنِ، فإنَّ العقلَ لا يَعْمَلُ ضمنَ حَواجِزَ تُفْرَضُ على الجَسَدِ. يَنْصَهِرُ ذِهْنُ كلِّ واحدةٍ من شخصيَّاتِ العَمَلينِ في الماضي والحاضرِ والمستقبلِ؛ والأساسيُّ يكمن في أنَّ إنفرادَ كلَّ شخصيَّةِ يُرغَمُ على الاختفاءِ بواقِعِ أنَّ كلَّ جزءٍ مِنَ الرِّوايةِ يُقَدَّمُ عَبْرَ كلِّ شخصيَّةٍ بِمُفْرَدِها[7]. إنَّ تَشَظِّيَ الفكر الإنسانيِّ في وعد شباط، كما في حين اضطجعتُ بانتظار الموت ، يُقَدَّمُ بنائيَّاً وأسلوبيَّاً؛ فَذِهْنُ سامحٍ، على سبيلِ المِثَالِ، لا يَفْتَأُ مُتَنّقِّلاً جِيئَةً وذَهاباً بَيْنَ ذِكْرَيَاتِ الماضي والزَّمنِ الرَّاهِن. فَبِدءاً مِنْ وَصْفِ عَرَبَةِ المَوْتَى وانتِقالاً، مِنْ ثَمَّ، إِلى ذِكْرَيَاتٍ مُمَاثِلَةٍ في رِوايَةِ فوكنر، وُصُوْلاً إِلى عَدَدٍ مِنْ مُحاوَلاتِ سامحٍ –في الماضي- باللجُوءِ، عِنْدَ الإِحْسَاسِ بِوَطْأَةِ المَوْتِ، إِلى النَّشَاطِ الجِنْسيِّ؛ فَإِنَّ ذِهْنَ سامِحٍ يُمْلي قُوَّةً رَمْزِيَّةً بِمْزْجِهِ الواقِعَ والتَّوَهُّمَ مُسْتَخْدِماً أُسْلُوْبَ تَحْويلِ التَّرْكِيْزِ وتَبْدِيْلِ المَنْظُورِ.
تُسَيْطِرُ اللغةُ القائمةُ على التَّداعيَ والمَجَازِ بصورة واضحةٍ على رِوايَتَي حين اضطجعتُ بانتظار الموت ووعدُ شُباط. فالمَجازُ يُرَكِّزُ على تَبَدُّلِ تَحَوُّلاتِ العالَمِ حِيْنَ يَخْضَعُ لِفاعِلِيَّةِ المُخَيِّلَة. والتَّوجُّهُ الأساسيُّ لِلْمَجازِ يَظْهَرُ في أَثَرِ الحَواسِ على العَقْلِيَّةِ المُضافَةِ إِلى الوَاقِعِ؛ وتُظْهِرُ الفِقْراتُ التي وَضَعَها دارل وفاردامان على رِوايةِ حين اضطجعتُ بانتظار الموت نَماذِجَ مُعَبِّرَةً عن هذا الأمرِ. تَسْتَدْعي بُقَعَ النَّيرانِ التي سَقَطَتْ إثرَ احْتِراقِ الحَظِيْرَةِ في بَالِهِ مُسْتَوىً رائِعَاً مِنَ الواقِعِيَّةِ، إِذْ هَذِهِ البُقَعُ تَحومُ، دافِعَةً النُّجومَ إِلى الفَرارِ مِنْ دُوْنِ أَنْ تَسْقُط[8]. إنَّ رُؤيةَ دارل تُحَوِّلُ ما هُوَ عاديٌّ إِلى مَا هُوَ غَيْرُ عاديٍّ. يَتَسَاءَلُ في موفتستاون (Moftstown): كَيْفَ تَتَشَوَّشُ حَيَاتُنا حَيْثُ لا رِيْحٌ ولا صوتٌ ... أصداءٌ من دوافِعَ عتيقة من دونِ أيِّ يَدٍ (تَلْعَبُ)على أيِّ وَتَرٍ ... إيماءاتٌ ميتَةٌ من دُمى[9].؛ لكنَّ دارل يعجَزُ في تحويلِ ما هوَ واقعيٌّ إلى غيرِ واقِعِيِّ – كي يهربَ من تأثيرِها عليهِ --، وكذلكَ يفعلُ فاردامان، وهذا ما يفسِّرُ جنونه. وبالمِثْلِ، فإنَّ سامحاً يَسْتَخْدِمُ، في وعد شباط، لغةَ المجازِ رابطاً الأمورَ فيما بينها ومقارناً إيَّاها بِمُتَتَالِيَاتٍ من الصُّوَرِ. تُقَدِّمُ جملتهُ الأولى في الكتاب مباشرةً لغةَ التَّداعي والمجاز؛ فرأسُ الأم المتوفَّاةِ يظهرُ في المشهدِ طائراً من غيرِ اسمٍ يتَحَوَّل، فيما بعدُ، إلى مَوْسِمٍ ليُصْبِحَ، في نهايةِ المطافِ، مكاناً. ويُنْظَرُ إلى الشُّرفة والعَرَبة كغُرابيْنِ، كما تُرْبَطُ الشُّرْفَةُ بالبومةِ وتُقْرَنُ العَرَبَةُ بالطَّائِر. ويَرِدُ، في موقِفٍ آخرَ الليلُ والرِّيحُ والرمادُ ذراعاها ووعدٌ من غراب.[10]؛ وهذا، بِحَدِّ ذاتِهِ، وَصْفٌ يَنْهَضُ على نوعيَّةٍ من الصُّوَرِ المُترابِطَةِ فيما بينها.
تَدرُسُ ريما بانو، في مقالها التَّحوُّلُ التَّخَيُّليُّ: دراسةٌ مقارنةٌ في الأسلوب، بين نشيد الأناشيد لسُليمان و غَلَبَةُ السَّواد لِوَلاس ستيفنس ووعد شباط للحريريّ عمليَّةَ التَّحويلِ التَّخَيُّلِيَّ؛ وهذه الميزة الأسلوبيَّةُ هي نوعِيَّةٌ تُنْسَبُ، بِحَدِّ ذاتِها، إلى لغة فوكنر. تٌقَدِّمُ الدِّراسةُ تعليقاً شديد التَّأثير حولَ رواية الحريري، إذ تذهبُ إلى أنَّ الرِّوايةَ تُظْهِرُ لغةَ الحريريّ المجازيَّةَ وكأنَّها أكثر تشابهاً مع لغةِ والاس ستيفنز. يقولُ ستيفنز إنَّ الحقيقةَ ليست ما قد يستوعبُهُ المرءُ، بَلْ إنَّها ما يَراهُ الذِّهن.[11] ويربطُ مثلَ هذا الفَهمِ للمجازِ العالمَيْنِ الموضوعيَّ والذَّاتيَّ فيما بينهما؛ واصلاً، بذلكَ، بينَ عالَمِ الواقِعِ وعالَمِ الخيالِ حيثُ يسودُ عالَمُ التَّماثُل. ويُوَضِّحُ ستيفنس أنَّه يُمْكِنُ تحقيقُ التَّماثلِ في المَجازِ أوَّلاً بوساطةِ جُزئينِ أو أكثرَ مِنَ الواقعِ، وثانِياً بينَ أمرينِ أحدهُما واقعيٌّ والآخرُ مُتَخَيَّلٌ، وثالثاً من خلالِ أمرين مُتَخيَّلين[12]. ويعرضُ ستيفنس هذهِ النَّظريَّةَ في قصيدتِهِ غَلَبَةُ السَّواد التي يحاوِلُ فيها إبداع صِلَةٍ، لِما هوَ حاصلٌ، بين عالمِ الواقِعِ وعالمِ الخيالِ عَبْرَ تكرَّارٍ مدروسٍ لأَوْجُهٍ مِنَ الخيالِ. إنَّ غَلَبَةَ اللونِ الأسودِ، في القصيدةِ، تَدُلُّ على الخَوْفِ؛ أما حين يكون اللون وسيلةً، فإنَّ التَّداعيَ يتحقَّقُ هَهُنا بوجودِ اللونِ عينِه. إنَّ هذا النَّوَعَ من التَّشكيلِ المجازيِّ هو، في الواقِعِ، منسوجٌ بإحكامٍ في المستوياتِ الأسلوبِيَّةِ لِـوعد شباط للحريريّ، إذ يتجلَّى عبرَ الوعيَ المركزيَّ لسامحٍ وفي النَّجوى الدَّاخِلِيَّةِ القائمةِ عَبْرَ الرِّواية[13]. فبِدأً من هجرةِ الطُّيورِ، التي تتماثلُ مع الدراما الدَّاخِلِيَّةِ لِذِهْنِ الفنَّانِ خاصَّةً في ما يتعلَّقُ بوفاةِ والِدَتِه[14]، فَتصبحُ عمليَّةُ التَّداعي والتَّحَوُّلِ، على مستوى الإدراكِ، انتقالاً إلى نماذج من الصُّورِ المُتَعَاقِبَةِ للنِّساءِ والآلهةِ والنَّماذِجِ الأساسيَّة، متنوِّعَةً دالَّةً على ميزةٍ لعقلِيَّةِ سامحٍ في ذلكَ الوَقت تَحْديداً. وتذهبُ بانو إلى ما هو أكثر بُعْداً مِنْ هذا، حِيْنَ تَشْرَحُ كيفَ أنَّ سامِحاً، بَعْدَ أنْ كشفَ عن هُوِيَّةِ الطَّيرِ بأنَّهُ الهُدْهُدُ، رمزُ الحِكْمَةِ والمعرِفَةِ، لأنَّ الهُدهُدَ يتحوَّلُ إلى قَارَبٍ بمجذافينِ طائِرَيْنِ في بَحْرِ سماءٍ لا مِيَاهَ فيهِ. وهكذا يَعِدُ الهدهدُ بما هوَ جَيِّدٌ: إنَّهُ بديلٌ من غِيابِ الأمِّ، كما إنَّهُ يؤمِّنُ صِلَةً بينَ ما هو مجهولٍ وما هو حقيقةٌ ثابتة. وأخيراً، فإنَّ الهدهدَ يَنْقَلِبُ إلى رسولٍ قُدْسِيٍّ يُبَشِّرُ بالإيمانِ والحُبِّ.
إنَّ المستويات المختلفة للُّغَةِ المُعْتَمَدَةِ من قِبَلِ فوكنر والحريريِّ، كُلٍّ في الرِّوايةِ الخاصَّةِ بهِ، جرى البحثُ فيها في اثنينِ من أصلِ المقالاتِ الثَّمانيةِ التي تُشَكِّلُ وعد شباط للحريريِّ: تجارب في الرِّوايةِ العربيَّةِ الحديثة. يبرزُ هذا البحثُ في القسمِ الأخيرِ من مقالِ كنعان، وخاصَّةً في الجزءِ المُخَصَّصِ للفروقاتِ بين الكاتبين؛ وكذلكَ في مقالِ كارول سعد الدِّين الَّذي يحملُ عنوان التَّنَوُّع اللامحدود للغة[15]. تركِّزُ كنعان على أنَّ الكاتبينِ معاً ثابتان في استخدامِ مستويات مختلِفَةٍ من اللغةِ. وتوضِّحُ أنَّ شخصيَّاتِ روايةِ حين اضطجعتُ بانتظار الموت تتحدَّثُ بلغة محكِيَّة أميركيَّة، خلا آدي والقس اللذين يستخدمانِ لُغَةً مصقولة. ويضيف روبرت وارن أنَّ شخصيَّات فوكنر تتحدَّثُ بلسانِها الخاصِ ولسانِ فوكنر على حدِّ سواء[16] فمقولة آدي بندرن بأنَّ الكلمات والأفعال هي كيانات منفصلة تماماً فيما بينها، لكنَّها، وفي الوقتِ عينِهِ، كيانات متوازيةٌ فيما بينها بفضلِ وَعيِّ المؤلِّف بأنَّ الإظهار الخارجيِّ للشخصيَّةِ بوساطةِ الفعلِ والكلامِ ينتمي إلى التَّجربةِ الذاتيَّةِ للشَّخصِيَّةِ في بناءٍ غالباً ما يكونُ مُحيطاً بها[17]. والمستوياتُ اللغوِيَّةُ الثَّلاثةُ المُسْتَخْدَمَةُ في روايةِ حين اضطجعتُ بانتظار الموت هي المحكيَّة وغير المحكِيَّةِ وغير المَلْفوظة بالكَلِمات. أمَّا المستوى المَحْكِي فَتَفسيريٌّ، في حين أنَّ غير المحكيِّ يُوَظَّفُ إذ تكونُ الشَّخصِيَّةُ في حال التَّفكير، وأمَّا المستوى الثَّالِثُ فهو المُفَعَّلُ بوساطةِ عامِلٍ خارِجِيٍّ ينهضُ على الأفكار العميقةِ للشَّخصِيَّةِ وإدراكِها الحَدسيِّ للصُوَر. وأخيراً يُنْظَر إلى الشَّخصِيَّةِ وهي تتحَرَّكُ بين هذه المستويات الثلاثةِ للغةِ، مُتَّبِعَةً قِطاراً من الفكرِ أو سِلْسِلَةً من التَّداعيات. إنَّ أيسر انتقالٍ بين هذه المستويات الثلاثة يُقَدِّمهُ دارل في الأسطر التَّالية: إذا ما كنتَ قادراً على الحصولِ على علبة جيِّدة الحجم ... تَقْطُرُ حتَّى الموتِ كاش كَسَرَ رِجْلَهُ[18]. إنَّ هذا التَّوظيفَ المتنوِّعَ للمستوياتِ الثَّلاثةِ يُسَهِّلُ الوصولَ إلى الوعي واللاوعي والأفكار غير المعبَّر عنها بالكلمات للشَّخصِيَّة. وتُشيرُ كنعان إلى أنَّ ثمَّة لغةً دينيَّةً تستخدَمُ أيضاً من قِبَلِ الشَّخصِيَّات في حين اضطجعتُ بانتظار الموت. إنَّها ميتةٌ وملأى بالعِباراتِ التي توفِّرُ راحةً للشَّخصِيَّاتِ التي تستخدِمُها. فهذا ويتفيلد الكاهنُ، إِذْ يُخاطِبُ اللهَ، إثرَ وفاةِ إدي، يبدو وكأنَّه خاطئٌ سطحيٌّ وسلبيٌّ بالنَّظَرِ إلى نوعِ الكلماتِ والعباراتِ التي استخدمها في خطابِه.
يُرَكِّزُ مقال سعد الدِّينِ وعد شباط: التنوُّعُ اللامحدود للُّغَةِ، على المستوياتِ المُتَّنَوِّعَةِ للُّغَةَ المُسْتِخْدَمَةِ في وعد شباط. تتحدَّثُ جميعُ الشَّخصِيَّات في الرِّواية، وبسبب الثقافةِ المُرَكَّبَةِ لكلّ منها، لغةً مصقولَةً، ويأتي هذا مُصاحَبَاً بوعي كل شخصيَّةٍ بأنها تُمَثِّلُ قيمةً مُعَيَّنَةً أو مَنْحىً مُحَدَّداً من الطَّبيعةِ الإنْسانِيَّة. فثمَّةَ فقراتٌ خُصِّصَت لشخصِيَّاتٍ مُعَيَّنَةٍ تُظْهِرُ اللغةَ عبرَ تركيباتٍ من الصُّوَرِ التي تَتَطَابَقُ تماماً معَ مُتَطلِّباتِ هذه الشَّخصيَّات. ويُظْهِرُ هذا الأمرُ، بجلاءٍ، هواجِسَ هذه الشَّخصِيَّاتِ، فضلاً عن جميعِ الهواجِسِ الإنسانيَّةِ، بشكلٍ عامٍّ، تبدأُ مِنَ المستوى الخاصِّ وتَتَعاظَمُ لِتَأْخُذَ أَبْعَاداً ثقافِيَّة[19]. إنَّ المستوياتِ اللغويَّةِ الموظَّفَة في وعد شباط، وكما يُصَنِّفها المقالُ، هي: لغةُ المحادثَةِ الوصفِيَّةِ لـنينا، واللغةُ المُتماسِكَةُ لِكسَّاب، واللغةُ التَّحليلِيَّةُ والمُتَوَتِّرةُ لِطارِق واللغةُ الرُّؤيويَّةُ لإسماعيل، وأخيراً اللغةُ المجازِيَّةُ المُرْتَبِطَةُ بفقراتِ كلامِ سامحٍ. أمَّا هذه المستوياتُ جميعُها، فتابعةٌ لِاستكشافِ المستوى العميق للوجود لكلِّ واحدة منَ الشَّخصِيَّاتِ. ولهذه المستويات وظيفةٌ مزدوَجَةٌ: إمَّا لِتَوْصِيلِ أفكارِ الشَّخْصِيَّةِ وحضورِها، وإمَّا لخيانَةِ تلكَ الأفكار وهذا الحُضُور[20]. إنَّ لغةَ كسَّابٍ، على سبيلِ المِثالِ، هي لغةُ الكسبِ والخسارةِ الاقتصاديينِ. إنَّهُ ذلك المسكونُ بفكرةِ تجميعِ الممتلكاتِ بأقَلِّ سِعْرٍ مُمْكِنٍ؛ وها إنَّ أعباء مأتمِ أُمِّه لا يجري التَّعبيرُ عنها أو حتَّى وَصْفُها، مِنْ قِبَلِهِ، سوى بمصطلحاتِ الكلفةِ أو الثَّمن. إنَّ ما يُدْرِكُهُ كسَّابٌ من تركيبةِ المخيِّلَةِ يتركز في: صُّنْدوق خَشَبِيّ ومُرْطَبَان عَلَى صِيْنِيَّة وسُفُن وحاوِيات وصولاً إلى حصَّالةِ النُّقودِ ذاتُ شكلِ الخِنْزيرِ الصَّغير والبضائِع. تُسَيطِرُ هذه التَّركيبات التَّخَيُّلِيَّةُ عليه مُبْعِدَةً إياهُ عن حضرةِ المَوْتِ، جاعِلَةً من حواسِهِ حواساً ثاقِبَةً، ومعمّقةً إدراكَه، في مفهومِ الرِّبْحِ والكَسْب. أمَّا التَّركيبات التَّخَيُّلِيَّةُ لسُمَيَّة فهي تلكَ التي تعودُ إلى الأمواجِ والرِّيحِ والطُّيورِ الأمرُ الَّذي يَكْشُفُ عن تَصْميمِها للثَّأر لحُرِّيَتِها الضَّائعة على المستويين الخاصِّ والعامِّ لِتَجْرُبَتِها. ولا يتَحَقَّقُ هذا الثَّأرُ عند سميَّة سوى بالتُّبَرُّعِ بِمَنْزِلِها إلى موارِنَةِ صيدا؛ وهو تَبَرُّعٌ فضيحةٌ سيُحَكَمُ بها على أفرادٍ من عائلَتِها بالمعاناة. وإلى جانبِ الإضاءةِ على ما عند سميّة من وساوس ورغبة في الاستحواذ، فإنَّ لغةتها تَكْشُفُ عن روحِها القلِقَةِ إذ تسعى إلى الحُرِّيَّة مِنَ الأعرافِ والمُحْظُورات. وأخيراً، فإنَّ لغةَ سميَّة هي، في بعضِ المناحي، مُتَأَثِّرَةٌ بالقرآن.
تَعْكُسُ لغةُ طارقٍ، بكلِّ مناحيها البنائيَّةِ واللفظِيَّةِ والتَّخَيُّلِيَّةِ، صَوْغَ الجوهرِ الفِعليِّ لوجودِهِ؛ فيقفُ انفلاتُه الكُلِيُّ مع توتُّرِهِ ومرارتِهِ وحُنْقِه حقيقةً واقِعةً عاريَةً،[21] في حين تُشَكِّلُ السُّخْرِيَةُ والتَّوَتُّرُ والتَّناقُضُ مناحي أُخرى من لغتِه. ومثل تلك التي لِكَسَّابٍ فإنَّ عالَمَ طارقٍ مُخْتَزَلٌ في العملِيَّاتِ الحسابيَّةِ إذ لا تَسَاهُلَ مع أيِّ توجُّهٍ ذاتيِّ ولا هامشَ مسموحٌ به لأيِّ خطأ[22]. وطارقٌ لا يُفَكِّرُ في سميَّة باعتبارها شقيقة له، بل باعتبارها إرادةً تَجِبُ السَّيطرةُ عليها، وذلك خاصَّة بسببِ ما يُخَطِّطُهُ للإستيلاء على منزِلِها. إنَّ ما يستخدِمُه طارقٌ مِنْ مفرداتٍ مِثْلَ قهر ونار وجهنَّم وسخونة وبرودة وجمر يدلُّ على الآليَّةِ التي تتحكَّمُ بتفكيرِهِ؛ بَيْدَ أَنَّ أوجَ تركيزهِ على ذاتِهِ وقمَّةَ تحدّيهِ لِقَدَرِهِ يظهرُ في اعتقادِهِ بأنَّ بينَ جسدي وبين وعد شباط جِدارٌ مِن سنين[23].
تتمَيَّزُ لغةُ اسماعيل وأبي طاهر بأنَّها تحليليَّةٌ وترابُطِيَّةٌ؛ فكلا الشَّخصيتينِ على إطِّلاع طَيِّبٍ على القرآن، ولذا، فإنَّ لغةَ كلٍّ منهما أخلاقيَّةٌ ودينيَّةٌ. يُسَيْطِرُ مفهومُ الاتِّحادِ على فقراتِ اسماعيل؛ فجميعُ المخلوقات متَّحدةٌ فيما بينها بظاهرة الموت، وكلُّها واسطة تُوَحِّدُ الزَّمانَ والمكان. إنَّ الألفاظ والمصطلحات المكرَّرة التي يستخدمها اسماعيل هي مسألة وجسد وروح وروحاني فضلاُ عن أبدي. أما لغةُ أبي طاهرٍ، من جهة أخرى، فتعكس هجسَهُ بالقضايا الدِّينيَّة والسِّياسيَّة. إنَّه مأخوذٌ بتحرير الجنوبِ، وعندما يتحدَّث عن خُطَطِ إسرائيل لقصفِ مدينة صيدا الجنوبيَّة، فإنَّ لغته تصبِحُ متناقضةً في الظَّاهِرِ. وإذ يتذكر كيف المقاتلاتُ الإسرائليَّةُ قصفتْهم مِنَ الجوِّ، مُمَزِّقةً الفضاء بأصوات طائراتها إلى أشلاء، يفاجئنا بالصور التالية: الموتُ في الحرّ والموتُ في البرد، وساحة النجمة تمتلأ به وتُفْرِغُ نفسها منه، تُفْرِغُ نفسها منه عفوَ خاطرها وعفوَ الريح، كأنها المقبرة تكشّفتْ عنها حُجُبُ الغيب فَلُحودُها قبّة السماء التي فوقها من زمان[24]. هذه هي لغة المفارقاتِ، مشحونةً بقوَّةِ بالغضب وشهوة الانتقام.
تَعْكسُ اللغةُ الحواريَّةُ لنينا عقليَّةَ طفلٍ وميولِه وهواجسه النَّفسيَّة مع عذوبة إدراكِهِ العقليِّ لمختلفِ مناحي الواقعِ[25]؛ يُضافُ إلى هذا أنَّ توظيفَها لِلُغَةٍ انْطِبَاعِيَّةٍ يُعطي فِقْراتها الكلاميَّةَ حِسَّاً مِنَ الموضوعيَّةِ يُضْحي تَقَبُّلُها بيئةً محايدةً للإدراك. ووصفُها لِوَجْهِ عَمَّتِها، وبِشَكْلٍ خاصٍّ لِفَمِها، يُقَدِّمُ مِثالاً عَنْ هَذِهِ الحَقِيقَةِ[26].
تَتَمَيَّزُ لغةُ سامحٍ بِما فيها من تَحَوُّلٍ وتجريدٍ ورمزيَّةٍ ومجاز. ومنابِعُ لغتهِ هذه تأتي من صُوَرٍ مَجازِيَّةٍ مُتَخَيَّلَةٍ للنّساء والطُّيور والمِياهِ والموتِ والتَّحَلُّلِ، مصحوبةً بتركيباتٍ تجريديَّةٍ لفظيَّةٍ. تتشابَكُ صُوَرُ النِّساء في ذِهْنِهِ مع الأمواجِ؛ ويمكنُ البدءُ بهذا مِنْ وصفه التِّلميذة التي تَنْضَمُّ إليه في سيَّارَتِهِ عندَ الشَّاطئِ، حيثُ يكونُ ثمَّةَ تواصُلٌ صامِتٌ بينَ موجةٍ وأُخرى، كِنايةً عن الحميمِيَّةِ بينَهُما. وكذلكَ هو الحالُ في وصفِ بلقيس إذ تنعَكِسُ صورةُ رِجْلَيْها على صفحةِ الماءِ في قصرِ سليمان؛ انتِهاءً بصورةِ جناحيْ الهُدهُدِ يتحوَّلانِ إلى مجذافينِ ينزلقانِ فوقَ مياهٍ زرقاء. إنَّ انسيابِيَّةَ اللغةِ تُشيرُ في كلِّ هذا إلى انسيابيَّةِ المناسَبَةِ التي تصِفُها أو تعيشُها؛ في حين أنَّ جميع الصُّوَر الجِنْسِيَّة هي حُكْمَاً صورٌ للمياهِ، ولذا فإنَّ المياهَ تنهضُ، ههنا، منحى شِعْرِيَّاً مركَزِيَّاً في لغةِ الرِّوايةِ في تضميناتِها للإنسيابيَّةِ والحيويَّة.
تُوَحِّد صُوَرُ الطُّيورِ مقاطِعَ سامحٍ، وفيما تَمْضي الرَّوايَةُ قُدُماً، فإنَّ طيوراً معيَّنةً، كلغُراب، تُصْبِحُ بؤرةً لاسْتِحْضارِ أجواء الموت. أمَّا النُّسْوَةُ النَّادِباتُ وعربَةُ الموتى وجِهازُ الهاتِفٍ، فجميعُها تُوصَفُ باعتبارِها طيوراً مُتَخَيَّلةً لإضفاءِ بُعدٍ نفسِيّ عليها يختَلِطُ بلونِ الليل. أمَّا الطُّيورُ الأُخْرى، مثل الصَّقرِ وطيور الحُبِّ فتتجاوَرُ مع صوَرِ الموْتِ في لغةِ سامِحٍ[27]. ويظَلُّ الهدهدُ الطَّائر الأكثر إيحاءً بصراع سامح بين التَّوجُّهِ الماديِّ والرُّوحانيِّ في طبيعتهِ. الهُدْهُدِ يُقَدِّمُ دورَ المِرْسالِ المزدوجِ: رسولَ الحبِّ ورسولَ التَّنويرِ الدِّيني. وكما تذكر فدوى مرضعة في مقالتها بعنوان صورةٌ شخصيَّةٌ للفنَّانِ في وعد شباط، فـإنَّ الأسطورة الكلاسيكيَّةَ هي عنصرٌ ضروريٌّ يدين لها سامحٌ بِتساميهِ الفنّي. إنَّها تسمحُ بجمَعِ الجَسَدِ والرُّوحِ، والملكِ والملكةِ، والرُّجلِ والمرأةِ، كلُّهُم عبرَ وساطةِ الطَّائر[28].
تُوَظَّفُ لغةُ التَّجريدِ مِنْ خِلالِ ألفاظ متواتِرَةٍ فيما بينها مثل صدى وصَمْت وفراغ. فجملةٌ مثلَ ...نسير وراء الموت، يَجُرُّنَا ونحمله، فراغاً يَجُرُّ امتلاءً، وانكتاماً يقود أنفاساً تجرّحُ بحرارتها عروقَ الصقيع[29]، تنقلُ تجريداً متناقِضاً في ذلكَ الفراغِ الَّذي يمثِّلُ الجُثمانَ فهو بالرغم من كونِهِ خالياً من الحياةِ يمكنهُ أن يقودَ موكِبَ النَّاسِ الأحياء. ويُعَبَّرُ عنْ تأملاتِ سامحٍ في الحياةِ والموتِ عَبْرَ لغةِ التَّجريد: ...الصدى ليس بسكنٍ للروح الصدى تأكيدٌ لولادةِ ما لا يُولَدُ وارتجاجٌ بلا ذبذباتٍ واحتواءُ الكنهِ للكنه كدولابٍ أمسك بطرفيْ محوره وَلَدانِ فَارتَقى عن الأرض طرفةَ عينٍ يدورُ يدورُ لا تنطوي من تحته المسافاتُ ولا يمضي في إثره الولدانِ[30]. فألفاظٌ مثل ما لايولد و ذبذبات والكنه توقِظُ الشُّعورَ بكياناتٍ مُجَرَّدَةٍ تَضَعُ المعنى الماديَّ المحسوسَ في فراغ.
إنَّ المبادئَ المُوَحِّدةَ التي تنتظِمُ بناءَ روايتَيْ كُلٍّ مِنْ فوكنر والحريريِّ، هيَ، حُكْمَاً، مبادئٌ مختلفة فيما بَيْنها؛ فَفِي حينِ تُهَيْمِنُ السُّخرِيَةُ عَلى حين اضطجعتُ بانتظار الموت وتوَحِّدُ أجزاءَها، يَقُومُ مَفْهُومُ الاحْتِمَالِ بالوظيفة عينِها في وعد شباط. يُمْكِنُ فَهْمُ روايةِ فوكنر على أنَّها حِكايةٌ رمزيَّةٌ عن رِحْلَةِ الإنْسانِ في الحياةِ، وهي رحلَةٌ يَضْمَحِلُّ فيها هذا الإنسانُ فيما يقتربُ من الهدفِ المنشود[31]. إنَّ هذه الرِّوايةَ غنِيَّةٌ بالسُّخريَةِ[32]؛ إذ تتعهَّدُ، في الظَّاهِرِ، بالاحترامِ والحُبِّ لامرأةٍ مُتَوَفَّاة، ولكن تنتَظِمُ، في الواقع، دوافِعَ أقلَّ نُبْلاً مثلَ الحاجةِ إلى شِراءِ وجبة أسنانٍ إصطِناعِيَّةٍ أو الحاجةِ إلى عملِيَّةِ إجهاض. ولمزيدٍ من السُّخرِيَةِ، فإنَّ المرأةَ المُتَوَفَّاةَ في هذه الروايةِ يجري استبدالُها بعروسٍ، وهذه مفاجأةٌ تُحِيلُ ثأرَ آدي المُتَعَمَّدَ مِنْ عائِلَتِها إلى هزيمةٍ رمزيَّةٍ حقيقيَّةٍ لجَسَدِها وروحِها. أمَّا نِهايَةُ القِصَّةِ فـتؤمِّنُ أعظمَ الاستخفافاتِ صَعْقاً.[33] إنَّ عَلاقَةَ آدي بزوجِها وأولادِها تبرز عبر السُّخريَّةِ منذُ البِدايَةِ. فَمُنْذُ أن تزوَّجَت آدي مِنْ آنْسْ، وهِيَ لا تعرف للَفْظَةِ حُبٍّ من معنى سِوى أنَّها كَلِمَةٌ فَارِغَةُ؛ بل إنَّ آدي قَدْ تَقْتُلُ آنْسْ عِوَضَاً مِنْ أَنْ تُحِبُّه. أمَّا فِيْما يَتَعلَّقُ بِعلاقةِ آدي بأولادِها، فَهِيَ عَلاقَةٌ تَظْهَرُ عَبْرَ سُخْرِيَةٍ تُهَيْمِنُ عَلَيْهَا الكَرَاهِيَّةُ. وَكَيْفَما دَارَ الأمرُ، فإنَّهُ تُمْكِنُ الإِشَارَةُ إِلى مَغْزَى العَمَلِ الرِّوَائِيِّ عَلى أَنَّهُ امْرَأةٌ تُحَضِّرُ نَفْسَها لِلْمَوْتِ عَلى حِسَابِ الحَيَاةِ؛ أمَّا إِيْمَانُهَا الوَحِيْدُ، وَسْطَ الكَرَاهِيَةِ والضَّيَاعِ، فَأَمْرٌ سَاخِرٌ حُكْماً، إِذْ يَكَادُ يَنْحَصِرُ فِي ابْنِهَا غَيْرِ الشَّرْعِيِّ ؛ وثَمَّةَ مَفْهومٌ آخَرٌ مِنْ السُّخرِيَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُمَثَّلَ عَنْهُ بِعِمَايَةِ كورا عَنْ رُؤْيَةِ حَقِيْقَةِ آدي.
تُوَضِّحُ ناهدة سعد فِيْ مَقَالِهَا مفهوم الاحتِمال باعتباره مبدأً مُوَحِّداً في وعد شباط: قَصْدِيَّةُ البِناء، أَنَّ حَالَ التَّوقُّعِ يُشَكِّلُ التَّدْبِيْرَ الأَسَاسِيَّ المُسْتَخْدَمَ فِي بِنَاءِ رِوايَةِ الحَرِيريِّ؛ وَهْوَ الحَالُ الَّذي يَحُومُ فَوْقَ رُؤُوسِ الشَّخْصِيَّاتِ الرِّوَائيَّةِ، كَمَا يُوَحِّدُ الفِعْلَ الرِّوائيَّ ويُحِيْلُهُ مُدْرَكَاً ومَرْئِيَّاً، كإمْتِدَادٍ لِمَاضِي هَذِهِ الشَّخْصِيَّاتِ ولمُسْتَقْبَلِها غَيْرِ المُتَوقَّعِ المُعَلَّق فِي جُوَّانِيَّةِ إِيْمَانِهَا الرَّاسِخِ بِالثَّقَافَةِ الإِسْلامِيَّةِ القَائِمَةِ عَلَى مَفْهُوْمِ الاحْتِمَال. يَفْرضُ مفهومُ الاحتمالِ، في الثَّقافةِ السَّامِيَّةِ، القدرةَ على الوعيِ الإنسانيِّ لأنْ يُحَوِّلَ الوضعَ الإنسانيَّ، وإلى الأبدِ، إلى حالٍ ذاتِ بُعْدٍ مُسْتَقْبَليٍّ[34]. وبكلمات أخرى، فإنَّ حِسَّ الاحتمالِ يستقِرُّ في حقيقةِ أنَّ المخيِّلَةَ تُساعِدُ على تسامي الحالة الرَّاهِنة عبرَ تحويلِها باستمرارٍ إلى حالةٍ مُعَلَّقةٍ في سياقِ الزَّمن[35]. يُتْرَكُ كلُّ شيءٍ عائماً غيرَ مُحَدَّدٍ، إذ الأمورُ نِيَّةٌ على وشَكِ أن تُتَرْجَمَ إلى فِعْلٍ، وولادةٌ لا بُدَّ لها مِنْ أَنْ تَكون. أمَّا ديمومةُ الأشياء فمتجذّرةٌ في ما يُخَّطَطُ لَها مُسْتَقْبَلِيَّاً مِنْ قِبَلِ الشَّخصيَّاتِ الرِّوائيَّة.
الاحتماليَّةُ في وعد شباط هِيَ فَرْحَةُ نَصْرٍ فِيْ تَوْجِيْهِ الوَعْيِّ الإنسَانِيِّ والقَبْضِ عَلَى زِمَامِهِ[36]. تَمْتَلِكُ جَمِيعُ الشَّخصِيَّاتُ الرِّوائيَّةُ، ههنا، بِحْكمِ تَجَذُّرِ وَعْيِها في الثَّقافَةِ السَّامِيَّةِ، كُلاًّ مِنَ الرُّؤيةِ إلى وَضْعِها والطَّاقَةِ العُظمى للتَّسامي. وإنَّهُ لجديرٌ بالذِّكْرِ أنَّ اسْتِكْشافَ الحريري للثقافَةِ السَّامِيَّةِ يَتَمَسْرَحُ (يأخذ بعده الدّرامي) عبر الامتلاكِ الاسْتِحْوَاذِيِّ لِشَخْصِيَّاتِهِ الرِّوائِيَّة لِلْمَنَاحِي التَّالي ذِكْرُها مِنْ تُراثِ تِلْكَ الثَّقافَةِ: مفاهيمُ الزَّمنِ والمَوْتِ والبَعْثِ والعَدالَةِ والعِقَابِ والمُسَاوَاةِ، بَلْ وحتَّى مفاهيمُ الكرامةِ والشَّرَف[37]. إِنَّ جَوْهَرَ كُلِّ شخصِيَّةٍ يَضُجُّ بِالحَيَاةِ في اللَّحْظَةِ عَيْنِهَا لِوِلادَةِ تِلْكَ الشَّخْصِيَّةِ، ولكنَّ الشَّخْصِيَّةَ سُرْعانَ ما تُحَرَّرُ مِنْ فَخِّ اللَّحْظِةِ بالتَّسامِي عَبْرَ مُخَيِّلَتِها وحَالِها الرَّاهِنِ مِن خلالِ الجَوْهَرِ الَّذي تمَّ وَضْعُهُ في زَخَمِ الحيَاة لَها، ومِنْ خِلالِ البدائلِ المُتَعَدِّدَةِ المَطروحَةِ أمامَها؛ مِمَّا يُشَكِّلُ جَمِيعُهُ، مع كلِّ ما يَلْحَقُ بِه، تَنْويعاتٍ فاعِلِيَّةً غَنِيَّةً تؤكِّدُ مفهومَ الاحْتِمَال[38].
وكيفما دارَ الأَمْرُ، فإنَّ هذهِ الظَّاهرَةَ، بالذَّاتِ، تَدْعو إلى سَبْرِ غَوْرِ مُسْتَوَيَيْنِ مِنَ الفِعْلِ يُمْسِكَانِ بِنَمَطِ هَيْكَلِيَّةِ الرِّوَايَةِ؛ إذْ يَصِفُ المستوى السَّطحيُّ رِحْلَة العائلة مِنْ مَنْزِلِ سُمَيَّةَ، إِثْرَ وَفَاة الأم، إلى المقبَرَةِ خَارِجَ حدُودِ المَدِينَةِ. يُرْفَعُ الجُثمانُ على الأكْتافِ، ويَنْسَلُّ مَوْكِبُ سيَّاراتِ العائلَةِ، تَتَقدَّمُهُ العَرَبَةُ التي تَحْمِلُ الجُثمانَ، خارِجاً عبرَ شوارِعِ المَدِيْنَةِ إلى مَوْقِعِ الدَّفنِ. ولكن، تحتَ هذا المُسْتَوى المَصْقُولِ مِنَ الفَاعِلِيَّةِ تَكْمُنُ مَسْرَحَةٌ (دراما) لِلرُّوحِ الإنسانيَّةِ، حَيْثُ تتظهّر مأساةُ العائِلَةِ وانْحِلالُ جَمِيْعِ رَوابِطِها: الحُب والتَّسَامُح والاحْتِرَام. يُصْبِحُ غَرَضُ هذهِ المسرَحَةِ (الدراما) التَّأكيدَ على أفُقِ الاحتِمالَ والإضاءَةِ عَلَيْهِ، وهي مِيْزَةٌ ذاتُ ضَرُوْرَةٍ أَسَاسِيَّةٍ لبَقاءِ هَذِهِ الشَّخصِيَّاتِ الرِّوائيَّةِ متأرجحةً في أفق المستقبل بكل اهتِماماتِها الآنِيَّةِ وارْتِهَانَاتِها المُتناقِضَةِ.
يَكْشُفُ مفهومُ الاحتِمالِ، على كلِّ حالٍ، الملامِحَ النَّموذَجِيَّة للشَّخْصِيَّاتِ الرِّوائِيَّةِ وردودَ أفعالِها تجاه بَعْضِها وتجاهَ الحضورِ الغامِضِ للموتِ؛ كَمَا أنَّ هذا المفهومَ يُقَدِّمُ رَسْمَاً بَيَانِيَّاً لاسْتِجابَةِ كلٍّ مِنْها لِحَدَثٍ بِعَيْنِهِ. إنَّ نَجْواهُا، ههنا، لا تُمَثِّلُ أفكارُها الخاصَّة وآراؤها، لكِنَّها تُمَثِّلُ كذَلِكَ تركيبَ الثَّقافَةِ التي تصْدُرُ عنْها. وَحْدُهُ، سامِحٌ، يخْتَلِفُ عَنْهُمُ جمِيْعاً؛ إِذْ تَحْمِلُهُ مَوْجَةٌ اُخْرَى تُصَوِّرُ أَفْكَارَهُ وآراؤُه الخَاصَّةُ بِوَفاةِ أمِّهِ. إنَّ المَوْتَ، بِحَدِّ ذَاتِهِ، مُرْعِبٌ ومَرْفُوْضٌ عادَةً؛ لَكِنَّهُ يُضْحي بالنِّسْبَةٍ لَهُمُ حَدَثَاً مُرَحَّباً بِهِ ووعداً وإمكَانِيَّةً مُسْتَقْبَلِيَّةً لِوِرَاثَةِ قِطْعَةَ الأرضِ التي كانت لِوالِدَتِهِم حيثُ شُيِّدَ المَطْعَم. وأفكارُ طارِقٍ وكَسَّابِ وسُمَيَّةَ، في مَوْكِبِ الجَنَازَةِ، وتَحْدِيْدَاً خِلالَ إقامَةِ صَلاةِ المَيْتِ فِيْ الجَامِعِ الأَخْضَر، تَكشُفُ عَنْ أَعْمَقِ ما فِيْ طَبيعَةِ دَوَاخِلِهِم، وبالتَّحْديدِ عَنْ مَا يَعْتَوِرُ ذَواتِهُم مِنْ نَزْعَةِ الانْتِقامِ والعُدْوَانِيَّةِ. يَنْفَتِحُ فِكْرُ كُلِّ إِنْسَانٍ على حَيَاةٍ فيها الرَّغباتُ والشَّهواتُ والجَشَعُ، عَازِماً على تغييرِ الحاضِرِ بالبَحْثِ عن طريقه إلى المُسْتَقْبَلِ. فطارِقٌ سَيَجِدُ غنيمَتهُ بالعدائيَّةِ والسَّيْطَرَةِ المُبَاشَرَتَينِ، أمَّا كَسَّابٌ فسيَجِدُها بالمُنَاوَرةِ، فِيْ حِيْنِ أَنَّ سُمَيَّةَ سَتَجِدُهَا بِرَفْضِ الدَّورِ التَّقْلِيديِّ لِلْمَرْأَةِ المُسْلِمَةِ المُسْتَسْلِمَةِ. أمَّا أَفْكَارُ بَقِيَّةِ الأَقَارِبِ والأصْدِقاءِ فَجَلِيَّة. وَخِلالَ الوَقْتِ المُخَصِّصِ لِمَسيرِ المَوْكِبِ، تَبْرُزُ كلّ الطَّمُوحَاِت والمَطَامِع. يَضُمُّ عقلُ اسْماعِيْلَ مفهومَ الوحْدَةِ في جَمِيعِ الثَّقافاتِ السَّامِيَّةِ فضلاً عن مفهومِ وحدةِ الجَسَدِ والرُّوحِ. ويَجِدُ أَبُوْ طَاهِرٍ مناسَبَةَ المَوْتِ تَذْكِيْرَاً بالأَرضِ الضَّائِعَةِ وقُوَّةً مُحَرِّكَةٍ لِلْمُقَاوَمَةِ؛ فحتَّى المَوْتُ يَضُمُّ الشُّعُورَ الَّذي يُثِيْرُهُ الوَعْدُ المُعَلَّقُ، أَكَانَ ذَلِكَ وَعْدَاً بِالرَّحْمَةِ أَو بِالإِدَانَةِ. تُعَرْبِدُ رُوْحُ جَهَّارٍ فِي مَشْهَدِ اسْتِقْبَالِ جُثْمانِ سَميْحَةَ وروحِها ظَنَّاً بإمكانِيَّةِ السَّيْطَرَةِ عَلَيْها مُجَدَّدَاً؛ فِيْمَا سَميحَةُ، مُشَوَّشَةً بَيْنَ الَّلحظَةِ الرَّاهِنَةِ وَضَبَابِيَّةِ فَقْدانِ الْحَواسِ، تَتَوَقَّعُ أَنْ يُحَرِّرَهَا انْبِثَاقُ الفَجْرِ مِنْ التَّأَثِيرِ المُربِكِ للاسْتِسْلامِ والإذْعَانِ.
تَتَجَسَّدُ خُلاصَةُ المُصَالَحَةِ بَيْنَ المَاضِي والحَاضِرِ والمُسْتَقْبَلِ في مفهومِ الاحْتِمالِ كما يتَصَوَّرُها سامِحٌ ويَفْهَمُها. يَكْشُفُ التَّمْيِيزُ الَّذي يُمارِسُهُ سَامِحٌ، عبر المُسْتَوياتِ المُتَدَرِّجَةِ لِمُلاحَقاتِ هَدَفِهِ فِيْ عَالَمِ المُخَيِّلَةِ، عَنْ حَيَاتِهِ السِّرِيَّةِ والذَّبْذَباتِ الدَّاخِلِيَّةِ لِرُوْحِهِ وَيُسَجِّلُهَا. تَنْحَلُّ الصِّراعاتُ الدَّاخِلِيَّةُ تدريجيَّاً، وتَتَحرَّرُ المكبوتاتُ المخبوءة. تُساعِدُ النِّساءُ، بِاعْتِبارِهُنَّ قُوَىً كَامِنَةً فِيْ الطَّبِيْعَةِ، فِيْ تَحَرُّرِ أَنَوِيَّةِ سَامِحٍ؛ وَبِذَا يَنْحَلُّ، بِشَكْلٍ نِهائيٍّ، الانْشِطَارُ بَيْنَ جَسَدِهِ ورُوْحِهِ. بيدَ أنَّ أَفْضَلَ أُسْلُوْبٍ اتُّبِعَ في هَذَا النَّصِّ يَكْمُنُ فِيْ أَنَّ هَاتِهِ النُّسْوَةَ اللَّواتِي أَحَبَّهُنَّ سَامِحٌ واحْتَفَى بِهنَّ يَتَألَّقْنَ وَيَنْتَصِرْنَ عَبْرَ الصُّوْرَةِ الأُسْطُورِيَّةِ لِبَلْقِيْسَ ومِنْ خِلالِ نَدِّهَا العِشْقِيِّ، سُلَيْمَانَ. أمَّا الهُدْهُدُ، فَيَجِدُ عَبْرَ قَصِيْدَةِ سَامِحٍ حَلاًّ لِحَيْرَةِ سُلَيْمانَ؛ بأنُ يُغْري الهُدهُدُ سُليمانَ بالزَّواجِ مِنَ الملكةِ السَّاحِرَةِ، مُوحِيَاُ بِالخَلاصِ مِنْ خِلالِ مَفْهُومِ احْتِمَالِ وحْدَةِ الرُّوحِ والجَسَدِ، الوحدة التي طَالَما عُذِّبَتْ وشُتِّتَت بِقُوى التَّغْييرِ المُزْعِجَةِ.
يُشِيْرُ وجيه فانوس فِي مَقَالِهِ الوعد والانجاز الأدبي: محاولة للإطلال على وعد شباط، إِلَى أَنَّ تَكْثِيْفَ الأَحْدَاثِ وَتَعَدُّدَهَا، فَضْلاً عَنْ اتِّساعِ الأُفقِ الَّذي تَتَّخِذُهُ هَذِهِ الأَحْدَاثُ تُشَكِّلُ جَمِيْعُهَا مِقْيَاسَ الأَصَاَلةِ فِيْ وعد شباط. ويُمَيِّزُ فانوس أَنَّ التَّمَاثُلَ بَيْنَ الحَرِيرِيِّ وفوكنر يَنْحَصِرُ، هَهُنَا، بِأُسْلوبِ تَعَدُّد الأَصْوَاتِ. ويُوَضِّحُ بِأَنَّ هَذا الأُسْلوبَ جَرَى تَحْقِيْقُهُ عَبْرَ أَرْبَعَةِ أَصْوَاتٍ فِي رِوايَةِ الصَّوتُ والغَضَب لفوكنر، وجَرى تَحْقِيقُهُ بِكَفَاءَةٍ فِي رِوَايَةِ وعد شباط للحريريِّ. ويَشْرَحُ فانوس أَنَّ الحريريَّ تَمَكَّنَ مِنْ تَقْدِيْمِ أَكْثَرَ مِنْ دَزِّيْنَةٍ مِنَ الشَّخْصِيَّاتِ الرِّوَائِيَّةِ فِيْ عَمَلِهِ هَذَا، وَاضِعَاً كُلاًّ مِنْهَا ضمْنَ مَسَافَةٍ شَاسِعَةٍ مِنَ الأُخْرَى. ولا يَبْقَى بَعْضُ هَذِهِ الشَّخْصِيَّاتُ مُنْفَصِلاً عَنْ بَعْضِها الآخَرِ، إِذْ يُذِيْبُها الحريريُّ فِيْمَا بَيْنَها عَبْرَ تَطَوُّرِ أَحْدَاثِ الرِّوَايَةِ وانْبِنَاءِ الأَحَاسِيسِ المُتَوَلِّدَةِ جَرَّاءَ مَوْكِبِ الجَنَازَةِ. ويُتَابِعُ فانوس مُشِيْرَاً إِلى أَنَّ جَمِيْعَ شَخْصِيَّاتِ الرِّوَايَةِ تَتَعَاوَنُ فِيْمَا بَيْنها لِتُقَدِّمَ فِقْرَاتٍ نَموذَجِيَّةً قَدْ لَا تَجِدُ نَظِيْرَاً لَهَا فِي الأَعْمَالِ الرِّوَائِيَّةِ العَرَبِيَّةِ. وهَذِهِ التَّنَوُّعَاتُ فِي الأَصْوَاتِ، كَمَا يَذْكُرُ فانوس، لا تَحْجُبُ وُضُوْحَ الرُّؤيَا فِي العَمَلِ، كَمَا أَنَّهَا لا تُعيقُ تَطَوُّرَ الحَدَثِ وتَكَامُلَهُ فِي نُمُوِّهِ الطَّبِيعِيِّ؛ مُسْتَخْلِصَاً بِأنَّ هذَا يُضْحِي، بِحَدِّ ذَاتِهِ، أَدَاةً لإِنْجَازِ الرُّؤيَا الفَنِيَّةِ.
إِنَّ نَشْرَ روايةِ وعد شباط للحريريِّ سنةَ 1994، وما تَبِعَها مِنْ نَشْرٍ لِمَجْمُوْعَةٍ مِنَ الدِّراسَاتِ النَّقديَّةِ، سنةِ 1998، حَمَلَت عُنوان Hariris Februarys Promise: Experimentation In The Modern Arabic Novel ، إضافةً إلى محاضراتِ الدُّكتور الحريريِّ في الجامِعَةِ اللبنانيَّةِ في مجالِ الأدبِ المُقارن بشكلِ عامِّ وتأثيرِ فوكنر على الرِّوايَةِ العربيَّةِ بِشَكلٍ خَاصٍّ، أحْيَت الاهْتِمامَ بأعمالِ فوكنر وتَأْثِيرِه عَلى الرِّوايَةِ العربيَّةِ. وهَذا الأَمْرُ، بالتَّحْدِيْدِ، هُوَ مَا دَفَعَ بِيْ إِلى وَضْعِ دِراسَتِي عَنْ تَأْثِيْرِ فوكنر عَلى غَسَّان كَنَفَانيِّ، الَّذي كَشَفَ حَالَ العَبَثِ والفَوْضَى فِيْ العَالَمِ المُحِيْطِ بِهِ، والَّذي حَاوَلَ، كَمَا فوكنر، أَنْ يَنْقُلَ عَبْرَ الأَدَبِ هَذِهِ الفَوْضَى إِلى تَنَاسُقٍ؛ مُعَلِّماً النَّاسَ كَيفَ يَبْتَدِعُوْنَ خلاصَهُمُ من أحوالِهِم البَائِسَةِ.
________________________________
[1] - Spender. 32
[2] - p. 47
[3] - من مقابلة مع د. حريري في 22/5/1996.
[4] - Howe 170
[5] - 85
[6] - 85
[7] - Brooks 158-159
[8] - 178
[9] - 164
[10] - 21
[11] - qtd. In Brrof 28
[12] - qtd. In Borrof 60
[13] - Pano 181
[14] - Ibid. 181
[15] - The Infinite Variety Of Language.
[16] - 60
[17] -17
[18] - 164
[19] - 144
[20] - 145
[21] - 155
[22] - 155
[23] - Hariri 18
[24] - Hariri 127
[25] - Saadedine 162-63
[26] - Hariri 79
[27] - Saadedine 169
[28] - 16
[29] - Hariri 21
[30] Hariri 21
[31] - Kanaan 104
[32] - Volpe 130
[33] - Volpe 131
[34] - 5
[35] - 5
[36] - 6
[37] -
[38] - 4